[كلمات/ متقاربة
المدى]*
تأليف: جمال العتابي
قراءة:
عادل كامل
[1]
لم تكن خلاصات فرويد الفلسفية،
وليس النفسية حسب، وليدة ان أوروبا قدمت صورة ناصعة للإنسان بصفته اشد الكائنات
فتكا ً، وقدرات فنية لا محدودة على الفتك، والتدمير، وخلاصة فريدة في إثبات ان
الإنسان تفوق على أقرانه كافة ـ من الفيروس والأحاديات الخلية مرورا ً بالزواحف
والثدييات، وصولا ً إلى صانعي جماليات الموت ـ لا في تدمير الآخر، بل في تدمير
كيانه. ولم يكن فرويد قد عبر بصرامة ودقة عن الخلاصة الأخيرة، ألا وهي: ان
المستقبل وهم، بل ـ بعزل المؤثرات ونتائجها ـ التي عالجها بما هي عليه، ليرى ان
الإنسان ـ وهو يذكرنا بمن سبقوه من فلاسفة وحكماء ـ ليس سوى معضلة مرضية غير قابلة للمعالجة، أو الإصلاح.
قطعا ً لم يقدر أساتذة الميتافيزيقا، بما يمتلكون من مؤسسات، تنضوي على عناصرها:
القوة/ الثروة/ المعرفة أو الخطاب المعرفي، إلا على إثارة عواصف سرعان ما استطاع
الفكر (الواقعي الجدلي) ان يحد من آثارها. بل حتى المادية الديالكتيكية لم تجد في
منجزه إلا ظاهرة محدودة استنادا إلى التاريخ، وأدوات البحث، والغايات.
ولكن ما علاقة هذه الإشارة، وأنا
أتصفح كتاب د. جمال العتابي [كلمات/ متقاربة المدى] ـ الصادر عن دار الثقافة
والنشر الكردية 2012 ـ وما تثيره من أسئلة عشناها ـ بعمر الحياة البشرية/ وبحدود
تجاربنا أيضا ًـ وفي مقدمتها: أيهما أكثر وهما ً: المستقبل أم مقدماته، المعلن وهو
قيد الزوال، أم المنبثق من العدم، ومن المناطق النائية، الخالية من الأزمنة،
والعلامات...؟
فالفصول ـ وهي مقالات سبق ان
نوه الدكتور علي جواد الطاهر بأهمية نسقها في ثقافتنا العربية الحديثة ـ تستعيد
أزمنة تكاد تفقد حضورها، وبريقها، بل وتكاد تمحو ما تبقى لها من اثر. فهل نعد
الكتاب جزءا ً من نظام التذكر ـ الذاكرة، المتحف، أو انه عملية تماثل النبش، كالتي
يمارسها عالم الآثار، أم أنها تتضمن، بمشفراتها، الإشارة إلى السؤال الذي مكث بلا إجابات
ـ عدا التي تدعمها الميتافيزيقا والفكر الخرافي بنعم، أو بالنفي والمحوـ: لماذا
يختار الإنسان المصير الوحيد الجائر والمهلك الذي يتقاطع مع المنطق، والبداهة،
والتجربة، بمعنى: لماذا تتكرر تلاوة الوصايا كاملة، ولكن الإنسان لا يختار إلا
الاختيار الوحيد الذي لا يرغب ان يختاره؟ لماذا يذهب ويطرق أبواب الجحيم، بهمة،
وعزم، وإرادة، ومهارة حد البطولة، بدل ان يختار الحياد، هذا اذا أهملنا غوايات
النعيم ومغرياته كأساس للأنساق السائدة..؟
جمال العتابي لا يكتب عن
المستقبل بصفته وهما ً، ولا عن الماضي بصفته كهفا ً من غير أبواب، بل يتنزه
بينهما، مستعيرا ومتمثلا ً شجاعة وصبر هؤلاء البشر الذين يشكلون 95% من السكان،
غير مكترثين للمستقبل أو ماضيه؛ هؤلاء الذين يتماثل وجودهم مع وجود النمل، أو
الطيور، أو النحل، أو السمك، مع كامل السيادة للفردية/ والخصوصية، والهوية
المشتركة بين الأنا ـ وبين الكيان الجمعي، في تجانس عمله، وأنظمته: برمجته التي
تنغلق/ في حدود المعلن من التاريخ، ولا تذهب ابعد من ذلك. لأن الميتافيزيقا وحدها
مكثت تدير لعبة الاشتباك بمهارة غير آبه للخسائر، وهذا ما أثار قرف فرويد، وماركس،
وكبار المصلحين القدماء، وبعض المعاصرين، بلا تحفظ. جمال العتابي، عبر (192) صفحة
من القطع المتوسط، يؤدي دور الخبير في فك أسرار طلسمات الموتى، أو يذكرنا بهم، ولا
يأخذنا في زيارة إلى قاع الجحيم، القائم على النظام الهرمي، كي نستبدل
المتحجرات بالأسماء التي أعاد رسمها لنا
وجعل منها علامات تقاوم ظلمات العواصف، بل ينسج، بالكلمات، ليس لغز ان الرحمة أقسى
من الموت، بل لأن حياتنا، التي كلما حاولنا الإمساك بها، تجعلنا نذهب بعيدا ًفي
المجهول.
[2]
فالمستقبل ليس وهما ً، ولا ماضيه
محض حلقة تكمل تسلسلها في الدورة، كحتميات بنيوية، مادية، كي تنتج العناصر بناها ـ
وسطوحها ـ وعلاقاتها، ولا الأخيرة باستطاعتها ان تنتج ممرات توازي مغامرة
الانعتاق، من غير ضجة أو من غير قرع طبول حسب، بل هناك دحض للصوت الواحد، وقد غدا
دليلا ً للكاتب في العبور إلى؛ جوهرها؛ حيث لم يتحول الكاتب إلى مراقب، وراصد،
وبصاص، وإنما تخذ أنموذجا ً كالذي جعلت منه رابعة العدوية ـ أو جان دارك ـ جسرا ً
لا مرئيا ً للموجودات، وكيانا ً يجدر بنا ان نحتفي بانجازه.
فالكاتب يذكر: " لم يكن
لدينا ما نفعله طوال حياتنا سوى ان نسجل من خلال الكلمة تلك الأحداث والاستذكارات
بحرية مريحة كما لو أنها نوع من البداهة " لكن الكاتب، كي يدحض الصوت الواحد،
صوت الواعظ، الآمر، السجان، والمخلص، أو المرشد، يسند الكلمة بما هو جزء من الفعل.
فثمة معيار نلتقي عنده: الاقتراب من الحقيقي، مع انه جزء من التاريخ المشترك،
يتمتع بأوهامه، وأحلامه، وإثمه، ومراراته، وأطيافه ...الخ، لأنه وليد عصور تراكمت
حتى أصبحت شبيهة بالقبر الذي نجهل كم استقبل من الراحلين، مزدحم وباعث على الأسى، أو
اللامبالاة، مع ذلك، ليبس هناك استعادة أو استذكار، بل هناك العبور الشبيه بعمل
الجسور توحد علامات المسافات، داخل بنية اسمها: تاريخ الاشتباك، أو اشتباك علامات
التاريخ، تحت عنوان اكبر، اسمه: الحضارة.
ولم يسع الكاتب للصق أقنعة إضافية،
أو إزالة تلك التي طالما يضعها الممثل كي يؤدي دوره، فالمهمة ليست البرهنة على
صواب الأفعال، أو شططها، بل منحها حقها كي تشارك في الصيرورة. فالأسماء التي توقف
عندها أو اختارها، هي هذا المدى في التقارب، أكثر مما هي وحدها قائمة بذاتها. فقد
نختلف قليلا ً أو كثيرا ً، نعدل أو نحذف أو نضيف، مع الكاتب، فليس هذا هو قصده،
بالدرجة ذاتها التي تسمح لنا بالتعرف على تلك المسافات بين الوهمي ـ وبين الذي أسهم
بصناعة الوهم، بين من أسهم في صناعة الحدث، وبين من لم يجاوره، لأن ما هو حقيقي،
عبر فصول الكتاب، سيشكل ذلك الذي انتهى عنده الغزالي، أو سقراط، فالأول غاص في
المحنة، وسقراط قبل بها، لا لأن (الثابت) الأبدي، لا وجود له إلا بمنأى عن الزائل
فحسب، بل لأنه سيغدو أداة لديمومة الاشتباك. وهنا تؤدي الكلمات لغز حضورها في
الحضارة ذاتها التي لم يبق منها إلا هذا الذي عمل جمال العتابي الإمساك بأطيافه
لكتّاب، وأساتذة، ورفقاء درب، وفنانين، وزملاء لهم الأثر ذاته الذي نراه مدفونا ً
تحت التراب، أو ذهب مع الريح، أو امتزج بالرماد.
فالجهد هنا لا يستند إلى التحليل أو المعرفة أو المحبة إلا كي نعيد نسج
حياة بلد كان في يوم ما علامة للخروج من المتاهة إلى التاريخ، ومن البرية إلى
المدينة ـ والمدنية. فهو شبيه بدور هؤلاء الذين نذروا مصائرهم للبناء، كي لا يجدوا،
بعد حين، شيئا ً يذكر، لكن العتابي يتخلى ـ ليس طوعا ًـ بل معرفة واستبصارا ً بمادته،
كي يكون فعل المشاركة ـ في الكتابة ـ صيرورة لتاريخ العراق الزاخر بالعنف حد
الجور، واللا معنى، وبالتصدعات والآثام حد المحو، لكن المزدحم بالعشاق، والمشردين،
والمنفيين، والمنسيين، كما كان استأذنا مدني صالح يكرر ذلك، أيضا ً.
ومثل هذا الدور، يزداد جلاء ً،
عندما يكون الكاتب شاهدا ً ـ، وضميرا ً له، لا لصياغة أبهة، أو فخامة، لنيل الأوسمة،
أو الأقنعة، لإزالة سابقاتها، بل كي نحدق بما هو ابعد من (الوهم)؛ لا النفسي، ولا
النسبي، ولا المبني على الثوابت الأبدية، بل على الحيوات المشفرة بما هو قيد
التكوين: الحيوات المشفرة بما تعمل على ان تكون عليه، بعيدا ً عن الأسطوري،
والخرافي، وكل ما بدا بحكم الخلود، فالكاتب ليس وريث حضارة عنيدة، بدءا ً من زمن
ما قبل الطوفان، مرورا بسومر وأكد وبابل وأشور ونينوى والحضر، ووصولا ً إلى بغداد
المأمون، بل وريث القلب المهذب للحضارات، فوق كوكبنا الأزرق الجميل! فالمنهج هنا،
لم يأت مستعارا ً، أو مرصعا ً بالمصطلحات، بل غدا هو ما ينبني بجوار الجمر
والتراب، والنار والرماد.
ولا اقصد بهذا حياد الكاتب، أو
كأنه نظر عن بعد، بل لأنه لم يعد يتستر على نوايا ما يعرف هو ـ قبل المتابع ـ ان
معّول الحفر المعرفي، لن يدعها بمنأى عن الأضواء، والنبش. ويا لها من شمس، كانت
علّة للعلل كافة، وكانت، في نهاية المصائر، السم الذي أدى دور العقار. فالموت
كلمة، لأن فعلها، وفعل الموت، كلاهما، كلما دفنا بعيدا ً، وعميقا ً، في الكلمات،
كانا يحملان بذرة الخلق، وشرارة الانبثاق.
[3]
وفي السياق ذاته: هل [الكلمات
ـ متقاربة المدى] ـ وهو العنوان الذي اختاره الكاتب ـ يقصد شيئا ً غير الأسماء
التي لم تفارق ذاكرته، بعد عقود، ان
المجال ـ المدى ـ هو المساحة التي تكّونت فيها هذه الكتابة، أم هو الماضي ممتدا ً
ومنبثقا ً من رماده...، ومغايرا لمفهوم: الدفن، والتشهير، والمغالطة، وكافة أشكال
قهر الآخر، والإيذاء، حد المحو ..الخ، التي اتسمت بها عادات وتقاليد غالبية
المشاركين بالهدم ، وبالبناء، في تاريخنا العراقي الحديث...؟
الكاتب يحفر في الأثر، كي لا يهدم
امتداد المقدمات، وارتباطها بنهاياتها: الموت، أو النفي، أو التشرد، أو اللعنات،
أو التنكيل. فكل اسم، مستعاد، أو لم يذكر ـ ولا أقول أهمل ـ علامة تقابلها علامات.
فكما قال علي الوردي ردا ً عن مواقف النقد التي تعرض لها، فقال: وهل سلم الأنبياء
...؟ ـ ولم يكمل الوردي الجواب فقد قطع البث الذي كان حيا ًـ! ولكن الحياة ليست
مسيرة بطولية، ومحض تضحيات، وأخطاء، وآثام، وهفوات، بمعزل عن صيرورتها أولا ً:
تداخل دوافعها ـ وعناصرها، وما ستؤول إليه، أو ما آلت إليه في النهاية، وليست هي،
ثانيا ً: تزكيات أو أوامر أبدية.
إن العصور الوسطى امتدت حتى بلغت
عهد الاحتلال البريطاني للوطن، ولكن بعد هدم تمثال (مود) ـ 1958 ـ كان يتحتم
انتظار عقود كي لا تتسع الفجوات بين ما حدث بالضبط، وما صوّر، وعمم، وغدا تاريخا ً
غير قابل للدحض.
فلا التاريخ، بأسمائه، وشهوده، ووثائقه،
آلة تصوير، ولا سيادة مفهوم ما، وحده مزكى من الأغراض، والمخفيات، والدوافع، إن
كانت حقيقية أو مزورة، وزائفة.
فالصيرورة تذهب ابعد من هذا
كله، وهي تنتج التاريخ بأسماء وشهود، وبآليات عمل مستحدثة، الصفحات التي لم يسلط
عليها الضوء. انه مسار لا يكمل سياق صراع المنتصر ـ ومحو تاريخ المغلوب، لأن الزمن
ذاته، يذهب ابعد من هذا كله، وهو يستدعي وجود (عدالة) ما، في التقييم، وفي إعادة
بناء المشاهد التي غطاها التراب، أو التي دفنت في الملفات، أو في الكلمات
المناورة، بل منطقا ً آخر دعاه الكاتب بـ
(المدى) ـ: المجال، المساحة، التي كلما اتسعت، أجرت مقاربة شبيهة بعبارة ألنفري:
"كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"
لكن (الضيق)، ليس الصفر، أو العدم، بل هو النسبية في إصدار الحكم، كي تحافظ
الحياة على لغز أنها تمتد، كومضات، ولا تنغلق بمفتاح تمسكه يد عمياء.
قطعا ً ليست هذه هي امتيازات
الديمقراطية، لأنها شبيهة بسابقاتها مع تنوع في التطبيقات، وإنما لأن (المدى)،
فلسفيا ً، لا يستبدل الرحمة بالموت، ولا الموت بالرحمة، عندما تخضع المفاهيم ـ
ذاتها ـ للقراءة، والتفكيك، كي تقترب من الإنسان، ومن العوامل التي شكلت دوافعه،
ونتائجها.
جمال العتابي، لم يجهد ـ بمعنى
ينهك ـ الكلمات كي تؤدي دور المعول في النبش، ولا في الدفن، بل عملت كي تصير أداة
حياة للذين عملوا على صناعتها: الحياة بنبضها وليس بأقنعتها، بالحكمة التي لا يختلط
فيها السم عندما يصبح عقارا ً، ولا بالحرية عندما تغدو سلبا ً للحريات، ومبررا ً
للقهر. انه ليس قلبا ً أو تعديلا ً للمفاهيم، بل تحررا ً من الذي غدا (برمجة) شبه
راسخة، وشبه أبدية، لا تمس، فالكلمات، هي الأخرى ـ حتى عندما يستخدمها أقطاب
الميتافيزيقا ـ شبيهة بما تعنيه، أما المخفيات، فإنها لا تتوارى خلفها، بصفتها أداة/علامة،
في مجال كونته صيروراته، وليس ما بدا راسخا ً، أو أبديا ً، وغير قابل للإزاحة.
انه، ببساطة، استمد منهجه من
غالبية هؤلاء البشر الذين رغبوا ان لا يكونوا حطبا ً، ورمادا ً، أو أدوات، وأشياء،
وإنما ان يحافظوا على شفافية الحلم، والأمل، والبراءة، حتى لو كان المدى، في
الخاتمة، لا أكثر من عدم ممتد.
[4]
مع ان اختيار الكاتب للأسماء
ينم عن وفاء ينتمي إلى تجارب تعرضت للغبن، والأذى، والنفي، إلا ان ما هو ابعد من
الحفر، والاستذكار، والاستعادة، في الكلمات ـ المتقاربة المدى ـ انه منحها مداها
في الحضور ـ والمشاركة، حتى وان قامت على الغياب ـ غيابها في الموت أو في التشتت أو
المنافي ـ فجمال العتابي لا يرثي: الحركات الفكرية، التي كونتها محركاتها
التاريخية/ البنيوية، ومنحتها مبرراتها، وأقنعتها، وتاريخها، بل يعيد قراءة السؤال
السومري القديم: اذا كانت الآلهة تقع خارج مدى تصورات الإنسان المجبول من التراب
والدم، فلماذا يتشبث الإنسان بها، بعد ان أصبحت أعلى من كل مدى يسعى المحدود إلى
بلوغه..؟
إن الكاتب لا يضعنا خارج
الكلمات، والوضوح الذي أعلن عنه، ليس غواية، أو مراوغة، أو مدخلا ً إلى ممرات
سيغادرها الزمن، بعد ان لا يخلف إلا انثلامات علامات، وبقايا لقى، وأحيانا قلائد
متناثرة، بل لأن موضوعات العدالة، في الأصل، قائمة على الإرجاء، لكن ليس على أبدية
الاندثار، وأبدية الصمت.
فهل الوضوح الذي نوه الكاتب
عنه، في التقديم، كاعترافه " بان ما يجمع هذه الكتابات ضوء خفيف ينبض ببطء
تلتقي ببساطة الكلمة، ووضوح لبناء عبر اضاءات ثقافية وحضارية بلا افتعال ولا
تعثر" هو ما قصده حقا ً..للتنويه عن
حضارة زراعية ـ بمعناها الايكولوجي ـ وقد واجهت سلسلة من الاختراقات، والهدم، منذ
زوال حضارة سومر، وحتى ما بعد 1958 ..؟
وان الوطن مكث يولول، منذ مراثي سومر وأكد، والعويل على دموزي، بقرون
طويلة، وقد استوطنت ـ كاحتضار ملغز ـ في عادات البشر، وتركت أثرها في دورات العنف،
والأسى، وكأن المصالحة بين ما هو لامرئي وبين الكائنات التي خرجت من عفن
المستنقعات، لا مناص هو هذا المدى المشترك بين الومضات ـ والعدم ..؟!
قلت ان ثمة (غواية) لم تعلن إلا
عن ديناميتها عملت عمل الجسور ـ وعمل العناصر ـ تحررت من الثابت، ومن الحدود، نسقا
ً في منح (الأسماء) مكانة لن تعوض، لا رمزيا ً ولا بالذكر الطيب، وإنما كي يمتد
أثرها، لكن كي لا تحافظ على معادلة: المواجهة، واستئناف العنف، بل للعثور على مدى
يتسع للجدل، والتباين، ولكن ليس للارتداد.
فالكاتب يحافظ ـ رغم تراكم أزمنة
الدورات الحضارية بدموية صراعها ـ ببراءة تقلب المثل السومري الغريب: "ما من
امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط"!، بالبحث، في هذا المدى، عن براءة أخرى، ليس لأنها
شبيهة بالكتابة بصفتها فنا ً حزينا ً ـ كما ذكر ارنست همنغواي ذات مرة ـ بل لأنها
ستمثل المصير وهو ينسج بالمعرفة، وبالومضات، ويأخذ مداه كلما ابتعد عن سواحل
مستنقعاته، ودحض برمجته القائمة على تراتبية جعلت من أعلى الهرم، ثابتا ً
للاستبداد.
هذا الوضوح، حقا ً، شبيه بمن
يتكلم إلى: لا أحد، مستدرجا ً، في النهاية، الصمت، وقد غدا هو المدى في انحدار
حضوره إلى المجهول.
[5]
اذا كان من الصعب تعريف: ما
(المدى)، فلا مناص ليس مستحيلا ً ان نجد له مقاربات. فإذا كانت هناك أبعاد تتجاوز
سرعة الضوء، وأخرى، لا حافات لها، وثالثة مضادة، وأخرى سالبة، وأخرى خالية من
الزمن، ما دام المبرر الوحيد للزمن هو ألا يحدث كل شيء في اللحظة نفسها، بحسب
اينشتاين، إلى جانب احتمالات بوجود كيانات لا مدية، وأخرى حدسية، وفوق حسية ..الخ،
فان النسبية، ليست حلا ً، أو بنية مقتطعة من العدم، وإنما هي المعيار الذي لا
تختلط فيه موضوعات الحياة، حد تبرير الانتهاك، أو تدميرها.
المدى، اذا ً، لدي الكاتب، هو ذلك
الذي لا يمكن عزله عن الصدمات: عن تاريخ (الاستبداد) و(الانتهاكات) حد المحو، فليس
العنف هو محض احتفالات أعراس، وانتصارات استثنائية، بل موتا ً، وأبديات لم تتصدع،
كي يواصل تاريخ العراق ممتدا ًوفق ما هو عليه، منذ أزمنة سحيقة.
فالمساحة المكتظة بالممحوين،
عبر نصف القرن الأخير، يجعل الكلمات ـ متقاربة المدى ـ تعمل عمل الغواية. وإلا ما
هو التاريخ، بعد المعصية، والطرد ـ الخروج ـ وارتكاب أول فعل آثم، سوى لا حدود
تلغي أية وساطة للمعرفة، وللمنطق في سياقه الواقعي..؟
فليس ثمة لعب، لا في التصورات، ولا في الكلمات، فالأرض التي يتكلم عنها
الكاتب هي الأرض التي شهدت ولادة الأبجدية، والشرائع، وصهر المعادن، وأنظمة الري،
والمعرفة ..الخ، مما سمح له بالكتابة عن موضوعات ـ وعن شخصيات ـ ترجعنا إلى خزائن
لم يخلف الزمن منها أكثر من أطلال، ومدافن، تم استنطاق نسبة محدودة من صمتها، والإصغاء
للقليل من بوحها، والأقل من كتمانها.
فهل المدى ـ هو المحو ...؟ ذلك
لأن الكاتب يتفحص مادته بأصابع بالغة الرهافة، يرى ويشم ويصغي لمرور (المحو) بعد
ان ترك أثره البالغ فيه: المرارات.
فهل ثمة وطن يعاقب أبناءه، على
هذا النحو، وكأن الضحايا، لا خلاص لديهم إلا باختيارات لا مناص تثبت أصل استحالة
وجود عدالة من غير الظلم، كمدى تتجمع، أو تحشر فيه الأرواح داخل هذا الجحيم...، ثم
يأتي الاستذكار، والتذكر، كأوسمة تزين أضرحة الضحايا، فيما عاصفة (المحو) غير
مكترثة لمراجعة مقدماتها في أصل أسطورة الخلق البابلية، من التراب والدم، أو
بانحدار الحياة من المستنقعات، حيث هامت، لتبلغ زمن استحالة ان يكون للاختيارات
الحرية المتوازنة مع مبررات لغز حضورها.
لعل (المدى) يلفت النظر، ويعيد
للميتافيزيقا وجودها العنيد: ان من لا اسم له، لا فعل، ولا اثر له، حتى لو كان بلا
آثام. وهنا يستعيد الصفر كامل امتداده: العدم.
ذلك لأن الكاتب لم يتوقف عند الأضرحة،
ولا يتحدث نيابة عن هؤلاء الذين أصبحوا بحكم الماضي، بل عن أفعال صاغت تاريخها، في
بلد نادر الاستثناء، في عمليات التدمير ـ والمحو.
أسماء كادت موجات العنف،
والاضطرابات، بعد 1958، ان تستبعد أفعالها كعلامات في الذاكرة، ومنها تاريخ
الثقافة، ومغامرات التحديث، والتجريب، فكريا ُ وثقافيا ً. ولكنه ليس درسا ً في علم
(النبش)، بل سياقا ً للإفاقة: هل ستغدو الحياة، بتسارع أزمنتها، ذرات غبار تم
تفكيكها حد ان الاستهلاك، غدا إلها ً بديلا ً بانتظار خاتمة دورته.
وسأقول هنا: انه سياق في
الإفاقة، لم يستمد جذوته من الثوابت، والأحاديات، فثمة تفكيك عمّ العالم، من الصين
إلى أوربا، ومن أفريقيا إلى أسيا، تفكيك لم يصبح منظورا ً إلا بعد ان ترك أثره في:
المجتمعات، والثقافات، وما مثلته برامج ما بعد الحداثة، حيث أصبحت النهايات،
مقدمات لعصر العولمة، في العالم بأسره.
فمن لم يصبه اللهب، ومن نجا من
كوي الجمر، لم يكتسب وسام الخلاص، او ينجو من مصائر عالم عملت فيه الحتميات،
بحريات بعيدا ً في انجاز كل ما لا يخطر على البال. ولم يكن (البلد) الذي يكتب عنه،
وعن علاماته، بمنأى عن العواصف، وما ستؤول إليه النتائج.
ويكفي، بعد استذكار أسماء غير
ثانوية، في الصحافة، وأدب الأطفال، والسياسة، والثقافة، ان تعاد قراءة حقبة ما بعد
1958؛ قراءة مغايرة للثوابت السائدة،
والآراء التي كادت ان تكون حدها غير قابلة للشك، أو الاعتراض، والتي أصبحت
مشروعا ً الدحض أخيرا ً.
أسماء: إبراهيم السعيد/ صادق
الصائغ/ هادي الحمداني/ الصكار/ شمران الياسري/ موفق محمد/ عيس غيدان/ عبد الجبار
عبد الله/ رشدي العامل/ كاظم الحبيب/ محمد الملا عبد الكريم/ نوري جعفر/ فالح عبد
الجبار/ عبد الرحمن طهمازي/ مؤيد نعمة/ ريسان الخزعلي/ عبد الكريم الماشطة/ عزيز
السيد جاسم/ كامل شياع..الخ، لكن القراءة ليست للاستذكار، أو الندب، بل كي يزاح
الغبار عنها، لتؤدي دورها في مناهج تستحدث انساقا ً لا تعيد (الميت) بصفته مبتكرا
ً، وحداثة، بل نسقا ً لحياة تستبعد عنها آمالها الواهية، الرخوة، وكل ما غدا بحكم
الثابت، أو الذي اكتسب درجة المقدس.
فالكاتب
لم يغادر المساحة التي جرت داخلها، وفوقها، مشاهد الاشتباك، التدشين، الريادة،
والمغامرة في تاريخ صنعته إرادات في مواجهة إرادات، عبر التنكيل، والنفي،
والاجتثاث، معترفا ً، وهو المشغول بالرصد، بالذهاب ابعد من الغوايات، والوعود، لأنه،
ببساطة، رصد المشهد عبر عمليات الدفن، والنفي، مدركا ً ان العروض المستعادة لها ـ
عبر الاستذكار، والكلمات، والوثائق،
والحنين، ليست بديلا ً، بل لأن (المدى) أصبح يعمل عمل المطهر ـ لكن ليس
ميتافيزيقيا ـ بل بعدم الخلط بين الحدود: الغواية/ المعاقبة، أو بين المحو/
الغفران، ولا بين الموت/ الرحمة، وإنما كي يكون المنبثق من الرماد، والظلمات، في
بلد انشغل بصياغة علامات كبرى للحضارات، إنما فوق مدافن من الصعب تجاهل ما فيها من
عويل، وكتمانات بانتظار من يفك مشفراتها، ويمنحها مدى آخر اقل صدمات، ومرارة.
* منشورات
دار الثقافة والنشر الكردية/ وزارة الثقافة ـ بغداد ـ 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق