قصة قصيرة
قلب
عادل كامل
كانت تود أن تعترف له،
بلا مقدمات، بأنها تبرعت بأعضاء جسدها كاملة، لولا أنها شاهدته، ذلك الزوج العنيد،
يسوّد للمرة الألف مشروع قصيدة لا تريد أن تنتهي.
وكعادته، سألها:
- إذن ستذهبين مبكرا ً إلى النوم؟
لم تجب بالحال كما في كل يوم، بل راحت تتأمل محياه..فرفع رأسه بهدوء، وبلا مبالاة، حدق في
عينيها العسليتين وسألها:
- م الجديد؟
- لا شيء.
- لكنني أراك حائرة.
وكادت تصمت، لولا أنه أشعل فيها رغبات حفية فهو، كما تعلم، يقدسها، كعادة الشعراء غالباً،
وتعلم جيداً، بعد مرور عشر سنوات على زواجهما، أن سعادتها بلا نهاية، وأنها تحبه
مثلما يكن لها الحب، فقالت ببراءة:
- تبرعت بجسدي. !
لم يعلق. كان يحدق فيها بذهول..
قاطعته:
- المسألة أرويها لك ببساطة..
ولم يتفوه بكلمة. فتابعت:
- زميلتي الصحفية..وأنت تعرفها..اقترحت أن تتبرع
بأعضائنا..نعم..لكن بعد الموت..لا تحدق في ّ..هكذا..أنا حاولت أن أكتم الموضوع وأخفيه عنك..لكن لا..الآن أعترف لك،
أنا تبرعت بهذا الجسد كله..!
لم يجب..حدق في الأوراق ثم
حدق في عينيها..فقالت متابعة:
- أدهشني رجل تبرع بإحدى كليتيه..وآخر قال لنا
جميعاً: الإنسانية تدعونا إلى هذا..
ثم رفعت صوتها:
- أهذا غريب عليك..أيها الشاعر..؟
بعد صمت طويل أجاب:
- لا..لكنني لا أستطيع أن
أتحدث في هذا الموضوع..
- لأنك مازلت تكتب القصيدة..
- ربما..إلا أنني لا أستطيع
أن أفهم..
- ماذا تريد أن تقول؟.
- .. .. ..
وانتهى الحوار بينهما، لا
هي تتكلم ولا هو توقف عن الصمت..لم يكتب..وهي لم تذهب إلى النوم. ثمة
صمت تام وموسيقا غامضة تأتي من بعيد، كان يصغي إليها. في الوقت الذي كانت فيه لا تعرف ماذا
تفعل..إلا أنها سألته فجأة:
- هل ارتكبت حماقة..؟
أجاب بعد صمت قصير:
- لا أعرف..أنت حرة..
فرفعت صوتها:
- أنك لا تفهم..يا زوجي
العزيز..فكرة بنك الأعضاء..واسترسلت، دون أن تسمح له بالكلام:
- الفكرة إنسانية
تماماً..وبسيطة جداً..فإذا متنا لماذا لا تتبرع بالأشياء الحية. العين أو
الرئة؟ أنا لست خبيرة بهذه الأشياء..لكن علينا أن نفكر..
ولم ترو ما حدث لديها أبان
تبرعها بجسدها بعد الموت، بل اعترفت له بأنها عندما تموت لا تريد أن تذهب إلى التراب..
- ماذا؟
قاطعها بصوت حاد، فقالت:
- ترى لماذا لا نقدم مساعدة
لإنسان يمكن أن يعيش، وهذا الإنسان لا يعيش إلا من خلالنا..
هز الشاعر رأسه محدقاً في
أوراقه الملونة..ثم رفع رأسه قليلاً كي يتفحصها شزراً..تجمدت..ولما حاولت أن
تدافع عن نفسها اكتشفت ضعفها كاملاً.. فدار بخلدها أن تعود إلى غرفتها، مثل كل
يوم، بعد الساعة العاشرة مساء..حيث يكون الشاعر، هو الأخر، وحيداً في صمت
الليل بين أوراقه وكتبه..لا يفكر إلا في إنجاز قصائده الجديدة. لكنها تمتمت
بغموض. كان ما يزال يحدق فيها شزراً..عندما قالت:
- لا أعتقد أني ارتكبت حماقة..
عاد يتأمل أوراقه
الملونة..دخن..وأمسك بالقلم..لم يكتب كان يخطط..يشطب فوق الكلمات..ومزق ورقة..ثم
نهض وغادر الغرفة. في تلك اللحظات من الليل كم شعرت، بالعزلة. وتساءلت: ما يعني
هذا؟ ما معناه؟
لم تجب..لا تعرف لم َ سحقها
كابوس غامض..وحيرة مدوخة..أنها، مثل زميلاتها، لم تبخل بإنقاذ حياة إنسان
ما..إنسان مجهول تماماً، بجزء من أجزاء جسدها وهذا كل ما في الأمر..وقالت
لنفسها أنها لم تكن ضده..أو ضد سواه.
على أنها، في هدوء الليل،
أحست بمرارة الخيبة مع زوجها، أمضت الحياة معه على مدى عقد كامل..زوجها الشاعر
الذي كتب لها القصائد وتغنى بعينيها وقلبها..أما الآن_قالت لنفسها_ فلم يتفوه
بكلمة واحدة يثني على قرارها بالمساهمة في إنشاء بنك الأعضاء، كما هو الحال
في دول العالم الكبرى. لقد كانت تتخيل كل شيء يصدر عنه عدا صمته وغضبه المفضوح..ثم ها هو
يتركها وحيدة كي تفكر، لأول مرة، بأنها ربما كانت على شطط. كلا، قالت ذلك
وتخيلت، برهة من الزمن، إنها متجمدة في مؤسسة بنك الأعضاء. ميتة..موزعة الجسد..كل
جزء من جسدها في مكان. إنها تناثرت. وأن ثمة بشراً ينتظرون..عيناً أو رئة أو كلية أو ربما
بعض خلايا المخ..وقالت حالاً أن ذاكرتها جيدة ويمكن أن تنقذ بها أي مخلوق مجهول
تعطلت أو تبلدت ذاكرته. ثم أن عينيها يمكن أن تمنح النور لكائن فقد بصره وهو
ما زال في مقتبل العمر. وكاد خوفها أن يتلاشى لولا أن زوجها عاد، وبهدوء،
جلس أمام أوراقه وأحذ يكتب على نحو مضطرب، متعجل..ثم يشطب..ويمزق الورق..ويكتب من
جديد. لقد شعرت إنها أذلته في شيء ما..لا تعرف..إلا أنه الوهم..هذا ما دار بخلدها وهي
تتصور إنها، في لحظة تتوقف حياتها على جزء من الأجزاء المهمة، تجد من ينقذها فيها من الموت. ومن ذلك
الصمت، الأبدي. أنها تعود إلى الحياة..إلى زوجها الذي تغزل بها سنوات وسنوات
وقال فيها أشياء عذبة ساحرة صارت مثلاً للغزل في الشعر والحياة..
وودت لو ماتت على ألا تؤذي
زوجها، لو ماتت دون عودة، وبلا إنقاذ كما حلمت. لكنها فقدت لغة الخطاب معه. ولولا أن
قواها قد خارت لنهضت وصالحته..واعتذرت..ولكن لماذا؟. قالت لنفسها، بشكل جيد.
أنها تعرف حساسيته بالتعبير..فهو أنيق متأنق ودقيق. على أنها لم تتكلم_قالت لنفسها_ ولم يسمح لها بالكلام..مثلما يحدث ذلك أحياناً، معترفاً لها بأنها تتكلم
مثل ربات الشعر. أخ لو فعل ذلك اليوم. لكنه لم يتكلم. قالت. ثم راحت تتأمله وهو
يدخن..وهو ينظر في المجهول.
ولم تحتمل الصمت أو سوء
الفهم..فجمعت قواها..وتكلمت:
- لنعد كما كنا
أصدقاء..ونتكلم..كعشاق..استفزته جملتها..لكنه لم يتكلم. تابعت:
- أنا أود أن أقوم بأي عمل
إنساني..مثلما كنا نقول في كل يوم، قبل العرس..عندما كنا نذهب إلى الغابة..وعندما كنا
نتأمل الفجر معاً..هل نسيت أنك كنت تحدثني عن المزارع والحقول..وعن الإنسان الذي
لا يشكو من العلل..ألم تقل لي أن المرض من أكثر الأشياء قبحاً في الحياة. كنا عشاقاً.
حسناً..وبعد سنوات، وعلى مدى عقد، كنا نكرر ما قلناه..ألم أكن أنا الجميلة أبداً؟
حدق فيها..تأملها..وقال:
- هل تعرفين أني كنت صاحب هذا
المشروع..
- أنت؟
- نعم..أنا صاحب الفكرة..
لكنها سألته:
- ولم تحدثني عنها..أبداً؟.
- أنا كتبت عنها..قبل عقد
كامل..
- غريب..
- ما الغريب؟
- أنك كدت تحطم حياتي
اليوم..ألا ترى ماذا فعلت؟
- ماذا؟
- أنك جعلتني أرتجف..وأخاف..
- جميل!
بيد أنها صاحت:
- كدت تدفعني إلى..الموت..!
- ماذا تقولين؟.
- لم أكذب عليك أبداً..وأحمد
الله أني الآن أستعيد بعض قواي..
للمرة الأولى، ومنذ سنوات،
تجد زوجها الشاعر وقد خارت قواه. أنها مثل طفل..بل كادت تفكر بإنقاذه من الكلام،
والليل يتقدم. وهي لم تعتد البقاء مستيقظة حتى الساعة الواحدة ليلاً..مادامت قد تصالحت
معه، من خلال اعترافه الجميل، كما قالت لنفسها..لكنها سمحت له، بالحديث:
- أني صاحب هذه الفكرة..ولكن..
قاطعته:
- لن أتبرع بجسدي أذن!..
- لا..أبداً..قلت أنا صحاب
الفكرة..وأنا فكرت في إنشاء بنك الأعضاء منذ زمان..منذ ربع قرن تقريباً..ولكن..
- ماذا..ماذا تريد أن تقول؟
وأضافت حالاً:
- هل من عذاب جديد..؟
- نعم.
وساد الصمت بينهما لحظات كي
يبادرها القول:
- تبرعت بكل أجزاء جسدك
عدا..عدا..
قالت حالاً، وهي تقاطعه
للمرة الثانية:
- ماذا تقصد؟.
- أقصد أني لا أوافق
أن..أن..تتبرعي بقلبي.
- قلبك؟
- أقصد قلبك يا سيدة الشعر.
- قلبي؟
- نعم. هذا القلب لا أتبرع به
لأحد. لا أحتمل..
- قل هذا منذ البدء..
آنذاك استعادت قواها..فقد
كانت تخشى أن يتحدث عن عينيها مثلا. أو أصابعها، أو أي شيء آخر..وبالتالي سيتحدث،
قالت، عنها كلها، ويمنعها من التبرع بجسدها كله. فنهضت. لكنه طلب منها أن
تصغي إلى قصيدته الجديدة: قــلب.
12\4\1987
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق