قناطر وخناجر تمزق الشرق
ملف خاص نشرته جريدة المستقبل / بغداد / في 26/12/2011
ما سر قناطر (نابوكو) الأنبوبية الجبارة ؟
وما تأثير خناجرها على آسيا الوسطى والشرق الأوسط ؟
وما علاقتها بالعراق على وجه التحديد ؟
كاظم فنجان الحمامي
من حكايات الليالي الألفية
يحكى أن رجلا من ازباكستان كان يسير خارج أسوار طشقند, وإذا به يعثر على المصباح السحري, الذي خبئه السندباد في كهوف سمرقند, فتناوله الرجل وكاد يطير من الفرح, وما أن نفض الغبار عنه, ومسحه بيده, حتى ظهر له المارد بصوته المجلجل, وجسمه المترهل, فقال للرجل: شبيك لبيك عبدك بين أديك. أنا في خدمتك يا سيدي, سأنفذ ما تطلبه مني في الحال. فكر الرجل ملياً, ثم قال: أريد أن تبني لي جسرا أسطوريا عملاقا يمتد من أسواق خوارزم إلى قصور فيينا, ويمر بمعظم المدن الإفرنجية, لتعبر فوقه قوافل الحرير والعاج في طريقها إلى النمسا, فسكت المارد وبدت عليه علامات الحيرة, وقال بعد تأمل: أن طلبك هذا لا يقبله العقل ولا المنطق, ويحتاج إلى ملايين الأطنان من الحديد والاسمنت, وآلاف العمال والمهندسين, أن أمنيتك بعيدة المرام عزيزة المنال, كن حكيما يا سيدي, واختر أمنية قابلة للتحقيق.
سكت الرجل برهة, ثم قال: هل بإمكانك أن تساعدني في إنقاذ الأمة الإسلامية من التشرذم والتبعثر, فنوحد كلمتها على رأي واحدة, وهدف واحد, ومنهج واحد, وقلب واحد, فقاطعه المارد بعصبية, وقال له: كيف تريد الجسر, بمسارين, أم بأربعة مسارات ؟؟. .
تلك حكاية طريفة نرددها دائما في معرض حديثنا عن ظروف التمزق والتفكك والتباعد والتنافر, التي تمر بها الأقطار العربية والإسلامية في المرحلة الراهنة. . قد يتحقق المستحيل وتحدث المعجزة, ولا يتحقق الانسجام والتلاحم والتفاهم بين الشعوب والأقطار الإسلامية المتناحرة. .
وصدقت شهرزاد
مما يؤسف له أن هذه الحكاية الساخرة, والمزحة الثقيلة, تحولت تفاصيلها إلى حقيقة مؤلمة, تجسدت ملامحها على أرض الواقع بالتمام والكمال, وها نحن اليوم نشهد تآمر العرب والمسلمين على بعضهم البعض, وتهافت صغارهم على تقديم فروض الطاعة والولاء للقوات الأجنبية الغازية, في الوقت الذي شرعت فيه كبريات الشركات العالمية منذ بضعة أعوام بتنفيذ مشروع (نابوكو Nabucco), ومد قناطر أنبوبية عملاقة, صممت لتنبعث من حقول الغاز في جمهورية أوزباكستان, وتهبط في النمسا, قاطعة الجبال والسهول والبحار والأنهار والأراضي الوعرة في تركمانستان وأفغانستان وقلقيزستان وأذربيجان وجورجيا وأرمينيا وتركيا وبلغاريا وصربيا وكرواتيا وهنغاريا ورومانيا. وستلتحق بها القناطر العربية المنضوية تحت راية (نابوكو), في تشكيلة عجيبة تتفوق بالطول والحجم على سور الصين, وتفجر براكين الربيع العربي في عواصم الشرق, وترسم صورة مفزعة للصراع الروسي الصيني في مواجهة القوة الامريكية المهيمنة على أغنى مكامن النفط والغاز, وبالاتجاه الذي يضمن عزل القوى الدولية الصاعدة (روسيا الصين الهند واليابان) عن حوض البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي, ويمهد الطريق أمام النظام العالمي الجديد ليبسط سلطته على قارات كوكب الأرض, وينشر مخالبه على منابع الغاز والماء في الشرق. وستكون تركيا هي الحاضنة المعوّل عليها في احتواء حزمة القناطر الأنبوبية القادمة من الأقطار العربية النابوكوية, ومن أقطار آسيا الوسطى المتمردة على روسيا الأم. .
سر التسمية الغريبة
أرتبط اسم (نابوكو Nabucco) بالأفكار الصهيونية السرية, فالاسم مشتق من أوبرا (نابوكو), التي تتمحور حكايتها حول الصراع الأزلي على مدينة أورشليم (القدس). وتدعو للتمسك بالديانة اليهودية, والتضحية من اجلها, والقصة برمتها مستوحاة من العهد القديم (كتاب النبي دانيال), الذي يعكس صورة التاريخ اليهودي إبان حكم الملك (نابوكود الثاني), ملك بابل العظيمة (العراق) من عام 605 إلى عام 562 قبل الميلاد.
و(نابوكو) صيغة تصغير و(تحقير) باللغة العبرية لملك السبي البابلي, تحاكي اسمه الصحيح (نابوخذ نصر Nebuchad nezzar), ويبدو أن الأطراف التي خططت لهذا المشروع, تعمدت استعمال اسم الملك البابلي بعد تصغيره, ثم قامت بإلصاقه على مشروع القناطر الكونية, التي ستنسف اقتصاد البلدان العربية والإسلامية, وتتلاعب بمصيرها, ويبدو أن التسمية جاءت بهذا الشكل لإنعاش الأحقاد اليهودية القديمة, والانتقام من نبوخذ نصر, فضلا عن الاستخفاف بالحضارة البابلية التي سحقت اليهود في أورشليم واستعبدتهم في الأزمنة الغابرة. .
من هنا يتضح لنا أن اللافتة التعريفية للقناطر النابوكوية تحمل أكثر من دلالة رمزية, وتستبطن الشر كله, فالكتاب يُعرف من عنوانه. .
خط عرض 33 شمالاً
تؤكد الوقائع السياسية أن خط العرض (33), شمال خط الاستواء, صار بديلا لطريق الحرير, وان هذا الخط نفسه هو الذي سيحقق الأهداف الامريكية, ويساعدها على فرض هيمنتها على ما يسمى (المنطقة الأمريكية الوسطى), المتمثلة بأقطار الشرق الأوسط وآسيا الوسطى, فخط العرض (33) لا يمثل بالضرورة درباً لقوافل الحرير, لكنه يماثله من حيث القوة والأهمية, في كونه شريان الطاقة الرئيس في العالم, وهو أيضا شريان النفوذ والسلطة. .
لقد جاءت قناطر خط (نابوكو) لتضع حدا للصراع القديم بين المعسكر الروسي وأنصاره والمعسكر الغربي وحاشيته, وتحقق الحلم بنقل الغاز (أهم مصادر الطاقة) من آسيا الوسطى والمنطقة العربية إلى قلب الاتحاد الأوربي مرورا بتركيا, بدعم مطلق من البيت الأبيض وإسرائيل. .
ان الصراع على مكامن الغاز في بحر قزوين, والمحاولات الروسية الجارية لمنع تركمانستان من تصدير غازها إلى أوربا, ووقوف إيران في صف موسكو, والصراع الجورجي الروسي, والمناوشات الروسية الأرمينية على حقول الغاز, وضع القوى الغربية أمام حالة مصيرية لا تحتمل التأجيل, حالة تستدعي السيطرة على خط عرض (33) بشكل كامل. فإذا كانت الحروب التي شنتها أمريكا وحلفائها في الشرق كانت بدافع السيطرة على حقول النفط, فان الخط (33) المار بأغنى منابع النفط والغاز صار هو الخندق الأمامي للمواجهات الجديدة, وهو البديل الأمثل للصراع القديم على طريق الحرير, لكنه أكثر بطشاً وشراسة منه, وستكون خسائره ببليارات الدولارات, سيما أن اللاعبين في مسارح النظام العالمي هم اليوم أكثر عدوانية ووقاحة, وأكثر عددا وعدة. .
وعلى الرغم من هذا التفوق اختار أنصار النظام العالمي الجديد الحرب الناعمة كغطاء لاحتفالاتهم التنكرية في ملاهي الربيع العربي, فاستهدفوا العواصم العربية الواقعة عند مقتربات الخط (33), وهم في طريقهم الآن لتخريبه تماما تمهيدا لتعبيده بحجارة حائط المبكى, وإزاحة الأنظمة غير المنسجمة مع تركيبته الإستراتيجية, فالعواصم العربية هي الضحية, بيد أن أقطار الشرق الأقصى تبقى هي المتضرر الأكبر بالمقارنة مع أضرار الفوضى العارمة في الشرق الأوسط. .
عواصم اصطفت على الخط الأحمر
تعد سوريا والعراق وإيران ولبنان من الأقطار الواقعة على حافات الخط (33), وهو الخط الذي شاءت الأقدار أن يمر ببكين وكابل وطهران وبغداد ودمشق وبيروت, ويغذي الأطماع الامريكية منذ اليوم الذي فكرت فيه واشنطن باحتلال أفغانستان والعراق, وفرضت فيه الحصار على إيران, وخلقت الأزمات في باكستان, وحركت الفتن والقلاقل في سوريا, فكل من يقع على هذا الخط الأحمر أو بجواره, ولم يلتحق بالركب الأمريكي, يعد من البلدان المارقة, والأقطار المتمردة, فجاء الدور اليوم على سوريا الواقعة في بوابة البلدان المحاذية لقناطر (نابوكو), وهذا يفسر إصرار الإدارة الامريكية على إزاحة النظام السوري بالطرق المتاحة وغير المتاحة. .
ومما زاد الطين بلة ان سوريا نفسها أبرمت مع العراق وإيران ولبنان اتفاقاً مبدئيا على مد حزمة جديدة للغاز الطبيعي لمنافسة أنابيب (نابوكو), تبدأ من بحر قزوين وتنتهي عند السواحل اللبنانية, يزيد طولها على خمسة آلاف كيلومتر, لذا فأن المرحلة الراهنة تقضي بوجوب قيام أمريكا باكتساح النظام السوري, بحيث تضمن الاستحواذ على خطوط الغاز القادمة من مصر وفلسطين ولبنان, وتتمكن من ربطها بخطوط (نابوكو) عبر سوريا الواقعة الآن تحت الضغط التركي النابوكي, واستكمالا لهذه الخطوة وافقت حكومة إقليم كردستان العراق على ربط أنابيب تصدير الغاز في شمال العراق بقناطر (نابوكو), من دون الرجوع إلى الحكومة المركزية في بغداد, ما يعني فرض العزل التام على الغاز الإيراني, ووأد المشروع السوري الإيراني العراقي في مهده. .
الالتفاف على الأقطار الصاعدة
ظهر الضعف الأمريكي واضحا في مواجهة القوى الصاعدة, كالصين والهند والبرازيل واليابان, وأصبح واضحا أن الخيارات العسكرية أو النووية باتت غير مجدية في حسم النزاع لصالح الامريكان, خصوصا في التعامل مع الأقطار التي لا تعرف التواطؤ, ولا الإذعان, ولا التخاذل, فوجدت ضالتها في فرض الهيمنة على مصادر الطاقة, باعتبارها الخيار الأفضل في تحقيق التفوق على الكبار, فامتلاك الطاقة هو الخيار الأمثل, والقسمة الدولية لا تحتمل المنافسة في قطاعات النفط والغاز, والبقاء لمن يحتكر مصادرها ومنابعها ومواردها, وهكذا تحركت روسيا في مضمار الغاز, الذي بات يشكل مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين, سواء من حيث البديل الأمثل, أو من حيث الطاقة النظيفة, الأمر الذي اضطرهم لتنفيذ مشاريع (السيل الجنوبي), و(السيل الشمالي),
وكان من المؤمل أن ينال (فلاديمير بوتين) وسام الاستحقاق, الذي سيؤهل روسيا لتسلق سلم السيطرة على الاقتصاد العالمي, بيد أن التدخل الأمريكي العاجل لتفعيل مشروع (نابوكو), والاتكال على تركيا وقطر في زعزعة الأمن والاستقرار في العواصم الواقعة على الخط (33) سيجعل مؤشرات التفوق تميل قليلا إلى الفريق الذي يفرض سيطرته الفعلية المطلقة على حوض الخليج العربي وسوريا والعراق ومصر والأردن والباكستان, في حين ترى روسيا أن الأسبقية ستكون لمن يفرض سيطرته على آسيا الوسطى وسوريا وإيران وتركمانستان, اما فرنسا التي عبَّرت عن رغبتها أكثر من مرة في خوض هذا التنافس, فقد اختارت اللعب في موقع الظهير الأيمن للبنتاغون, ونجحت في بسط نفوذها العسكري على حقول ليبيا في فجر الاوديسا, وقطعت شوطا دبلوماسيا كبيرا في استعادة مجدها القديم في لبنان, والملفت للانتباه ان ألمانيا الموحدة وقفت في صف الروس, واختارت اللعب مع شركة (غاز بروم) الروسية, ونظيرتها الجرمانية في مشاريع (السيل الجنوبي) و(السيل الشمالي), ونالت حصصا غير مسبوقة في أصول الغاز الروسي, والمثير للدهشة أن ألمانيا تبذل قصارى جهدها لإقناع الأقطار الأوربية بضرورة الوقوف مع المشاريع الروسية, وتوفير الدعم والإسناد لمشاريع السيول الشمالية والجنوبية, وترى أن الاتكال على مشروع (نابوكو) والاعتماد عليه في القرن الواحد والعشرين يعد نوعا من أنواع المغامرات السياسية الفاشلة, والمجازفات الاقتصادية المجنونة. .
لقد تسلحت ألمانيا بالحكمة والتعقل, وارتأت عدم التورط بالدخول في دوامات الحروب والقتل والمؤامرات التي امتطتها أمريكا حصانا جامحا تصول فوق ظهره كيفما تشاء في عواصم الشرق الأوسط, لتحمي مصالحها في مشروع (نابوكو). .
ويستمر الصراع على القناطر
من المفيد أن نذكر ان موسكو ليست بالفريسة السهلة, ومن الصعب عزلها وتحييدها بناء على الرغبات الامريكية الجامحة, والدليل على ذلك: أنها سارعت لشراء غاز آسيا الوسطى وبحر قزوين, عبر مناقصات سرية, استهدفت قطع ارتباطها بقناطر (نابوكو), بل أن شركة (غاز بروم) الروسية وجدت لها أكثر من موطأ قدم في النمسا, التي يفترض أن تكون المحطة الدولية الأخيرة لنابوكو, والغريب بالأمر أن محطة (كاترينا) الروسية - النمساوية بدت للعيان وكأنها هي المعوّل عليها في تصريف الغاز الروسي والآسيوي, وشيدت لها أكثر من محطة لتوزيع الغاز في صربيا وبلجيكا, والانكى من ذلك أنها بصدد بناء محطات مستقبلية في بريطانيا وفرنسا, ما يجعل المتتبع لصراع الغاز في حيرة من أمره. فهل ستميل كفة التفوق لصالح الروس والآسيويين والهنود والألمان في مواجهة أمريكا وأنصارها من الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان, فنبشوا بخناجر الحقد القديم قبر نابوكوذ نازار (نابوخذ نصّر), وهو في مثواه البابلي الأخير, واشتركوا مع يهود الاشكناز والسفارديم والفالاشا في محاولة استعادة الأمجاد اليهودية المتعفنة. .
سنكتفي بهذا القدر, على أمل التوسع في هذا الموضوع في مقال لاحق وبتفاصيل أكثر وأحدث وأوضح. .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق