اساطير الحضارات العراقية
ابتسام يوسف الطاهر
بالرغم من غنى التاريخ العراقي متمثلا بثلاث حضارات الآشورية والبابلية والسومرية، والتي تركت أثارها بصمة مميزة بين الحضارات القديمة وقد كانت مهدا لما أتى بعدها من حضارات، حيث نشأت قبل ما يقارب 7000 قبل الميلاد. وبالرغم من الأرث الحضاري التي تركته تلك الحضارات الثلاث، من بقايا مدن ومؤلفات كتبت على الواح طينية من اساطير وقوانين مكتوبة ومنحوتات، ومعابد بعضها انتقل تصميمها لقارات أخرى كما في حضارة المايا في المكسيك التي تشبه بعض معابدها المخروطية معبد الزقورة المعروف في العراق. بالرغم من كل ذلك لم يحظى العراق وارثه الحضاري الذي يتميز به بالاهتمام الاعلامي الذي يستحقه اوالدراسات الاثارية كما هو بالنسبة للحضارات الاخرى ، الاغريقية او المصرية.
فقد عرض التلفزيون البريطاني عشرات الافلام الوثاقية والدراسات عن الحضارة الفرعونية والاغريقية والرومانية. بينما لم أشاهد فيلما واحدا عن حضارات العراق!
لاشك ان السبب الرئيسي هو في مستوى الاعلام العراقي الذي لم يكن له دور فعال في هذا المجال..حيث اكتفى سابقا بالتركيز على حروب القائد الكارثية، وبعدها تعطل كما تعطلت مؤسسات الدولة العراقية بسبب الاحتلال والارهاب والفوضى.
للأساطير العراقية دور كبير بتشكيل الكثير من المعتقدات الدينية فقصص التورات بكل أسفارها اعتمدت على الاساطير السومرية والبابلية وأخذت عنها الكثير. فقصة دموزي او تموز من اكثر الأساطير العراقية التي تناقلتها الأجيال واستوحت منها الشعوب بعض طقوسها الدينية. ذكر دموزي في الأنجيل (انجيل حزقيل) باستخدامه الكلمة العبرية (تموز) البابلية الأصل، والتي مازالت تستخدم اليوم كاسم لشهر جويلية أو يوليو july، وقد استخدم اسم تموز بالتقويم السنوي قبل ثلاثة الآف سنة.
فاحتفالات القدماء بعودة تموز للحياة تشبه الاحتفال بقيامة المسيح أواحتفال بعض الشعوب بالربيع كما هو في اعياد النوروز وعيد الشجرة او عيد الربيع او عيد شم النسيم في مصر وكذلك عيد الام لان الام رمز للخصوبة والحياة وتجددها.
والحزن على موته او انتقاله للعالم السفلي تشبه الى حد بعيد احتفالات عاشوراء وذكرى استشهاد الحسين كذلك احتفالات المسيحيين بالجمعة العظيمة أي اليوم الذي صلب به سيدنا عيسى وبالايستر، والاسم هنا يوحي باسم عشتار التي تتبادل العودة لعالمنا مع زوجها الاله دموزي.
يقول الباحث سيد القمني في كتابه الأسطورة والتراث، ان هناك شبه اتفاق على أن الدين الابتدائي في ظهوره يشبه الأسطورة. غير أن الدين يتميز عن الأسطورة حيث الاخيرة بعيدة عن الفردية وغير مفروضة. فيحق للناس تصديقها أو رفضها. بينما الدين جاء بفعل ظروف موضوعية دخل فيه الجانب الفردي واللمسة العبقرية، فأصبح توجيها مخططا ليصبح اعتقادا مفروضا فظهر مفهوم الأيمان والكفر.
وظهرت مدارس عديدة لتفسير الأسطورة ودراستها ، تقوم على مبادئ ثلاث: 1-الأسطورة تصف حقائق تاريخية. 2- انها رموز لحقائق فلسفية دائمة. 3- أنها انعكاسات لعملية طبيعية بصيرورة لا تتوقف.
ومجمل المدارس التي تهتم بالأسطورة تتبع مناهج عدة منها البوهيمي الذي يرى أن الأسطورة قصة لأمجاد أبطال غابرين. والطبيعي، الذي يعتبر أبطال الأساطير ظاهرة طبيعية تم تشخيصها في قصة لشخصيات مقدسة. والمنهج المجازي الذي يرى أن الأسطورة قصة مجازية تخفي معاني ثقافية عميقة. أما المنهج الرمزي فيرى الأسطورة تعبيرا عن فلسفة كاملة لعصرها لذا يجب دراسة تلك العصور لفك رموز الأسطورة. بينما المنهج العقلي يرى أن الأسطورة نتيجة لسوء فهم او خطأ بتفسير رواية او حادثة أقدم، ارتكبه مجموعة أفراد من الذين تداولوا القصة. بينما منهج التحليل النفسي يحتسب الأسطورة رموزا لرغبات غريزية وانفعالات نفسية.
تبقى الأسطورة نقل مبالغ به ربما لطبيعة التفكير الجماعي لظاهرة معينة أو محاولة لتفسير بعض الظواهر الطبيعية التي حيرت الإنسان منذ بداية تكوين المجتمعات البدائية . وبالإمكان قراءة بعض العبر من بين سطور تلك الأساطير. فقصص الأساطير تشكل العمود الأول لتراث الشعوب ، لتستمد من ذلك التراث الكثير لو عرفت كيف تحافظ عليه وتدرسه بشكل معمق بعيد عن السطحية وتستلهم منه منهج التفكير والتساؤل الذي بواسطته يتم التطور والتقدم.
قصص من العراق القديم
لاشك ان هناك الكثير من الباحثين والمهتمين بعلم الآثار من البريطانيين وغيرهم وهناك العديد من الكتب عن حضارة وادي الرافدين (ميسوبوتوميا) كما أطلق عليها الاغريق.
من بين المهتمين بهذا الشأن هناك مجموعة تسمي نفسها (زيبانغ) zibang وهي كلمة سومرية تعني (تنفس الحياة) باللغة الاكدية ، أو (ينبوع الحياة) بالسومرية. هذه المجموعة لها نشاطات بإعادة ترجمة الميثولوجيا العراقية للانكليزية وقراءة القصص الاسطورية على الطلاب والمريدين. ومنهم (فران هازلتون) صاحبة كتاب (قصص من العراق القديم) الذي ترجمته للانكليزية عن اللغة السومرية والاكدية. حيث أعادت صياغة القصص بأسلوب يتماشى مع مفهوم السامع الانكليزي ويسهل على القارئ الانكليزي استيعاب روح القصة.
فران هزلتون حفيدة لأحد الموسيقيين، درست السياسة والفلسفة والاقتصاد في جامعة اكسفورد. ثم درست الميثولوجيا بالحضارة الشرقية في جامعة الدراسات الأفريقية والشرقية في لندن (SAOS).
تقول الكاتبة أنها صارت قارئة (story teller) لقصص وأساطير بلاد مابين النهرين بمساعدة زملائها مثل فيونا كولينز وجون بيتر وعازفة القيثارة العراقية تارا جاف. فقد أعادوا قراءة تلك القصص التي كتبت قبل ما يقارب الأربعة آلاف سنة، بطريقة أكثر سلاسة وقربا للسامع من ترجمات الأكاديميين فوجدت قبولا وتجاوبا من جمهور السامعين.
الكتاب يحتوي على اثنا عشر قصة من الأدب الأسطوري السومري والاكدي. مأخوذة عن الألواح الطينية التي تركها السومريون والأكديون من مختلف الأحجام من التي يصل حجم بعضها من الصغر أحيانا الى مالا يزيد عن ثلاث سنتيمترات عرضا ومثلها طولا تحتوي على مواضيع قصصية أو تعليمات بكتابة من الدقة والصغر تذهل المتمعن وتثير إعجابه بحرفية الكاتب في ذلك العصر ودقة عمله.
ويتبين أن هناك اختلاف باللفظ بين اللغة السومرية والأكدية وكذلك البابلية . فمثلا مدينة (اوروك) الاكدية تلفظ بالسومرية (اونوج) واله السماء (آنو) يلفظ بالسومرية (آن) . واكد تلفظ بالسومرية (آجيد) الجيم تقرأ على الطريقة المصرية كما يعتقد الباحثين. كذلك الالهة عشتار البابلية يسميها السومريون انانا، والاله تموز البابلي هو دموزي عند السومريين.
في تلك الأساطير نرى الالهة يتصرفون مثل البشر بمزاجية من غضب أو رضا أو غيرة! وقصر نظرهم يؤدي أحيانا الى كوارث كما هو بالطوفان. كذلك يشعرون بلحظات من الفرح والتسامح.
ومن قراءتنا لتلك الأساطير نجد الاسئلة ذاتها الذي حيرت الإنسان لليوم، ما الفرق بين الخلود والعدم؟
(mortal & immortals) . ولماذا لا يصل الانسان للخلود، ولماذا تغيرت حياة الناس بعد الطوفان؟.
وترينا الأساطير أن الهة بلاد مابين النهرين (العراق) بنت المدن وشقت الأنهر والجداول لكنها ما عادت تمشي على الارض. فا حيانا يعينون ملكا ليدير المدن نيابة عنهم. وكثير من الأحيان يتصرف الملك بلا حكمة ويفشل بالحصول على رضا الناس فيستخدم القوة والتهديد ليسيطر عليهم.
في قصة (حلم ديموزي) ص123، نرى الاله الذي هو الراعي وزوج اله الخصب انانا في الميثولوجيا العراقية، ويعرف زواجهما بالزواج المقدس، ويشكل موته وعودته للحياة كل عام في فصل الربيع رمزا لتجدد الحياة وتجدد الخصوبة. أو هو محاولة من الإنسان في ذلك الزمن لتفسير ظاهرة الربيع وتجدد الحياة لكل الكائنات الحية، وسباتها أو موتها في فصل الشتاء.
وتعكس لنا تلك القصة طبيعة الحياة حينها حيث يقتصر العمل على الرعي والفلاحة، والرعاة والفلاحين عادة ما يتعرضون للخطر من الظواهر الطبيعية أو من سطوة وقسوة الحكام عليهم بفرض الخدمة أو اتخاذهم كمحاربين رغما عنهم.
"كان ديموزي يسير وحيدا بارضه اعتمر قلبه الحزن "ايتها الجبال، هل ستبكينني حين أموت؟ أيتها الأهوار أيها النهر ، هل ستبكونني حين اموت؟.. هلا اخبرتم امي بموتي لو نادتني لآتيها بالخبز ..هل ستنتحبون علي مثل اختي كشتينانا؟".
"تمدد ديموزي على العشب ونام ..استيقظ فرك عينيه كان مرعوبا صاح "كيشتينانا، اختي الصغيرة التي تغني أعذب الغناء الحكيمة الذكية التي تجيد الكتابة على الألواح الطينية، التي تعرف تفسير الأحلام تعالي واخبريني على حلمي..في ذلك الحلم رأيت قصبا يحيط بي..احدهما هزت رأسها لي ..وأخريات قسمت نصفين شجرة طويلة...". تطلب منه اخته السكوت وقد أرعبها الحلم الذي فيه نبوءة موته فتفسر حلمه بأن القصب الذي يحيط به هم الاشرار الذين سيقبضوا عليه، والقصبة التي هزت رأسها هي أمه التي ستحزن عليه، والقصبة التي شقت نصفين هي دموزي واخته حيث سيفترقان، تقول القصة انه بالرغم من محاولة اله الشمس اوتو لمساعدة دموزي والاستجابة لدعائه وتوسلاته فيحوله لغزال ليهرب من الرجال الأشرار، لكنهم في النهاية يتمكنوا منه.. فيحل الحزن والظلام لموت دموزي ليتبادل الدور مع انانا التي لابد أن تسلمه للعالم السفلي لتتمكن هي من العودة لعالم الارض، للحياة، ليعود مرة اخرى بحلول الربيع.
معظم القصص توحي كتابتها بانها كانت صلوات.. كأنها أدعية أو تراتيل لتمجيد تلك الالهة أو تقربا لها، فيها تكرار لبعض العبارات. كما يبدو جليا في قصة (انانا والملك)ص117:
"كل يوم حين تغيب الشمس ترتفع نجمة عشتار وتتلألأ في السماء..كل شهر يتضاءل نور القمر وتظهر قوة النجمة وتشع بنورها..كل سنة في بداية الربيع ينام الملك مع الالهة انانا ليمارسا الحب حيث تتفتح الزهور وتبرعم الاغصان وتزدهر الارض ويتبارك الناس...قديما في أرض سومر شحب الضياء حين اقترب اليوم من نهايته، نهضت انانا وأضاءت كما تضئ نجمة المساء (الزهرة)..اضاءت السماء كحزمة ضوء
توقف الناس ليتطلعوا لها
ارتفعت الطيور تحلق في السماء عاليا ذهبت لتستريح في بيوتها
وسبحت الاسماك في اعماق الانهر
كلها سبحت بحمد انانا.. في لرض سومر كل الشباب الذين وجدوا الحب والمتعة مع الازواج. صلاة لالهة انانا سيدتنا سيدة المساء.
في كل مساء حين يحل الظلام تشرق انانا بضياء كالقمر او الشمس ظهرا، بينما الناس نيام..تحرسهم حيث تمنع الشر وتثيب العدل وتنشر الخير.
كل يوم وقبل بزوغ الشمس تبزغ نجمة انانا كل صباح تشرق بابتسامتها العذبة للناس..الذين ملئوا موائدهم بالجبن والتمر والعسل والفواكه مع نبيذ الصباح .. ذبحوا القرابين لها ووجد الراحلين طريقهم سالكا لعبادتها..لانانا بنيت المعابد .. المجد للالهة انانا التي تدين لها كل قوة..التي نحها ابوها (انكي) اله الحكمة والماء العذب.. حين زارته لدى (ابزو) اين ينبع الماء والحكمة.
سارت مواكب اهالي سومر ذوي الشعر الاسود، تدق طبولهم الالحان القدسية. يتقدمهم الصبيان باحلى ملابسهم سرحوا شعورهم.. ثم النساء الحكيمات اكثرهم حكمة ترافق الملك.. يتبعهم قارعي الطبول بعدهم الجنود يوفهم جاهزة للدفاع عن انانا...يتبعهم الاسرى يغنون لانانا ..ثم موكب البنات ذوات الشعر الاجعد يتبعهن الكهنة كلهم اتوا لانانا.
"يحيا الملك والصلاة لانانا" يهتف اهالي سومر ذوي الشعر الاسود، فهناك الكثير من الطعام والشراب ، والموسيقى الصاخبة التي كافية لتصد عنهم الرياح الجنوبية.
المجد والحمد لانانا ملكة السماء والارض، اكبر بنات القمر خالدة الشباب.. المجد للالهة انانا.ص 122
من هذه القصة وغيرها نعرف عن اشكال اهالي سومر عن طعامهم وطقوسهم. وطريقتهم بالتفكير والاحتفال والابتهاج بالمناسبات الدينية في ذلك الوقت.