الثلاثاء، 5 مارس 2013

صرخة عراقية-وليد الزبيدي *



صرخة عراقية

وليد الزبيدي *
عدة قصص قصيرة أرسلها لي مؤخرا الكاتب المبدع العراقي الاستاذ عادل كامل، قرأتها مرات عدة، وجدت بين سطورها صرخات عراقية لخصها الكاتب وألقاها داخل علبة تحتوي تلك القصص، يقول في إحدى القصص:
" من يعيد إليك طفولتك التي سُرقت منك/ من يعيد إليك أحلامك التي ضاعت/ من يعيد إليك حياتك التي بعثرت/ من يعيد إليك كتبك التي نهبت، من يعيد إليك كرامتك التي فقدت، من يعيد إليك بيتك الذي هدم، من يعيد الكلمات إلى فمك، والنبض إلى قلبك، والومضات إلى جنونك... من يعيدها"
عادل كامل من الأسماء العراقية الكبيرة، وعندما يطلق صرخة من هذا النوع وبهذا الحجم، فأنه يذهب بها إلى محاجرها الحقيقية، ويدور بتأوهاتها بين أزقة بغداد واحيائها القديمة والجديدة، أعرف قاصنا وروائينا وناقدنا التشكيلي والرسام والصحفي عادل كامل منذ سنوات طويلة، لم انقطع عن زيارته في مشغله الزاخر بالجمال والفوضى،لا تستطيع أن ترتب موجودات المكان،لكن ما أن تتأمل كل زاوية فيه حتى تستفيق على عالم اخر،أمامك طاولة الكتابة التي يجلس إليها ساعات طويلة،يدون على أوراق منظمة وبخط عربي جميل ،تستطيع القول إن أناقة مبعثرة على طاولة الكتابة،لكن ما أن تنتقل بنظرك إلى الجدار المقابل حتى تصطدم عيناك بعوالم اخرى ،لوحات فنية تصطف على الجدران،يختار الفضاءات فيها كما يصطاد الألوان،وتندهش من التقارب الكبير بين ما يتحدث به الاستاذ عادل كامل في كلماته التي غالبا ما تفتش في خبايا مجهولة في الفكر والمعرفة والثقافة ولوحاته ومنحوتاته المبثوثة في المكان،لا يتوانى في شرح الفكرة التي تسمعها للمرة الاولى ،يضع لها مخططا على ورقة بيضاء،فهو يتعاطى مع الفكرة الفلسفية مثلما يتعامل مع الفرشاة والالوان،وعنده بقعة الضوء قد تتسرب بعيدا في اللوحة،كذلك الفكرة المضيئة ،تتنقل هي الاخرى بين إطروحة واخرى،ليس ثمة حدود قد يتوقف عندها معلنا إستسلامه لطروحاته وأفكاره،يطلق العنان لسيل من الأفكار،التي تزخر برؤية تاريخية ومقارنات فكرية وفلسفية،فهو المنشغل بأطر كثيرة في الحياة اليومية،يدحرج أفكاره أمام الاخرين في النقاش والحديث أو في كتاباته،وفي اللوحة التي يرسم يستحضر فكرة جديدة، وفي السطور التي ينثها على الورق يتناغم عنده الفكر والرؤية بإتساق كبير.
لم يترك رساما عراقيا إلا وتناول اعماله بالنقد والدراسة،شاكر حسن ال سعيد ومحمد مهر الدين وجواد سليم ووداد الاورفلي وليلى العطار وسميره عبد الوهاب وغيرهم من مختلف الاجيال،أضاف العديد من المؤلفات والبحوث والدراسات التي رصدت الإبداع التشكيلي في العراق ،وهو المرجع الاوسع لهذا الفن، الذي توزع مختلف أرجاء العراق،وله دراسات عديدة ومؤلفات تبحث في الجوانب الجمالية في الفن التشكيلي العربي والعالمي،وتجد بين رفوف مشغله تخطيطات من خالد الرحال ومحمد مهر الدين واخرين،كما يحتاز على عشرات اللوحات التي أهداها الفنانون له ،بعضها يعود إلى بداية سبعينات القرن الماضي والبعض الاخر وصلته حديثا،يحرص على زيارة المعارض التي تُقام لمختلف الأجيال،لم تمنعه ظروف العراق الصعبة خلال العقد المنصرم من التواصل مع عوالمه الإبداعية،اخر مرة التقيته في عمان قبل سنتين،قال لي أنه لن يغادر العراق ،وعلمت أنه ما زال في مشغله،تدهمه حرارة الصيف اللاهبة وبرودة الشتاء،يحاصره الظلام عند إنقطاع الكهرباء،لكنه لن يتخلى عن الإبداع في الرواية والقصة القصيرة والدراسات النقدية ومقالات وبحوث في الفن التشكيلي.
كما انه يواصل رسم المزيد من اللوحات،وفي زاوية أخرى من مشغله تجد الفخاريات التي يبدعها الاستاذ عادل كامل،ويرى أن النحت أقرب إلى الفكر ،وفي عوالمه النحتية تقرأ الكثير من أفكاره وطروحاته وإن كانت تتحدث بصرخات صامتة.
هذا نموذج للإبداع العراقي الذي أرادوا إطفاءه وإغلاق جميع نوافذه في اكبر غارة بربرية على بلاد الرافدين،لكنه لن يتردد في إطلاق صرخته بأكثر من اتجاه،ويرفد الحياة الثقافية والإبداعية بالكثير من الوهج والألق الفكري والثقافي.
 wzbidy@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: