الأربعاء، 21 مايو 2014

الفن الاستشراقي في مرحلة التجليات الأخيرة- *أوراس زيباوي


الفن الاستشراقي في مرحلة التجليات الأخيرة


*أوراس زيباوي
مرة أخرى يعود الفن الاستشراقي الى الواجهة مع المعرض المقام في «متحف الفنون الجميلة» في مدينة بوردو الفرنسية تحت عنوان «استشراقيات». يضم المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات التي تؤرخ للفن الاستشرافي منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين. كل اللوحات هي من مجموعة «متحف بوردو»، وتبيّن كيف أنّ الفن الاستشراقي لم يشكل في الواقع تياراً فنياً محدداً، بل هو تعبير عن حساسية جديدة نشأت في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية بسبب التحولات الكبرى التي شهدتها الأزمنة الحديثة وطاولت مجمل مظاهر الحياة والثقافة.
هناك أولاً الحركة الاستعمارية وتمدد القوى الغربية في الشرق كما الحال مع احتلال فرنسا للجزائر عام 1830. أما الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال بونابرت عام 1798 فقد أعادت مصر الى واجهة الحدث العالمي ومهدت لاكتشاف الحضارة الفرعونية التي ما زال الفرنسيون الى اليوم مفتونين بها. هناك أيضاً العلاقات الثقافية والتجارية بين الشرق والغرب على رغم الحروب الصليبية وتمدد الإمبراطورية العثمانية. فالشرق هو أرض الديانات السماوية وهو أيضاً مهد الحضارات الأولى، وقد استوحى المبدعون على مر العصور من علومه وفنونه وآدابه. وفي القرن الثامن عشر، ترجم أنطوان غالان حكايات «ألف ليلة وليلة» التي لاقت رواجاً كبيراً ودفعت بالكثيرين الى السفر الى الدول العربية والإسلامية.
يكشف المعرض أيضاً جانباً آخر يتمثّل بأنّ فنانين كثيرين تمكنوا من السفر الى الشرق تبعاً لارتباطهم بالبعثات الديبلوماسية والعسكرية التي تعاظم دورها في القرن التاسع عشر، ومن أشهر أولئك الفنانين أوجين دولاكروا الذي شكلت رحلته عام 1832 الى المغرب محطة مهمة في مسيرته الإبداعية. لقد رافق البعثة الرسمية الفرنسية التي عيّنها الملك لويس فيليب للقاء حاكم المغرب مولاي عبدالرحمن. وفي المغرب تمرّد دولاكروا على القاعدة الكلاسيكية في الفنّ التي تفصل بين الرسم واللون، وصار اللون معه هو الرسم. وكان هذا الفنان من أبرز ممثلي التيار الرومنطيقي في الفن الفرنسي، وكان مأخوذاً بمناخات الشرق وما تولده لديه من دهشة وجماليات جديدة. صحيح أنه تناول في لوحاته ورسومه التخطيطية التي أنجزها في المغرب المواضيعَ التي تطالعنا في الكثير من اللوحات الاستشرافية، كمشاهد الفرسان وهم يمتطون أحصنتهم ومجالس النساء والمناظر الطبيعية المتوسطية والعمارة المحلية، غير أنه كان مجدداً في تقنيته وفي تناوله لهذه المواضيع وطريقة التعاطي معها، وكذلك لفهمه العلاقة بين اللون والرسم، مما مهّد للتيار الانطباعي.
وإضافة إلى دولاكروا، تطالعنا في المعرض أعمال فنانين آخرين ينتمون إلى المدرسة الرومنطيقية. وتمثل السنوات الممتدة بين عامي 1850 و1860 العصر الذهبي للفن الاستشراقي، وفيها برزت مواهب كلاسيكية وأكاديمية، ومنها الفنان جان ليون جروم الذي حظي بشهرة كبيرة في حياته، وقد زار مصر وفلسطين والجزائر وتركيا، وكان يعدّ في هذه الدول رسومه التخطيطية ثم يقوم بتنفيذها وتلوينها في محترفه في باريس.
لا يغطي المعرض القرن التاسع عشر فقط، بل يتجاوزه إلى القرن العشرين، تحديداً المرحلة الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الأولى وعام 1960. وهنا لا بد من الإشارة الى الدور الذي لعبه المبنى المعروف باسم «دار عبداللطيف» في الجزائر العاصمة، وهو قصر صغير جعله الفرنسيون منذ مطلع القرن العشرين مقراً لإقامة الفنانين الفرنسيين الذين يرغبون العمل في الجزائر. وهذا ما يذكّر أيضاً بالدور الذي لعبته «فيلا ميديسيس» في روما والتي ما زالت الى اليوم تستقبل المبدعين الفرنسيين. في عام 1967، صنفت «دار عبداللط يف» كأحد الصروح التاريخية المهمة، وهي اليوم تابعة لوزارة الثقافة الجزائرية. ويملك «متحف الفنون الجميلة» في بوردو مجموعة من اللوحات والرسوم التي أنجزها فنانون أقاموا في «دار عبداللطيف» ومنهم ليون كوفي الذي استقر في الجزائر حيث حاز عام 1907 جائزة «دار عبداللطيف».
تغيب عن المعرض أعمال هنري ماتيس الذي زار المغرب عام 1912، ثم عام 1913، وقد أحدث اكتشافه لهذا البلد تحولاً كبيراً في مسيرته الفنية، لكن تحضر في المقابل أعمال فنانين آخرين مميزين منهم ألبير ماركي المولود في مدينة بوردو. وكان ماركي صديقاً لماتيس وعاشقاً للسفر، وزار المغرب وتونس وكذلك الجزائر التي صارت وطنه الثاني. وكان يقضي فيها برفقة زوجته، سنوياً ولأكثر من ربع قرن، فصل الشتاء. وترك عدداً كبيراً من الرسوم واللوحات التي نفذها في الجزائر واختزل فيها الطبيعة المتوسطية بأبهى تجلياتها. إلى جانب أعمال ماركي، تحضر أعمال راوول دوفي الذي كان الشرق، بطبيعته وفنونه، مصدر إلهام له.
يختصر هذا المعرض مرحلة تاريخية كاملة واكبت حركة الاستشراق الأوروبي عندما كانت في أوجها. ومن الجوانب المهمة في هذا المعرض أيضاً أنه يقدم أحياناً صورة عن عوالم وصروح اندثرت في الشرق، وهذا هو الجانب التوثيقي فيه، إضافة الى الجانب الجمالي.
_________
*الحياة

الاثنين، 19 مايو 2014

حقائق عن تواضع قادة الغرب- كاظم فنجان الحمامي

حقائق عن تواضع قادة الغرب


كاظم فنجان الحمامي

الحديث عن تواضع قادة الغرب لا نهاية له، وربما يطول بنا بقدر ما تتحفنا به الوقائع اليومية المذهلة، فيبهرنا تواضعهم الجم في سلوكهم وملبسهم ومأكلهم وبساطتهم، ما يمنحهم التفوق على غيرهم نحو الارتقاء في مكانتهم العالمية، بعدما اتخذوا من التواضع جسراً لتحقيق العدالة الإنسانية، فقمة التواضع أن يضع الزعيم نفسه عند من هم دونه،  وأن أرفع الزعماء قدراً من لا يتعالى على شعبه، وأكبرهم فضلاً من لا يرى فضله عليهم.
يعد الرئيس (خوسيه موخيكا) أفقر رؤساء الغرب الأمريكي, لأنه يتقاضي مرتباً شهرياً لا يزيد على (12500) دولار. لكنه يتبرع بنحو (90%) منه، ويحتفظ بأقل من (1250) دولارا فقط. يعيش (موخيكا) مع زوجته (لوسيا) في كوخ ريفي صغير. أما سيارته الرئاسية فهي عربة قديمة من طراز (فولكس ووكن) المحدبة الرخيصة، التي لا يزيد سعرها على (1945) دولار، وهو النوع الذي اختفى من شوارع العراق، ولم يعد له وجود، فهي عندنا أرخص من (الستوتة).
وضرب لنا وزير المالية البريطاني (جورج أوزبورن) مثلاً رائعاً في التواضع، عندما أستقل (من دون قصد) مقصورة الدرجة الأولى في القطار المنطلق من مدينته، وكانت معه تذكرة الدرجة الثانية، فأجبره مفتش القطار بالانتقال إلى عربات الدرجة الثانية، أو الامتثال لقانون خطوط السكك الحديدية بدفع رسوم الغرامة، مقابل السماح له بالبقاء في مقعده. قال له الوزير أن القانون يجيز له بالتمتع بتسهيلات عطلة نهاية الأسبوع، التي تسمح لركاب الدرجة الثانية بالجلوس في مقاعد الدرجة الأولى، فرد عليه المفتش: نعم هذا صحيح لكن العطلة لم تبدأ إلا بعد منتصف ليلة الغد, والساعة الآن تشير إلى الرابعة عصراً، فاعتذر منه الوزير, ودفع له الغرامة المقررة. لم يتردد المفتش في تطبيق القانون، ولم يجامل الوزير، ولم يخشى بطشه.
وفي بريطانيا أيضاً استقالت وزير الرياضة (ماريا ميلر)، التي اتهمتها الصحافة بالتبذير والإسراف وسوء الإنفاق، وكل القصة وما فيها أنها أنفقت مبلغ أقل من ستة آلاف جنيه من حسابها الخاص. بمعنى أنها لم تسرق المال العام, ولم تتهرب من دفع الضرائب، لكنها امتثلت للرأي العام، وتقدمت باستقالتها إلى رئيس الوزراء (دافيد كاميرون)، الذي قبلها وكلف بريطانياً مسلماً بالحلول مكانها في الوزارة, هو (ساجد جاويد).
ولا مجال للمقارن بين موكب الزعيم الهولندي (مارك روتتي) المؤلف من دراجة هوائية واحدة، وبين مواكبنا الخرافية المؤلفة من مجاميع كبيرة من السيارات المدرعة والعربات المصفحة والدراجات النارية، تحلق فوقها أحياناً أسراب من طائرات الهليكوبتر، وربما الطائرات المقاتلة.
وفي بريطانيا اكتشف رئيس وزراؤها (ديفيد كاميرون) إن دراجته الهوائية أسهل له وانفع وأسرع في التنقل، ولا تكلفه شيئاً، فحذا حذو نظيره الهولندي، وتجول بدراجته في ضواحي مدينته. يمارس (كاميرون) حياته الطبيعية بلا حراس, ولا رجال أمن, ولا بودي غارد, ولا يتبعه الانتهازيون والوصوليون, ولا تسمع أهازيجهم الولائية المستنسخة: (بالروح بالدم نفديك يا كاميرون)، فالناس هناك يتعاملون معه مثلما يتعاملون مع بعضهم البعض، من دون حواجز ولا موانع ولا فوارق وظيفية أو طبقية.
هؤلاء كلهم من خارج مجتمعاتنا. لا يدينون بديننا الذي أوصانا بالبساطة والتواضع، ولا ينتمون إلى قوميتنا العربية، التي زرعت في قلوبنا حسن التعامل مع الناس. لكنهم تمسكوا بالثوابت الإنسانية النبيلة، واختاروا البساطة سلماً مهذباً للوصول إلى قلوب الجماهير، فاكتسبوا حب الناس بالرفق والتعامل المرن، ونالوا حب الله وحب العباد بالابتسامة الرقيقة والكلمة الطيبة.
أمام هذه النماذج من الزعماء الذين يتوزّعون على أكثر من بلد غربي، تمرّ مشاهد وأسماء زعماءٍ لا ينفكّون يتمسّكون  بالسلطة، وكأنّها إرثٌ أزلي لهم. يورّثونه لأبنائهم. ينقلونه من جيل إلى  جيل. يعملون بلا كلل ولا ملل لزيادة ثرواتهم، التي تتّخذ من المادة وأشكالها عناوين عريضة تميّزهم عن غيرهم من الفقراء والمسحوقين.

الأحد، 18 مايو 2014

تخطيطات قديمة للفنان غالب المسعو cut

النمور فێ الیوم العاشر-زکریا تامر



النمور فێ الیوم العاشر


زکریا تامر
رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص ، ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف، وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: "إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد. انظروا الآن إلى هذا النمر. إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير، ويصبح وديعاً ولطيفا ومطيعا كطفل صغير، فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين لا يملكه، وتعلموا".

فبادر الرجال إلى القول أنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض، فابتسم المروض مبتهجاً، ثم خاطب النمر متسائلاً بلهجة ساخرة: " كيف حال ضيفنا العزيز؟".
قال النمر:"احضر لي ما آكله فقد حان وقت طعامي".
فقال المروض بدهشة مصطنعة: "أتأمرني وأنت سجيني؟ يا لك من نمر مضحك! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا اصدار الأوامر".
قال النمر: لا أحد يأمر النمور".
قال المروض: "ولكنك الآن لست نمراً. أنت في الغابات نمر، أما وقد صرت في القفص فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء".
قال النمر بنزق: "لن أكون عبداً لأحد".
قال المروض: "انت مرغم على إطاعتي لأني أنا الذي أملك الطعام".
قال النمر: "لا أريد طعامك".
قال المروض: "إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه".
وأضاف مخاطباً تلاميذه: "سترون كيف سيتبدل فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة".
وجاع النمر، وتذكر بأسى أيام كان ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه..
وفي اليوم الثاني، أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: "ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم. قل انك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم".
ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: "افعل ما أقول ولا تكن أحمق. اعترف بأنك جائع فتشبع فورا".
قال النمر: "أنا جائع".
فضحك المروض وقال لتلاميذه: "ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه".
وأصدر أوامراه، فظفر النمر بلحم كثير.
وفي اليوم الثالث، قال المروض للنمر: "إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، نفذ ما سأطلب منك".
قال النمر: "لن أطيعك".
قال المروض: "لا تكن متسرعاً فطلبي بسيط جدا. أنت الآن تحوص في قفصك، وحين أقول لك : قف، فعليك أن تقف".
قال النمر لنفسه: "انه فعلا طلب تافه ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع".
وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: "قف".
فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح : "أحسنت".
فسر النمر ، وأكل بنهم بينما كان المروض يقول لتلاميذه "سيصبح بعد أيام نمرا من ورق".
وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: "أنا جائع فاطلب مني أن أقف".
فقال المروض لتلاميذه: "ها هو قد بدا يحب أوامري"
ثم تابع موجها كلامه إلى النمر: "لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط".
فكظم النمر غيظه، وقال لنفسه: "سأتسلى إذا قلدت مواء القطط".
وقلد مواء القطط فعبس المروض، وقال باستنكار: "تقليدك فاشل. هل تعد الزمجرة مواء".
فقلد النمر ثانية مواء القطط، وكلن المروض ظل متجهم الوجه، وقال بازدراؤ: "اسكت اسكت. تقليدك ما زال فاشلا، سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغدا سأمتحنك . فإذا نجحت أكلت ، أما إذا لم تنجح فلن تأكل".
وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين. ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.
وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: "هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج".
قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: "عظيم أنت.. تموء كقط في شباط".
ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.
وفي اليوم السادس، ما ان اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط. ولكن المروض ظل واجما مقطب الجبين، فقال النمر "ها أنا قد قلدت مواء القطط".
قال المروض: "قلد نهيق الحمار".
قال النمر باستياء: "أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك".
فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.
وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعاً، وقال للنمر: "ألا تريد أن تأكل؟"
قال النمر: "أريد أن آكل".
قال المروض: "اللحم الذي تأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام".
فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: "نهيقك ليس ناجحاً، ولكنني سأعطيك قطعة من اللحم اشفاقاً عليك".
وفي اليوم الثامن، قال المروض للنمر: "سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق اعجاباً".
قال النمر: "سأصفق".
فابتدأ المروض القاء خطبته، فقال: "أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالايمان سننتصر".
قال النمر: "لم أفهم ما قلت".
قال المروض: "عليك أن تعجب بكل ما أقول وأن تصفق اعجاباً به".
قال النمر: "سامحني. أنا جاهل أمي، وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي".
وصفق النمر، فقال المروض: "أنا لا أحب النفاق والمنافقين، ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك".
وفي اليوم التاسع، جاء المروض حاملاً حزمة من الحشاش وألقى بها للنمر وقال: "كل".
قال النمر: "ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم".
قال المروض: "منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش".
ولما اشتد جوع النمر، حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويدا رويدا.
وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.

قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل

قصص قصيرة جدا ً





عادل كامل




[1] سر
سأل التمثال النحات، بعد ان أنجزه:
ـ لماذا ألصقتني وأضعت ملامحي وحولتني إلى اثر...؟
أجاب النحات بصوت هاديء:
ـ ليس لدي ّ مأوى أتوارى فيه سواك!
فقال التمثال:
ـ فضحت سرك!
ـ بل أنا هو من أخفى سرك! فمنذ الآن لا أنا ابحث عنك، ولا أنت تبحث عني، فكل منا لن يرى الآخر بعد اليوم!



[2] استغاثة
ـ استغث...!
ـ كي تعيد ما سلب مني، وما خسرته...، لتمد بعمري، كي أر ما لم أره من ....؟
ـ بل كي أمنحك الضوء...!
ـ جميل، جميل حقا ً، كي أرى ان الظلمات، وحدها بلا حدود، وكي أدرك، مرة أخرى، أنني لا اقدر على عمل شيء!
[3] خوف
ـ لماذا لم تعد تخاف مني...؟
ـ من أنت؟
ـ الم تعرفني..؟
ـ وهل أنا مضطر للخوف من ..، من...، من اسمه لا يقترن بالكلمات، ولا بالمسافات، ولا بالأنوار ...؟!
ـ أحسنت؟
ـ على م َ هذا الإحسان...، وأنت تراني لم اعد أخاف حتى من الذين دمروا حياتي ...، فهل تطلب ان أخاف من الذي ليس هو بالنور، ولا بالمسافة، ولا بالكلمة التي تذهب مع الريح!
[4] سؤال
  سألت المرأة زوجها الكاتب:
ـ اخبرني، انك قبل نصف قرن، وعدتني باختيار مهنة غير محنة الكتابة...، التي لم تكسب منها إلا المرارات، والشتائم، والخسائر...، ولكنك لم تفعل...؟
ـ في الواقع، كان اختياري لها، مثل اختياري لك ِ!
ـ لكنك طالما اعترفت لي ان عصر الكتابة في طريقه إلى الزوال؟
ـ كما هو عصر الرجال!
ـ تقصد .. زماننا؟
ـ وهل لديك قدرة على عزل لا حافات الظلمات عن هذا القليل من الضوء؟

[5] رجاء
    ذهب إلى (الموت) وطلب منه:
ـ أرجوك، اعتقد انك تأخرت كثيرا ً...
ابتسم الموت وسأله باستغراب:
ـ ما شأني أنا..؟
فقال بصوت خفيض مرتجف:
ـ لم يستجب الرب لطلبي، وأنا ارجوه ان يأخذني!
قال الموت:
ـ إن لم يستجب الخالق لطلبك، فهل استطيع ان أحقق لك ما لم يحققه؟
ـ ولكني، كما تعلم، وفي يوم ما من الأيام، سأموت!
ـ غريب أمرك، فما الداعي إلى هذا الاستعجال..؟
ـ كي اكف عن رؤيتك، فلا أجد أحدا ً يفزعني!
ـ يا شيطان، فهمت الآن سر طلبك مني!
ـ ماذا فهمت؟
ـ ان تسلبني سلطتي!
[6] عبوة ناسفة
    عندما اكتشف وجود عبوة ناسفة زرعت بجوار نافذة غرفته، أبى ان يخبر أحدا ً بها، ولا حتى السلطات الأمنية، بل انتظر غروب الشمس، كي يذهب إلى المكان الذي طالما كان بؤرة للقاء المسلحين، واخبرهم بأنه قد يكون غير مرغوب به...، أو انه ارتكب خطأ ما، فانا ـ قال لهم ـ ليس لدي ّ ما اعترض عليه، وبإمكانكم إجراء الحساب معي بعيدا ً عن الآخرين، في ظلمات هذا الليل.
ابتسم كبيرهم وسأله:
ـ ولكن قل لنا لماذا لم تخبر السلطات ...؟
أجاب من غير تردد:
ـ بل لم اخبر حتى الله!

[7] انتخابات
ـ هل أدليت بصوتك؟
ـ نعم.
ـ من انتخبت؟
ـ الله!
ـ غريب، هل تنتخب من لا علاقة له بهذا الأمر.
ـ وأنت من انتخبت؟
ـ الشيطان!
ـ غريب...؟
ـ ما الغريب وهو المسؤول عنها!
8/5/2014

السبت، 17 مايو 2014

محمد قريش .. نصوص تلقائية متروكة إلى الآخر !!-

محمد قريش ..
نصوص تلقائية متروكة إلى الآخر !!






  د.شوقي الموسوي
     مابين القراءة والفهم في حدود المشهد التشكيلي المُعاصر في العراق مابعد الحرب ، تواجدت أبجديات الثقافة البصرية المحتفلة بالتأويل والتدليل والتحليل والتركيب والتي اهتمت بانتاج الاسئلة النبيلة من خلال اقتراح تكوينات بصرية ذات منحى تجريبي ، من قبل الفنان المعاصر في العراق بشكل عام وفناني المهجر بشكل خاص ... قبل أيام أشتبكت الذائقة البصرية مع نتاجات الفنان التشكيلي العراقي محمد قريش المغترب في هولندا  والذي قدم معرضه الشخصي على أروقة صالون أكد للفنون ببغداد وبواقع 30 عملاً فنيا وبمختلف الاحجام والتقنيات ...حيث قدم الفنان تجربته الفنية ذات النزعة التجريدية الخالصة والمتوشحة بتقنيات طباعية عالية الحساسية والتعبير..احتفلت تكويناته بالتلقائية الانية وايضاً بالاثر وجمالياته بفعل عمليات التحزيز والتسطيح والترميز والاختزال والتجريد على أرضياته الطلائية ذات العجينة الكثيفة ، فاقترح خطوط وأشكال غير منتظمة وخربشات تقترب من الذاتية الآنية بعيداً عن سلطة العقل لاجل الامساك بالاطياف .هذه التجربة تعد مكملة  لتجارب الفنان السابقة لما لها من منهجية تجريدية خالصة في البحث والتنقيب عن ماورائية المرئي وكوامن وطاقات الاثر ومايحويه من جماليات تقنية تسمح لذهن التلقي من ان تسيح فوق الواقع  في عوالم الصمت الجميل عوالم ملؤها السلام والاحلام .الفنان محمد قريش القادم من عزلته الاوربية من هولندا جاء الى وطنه يستنشق بعضاً من الذكريات من ألوان وملامح لامكنة أختفت بفعل الاحتلال وأزمنة جديدة تفتح الحوار مع الماضي فتنتج نصوصاً تشتغل على فعل التناص والتفوق على الواقع لاتلتزم بالمعنى الموضوعي بقدر احتفالها بالذاتية والفردانية الخالصة واحتوائها على الافكار والجماليات المتراكمة في ذهن التلقي ليترك الفنان  مسالة تأويل مشاهده التصويرية الى الآخر ليصير المتلقي مشاركاً في العملية الابداعية بعد ان كان مستهلكاً في الامس .  



فن الحاضر و اشكالية التحول من الخلق الى ( الانتاج )- علي النجار


فن الحاضر و اشكالية التحول من الخلق الى ( الانتاج )
 
علي النجار
 




سعت ما بعد الحداثة ومنذ بوادر ظهور اختلافاتها الأولى في العقد الستيني من القرن الماضي إلى القضاء على اسطورة الطليعة (الأفان - كاردزم) الحداثية, من خلال تجاوز أطروحاتها الفلسفية والأسلوبية الجمالية، سعيا لإلغاء التمركز على الأنا بجذره الأوربي. لكن لم يكن للإلغاء من معنى, بقدر كونه تفكيكيا وتجاوزا للمنجزات الحداثية الأولى. فالدادائية الجديدة هي الوليد الشرعي لدادا عام(1917). لكن ان كانت الدادائية الأولى عدمية, بسبب من الإحباطات النفسية التي افرزها الهوس التكنولوجي الميكنني, و تداعياته الاقتصادية التي تسربت من تحت خطوط الرفاهية الزائفة الطافية على السطح في نهاية القرن التاسع عشر. فان بشائر وتداعيات الحرب في العقد الثاني من القرن العشرين قضت على سلوكيات الرفاهية لصالح الشك وعدم اليقين. الدادائية وصمت كل معايير الثقافة والفنون السابقة بالدجل والرياء. لكن ثورتها العبثية أطلقت العنان لحرية الأداء والتصور الحداثي بدون شروط وخارج كل الأطر, وكانت الشرارة التي حصدت ما قبلها, لتوقظ ما بعدها .
الدادائية الجديدة, حالها حال العديد من اتجاهات ما بعد الحداثة الفنية, هي الأخرى من نتائج عدم اليقين التكنولوجي. أو نقيضه, اليقين المفرط. وكإيهام عصري تقني يتجاوز افتراضيته. فان كانت الدادائية الأولى تلصق أجزاء اللا فكرة عشوائيا. فان جديدها يبعثر الأفكار في فضاء افتراضي أوسع وأعم.
ما بعد الحادثة هجرت علم النفس الحديث, في بعض من أطروحاتها, وبالذات شق التداعيات الحلمية لفرويد و يونغ. من اجل أحلام أخرى خضعت لمنطقها الخاص المحدد, كفن عرقي(فن السود) أو جنسي(النسوية والمتحولين جنسيا والمثليين) وليتحول المسكوت عنه إلى العلن, ضمن الفوضى الخلاقة بشقيها: المعلن عنه, والمتستر به. وغير بعيد عن سلوكيات اقتصاد السوق العولمي التي تجاوزت(المقدس و المدنس), وأباحت الجسد مجرد مؤدي(بروفانس), وليس مستعرضا. وكان الفعل( هابنس) ومنذ بداياتها الأولى حضورا فنيا اجتماعيا. كما النص(كونسبت) والفيديو - ارت, والإنشاءات المختلفة(انستليشن). وضمن غلبة التصور الإيهامي(ألمفاهيمي) على الواقعي. فان كانت الآلة في الزمن الحداثي الأول ( التاسع عشر) تروس صلبة تدور وتطحن البشر حتى كارثة الحرب الكونية الأولى.فان التقنية باتت اقتصاديات ناعمة غير مرئية تمر عبر شبكات الأثير. وبات العمل الفني أثيرا هو الآخر في بعض من عروضه وتقنياته.
دشن مانيه في لوحته ( فطورعلى العشب) حداثة نهاية القرن التاسع عشر وحرر العمل الفني من مضمونه المقنن ضمن مرجعيته التاريخية, أو مدلولاته الواقعية. منذ ذلك الوقت والفنانون حريصون على إقصاء المرجعيات أو مراوغتها. ما عدى فناني الشرق الأوسط ونظرائهم اللاتينيين والشرق أقصى. إذا تجاوزنا الفن المؤدلج الذي بقي في إسار مرجعية سابقة. اعتقد أن مانيه في عمله هذا هو الذي مهد لعصر الصورة الحديثة المكتفية بذاتها.



عصر الصورة السينمية التي أخذتها السريالية لريادة خفاء العالم لا وضوحه. كما في(الكلب الأندلسي) ليونيل ودالي. وكما في صور( مان راي) و عشيقة بيكاسو( دورا مار) وغيرهم, واحدث منهم. فان كان الغموض الحداثي بعض من نتاج السريالية. فان ما بعد الحداثة هي الأخرى صنعت أساطيرها الواضحة والغامضة, على الضفة الأخرى من ممارسات الفكر البشري. وحيث الآلة التقنية الرقمية. أو مواد العمل نفسه, هي التي تمارس دورها الإبداعي. وما الفنان إلا مجرد روبوت, في حالات كثيرة, تابع لتنفيذ اقتراحاتها. لقد باتت التقنية المختبرية في العديد من نتاجات الفنانين هي الحكم على جودة النتاج. وبات التخصص التقني مطلوبا في تنفيذ المشاريع الفنية, سواء الفردية او الجماعية. لقد انتهى الدور الريادي للفنان الصانع المتفرد, ضمن مشاعة الاشتغالات الفنية. وبات الفنان صاحب البصمة المتميزة, سلعة نادرة. لقد حققت ما بعد الحداثة ديمقراطية اشتغالاتها. وبات الفنان الأكثر انتشارا والأعلى سعرا هو هدفها النهائي. ونجحت في تحويل الفنان من خالق ( كما الزمن الحداثي ) الى مجرد منتج غالبا ما لا يختلف عن غيره إلا في بعض التفاصيل وفي القدرة على تسويق عمله. او قدرة السوق الفني على تسويقه.

* الوهم الافتراضي الأول: الاكتشاف الأول للأطباق الطائرة في تكساس الأمريكية في عام(1947), أي بعد الحرب الكونية الثانية وكوارثها التقليدية والذرية! اكتشاف ملحق أو الحق ليخدم ويغطي على نتائج الحرب, حسب ما اعتقد.



* الوهم الافتراضي الثاني: اكتشاف(زكريا ستيثسن) بان(الأنانوكي) آلالهة السومرية, هبطوا من السماء, ثم غادروا الأرض عام(1700) قبل الميلاد بعد أن تركوا كتاباتهم وعلومهم المتقدمة حضاريا إرثا للبشرية, وبعد أن تزوجوا من نساء العراق وخلفوا, وهم العمالقة !
ان كان الافتراض الأول, كان مجرد تلفيق لخدمة أغراض سياسية, كما اثبتته الوقائع المتأخرة. فان الافتراض الثاني هو الأخر اعتقده تلفيقا لإلغاء الصفة التاريخية الحضارية لسكان جنوب العراق القدماء, وربما لنفس الأسباب. فلحد الآن لم يكتشف من آثار العراق الا القليل حسب رأي علماء الآثار, ولعلنا نجد في المطمور منه حلا لهذا اللغز. المهم أن افتراضات الكائنات الفضائية استولت على مساحة واسعة من الثقافة الفنية الصورية لزمننا المعاصر. بالتزامن والتقنية الروبوتية. وبتوقعات حصول كارثة كونية, أو محاولات لتلافيها. محاولة صناعة هذه الأوهام العلمية والتنبؤية. هي بعض من انجازات ما بعد الحداثة في شق عدم اليقين الفلسفي, ومن ضمنه تجاوز معطيات التاريخ.
منذ بداية الستينات والسؤال المعرفي الفني يؤرق فناني العراق والمنطقة العربية. وكانت الحلول في جاهزية التزاوج مابين الأصالة ( المنجز الفني التاريخي ) والحداثة. وكان حضور الوعي التاريخي طاغيا في أعمالهم الأولى سواء التشخيصية أو الحروفية الشكلية. فهل كانت حلولهم الفنية هذه صائبة بالنسبة إلى زمنهم. اعتقد بما أن الحداثة العالمية وصلت للمنطقة متأخرا نسبيا. ولكي لا يطفو الفنان العراقي أو العربي في فضاء عائم. فكان النسب التاريخي حافز لهم لتأصيل النتاج الفني, ضمن هوس التأصيل, ولو ببعض من الملامح. من خلال معالجة المفردات التاريخية والمحلية بأسلوب حداثي لا يلغي انتمائه للحداثة العالمية. ولا يفقد السمات المحلية في نفس الوقت. وفي النحت كانت أعمال ( جواد سليم ) و ( إسماعيل فتاح الترك ) خير مثال لذلك. بل باتت تشكل إيقونة فن النحت العراقي الحديث.
توفي جواد سليم في عام(1961). وتوفي إسماعيل في عام(2004). جواد لم يشهد الحرب. وإسماعيل شاهد ثلاثة حروب. لم تخل منحوتاتهم من ملامح أثرية رغم حداثتها. وان كانت رسوم جواد تنتمي للعقود الأولى من القرن العشرين. فان رسوم إسماعيل كانت تعبيرية محدثة, مثلما بعض منحوتاته الصغيرة أو الفخارية.



من جيل النحاتين العراقيين الجديد, الثمانيني ( أحمد البحراني ) الذي تتلمذ وتأثر بأستاذه النحات التجريدي ( عبد الرحيم الوكيل ) الذي كان متأثرا بدوره بمدرسة النحت الانكليزية الحديثة. أحمد أعلن اختلافه بمنحوتات لا تشخيصية ( تكوينات شكليه استدارية ) من الحديد, بصياغات متعددة. لكن, وبما انه من جيل الحرب ( كما أطلق على جيل الفنانين العراقيين في زمن حرب الثمان سنوات. العراقية الإيرانية. وشاهد على الحرب الأخيرة (تحرير أو احتلال العراق ) عام(2003 ). وما تبعها من تعرض العراق لموجات الإرهاب والفساد الإداري المستمر. وبتأثير من كل ذلك ارتبط مفهوم الحرب والإرهاب( المتداول ) في ذهنه. وكان من نتائجه انجاز مشروعه النحتي( ماذا لو ) الذي شارك في معرض بازل ميامي العام الماضي.
ماذا لو :
نفذ النحات السويدي(كارل فردريك روترسوارد(1)عمله النحتي البندقية المعقودة, متأثرا بحادثة اغتيال صديقه عضو البيتلز(جون لينون) كإدانة للاغتيال, والحرب متمثلة بأسلحتها, مشروع اغتيال جماعي. ثم تحول عمله إلى إيقونة للسلام, نصب في أكثر من مدينة عالمية. عالج( روترسوارد ) واقعة واضحة المعالم. أحمد البحراني لم يكن كذلك. لقد اخترعت تلفيقات كثيرة لإسقاط النظام الدكتاتوري العراقي.



لكن بالمقابل لم يكن التغيير إلا إعادة لصياغة دكتاتوريات لطوائف متعددة. وضاعت الحقيقة أو الوضوح, ضمن مساحة تعدد التبريرات واختلاط التصورات المصالح والمفاهيم. ولم تبق غير حقيقة واحدة, هي استمرار الحرب او الحروب الداخلية. أو حسب مصطلح ما بعد الحداثة الجديد: الإرهاب.
بيكاسو, الأم تيريز, مندلسون مانديلا, رونالد, غاندي, مايكل جاكسون. شارلي شابلن. سبعة شخصيات ايقونية حداثية وما بعد حداثية, بعضهم ترك بصمة على القرن العشرين. في مجالات متعددة, أو مستويات تتراوح مابين ذروة الإبداع, وما بين الأداء الشعبي. لكن يبقى قاسمهم المشترك هو مجال الإبداع الإنساني السلمي. أحمد استل هذه الشخصيات من محيطها من اجل ان يعالج قضية الحرب, وليس السلم. صنع منها جنودا محتضنين أسلحتهم. فالعالم بات في نظره مجرد غابة والوجود أو المجد للسلاح فقط, ليس للدماغ. هذا ما استخلصه من درس حروب العراق. وإذا كانت هذه الشخوص المختارة من الضفة الأخرى تنكبت السلاح. فماذا بقي للإنسانية كي تمارس وظيفتها.
في عرض بينالي مدينة كوتنبرغ السويدية( خيارات السياسة وتحديات المعارضة) في عام(2007) الذي تناول موضوعة الحرب والإرهاب. وفي مساهمة لفنان روسي, عرض خمسة تماثيل برونزية ذهبية لأطفال عراة بخوذ حربية حاملين أدوات موسيقية في وضع استعداد هجومي. كان هدف الفنان تهجين الفعل الحربي, شخوص وأدوات هي ابعد ما تكون عن فعل الحرب. أحمد كرر هذا الفعل المفهومي, لكن بأدوات الحرب نفسها. فهل من الممكن تصور الأم تيريزمحاربة. أو غاندي أو مانديلا و بيكاسو وغاندي,وحتى مايكل جاكسون بمظهره المبهرج, لكن ربما نتصور رونالدو محاربا. رغم كونه يحارب بطريقته الخاصة في ساحات كرة القدم. لكنه بالتأكيد لا يفضل أن يترك استثمار قدميه. الوحيد الذي فعلها هو الفنان حينما قلدهم أسلحة الحرب, و صاغهم حركات استعراضية, لكنها ليست هجومية على اية حال. هو اكتفى بتقليدهم السلاح لينسخهم شخوصا جديدة, مغايرة لشخصياتهم الحقيقة. فهل الحرب إلا استنساخا لبيادق قابلة للإبادة ليس إلا..
سعى الفنان في عمله هذا لأحداث فعل الصدمة, وهو فعل من أفعال ما بعد الحداثة. كما تعارض وارث النحت العراقي الحداثي. وبصياغة واقعية شعبية ( بوب ), تذكرني بالمنحوتات الصينية الواقعية الاشتراكية. وكان الفنان صائبا في اختياره فريق عمل صيني في التنفيذ. ومنحوتاته هذه اقرب لأشكال المنحوتات الشعبية. لكن بصيغة سياسية افتراضية. والافتراض هنا أيضا هو الأخر من أفعال ما بعد الحداثة, كونه يحمل صفة اغترابه.

يبدو أن بوادر جيل فني عراقي جديد تتشكل رؤاه ضمن مفهوم الفوضى الخلاقة التي من تداعياتها فقدان الكثير من مفردات السلوك الاجتماعي السابق لأزمنة الحرب والحصار. مثلما هو حاصل في مفردات اللغة الشعبية الجديدة التي تسللت للخطاب الشعبي, والتي هي من مبتكرات ضرورات السلوك المستجد ضمن ظروف غير إنسانية يسودها الشك وانتهاز الفرص وانعدام الضوابط الخلقية. اختلاط المفاهيم ضمن هذه الفوضى, أدى إلى النتائج التي عالجها مشروع النحت هذا.







النقائض وحدها كما يرى الفنان هي التي تسود. فماذا لو تسنم كل من شخوصه المختارة سلاحا حقيقيا وانضم لجوقة الحرب. ربما كانوا في صف المحررين, وربما تحولوا لصف الإرهابيين. اليس نحن من نخلق الإرهاب وننميه. ومن ثم نسعى للقضاء عليه, أو على آثاره. فمن يحزر من منا هو المشروع الإرهابي القادم. ما دام الإرهاب مصطلحا ما بعد حداثيا متداولا عالميا. فلنتصور هؤلاء المختارين إرهابيين. فهل تصح معادلة العيش بسلام واردة. أم بات اليأس ينخر نفوسنا. الم تطلق ما بعد الحداثة العولمية السياسية وأجهزتها الثقافية رصاصتها الأخيرة على ما تبقى من مفاهيم الحداثة الإنسانية. بعد أن فككت منظومتها الفكرية والفنية, وعبثت بها على هواها. فان كان الفنان طليعيا في العصر الحداثي. فانه تحول الآن إلى مجرد فرد مؤدي ضمن ملايين الأفراد. وبات متشيئا ضمن أشياء أخرى لا تعد. لكن درس الحداثة لم ينقطع كليا, بقدر كونه تفكك لمفاصل عدة, أحيانا جرى بعثرتها. وأحيانا أخرى إعادتها بطرق وأساليب جديدة, ضمن جدة الأشياء الأخرى. ويحق لنا ان نطلق على المعاصرة حداثة متأخرة. فلكل زمن حداثة وتحديث. والعصر كلمة زئبقية لا ثبات لها.

20ـ03ـ2014

هامش :
1- Swedish sculptor Carl Fredrik Reutersward in 1980: "knotted gun "

الجمعة، 16 مايو 2014

شعرة معاوية وصخرة سيزيف- *أدونيس

شعرة معاوية وصخرة سيزيف


*أدونيس
ثقافات
- 1 -
شاركت الولايات المتّحدة والدّول الأوروبية في صنع «الربيع العربي»، لكن، وهذا ما تؤكّده التجربة، لأسبابٍ كثيرة تهمّها مباشرةً. بين أكثرها دلالةً، الأسباب التالية:
1 - أن يظلّ العرب كما هم، مأسورين، سياسيّاً وثقافيّاً، في لعبة السّلطة، وفي ميدانها المباشر.
2 - أن يزدادوا بُعداً عن القضايا الكبرى: المشاركة الخلاّقة في بناء العالم الحديث، حقوق الإنسان وحريّاته ومن ضمنها حقّ التغيُّر والتقدُّم، حقوق الاستقلال والسيادة.
3- تعميق النّظرة الغربيّة السائدة إلى العرب؛ فهي ترى أنّ العرَب ليسوا إلاّ «ركاماً» من البشر، وإلاّ «سوقاً استهلاكيّة»، وإلاّ «فضاءً استراتيجيّاً». ثرواتهم نفسها لا يعرفون كيف يستخدمونها، مدنيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً؛ وهي في المحصِّلة «مُلْكٌ ضخمٌ فاشلٌ». وحيث يُنتَظَر منهم أن يفعلوا شيئاً أو أن يقولوا شيئاً يؤكِّد حضورَهم وفاعليّتهم، وأشير هنا، خصوصاً إلى فلسطين، يصمتون وينكفئون. ولئن كان صحيحاً أنّ «الخروج من أوروبّا هو خروجٌ من التاريخ» كما يقول الرئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاّند، لمناسبة الاحتفال بعيد النّصر، فإنّ من الصحيح أيضاً أنّ محاولات إدخال العرب في التاريخ الغربيّ، على الطريقة الأميركية - الأوروبيّة، ليست دخولاً في التاريخ.
- 2 -
نادراً ما خرجتُ حزيناً ومُرهَقاً، من زيارة مُتحف، كما خرجتُ من زيارة المُتحَف الخاصّ بالهنود الحمر - (الأصحّ : ببقاياهم) في مانهاتان بنيويورك.
شعبٌ انقرض (الأصحّ : قُرِض)، وحُشِرَت آثارُه بين الجدران. تستطيع أن تتحدّث مع هذه الآثار كمثل ما كان الشاعر العربيّ يتحدّث مع الأطلال في صحرائه الشاعرة. وهي هنا آثارٌ فنّيّة تبدِعها يدٌ تتخيّل، ومخَيِّلةٌ تعملُ كأنّها يدٌ ثانية.
ترى الإنسانَ في أشيائه التي ابتكرها - لكي يُحسِن الحياة ويُحسِن فهمَ العالَم. أشياء ساحرة فريدة، بدءاً من أبسط أدوات الحياة اليوميّة، وانتهاءً بالأعمال الفنّيّة: مباهج الواقع، ومباهج التخيّل.
- 3 -
أدّت التجربة التّاريخيّة، ببُعدَيْها: الاستعبادي، اللاإنسانيّ، من جهة، والحياتيّ العمليّ، من جهةٍ ثانية، إلى نشوء مدى ثقافيّ وحضاريّ تمثّل في ما سُمّيَ «الولايات المتّحدة الأميركيّة». وهذه تحتضن الآن شعباً غنيّاً في ثقافته، وغنيّاً في تنوّعه وتعدّده، ومؤثّراً في العالم كلّه.
ولئن كان هذا الشعب قد أفاد نظريّاً من تجارب «الاكتشاف» ومن «الاستعمار» و «الإبادة»، فإنّ سياسات الأنظمة التي تعاقبت على قيادته، ظلّت مرتبطة، بشكل أو آخر، قليلاً أو كثيراً، بأصول الثقافة الاستعماريّة. ونادراً ما وقفَت هذه السياسات في تاريخها كلّه، إلى جانب حقوق الإنسان، وحريّات الشعوب، وسيادتها على نفسها ومصيرها، باستقلال كامل. وهي ممارسَةٌ يعرفها العالم غرباً وشرقاً - في أميركا الجنوبيّة، الجارة الشّقيقة، وفي القارّة الأفريقيّة، وفي الشرق الأقصى، وأخيراً في «القارّة» العربيّة. وهي الآن، في هذه القارّة تساند الطّغاة والمغتصبين والمرتزقة وأعداء الحرّيّة والديموقراطيّة. تساند بشكلٍ خاصّ ونوعٍ خاصّ، عدواناً على شعبٍ بكامله، أرضاً وهويّةً وثقافة، وأعني الشعب الفلسطينيّ، وهو العدوان الأكثر ظلماً في التاريخ الكوْنيّ الحديث: ليس ظلم استتباعٍ فحسب، وإنّما هو ظلمُ اقتلاع. وها هم العرب، اليوم، يتقلّبون من جديدٍ بين «رماد» السّلطنة العثمانيّة، و«جَمرِ» السياسة الأميركيّة - ( بين شعرة «معاوية» وصخرة سيزيف)، يتقلّبون - إلى أن يَحين موعدُ دخولهم إلى متحفٍ آخر، ينضاف إلى متحف «الهنود الحُمر».
- 4 -
كلاّ أيها الشعبُ الأميركيّ، ليس في رأس السياسة الأميركيّة شعرة واحدة للحكمة -
لا شعرة معاوية،
ولا شعرة ابراهام لنكولن،
ربما عليك أنت أيضاً أن تتهيّأ من جديد لكي ترفع صخرة سيزيف.
- 5 -
رأسي مليءٌ بالدروب، ولا يريد جسمي أن يتفرّغ لقراءتها. يفضّل أن يقيم حفلة راقصة لكي يحتفي بما يأتي. بين ما يأتي ذاكرةٌ تحبّ النسيان.
- 6 -
عجَباً للذاكرة العربيّة الحديثة:
بيتٌ عتيقٌ ضخم.
لا تتدلّى من سقفه، من زواياه وجدرانه،
من نوافذه وأبوابه،
إلاّ العناكبُ وخيوطُها.
- 7 -
جاء العصرُ لزيارتنا نحن العرب، حاملاً هدايا لا تُحصى:
بينها سيوفٌ قاطعة، ورؤوسٌ مقطوعة، وأعناقٌ تُهَيّأُ للقطع.
- 8 -
إنها سياستُنا العربية:
محيطٌ تبدو فيه العاصفة كأنّها هي نفسُها السّفينة.
إنّها السّلطةُ العربيّة:
إناءٌ مثقوبٌ
يسيل منه الدّم دون انقطاع.
- 9 -
هنا في نيويورك،
أستيقظ في ظلّ الهيئة الوارفة، هيئة الأمم،
وأرى العالم يحترق - بها، منها، فيها،
هيئةٌ لا تتنفّسُ إلاّ دخانَ الحرائق.
الخرائطُ نارٌ
والثّقافة حَطَبٌ وأفران.
يكفي أن تلبس هذه الهيئةُ وجوهاً وأقنعةً مُستَعارةً،
يكفي أن تُقلِّب جسمَها بين نارين، وبين شِواءين، وبين فكّين،
يكفي صمْتاً على امتهان الكائن العظيم: الإنسان،
كلاّ، لم تعُد الأرضُ تتّسع للمجازر.
وأنتِ، يا شمسُ يا شمس،
كلّ يومٍ يُسلَخ جلدُ الأرض،
ألَن تقولي لطوفان ضوئكِ
أن يطهِّر العالم؟
- 10 -
ما هذا الغرب الذي يرفض أن يعرف الشرق،
إلاّ كما يعرف الذئب فريستَه؟
ما هذا الشرق الذي لا يعرف الغرب َ
إلاّ كما تعرفُ الفراشةُ النّار؟
- 11 -
ماذا يفعل الشعب، والكراسي التي تتصارع لكي تحكم أكثرُ عدداً من أفراده؟
- 12 -
تلك القافلة العربيّة الطّويلة التي ينتظرها القرن الحادي والعشرون،
ماذا يمكنني أن أفعل لكي أجعلها تتجرّأ، وتعبر القرون العثمانية؟
وما هذا العصر:
الموتى فيه جنودٌ
والأشلاءُ رايات.
وما هؤلاء البشر الذين ينهمكون في بناء معسكرات اعتقالٍ، احتفاءً بالأزمنة الآتية؟
- 13 -
لو أنّ للوردة يداً،
هل كانت تمدُّها لتصافح الماء ؟
- 14 -
لكن، لكن،
أتجنّب الحِدادَ على ما مَضَى
وأمسِك بيد الفجر لكي يدلّني
على شمسه الثانية التي تتهيّأ للشروق.
- 15 -
كلُّ دروبي التي كانت تتّجه نحو السماء،
حَرَفَتْها خطواتي في اتّجاهاتٍ أخرى.
منذ أن أعَدَّ القتلُ آلاته الباذخة،
وأخذ يجتاحُ الحدودَ،
أخذَ اللصوصُ يبتكرون الأعيادَ
والأناشيدَ الوطنيّة.
العبوديّةُ في أوج ربيعِها:
ترسم الفضّةُ خرائطَ جديدةً للإبادات
- 16 -
يبدو أنّ طريقي لا تزال تبدأ في التّيه،
يبدو أنّ قدميَّ لا تزالان تضطربان في فِخاخ المعنى.
- 17 -
يُصنَعُ للتاريخ كرسيٌّ نقّالٌ من طرازٍ متقدّمٍ وخاصّ.
- 18 -
نعم سأغيّر تكوينَ الطرُق التي أسلكها
سيكون صعودُها سلالمَ
وسوف يكون هبوطها أجنحة.
وأعرف أنّ الشوارعَ ليست آفاقاً، لكنّها ليست أنفاقاً.
الشوارعُ بيوتٌ في أشكال براميل،
تتدحرج مليئةً برمل الأسماء.
- 19 -
شوارعُ نيويورك: معاركُ مفتوحةٌ بين أبناء البشر. معاركُ متواصِلة - تنافساً حيناً. تنافِياً، حيناً آخر. أمشي، تسبق خطواتي أفكارٌ تتنقّل أمامي كمثل عرباتٍ مثقَلةٍ بأشياء متناقضة، لكن دون تنافرٍ.
نارٌ في يدٍ،
ماءٌ في اليد الثّانية: سلامُ النّقيضين.
- 20 -
لكن لماذا لم أكتب حتّى الآن، عن تلك الزّهرة التي وُلِدت من دمِ أدونيس: شقيقة النُّعمان؟
وماذا يمكن أن يُكتبَ عنها - هي القصيدةُ الأولى؟
_______
*الحياة