قصص قصيرة جدا ً
عادل
كامل
دعاء
عندما ذهبت إلى المحاسب، لاستلام
راتبي، وجدت المحاسب يدعوني ان أشاركه الدعاء، وراح يدعو بصوت مرتفع:
ـ اللهم ارزق اللصوص...، اللهم وفق الحرامية...، اللهم ...انصر الظالمين!
لم اصدم، ولم اصب بالذهول،
ولكنني سألته:
ـ لماذا هذا الدعاء ..؟ فقال ولم تفارقه الابتسامة:
ـ كي تحصل على راتبك، وكي تبقى على قيد الحياة!
رصاصة
بعد انتظار دام فترة غير قصيرة
من الزمن، عند بوابة الجحيم، ومراقبة الداخلين إليه أو المغادرين، لمحنا، في مساء
احد أيام الشتاء، إطلاق سراح السيد (س). فهمس آمري في آذني: آن لك ان تتبع خطاه.
بدوري أجبته هامسا ً: ألا تراه تحول إلى شبح، وهو لا يكاد ان يقاوم الريح، فهو
يتعثر، مثل أعمى، ولا احد بانتظاره أيضا ً..؟
نفذت الأمر، من غير اعتراض،
ورحت أتتبع خطاه، بدءا ً من مغادرته بوابة الجحيم، وهو القصر المطل على النهر،
مرورا ً بالشوارع، والدروب، والأزقة التي سلكها، وانتهاء ً بدخوله إلى الحانة
ذاتها التي طالما أمضينا الليالي فيها. فجأة همس آمري في أذني: آن لك ان تطلق
النار..! كان أمرا ً إن لم أنفذه فسألقى مصير (س)، إنما دار بخاطري، أن شبح السيد
(س) كان يحدق فينا، بعد مراقبته لنا، حتى أنني لمحت ابتسامة رسمها على فمه تعلن عن
توقه لملاقاتنا. فقلت للآخر: ألا ترى انه تحمل ما لا يحتمل، وإلا لماذا أخلو
سبيله..؟ جاء الرد بصوت قاطع: ليست مهمتك ان تفكر. فحدقت في عيني من أمرني،
وسألته: وأنا من سيطلق النار علي ّ..؟
منذ قرون مازالت كلماته ترن في
راسي، بعد ان أصبحت، أنا والشبح، لا نبحث إلا عن ملاذ لنا لا نرى فيه رصاصة تبحث
عنا، بعد ان قلت له: اذا كان الجحيم ذاته لم يهزمه، ويروضه، ويمحو حياته من
الوجود، فلماذا أصدرت أمرا ً لي بالقضاء عليه، وبالقضاء على حياتي..؟!
إضافات
بعد ان دوّن وصيته، وأكملها،
أعاد قراءتها. فأسرع، بشغف، يدوّن ما ظن
انه أغفله أو لم يخطر بباله. تنفس الصعداء، في هذه المرة، وهو يعيد قراءتها
مرة ثانية، فوجد انه اغفل العديد من الملاحظات، فراح يكتب، مستعيدا ً ومستعينا ً
بالتفاصيل التي غابت عنه. ودار بخلده، انه قرر ان يمضي جادا ً، صبورا ً، في إكمال
العمل الذي بدأ به؛ أليست هذه هي وصية والدي التي نطق بها: لا تترك عملا ً إلا
وتكمله. فقال يخاطب نفسه: وها أنا أدوّن.
وأضاف صفحات أخرى، كي لا يترك
شاردة، أو واردة لم يذكرها. لكنه، عندما أعاد مراجعة الوصية كاملة، انفجر ضاحكا ً،
وهو يردد، بصوت رقيق: ألم ْ أكن شيعتهم جميعا ً....، فلمن أوصي ...؟
آنذاك رأى الأصوات تتبعثر شاغلة
المساحة ذاتها التي طالما وجد نفسه محاطا ً بها: الصمت. ولكنه، في هذه المرة،
تركها تعمل عمل المحو.
شجرة الأنساب
استعاد أسماء أسلافه، في شجرة الأنساب،
من الجد العاشر انتهاء ً بآدم، ومن الجد الثالث، وصولا ً إلى حفيده الأخير، بمرح،
وهو يتأمل صورهم معلقة أمامه في واجهة صالة الاستقبال.
وعندما أطفأ المصباح، ووضع رأسه
فوق الوسادة، لم يعد يفكر بما شغله، في لحظات ما قبل النوم، لأنه عندما بحث عن رأسه
لم ْ يجده، فلم ينشغل بتذكر احد، لأنه لم يعد يرى أثرا ً بعد ان لمح الأسماء
تتوارى، وتغيب، وهو غير مكترث لولادة حفيد آخر، كانوا يدوّن اسمه في شجرة الأنساب.
إنها الرحمة
لم
ينجده بصره في رؤية المشهد، فقد كانت الأصوات ترسم له صور ما يحدث. فمكث يتلصص، من
وراء شقوق الجدار، مصغيا ً إلى الأصوات.
تساءل جاره الذي اختطف وجرجر من
بيته إلى مكان يقع في نهاية الزقاق، حيث ترك في العراء إلى جانب أكوام الزبل:
ـ " ماذا فعلت ...؟" أجابه الآخر:
ـ " انك تعرضت للذات الإلهية ..."!
ـ" أنا ..؟" فسمع الآخر يصرخ فيه:
ـ " نعم، أنت، وتقول إننا ... نهدم عرش الله، ونخرب الدنيا ..."!
ـ " والله، لم اقل ذلك، لا خوفا ..." لم يدعه الآخر ان يكمل،
ليسأله:
ـ " ماذا قلت اذا ً ...، أيها الكافر ...، الزنديق...؟"
ـ " قلت: اذا كانت الذات الإلهية...، تستنجد ... بنا، نحن الـ
...." سمع صوت رصاصة في الهواء، ورأى دوائر تتبعثر متداخلة قبل عودة الصمت.
فسمع الآخر يقول للعجوز:
ـ أكمل ..."
ـ " قلت اذا كانت هذه الذات، بانتظار ان نفتديها بأرواحنا، فانا أظن
ان هذه الذات لا علاقة لها ..." وسمع صوت رصاصة، ثانية، لكن من غير أصداء.
لم يقو على الانسحاب، وهو يستمع إلى
الأصوات تبتعد عن المزبلة، حتى توارت، عدا كلمات تصور ان العجوز مازال يتلعثم
بها. فأصغى إليه:
ـ " الآن أدركت، يا جاري العزيز، ان الموت ليس هو القسوة في ذروتها،
وإنما ...."
ـ " أكمل ..." ولم ينطق
بكلمة، فقد فارق الحياة، ورأسه بين يديه. فقال الآخر، مع نفسه، بصمت: إنها الرحمة!
غضب
لم يخبرها انه اجتاز عتبة
المراوغة، وانه لم يعد وحيدا ً فحسب، بل غدا لا يرى حتى ظلا ً أو أثرا ً يمكن ان يراه: فأنا لم
اطلب منها سوى ان لا تكون هناك، أو بجواري، بل ان تكون ، هنا، معي. سمعها تقول:
ـ " وأنا معك .."
ـ " أنا لم اطلب منك ِ .." وسكت، لأنه لم يعتد ان يستنجد، أو
يستدرج، أو حتى يستغيث:
ـ " أنا لم اطلب منك سوى ان لا تكوني، هناك، نائية، بل ان تكوني، هنا،
معي ... " وأعترف لنفسه: الكلمات حجارة، والعبارات منافي. فاختزل طلبه لها في
كلمة:
ـ " قبلة ..." ولم يشرح لها أنها وحدها تختزل المعاني.
ـ " لكن هذا يفقدني ..."
فلم يجد وسيلة لإخفاء غضبه، وألمه الدفين:
ـ " قبلة، قبلة تسمح لي ان أذهب ابعد من الموت!" ولم يعد يراها، أو يستمع إلى صوتها، بعد ان
قال لها: أنا منحتك حياتي كلها، ولم اترك لنفسي إلا ان تذهب بعيدا ً.
وكأنه أدرك ان الحكمة، في
الغالب، كما خطر بباله، لن تأتي إلا فائضة، وبعد ان يكون الآسف قد فقد مغزاه، آنذاك
يكون الإمساك بالرماد، وحده، لن يقارن باستعادة زمان الجمر، ولا بتذكر لهب النار،
عدا ذلك الذي شغله، منذ عقود، ليس الزمن، بل الذي غادره. وود لو قال لها ذلك،
وساعدها كي تنال لقبا ً آخر، تتزين به، بين زميلاتها وزملائها، لكنه أيقن أنها،
منذ البدء، لم تكن تأخذ منه إلا الذي لم يعد يأسف عليه: الحياة!.
الريح
بعد ان كف فمه عن النطق، وكف خياله عن العمل،
وبصره عن الرؤية، ذهب إلى النقاش، وناوله ورقة كتب فيها إشارة تحمل بعض الأسماء.
هز الآخر رأسه، مستفسرا ً، فناوله ورقة ثانية، دوّن فيها التالي:
ـ " من يعيد إليك طفولتك التي سرقت منك/ من يعيد إليك أحلامك التي
ضاعت/ من يعيد إليك حياتك التي بعثرت/ من يعيد إليك كتبك التي نهبت، من يعيد إليك
كرامتك التي فقدت، من يعيد إليك بيتك الذي هدم، من يعيد الكلمات إلى فمك، والنبض إلى
قلبك، والومضات إلى جنونك... من يعيدها...؟" ابتسم النقاش، ومازال يجهل ماذا
يفعل بالأسماء، هل يحفرها فوق شاخص القبر، أم يحتفظ بها لغاية ما، لكن الآخر قال
له، وكانت تلك آخر كلمة نطق بها:
ـ " شكرا ً لك، أعطني الورقة. لا تكتب شيئا ً، فانا تذكرت أنني كنت مت
منذ زمان بعيد، فلا تربك مرور الريح بذكر أسماء من سرقوا أحلامي، ورأسي، وكتبي، وطفولتي،
لأن الريح وحدها ستبقى بيضاء"! ودفن
من غير شاخص.
قرار
بعد ان سقطت قريته في الحرب، لم
يعد يصوب بندقيته إلى الأعلى. منشغلا ً بمشاهدة الطائرات العملاقة وهي في طريقها
إلى المدينة، لكنه كتم عويلا ً في أعماقه وهو يرى جاره يرحب بمرورها في السماء،
فوق ارض قريته التي سقطت من غير مقاومة تذكر، فصوب فوهة بندقيته باتجاه رأسه، وطلب
من جاره ان يضغط على الزناد، لكن الآخر لم يفعل، لأنه مازال يلوّح مرحبا ً
بالطائرات العملاقة المتجهة صوب المدينة، فوجد إصبعه يضغط على الزناد، قبل ان يتخذ
رأسه قرارا بذلك.
عمل
خاطب المدير الموظف:
ـ عليك ان تعمل. فقال الموظف
للمدير:
ـ وأنت عليك ان تفتخر بعملي. فقال المدير:
ـ اقلب المعادلة: لا تعمل، فهل هناك من يلتفت إليك. فكر الموظف برهة، وقال:
ـ ليس الذنب ذنبك، يا سيدي، ولكنني، للآسف، لا اعرف ماذا اعمل، إن توقفت عن
العمل.
حوار
سأل الفقير جاره الثري:
ـ متى يأتي يوم القيامة.؟ فرد الثري بغضب:
ـ ولماذا تتعجل قدوم ذلك اليوم ..؟
ـ كي لا أبقى فقيرا ً إلى الأبد. فقال الآخر:
ـ ومن قال انك ستصبح ثريا ً..؟ لم
يجب الفقير، بل اكتفى برفع رأسه ونظر إلى السماء، من غير إجابة.
هدايا
ـ قل لي، سأل المهاجر الأسيوي زميله الأفريقي في المهجر: إلى أين تتجه
حاملات الطائرات النفاثة، وهذه الصواريخ عابرة القارات ...؟ قال له ساخرا ً:
ـ أنهم يرسلون الهدايا إلى شعوبنا التي مكثت تردد: اذا الشعب يوما ً أرادة
الحياة، فعليه أما ان يهاجر، أو ان يتذوق هذه الهدايا!
انتظار
سألت العانس جارتها الأرملة:
ـ وألان، بعد هذا العمر، ماذا ننتظر..؟ فقالت الأرملة:
ـ أنا انتظر ان أراه في العالم الآخر!
صدمت العانس بالرد، لتسأل نفسها،
بصوت مسموع: وأنا ماذا انتظر ...؟ فقالت الأرملة تخاطبها بصوت خفيض:
ـ صحيح أنا لدي من انتظره، ولكنك، يا جارتي العزيزة، ستجدين من ينتظرك!
جنرال
لأنه، بعد ان خاض الحروب التي
لم يكسب منها سوى خسارات لم تسمح له، حتى بمغادرة سريره، شرد ذهنه، وهو يتابع ـ
عبر شاشة التلفاز ـ قصف الطائرات المقاتلة للأحياء السكنية، في مدينته التي
غادرها، منشغلا ً بتأمل أعمدة الدخان، إلى السؤال الذي بلغ ذروته: اذا كان المنتصر
لا يقدر انه لم يهزم إلا مخلوقات لا وجود لها، بحسابات المعارك، وفن الحروب، فأي
نصر هذا سيدوم وقد سبقه زواله إلى الاندثار، والمحو..؟
أعاد الجنرال رأسه إلى الوسادة،
وهو يردد، مع نفسه: إنهم يسرقون هزائمي أخيرا ً. ولم ينطق بكلمة.
ضيوف
بأصابع مرتجفة أدار المفتاح في
القفل، وفتح الباب، ليدخل عبر ممر ضيق إلى داره، فوجد بضعة رجال يجلسون في صالة
الاستقبال، لم يكترث، فقد تابع السير باتجاه غرفته، فوجد احدهم يجلس خلف منضدته،
وهو يحدق في عينيه. فسأله الآخر:
ـ من أنت، وماذا تريد ...؟
لم يجب، بل تراجع خطوة إلى الخلف، ثم استدار، وتراجع، متقدما ً نحوه خطوات،
وقال:
ـ تفضل..،آسف، هذه ـ هي ـ مفاتيح البيت!
بعد ذلك اليوم، لم يره احد، أو ينشغل
بأخباره.
اختيار
ذات مرة سألت جاري، قبل ان
يتوارى:
ـ هل تود ان تكون عظيما ً، أم واحدا ً من عامة الناس...؟
ابتسم وسألني:
ـ وهل تستطيع ان تختار الذي تجد انك لا تستطيع رفضه ...؟ تابعت اسأله:
ـ أي انك لم تقدر ان تختار لا جحيمك ولا نعيمك أيضا ً ...؟
ـ طبعا ً، أيها العزيز، عندما تقدر ان لا تختار الجحيم فأنت وضعت خطوتك في
الطريق الآخر، لكنك عندما تجد انك ولدت في الجحيم، فهل باستطاعتك ان تعثر على طريق
للفرار...؟
مفارقة
غريب! تساءل المقاتل مع نفسه،
بذعر، ان القذائف السبع جميعها سقطت على المواضع المجاورة لموضوعي، ولم تترك أحدا
ً حيا ً فيها، فلماذا قدر لي ان أرى هذا المشهد...؟ في المستشفى، عندما آفاق، سمع
قصصا ً مماثلة، وكل من اخبره بحكايته وجدها لا تختلف عما حدث له. فخاطب نفسه: انك،
يا مجنون، ستبقى ترى كيف نجوت بانتظار تلك التي لا مناص ستسقط فوق رأسك!
بعد عقود، عندما قررت إحدى
المؤسسات ان تمنحه شهادة فخرية، لم يُعثر عليه في منزله، وإنما وجدوه في العراء،
بجوار المزبلة، جثة بلا رأس.
30/11/ 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق