مدن الزي الموحد
كل المدن العراقية من طينة واحدة
واللون البيجي سيد الألوان الترابية في الجنوب والوسط
جريدة المستقبل العراقي / بغداد / في 10/4/2012
كاظم فنجان الحمامي
لا توجد في الكون كله قرية تشبه قرية أخرى من حيث الملامح العمرانية, ومن حيث المكونات البيئية والعناصر المادية العامة, فلكل قرية هويتها الموقعية والجغرافية والحضارية والديموغرافية, وهكذا تتباين القرى (غير الزراعية) في أشكال بيوتها وأسواقها, وفي تصاميم واجهاتها ومداخلها ومخارجها, تماما مثلما تتباين بصمات الإبهام في سجلات الأحوال المدنية, ولا يمكن العثور على التطابق بين الأحياء السكانية في البلد الواحد إلا في العراق فهو البلد الوحيد, الذي تتطابق فيه مواصفات المناطق السكانية خارج مراكز المحافظات, وعلى وجه الخصوص من جنوب بغداد إلى الفاو,
وربما يتعذر على المرء رصد الفوارق بين قرى محافظة ذي قار وقرى محافظة واسط, أو قرى ميسان, فالفوارق تكاد تكون معدومة, وهكذا الحال بالنسبة للأحياء السكنية في ديالى وبابل والبصرة والمثنى والقادسية, كلها متناظرة بطريقة تبعث على الدهشة والطرافة, وتتشابه في كل شيء ابتداء من الطرق والشوارع المغطاة بالرمال والأتربة, إلى طريقة توزيع الأعمدة الناقلة للطاقة الكهربائية, مرورا ببرك المياه الآسنة المنتشرة في الساحات والأزقة, حتى إن مكبات القمامة (أعزكم الله) تكاد تكون نفسها من حيث التراكم والتعفن والانتشار, فما تجده في (البطحة) خارج مركز محافظة المثنى, تجده في (الغراف) خارج مركز ذي قار, وتجده في (المجر) خارج مركز ميسان, وتجده في (الفاو) خارج مركز البصرة, فالزي الموحد باللون البيجي, أو (الخاكي), أو الترابي, أو الرملي, أو (الطيني) هو الزي الذي ارتدته المدن والقرى العراقية الوسطية والجنوبية والغربية,
وهو العلامة الفارقة لها في كل مواسم العصر الجلكاني, الذي توحدت فيه مجاري الصرف الصحي, فتوقفت عن الجريان في (بدرة وجصان) وتشعبت في (الشعيبة), واختنقت بدخان مدينة (الشعلة) ببغداد, وأصيبت بكولسترون الأطيان في النعمانية بالكوت, والتهبت مجاريها في الرميثة, وانسدت في سدة الهندية, وتعطلت في حي (أور) في الناصرية, حتى يخيل إليك إن المدن العراقية تنتظم في مصفوفة سكانية تتكرر فيها المشاهد واللقطات بطريقة رقمية تبعث على القرف, وخير مثال على ذلك: هذه الصور التي التقطناها من دون أن نشير إلى اسم القرية, تاركين حرية التعرف عليها لمن يرغب في خوض هذه الامتحان الصعب, إذ يتعذر معرفة فيما إذا كانت هذه اللقطات أخذت في مدينة (الزبير) بالبصرة, أم في مدينة (الصالحية) بالناصرية, أم في (أبي غرق) ببابل, أم في (الحي) بواسط, أم في الحي العسكري بالنجف, أم في (صبخة العرب), و(العالية) بالبصرة, أم في حي (الغدير) بكربلاء, أم في حي (الشهداء) في الفلوجة, أو الحي الصناعي هناك, أم في أحياء بغداد مثل: (العبيدي), و(سبع البور), و(الفضيلية), و(النهروان), و(الكمالية), ومنطقة (الشيشان) الواقعة في نهاية حي (الشعب) ؟؟, كلها سواء في اللون (الأملح الترابي) الطاغي على جدران البيوت, أو في أشكالها البائسة, أو في الأصوات المنبعثة من المولدات الكهربائية, أو في تشابكات الأسلاك في كل الاتجاهات, أو في الغبار المتطاير, أو في سحب الدخان الأسود, أو في نوعية المطبات (الطسّات), أو في مشاريع الحفر, التي مزقت جسد كل مدينة بالطول والعرض, فوحّدتها مع بعضها البعض, حتى إن الكراجات, والمدارس, ومراكز الشرطة, والعيادات الطبية, ومقرات المجالس البلدية, وساحات كرة القدم, ومحطات تعبئة الوقود تشابهت إلى حد بعيد, وكأنها صنعت في قوالب متماثلة في معامل الجمود والإهمال. .
ومن المفارقات العجيبة نذكر: ان حي (الجمهورية) في النجف يكاد يكون صورة طبق الأصل من حي (الجمهورية) في البصرة, من حيت التركيبة المتداخلة, والجدران المتشققة, والأسلاك المتقاطعة, والأزقة القذرة, ومن حيث التجاوزات العشوائية التي تكاثرت بعد تفشي ظاهرة (الحواسم). .
تتكرر صورة الأسواق التابعة للأحياء السكنية الموحدة, حيث يلهو الذباب نفسه, وتنبعث الروائح نفسها, فالواجهات تعكس صورة واحدة متكررة, وكذا العربات التي تجرها الحمير, والعربات الآلية (الستوات). .
تتراكم خلف كل دكان أكداس من الصناديق الفارغة, والأكياس البلاستيكية, والمغلفات الورقية الممزقة, والبضاعة التالفة المرمية منذ أسابيع في الزوايا الرطبة, فتتحول في الليل إلى ولائم مباحة للكلاب السائبة (المستنسخة), والقطط الضالة, والجرذان المحصنة جينيا ضد كل أنواع المبيدات الكونية. .
ولابد لنا من الاعتراف بالنتائج المحبطة, التي سجلتها عندنا ثقافة النظافة, حتى بلغت أدنى معدلاتها بين الناس, وربما وصلت إلى ما دون الصفر بمقياس جامعة (Yale) الامريكية, بنشرتها البيئية السنوية, والتي اعتمدت في إصدارها على مجموعة من المؤشرات, تتضمن قياس مستويات تلوث المدن في الماء والهواء والمناخ والحقول والغابات والثروة السمكية والمستشفيات وأنظمة الصرف الصحي. الخ. .
يعزا قيام هذه المناطق السكنية المتشابهة المتناظرة إلى البيئة العمرانية المتدهورة في العراق, وهي بطبيعة الحال بيئة فقيرة متخلفة تنقصها الخدمات الصحية والخدمات البلدية, وتتسم بالقبح العمراني, وتشكل خطرا على المجتمع العراقي برمته لوجود فوارق كبيرة بين مدنه المتخلفة وبين مدن البلدان المجاورة له, فعلى الرغم من تجاور البيئة السكانية العراقية مع البيئة السكانية السعودية أو الكويتية أو الأردنية أو الإيرانية أو التركية إلا إن السمات المشتركة باتت في غاية التنافر, فتعمقت الهوة بيننا وبين المدن الخليجية, التي صارت تختال بجمالها ونقاوتها ونظافتها وبهائها وهدوئها وجاذبيتها وعذوبتها ومواكبتها لأحدث المستجدات العمرانية حتى تفوقت علينا في كل شيء, اما نحن فلم يعد ورائنا وراء. . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق