الجمعة، 1 مارس 2013

قصتان قصيرتان-د. بلقيس الدوسكي



قصتان قصيرتان

الصفحات المفقودة

د. بلقيس الدوسكي


    دار بخاطري، وأنا أحدق في المجهول: ان حياتي ليست أكثر من كتاب زاخر بالصفحات، المرة والحلوة، بالمفاجآت والغرائب، بالندم وبالأشواق. فهي مزدحمة بأسماء العديد من الأحبة والحبيبات، بالأصدقاء والصديقات، وبأسماء أخرى غابت، وليس لها اثر في ذاكرتي. ففي كل ورقة من أوراق كتاب حياتي، دوّنت تلك الذكريات بخفقات قلبي، وأنينه المكتوم، النائي. وأحيانا، خلال ساعات الليل، لا امتلك إلا ان استعيد صفحة من تلك الصفحات، وكأنني وجد تسلية ما مراوغة لا تدعني انظر في الفراغات، وفي المجهول.
     وها أنا أراجع ما دوّنته، من تجارب، وعبر، كي يتضاعف حذري من المطبات التي مازالت تتخفى في عالم الغيب. لكن صديقة لي ـ في ذات يوم ـ رغبت ان تطالع صفحات هذا الكتاب. قالت:
ـ كم ارغب ان اقرأ كتاب حياتك ِ!
ـ ولكن...،هذا الكتاب يضم بعض الإسرار التي لا أريد ان يطلع عليها احد.
ـ لكنني اعرف أسرارك كلها، وأنا احتفظ بها، وكأنها أسراري الشخصية.
ـ نعم، ولكن لبعضها، يا عزيزتي، مكانها الخاص الذي لا يمكن الإفصاح عنه.
ـ  ألا تثقين بي، وأنا صديقة طفولتك وشبابك ..؟
ـ بل أحسك اقرب الناس إلى قلبي..إنما لكل منا أسراره الخاصة.
ـ وهل هناك أسباب كي لا اطلع عليها، وأنا ارغب الاستفادة منها، كي أتجنب العثرات..؟
ـ كل الأشياء واضحة أمامك، الضارة والنافعة، الرمادية والبيضاء، المعتمة والمشعة، على حد سواء.
ـ كما تقولين، لكن المثل يقول: في الإعادة إفادة!
ـ سأسمح لك بمطالعة كتاب حياتي، ولكن ليس الآن.
ـ متى إذا ً ..؟
ـ عندما افرغ من تدوّين بعض الحالات التي مازالت تسكن ذاكرتي.
     ووضعت رأسها على طاولة الليل وسرحت بأفكارها إلى البداية مرورا ً بالأحداث التي رافقت مسيرتها ووصولا ً إلى اللحظة التي وجدت نفسها فيها تفيق من أوهامها وخيالاتها، وعواطفها. وقالت تخاطب نفسها بشيء من التذمر:
أين كان حذري؟
أين كان عقلي؟
أين كانت بصيرتي؟
هل كنت مغفلة إلى هذا الحد؟
 بكت. لكن في زمن جاء متأخرا ً حيث لا جدوى من الندم. ثم أضافت تدون في كتاب حياتها ما تبقى لديها من ذكريات كاد النسيان ان يطويها. وأعادت الكتاب إلى الرف العاشر في رفوف حياتها.
   وفي أمسية من الاماسي، اتصل بها من كان السبب في عذاباتها، وجراحاتها.
ـ من ...؟
ـ أنا حبيب الماضي..؟
ـ لكن الماضي مات!
ـ كيف مات..؟
ـ في اليوم نفسه الذي مات فيه ضميرك!
ـ لكن ضميري لم يمت، ومازال حيا ً..
ـ الضمير الذي يتجول، ويتنقل، ويعيش من فتات الموائد الذليلة، الرخيصة، يعد ضميرا ً ميتا ً.
ـ فلسفة..؟
ـ نعم فلسفة تعلمتها في جامعة الحياة.
ـ على أية حال، أريد ان التقي بك للمرة الأخيرة، فهل تسمحين لي...؟
ـ ولكن بشرط..؟
ـ ما هو هذا الشرط..؟
ـ ان لا تعيد أية حلقة من مسلسل الأمس البعيد.
ـ كما تأمرين.
     وبعد يومين على الاتصال الهاتفي زارها وهو في حالة تدعو إلى الرثاء، فسلم عليها، فردت عليه ببرود. قال متسائلا ً:
ـ أراك تطالعين في كتاب حياتك، لماذا ..؟
ـ كي لا اخدع مرة ثانية.
ـ عفوا ً.. وهل لي، في كتاب حياتك، حضورا ً..؟
ـ كان...، ولكن.
ـ ولكن ...، ماذا ..؟
ـ لقد ذهب مع الغياب، في الصفحات المفقودة، وفي الصفحات التي لن اتعب نفسي في تدوّينها أبدا ً.



المستقبل لم يذهب بعد

 
ـ أنا من لبنان، يا سيدتي.
ـ أهلا ً بك وبلبنان.
ـ قرأت عنك الكثير وهزني الشوق إليك ِ.
ـ يا مرحبا ً.
ـ أنا، يا سيدتي من المعجبين بأدباء العراق، وشعرائه، وفنانيه، وأنت ِ منهم.
ـ شهادة نعتز بها.
ـ ولدى أكثر من سؤال، لو سمحت الأديبة روناك.
ـ لك َ مطلق الحرية، يا أخي.
ـ شكرا ً، ماذا عن حياتك اليومية..؟
ـ لكل يوم مفرداته، ومعالمه، ومفاجأته.
ـ كيف تنظرين إلى الحياة..؟
ـ انظر إليها من نوافذها جميعا ً، فلكل نافذة خصوصيتها.
ـ إليك هذه المجموعة من الرسائل، وهي موجهة إليك ِ من الأصدقاء والمعجبين.
ـ أتشرف بها وبمرسليها.
ـ شكرا ً، والكل يرغب بإرسال صورة لك، ولمؤلفاتك..
ـ بكل سرور.
ـ احد الأصدقاء أوصاني ان أقول لك ِ عبارته التي تعبر عن مشاعره..
ـ يسعدني ان استمع إليها.
ـ يقول: الأدب والفن أجمل ما يمكن انجازه في هذه الحياة، وأنت كنت رائدة في هذا المجال.
ـ شكرا ً له، ولك، ولكل أحبتي.
ـ شكرا ً سيدتي.
ـ عفوا ً. وهل ثمة أسئلة أخرى..؟
ـ نعم، ما هو رأيك ِ بالمسرح..؟
ـ مدرسة الحياة، ولدينا أساتذة كبار في هذا المجال، ولعراقنا مسرحه العريق منذ آلاف السنين.
ـ العراق مهد الحضارات والعلم والمعرفة والفن..
ـ هذا ما يعترف الجميع به. وبالمناسبة يا سيدتي، نرجو ان تزودي مكتبة الأدباء اللبنانيين بمجموعة من مؤلفاتك الجميلة.
ـ هذا ما يشرفني مع اصدق المشاعر .
ـ سلمت يا سيدتي. سؤال آخر.
ـ قل ما لديك أيها الشقيق العزيز.
ـ ما هي نصيحتك للأدباء الشباب..؟
ـ أقول لهم، استفيدوا من تراثكم الأدبي، ولا تغرنكم الأساليب البراقة، الغريبة، واهتموا كثيرا ً بالتثقيف الذاتي، فانتم علامات المستقبل.
ـ نصيحة بليغة.
ـ والآن، ادعوك أيها الأخ للاطلاع على معالمنا الحضارية من خلال جولة في شوارع بغداد وأطرافها.
ـ شكرا ً، هذا ما أتمناه.
   اصطحبت الضيف بسيارتها وطافت به تتجول عبر شوارع بغداد، فأعلن عن إعجابه وقال لها:
ـ هنا ولدت الحضارة، وهنا كتب التاريخ أروع صفحاته بمداد من الذهب.
ـ إنها الحقيقة يا أخي.
ـ يا ليتك تقبلين دعوتي لزيارة لبنان.
ـ أتشرف بهذه الدعوة.
     وفي المساء اصطحبته لمشاهدة أحدى العروض المسرحية العراقية، فأعجب بمضمونها، وبممثليها، وبمخرجها، والتقط العديد من الصور مع الفنانين. وقال لها:
ـ إنها تجربة رائعة حقا ً.
ـ سأدعوك غدا ً لمشاهدة مسرحية أخرى.
ـ أشكرك من الأعماق أيتها الأدبية الرائعة!
    سلمته مجموعة من مؤلفاتها هدية لأدباء لبنان، وله، ولأصدقائه، مع مجموعة من صورها، وقطعت له تذكرة السفر إلى لبنان، ثم عادت إلى بيتها، لتجلس تبكي من شدة فرحها الغامر للحوار السريع الذي ترك أثره فيها، وخاطبت نفسها:
ـ  لم تذهب جهودي أدراج الريح.
ووجدت نفسها لا تقاوم رغبة انجاز مسرحية لم تكملها: المستقبل مازال هناك، هناك، وعلي ّ ان لا ادعه يغيب عني.


ليست هناك تعليقات: