الخميس، 27 ديسمبر 2012

بغداديات عدنان المبارك-عادل كامل




بغداديات عدنان المبارك



عادل كامل




[ولد في البصرة ـ 1935 روائي وقاص ومترجم]





     كان ارنست همنغواي، في خمسينيات القرن الماضي، يستخدم آلة الكتابة (الطابعة)، في تدوين الحوار، وليس في مجالات كالتأمل، أو الوصف، أو التحليل، وتبريره لهذا الاستخدام يتجانس مع عمل (الآلة) في رصد تدفق الأصوات، وما هو متحرك، وتحويله إلى حروف ـ وكلمات.
    عدنان المبارك، القاص والروائي والمترجم، استخدم حاسوبه، للرسم، وليس للكتابة حسب. فالجهاز غدا أداة تؤدي وظيفة الأعضاء (الحواس/الدماغ) بالمدى الذي يتحول فيه الواقع إلى لمحات، وومضات تأخذ تسلسلها في السرد، وفي بناء النص، لا لأن المبرر الوحيد للزمن هو ألا تحدث الأشياء في لحظة واحدة ـ بحسب عبارة لألبرت اينشتاين ـ بل كي تنتظم كما انتظمت حكايات ألف ليلة وليلة عبر مهارات النسج، بصفتها حلم ممتد، في نص اقترن ببغداد ـ وبمدن مماثلة في المكانة، والعلامة. ذلك لأن الكاتب ـ المنشغل بالمراقبة والقص والاسترجاع باستخدام اللغة ـ يرجعنا إلى الأصل: الصور وهي تنبني نسجا ً لدينامية زاخرة، ومكتظة بما لا تستطيع الكلمات إلا ان تكون في عمقه، أو في مناطقه النائية. فالكاتب استخدم حاسوبه بمغامرة تحرير المرئيات وتركها تعمل عمل الحلم: الألوان/ المساحات/ الخطوط/ النقاط/ الملامس..الخ ـ وهي تشتغل متحررة من قيود القصد، الذي تحدث يونج عنه ـ أكثر مما قيده فرويد ـ كومضات تأخذ تسلسلها في المشهد (النص)، الحتمي بحريته، والطليق بقيود هذا النظام؛ فعدنان المبارك لا يستعيد مدينة كانت علامة للعقل ـ والمعرفة ـ وعاصمة اكتمل زمنها في عصر المأمون، أو قبل ذلك، وإنما لأنها حملت علامة مدينة المدن، مثلما لخصتها الليالي، عبر تاريخها التليد.
     فالحاسوب لم يتحول إلى أداة محض، ولكن الكاتب استدرجه ليحرره من آليات عمله، أو منحه الحرية التي كادت تفقد مداها، فالحاسوب يعمل كآلة الطباعة (الكرافيك) وقد تحررت من قيودها التقليدية في الطباعة، كي توظف طاقاتها المضافة، بمنح الحلم قدرة التمتع بالحضور، منبثقا ً من غيابه، أو قد غادر صمته، أو انبثق عن سكنه النائي، ومتجها ً إلى المجهول.  فثمة ذهن حاضر بين حدين ـ الحد الأول هو الماضي والثاني هو كل ما سيصبح ماضيا ًـ  ولكن للحفاظ على مفهوم السرد من غير استخدام لغة، لأن الصور (الأشكال) تؤدي دور الراوي، وهو يبصر، ويراقب، متحررا ً من (الوعي/الذهن) للحفاظ على لحظات الطفل وهو يعيش خارج الزمن، أو بمعزل عنه.
  على ان انشغالات عدنان المبارك، في منفاه بعيدا ً عن المدينة التي عشقها، شبيهة بملاحظة طه حسين حول المتنبي عندما لم ير شيئا ً من سحر الطبيعة إلا عندما رآها في منفاه، لم تمنعه من التفكير بالعناصر السابقة على أدوات التفكير: اللغة، والكاتب يستعيد ديناميتها في عصر غدا مصدرا ً للموت، وفي مقدمتها: اللامبالاة حتى بالموتى، وبالموت ذاته بعد إشارة هيغل حول موت (الفن)، في فلسفة الحق. لأن هذا الذي يحتفل به عدنان المبارك ينبني على مقاومة نادرة لبرمجة عصرنا القائم على: الإنتاج/ الاستهلاك/ الاندثار. فالحياة ـ في رسوماته ـ تحتفي بشاعريتها، موسيقاها، عطورها، ملامسها، فظاءاتها، ألوانها، إن كانت تمثل مواكبا ً جنائزية، أو أعيدا ً، أو أعراسا ً. فالنصوص تحرر المعاني من قيودها، ومن (ذهنيتها)، وتسمح للبراءة ان تعمل عمل اللازمن، وقد سكن التكوين، كعلامات متجاورة، لأن (البراءة) ـ هنا ـ لا تستحيل إلى مدفن، كما أصبحت بغداد مدينة محتضرة بموتاها، بل الحلم ذاته وقد صاغ انعتاقه، وتحوله إلى تلقائية نفذها  بما قصده رسام المغارات، حتى أنها، بعد آلاف السنين، تؤكد أنها مازالت تحافظ على ما هو فيها، حتى لحظة اكتشفانا لها، كي تمتد إلى خارج الجدران، كإطار، وخارج القصد، كسحر تشبيهي، لا لتفضح لغزها، أو تنتهي عنده، بل لتحافظ على ديمومة كتمان هذا الذي أنعتق من الزمن ـ ومن المكان، ومن المعنى في نهاية المطاف.
   في بغداديات عدنان المبارك، تندمج الاستعارة بالمعرفة، الخبرة بالمغامرة، والحواس بالنص في جمالياته، كي لا تأخذ بغداد موقعها كمحض مدينة بين المدن، بل علامة لها موقعها، وكامتداد، أو مدى لم يبلغ  ذروته بعد، في لغز نشأتها البكر: بغداد التي لم تختتم حضورها بالغياب، بل التي أصبح انتظارا ً شبيها بمن لا مناص لا خاتمه له.

ليست هناك تعليقات: