الجمعة، 16 ديسمبر 2011
( ضمير أبيض ) !!! صوت المحبة-عدنان حافظ بابل
( ضمير أبيض ) !!! صوت المحبة
عدنان حافظ بابل
في سرادق الشعر الممتدة في وادي صفي الدين الحلي الزاخرة بالعطاء حظينا بديوان جديد للشعر الشعبي العراقي أنتجه الشاعر ( حامد كعيد الجبوري ) ، ضم بين دفتيه ما يقارب من خمسين نصا شعريا وعلى مائة وثلاثون صفحة من الحجم المتوسط ، وبإخراج فني أنيق ، أستطاع من خلاله هذا الشاعر الحلي أن يقف بثبات بين مجايليه كرائد من رواد الحركة الشعرية البابلية وأكثرهم تميزا سواء بحضوره الدائم لفعاليات المشهد الشعري وبفاعليته الواسعة ، وهو مقدم ومعد لبرنامج ذائع الصيت في إذاعة بابل المحلية الذي يحظى بقبول جماهيري لدى أبناء الفرات الأوسط ، أو من خلال تحريره صفحة الأدب الشعبي في جريدة الفيحاء الحلية الغراء ، وبرنامج آخر في إذاعة الفراتين وراديو إتحاد الشعب ، لذلك أستطاع أن يمتطي صهوة ديوانه البكر المسمى ( ضمير أبيض ) ، وفعلا كان ضميرا أبيضا لعشاق هذا الوطن المتعالي على جراحه وأبناءه ينظرون الى الشمس بأجفان غير مرتعشة ولا وجلة بعد ما نزفوا دما عبيطا على أرضه الطاهرة ، وعانوا من التهميش وحالات الانكسار والاستلاب الفكري بقصدية لئيمة وعلى مر سنين عجاف ، فولادة هذا المنجز بكبريائه جاء مكملا للوهج الوجداني المختزن في قلوب أبناء هذا العراق الناهض ، كفرصة مواتية تتمازج مع المدارك والأحاسيس ببصيرة نيرة تأخذ من مناهل الإبداع مديات واسعة لأفقها المترامي ، فالفطرة الملهمة التي يملكها هذا المنتج ( الجبوري ) استطاعت أن توظف خلق جديد متدفق من ينابيع الثقافة الإنسانية الجديدة وموروثها الشعبي ، وكما أشارت أصابع التاريخ الى معلمنا الكبير ( مظفر النواب ) كشاعر معاصر حركته فطرته وإلهامه الاستثنائي على تحريك القصيدة الشعبية الحديثة بأساليب مبتكرة جديدة أهمها الإيقاع النظمي المفتوح على أكثر من وزن في النص الواحد تؤطره صور رمزية مبتعدة عن النمطية السائدة في القصيدة الكلاسيكية ، وقريبا لهذا النهج الجميل الراقي جاء ديوان ( ضمير أبيض ) بحرفية واقعية لأسلوب القصيدة المتناغمة مع الذوق والإحساس كصناعة شعرية نموذجية ضد المباشرة السطحية والخطابة المترهلة وهي تحمل من القوافي الجميلة الأنيقة مرتكزات لثوابت النص أدرك من خلالها ( الجبوري ) متطلبات القصيدة الحديثة والولوج الى متونها العالية ، فقد أشتغل على أوزان مختلفة ك ( النصاري ، التجليبة ، الموشح ، البحر الطويل ، النايل ) ، وحظيت النصوص العمودية بالقسم الأكبر من نصوص الديوان بمقوماتها الحديثة الخالية مما هو سائد حاليا من تشابه الصورة في التقليد العشوائي لدى بعض الشعراء المهتمون بضبط الوزن والقافية فقط دون الالتفات لمعنى الصورة الجمالية التي تملك الوعي الثقافي والقادرة على التوصيل والتأثير بوهج متدفق يستطيع شاعرها التمسك بعنانها والصعود لرابية الإبداع ، فقد وجدنا هذا الوهج الفني الحديث في كافة نصوص ديوان ( ضمير أبيض ) وبخاصة في النصوص التي كتبت بعد التغيير فقد حملت تقنية شعرية عالية تشير لروح الماضي والحاضر كطائر محلق بإطار ثقافتنا الجديدة ، ففي قصيدة (نسمات حلية ) وهي من وزن الموشح أستطاع هذا الطائر من التحليق حول مدينته ( الحلة ) ويلتقط صورا عديدة للزمان والمكان فاتحا أفاقا جمالية تظل مستمرة في الحفاظ على طيبة أهلها ، مفجرة في الوقت نفسه ينابيع روح المحبة في روح شاعرها ( الجبوري ) المقيمة في مقاهيها وشوارعها ، هذه المدينة التي تغفو على ضفاف الفرات منذ الأزل ، وسنينها تتساقط مهاجرة الى العالم الآخر كضريبة يدفع ثمنها الطيبون .
أما قصيدة ( صبرا يا عراق ) وهي من وزن الهزج فإنها تخرج من وظيفتها الشعرية الى ما هو أكثر تأثيرا للتواصل مع الجرح العراقي النازف دما طهورا ، وتحلق مع أرواح الشهداء من خلال طرحها لحقائق موضوعية جريئة لتعمق فهم الأوضاع لبني جلدتنا وتضحياتهم بأرواحهم دفاعا عن القيم والأخلاق الوطنية والثبات على الحق والعدالة ومعايشة المحرومين والموزعين ، وممارسة النقد الجرئ للمسئول الذي أستغل هؤلاء للصعود لكراسي السلطة .
أما القصائد الشعرية النثرية فقد اختزلت القيم الإنسانية من صميم الذاكرة الشعبية كقناة تمكنت من الوصول الى المتلقي بسهولة وعفوية ، بمهارة عالية لسرد الحدث الموضوعي واستلهام فكرة العمل المبدع المغاير ، وهذه القصائد كانت بالحقيقة مؤجلة وبعيدة عن مواجهة السلطة حينذاك ، وغير خاضعة لرقابة المسئول وأثبتت الآن أنها بخير وتتمتع بلغة محببة عالية تكتسب حضورها اللافت وهي محرك قوي لمدارك الجماهير ، ولم تفقد بريقها السبعيني ولابد القول إن منتجها الشاعر ( حامد كعيد الجبوري ) هو من الشعراء الذين تأثروا بالقصيدة النثرية التي أنتجت نهاية الستينات من القرن الماضي ، شأنه شأن مجايليه من تلك الحقبة المثقفة الواعية التي أثرت وأثرت في واقعنا الأدبي الشعبي ، وإن تعميق معرفتنا بالنصوص وبدايتها ليس من باب التفتيش عن الأخطاء في العروض أو القافية وضعف الإيقاع بقدر بحثنا عن مدى التأثير والتوصيل الإبداعي المنشود ، وهذا ما أنتجه ( الجبوري ) بقصائد تخلو من الهنات الوزنية واهتمامه بجمالية الصورة وتأطيرها بشكل جميل يصل الى المتلقي بسهولة وبقصدية الشاعر ( الجبوري ) ، ومعلوم أن الشاعر ( حامد كعيد الجبوري ) لم يحضر ولم يشارك في أي فعالية شعرية قبل السقوط لأسباب يحتفظ بها لنفسه ، ورغم هذا الانقطاع إلا أن نصوصه شكلت نجاحا ملحوظا ومشارا اليه بعد السقوط ، وللحقيقة أقول أن الشاعر ( الجبوري ) لم يعرف رقصة ( نطنطة ) القرود ( السعادين ) على موائد مسئولي السلطة ورموز النظام السابق ، ولم يرتشي وينتشي بأوسمة وهدايا رخيصة من الأسرة الحاكمة المجتثة ، ويعتبر ( الجبوري ) قصائده بمثابة أفراد عائلته وأشار له الباحث د ( محمد عوده سبتي ) قائلا ( الشعر لدى ( الجبوري ) رسالة إنسانية تعبر عن إرهاصاته وهواجسه المتعلقة بجسد المجتمع ) ، وفعلا كان هكذا وشاهدي لذلك ديوانه البكر ( ضمير أبيض ) ، فضميره الأبيض صوت للإنسانية وصوت للعراق الناهض ، و ( ضمير أبيض ) نهر أبداعي حلي عراقي كبير .
--------------------------------
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق