إلى واحد بن واحدة ... ثانيةً
علي السوداني
كنتُ أعرفهم من قبل ، لكنني ضيّعتهم الآن
، وحزني عليهم عظيم ، مثل حزن ولد مهذّب أضاع عيدية العيد . أولائك الذين لطعوا طعم
الحياة ، على دكة انولاد أول الستينيات الماجدة .
الذين إن شاكسوا أو جاهدوا أو تمادوا في
اللعب ، حملوا تحت آباطهم المملوحة بفتوة الأيام ، كتاب النبيّ ، أو نسخة مهشّمة
من " طريق الشعب " أو رزمة منشورات ، ستلصق على فجر الزقاق ، مزفوفة
بعزف منفرد ، من صفّارة الحارس . الذين انداحوا
اختيالاً على خدودهم ، فتعثّروا بصفعة . والذين ساحت دماؤهم
ــ بلا كريات حمر ــ على تمثال تروتسكي . والذين باعوا سكائرهم المهرّبة ، على
سكارى " الركن الهادئ " بشارع الخيّام . والذين باتوا ليلة شتاء
، تحت قفص فائق حسن . والذين استراحوا على علب " النيدو"
في ساحة الطيران ، توطئة لليل سواتر وشقوق الوحشة . والذين وضعوا " تشيخوف
" و " المتنبي " فوق دكة نعيم الشطري ، وراحوا يتفكرون بـسعر زجاجة
عرق بلدي عتيق . والذين اذا ماجاءهم فاسد بنبأ، استرابوا
وتفكّروا ، وزرعوا السبّابات على الخدود ، حتى تبيّنوا . والذين اذا جلسوا جمعاً ،
مااستغابوا فرداً . والذين إن شحّ عليهم الماء ، قالوا "
العطش العطش ياحسين " والذين إذا ما أسكرتهم الراح والليالي ، قالوا
ماقالته صحاة القوم . والذين إن اختلفوا وتضادوا ، ماتناطحت رؤوسهم
، ولاكشّرت أنيابهم ، ولا جُزّت نواصيهم . والذين إن عجزوا عن
لَيِّ ذراع قوية ، ما باسوها . والذين إن فتكت بهم الايام ، قالوا إنها دول تدول ،
يداولها الربّ الرحيم العادل بين مخلوقاته . والذين اذا ماعاشرتهم ، وأقمت لهم
بصحن نزلك ، متكأ حلال ، ومائدة طيب ، نمتَ آمناً مطمئناً ، وقد أغلقوا باب الدار عليك
والعيال . والذين اذا ما جرحتك مصيبة ، قالوا نحن وأنت عليها
، كتفاً بكتف ، ودمعة بأسخن منها . والذين إن طوقتهم بالشوك
، تقييساً للصبر، سوّروك بالياسمين . والذين إن بعثوك للسوق كي تشتري لهم خبزاً
ودهناً ، فغبتَ عنهم يوماً أو بعض يوم ، ناموا على قرقرة بطن ، وصنعوا لك ، سبعين
عذراً . والذين اذا ما رأوا حجراً بدربك ، شالوه من دون منّة . والذين إن شبعت بطونهم
، تذكروا سابع جار ، وعاشر جارة . والذين إن تفوهوا بجميل الكلام ، فاح من أجوافهم
المسك والعنبر . والذين اذا مافعلوا، فعلوا حتى لم يأت بعدهم
الطوفان . والذين اذا ماحرّموا أكل نطيحة ، ماحلّلوها ، والجوع
يأكل من أجوافهم . والذين اذا ماسرقوا درهماً اليوم ، عادوا غداً
، فردّوه وقالوا : إنما أكلنا ناراً في بطوننا . والذين اذا دخلوا مدينةً
، دخل المدينةَ خيرٌ عظيم . والذين اذا ماحييتهم
بتحية ، ردّوا عليك مثنى ومثلثات ورباعاً . والذين اذا ماعمّ الجدب
، صاموا وأجرهم على قدر المشقة . والذين اذا ماحلّ قحط
بقرية ، قالوا : إنّ الصبر مفتاح الفرج . والذين اذا ما أصابت صاحبهم علة ، أصابتهم
علّته بالسهر وبالحمّى . والذين إن صمتوا قالوا، وإن قالوا صدقوا .
والذين إن سألتهم عمّا لا يفقهون ، قالوا لانعلم ولانعرف ، ولا نهرف . والذين
اذا حكموا قريةً ، لم يفسدوها . ألذين اذا صاحت البلاد
: آخ يا أولادي ، قالوا لها : يا عونكِ ، أُمّنا الحنون ، نحن الستر والساتر .
ألذين اذا ما عرّش واحدهم على بيت مال الناس ، هشّ بنيّته المارة بعصاه ، خوفاً من
خيال شبهة ، أو قرصة حكي . ألذين لو جادلتهم وحرقت قلوبهم وغلبتهم ، ورميتهم
بالبيّنة وبالبرهان ، رفعوا أكفهم والأفئدة ، وقالوا : إنك والله لمن العالمين .
ألذين اذا ما طمست كفّك بماعون واحد منهم ، أمسك عن الأكل ، حتى مطلع انزراع
أصابعك في فمك . ألذين إن رميت بأحضانهم ، خزنة من دنانير وذهب وفضة ، نفروا منك
وقالوا : من أين لك هذا . ألذين قالوا ، أن بلادنا حلوة وعزيزة ، حتى لو جارت
علينا ، وظلوا على هذا راسخين . هؤلاء صحبي الذين كنت أحبهم ، وقد ذهبوا وبادوا .
أرى صورهم ومراسيلهم ، مرشوشة على جدر الصحائف ، مرسومة ضحكاتهم فوق الشاشات . هم
صحبي الذين كنت أحبهم ، لكنني الآن ، أرى إليهم ، ينامون على صمم وعماء ، ويأكلون
فقط ، ويوصوصون ، كأنهم علامة من علامات الفناء .
alialsoudani2011@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق