بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 27 ديسمبر 2012

وسام زكو-فضاءات الامتداد ودينامية الصفر




وسام زكو
فضاءات الامتداد ودينامية الصفر


  عادل كامل

[ 1 ]   شذرات

        ما الذي يريد ان ينجزه جيل خرج بشكل من الأشكال من ثلاثة حروب أسطورية في عصر ما بعد الحداثة ( 1980 2003 ) وهو يدرك ان التقدم باتجاه الغد ، لا يبعده عن شبح التدحرج في المجهول : جيل ترك خلفه الأوائل والرواد وكل من حاول تلبس أقنعة الحداثات والمغامرات الفنية .. ليتلمس منطق عصر ( رفاهيات ) واستبصارات ملتبسة ، على صعيد المدلولات ، أو على صعيد التشبث بدالات الامتحان ..؟  ان سمات هذا الجيل ، لم تظهر ، في التشكيل العراقي إلا عبر وثبات داخل اغراءات استعادة أحلام استلبت ، وكينونات ما زالت تحمل قرون من الوباءات والطوفانات  والاغترابات  والحروب الداخلية .بمعنى [ 1 ] هل تولد تجارب هذا الجيل ، خارج إمبراطورية التنازع ، والخوف حد الصمت  [ 2 ] وهل للأمل ، في زمان غدت فيه التقنيات تفكر ، معنى [ 3 ] وهل للجوهر ، في الاستهلاك ، وتحول الفن الى علامات تصادم وتنافس ، قدرة إبداع مصيره ، وجعلنا نبني ، داخل تاريخ عريق للإبداع والمقاومة ، الخطاب بما يجعله توليديا ، وليس استرجاعيا ، يمتلك ذاته ، بعيدا عن الاستعارات ، ممتلئا وليس خاويا ، في الفضاء وليس داخل الأقنعة ؟  
 
[ 2 ] تبعثر

     لا تتشكل نصوص وسام زكو وكأنها تتمة لتجارب عراقية سابقة ، بل تصدمنا بتشكيلات بالغة التبعثر . إنها ليست مفككة أو اعتمدت التلصيق والبناء .  ولكنها تبقى تحافظ على وحدتها ومركزها وكأنها استعارات حرص الفنان ان يجعلها أقرب الى مشاهد النجوم والبراكين والبكتريا . فالتبعثر يلمّح ضمنا وكأن الاستقرار أو التوازن أو المسرة رمزيا- ليس إلا حالة تتداخل مع الديمومة العامة للمشاهد . بيد ان نصه لا يقص ولا يحكي . انه لا يدفع بالرسم الى الصفر ، ولا يصمت ،  لأنه ينقلنا الى مناطق الخلخلة . ثمة تدفق أوانفجارات لها مغزاها النفسي المندمج بالخامات والتكنيك . فالفنان يسمح للعناصر ان تتنقل عبر فجوات لا تحصى .. ومسؤوليات المراقب / المشاهد ، تغدو افتراضية . لأن الأخير لن يجد لذّات  أو معان بعيدا عن تنقيبا ته في النص . هذا الاحتمال ، عند الفنان ، دفع بالنص ليأخذ مسارا آخر في التأمل  وفي قلب عادات التذوق التي رافقت الرسم التقليدي ، وحداثته المستعارة . فالفنان ينقلنا الى  المواقع المشتركة ، خارج تاريخ الرسم ،بمعنى انه يتمسك بالمرئيات والخامات والمشاهد البكر .. فالعناصر هي ذاتها تتكون عبر زمن النص ، ورؤية الفنان ، ذاتها ، هي التي تعلن عن اشتغاله في تفحص التبعثر المشترك بينه وبين الخارج . ربما انجذب إليها ، أو ، عاد الى مفهوم التعبير وصاغه بحذف تام ، وربما وجد انه يتجانس معها . فالفنان يغادر ولا يحفر فيه ذكراه . لكن الاسم يتداخل بطبيعة الفعل .. فالاسم الذي لم يك له وجود ، قبل الفعل ، يصير علامة : يصير فجوة مشغولة بإحكام وكأن الفراغ بمعانيه كافة يجعل التضاد وحدة تدفعنا للقبول بالتبعثر . فالنص هو ذرات مذابة ، كقطعة سكر ، في فضاء ساخن : إنها الذرات لا تخفي اندماجها ، بل تصوره ، وتقتنصه ، لتعلنه تاما .. فالحركة محاصرة بضرب من السكون ، عبر : تضادات الألوان ، وتضادات المعالجة الملمسية .. فالرسام المنشغل بعمل الأصابع  والشم والبصر  لا يغادر عمل الذهن : فاللوحة تبث نظام تصادماتها كديمومة في الاتصال .. بيد إنها تقول الذي يدوّن .. تقول إنها تريد ان تدوّن الذي تريد إيصاله ، وكأنها تعيد الحياة لمغزى ( الشيء في ذاته )  الذي صار مزدوجا : ان المسافة القصية في بلوغها لامرئيها تعلن عن وجودها مرئيا ، كما تحافظ على أسرار نظامها في تدفقاته وانفجاراته ، كأنه لا يرسم ، بل كأنه يلتقط ويتلمس ، بمعنى انه يحافظ على حالة المشهد وفي الوقت ذاته يصير جزءا منه . وقد تكون عوامل عصرنا المتداولة عبر الفضائيات ومشاهدها المتسارعة قد دفعت بالفنان الى ضرب من التشفير : فهو يتخلى عن مفاهيم الرسم ، وليس التجريد، عنده ،فخامة أو لذات جمالية ، بل بوحا يبلغ حد تنظيم التقاطعات والاعتراضات والتبعثرات فنيا. فالفنان ينظم التصدعات ، داخل زمنها وخارجه ، واضعا علاماته تحت الرقابة  ، والمقارنة . فالواقعية لا  تحافظ على المعنى  أو تدمره ، بل تضعنا في مأزق الاختلاف : التضاد وقد صار علامة لنا ، مع انه ، يحافظ على خطاب عام ، وجد لمساته في معالجات مشفرة ، بما يذهب وراء الكلام ، والسرد ، والاعتدال .  


[ 3 ]  أصوات

      إنها نصوص صوتية . فعلى العكس من واقعية الكم التي تحدث عنها الرائد محمود صبري في أوائل الأربعينيات تصير الموجات ، البصرية ، سمعية . عمليا إنها تذهب بنا لاسترجاع  احتمالات [ 1 ] الموجات [ 2 ] الكلمات [ 3 ] والاحتواء ، أو ديمومة الاندماج . فالأصوات تغدو مرئية  مع إنها ترجعنا ، في اكثر العلوم حداثة ، الى الصمت . بيد ان الصمت هو الوجه الآخر ، الخفي ، للمشهد الصوتي . والفنان الذي خلع ، وابعد ، ونفى التشخيص ، وجد انه أمام فضاء اللا أصوات .. فكيف يبرهن ، في المغزى الاختزالي والصوفي على كثافة لحظاته النابضة ، الثرية بكنوزها ، ان لم يجعل الحضور مشفرا ًبعدمه . فالاصوات  لا تأتي بحسب نظام الاستقرار ، والعادات ، وانما بالتصادم والانسجام التشكيلي ، مثل نظام المصادفات ، لا ينفصل عن سياقه الحتمي .. فهو يعلن دويه ، لحظة الانبثاق ، جاعلا من الصوت نداءً كونيا / بشريا . فالحواس لا تخترع الأفكار، كما إنها لا توجد نفسها : إنها تكمل ماضيها ، فهي بلا مستقبل مثلما هي أبدا على حافة الانهيار . فلأصوات تحدث بدافع الخلخلة ، بعيدا عن الثابت والقواعد التي اكتسبت شرعيتها . الرسام يتمسك بصدى ما قديم وقائم على التحولات : من الدوي الى الانسجام ، ومن العمق الى السطوح ، ومن الصمت الى الصدى : أصوات لا تخترعها حاسة السمع ، ولا الذهن ، كما إنها لا تبرهن على تاريخها إلا عبر هذا الاكتفاء الناقص . فالوجود ضرورة لانه يتمم مصيره ، مثلما الأصوات تغدو إشارات حرة لفراغ بلا حافات : أصوات  لا تبعث على الإمتاع ، بل تتفتت وتتجمع خارج تاريخ السرد ، والوظائف .. فهل ثمة نزعة مضادة للجمال ،يؤكدها زكو بصفتها علامة عصر تتكاثف فيه النهايات .. أم هي الاضطرار للقبول بهذا المرور ؟ معا تبقى الأصوات تحمل لاتاريخها .. فهي لا تمثل تراكما ، ولا صقلا لخاماتها ، بل توكد وكأنها تحمل زوالها معها . لكنها مع ذلك تصير رواية يرويها بصريا ، استنادا  الى مديات الأصوات ، وتنافرها الدائم . فنصوصه لا تستقر ، مثل بنية الوجود التي الرسام نفسه فيها عنصرا فائضا بحكم قوانين وجوده . الأصوات التي تواصل بثها للغة لا تتوقف عند الحكمة ، والوصايا : لغة ليست للتمجيد ، ولكنها تتشكل عبر انبثاقاتها ، في تشتتها ، وتبعثرها ، وفي مركزها الذي هو الرائي / المشاهد / النص.

[ 4 ]   فضاءان

      تتحكم آلية العمل ، بالحدس والتجريب ، وبفعل تداخل أثر مثاليات الفلسفة ، ومختبرات علم النفس والفيزياء الحديثة ، بإجراء مقارنة بين الفضاء الخارجي ، فضاء الأكوان ، والفضاء الداخلي اللانهائي في تلاشيه .. إنها مقارنة بين كون قيد الاتساع ، ووجود آخر لا يقل  سرية حد ان عدم إدراك ماهيته تجعلنا ندرك إننا أدركنا مثل هذه الاستحالة. ان وسام زكو ، في مثله الشفافة ، وبما يحمله من لا عدوانية ، ورهافة شعرية ، عمد الى صياغة أشكاله وكأنها تقع بين المنطقتين ، لكنه عمليا يدمج البصر بالفراغ ، فثمة حركة دائرية نحو الداخل ، مرة ، ونحو الاتساع مرة أخرى .. بيد انهما يتداخلان في رسم أبعاد الشكل الملغي . لأن حدود الشكل تبقى متصلة برؤيته ( يده وبصره ) . ومعنى الشكل الملغي ( المرئي ) ان الفنان يعمد غالبا لتصور النص الكلي مندمجا وليس منقسما : كون الكون بنية بلا حدود ، وان المكان فيها لا يظهر إلا بما يختاره الرائي . انه المكان الذي يتحرك بعيدا عن القياس ، بعيدا عن الزمن ، لكنه يبقى يجسد هاجس الفنان المثير للقلق .. فالجانب النفسي لا يجد معادلا إلا بالغاز التباين اللوني والملمسي والعضوي والهندسي .. الخ الاكثرصلة بالبعد الجمالي ، وليس في الفضاء الاجتماعي . فالفنان يتخلى عن المعنى ، منحازا لضرب من التوغل في رحلات تعكس طبائع الاحتمالات في التعامل مع بنائية النص وهدمه . فالنص لا يحمل ألغازا أو أسئلة إلا بصفته رائيا ومرئيا ً، دامجا الدال بالمدلول ، والانا بالكل . فالنص ( الشكل وعناصره العاملة والمؤلفة له ) لفضاء كلي انتزعت منه الحدود ، وغدت رمزا مشفرا للذي يخضع للحكم أو التأويل والشرح . انه يكتم بجلاء كل الذي نراه حرية ليس لها إلا نظام الفضاء الكلي ذاته : فالنص يسهم بالبث ، والمستلم يشتغل على الاستلام ، لكن ، بعد تحديد القصد الفني ( الجمالي والرمزي ) تعبيرا يمتلك حدود تلك الحرية المستمدة من فجوات مشغولة بلعب منظم أسمه فن الرسم . فالفنان يلتقط غياب الزمن ، جاعلا منه زمنا خالصا.. فهل بكثافته يصدمنا بالمكان ؟ ان استحالة أدراك حدود السر تغدو مدرجا للتذوق ، واكتساب العملية الجمالية بعدا فلسفيا ( تكراريا ومتجددا ) مكونا فضاءً لا يقل جاذبية عن مرجعياته ولا يقل  بلاغة عن أسباب  انبثاقه ، وغيابه عبر هذا الحضور . 

 

[ 5 ] صخور

 

     لا يغيب المكان ، لان الرسام يضعنا على حافاته : اننا نستعرض مصائر العناصر وتحولاتها : النار  والصخور وكأن أولى الخلايا الحية في طريقها الى الوجود . لكن الرائي يحفر ، وينقش ، مختبئا . فهو لا يدمج آلية  عمله بما يبصر . ثمة مسافة تغدو ، في نهاية التجربة ، مكانا للكثافة . ان حاضره معزول ، منفصل ، وليس بانتظار التمجيد أو الذم . ثمة براكين بكر وغليانات قد تبدو انها تتحدث عن سيكولوجية الفنان ، وقد لا نبعد هذا الاحتمال ، لكن موضوعية الامتداد تصبح خلية تصف مغزاها التوليدي . انها لا تتكلم عن موتنا ، ولا تبشر بعصر ما بعد الخرافات والأساطير ، لأن الرسام يرسم تصادم الكثافات  : صخور النار وصخور الفلزات الآخذة بالتصلب حيث الزرقة ولذائذ الفيروزي ونداء الاخضرار الأرضي وخيوط الحنين في تشكله الإيحائي بألوان باثات التشكل ، كلها تجعل المكان غائبا في مثل هذا الحضور . فالرسام لا يصنع أقنعة ، كما لا يسهم بمنح التعبير دلالات ذاتية .. فالموضوع يمر ، يقفز ، وكأنه أرواح لا تمتلك  إلا هذا الظهور المفاجئ . فلا ثنائية  أخلاقية تتجانس مع الجمال لصالح التعبير ، بل الوحدة التي يصير الرسام /المشاهد ، بلورا للمرور . اننا نولد ليعبر موتنا عبرنا . ومثل هذا المعنى ، غير الاسطوري ، لا ينتظر  أسطرة . ان مشاهد النار والولادات المجهرية  تفترض اخنلافا متجانسا بين الوجود الاخر ، والنص ، والذي يتكون لدينا . انه المعنى ذاته الذي رسمه أول رسام : معنى الباث لدى المستلم ، لكن الرسام لا يشتغل عند أحد ، وربما  لا يعمل حتى لصالح نفسه . فهو يتمسك بالمكان الذي  لا تبقى صخوره / عناصره ، لا تتكلم اكثر من محاولة فك لغة العناصر : فك الذي انتشر بلا حدود ، وتجمع في مركز لا ينتظر إلا مداه في الانتشار .فالرسام  لا يلعب ، لا يلعب داخل لعبة هي من اختراعه ، بدافع الكسب أو اللامبالاة الشفافة ، بل يندمج .
     انه يضعنا في سياق التدحرج ابدا ًداخل عالم تتكون فيه التتمات بحسب عواملها الابدية . فالرسام لا يصنع أمثلة ، أو علامات مسافة ، بل يدمج الكل في بؤرة ، وفي كل وثبة ، كالرائي الذي انصهرت عنده المرجعيات لتصبح بكرا ً ، بلا  ماض . لأن لا ماض للماضي ، مثلما  اذا حددنا ملامح الغد ، فكأننا جعلنا الحتميات خالية من تدفقها ، ان لم نقل – بلغتنا – من الترقب والتوق . ان وسام زكو يصير مادته ، مكانا مضادا ، بفعل التضاد ، وبفعل اطيافه المكانية  ، لانه ابعد الزمن ، كوثن ، وجعله خال من القيود. 


[ 6 ] المتناهي متسعا ً

يصير النص علامة مزدوجة : مبعثرة ، عشوائية حد استحالة فك شفراتها ، وعلامة هي من صنع الحساسية وجماليات التشتت . ويصير النص ، في سياق جدله ، تضاداته وباثاته ووحدته ، إشارة لمشاهد كونية : رصد مليارات  الأجسام عبر اتساعها اللامحدود ، وومضات أكوان نائية ، لا تبدو لقطات لمجرات زائلة ، بل لصمت اتخذ أشكاله عبر فضاء الامتداد .. ويصبر النص ، في الوقت نفسه ، جزءا مكبرا لخلية ، لذرة ، حيث الداخل  لا يكف ينطق بتكويناته . فالرسام يتوقف مصورا  لامرئيات الأشكال ، وتعرجاتها، وتداخلاتها ، وديمومتها في بث الذي يبقى لا ينتظر الشرح أو التأويل . انه لا يفسر ، بل يكرر الذي لا يتكرر إلا عبر ملغزات الوجود ، الوجود المتصل بفضاءات وكتمانات النفس ، حيث الازدواج وحدة : لغة تقول عبر الرسام الذي لا يقول إلا بما يتجاوز الشرح . وثمة مسافة ملغية بين الاتساع والانسجام حد التلاشي ، مسافة الأنا ، والرسام ، والمشاهد تجعل  إعادة الرسم ، مضادة للتكرار ..فالمصادفات ينظمها خصب التجدد ، وخصب آليات عمل الخيال ، وعمل التحرر من الاستنساخ : فالرسام ، بدافع المسافة الملغية بين الحافات ، يصور التجانس ، والصفاء المستحيل . انه يهدم أساطير العلامات ، في الاتساع أو في تصوير المتناهيات ، راسما الوحدة ، والاندماج ، والتبعثر ، كتكرارلا يحدث إلا عبر باثاته المتجددة . وقد لا يتفرد الرسام في هذا المسار تفرد الرسام التشخيصي أو التعبيري بدافع تمثلات هذا الخطاب ، إلا ان تحريات المشاهد ، وصياغته لمنجز لم يصر ميتا، يجعل الماضي في ديمومة تامة . انه المغزى الكامن داخل الأثر / النص ، مغزى اللامعنى اللازمن ، في ترتيبه للمعاني والأزمنة . فالنص يحمل لوعة غيابه وحضوره معا : غياب الذي اختفى داخل المشهد ، وحضور الذي يعيد صياغة ذاكرة جمالية خارج تقاليد الحرفة ، والعادات ، والسرد . فالنص يحمل تاريخ نهايته ، أي تاريخ افتتاح الومضات . ثمة استلام وبث لا يبحث عن مصطلحات ، بل عن راء ِ : انه تكرار لحكمة الذي  لا يموت ( يهلك ) ، كضرورة ، في وجود لا يني يجعل ملغزاته  مساحة للمغادرة والإياب . ان فنه مضاد لمفهوم اللعب ، في حداثة تجاوزت اسطرتها .. فهو يندمج ، يتطهر ، وربما يجعل من الدوي صمتا للذكرى .فالرسم لا يتقاطع مع مخفياته ، ومع عدمه الذي جرجرنا وجعلنا في موقع الاعتراف ، وفي موقع البوح أيضا.

[ 7 ] عزلة / تضاد / وصفر

     ان  نصوص ما بعد الحداثة، في الرسم العربي المعاصر ، لا تخون عالمية الفن .. بيد انها تبقى ،  ثمرة مأزق ، وعزلة . فالتحولات الكبرى دفعت بالاستهلاك  الى أقصاه ، بل وجعله مبتذلا قياسا بقواعد الذكرى ، وعادات الرسم ، وهي عادات الحضارات وتقاليدها . والعزلة ، في مجتمعات صار فيها الرائي غائبا ، مندمجا ، ضمنا عبر سياق كلي للتحولات ، لا تمثل عقلانية أو عاطفة غوايات : انها ليست عزلة آسف ، بجذورها الرومانسية ، لكنها لا تقدر ان تخفي قدرها المؤلم . ووسام زكو ، مع جيل نهاية القرن العشرين ، وبدايات العشر الاول لقرن تتحكم فيه تراكماته واندفاعاته ، لا يسلك ، في بصرياته ، سلوك المراقب ، والراصد . انه مشغول بالعثور على ترتيبات نظامه الثقافي ، في كل صار متصلا ، حيث العزلة لم تعد علامة ، أو اشارة لخسارات متوقعة . فالتراكمات ، والاستهلاكات ، لم تدفع بالثراء الى الكفاية، بل الى العوز : ثمة ظمأ حواسي للارتواء المستحيل . انها ما بعد حداثة ليست بحاجة الى اليقين . فالرسام يكوّن رسوماته ليغادرها .. لأنه سيبقى مهاجرا/ ومهجورا ً، من مكانه ، وبعيدا عن زمنه . فليس الحنين هو الذي يصنع النص ، بل الحنين ذاته غدا مفارقة تجتهد بعقلنة بناء تبعثرات الرؤى والعناصر . فالتراكم يّولد ديمومته : هذا التعاقب للامساك بكل المفقودات ، والغائبات . فالظمأ كيان يجعل الفجوات والفراغات مقبولة ان لم تكن حتمية . فالرسام لا يذهب الى اهداف محددة ، بل تغدو السرابات أقوى من هيمنات الاساطير ، ومحركات الاقنعة . فالرسام يفتت مشاهده ، ويذهب الى الفضاءات ، أو يقبع في اللامرئيات التي صارت أسلوبا . فالتراكم بمثابة التعبير المجمع خارج الاستعارة . فالرسام  لا يرى ، ولا يستعير . انه يصنع ويحتفل حيث عاطفته صارت ترتب وحدة الاتصال والديمومة . فهل ثمة ( موت ) بدأ بالاله ومر بالفن وانتهى بانسان القناعات الواهية أعتى من ولادات  تولد بعيدا عن الغوايات .. اليس الفن باسره ينحرف داخل عزلته ليبقى حاضرا ً ، مشغولا الا يبقى العماء  الا  مادة العلم المعاصر ، ومادة الاخلاق بعد ان بترت عنها عادات المكان ، والغاز الزمن . اليس  الفن في اختزالاته يكثف غيابه هذا الذي يبقينا في التوهج ، داخله ، أو بمحاذاته ؟ لأن النص نفسه صار ذاتا ً تريد ان تقول الذي لا تقوله ذات الفنان . انه ليس الشيء في ذاته [ الكانتي ] ، وانما الشيء في ذاته وقد صار الفنان لغز نفسه . لأن النص المجمع في هذه الحالة ، غدا ( أنا ) فائضة  لكنها اخذت سياقها في الظهور .. كما ان عملية استرداد اشكال قيد الاندثار ، لا تبرهن الا على عاطفة بلغت درجة الصفر . لانها لا تنطق ذاتها الا بصفتها كلية . فالفراغ لا يتكون الا مجمعا باضداده ، لكنه لا يتراكم ، ولا يمتد . فهو لا يمجد سلطة الا هذه التي نراها تمارس الهدم ، والتفكيك . فالرسام يكتفي بالذي يحفر / يدوّن / يؤشر ، انتظاره . انه يقف حيث توقفاته حركة . ثمة توق بديل للتسلسل ، حيث التعاقب يكمن في الصفر .. ففي نصوصه تضادات وانسجامات ما هي الا بؤر مرور : انقطاعات يردمها باوهام الحركة والتعاقب . فالنقطة مسافة مؤجلة : وهم الفن ، هنا ، وفي خطاب يكتسح ويبتلع البراءات والكيانات الاليفة ، يخفي داخله استنادا ً لسطوح مقلوبة ، معوجة ، صادمة ، بغية تقليص التعبير  وهو لا يكف يأمل  الا يجد وهما أقوى بوحا ً من هذا الاعتراف ، ومن ذهاب يجعل الدورة كاملة ، حتى لو وقعت في لا حافاتها المستحيلة . فالرسم ، مثل رسم الكلمات ، يخفي الذي يريد ان يجعله هناك ، بعيدا عنا ، بعد ان وهبنا كتماناته ، وملغزاته . انه معنا حيث غيابنا لا يصدع بالانتظارات ، بل يلمُم ، ويلملم ، كل هذا التبعثر ، وكل هذه المسافات ، في نص صار صفرا ً .

ليست هناك تعليقات: