الثلاثاء، 26 يناير 2016

أختام*-عادل كامل












أختام*


عادل كامل


[2] النائي
   عندما لم تعد هناك فئة (مثقفة) نادرة التخصص، وذات كيان يتمتع بحفريات نائية، منفصلة عن مجتمعها، وقد أصبحت منشغلة للبقاء على قيد الحياة، وقد أصبحت معنية، بالدرجة الأولى، أن لا تندثر، وتغيب، فان هذا الخط الفاصل ـ هذه الفجوة/ بله الفجوات والمسافات غير القابلة للردم إلا في حدود الاستثناء ـ ستزداد اتساعا ً نحو كائنات ستنفصل عن (النخبة) ذاتها، بوصفها قد ذهبت ابعد من: الولادة ـ الموت، ولكنها ليست ابعد من تمسكها بهذا الذي هو ابعد من الغايات/ الأهداف، إن كانت قد حددت، أو لم تحدد. إنها ليست إشكالية، بل ستوضح إن تفكيك (الإشكاليات) يتطلب هذا الحفر، أحيانا ً، خارج البرمجة.
   لنأخذ مثال: اللغة. إنها وجدت ـ ككل أداة ـ ضمن عوامل يمكن الإشارة إلى عدد منها، مثلما سيكون الباقي مشروعا ً للامتداد. فهي لا تنغلق عند حدود، الوظيفة وجمالياتها، لكن (لغتنا) منذ دوّنت أقدم النصوص فيها، لم تتخل عن العوامل التي تسري في مجالات البرمجة كاملة، من الأثير إلى النص.  فعندما يغفل المتابع، أو يغيب عنه، أن كل يوم، في لغة مثل الانكليزية، وفي سبعينيات القرن الماضي، تندثر20 كلمة، لتحل 20 جديدة، فان برنامج الحياة برمته يتعرض للتآكل، والتعفن، أي: ديمومة التصادم.
   وقد برهنت الحياة ذاتها إنها لا تعمل بإمرة فيلسوف، أو طاغية، وحيد، وفي الوقت نفسه، ستعمل بديالكتيك: اللا ـ كل، إزاء الكل، ومن ثم: الانتقال إلى المجموعات، ومنها: النوع البشري.
    فعندما نجد أن هناك من توقفت ديناميته عند: حدود، لا يمكن تجاوزها، فانه يكون قد وضع الديمومة في مأزق. والمفارقة وحدها تفصح عن أمثلة تذهب ضحيتها كائنات لا تحصى. وقد يكون الرد ـ بمعنى الدحض ـ هنا، هو المثال على إبقاء مقولات كالترتيب الهرمي، إزاء أي تحرر يتوخى الارتقاء بالنوع نحو هذا الذي لا خاتمة له.
   فتلك الفئة التي دوّنت النصوص التي مازالت متداولة، في الحقول كافة، والرمزية منها تحديدا ً، ليست (متقدمة) إلا قياسا ً بما سبقها، لأنها، في الصيرورة، لن تغدو (مستقبلا ً)، بل عثرات.
   والسؤال: إلى أين يتجه الإنسان، إن لم يذهب: أما إلى الفردوس، وأما إلى الجحيم، من ناحية، أو يرجع إلى العناصر التي تكّون منها، من ناحية ثانية، عندما يكون زمن (الوجود) محصوراً بينهما. وهذه عملية اختزال لكنها ليست بلا فائدة، في الأقل، لأنها التاريخ ممسرحا ً ـ ومرئيا ً، بتصادماته، كي يجري  بعجلات المنقرضات.
    فما الذي تريد تلك النخبة أن تلفت النظر إليه، غير (العدم)، مقارنة بما تسعى إليه الحياة برمتها؟ انه ليس هدفا ً يستعاد وتتم الإشارة إليه بمعزل عن مصيره: الاندثار....، أم هناك هذا السابق على (العناصر) والمندمج معها، والمتقدم على ـ حضورها/ وغيابها؟
     لكن هذه الإشارة لن تثمر جدلها ـ بوصفها جدلية وهي تذهب ابعد منه ـ إلا بوصفها تتمسك بالعقلانية، منهجا ً، نحو هذا: اللا ـ شكل، في آليات عمله، أو في غائيته. فالمنجز ـ علما ً أو فنا ً ـ أو صهرا ً لهما ـ يحافظ على تنبؤاته في مواجهة أشكال الثابت، والأبدي.
    فهل الكتابة حقبة لها زمنها التاريخي، أم إنها تؤدي دور الجسور نحو (غائية)، بلا غاية، للحفاظ على (الدينامية) أم أن إرادة (الحياة) ما هي إلا احد أشكال المحركات النائية، وخارج حدود الوعي ـ واللغة؟
   هنا تبلغ المغامرة ذروتها: التقدم في المجهول. وهي مغامرة لن تترك (الحياة) بلا غاية، من ناحية، وتدفع بها نحو (مجهولها) من ناحية ثانية.
    بدءا ً، ليس التطور وهما ً، بل جزءا ً من العنصر غير المسمى، المشترك، مع ما لا يحصى من العناصر، في ديمومة هذا الذي لن يترك أثرا ً له، عدا ـ في لحظة المراقبة ـ ومضاته وكأنها مستمدة من التاريخ، وليس من تلك التي سكنت الذات الحية، ونخبها، على مر الزمن. فالتاريخي يغدو أبديا ً، ولكنه، وبالتاريخ، يغدو منطقه، على أن توظيف (المجهول) إلى مشخص أو إلى تأويلات رمزية، سيعزز النظام الهرمي، ولا يعدله، مما يجعل: الولادة، في هذه الحالات، وكأنها وحدها تعمل بمعزل عن موتها ـ وفنائها.
   إنها شبيهة بالأنظمة التي درست، منذ الاقتصاد البري، في الزراعة، ومن ثم إلى التفكير المجرد، حيث الأشكال وحدها تحذف، لتجد أشكالا ً توازي تطور (الذكاء/ الأدوات/ الخبرة)، إنما المعركة ذاتها ـ منذ تشكل خلايا الحياة الأولى ـ لم تحتفل بنصرها، مثلما لم تهن لهزائمها. فهل باستطاعة الفن أن يقول ـ أو أن يخفي ـ شيئا ً غير: دورات الولادة ـ الموت، وهي دورة التحولات، أم أن هناك، شيئا ً ما من (اللا ـ شكل) والذي هو (اللا زمن) لديه ما لم يعلن عنه، ليس استحال، بل بوصفه برنامجا ً، إن تمت معرفته، فانه لن يقارن إلا بما أخبرتنا الحواس ـ والحدوس به، ويكون قد تشّكل كما الحاضر ـ غائبا ً، وكالميت الذي يفند (الموت) بغياب اكتسب لغز حضوره؟




[3]  اللا ـ شخصي
بعبارة لا ينطقها أحمق، كما في خاتمة مسرحية غاليلو لبرشت، فان الأرض: تدور، حتى لو نطقها من غير صوت، أو بكتمانه. ولو كان قد رفع صوته، غاليلو، وليس برشت، فان الشخصي لا يعنيني كثيرا ً. ذلك لأن لذّة المعاقبة التي لها ليست مرضية، ولهذا فهي لذّة ليست خالصة، مع إنها لا تخفي انتصار كوبرنيكس، بالذهاب ابعد من دوران الأرض حول الشمس.
   ثمة لذّات شخصية استثنائية، كالإدمان بمختلف أنواعه، كالإدمان على الفساد، أو تناول الكحول، أو إشباع الرغبات الأكثر سادية من القتل، وأخرى، كتنفس الهواء الأنقى، أو تناول الطعام بشراهة، يمارسها حشد بلا عدد، لكن لذّة أن يقول سقراط، في واحدة من ومضاته، إن المحادثة إلى رجل يفهم، لا تختلف كثيرا ً عن التحدث إلى رجل صفر. فالأول يفهم، والآخر لا يفهم، وهكذا  يغدو الكلام بلا لذّة.
   والأمثلة، مع زيادة السكان ـ من ادم الذي ينتسب إلى الواحد الأحد، إلى سبعة مليارات مخلوق يبحثون عن الخلاص ـ ليست نادرة، ذلك لأن الحقيقة ستبقى قائمة، بمعزل عنا! فأين هو فن تلك الومضة، وهي تنتقل من حد إلى حد آخر، ومن زمن إلى زمن ابعد، أم كما دوّن أفلاطون، بحكمة بلغت ذروتها: إن الأعمى الذي يسير من الليل إلى النهار، خير من الأعمى الذي يتجه من النهار إلى الظلمات!
    الإنسان أعمى! تلك هي كلمة والدي، استخلصها، بتأثيرات المعري، وشوبنهاور، واليوت، فلم اعترض، ولكني كنت أتساءل: هل الحقيقة عمياء؟ قال: لا! ولأنني كنت منشغلا ً بما تصنعه الألوان في مصيري، لم يشرد ذهني إلى منطق اللغة كي أراقب الزمن، كعبارة برخت: إن الحقيقة بنت الزمن، وليست بنت الأشخاص..؟ لكنني، بإحساس لا علاقة له بالتقدم، أو بلفت النظر، أو استبعاد الهزيمة، كنت أدركت في وقت مبكر جدا ً ـ أن هناك كائنات ارتقت بتجاربها نحو هذا الذي لا يقبل الانغلاق، ليغدو لذّة نادرة. إن (نرسس) لم يكتشف كم هو جميل، فهذا لا يعنيني كثيرا ً، لكن (المرآة) كانت مرحلة متقدمة في مصير النوع: إن الحقيقة تعدلنا، مع إنها، إزاء المطلق، لا تترك شيئا ً للتقدم ـ أي حتى لقول كلمات لا تعني أكثر من كونها كلمات! وها أنا ـ من غير شعور، ولكن بوعي تلقائي ـ أقع في الفخ: إن الفنون اللا شخصية ـ من الهرم والزقورات إلى ناطحات السحاب ـ ترغمنا أن نحدق في الطريدة التي لا وجود لها، إنما علينا أن لا نتركها تتوارى أو تغيب.
    فهل الحقيقة مبصرة، مثل العلاقة بين ما لا يحصى من العناصر في بناء منظومة الحياة/ المجتمع/ وزواله، كي يمتد حتى بحدود قرون، أو آلاف السنين، لتخبرنا، إنها عبرت، مثل ذرات بحجم مجرات، أدت عملها، في معبدها، أو في مختبرها الكوني، أو في لا مكانها، بوجودنا أو من غير هذا الوجود، على حد سواء؟
   سيقال أن موت المؤلف/ الفنان/ وانتفاء الذاتي، ترجع إلى (هيغل)، عندما لا حظ أن الموسيقا لا تعزف إلا من اجل الرب، بل للحصول على ثمن. ماركس، لم يعدل هيغل، بل توغل في تفكيك العلاقة، بين المثالي والضرورة، ولم يصدم (كانسان)، كما صدم بوجود آليات بشرية، تسمح للرأسمالي/ الصياد/ الجلاد، أن لا يبالي بضحاياه. فالنمل البشري، إزاء المركز، منظومة عمل قائمة على التدمير. لأن المركز، في الأخير، سيجد نفسه مدمرا ً. فثمة مركز آخر، كنجم كبير، بمروره، يلتهم الكواكب والكويكبات، من غير مشاعر زائدة، أو زائفة، لأن آلية العمل تصبح شبيهة بعمل اللغة التي لا تصدر أصواتا ً.
    لا شخصي...، تماما ً، هي الأبنية التي سمحت الفنان( سيزان) أن يخبرنا بها، لكن هل ثمة لذّة صفر، أو مشذبة، أو جمالية، أو عقلية، كالتي سمحت لـ (نيوتن) أن يكتشف قوانين الجاذبية...، وسمحت لدارون، مع سبنسر، أن يعزلا الحقائق عن التصوّرات، ويرتقيا ـ بالتفكير ـ نحو الحقيقة؟
     ها هي الحقيقة، تقودني إلى ديناميتها، وليس إلى موتها. ففي الفن، لذّة تتحقق فيها، إن كانت الحياة فيها بعضا ً من الشعر أو ما لا يحصى منه. فالفن يعرف كيف يجتاز عثراته، وعقباته، مثلما بالإمكان تخيل فيل يمشي تحت المطر وكأنه وحده اكتشف ذلك الممر الذي ينقذه من البلل. ولدي المهووسين بكرة القدم، كعشاق (مسي) أو (رونالدو)، إنهما يمتازان بمهارة ذلك الفيل، فـ (مسي) يخفي الكرة ولكنه يمضي بها من خلال أرجل المدافعين حتى ابعد من المرمى!
    فمن غاليلو إلى سيزان، ومن دارون إلى مسي، ومن نيوتن إلى ماركس...الخ، يعبر ذلك العنصر اللا مرئي للبرهنة بان الابتكار ـ وهو معنى الحياة بعيدا ً عن نظامها الهرمي ـ يؤدي دور مرور الأطياف حتى لو كانت منظومات المراقبة (المركزية) قادرة على الاعتراض، مع إنها، ستستثمر مصائرهم لصالحها، وتحتفظ بما اكتنزت، إنما الحقيقة، والحقيقة بحسب المختبرات، تذهب ابعد من ذلك.
   هل قلت إن اللا شخصي، ليس ما هو ما قصدته الألسنية/ البنيوية، منذ بواكير علم الانثروبولوجيا، وصولا ً إلى التفكيك، وإنني لم اقصد ـ أيضا ً ـ الحديث عن نظام يعمل بمعزل عن العاملين فيه، مع انه، لا علاقة له بموت الفن أو موت الإنسان؟ إلا إنني حاولت لفت النظر، ضمنا ً، للقبول بالقهر، من قبل (النمل) البشري، والعمل ضد الحقيقة: ضد الفن ـ ضد الإنسانية التي قرأت لحكماء سومر، ولسقراط، أو لتولستوي، وللآخرين أصحاب النزعات المرهفة، مثلا ً، لأنها ناصعة، كالنجوم التي أثارت دهشة (كانت)، لكن ليس من اجل لذّة خالصة قائمة على (الشيء في ذاته)، لأنها في الأصل عبرت مخيال قهري ـ بل أداء ً شبيها ً بعمل الدماغ ـ وما كان عاملا ً لهذا الوعي في رصد مرور هذا الذي ستكون (علامته) غائبة، بحضورها المحصور بين مجهولين، وليس بين غائبين. فالأشياء التي تفنى، مقارنة باللا ـ شكل، تعمل بمعزل عن هذا الزوال ـ الفناء. فالعقل سيتتبع مساره عبر علاماته في الزوال، فيما الفناء، يلحق، رمزيا ً في الأقل، باللا كل.
    فهل (الهرم) علامة اكتنزت بلغز ديمومة مكوناتها، أم للنظام الهرمي ـ من الرأس إلى الرمل ـ لغزه كي يبلغ تاريخنا ذروته...، أي نهاية الدورة، كي تعمل الحقيقة ـ بعيدا ً عنا أو بنوع يماثلنا أيضا ً؟
   إن الإجابات، في الغالب، تترتب بقيود لغتها، وليس بما يتمتع به الدماغ من مديات ابعد، لأن الأخير، بحسب العلماء، ليس مجموعة أجزاء، لكنه ليس (كلا ً)، بل مركبا ً تضمن، عبر الزمن، تلك الأطياف التي سمحت لغاليلو  أن لا يقول بصوت مسموع، بل أن يتمتم مع نفسه: تعيس هو البلد الذي يحتاج إلى أبطال!. فهو لم يخترع، ولم يكتشف، شيئا ً شخصيا ً، بل تتبع الظل وهو مأخوذ بلذّات لا شخصية: لذات لا علاقة لها بالحروف، والصوّر، والرموز، والحدوس. ليس لأنها تعمل بمعزل عن المراقبة، بل لأنها، كما هو المنطق الجدلي وهو يتوغل في تفكيك الجدل، في تفكيك ذاته، لا يتباهى بالنصر: أي بمحو الآخر. فالفردوس، طوال الحقب المظلمة، لا يسكنه إلا أقل الناس رهافة، لأن انتصاراتهم برمتها شيّدت على إقامة نيران مستعرة للآخرين. ويا لهو من خلاص...، مثل هذا (المثلث) في مقدمة السهم، أو في الرؤوس النووية، بشارة لأعياد لا وجود لها، عندما تستحيل المراكز إلى أثير.!



[4] استبصار
    على إن تحديد جوهر الوجود، لن يفضي بأكثر من إنسان يحدق في: كل ما يقع خارج وعيه. على أن الوعي ليس حاسوبا ً متقدما ً، ومنفصلا ً عن معنى (ما) في هذه العلاقة ـ المعادلة. فانا لا اخترع هذا الذي غدا خارج أدواتي في المراقبة ـ والحكم، الأمر الذي لا يسمح لي بأكثر مما ذهب إليه حكماء ـ العقلاء والمجانين ـ بتلخيص رأس مالهم حول (الحياة) بوصفها ليست فائضة ـ أو خالية من المعنى، أو: إرادة عمياء. حكماء تركوا الفجوات تسكن حكمتهم، وتسكن اللا محدود، لإعادة التحكم بمصائرنا، من غير النظام (التراتبي) الذي كان (الهرم) نموذجه على مر الزمن.
     ما الذي يشغل رأس فنان يستطيع، مثل شجرة، أن لا يصدع رأسه بما هو أعظم من الصدمات: الحماقات البشرية، التي لا يمتلك ـ لا الفنان ولا تمتلك الشجرة ـ في نهاية المطاف، إلا الدفاع عن كينونة ـ وجود مهدد بالمحو ـ أو، في الأقل: بالاستلاب؟
      ففي التعرف على ما هو خارج المعرفة، وحدودها، وعمل أدواتها، يستعيد الكائن ـ الذي توهم حريته في عالم محكم، قليلا ً من أندر الومضات التي لا تضعه فوق البشر ـ بوصفه استثناء ً، بل علامة صاغتها التحولات، وقد راح يجد خطاه فيها الدرب الذي لا يجعل نظره (تقدميا ً) ويده باحثة عن طريدة، لا يجعل صمته حرا ً وكلامه مغامرة، لا يجعل أحلامه ملاذا ً، وأفعاله سلسلة من المناورات...، فهو لا يسعى لمغادرة أوهامه ـ وأخطاؤه، كي يجاور عالما ً لم يترك أملا ً إلا بالعثور على كل ما يدفعه أما إلى السكينة، وأما إلى: اللامبالاة!
   هذا الكائن، كلما ازدادت عزلته، ازداد استبصارا ً بكل ما لا يلمحه البصر، أو يتتبع علل العقل. فهو سيعيش من غير أمل، ولكن من غير قنوط، فهو لا يعمل كما يعمل (النمل) أو تعمل الأشجار، أو (الأشياء)، واقصد من غير أمل، أي من غير وهم، مهما كان متقدما ً، ويتمتع بقليل أو بكثير من اليقين، فالأمل، ليس السراب، وليس هو استبدال (المنفى بمنفى أكثر اتساعا ً)، وليس هو الارتداد، وترك الكسيح يصبح قدوة ـ كما في النص السومري عند معالجة معضلة العدالة الإلهية ـ وقد دوّنت قبل ظهور إبراهيم بألفي عام ـ ولكن لأن السبعة مليارات (كائن/فرد/ رقم/ شفرة/ كلمة/ حرف ..الخ) تؤدي دورا ً شبيها ً بمعركة يكون النصر فيها وهما ً بنيويا ً، فان هذا الأمل، لديه، كمن يعمل عمل المستغفر للمستغفرين، كما كانت رابعة العدوية تفعل، أو كقولنا للباحثين عن خلاصهم عن قصر في الفردوس، وعن غلمان، أو عن حواري، أن لا يسرفوا في الأحادية، والتحكم بالمصائر بوصفها غنائم حرب، فالأمل ليس أن اعثر على ديمومة لا تكون جزءا ً من وجود لا يتوقف عند(حد) أو ينتهي بخاتمة.
      وبمعنى ما مماثل: كيف يتأتى لنا أن نمسك بأمل إزاء وجود لا يبوح بأكثر من ومضات: ذرات أو لا مرئيات تعمل بما يدحض أي حكم، بعد أن كانت مسيرة الأنواع قائمة على إحراز نصر لا وجود له في النهاية، إلا بحدود تحولات العفن إلى عطر، والعطر إلى عفن، لأسباب لا علاقة لها إلا بحدود (الوهم) الذي غدا (أملا ً) لديمومة تصادمات لن تترك لنا إلا احتمالات تقسيم البشر، بحسب تاريخهم، إلى: قاتل ـ وضحية، كي يستعيد الأخير، دور الأول، عبر البرنامج ذاته، ومن غير تعديلات تذكر!
 فماذا يريد الفن أن يؤديه، إذا استبعدنا التشخيص، التعبير، الرمز، واحتمالات التأويل، وما يبدو راسخا ً، أو منزلا ً، أو خاليا ً من الغبار...؟

[5]
   في الغالب لا اشعر بالندم، ولا بالإثم، لأنني لا امتلك إجابة أخيرة ما إذا كان الفراغ، أو العادة، أو الحوار مع النفس، سببا ً ابرر به انشغالاتي بالفن. ولا استبعد أن لفت النظر، حتى وأنا أتوارى بعيدا ً عن الآخرين، له تأويله.
    ففي عالم السلع ـ البضائع، ينوع الصانع إنتاجه، بعلامة ما، للترويج، إنها منافسة  للديمومة، إن كانت على مستوى  الغرائز، أو على صعيد الاستحداث.
    ومادمت اجهل تماما ً لماذا (الديمومة) لديها ما لا يرد، كي تكون موازية للقدر، والحتميات، فانا اجهل لماذا ـ بعد تذوق مرارات الإخفاق في الحسم ـ علي ّ أن أرى ما لا يحتمل، من رداءة ونذالة، من قسوة وعدم حياء في ديمومة المطالبة: بالتغيير، الإصلاح، والثورات؟
    فلا الفن، ولا الطب، ولا المواعظ باستطاعتها أن تذهب ابعد من حدود عملها: فالمريض سيلقى حتفه، في نهاية المطاف، لأن برمجة (الديمومة) قائمة على كل ما لا علاقة له بحرية الاختيار، فالأدوات مقيدة بوظائفها، مثل السلع: الاستهلاك.
    ولا أكثر إثارة للقهر أن تنتهي الحكمة باعتراف: هذا هو الواقع! لأن الأحلام ـ بمشفراتها ـ تعمل في هذه الحدود.
   وهكذا دأبت، في كل صباح، قبل الشروع بالكتابة، أو الانشغال بالفن، أو أن أعيد قراءة كتب، تبعدني قليلا ً عن حافات القفز وراء الجنون: العقل، لأن الأخير، كما تؤكد البراهين، ذروة آليات عمل المفتاح في القفل. فانا إذا ً في حال المتورط. فانا أصبحت ورطة نفسي! فالجنون، كالعقل، كلاهما شبيهان بشرود المتيم، لا ينظر إلا للذي يرغب في النظر إليه.
    وللدقة، أنا لست أسير قيود المكان الذي ولدت فيه، وزمنه، ولكنني ـ حياء ً ودقة ـ لا اذهب ابعد منهما. فقد تكون الإجابات، في كوكب آخر، ككوكب أنطوان اكزوبري في الأمير الصغير، خالية من الأسئلة. إنما أنا أرى عرضا ً مسرحيا ً شبيها ً بنظرية المؤامرة، مهما استبدل العرض، فانا لن أغادر نسق استحالة دحضه، أو حتى تعديله. فالدماغ يعمل بالغاز شبيهة بعمل شجرة تقاوم البرد أو أي عدوان، وشبيهة بالحرباء تستبدل لونها تكيفا ً بزمن قياسي، ومثل من يجهد كيف يكون بصره تقدميا ً ويده تصفق للرداءة، قلبه ينحاز للطهر وفمه ينشد للموبقات، أو مثل قديسة وحدها تدرك إنها غير مسؤولة عن عفن العالم..!
     ثمة  قيود لن نغادرها إلا بالتوحد معها، حتى بعد الموت، فإنها ستمتد، كإرث، للذين سيولدون بعدنا. فإذا كنت لا استطيع استبعاد رائحة تفسخ جسدي، أو حتى رائحة رمادي لو اخترت النار بديلا ً عن الدفن تحت التراب، فما معنى الحديث عن عطور أزهار البرية، أو ورود بساتين بغداد...؟
    ويا له من اكتشاف، شبيه بالجاذبية، أو من اكتشف إن سرعة الضوء لا تقربه من معرفة لغز: اللا ـ كل، واعني بأننا أسرى النسبية. فاينشتاين الذي لم يستطع أن يفهم شيئا ً من الصفحات الأولى التي قراءها من رواية القصر، وقال إنها بحاجة إلى دماغ يوازيها، فانا اجهل تماما ً فك مسيرة تاريخ لو لم أكن مكبلا ً به لكنت غادرته، فأرحت الآخرين ونفسي أولا ً منه ...
    فهل نطق كافكا بلسان الرب أم عمل على استبعاد بديهة المشهد ذاته الذي عاشه سيزيف وصولا ً إلى بشاعات العولمة، وعالمنا المعاصر، وما تؤديه الأسلحة المحرمة من تسليات موجعة لضحاياها، ماذا قال كافكا أكثر من رصد الإجابات على أسئلة غائبة، لكن اختيار الموت، لم يعد ممكنا ً، وفي حالات نادرة، كالأمير الايطالي الذي اضرب عن الطعام احتجاجا ً على الموجودات وعلى الوجود، ورحل بهدوء، أو كغرق فرجينا وولف، فانا لعلماء النفس شطارتهم في العثور على أعراض للإدانة!
    إنها برمجة تحتم على المبرمج، مهما تحرر من آليات عملها، أن يجد نفسه قد أتقنها، وأدى دور من يقف في أعلى الهرم: الصياد، أو الأمير، أو مدير الشركة، الأكثر مكرا ً ودهاء ً وجورا ً وقوة وفتنة وثراء ً وبرمجة يجادل بها للإبقاء على القاعدة شرطا ً للحفاظ على وجوده في الذروة: فوق الصليب أو الموت كمدا ً أو التمتع بعقارات كالمورفين أو الشعر أو الفن أو المشعوذات أو مرتلا ً في حضرة الرب، والكل يعرف، إن (الرب) يقع بعيدا ً عن ذرى التصوّرات، والكلمات. فالصياد وحده لا يفرط بلذّة إنزال اشد درجات الألم، والذل، بالآخر الذي لن تنتهي أسطورته بموته، بل سيأخذ بثأره عبر برمجة تمتد إلى ما لا نهاية، أو عند حدود برمجتها.
     فهل ـ في الفن ـ استطيع أن أجد سلوى غير تجاهل هذا العرض المروّع للقانون السابق على كلمات مالتوس: حرب الجميع ضد الجميع، حيث العناصر، في تشكلها، لا تكف عن دورها في إثبات أن: النهار يكمن في الليل، مثلما العتمة قد وجدت سكنها في أشعة الشمس!
    قوانين....، لا تجد إجابة إلا ورأسك بين يدي ّ جلاد أما أن يرسلك إلى جهنم، أو لا يمتلك أن يرسلك إلى أي مكان آخر...! ففمك إن نطق أغلق، وإن لم ينطق فلا معنى لوجوده...، فأية برمجة عنيدة هذه التي حولت حياتنا إلى مسرحية تجري في القاع، لكن بمرأى  من يمرحون تحت الضوء...! قوانين تدفع بالمفارقة للحفاظ على (المثلث): رأس... وقاعدة لا إرادة لديها  إلا التنفيذ، والطاعة. وأيا ً كان الرأس، فالمنفى يحتم شكل منفييه، مثلما المنفيين، في محاولات الخلاص، يعززون دور المركز: المنفى. وكأنها لعبة إن لم تلعبها أرغمت أن تطرد منها، أو تلعبها بحرية وحدها لا إرادة لديك إلا على أخيارها. إنها كحرية الطريدة، أينما ولت، فالمخالب غرست في أقاصي لا مرئيات جيناتها!  فهل  استطيع، بهدوء، أن اغوي أصابعي/ بصري/ دماغي، بالتحايل على نهاية وضعت، قبل أن يكون هناك نهار، وقبل أن تكون هناك دابات تدب بهذا الدبيب الذي غدا مشهدا ً مألوفا ً، بأدواته، وبتقنياته، مادمت أدرك إن موتي مدوّن في سلسلة تحولات العناصر، قبل أن يكون ثمة دماغ ـ وحواس، أم إن هذا كله نتيجة حتمية لوجود  المقدمات، ونهايتها، وهي جديرة بالملاحظة؟
تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

الأحد، 24 يناير 2016

يـــــا باسل الحزن-مؤيد داود البصام


 كتاب

يـــــا باسل الحزن

مؤيد داود البصام
لتحميل الكتاب يرجى النقر على الرابط التالي
http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N

الجمعة، 22 يناير 2016

كتاب "عشر سنوات هزّت العالم: -

يضم كتاب "عشر سنوات هزّت العالم: عقد على احتلال العراق 2003-2013" (784 صفحةً من القطع الكبير) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خلاصة الأوراق والشهادات التي قُدّمت للمؤتمر الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى يومين في العاشر والحادي عشر من نيسان/ أبريل 2013، وقد تضمن جدول أعماله شهادات شخصيات ساهمت، على نحو أو آخر، في الحدَث من مواقعها المختلفة، منها ستّ شهادات يقدّمها هذا الكتاب في القسم الرابع، علاوةً على رؤًى أكاديمية بحثية قدّمها أربعة وعشرون باحثًا بحثوا في الخلفيات والتداعيات الداخلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمخّض عنها الغزو والاحتلال اللذان انطلقَا لينفِّذا سياسات تمَّ التخطيط لها في وقت مبكر، كما سنلاحظ عند تناولنا الأوراق البحثية.

ماذا حصل في العراق منذ تلك الحقبة؟ وما هي التغيرات السياسية والاجتماعية والبشرية التي ‏أحدثها الاحتلال؟ وكيف يمكن رصد آثار ذلك كلّه في المحيط العربي، ولا سيما في سورية؟ هذا ما يُعنى به هذا ‏الكتاب الذي يضم بين دفتيه أربعةً وعشرين بحثًا وستّ شهادات تتناول كلّها ما وقع للعراق من كوارث خلال ‏عشر سنوات أعقبت الاحتلال، وخصوصًا تفكيك الدولة والجيش، وتفاقم مشكلة الهوية والنزاعات المذهبية ‏والقومية، علاوةً على صعود الدور التركي، وتوسّع السيطرة الإيرانية، وتضاؤل الدور العراقي في الوقت نفسه. ‏والكتاب، بهذه الصيغة، هو خلاصة بحوث ومناقشات مستفيضة قُدّمت في مؤتمر علمي عقده المركز العربي ‏للأبحاث ودراسة السياسات عام 2013، محاولةً لفهم مقدّمات الحرب على العراق ومجرياتها وتفصيلاتها ‏وعقابيلها المستمرة حتى اليوم، وهو ما جعل العراق ساحة تصادمٍ إقليمية، وحوّله من بلد مرغوب فيه ‏بذاته إلى بلد يلعب اللاعبون فيه ألعابهم المتنافرة والمتعاكسة. ‏

ورَد هذا الكتاب الذي قدّم له الدكتور عزمي بشارة في أربعة أقسام. فالقسم الأول منها هو "العراق من الداخل: الدوافع الخارجية والتغيرات السياسية والمجتمعية من جراء الاحتلال"، وهو مُكوَّن من عشرة فصول رئيسية عن أطاريح تفكيك الدولة العراقية في أجندات المحافظين الجدد، ملقيًا الضوء خصوصًا على تصريحات مساعد وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز، والكيفية التي تمّ عدّ العراق من خلالها دولةً راعيةً للإرهاب، موضحًا أبعاد اللعبة السياسية التي أدخلها الاحتلال بهدف صنع دولة عراقية جديدة لا تمتُّ إلى جذورها الماضية بصلة، وأُدخِل عليها الكثير من الأفكار النيوليبرالية في الممارسة الاقتصادية التي أضرت بالاقتصاد العراقي كثيرًا، إضافةً إلى توضيح دوافع ما قبل الغزو وبعده، ودور كل من المليشيات المدعومة من الخارج والشركات الأمنية الخاصة في الأحداث التي عرفها العراق في مراحل الغزو وما بعده.

أمّا القسم الثاني من الكتاب "تداعيات الغزو على الوطن العربي"، فهو مُكوَّن من سبعة فصول تحدثت عن تداعيات الغزو على الخليج العربي، وعلى سورية، وعلى القضية الفلسطينية، وعلى منطقة الشرق الأوسط بأسرها، كما أشارت بعض فصول هذ القسم إلى أثر الغزو في صورة العرب في الغرب. وأمّا القسم الثالث من الكتاب "التداعيات الإقليمية والدولية للغزو"، المُكوَّن من سبعة فصول أيضًا، فهو يستعرض عدة قضايا، محورها الرئيس تداعيات الغزو على عدد من الدول من بينها إيران، ويقرأ الموقف الروسي من الغزو، كما يبحث مشاركة اليابان في التحالف، ويدرس تأثير الانسحاب الأميركي من العراق في أولويات الاهتمام الأميركي في العالم.


وأمّا القسم الرابع، فقد خصّص شهادات ورؤًى متعلّقةً بحرب العراق، وهو يتضمن شهادات مطّلعين على أوضاع الغزو وتداعياته فكانت شهادة ناجي صبري الحديثي وزير خارجية العراق حين الغزو، وشهادة هانز كريستوف غراف فون سبونيك، مساعد الأمين العامّ للأمم المتحدة المشرف على البرنامج الإنساني قبل الغزو، وهو الذي استقال من منصبه احتجاجًا على الاستهداف غير الإنساني للعراق قبل الغزو. إضافةً إلى شهادات كلّ من مؤيد الونداوي، الأكاديمي العراقي وأحد الناشطين في المسألة الإنسانية للعراق، ورعد الحمداني قائد فيلق الحرس الجمهوري الثاني، وكلير شورت وزيرة الدولة البريطانية السابقة في حكومة توني بلير، وجوناثان ستيل كبير مراسلي الغارديان إبان الغزو.

الخميس، 21 يناير 2016

بعد 55 عاما .. جواد سليم ونصب الحرية-إعداد: عادل كامل

بعد 55 عاما .. جواد سليم ونصب الحرية

وثائق وشهادات

إعداد: عادل كامل
      كالكثير من المشاريع المحكومة بالفشل، أهملت المؤسسات المعنية بالفن، وغير الفن، بالحفاظ على تراث جواد سليم، رغم الكثير من الجهود التي بذلت  بتحويل بيت الفنان إلى (متحف)، والحفاظ على ارثه، أثناء حياة سعاد ونزار ونزيهة، وباقي أفراد أسرته...، أو بعد رحيلهم...، فتناثرت تجاربه الفنية، ومقتنياته، وتوزعت، كما تعرض الجناح الخاص به ـ في مركز الفنون ـ بعد 2003، للنهب، والتلف، والضياع...
   لكن القليل من رسوماته، ومجسماته، لم تغب عن الذاكرة: الشجرة القتيلة، شعار الجمهورية، العلم العراقي، شعار مصلحة نقل الركاب، تصاميم العديد من الكتب، البنّاء، الأمومة، السجين السياسي، إضافة إلى بغدادياته ... الخ
   لكن (نصب الحرية) ـ الذي تعرض لمحاولات عديدة للهدم ـ امتلك اللغز ذاته الذي بحث عنه جواد سليم، ومكث يجد، يوما ً بعد آخر،  استجابة لا شعورية أولا ً، وفنية رمزية إبداعية ثانيا ً، من لدن الملايين التي وجدت فيه: علامة اجتمعت فيها عناصر الإبداع.
   إن جواد سليم نفسه لم يفكر ولم يطمح أن يكون أسطورة، رغم انه استثمر حداثات الفن الأوربي بمنحها سرها المشيد بالرهافة والخبرة، بل عمل على صياغة (علامة) استمد مكوناتها من أحلام أجيال غابت ومكثت تحلم أن تصنع مصيرها بالعمل ـ وبالحرية.
   وبعد مضي 55 عاما ً على إقامة نصب الحرية (1961)، في اكبر ساحات بغداد ـ الباب الشرقي ـ يكون جواد سليم حقق رسالته الفنية/ الأخلاقية/ والجمالية...، فصار النصب: علامة في مدينة، ومدينة في علامة. حتى بات من الصعب تخيل بغداد اليوم من غير نصب الحرية، أو تخّيل نصب بغداد من غير بغداد... فلقد أعاد جواد سليم ـ بعد قرون من الظلمات ـ للفن مكانته في الضمير ـ وفي الذاكرة، وفي المخيال الشعبي النبيل.
    في الوثائق/ الشهادات التالية، تؤكد أن نصب الحرية، ليس من الماضي...
    ولأن النصب، لم يكن علامة منفصلة عن تاريخ وادي الرافدين، وحضارته، فقد ترك أثره، منذ شيّد، في عدد كبير من الذين عاصروا نشأته، وحضوره الإبداعي كأحد رموز العراق الحديث. فالفن، كما تؤكد مدوّنات التاريخ، إن لم يستمد شرعيته من الضمير الاجتماعي، والثقافي، فانه لن يتحول إلى معمار روحي، والى أداه فعّالة في الخطاب المعرفي للشعب، ونخبه الإبداعية. وفي الشهادات، والنصوص التالية، إشارات تلقي الضوء، وقد استمدته من النصب تحديدا ً، حول مفهوم الهوية، وامتدادها، في عصر تصادم العلامات، ولكن، في إطار صيرورتها الخلاقة.


شهادات شارك فيها:
1 ـ  جبرا إبراهيم جبرا
2ـ عباس الصراف
3 ـ شاكر حسن آل سعيد
4 ـ إسماعيل الشيخلي
5 ـ د. شمس الدين فارس
6 ـ د. محمد صادق رحيم
7 ـ عدنان المبارك
8 ـ أ.د تيسير الآلوسي
9 ـ د. خالد القصاب
10 ـ عادل ناجي
11 ـ د. شوقي الموسوي
12 ـ   د.عبد الإله الصائغ


توق للحرية

   " وهذا النصب يتألف من أربعة عشر مجموعة من البرونز، في كل مجموعة منها عدة شخوص وينتشر على إفريز شاهق طوله خمسون مترا ً، وعلو منحوتاته ثمانية أمتار. فهو إذن من اكبر النصب في العالم، وهو أضخم نصب قام بعمله فنان عراقي منذ أكثر من (2500) سنة. ومع ذلك فقد أكمله في سنة ونصف! والسر في ذلك ولا ريب هو تاريخ تطور الفنان وما قام به من رسم ونحت طوال عشرين سنة من حياته، وما واكب من تاريخ قومي كان هو في الغمرة منه، مع انه ـ كما كان يردد ـلا تهمه السياسة في شيء. فالتاريخ القومي هنا عملية مخاض نفسي، أو عملية نمو وإيناع في تربة اكتشفت منذ حوالي خمسين سنة كوامن خصبها. (....) فعزم أولا ً على جعل منحوتاته على الغرار العراقي القديم ـ وهو النحت الناتئ، لا النحت المجسم. ثم أدرك ان عليه ان يجعل العمل كله حلا ً وسطا ً بين الأسلوب الذي يتوخاه الفنان لو كان عمله خاصا ً به وبين ما يتوقع منه الجمهور الذي ينظر إليه في ساحة كبرى. وإذ راح يرتب مجموعاته الأربع عشرة استدرج تجارب سنيه الطويلة وتراكمات الرؤى والرموز التي لم يتح له في الماضي ان يبلورها على مثل هذا النطاق ـ وراح يرتبها، فيما أراه أنا، على شكل بيت من الشعر يقرأ من اليمين إلى اليسار. فكل مجموعة هي فكرة قائمة بذاتها ولكنها تتصل الواحدة بالأخرى في سياق يؤلف المعنى الذي يعبر عنه النصب بأجمعه: توق العراق إلى الحرية منذ القدم، وتقديمه الضحايا في سبيلها، لكي ينعم أخيرا ً بالسكينة والازدهار والخلق."
جبرا إبراهيم جبرا
الرحلة الثامنة، بيروت، 1967 ص 188ـ 202


بين بوابة عشتار ونصب الحرية


    " البوابة مستطيلة طولها الأفقي خمسون مترا ً وعرضها العمودي ثمانية أمتار وسمكها متر واحد وترتفع عن الأرض خمسة أمتار، إنها جسر مرمري استند طرفاه على قاعدتين وبقي معلقا ً في الفضاء تاركا ً تحته ممرا ً واسعا ً يصل ساحة صاخبة بمتنزه هاديء بسيط.
   باب عشتار محدودة الفكر تروي مراسيم المواكب البابلية والجموع الوافدة على بابل مخترقة ذلك الدهليز المعتم ... وبوابة بغداد كونية كبيرة تحمل ملحمتها على ظهرها تروي للأجيال المتعاقبة صراع البشر مع أقدارهم.
  باب عشتار أنشودة يرددها التاريخ... وبوابة بغداد ملحمة تتحدث عن التاريخ.
   وباب عشتار ممر ضيق يوصل لمدينة سجينة داخل أسوار... وبوابة بغداد بساط شهرزاد السحري محلقاً في الفضاء.
   باب عشتار مظلمة رهيبة يعتليها حراس أشداء يسددون نبالهم وسهامهم للقادمين إليها وتحمل جدرانها حيوانات أسطورية مخيفة ... بوابة بغداد عارية مفتوحة ليل نهار بلا رقباء يعتلي تماثيلها الحمام الآمن فيكسبها حياة ووداعة واطمئنان.
   باب عشتار تلثمها الشمس سويعات من النهار... بوابة بغداد تعانق الشمس عند شروقها وتودعها عند الغروب، ولم يكن ذلك من قبيل الصدف بل قصده جواد وعناه فأراد ان يبعث الحياة في ملحمته فوضعها في خط مسيرة الشمس حيث تطول الظلال وتقصر فتكون الأشكال في حركة دائبة لأنها تستجيب لكل لمحة من الضوء المتغير، وإذا دجى الليل ونشرت المصابيح أنوارها الشاحبة على تلك الهياكل توقف الزمن وتسمرت دون حراك، فترقد في جمود حتى بزوغ صباح جديد، إنها دورة الزمن الأبدية"
عباس الصراف
[جواد سليم] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص137 ـ 138


التجاوز
   " هذا هو أخيرا ً إذن مبدأ (التجاوز) لدى الفنان وقد تقمص كل ذاكرة محاوره. فنصب الحرية محفوف بمخاطر الوقوع في رتابة (التخلف) اذا لم يقترح منذ البداية كل هذه الإمكانيات الواسعة للخروج عن ارض (الذاتية): ذاتية الركون إلى (دغوماتية) التفسير. وجواد سليم يحقق تجاوزه الذاتي في (الرمز) ولكن ضد (المتناقض) الذي ينشد اللا ـ تناقض أو وحدة التعاقب فهناك ما يسمى عادة (بالانقطاع)، وهو ما سينشد بدوره (اللا انقطاع). ان (الانقطاع) في نصب الحرية هو (قدر) الميثولوجي: فما لم يدرك المشاهد ان ثمة لا منطق معين في العلاقات بين الأشياء وأشياء الأشياء سوى تلك النفحة الرقيقة بروائحها الطيبة: روائح الانجاز الجميل فلا (شخصية مركبة). أي ان ما أنجزه جواد سليم بوضوح في رسومه في الخمسينيات (1953) يطالعنا الآن في نحوته الستينية (1961). وهو أكثر أصولية (في علم الأصول) في جوهره. فنحن أبدا ً بإزاء عمل فني يمتزج فيه الرسم بالنحت، بالموسيقى، وبالفن المعماري ـ كما يمتزج فيه الطبيعي بالثقافي وما يخص الفنان وما يخص الجمهور بل وما هو مستقل في إطار (شيئية) الوجود. فمبدأ (التجاوز) في جميع الأحوال إذن يتقمص هذه الأشكال النحتية الهائلة، أي في ان نعيد النظر مجددا ً في كل مرة لما نراه. فليس نصب الحرية إذن هو هذه المساحات والكتل المحددة من البرونز. ذلك لأنه أيضا ً تلك النوبات المرضية والانهيارات النفسية التي مر بها جواد سليم أثناء انجازه لبدايات عمله.. (....) أيكون إذن موته المفاجئ جزءا ً من عمله هذا وهو في صيرورته المستقبلية ؟هنا نستفيق من سبات عميق على حقيقة  ان استمرار العمل الفني بعد موت الفنان هو أيضا ً جزء من سيرورته الجنينية قبل ولادته. فإذا كانت جهود الإنسان تختصر في (زحزحة) الطبيعي إلى ثقافي فان جهود الإنسان الخلقي هي التي اختصرت وستختصر (زحزحة) الثقافي إلى ما فوق الثقافي."
شاكر حسن آل سعيد
[جواد سليم ـ الفنان والآخرون] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1991 ص206


انجاز كبير

[ إن نصب الحرية يعد بحق من اكبر الأعمال وأعظمها في النحت المعاصر، حيث حقق جواد في هذا الانجاز الرائع كل ما كان يصبو إليه من قيم فنية لذا فإننا نرى فيه خلاصة ما كان يريد ان يقوله ويعبر عنه منذ ان تأثر بفنون وادي الرافدين ودراسته في باريس مع أستاذه (جانيو) الذي يعد من اكبر فناني النحوت البارزة في فرنسا. ودراسته في كل من روما ولندن بعدئذ حتى انتهت به هذه المسيرة القصيرة من عمره الفني بهذا الانجاز الكبير. يبقى جواد فنانا ً عراقيا ً أصيلا ً ومبدعا ً فتح آفاقا ً رحبة وواسعة أمام الكثير من زملائه وأصدقائه وطلابه في البحث والاستقصاء وإنارة الطريق لهم، وعلى الأخص في استلهام تراث الأمة وتاريخها في إطار من القيم المعاصرة والرؤية المتقدمة وبإعماله تلك دفع عجلة الفن العراقي إلى أمام في فترة كانت تعج في أرواح الشباب المتطلع للمستقبل، ثورة وجدانية وفكرية وسياسية هدفها السير بالوطن والأمة نحو التقدم والدخول إلى معالم الحضارة الإنسانية الحديثة"
إسماعيل الشيخلي
مجلة الرواق ـ وزارة الثقافة ـ بغداد العدد(14) 1983


تعبيرية النصب وجمالياته

   " شيد هذا النصب في ساحة مركزية ذات الحركة الدائرية والتي تلتقي بها ستة شوارع رئيسة. فبصورة جيدة يستطيع المشاهد ان ينظر إلى هذا النصب من أية نقطة في الساحة. فبهذا نستطيع ان نشير إلى ان مكان النصب اختير ايجابيا ً تحقق من خلاله التعامل الصحيح مع المجموعات المعمارية المحيطة به.
     وقد طرح الفنان مضمون هذه الملحمة بشكل قصصي ديناميكي من خلال تقصيه لبعض القيم الجمالية لفن وادي الرافدين القديم، وقد سبكها بروح معاصرة مكونا ً من ذلك خاصية ما تميز به النصب بهيأته التكوينية العامة. ومن خلال ذلك استطاع الفنان ان يتوصل إلى صياغة بلاستيكية موحدة ذات لغة تشكيلية معاصرة تعبر عن واقع موضوعي تحسه جماهير شعبه..."
    " فبغض النظر من ان التكوين الفني للإفريز متكون من أجزاء مركبة من قطع برونزية مخرمة وزعت على الخلفية البيضاء ببروزات متفاوتة فان الفنان استطاع ان يجد بثبات الحركات البلاستكية والانسجام اللوني العام للنصب. ومن الناحية الأخرى فان الفنان استند على بعض القيم الجمالية اللونية للرليف  البابلي لكن جواد لم يعتمد على التراث من خلال المحاكاة وإنما من خلال تقصيه للقيم الجمالية التي أدركها الفنان البابلي. فالفنان جواد لم يستعمل الألوان كما استعملها الفنان البابلي في طلي رليفاته وإنما استطاع ان ينظم الإيقاعات اللونية من الألوان الطبيعية للمواد التي استعملها في بناء هذا النصب من حجر ابيض وبرونز. فالكتل البرونزية ثبتت على الخلفية البيضاء بتفاوت لذلك تكونت ظلال مختلفة تفاوتت درجاتها اللونية وشاركت هذه الظلال مشاركة مباشرة تكوينا ً مع الكتل الأصلية. استطاع الفنان هنا ان يستخلص هارموني بين الألوان الطبيعية للمواد ودرجات الظل والنور المختلفة، وذلك بالحصول على تكوين بلاستيكي عام يعطي قوة تعبيرية ديناميكية للنصب المعماري مع القطع البرونزية الضخمة المتكونة منها شخصيات النصب. فأيادي المناضلين الضخمة والتي تعبر عن الألم والإصرار على النضال جسد فيها الفنان كره الشعب للاضطهاد. ان هذه الشخصيات العملاقة يرمز بها الفنان إلى الشعب البطل المناضل ضد الجوع والفقر. الملاحظ في هذا النصب ان الفنان أجرى عمليات اختزال لبعض الأجزاء وذلك لكي يستطيع ان يؤكد على الأجزاء المهمة التي تبرز من خلالها قوة تعبيرية أقوى، وهذه إحدى الصفات المهمة التي تميز بها الفن السومري القديم."
د. شمس الدين فارس
               [المنابع التاريخية للفن ألجداري في العراق المعاصر] وزارة الإعلام ـ السلسلة الفنية (24) بغداد ـ 1974  ص52 وما بعدها


سيمفونية
    " نصب الحرية في الباب الشرقي لبغداد هو ختم اسطواني سومري مكبر من حيث فكرته , أما اذا أردنا تشبيهه بلافتة في تظاهرة كما يرى مصمم بناؤه وقاعدته (رفعت الجادرجي ) فسنقع بركاكة تجربتنا للشعور بفشل التصميم عموما . إذا أخذنا أي ختم اسطواني سومري ومررناه على لوح من الطين فسنحصل على نحت بارز مستطيل مؤلف من الشخوص والحيوانات والرموز يشبه إلى حد بعيد نصب الحرية هذا هو الذي منح نصب الحرية مشروعيته وأصالته العراقية .. عند النظر إلى النصب من اليمين إلى اليسار نرى كتلة نحتية يتبعها فراغ ثم كتلة نحتية أخرى  وهكذا ...ان هذا الارتفاع والهبوط يفتح آذاننا إلى صوت الطبلة الغجرية العراقية المتفردة من بعيد فهو صوت وفراغ ثم صوت ففراغ، ان هذه الحركة والتوقف والارتفاع والهبوط تجعلنا قادرين على اخذ أي جزء من الملحمة ومعاملته كعمل فني نحتي مستقل , لكن هذا لم يؤثر إطلاقا على النسق الفني التام والعلاقة الوطيدة بين كل أجزاء الملحمة عند النظر إليها كاملة مرة واحدة .. لقد حقق جواد سليم ذلك بقدرة فنية عالية , حيث سلم أجساد شخوصه بعظام غير مرئية عملت كمساند داخلية تعطي حركة وشكلا يميز كل المشخصات بصفة مشتركة تبعث الشعور بذلك النسق الفني المشترك العالي الذي نراه في النصب اليوم . ولهذا نستطيع النظر إلى النصب كاملا لنجد كل جزء فيه يكمل ويغني الآخر بجانبه في تكوين متماسك صلد . كذلك اذا توقفنا أمام نصب الحرية في بغداد لمسافة عدة أمتار عنه، ونسينا لدقيقة واحدة السياج القبيح في الأسفل والروائح الكريهة التي تخدش شمنا لغرقنا في شعور من الرغبة في التحرك والارتفاع والمشي بين شخوص المنحوتة ,, إنها أشكال درامية تحكي قصصا تدعونا إلى لمسها والحركة معها."
  د. محمد صادق رحيم
مجلة الثقافة الجديدة ـ العدد 292


جواد... جواد ... جواد ...

شمس بابل وقباب بغداد ونساء حماماتها
فتح لها كل الشبابيك هذا القادم من درب تبّانة
حين هبط في الرصافة.
كان قد رسم على جدران الزقاق المجاور
الأهلّة والنارجيلات ومويجات دجلة النزقة.
ثم راح الى امرأتنا البغدادية.
رسم هالات ضوء تنبض في الوجه.
جرّاوية الأسطه أراد وضعها على رأس انكيدو،
وانتزاع السهم من صدر اللبوءة.
عمل استراحة  تذكارية ،
وجلس مترنما مع الجالغي والمقام.
أمامه جاي سنكين ،
وفي الفم جكارة مزبّنة ،
وفي الرأس
بضع حكايات من شهرزاد
راح يستمع اليها الواسطي أيضا ،
رغم أنه دخل من زمان ، رواق المقامات
وأولئك الرجال والخيول
 والجدران التي أضاعت  جغرافيتها.
رفع ابن سليم فوق بغداده لافتة من رخام
أضاءتها شمسان -
كونية وتلك البابلية التي كانت قد شبّت في قلبه
 وطافت في كل أزقتنا القديمة.
أما دجلته فوصلت منعطف الزوّية
وهي تردد بحزن شفيف :
جواد ... جواد... جواد...

عدنان المبارك
باندهولم 26-  أيلول 2013


نصب الحرية ببغداد الرمز التكويني الأكثر غنى بين النصب المثيلة عالميا


     منذ لحظة الاشتغال الإجرائي وتجسيد القيم الإبداعية فيه، كان نصب الحرية في بغداد حالة استثنائية وسط غرابة ما تكتنفه المراحل التي مرّت عليه. صحيح أنّ ولادة النصب جاءت مع ثورة 14 تموز التي عبرت عن انعتاق الشعب من بنية مجتمعية شبه إقطاعية ومن حالات التخلف والجهل، إلا أن النصب يوحي لك بأنه قبس من سومريات الحضارة التي شيدت على ضفاف الشطآن الملأى بأمواه الخلق الأولى. أنت تتطلع ممعنا في النصب فتجد تلخيصا لأسطورة الخلق ولأساطير الإنسان السومري يبني وجوده بحكمة عقل متمدن، وبأذرع سمر ارتفعت فضاءاتها مشرعة كصواري السفائن التي تمخر عباب العواصف المتلاطمة وتنتصر عليها منعتقة من أسرها، متحررة من قيودها.. وإذا كان النصب يتميز عن إبداعات أخرى بذات العنوان كونه يقدم كينونته بانوراميا بحكاية أسطورية لمسيرة شعب لم يقبل لنفسه إلا أن يكون مهد حضارة البشرية الأمر الذي ارتقى بوعيه عاليا ليرفض أن يحيا بعبودية لعنف لحظة من الزمن قد تكون استغلت ظرفا لتحاول استعباده لكنها تفشل أمام إرادة من نيران الثورة والثوار يحطمون السلاسل والقيود.. إنّ هذه الميزة ليست ميزة مضمونية كأنها فكرة صماء بلا أدوات تقديم وعرض.. إنها ميزة تميز النصب في بغداد عنه في كل بقاع الدنيا بكونه ملحمة تشكيلية استثنائية لا تتكرر. من هنا صار هذا النصب قيمة جمالية بخصوصية محلية وبأجنحة تنشر مداها على مدى الفضاء الإنساني.. الأمر الذي يحول نصب الحرية ببغداد إلى رمز مفتوح للحرية لا تستطيع حدود أو جغرافيا أن تأسره. وهذا يعني لطلبة الفنون التشكيلية ولعلم الجمال إيقونة ودرسا خالدا سيبقى الفنانون يبحثون عن لحظة للفرجة واللقاء ليتمعنوا في عطاءات بلا حدود، عن دروس بلا منتهى، عن قيم متجددة تعايش الأزمنة والمراحل في كل مرة تثور على معطى المرة السابقة بجديد قراءة في عين مبدع أو عالم للجمالية...إن للعراقيين فخرهم في نصب الحرية كونه ينبوع عطاء ومنهلا مازال يمنح الحياة لقيم الحرية والانعتاق ويثير فيهم قيم الثورة وسيبقى الملتقى الجمالي والفكري الاجتماعي الذي تلتئم حوله الأنشطة بخاصة منها تلك التي تتحدث باسم المقدس الاجتماعي، المعبر عن الصوت الجمعي  الهادر للشعب الذي يأبى إلا أن يتجه في دروب الحرية لأنها دروب السلم والتقدم والحياة حرة كريمة.. ذلكم هو نصب الحرية في ساحة التحرير في العاصمة العراقية بغداد.. ذلكم هو ملخص كل نصب الحرية في العالم وهو ملتقاهم وموئل الدلالات الحافة لنصب الحرية بمختلف العواصم...


 أ.د. تيسير عبد الجبار الآلوسي
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا


السيمفونية

في شهر كانون الثاني 1961م، أصيب جواد سليم بنوبة قلبية مرة أخرى، وكان قد أصيب بنوبات متعددة أثناء دراسته في انكلترا وفي ايطاليا، عندما كان مرهقا بعمل نصب الحرية لثورة 14 تموز 1958م، واذكر انه شكا لي من الم في صدره ونحن في سيارتي قاصدين مطعم (الباجة) في شارع الشيخ عمر بعد منتصف الليل.
ادخل جواد بصورة مستعجلة إلى الردهة الثامنة في المستشفى الجمهوري، ولازمته هناك مع الدكتور سالم الدملوجي (صديقنا الحميم وأستاذ الأمراض الباطنية في وقت لاحق). وأجريت له كل ما تطلبه حالته، وكانت زوجته (لورنا) تلازمه طيلة الوقت.
غطوا وجهه الشاحب بقناع الأوكسجين وربطوه بأنابيب طبية متعددة. تحسن وضعه في الأيام الأولى لكنه أصيب بنوبة قلبية ثانية فجلل العرق وجهه ونزل ضغطه وبدا عليه صعوبة في التنفس وعطش للأوكسجين مع حالة من هذيان يصاحب عادة هذه الحالات. قال لزوجته: (تصوري إني أراك الآن ملاكاً .. تصوري أنت لورنا ملاك). ثم علت وجهه ابتسامة ساخرة اختفت فجأة وجمدت عيناه فتوقف كل شيء.
أصابنا الوجوم أنا وسالم ولورنا، ففصلتُ عنه أنابيب الأوكسجين والتغذية وهو بلا حراك، مات جواد ولم يتجاوز عمره اثنين وأربعين عاماً.
وانتقل بذاكرتي إلى غرفة الأموات المظلمة في المستشفى، وجسد جواد مسجى على منضدة (البورسلين) الأبيض، سال من الأعلى خيط نور صغير ليخترق الظلمة ويسقط فوق وجه جواد الشاحب.
وفي ركن الغرفة تجمعت ظلال الأصدقاء تبكي المشهد الكئيب: حافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وسعد شاكر ومحمد عبد الوهاب وباهر فائق وسالم الدملوجي وخالد القصاب. وانبرى النحات خالد الرحال يخفق بيده عجينة (البلاستر) يغطي بها وجه جواد ولحيته ليعمل منها قناعاً لوجهه والدموع تنهمر من عينيه، تكسر القناع عدة مرات لرداءة المسحوق، فأسرع سعد شاكر في الذهاب إلى معهد الفنون الجميلة لجلب مسحوق بديل، فأعاد الرحال عمل القناع مرة أخرى، وهنا أطلق باهر فائق صرخة من قلب الظلام: (خالد لاتخنق جواد)، وانخرط الجميع بالبكاء.
توفي جواد صبيحة يوم 23 كانون الثاني 1961م، وشُيع جثمانه بعد الظهر من معهد الفنون الجميلة في الكسرة بجمع مهيب إلى مثواه الأخير في مقبرة الاعظمية. ركب إلى جانبه بالقرب من التابوت في السيارة التي تحمل النعش فائق حسن واخو جواد سعاد سليم وإسماعيل الشيخلي وفرج عبو.
وسار خلف السيارة مشياً على الأقدام عميد معهد الفنون الجميلة وأساتذته والشاعر محمد مهدي الجواهري والفنانون وطلاب المعهد. وكان شكري المفتي معاون عميد المعهد قد اتصل بشباب الاعظمية لاستقبال الموكب استقبالاً يليق بما يستحقه من احترام.
غابت الشمس الحمراء خلف الأفق، وبقي لحن الكيتار الأخير من أغاني الفلامنكو الحزينة التي كان يعزفها جواد يرن طرياً في أذني، لم يذو مع السنين بل ظل يحكي لي قصة عبقرية نادرة انتهت بعد عمر قصير، ذهبت ولم تعود.
د.خالد القصاب

  العبقرية والأصالة في فن جواد سليم

   تنتابني الرهبة حين أتطلع في نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد ،واسأل نفسي يا ترى كيف بَنت عبقرية جواد سليم هذا الإنشاء النحتي العظيم الذي لا يضاهيه أي نصب رأيته في جميع تنقلاتي وسفرياتي ؟
لو نأخذ كل قطعة على حدة ونفتش بما فيها سنجد ان هناك تكوينات ومحاكاة مدروسة بإتقان شديد وكأن جواد سليم كان يريد ان يقول لنفسه وللتاريخ "سأجعل من هذا النصب العملاق لا مثيل له في الدنيا . وسأجعل منه سيمفونية خالدة كمسلة حمورابي ، ولم لا وأنا عراقي؟ ووطني فيه من كنوز الفن ما يعادل حضارات كاملة" اجزم ان جواد كان يدردش مع نفسه هذه العبارات وهو يضع السكيتشات ( المسودات ) أمامه ويحذف ويضيف ثم يدون ما يجب عمله..ثم يتخيل كيف يكون النصب وكيف ستكون رفع الستارة عن هذا النصب العملاق... جواد كان يحلم وينتشي بتلك الأحلام التي أصبحت حقيقة ، بل أحلامه أصبحت تاريخ خالد.
ولد جواد سليم سنة 1919 في أنقرة- تركيا حيث كان أبوه ضابط متجند في الجيش العثماني. كان الأب هاويا للرسم ويمارس هوايته عند الفراغ . نشأ جواد في تلك البيئة العائلية المحبة للفن فكانت أمه تمارس الفنون اليدوية، و للفنان جواد سليم اخوين سعاد ونزار وهما أيضا فنانان مرموقان في الوسط الفني العراقي، وأخت واحده اسمها نزيه وهي فنانة ومدرسة لفن الزخرفة والديكور في معهد الفنون الجميلة، وقد درستني عام 1965 و1966 حين كنت طالبا في المعهد وكانت علاقتي جيدة جدا معها . انا هنا أتذكر إنها أخذتني إلى بيتها مرتين و (كان موقعه قريب من المعهد ) للمساعدة بنقل بعض الحاجيات الفنية التي كنا نستخدمها نحن الطلبة في دراستنا الفنية، وكان هو نفس البيت الذي عاش فيه أخوها جواد سليم .كانت تلك هي فرصتي التي شاهدت فيها الأستوديو الخاص بجواد وهو بسيط ومتواضع وصغير على ما أتذكره الآن وفيه بعض معدات الفنان التي كان يستعملها .
لقد كانت والدة جواد الدافع الأول في نشأة فنانا العظيم ، فلقد شجعت ابنها على ان ينشأ بين الطين والشمع لصناعة التماثيل الفطرية التي يتلهي بها كل طفل لقضاء وقته بسعادة.
تأثر فناننا الراحل بالفن القديم لحضارات وادي الرافدين ابتداء من الفن السومري حتى الفن الأشوري وهذا ما يظهر جليا في قوة الإنسان العراقي المحطم للقيود في نصبه العملاق نصب الحرية. كما تأثر جواد سليم بالفن الإسلامي وخاصة فن الواسطي .
ان نصب الحرية هو بالحقيقة السيمفونية الأسطورية للفن العراقي المعاصر .فلقد غاص المايسترو جواد سليم في أعماق التاريخ السومري والاكدي والبابلي والآشوري حيث الأنغام الانسيابية والحس المرهف والقوة التي بنى عليها العراق حضاراته المتتالية.
كتب فنانا الراحل ما يلي عن نصب الحرية :"إنني في الوقت الذي أدعو فيه لخلق الفن العراقي الصميم أود القول باني لا أروم تحنيط العقول وتقييد الأفكار المتحررة، إنما أريد النظرة والانطباعة ". أما النظرة فهي ان نرى اللوحة بسذاجتنا وبباصرة أجسامنا، وأما الانطباعة فهي ان نراها بعقولنا وبباصرة تفكيرنا. فأنا مثلا عندما اعرض ما ارسمه على خادمتنا الصغيرة تفهم ان هذا التخطيط لقطة وذلك ( الاسكيتش) لرجل و الثالث لكمنجة هكذا ...وأنا في الوقت ذاته عندما اعرض هذه اللوحات نفسها على شخص تقمص روحية المثقف لما فهم منها إلا الشيء غير الموجود فيها. مرجع هذا ان الصغيرة نظرت لهذه اللوحة بسليقتها وبفطرتها ، أما المثقف فقد شاهدها ببصيرته المفكرة وأفقه الثقافي.
ويضيف في مذكراته أيضا حول نصب الحرية وهو يشبهه بالسيمفونية ويقول : " إنني كثيرا ما امثل دور النحات بالمؤلف الموسيقي . والمؤلف الموسيقي لايمكن ان يؤلف سيمفونية أو أوبرا الا بطلب حكومي او طلب إحدى الجمعيات الكبيرة، كذلك النحات لا يمكن ان يعمل غالبا إلا للحكومة او للجمعيات. وتشابه القطعة الموسيقية رسالتها النصب الموضوع في إحدى الميادين الذي يعطي فكرة نبيلة عالية لكل سائر".
وهنا اسرد ما ذكره الكاتب عباس الصراف في كتابه الشهير جواد سليم وهو يصف فيه قصة نصب الحرية:
" فرحلتنا الأولي قصيرة... زمانها عشرات السنين من القرن العشرين ،ومكانها ارض الرافدين ، وأحداثها صراع الشعب العراقي مع المغتصب وأعوانه، تبدأ بثورة العشرين، ثورة الفلاحين العراة إلا من أسمال تسترهم ، والجياع إلا من كسرة خبز تسد رمقهم . طال الصبر بهم فتجهمت وجوههم ، وعلاهم الغضب فسددوا نظراتهم بشزر . ديست كرامتهم فانتفضوا ثائرين على خيولهم الجامحة. زوبعة لولبية في بداية النصب قوامها حصان التف بجيده للوراء ورجل التوى ظهره يساند ذلك الحصان ،وقد ارتدى زي الفلاح العراقي، ثم يقابلهما رجلان مسك كل منهما بزمام، واندفعا بحركة مضادة عنيفة، ثم ذلك المحور الثابت الذي توسط تلك الزوبعة متمثلا بذلك الثائر الذي رفع يديه المقيدتين إلى الأعلى بقوة وشموخ محاولا ان يحطم بقيوده شيئا ما. عاصفة هادرة هبت من الريف لتوقظ المدينة فكان لها ما أرادت. فاندفعت الجموع برجالها ونسائها وحتى أطفالها بمظاهرات صاخبة وهتافات غاضبة ترفع اللافتات الصارخة متمثلة بتلك القطع التي علت أيدي الفتى والفتاة. وتتوسع رقعة المعركة وتتلاحم الجماهير فيضطرب الحكام وتحسسون مواقعهم المنهارة فيتشبثون بأقسى الأساليب وأشرس الوسائل في سبيل البقاء فتسقط الضحايا وتنصب المشانق وتمتلئ السجون، ولكن اليأس لم يعرف طريقه الى النفوس فالشعب يستعد بعد كل انتكاسة لجولة أخرى. وهكذا خاض الشعب مظاهرات وانتفاضات ووثبات توجها بثورة الرابع عشر من تموز بقيادة الجيش العراقي متمثلا بذلك الجندي الصارم الذي حطم قضبان ذلك السجن الكبير فأشرقت شمس تموز بقرصها المنير".
بقي ان نعرف ان بوابة ذلك النصب الذي وضعت عليه سيمفونية الخلود لفناننا الراحل جواد سليم هي من تصميم المهندس المعماري العراقي ذو الحس الفني رفعت الجادرجي. وقد شيدت من الاسمنت المسلح وغلفت من أجود أنواع المرمر المستورد من ايطاليا لكي تقف شامختا ضد العواصف والمؤثرات الجوية. ان عمليات صب القطع البرنزية عملت جميعها في ايطاليا وشحنت إلى العراق. و بقي ان نعرف أيضا ان قياس هذه البوابة المستطيلة الشكل يبلغ 50 مترا ويبلغ ارتفاعها 5 أمتار.
وأخيرا لا بد ان نتذكر ان جواد سليم قد صمم شعار الجمهورية العراقية بعد ثورة 14 تموز وقد أدخلت اللجنة المشرفة عليه بعض التعديلات ،وصمم شعار مصلحة نقل الركاب مقابل ( 15 دينار!) وصمم واجهة المصرف الزراعي عام 1953 بنحت بارز ( ريليف) تمثل الإنسان والأرض. عمل رئيس قسم للنحت في معهد الفنون الجميلة وتتلمذ على يديه خيرة النحاتين العراقيين البارزين ومنهم : محمد غني ،خالد الرحال ، محمد الحسني وهو أستاذي ، وميران السعدي ودرسني النحت أيضا في معهد الفنون وإسماعيل فتاح وطالب مكي وهو زميلي في مجلة مجلتي وجريدة المزمار وكان رئيس الرسامين في المجلة وعيدان الشيخلي ونداء كاظم وعبد الجبار ألبنا.

عادل ناجي
ألذات والامتداد : نصب الحرية

    ان محاولة الفنان العراقي اعتماد الحياة الباطنية الروحية في الإبداع ، هي مثال للديمومة التي تقر ضمناً مبدأ الحرية ، المُشتغل في حياة الصورة الفنية ، دون الاستغناء عن حياة الخارج ... فقد احتوت نتاجات الفنان " جواد سليم "  في النحت والرسم  ، على طاقات التعبير الخاصة بالجسد الأنثوي الخصوبي، الذي اعتبره الفنان رمز لمعنى هذا الوجود الخليقي مما فيه من إشارات للمثال وتعددية في القيم الجمالية والفكرية والحضارية ..؛ فمن خلال تخطيطاته التحضيرية نُلاحظ ان الفنان يمجد النزعة التعبيرية للكلمة والصوت والصورة لصالح الجوهر، لتستوعب مجريات الكيان الاجتماعي في المشهد الفني المشفـّر بالممارسات الإيمائية ؛ بمعنى انه كان مقتنعاً بالوظيفة الاجتماعية والثقافية لفنه ، وعلى وجه الخصوص في عمله الفني الرائع ملحمة (( نصب الحرية )) بتكويناته الاسطورية المُغلفة بالحداثة والذي اصطحبنا معه كالسندباد نحو الحريات ، يُترجم لنا زماننا ، ليسحبنا بعد حين بروحيته الشفافة ، نحو تأملات الصمت والأسئلة النبيلة التي تنتج الهوية ..؛ حيث صور الفنان في هذا النصب عذابات الجسد المنتصر في رحلة البحث عن الحرية ، وفق رؤيته الذاتية الحدسية ،المُشتغلة على الجدل والجدلية بين ثنائيات الوجود ( الأرض والسماء – الجسد والروح – المرأة والرجل – الأسود والأبيض – الحياة والموت ...) ، ابتداءأً من منحوتة الحصان الجامح المعبر عن  يقظة الإنسان المتطلع إلى الآتي ، ومنحوتة الأبطال الثائرين وهم في حركة هائجة باتجاه مركز ثقل العمل الفني ، بجانب الطفل الذي رمز له الفنان بالأمل ، مروراً بالأجساد المتهالكة التي تمثل  الضحايا ( الباكية – الشهيد – الام الولود – السجين السياسي..)  التي مهدت السبيل إلى الحرية المنتظرة ، وصولاً إلى فكرة السلام المنشود .    هذه الجدلية المتصاعدة والمحتفظة بجماليات المكان المتخيل ، قد جعلت المشهد  مُمتليء  بالقيم الإنسانية النبيلة والرموز الفكرية ذات المرجعيات الحضارية ، بجانب امتلاكه لحضوره الثقافي المشروع على صفحات التشكيل العراقي المُعاصر ، فقد صورت الاجساد المتراكبة ( الفتاة – الشهيد – الجندي – الثور – الشجرة – قرص الشمس ...) باسلوب بانورامي يعتمد التسطيح والتحوير لأجزاء المشهد لإحالتها إلى أشكال هلالية متنوعة ومتنامية حركياً عبر التفاعل المتصاعد ما بين المركز والأطراف ... فالفنان جواد مرتبط – على حد قول الأستاذ شاكر حسن آل سعيد – بالعقل الرياضي السومري الذي توصل إلى توطيد العلاقة مع  الحركة المحيطة بالسكون المركزي لأسباب خليقية تأملية بحته .
       فقد كانت لهيمنة الجسد المقدّس ، المستعير لخصائصه الفنية من مملكة الوجود في مشهد النصب ، قد أحدثت تحولاً فكرياً وجمالياً وأدائياً نحو الداخل ، بعد ان  كان الفن سابقاً موجه باتجاه الخارج (النموذج) ؛ اذ طرحت هذه المنحوتات ملامح وعي تشكيلي غير مطابق لايقونية الجسد .. فالجسد هُنا  قد استحضر الثقافة وصار يقود الذات باتجاه الحركة الكونية ، فلم يعد الجمال الحقيقي مُقتصراً على ظاهرية المرئي (الجسد) وإنما تعداه نحو الأعماق (الروح) ، لتكون وظيفة الجسد – على حد تعبير افلاطون – إيقاظ الحب ، الطاقة الكامنة فيه تبعث في الروح قوة مُحركة تسمو إلى المثال ؛ على اعتبار أن الجسد وإحالاته المُشفرّة بالحركة ضرورة داخلية لترجمة ما لم يُترجم .. فالفنان قد استعان بهذا الجسد من أجل الارتقاء بالمرئي إلى مديات بلا حافات ؛ بوصف إن الجميل لا يُرى إلا عندما يتموضع في جسدٍ ما .

     فموضوعة الجسد لدى جواد ، قد أصبحت تمثل نقطة تحول وارتكاز رياضي في فنه أولاً وثانياً في تاريخ الحركة التشكيلية العراقي المعاصرة ، تجعل من ألذات والخيال وجوداً حقيقياً يمتلك جوهر المرئيات قبل الولوج في تمظهراتها الجزئية ...؛ لان فكرة المرئي – على حد تعبير غوغان – هي التي تجعل الجسد ملائماً للرسم والذاكرة لا تحتفظ بكل التفاصيل الجزئية ، بل ما يُثير الروح والقلب فقط .. ومن هنا نلاحظ أن التكوينات الجسدية المتهالكة في هذا النصب ، تنتمي إلى الرمز أكثر من انتمائها إلى المكان ، كونها أطياف كُتب لها البقاء والحضور .
د. شوقي الموسوي

نصب الحرية لافتة

يا جسداً يحتضن الساعةَ أعراسَ الدم ...
ويصفِّقُ للشجرِ الراكضِ في الدرب إلينا ...
الليلةَ يُبعثُ كلُّ الشهداء ...
ينتظمون كراديساً سكرى تتلألأُ في الليل ...
يَطْلُونَ رؤوسهمو المصدوعةَ للذكرى ...
للشطِّ يغنون ... للسلم يغنون
للجبلِ العاصب غيماً بالعطر يغنون
للهور يغنيه بالمطبج
يكظم حيفا إذ يدبك يا اولاد الطاعون
سرّاق الماعون للهور استبدل بالقصب الخاوي
اغصان الزيتون يغنون
 يغنون ...
هشَّتْ في التحرير صدورٌ ...
همدت للنكرات قصور غرقى بالأفيون  ...
الشهداء الشهداء ...
الشهداء انطلقوا صخبين ...
حملوا نصب الحرية لافتة طافوا بشوارع بغداد البصرة اربيل الموصل
 صخبين يغنون ...
يافَرَحَ المنسيِّ أتيت ...
كلُّ جرار مدينتنا رشحت لهبا ...
صارت اسرابُ حمام الزاجل قوساً للنصر ...
والسحبُ السوداءُ شعاراً ثوريا ...
القاتل مقتول والسارق ملعون
فانفجر الإسفلتُ شموعا ...
والفرح المبهورُ دموعا ...
قل رائحة المسلخ تنأى ...
قل حافلة الموتى تنأى ...
وتعال نغن
أشهد أن العشق سلام ...
أشهد أن الموت سلام ...
اشهد أن اليوم القادم أحلى الأيام

  د.عبد الإله الصائغ

* من ديوان هاكم فرح الدماء  1974.

الشريد شاعراً-*ماجـد صالح الســـــــــــامرائي


                                                                     بغداد    1424 ه                                        2004م

بمثابة تقديم

الشريد شاعراً
(تخطيط بالكلمات ـ أو صورة جانبية للحصيري)

*ماجـد صالح الســـــــــــامرائي
(1)
ليس من الصعب، على من يريد، بناء صورة للشاعر عبد الأمير الحصيري أن يبنيها، ذلك لأن "تفاصيلها" محصورة بالشخص في حركة حياته اليومية التي هي حركة تحددت بين "ملاذات" النوم، والمقهى، والبار. فإن كان قد ولد، ونشأ نشأته الأولى في محيط آخر غير هذا، وإن تقارب معه ثقافياً، فإن "حياته الثانية" التي عاشها واشتهر "شاعراً شريداً"، ومات غريباً عنها، هي الحياة التي تعني قلم مؤيد البصام في ما احتفظت به ذاكرته من وقائع من المسارات اليومية للشاعر يدوّنها تدوين محب لهذا الشخص الذي كان يُواجَه بالنفور أينما حلّ أو جلس، من دون النظر إلى قامته الشعرية المديدة.
وبقدر ما كانت "حياته الأولى" حياة مسالمة وهادئة.. كانت "حياته الثانية" حياة صاخبة، كل شيء فيها يُعبّر عن عبث بالنفس ومع الواقع، ويُداخلها الشعور باللاجدوى، ما جعل من ينظر فيها نظرة تأمل يُدرك على التَّو إن الحياة التي مضى فيها، أو كان يمضي عبرها ومن خلالها، حياة أقرب إلى "حالة تتكرر"، وأن "الكائن الشريد" فيها إنما يمضي بنفسه، من خلالها، نحو الموت.. وليس من أجل الحياة...
فهو يوم جاء بغداد، نازحاً إليها من النجف، في آخر سنيّ خمسينات قرنها العشرين، كان أن جاءها بعدّتين:
ـ عُدّة الشعر بما يلزمه من بناء وتكوين فنيين..
ـ وعُدّة الرغبة المشبعة بتفجير ما في نفسه من طاقات الحياة التي كان له أن يختار أكثر وجوهها تعثراً، فاستسلم لضرب مما يمكن تسميته بـ"الصعلكة المنتهكة"...
وبالعدّتين كتب شعراً كان يزهو به، وهو الذي لم يعرف من سُبل الحياة سوى "سبيل التشرّد" الذي مضى فيه، ولم يقطع مساره عليه سوى الموت.
(2)
لو اتخذ "رسّام تعبيري" من الشاعر الحصيري في حياته اليومية "مادة/ موضوعاً"، وعمد إلى تتبعه، رسوماً، في حياته التي امتدت علاقات بالواقع بما فيه من أمكنة وناس، وتشرّداً بين مقهى، وشارع، ومشرب، وحديقة عامة (غالباً ما تكون، في أيام الصيف بخاصة، ملاذاً للنوم) يجعل منها "البديل التعويضي" عن سرير مهتز المفاصل على سطح فندق مهجور إلا منه وممن يندرج ضمن حالته، أو يقع في سياق قريب منها.. و"احتكاك قاسٍ" كثيراً ما يقع له مع الآخرين، تاركاً "آثاراً لونية" في الوجه وعلى اليدين منه، ما يجعل من غير المتعذر على هذا الرسام الوصول "صيغ" و"أشكال" و"ألوان" تجعل مما يُنجز، في هذا الإطار، معرضاً متكامل الموضوع، والأسلوب، والرؤية الفنية...
وأكاد أقول: لم يكن من السهل الإبقاء عليه شاعراً خارج هذا "التكوين"، وهو الذي لم يكن يُحيط نفسه بسياج من "الوقار الكاذب"، كما فعل سواه من الشعراء المتهتكين من الداخل. ولقد كانت "نواة حياته" هذه نفسها "نواة شعره" في ما لقصيدته من تحقق إبداعي متفوّق فنياً.
(3)
ليس الكلام في شعر الحصيري بالسهولة، أو ببساطة الكلام في حياته التي أخذت :نمطها اليومي" هذا. فإن كان قد عاش حياة يمكن اختزالها ببضع جُمل (أو كما اختزلها هو في قصيدته: أنا الشريد)، فإن شعره بخلاف تلك الحياة: سعة رؤية وانفتاح أفق...
وعلى الرغم من أن جانباً كبيراً من الشعر الذي كتبَ ـ وقد كتب الكثيرـ كان يُطلق فيه أصوات الحياة المكبوتة داخله، والمتفجرة حزنا ً لا يُدركه اليأس، فإنه كتب ملتفتاً إلى الوطن، واقعاً وإنساناً، مقابسا ً، في بعض ما كتب، المعاني الكبرى لهما/ فيهما.. ومما جاء في هذا السياق قصيدته التي توقف فيها عند مأثرة وطنية كبيرة: الفنان جواد سليم وعمله الشمخ الخالد تاريخاً: "نصب الحرية". وقد ابتعد في الذي كتب عن التكرار، قولاً ورؤية، وخصّ القول منه بتلك اللغة التي تفردتْ عنده ببنائها المتين بما يستدعيه "معجمه الشعري" من لغة لها خصوصية التجربة التي يُصدر عنها، والتي كانت "تجربة معاناة" أكثر من كونها "تجربة حياة". فهو وإن أصدر في كثير مما قال عن تلك الحياة التي لم يكن الآخرون يرون لها إلا وجهاً واحداً، فإن المعاناة المعبَّر عنها هي العلامة الشعرية الفارقة التي جعلت لقوله أبعاد معناه ـ كما تمثَّلَ في قصيدته "يا باسل الحزن"، وفي قصائد أخرى انفردت بخصوصية موضوعاتها.
(4)
كانت حياته حياة تشرّد يومي بامتياز، وكان في أحيان منها يطوي ليله بنهاره فيها... غير عازم على شيء سوى ما هو فيه.
وأما شعره فيمثل لحظة إبداعية في شعر مرحلة نادرة التكرار: فهو كما كان يعيش تجربته  بحيوية وتفاعل يصلان به حدّ الانقسام على الذات (بين حياة هازلة وشعر جاد)، كان يعيش لغته في تراثيتها التي تتلامس وما له من آفاق ورؤى..
كتب بمعاناة، كما عاش حياته بمعاناة.. ولعله الشاعر الذي جعل للتشرد، و"للحياة ـ العبث" تمثيلاتهما. وكما انثالت صور "الشريد" عليه وهو يتوجع بحالته، تداعت لغته بعفوية تشدّ الانتباه.
(5)
ولكن هناك حالة افتراق بين حياته مساراً يومياً، وقصيدته مبنىً شعرياً، فهي قصيدة محكمة التركيب، متماسكة البناء فناً.. الموقف الذاتي للشاعر هو جوهر الفعل الشعري فيها... بخلاف حياته التي كانت تحكمها "الفوضى اليومية" بكل ما لها من إطلاق. ولعل أجمل ما كتب من الشعر هو تلك القصائد التي كان، هو نفسه، "متنها الموضوعي".
(6)
ليس في قصيدة الحصيري من تفارق بين التشكيلين الداخلي والخارجي.. بل هناك مستوىً موضوعي تتحقق فيه شخصيته الشعرية بحركتها الحياتية اليومية المضطربة، وباضطرابات الحياة اليومية بها.. وإن بمستوى فني عالٍ. لذلك نجد "الحراك السردي" لكل من قصيدته وحياته على توافق وانسجام.
(7)
لا أعتتقد أن "الفطرة" انعقدت لشاعر، حياة وشعراً، كما انعقدت للحصيري. فقد عاش حياته بنفسه، ولنفسه، ومضى مع تلك الحياة بقبوله لها وادمانه عليها ـ من دون أن يأبه لرفض الآخرين لها وازدرائهم بها...
وبالفطرة ذاتها كتب الشعر، وإن كشف شعره عن موهبة كبيرة وثراء لغوي كان يُطوّع التعبير عنده لما يريد من القول. لذلك لا نجد في قصيدته جملة شعرية متلكئة، ولا ضعفاً يشوب التعبير.. بل كان بالغ الرهافة حتى في تعبيره عما عاش من حياة كانت قاسية الوقع عليه، وهو الذي وجد الطُرق تهرب من أقدامه إذا ما عليها مشى...
(8)
وإذا كانت حياته هذه قد جَنَتْ على وضعه شاعراً، إذ غمرت بعدميتها اليومية ما كان لقصيدته من خصائص القول، فإننا اليوم نُقبل على قراءة ذلك الشعر بمعزل عما أحاط بتلك الحياة من صخب، ورافق خطواته حيثما سار، وعلى أي طريق قطع... ذلك أن عبثيته المفرطة كانت في كثير الأحيان تكشف عن لا مبالاته بالحالتين معاً: حالة الحياة التي استسلم فيها إلى "تشرّد نوعي" في سلبيته، وحالة الشاعر الذي لم يكن حرصه واضحاً على أن يكون بشعره/ ومن خلاله، على الرغم من تماسك لحظته الشعرية فيه، والتشكيل النوعي لبنائه الفني، ورصانته لغة وتعبيراً.
وكما كانت حياته "مشهدية الصورة"، كانت قصيدته، هي الأخرى، تعتمد مثل هذا "التكوين المشهدي" الذي يعمل قلم البصام على أن يستجمع بعضاً من تفاصيله، وليس كلها، في الصفحات التاليات.

                                                     
بغـداد: 20 نيسان 2015


الأبيض إكسسوار الروح... والرقص انتشاؤها-مؤيد داود البصام










الأبيض إكسسوار الروح... والرقص انتشاؤها

                                                -  مؤيد داود البصام

  أسماء مصطفى.الممثلة والمخرجة .

       تعتبر الفنانة أسماء مصطفى، من الفنانين الذين لهم حضور على خشبة المسرح الأردني، وحازت على عدة جوائز لأدوارها، كان آخرها مسرحية ( صبح ومسا) للمخرج غنام، وهي وان عملت مع الفنان المخرج غنام غنام في أهم مسرحياته ، إلا أن لها شخصيتها المستقلة على صعيد الأداء، وإن أختلط الحلم بينهما فناً وحياتاً، وكانت أولى تجاربها لارتقاء خشبة المسرح مع الفنان العراقي المخرج سليم الجزائري،  في مسرحية ساحر أور، ثم قدمت أعمالاً إلى جانب تمثيلها في مسرحيات متعددة ومتميزة،  ففي عام 2009 أخرجت أول عمل مسرحي للأطفال،  وأخرجت عام 2010 أول مسرحية للكبار، وهي مسرحية (سلَيمى ) ، ولم يقتصر عملها على الإخراج،  بل قامت ببطولة المسرحية، وكتبت نصه الذي ولفته من ثلاثة نصوص،  وهي مسرحية (انتيجونا) لسوفكليس الإغريقي، وكتاب (نسيم الروح) للحلاج، ومن ديوان محمود درويش (حضر الغياب)، وخاصة قصيدة ( لاعب النرد )،  لتخرج بنص مسرحية (سليمى )، وهي موضوعنا .
  النص بتحولاته الثلاثة
       الخ.مسرحية انتيجونا لسوفكليس، مساحة واسعة في عروضها العالمية، وأعاد كتابتها الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت، لتعبر عن وجهة نظره، وقدمت برؤى متعددة، ومثلت في سياق تأويل رؤية المخرج الذي يقدمها، ففي الأرجنتين عرضت لتعبر عن الآلام التي تعانيها الأمهات وثورتهن في ميدان ( دي مايو ) وهن يحملن صور أبنائهن الذين اختفوا على يد الحكومة الأرجنتينية المرتبطة بالمخابرات الأمريكية، وما قامت به من تعذيب وقتل واختفاء لأولادهن،  وبرزَ العمل نضال النساء الثائرات ضد الظلم والقوانين المتعسفة لقهر الشعب، فالمسرحية بما تحويه من أفكار تحمل الصرخات الإنسانية ضد الظلم بصوت انتيجونا،( ولدت لأحب لا لأبغض )، وهي قابلة لان تقدم هذا التفسير في حالة الثورة والتمرد على القوانين الجائرة، والحاكم الظالم في إي وقت وعصر،  فانتيجونا تحدت السلطات ورفضت إن تذعن لها بعدم دفن جثة أخيها، وضحت وذهبت مختارة للموت لإنقاذ روح أخيها، وقدمت المسرحية على خشبة اغلب المسارح العربية برؤى مختلفة، ومنهم من أخرجها كما هي حسب كلاسيكيات المسرح دون إضافة أو تأويل ومنهم من قدمها بتأويل وإخراج حدا ثوي، أما شهيد التصوف الإسلامي الحلاج، (كما سمته وخلدته الأدبيات)، الذي أكتسب شهرة واسعة لأنه حوكم جوراً ونفذ فيه حكم الموت بصورة بشعة، لموقفه من السلطة الحاكمة بصورتيها المدنية والدينية، فقد عبر في أشعاره أو أقواله، عن الوله في العشق الآلهي، والذوبان  شوقًاً للقاء المطلق، ومجد في أشعاره الحب والتوق لحياة الآخرة، مفضلا إياها على حياة الدنيا الفانية،  واقتبست أقواله من كتاب ( نسيم الريح ) ، وإذا جاء التوليف الثالث من أشعار محمود درويش الشاعر الذي شكل مراحل ومتغيرات متعددة في شعره على مدى عدة عقود من حياته الزاخرة بالعطاء، وروح التمرد التي حكمت شعره على كل ظلم، كان آخرها بما أتسمت أشعاره بالرؤية الفلسفية الوجودية للحياة، ومقارباته المبنية على الالتزام الإنساني للمصير البشري، وتجد في إشعاره إلى جانب الرؤية الفلسفية، لفكرة الحياة والموت والنصر والهزيمة، الإيحاءات والإدخالات  للموروث والتراث الشعبي والأساطير، وحسب رأي كاتبة النص والمخرجة فإنها وضعت رؤاها على أساس وحدة المصير الذي ارتبطت به نظرة الشخصيات الثلاث إلى  قضية الحياة والموت فتقول ( من هنا جاءت التوليفة بين تلك الشخصيات وما يربطها من قواسم في فلسفة الحب والحياة وعشق الموت، والثلاث ذهبوا باختيارهم لقدرهم )، وقد اختارت شخصية (سليمى) لتكون بديلا عن انتيجونا، وتنطق بما قاله الحلاج ودرويش، في ثنائيات إنسانية متعددة، الحياة والموت،  الحب والكره، العدل والظلم...الخ .
       الإخراج      
       اتكأت المخرجة في بناء فضاء العمل على التجريد، في محاولة لإعطاء إبعاد الرؤية الفكرية، لرؤى وفلسفة النصوص التي أخذت منها، وجرها على الواقع الذي نعيشه، ضمن مفهوم ( حياة المرء منذ خروجه من رحم الموت حتى رجوعه إليه مرة أخرى )، تبدأ المسرحية بمشهد بصري، يصور خروج الإنسان من الرحم،  (قبره الابتدائي)، وتنتهي بعودته إلى القبر بعد حياة حافلة بالعذابات والتساؤلات من جدوى الرحلة، تبدأ الحياة بصرخة الطفل خارجا من سجنه وتنتهي بصرخة الوداع، " من الموت إلى الموت " ، وبما أن النص يستند أساساً على نص للمرأة  قوة الحضور، اهتمت المخرجة بمنح المرأة هذا البعد الدلالي، الذي هو ثمرة الثقافة الحداثوية، فعالم المرأة عالم الخيال والسحر والأحاسيس الخفية، عالم تتوق فيه المرأة للتمرد على القيود التي تكبلها، فجاء متوازيا مع توق البشرية للتمرد على قيود الجسد للانطلاق نحو المطلق، فأخذت جسد الممثل التمثيلي لتدمجه بالحركة المليئة بالطاقة، كما تأخذ بها الطرق الصوفية وبالذات الطريقة الملوية، التي تجعل الراقص مركز العالم وكل شيء يدور من حوله، وليس كما نتصوره في دورانه، وكأنه هو الذي يدور حول الأشياء، ففي حركته يعزل الجسد، وتتحرك الروح للاتحاد  مع الكون فلا يعود للجاذبية حكم عليه، وفي هذه الرقصة التي تمثل ألتوق للانعتاق وتحقيق النشوة للوصول إلى المطلق، يمثل الرقص الدينامكية المحركة لهذا الشوق، وقد اعتمدت المخرجة هذا البناء في مسرحيتها، وجعلت الكلمة منفصلة تأتي من البعد المادي للمؤدين، وكأنها تأتي من عالم الروح الخارج عن سلطة الجسد، في محاولة لاستكمال العناصر الرمزية التي حاولت خلقها، فكان لحركة الجسد الفيزيائية أهمية كبيرة في خلق هذه الأجواء، كما أنها استخدمت الديكور المعبر عن الرحلة التجريدية للحياة، بان جعلت كل شيئا بسيطا، وأخذت اللون الأبيض لون الروح بشفافيتها ونقائها، لينسجم مع نشوة  الرقص، استطاعت المخرجة أن تقدم عملا ، تحرك فيه روح التساؤل والفعالية الجمالية، وظلت الأسئلة التي تؤرق الإنسان، هي المحور في العرض . أشترك معها في تقديم العمل، (تأليف موسيقي) مراد وجوزيف دمرجيان، موسيقى عبرت عن الفهم للروح الصوفية لحراك المسرحية، كما نجح محمد الرواشده في التواشك بين إشاعة روح النقاء بالبياض والإضاءة البسيطة ولم يغرق السنوغرافيا في ألوان السبوت لايت، وكان  الغناء بصوت مي حجارة، ومحمد طه إيقاعات مع سليمان الزواهرة، إضافة لمشاركة الفنان ياسر المصري الذي سجل إشعار درويش بصوته، حضور واضح في البناء التعبيري الذي عمل عليه الجهد الإخراجي، مع عموم السنوغرافيا .

وجهة النظر في النص والإخراج
       إذا أخذنا النص بتوليفته بشكل عام، فهو محاولة للربط بين عصور مختلفة ولمجتمعات مختلفة، ولكنهم يشتركون في البحث بنظرة واحدة إلى قضية وجود الإنسان، في مسألة الحياة والموت التي أرقت البشرية ولم يصلوا بها  إلى حل، ولكننا إزاء اختلاف وجهات النظر في توظيف هذه الحقيقة بين كاتب وآخر، فإذا كان سوفكليس وظفها لأجل التضحية والإخلاص والتحدي، والوقوف ضد الظلم، مع صرخة انتيجونا "( ولدت لأحب لا لأبغض )، فان الحلاج نظر لها من زاوية مختلفة، هي انعتاق الروح من الجسد للوصول إلى المطلق، لأنه يرى الدنيا زائلة والآخرة باقية، لهذا فان أفعال الروح محكومة بإمكانية قوة الإرادة والإيمان وإلا وقعنا بالخطيئة إن لم نحسن التصرف، والحب الآلهي والتوحد معه هو الذي يجنبنا الانزلاق، وهذا التوحد يغمر الإنسان بفيض، لا يعود للأشياء المادية مكانا لها قي وجوده، حيث يقول " يانسيم الريح قل للرشا \ لم يزدني الورد إلا عطشا \ لي حبيب حبه وسط الحشا \ لو يشاء يمشي على خدي مشى ". في الوقت الذي تتمثل الرؤية الدرويشية المستقاة من وجهة النظر الفلسفية الوجودية للحياة، الفلسفة التي تمجد وجودية الإنسان الفرد، كونه المكون لمعنى وجوهر حياته، ويملك حريته الفردية في تقرير مصيره، وأكدت على قابلية الإنسان على الثورة، لأنه يعيش أزمة عصره، لوجوده في عالم القهر والاستلاب، ولعدم أمكانية أن يخرج من هذا الانغلاق الذي وضع فيه،  فان الثورة ولدت للرد على هذا القهر، ولتوكيد قدرة الإنسان على مقاومة العدم، وهو ما يوضحه الاستشهاد الذي أخذته من الجدارية لدرويش، " هذا البحر لي \ هذه الهواء لي \ لي جسدي المؤقت \ حاضرا أم غائبا \ متران من التراب يكفياني ألان \ التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله \ يلقي عليهم نظرة ويمر" ،  إذن لدينا ثلاث وجهات نظر لمسالة واحدة، وأن كتب المفكر الراحل عبد الرحمن يدوي، بحثا في البرهان لإثبات إن الوجودية هي شكل من إشكال التصوف، بأنساقها التي ظهرت فيها على أكثر من صعيد ومنطق ومكان، وهو ما حاولت كاتبة النص توليفه ليعطي معناً واحداً، ولكن الرؤية المضببة في هذا التطابق،  لم يتحقق على صعيد النص، ولم يستطع النص أن يوصل لنا ما أرادته كاتبته، في قولها، " الحقيقة الوحيدة هي الموت " ، وهي مسلمة لا يختلف عليها اثنان، ولكن ما تعني في منظورها الآني، هل هي دعوة لاستمرار الثورة ضد الظلم، أم أطروحات الرأسماليين وقادة ما بعد الحداثة، بقلب الأمور وجعل نضال الشعوب والأمم إرهاب، وما تقدمه الدول الإرهابية وقادتها القتلة، هو الديمقراطية والحب والسلام تحت مظلة الرأسمالية، فجاءت العبارات متداخلة متباعدة المنطلق، ولم توضح الاتجاه الذي تصب فيه، وهو ما جعل العرض لا يمنحنا الغ الشكل، وهو ما حاولت المخرجة من سد هذه الثغرة بتكثيف حركة الجسد على العبارة المنطوقة وجعلت العبارة، تحاور الفكرة من خلال الأغنية والصوت الخارجي، ولكن البعد الدلالي للحركة الجسدية، حكمته انطلاقتان رؤية الحلاج الانعتاقية الروحانية، وفكرة الثورة ضد الوقائع الحسية لانتيجونا ودرويش، وعلى الرغم مما بذله الراقصين، حنين العوالي، أسامه المصري ,حنين طوالبه، ريما دعيبس، علاء السمان وعبد الله العلان، ألا إن هناك ضعفا في الانسجام في وحدة الحركة بين المجموعة، التي حاولت المخرجة أن تبرزها كنص يمثل وحدة الحال، أو كحركة لتثبت المعنى التعبيري الذي اشتغلت عليه، فعندما بدأت أغنية سُليمى في الدقيقة تقريبا الثلاثين، عادت الفرقة الراقصة إلى نقطة البداية في حركاتها ولم يتغير إلا حركة الممثلة الرئيسية، فما المعنى التعبيري الذي أراده الإخراج، إن لم يلخص لنا ما توصل إليه في نهاية الثلث الأخير للعمل، لفهم الرموز وتطابق المعاني للنصوص، فما هو المعنى الرمزي إذا عادت بالتعبير إلى نقطة البدء ؟ كما أن الممثلة الرئيسية استحوذت على المسرح وأضعفت الممثل المقابل لها (بلال الرنتيسي ) على الرغم مما بذله من جهد ليجاري الممثلة الرئيسية، فهي قدمت جهدا رائعا، ولكنها أخذت من مساحة زميلها .
الخلاصة
      أن وجهة نظرنا في النص والإخراج، لا تحل محل الجهد الرائع الذي بذل في العمل من قبل الفنانة أسماء مصطفى وجميع العاملين في المسرحية، على صعيد النص أو الإخراج أو التمثيل أو الراقصين وبقية مكملات المسرحية، فالعمل جدير بالملاحظة والاهتمام، لان الفنانة أسماء مصطفى طرقت بابا ليس من السهل الولوج إلى داخله ، فالثلاثة الذين أخذت منهم،  يشكلون رؤى إشكالية على صعيد المعنى والرمز، على مدار قرون وعقود كفلسفة حياة، أو معاني رمزية، لوجود الإنسان وصيرورته، وهي النقطة التي يمكن أن تعطي أكثر من معنى ورمز، ومن الصعب حشرها في أفق ضيق، لان فيها أتساع لا محدود .



أسماء مصطفى.الممثلة والمخرجة .

غالب المسعودي - موطا(قصة سُريالية)

الأحد، 17 يناير 2016

أختام*-عادل كامل

















أختام*


عادل كامل
[1] سحر المثلث: التفتت والتجمع
    ليس الفن نزعة فردية، ذاتية، موصدة الباب والنوافذ، أو تعمل بالية لا يمكن عزل الاجتماعي فيها عن البيئي، والكوني، ولا عزل الوظيفي عن اللغز الذي يكمن في ما لا يحصى من علامات الفن أو الشبيهة بالفن، فيه.
   ها أنا أتخلى  عن حساسية الألوان، للهندسة، واجد إني تحولت، تلقائيا ً، إلى: رأس رمح، إلى هرم، والى مثلث. فالإشكال العضوية، غير المنتظمة، المختلفة أو المتوازنة في عشوائيتها، غابت لصالح الهرم/ المثلث.
   أتراني استعيد ـ واستعير، المسمار القديم، لأصنع منه علامة محاصرة بحرية العلامات، ليس للتمييز، بل للاختزال، لكن الهرم قد سبقني بخمسة آلاف سنة: رمزيته ـ وقانونه معا ً. بل هناك من يرى إن شكل الكون، ليس بيضويا ً، أو دائريا ً، أو محددا ً، وهناك من يراه بلا حافات، إنما مثلثا ً.
   ها هو (أنا) ـ أنا تحديدا ً ـ أجد حياتي لا تمتلك ابعد من اختيارها لقيودها: مثلثات متعددة المسافة، بمعنى ما: حرية أن استبعد أي تعريف لللامعقول ـ أو  اللا متوقع ـ فانا انتظم، في كل خطوة، بمثل هذا الاختيار. وعندما قلت: ليس الفن نزعة ذاتية، فقد قصدت  التحدث عن خطوات تواكب اثر القدم فوق الأرض: وجودي بين الموجودات.
   وقد اعترض ـ حالا ً أو بعد حين ـ على هذا التأويل، فالنوع، ومنذ تشكل الوعي (الدماغ) كان الخطاب الهندسي قد غادر اللا احتمال، والعشوائية، وأسس: قراه، طرقه، وأدواته، منها المجسمات/ الرسومات/ الفخاريات. وليس باستطاعتي أن أوعز هذا كله إلى: الوهم. فالأشكال لم تكن سابقة على تشكلها ضمن علاقاتها بالمرئيات، والدوافع، مع إن هناك كويكبا ً هيأته على شكل مثلث، يرجع وجوده إلى بضعة مليارات عام قبل وجودنا البشري. ولكن الأشكال الهندسية لم تصبح عنصرا ً طاغيا ً، بل جزءا ً من الكل. وهنا اكتشف حتمية (اللا ـ شكل)، أي هذا الذي تنقصه الحافة/ الحد. ولا استعين إلا بالنسبية، في إعادة قراءة الأشكال. فالمثلث غدا جزء ً ـ من كل، ضمن الذي لا حدود له، وخارج نطاق الوعي الهندسي، واللغوي، أو أية وسيلة للتبادل، حيث يفقد (لغزه) ويغدو لا فرديا ً، من غير موضوع، ومن غير ذات. فالمثلث رأس بشري، مثلما هو فبر يحتمي الجسد به، انه الطريق إلى الهدف الذي ترك أثره فيما يصبح الهدف محفزا ً لاواعيا ً للقبول بهذا النظام، حتى في حالة العمل على دحضه.
   ليس الموت عدما ً، أو دائريا ً، أو انفصالا ً بين الوعي وما هو ابعد منه، وليس هو خاتمة أو مقدمة، ليس مستطيلا ً كقبر، أو رمادا ً، أو أثيرا ً ...الخ، انه احد أشكال: اللا ـ شكل، بمعنى انه غير القابل للتحديد، وما تم رسمه، ليس إلا مرور (الذات/ الجماعة) بالاتجاه الذي يصعب تحديد مساره، أو غايته.
    ها أنا أبدو إني لم أغادر نسق المركز البكر: ذلك الصياد ـ كما هو لدى النبات ولدى الحيوان ـ وقد شكل نظامه. فأقدم أداة للقتل اتخذت شكل السهم: أيسر أداة للاختراق، اختراق الهواء أو القلب، إنما، وأنا أعيد تأمل مثلثاتي، اكتشف صمتا ً تاما ً غير قابل للاستنطاق، أو التأويل. فحتمية اللا ـ شكل، وبمعنى ما حتمية الزوال، والتحولات، ليست إلا ما لا يدرك، وقد استحال إلى ممر، وعلي ّ، بعد تشذيب الهوس بالرموز أو التصوّرات، رؤية الكل ـ على صعيد المجتمع ـ كجسد تكونه الأعضاء، بوظائفها، وان أكون توازني، وضمنا ً ـ عدم فهمي إلا بحدود الأشكال ـ في اللا ـ شكل، لكن هذا يؤكد نفيه: إن المثلث ليس إلا علامة تتضمن دوافعها، مما يصفها، مرة بعد مرة، في الخطاب بتعددية تأويلاته، وليس بتأويل أخير.
    فالجسد ليس ـ هو ـ مجموع أعضاءه، كي يكوّن المركز (الصياد أو زعيم الجماعة أو القائد) شكله الأبدي. ليس لأن كل عضو يمتلك استقلاله، وأيضا ً: تمرده، كي يعرض المركز للتفتت، والزوال، بل هو اللا ـ شكل، عبر هذا (الظل) كوسيط بين المصدر وبين الأطراف. هو ذا المثلث، بجلاء، كحرف في كلمة، داخل عبارة، في كتاب لا نهاية لصفحاته، مثله مثل الموروثات الهندسية، تؤدي عملها كما تدافع الشجرة عن وجودها بفرز مادة تبعد العدو ـ بالسم أو بالروائح، كي تكمل دورها، من غير ذاتية خالصة، إلا بحدود كونها خضراء، أو لها أشواك، ولها تاريخها في التطور.
     فانا اصنع مادة ما لها هذه الوظيفة، بعد أن غدا الوعي إستراتيجية تستجيب للديمومة، من غير نكوص، وإلا  لتوارى مصدر (الومضات)، وانتفى دور (الختم)، مما يجعل وجود (الأشكال) بحكم العدم. فالمثلث ـ حاضر بين حضورين، وليس خارج أداة الحكم، أو بمنأى عن أدوات الاكتشاف.
   فإذا كانت المجرة (مجرتنا) لها شكلها، كما للشمس، وللأرض، فان الشكل الحقيقي، للكل يصبح يجري بيننا، من أنظمة اتصال، لغة، أو أصواتا ً أو رموزا ً أيضا ً. فالمثلث أخيرا ً حقا ً شرعيا ً لمكونات: الجسد/ الهرم، ولأي نظام آخر من أنظمة الحكم.
   فها أنا استجيب لصناعة شكل محدد تحت مؤثرات عالم تتشكل متغيراته ـ وتحولاته فوق بركان. فليس ثمة، أخلاقيا ً، ما يدعوني اذهب إلى السرير، وأنا على الحياد، فانا كظيم. وفي اليوم التالي ساجد يدي ّ، مثل رأسي، كلاهما يتوخيان تنفيذ هذا: الاحتجاج. فالمثلث، ضمنا ً، كالعضو في اللا جسد: قراءة رماد توارى تاريخه فيه. فهو أداة اعتراض، ولكن ليس للسيطرة، بل للتحرر منها.
* تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.