تجارب عراقية معاصرة
فاطمة ألعبيدي
رحلة البحث عن الفردوس المفقود
عادل كامل
[1] مؤشرات
مازال يدور في ذهني سؤال لم اجب عليه: أيهما مهد للآخر ـ الضروري أم الجمالي ـ لاكتساب جدلية يستحيل تفكيكها من غير العودة إلى الصفر: كيف تكّونت، أو نشأت رسومات المغارات، إن لم تكن استثناء ً في الانتقال من الضرورة إلى السحر، ومن العشوائية إلى الدلالات الرمزية، ومن التشوش إلى البناء المنظم، ومن الاضطراب إلى البناءات الجمالية ...، وهي الضرورة التي من الصعب عزلها عن فضاء الحرية...، فإذا كانت التجارب المبكرة ـ وهي ليست فنية إلا بوصفها اخفت هذا الهاجس ـ في الفخار أكثر وضوحا ً في الإقناع، فان آثار النحت ـ للآلهة الأم ـ ومشاهد الصيد المنفذة فوق جدران المغارات، ستتحدث عن أقدم مفهوم للمصنع: الرحم. فالطبية ـ بحد ذاتها ـ بوصفها مازالت بدائية وغير مركبة، إلا إنها كانت أقدم نظام للتوليد ـ والتكاثر، وتحدي الغياب. إلا أن عصر الفلسفة سيأتي بعد سنوات طويلة لردم الفجوات، ذلك لأن المصنع، من وجهة نظر (بدائية/ شحيحة التجارب) ستتوقف عند الحياة اليومية، كصعوباتها، وكالبحث عن الحلول الممكنة لتجاوز التحديات، والمعوقات، في الحقبة ذاتها كانت الوظائف تأخذ طريقها إلى التخصص، من المباشر إلى الرمزي، ومن المتاهات إلى الأدلة. فاليد/ العين/ وباقي الحواس، في مجال المنجزات شبه الفنية، ستمتلك مهارات لصياغة أدوات معرفية مبكرة توازي انشغاله بتحصين دفاعاته ضد التهديدات اليومية الدائمة. فهل كان (الرسم) كعلامة أولى، مع المجسمات، وتحول الأصوات إلى إشارات، والصور إلى علامات، حروف، بمثابة تحول مهد للتقدم المزدوج في صناعة: الأدوات ـ ومن ثم ـ صناعة: علاماتها، أم كان لتحول الوظائف، من مباشرة إلى رمزية، ومن خشنة إلى رقيقة، ومن خلوها من المعنى إلى انتظامها ببرمجة مبكرة للمعاني، أثره الذي سيؤدي دوره المستقل عن الأداء المباشر...، كي تكتسب التصوّرات، من المجال الافتراضي المبني على الاحتمالات، دون إغفال التعلم من الأخطاء، لغة معرفية مبكرة ـ بعد اكتشاف النار والخامات والطاقات الكامنة في الطبيعة، وفي الذات ـ ممهدة للخيال أن يشكل جزءا ً من خصائص (المصنع) ولغزه...؟
ها أنا أجد فن (الرسم) بعضا ً من الإجابة، بعد أن توارت الأسئلة عبر نسيجه البنائي، فالحائك يخفي سر الحياكة بالخيوط ليعلن عن ميلاد مستحدث، كما توارت أسئلة (النحت) في مجسمات الآلهة الأم، مثلما ينقلنا السؤال الخاص بتكون اللغة إلى: الإنسان نفسه بوصفه لغزا ً...، بدل التوقف عند (الأثر/ العلامات/ الرموز/ واللا متوقع من الإشارات..الخ)، إنما كي تأتي فتوحات لا نهائية تمد الجسور بين (الذات) وأثرها، بين الضوء وظله، الصوت وصداه، وبين تراكم (العلامات) وأسرار اشتغال تلك المصانع، بوصفها لم تعد (بدائية) ـ ككل ما يحدث بعيدا ً عن الإرادة الواعية ـ لتدخل في حقبة إن الإرادة، ليست مستقلة عن مستحدثاتها، كعمل الطائر ببناء عشه، ليس بوصفه سكنا ً فحسب، بل بما يمثله من تحديات سمحت للأشكال ـ كمستحدثات ـ أن تؤسس نظام محاكاة (الرحم) ـ ولكن بإشراف مباشر لقوى أخذه بالتقدم، وبالتغيير، وليس بالتأمل حسب: الدماغ. لأن عمل الأخير، هنا، (كعمل قوانين الولادة ـ الموت/ الليل ـ النهار/ الحضور ـ الغياب ...الخ) يدشن تضافر العناصر عبر عملها المشترك ـ وليس المزدوج ـ نحو بنية جمالية ترتقي بكل ما يتعرض للاندثار، ليصبح بنية تؤدي دورها في ديمومة الامتداد، حتى لو كانت محكومة بزوالها العنيد.
فالرسم عند كثير من الرسامات، وعند عدد من الرسامين، سيعمل على إعادة صياغة الإجابات، بإخفاء أسئلتها، إن لم يرتق بالأسئلة إلى مجال يجعل من التطبيقات، عالما ً لا ينتظر شروحا ً، أو تأويلات زائدة. فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تختزل عمل (المصنع) بما يمتلك من عناصر فنية ـ شعرية ـ وجمالية. فمنجزها الفني يتقاطع مع النافع، ولكنه، في الوقت نفسه، يعيد الحفر في أقدم الأسئلة: إن لم يكن الرسم ضرورة...، كالشعر...، فلماذا استحدثه الإنسان، قبل أن تتكون معتقداته، وأعرافه، ومحرماته، ومعارفه الأخرى، حتى لو كانت غير مدوّنة...، فهل ثمة أسئلة ـ كامنة في البصريات ـ تلخص النسق التعويضي ( سيكولوجيا ً / فسلجيا ً / افتراضيا ً...الخ) لصدمات الغياب....، يتقاطع مع المنجز ـ بتوحد عمل المخيال بعيدا ًعن اليومي المباشر، ولا يدع مجالا ً لاتساع الفجوة بين الصدمات وطرق مجابهتها ـ حيث الأسئلة العصية تماثل سؤال: هل يصنع شعره، أم الشعر هو الذي يصنع الشاعر...؟
فالحلقة ـ هنا ـ لا تماثل انبثاق الليل من النهار، أو النهار من الليل، ولا تماثل خروج الحي من الميت، وخروج الميت من الحي....، قدر دينامية صانعي العلامات، بما يمثله الصانع، من علاقة جدلية للدينامية ذاتها ـ وهي ـ في الأخير، تستبعد ضرورات البرهان، بوصفه الطاقة غير القابلة للنفاد.
فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تسمح للبديهة أن تمتلك قانونها، مثلما لا تقّيد القانون بضرورات الوظيفة ـ البديهة ـ فالرسم، عندما يعمل عمل الموسيقا، يؤدي دور الارتقاء، أو الانتقال بالخامات من وجودها المحض، الملقى، نحو عالمها الافتراضي، ألحلمي، الأكثر تساميا ً، والأقل تقيدا ً بعالم الضرورات، الأرض، وقسوتها.
[2] بعيدا ً عن الازدواجية
بعد نصف قرن من العمل في الكتابة ـ بمعظم أقسامها ـ أجد الفجوة مازالت اكبر ـ مما كنت اعتقد ـ بين ما يدور في ذهن (الكاتب) وتطبيقاته، ونصوصه المدوّنة، حتى تبدو الأخيرة تعمل بمعزل عن المجال الذهني ـ التخيلي/ الافتراضي ـ مما يوسع المسافة ويمنحها بعدا ً آخر بين (الكاتب)، والمتلقي، من ناحية، وبين الكاتب ومن سيتولى إعادة تقيم منجزه، بغية استخلاص الدرس، من ناحية ثانية.(1)
فالإشارات النقدية التي وجهها د. مازن المعموري لعدد من العاملين في حقلي التدريس، وفي الكتابة، وهم يتناولون تجربة الرسامة وجدان الماجد، لا تبدو سليمة فحسب، بل تظهر المدى السلبي لهذه العلاقة، كي يغيب (النقد) ـ الذي طالما استبعدته إلا بوصفه مؤشرات بحث لنقاد الغد ـ بالمرة، عنا، باستثناء إشارات متناثرة، على مدى تاريخ الفن الحديث في العراق، لم تفض إلى إحكام معرفية لصياغة لغة نقدية، أو حتى مقاربة للنقد، وما يتطلبه من: معلومات صحيحة، ورؤية نقدية واضحة، فضلا ً عن الخبرات التي يتطلبها الكاتب، كي يحق له أن يتحمل مسؤوليات النقد، ومستلزماته العلمية، والفلسفية..
وإذا كانت إشارات المازن قد بدأت أساسا ً بما تم عرضه من تجارب الرسامة الماجد ـ وهي التجارب المثيرة للشفقة حقا ً بوصفها نفذت لذائقة لا علاقة لها بالفن ـ فان التجارب المميزة لها، كفنانة شابة، كانت تثير الفضول، بل والدهشة، بما فيها من مغامرة وتجريب. وعلى كل فان ازدواجية (الفنان/ الفنانة) ـ هذه ـ تلقي المزيد من الضوء على أسماء كبيرة، بدءا ً بفائق حسن وإسماعيل الشيخلي، وانتهاء ً بالحرفيين المشغولين بمحاكاة لوحات المستشرقين، والخيول، والأزقة البغدادية، واستنساخ الجانب السطحي من الحرف العربي، ضمن التشكيل الحديث...الخ، مع تفاوت التكنيك، والثقافة، والغايات. إنها ازدواجية تماثل ما يعانيه الفنان من تخبط، وهو يرسم بأكثر من أسلوب، حتى اذكر إن الفنان حافظ ألدروبي، قال لي ذات مرة: رسمت بكل الأساليب ولكني لا اعرف ماذا يريدون أن ارسم؟! مما يوضح غياب الرؤية النقدية لدى الفنان، مثلما نجدها، لدى معلمي الفن، وهم يتظاهرون بدور الأستاذية، ويرتدون أقنعة النقاد الكبار.
وأدق مثال تطبيقي يفسر مدى أثرهم في تردي المستوى التعليمي ـ في كليات ومعاهد الفنون الجميلة ـ حد تدميرهم للكثير من المواهب، والإسهام بقمع مغامرة التجريب، بوصف الفن: تحديا ً، كما قال هاوزر، وليس بحثا ً عن مكاسب آنية، وزائلة.
إلا أن الاستثناء يبقى قاعدة لمواصلة الكتابة، كالذي نجده في تجربة الفنانة فاطمة ألعبيدي، باستبعاد الازدواجية، لا في الغايات ولا في الأسلوب حسب، ليس لأنها بعيدة عن الوسط (الفني)، أو لأنها لم تحترف مهنة تلبية متطلبات الذائقة الاستهلاكية، بل لرؤيتها المغايرة لهذا التوجه، ومدى انحيازها لمشروعها الفني/ الجمالي، وعملها المتواصل، الحثيث، بمنح الرسم صلة جدلية بالموسيقا، ومعالجة الرموز كوحدات جمالية متضمنة بنيتها البنائية، ونسيجها الخلاق، ضمن سنوات تكاد فيها عزلة الفنانين تحتم علي البعض منهم، نذر الكثير من حياتهم من اجل فنهم، وليس من اجل أهداف تتقاطع من رسالة الفنان، وما يتضمنه الفن من أبعاد حضارية، وإنسانية.
1 ـ إشارتي إلى المقال الذي كتبه د. مازن المعموري تعقيبا ً على ما جاء في مجلة"آفاق أدبية) العددان الثالث والرابع/ السنة الأولى 2011، حول الملف المنشور حول الفنانة "وجدان الماجد".
[3] جسور
وإن كان هناك من يولي (الذات) دورا ً ـ يبدو منعزلا ً عن مكوناته، مناخه، وأهدافه ـ في تحديد خصوصية هذه الذات، ذات الفنان، وهو اعتقاد يستند إلى وضع الذات على المحك، وفي المواجهة، لكن لو عزلت هذه الذات ـ كعزل أية ذرة عن أخرى ـ يغدو (الموضوع) قد فقد احد أركان وجوده بوصفه عابرا ً لمجموع: أجزاءه، نحو الكل الذي هو ـ بحد ذاته ـ وحدة، بنية، تدخل ضمن سلسلة من العلاقات، تبدأ باللا مرئي ـ ولا تتوقف عن المرئيات، ليس لأن الحركة تمثل جسورا ً لا عدد لها بين الحدود، بل لأنها غير مستقلة بذاتها، مهما بدت، تمتلك كيانها الخاص، والفريد.
وفاطمة ألعبيدي، التي حملت تراثا ً عائليا ً نادرا ً ـ كالذي عاشته نزيهة سليم، وعشتار جميل حمودي ووسماء حسن على سبيل المثال ـ ستغذي تجربتها بالحفر في المنجز التشكيلي العراقي الحديث، والنسوي منه خاصة، بما يحقق تجانسا ً مع رؤيتها للعالم، كي يأتي الفن صيغة منصهرات لبناء نصوصها الفنية. فلا يمكن إغفال إن مديحة عمر عالجت جماليات الحرف العربي عبر جدلية خيالها وصلته المتجذّرة بالمورث، والبيئة، كالذي شغل نزيهة سليم بمفهوم الاختزال، وعالم المرأة، بينما خصصت بهيجة الحكيم مسيرتها لتصوير البستان ـ الفردوس ـ متجانسا ً مع تجارب سعاد العطار، مهين الصراف، بتول الفكيكي، ليلى العطار، وداد الاورفلي، سلمى العلاق وغيرهن، فضلا ً عن تجارب متضادة للتطرف شكلت (انثويتها) وفق مفهوم: الخصب، التوليد، بسمة (شرقية) سمحت لتضافر عناصر البيئة، والموروث عامة، والمحلي الشعبي تحديدا ً، باستقصاء الذاتي ومنحه سمة (الهوية) للتشكيل النسوي الحديث في العراق.
فتجربة فاطمة ألعبيدي، تأتي لتؤكد مدى قراءتها لقرن من التشكيل الحديث، ولكن بعين عملت على منحها خصوصيتها في الاستبصار. إن المتلقي المعني بالقراءة ـ وليس إغفالها أو هدمها ـ سيعثر على مفهوم (النسج) لديها بوصفه عملية حياكة، إنما بأدوات أسهمت الفنون الحديثة بتشذيبها، وصقلها، لتتوحد فيها الطاقات الكامنة للفنانة، عبر أشكالها كلغة تتوخى منح الآخر حرية اكبر بقراءة موضوعاتها المختارة، مما يؤكد إنها لم تغفل منهجها التجريبي المعزز لمفهوم (الهوية) ـ الخصوصية ـ بإضافات شعرية، وفكرية، تجعل من البعد الجمالي موقفا ً إزاء عقود من الصدمات، والتحولات، والخراب. فالفنانة لم تنحز إلى الموضوعات الفنية على حساب شعرية النص الفني، وجمالياته، كما لم تعزل أشكالها عن رؤيتها ذات الجوهر الواقعي، فهي لم تستخدم الأثر إعلانا ً عن (الواقع)، بل استبدلته بلغة ضمنتها محركاتها باستخدام العناصر التشكيلية: اللون/ الخط/ الملمس/ الفضاء: الحركة/ والتباين في القيم الضوئية... الخ، لتلخص المسار الدينامي للأسلوب الذي يحافظ على ديناميته، ولا يتوقف عند نهاية مقررة مسبقا ً. فالفنانة ترسم بذات أدركت مدى اتساع موضوعاتها المعالجة، وبهذا فان تجربتها الفنية حافظت ـ من غير تزمت ـ على المنجز النسوي للفنانات الرائدات، بسماتها الشرقية، عبر منح الصوت أعلى دراجته: اللون. فالصمت يغدو لغة لا تتوخى المعنى إلا بوصفه غدا أسلوبا ً للرؤية ـ وللحياة. انه جسر سمح للفضاء الخارجي أن يشكل نسقا ً لبناء النص الفني، وفي الوقت نفسه، يمارس النص دوره جسرا ً للعبور من العالم الداخلي نحو الفضاء الخارجي. فالواقعية سمحت لها أن تجد في التجريد كل ما لا يمكن شرحه ـ أو تحديد معناه. إنها ـ من زاوية ابعد ـ تجعل من موضوعات (الحياة) المعنى المستتر للآلهة (إنانا): رؤية المشهد من زواياه المتعددة، عبر صراع سمح للقراءة أن لا تتوقف عن خلاصة أخيرة، أو نهائية، بل ستعالجها بمنحها الطاقات الكامنة في ذاتها ـ كفنانة ـ وفي خاماتها، كعناصر مكونة لنصوصها الجمالية.
[4] عناوين: التجريد أم الاختزال؟
لم يترك فنان الكهف عناوين لرسوماته، ليس لأن اللغة لم تكن أداة قد دخلت في الخدمة، بل لأن وضع أي عنوان لها كان بإمكانه أن يعزلها عن معناها الأبعد، إن لم يصنع فجوة قابلة للتشتت، وقد يصعب ردمها. على أن وضع العنوان ـ شبيه بمن يسير نحو هدف محدد، كوضع إشارة دالة على مكان بدل الوقوع في المتاهة، فهل هذا دقيق إزاء موضوعات تتضمن أكثر من إشكالية، كالثنائيات في تصادماتها، في تشكلها، في انصهارها، وفي تحولاتها....؟
تضع فاطمة ألعبيدي، عناوين نصوصها الفنية، ليس كي تدلنا على طريق يفضي إلى المعنى المقصود...، كرسم برتقالة ووضع عنوانها معها! ولكن عندما يرسم الرسام صورة شخصية لشخص محدد فانه يضطر لوضع اسم الشخص المرسوم...، وهنا يحدث الاختلاف بين رسام محترف يؤدي عملا ً محددا ً وبين فنان ربما ـ هو ـ يعمل على استقصاء المعاني الكامنة في ذاته ـ مثلما ستكون كامنة في منجزه الفني.
ولأن تجربة فاطمة ألعبيدي ولدت في حقبة مكتظة بالاتجاهات والأساليب، منذ أربعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، ولأنها عاشت مرحلة تحولات، تصادمات، واجتهادات، فقد بات بحكم التجريب أن تختار الفنانة منحى لها بين عنوان العمل الفني ومضمونه. فهل قصدت أن تدلنا ـ بالعنوان ـ كإشارة أو كعلامة ـ أم كجسر يقود إلى ما بعد الضفة الثانية...؟
إن الرسامة تختار ـ على سبيل المثال ـ العنوانين التالية لعدد من رسومها: صدام الخير والشر/ شمس وإعصار/ جزيرة العشاق/ جنتي/ الجزيرة الحلم/ أفكار متصارعة/ ظهور الفجر/ طائر السلام/ أحلام التفاؤل/ ألوان التحليق في السماء/ راقصة البالية...الخ، فنجد إن هذه العناوين تشترك بالحديث عن موضوعات اختارتها بعناية، كاستحالة استبدال عنوان بآخر، أو نص بنص سواه...، ولكن القراءة الأكثر عناية بدراسة العلاقات ما بين العناصر التشكيلية واللغوية ـ أي العناوين ـ يفضي للتعرف على مساحة ضاجة بما لا يمكن تقييده بعنوان، ولكن هذا لا يماثل وضع كلمة (تجريد) إزاء ما لا يحصى من الرسومات التجريدية، وإنما هو إجراء مقاربة لموضوع متحرك/ دينامي، يتقاطع مع تحديد المعنى بكلمة أو بعنوان. فالصراع القائم على أزمنة، فلسفات، أفكار، تيارات، أساليب مختلفة، متنوعة، يوسع من العلاقة ويمنحها المعنى الذي حمل عنوان (إنانا)، كرمز: للسلام والحرب، للحب والبغضاء، للرقة والقسوة، وللحياة والموت...الخ فهو لم يغادر القصد الذي كلما غدا مرئيا ً ازداد بعدا ً وتواريا ً، ليس داخل الكلمة وحدها، بل في المضمون ذاته الذي عمل على ابتكار عناوين له، طالما الهدف امتلك أصلا ً جدليا ً، لم ينغلق عند خاتمة أخيرة، أو نهائية.
إنها ـ إذا ً ـ تنظر لمرئياتها برؤية تحفر في المجال الأبعد، ومادامت أدواتها تستند إلى البصريات ـ عناصر الخط/ اللون/ الفراغ/ الأفق/ والملامس.... الخ ـ فإنها ستعمل كي تتوغل ابعد منها، عبر أنساقها المختزلة بضرب سمح للمعاني أن تصبح تجريدات، وفي الوقت نفسه، سمحت للتجريد أن يحمل عنوانا ً خاصا ً، ومحددا ً. ذلك ليس لأن مادتها تتسع للذهاب ابعد من السكون حسب، بل منهجها الذي سمح لها باختيار المقاربة مع الموسيقا ـ الألوان، غاية كامنة في وسائلها، مثلما توحدت الوسائل مع غاياتها. فهل ثمة خلاصة تجعل من نصوصها التجريدية شكلية خالصة، أم إنها تناور ـ ككل غواية كامنة في الدهشة ـ بينهما؟ ليس لدي المتلقي إلا حرية استقصاء اختيارها الدائم لرصد الأضداد، ليس لأجل تصويرها، بل لمنح البصريات ذات الطاقة المشفرة الكامنة في الحرف ـ وفي الكلمة ـ وفي ما تعمل اللغة عليه باستنطاق فعل التوغل في المناطق المجهولة، كي يأخذ المعنى مصداقيته وهو لا يصوّر إلا إشكاليات غدا البعد الجمالي مفتاحا ً لفك المضامين الكامنة خلف أقفالها الموصدة.
[5] الموسيقا بوصفها بعدا ً
كما من الصعب ـ ولكن ليس من المستحيل ـ تعريف النحت بعيدا ً عن أبعاده الثلاثية، فان الرسم، منذ كونته عناصره التقليدية، لم يغادر السطح ـ بالمعنى المبكر لتحديد المصطلحات ـ لكن هذا وحده سيمهد للذهاب ابعد من المرئيات ـ السطوح، والأبعاد ـ بالانتقال من التعبير المحض نحو مكوناته الجمالية، وما يخفيه من مشفرات تعمل وفق الأنظمة التي هي قيد الاكتشاف، أو التي ستبقى نائية ومخبأة في مداها المجهول.
فإذا كان النحت ـ مع الفخار ـ يماثل المكان بوصفه تراكم أزمنة ـ فان الرسم ـ عند رسامي المغارات ـ لم يهمل المجال الزمني/ الحركي/ الصوتي/ كأحد عناصر بناء النص ونسجه ـ الشبيه بالفن ـ والفني بعد ذلك. فالزمن ـ بحد ذاته ـ كما في تجربة ألعبيدي ـ سيمثل هاجسها بتأمل المرئيات ورصد تحولاتها. فالفنانة ـ بعفويتها وانعتاقها من المحاكاة والاستنساخ والتنصيص المباشر ـ تسمح لهذه العلاقة أن تصوّر فضاء ً مسرحيا ً ـ ومضادا ً له في الوقت نفسه ـ للأشكال، في رصد انبثاقها، وأفولها. هكذا يتجدد الاشتباك، من لوحة إلى لوحة أخرى، كتتمة، تكملة، تماثل العامل المساعد ـ في التفاعلات ـ بالحفاظ على دوره الدينامي، ولكن هذا العمل (الوسيط أو المساعد) سيشكل لغز القوة بتناميها من المادي نحو الروحي، فهو ضرب من القوة الداخلية ـ بما تمتلكه الفنانة ـ مع ما في الطاقات الخارجية، كعلاقة جدلية تتضمن رؤيتها ـ وهاجسها ـ لمفهوم: النسج أو البناء. على إنها لا تقوم بعمليات البناء إلا انطلاقا ً من دراستها للطبيعة ـ بخاماتها ومكوناتها ـ تفكيكها وبعثرتها وتركها تتدفق، تتناثر عبر العلاقة ذاتها القائمة بين المساحة وما تشغلها من عناصر: نقاط/ خطوط/ حدود حرة/ حد إن الفنانة ستحرر أشكالها من أنظمتها الهندسية، وتجعلها أكثر قدرة على التسامي، ومغادرة حتمية الانجذاب إلى الأرض ـ كثقل ـ لتحقق بهذا الدافع توقا ً يهدم ـ ويعيد بناء ـ أقدم قواعد التكوين. فالمركز لن يتجمد عند خط الأفق، أو في بؤرة الحدث، إلا ليأخذ مداه، بحركة شبيهة بحركة الزمن لا ُترصد إلا عبر الوحدات المرئية، ضمن وحدات القياس الخاصة بكل لون ـ مثلما هي متحققة في الأصوات ـ والموسيقا بعد ذلك. إنها تترك لا شعورها ـ ولا وعيها ـ يحققان أقدم برنامج سابق على بواكير فن التجريد في فاتحة القرن العشرين، ليرى (كاندنسكي)، الذي تبنى مفهوم الروحي في الفن، بضرورة العودة إلى اقل الأجزاء أهمية، في التجارب الفنية، المكملة للعمل الفني، ولكنها سوف تؤدي دورا ً أساسيا ً، وليس مساعدا ً أو تمويهيا ً، أو وهميا ً، وسيكون من الصعب عزلها عن الأثر الفني، حتى لو كانت قد نشأت بمحض المصادفة. فالمخربشات أو العفويات أو اللا متوقعات ... الخ، المنفذة في الكثير من الرسومات ـ القديمة والحديثة والأكثر حداثة ـ تتضمن انشغالا ً نادرا ً لتقصي كل ما يصعب رصده، أو الإمساك به، فهو سبيه بالزمن الخالص، لأنه شبيه بالضوء وقد تحرر من المجال، كي يصعب التعرف على ماهيته (الزمن)، أو ماديته (الضوء)، إلا عبر التصادم ـ ضمن عملية الرصد ـ والبناء، أي بناء تلك اللحظة الاستثنائية للراصد، وقد غدا ـ هو ـ المركز ـ والعامل المساعد ـ معا ً، في تحقيق هوية: النص الفني.
إن فاطمة ألعبيدي التي بدأت تجاربها برصد الطبيعة ـ البيئة ـ لم تتوقف عند المحاكاة، بالمعنى الواقعي أو التقليدي أو بما شرّع له (مونيه) في تصوير: اللحظة ـ الانطباع، بل استثمرت هذه الخبرات لتصوير كل ما يذهب ابعد من التصوير. فالتجريد ـ بهذا المعنى ـ ليس اختزالا ً ـ بحسب تجربة موندريان ـ من المشخص إلى ذروته، وتجريده من ملامحه، بل العمل على تقصي المجال غير الخاضع للبصر ـ والبصريات ـ بما يمتلكه من ماهية تماثل الزمن ـ في ذاته ـ والضوء في انتقالاته نحو مجالات تمتلك مديات ابعد من أدوات الرصد.
ليدخل ـ في هذا النسج ـ عنصر الصوت، مكملا ً المجال اللغوي الصامت. فنحن إزاء ثلاثة مداخل اشتركت في رصد (الحدث)، فالزمن غدا مسرحا ً، والألوان ـ بتنوعها ـ اتخذت علاماتها، فيما سيمثل الصوت أكثر صلة بحاسة الإصغاء، لكن ليس حاسة السمع، بل للخلايا الكامنة في الدماغ.
ولهذا يبدو (التجريد) قد امتلك أسبقية تاريخية في بنائية النصوص ـ الأنا القديمة التي أكسبتها مديات العبور نحونا فعلها الدينامي ـ مثلما التقطها الرائي المعاصر، مكملا ً المجال الحدسي ـ بمرتكزاته العلمية ـ لتمثل آليات التجريد ـ بما يمتلكه من ذهاب ابعد من الآخر ـ المتلقي ـ وهو يمتلك حرية التأويل، بعد حرية التذوق ـ الدهشة، وإعادة القراءة.
وهنا تحديدا ً تهدم فاطمة ألعبيدي، ولا تتجنب حسب، مفهوم (الفن ألتزييني، ألتزويقي) نحو الفن الخالي من البذخ ـ أو المنفذ للأغراض النفعية، المباشرة، المكملة للتأثيث، والاستعمالات العملية، بتقصيها للمعاني الغائبة، النائية، في ذاتها، وفي العالم الخارجي، وفي النص الفني أخيرا ً، بما تمتلكه من حرية ـ هي الأخرى ـ تشترط الذهاب ابعد من وظيفتها العملية، أو التطبيقية. فهي تنحاز لمضمون توحد بعناصره الاعتبارية، وربما الافتراضية، وإن بدت مرئية، أو مسموعة، وقابلة للرصد، ليجرجرنا للامساك أبدا ً نحو الذي يذهب ابعد من أثره ـ فهو ليس تجريدا ً خالصا ً إلا لعمله على تتبع آثار خطاه الدينامية، فهو ـ في نهاية المطاف ـ تجربة في الرؤيا ـ مثلما هو تجربة قائمة على الرؤية الفنية، بأدواتها، وعناصرها الجمالية.
[6] بصمات: الهوية ومضاداتها
مع إن أي مفهوم للـ (الهوية) لا يتوخى ملاحظة تأثيرات التيارات (العالمية) وعبورها من غير قيود، بل وبسلاسة، نحو أكثر المناطق تحصنا ً، أو جمودا ً، ودراسة المفاهيم الأقل دينامية للهوية، بل والساكنة، وما تعانيه من تصدعات، وصراعات، على صعيد المحركات، من ناحية، ومنظومتها العلاماتية التي تشكل ملامح الأسلوب في تميزه، وقدراته على الفعالية، سيقلل من نتائج أية دراسة تجد في الفن مقاربة للحفاظ على الترابط، أو التقدم إلى الأمام، من ناحية ثانية، وأخيرا ً فان الاستحداث ـ أو أي مفهوم للابتكار ـ إن وجد، فانه إن فقد هويته، فانه سيمنح العشوائية قدرات لا محدودة، في تقويض الفن، وبصماته، ومصيره أيضا ً.
فإذا كانت كثير من التجارب الفنية قد بدأت بالنموذج (الأوربي)، على مدى القرن الماضي، بوصفها ولدت بعد قطيعة مع التاريخ العام، والثقافي، والفني خاصة، دامت قرون طويلة من الزمن، فان بعض التجارب الفنية لم تهمل دراسة الاتجاهات (العالمية) وعبر تحول عالمنا إلى مجموعة من القرى، الأسواق، المهرجانات، الألعاب الرياضية، الالكترونية، والتدميرية ...الخ، لم تهمل البحث المتواصل عن إعادة نسج النصوص الفنية بفهم متقدم للايكولوجية، بمعناها الشامل: البيئي، الوراثي، الاجتماعي، النفسي، الثقافي، الجمالي ...الخ، لتحديد مقاربة لمفهوم (الهوية)، مادام عالمنا يشيد تقدمه وفق آليات الصراع ـ التصادم ـ والمحو.
ولأن تجربة فاطمة ألعبيدي، لم تحصل في كوكب غير كوكب الأرض، وفي بلاد شهدت (تخمة) من النكبات، والماسي، فإنها ستبقى شديدة الصلة بإعادة قراءة العلاقة بين تأثيرات هذا الواقع، في نصوصها الفنية، من ناحية، وبين رؤيتها الفنية وما يكمن في اختيارها للرسم، كأسلوب يحقق لها (الانتماء/ الموقف)، والحفر في بيئتها، وليس مغادراتها، طلبا ً للملاذ، والسلامة، من ناحية ثانية.
ولأن الفن الشرقي، لم يعد كامنا ً في (الذاكرة/ المتحف)، أو في الماضي، بعد أن اكتسب خصائص الهوية ـ البصمات ـ الأسلوب، وليس الفن الشرقي، في الوقت نفسه، هو المحاكاة للسطوح، المرئيات، العلامات، بأساليب لا تتجانس مع التطور الهائل للعلوم، والبيئات، والأفكار، والتقنيات، ولهوية (المواطن) فوق كوكبنا، فان الفن الشرقي، لم يعد عملية استنساخ آلية تلبي حاجات السوق، كي تزدهر بعض التيارات الأحادية، كرسم العلامات التراثية، أو الاثارية، أو تصوير المناطق السياحية، أو الاستحواذ على الأشكال الجاهزة، أو تلبية رغبات (السائح) الأجنبي، وإنما غدا المشروع الفني أكثر تعقيدا ً، وصعوبة، مادام الاستحداث ـ بحد ذاته ـ لا يحدث مصادفة، أو عشوائيا ً...
وليس من الصعب اكتشاف نزعة الفنانة لتأمل عالمها وقد تحول إلى مهرجان تزدحم عناصره تارة، أو تختزل إلى فضاءات ومساحات باعثة على السلام، والسكينة. فالرسامة لا تزخرف، ولا تنقش، ولا تحاكي ملامح الفنون الشرقية، إلا بإعادة تأملها لبيئتها، ورصد التحولات، والمتغيرات، ومنحها لغة بصرية تتمتع بالعفوية، والسلاسة، والتلقائية، والسماح لخيالها أن يأخذ مداه الأبعد...، فهي لا تستعير برنامجا ً محددا ً، لا من حداثات الفن الأوربي، ولا من تراثها الشرقي، إلا بحدود نزعتها ببناء لغة عابرة لـ: (الأنا)، وعابرة للأحادية، نحو (أنا) طليقة، تعمل على إعادة رصد ما يحدث، بنزعة شعرية، قوامها دمج انشغالات الحواس، بعضها بالبعض الآخر، خاصة: السمع والبصر...، فالألوان تشترك ـ حد الاشتباك الذي يقارن بما يحدث عند النساج في نسج عمله ـ ببناء رقعة ذات سطح فضائي، أكثر من كونه بعدا ً مكانيا ً، فالفنانة لم تستخدم التركيب، و التوليف، أو استخدام الخامات اللا فنية، أو التلصيق، وباقي الوسائل المستعارة من التجارب العالمية ...الخ، ليس لأنها لا تود أن تجاور (موضات) أو (نزعات) المحاكاة القائمة على عزل اكبر بين (الفن) و (المتلقي العام) فحسب، بل لتجنبها وتوخيها العودة إلى سلاسة كادت تغيب إزاء الاستعارات، والاستنساخ، حد الاستحواذ، من الفنون الأكثر صلة بعالم قائم على العنف، ومحو الآخر، فالفنانة ألعبيدي تسمح لرؤيتها برصد المجالات المكرسكوبية أحيانا ً، والأخرى المنظور لها عن بعد...، وذلك لأن الحلم غدا مكونا ً من أجزاء تبني بها توقيعها ـ بصمتها ـ شخصيتها، حيث الحلم لن يتشكل رومانسيا ً، بل بتهذيب العاطفة واختزالها كي ترسم بالصوت، لتسمعنا أعلى الأصوات، عبر الخطوط والحركة، وعبر نافورات الألوان، وعبر اختلاف الإيحاء ألملمسي، دامجة (المعاني) بالتكنيك، عبر الأصوات وقد استحالت إلى عناصر بصرية، مثلما تؤدي العناصر الفنية وظيفة تدوّين المشفرات عبر نزعتها الروحية لعالم اقل تصادما ً، وقسوة. فالهوية لم تتكون عن قصد، كالتكرار أو التوكيد، ولم تتكون بمحض المصادفة أيضا ً، بهاجس التجربة والخطأ، وإنما ستصبح اختيارا ً قائما ً على معرفة (حرة) وقد قيدت بأكثر الآمال غواية: الحلم. فالفردوس سيشكل علامة مشفرة لفهم عالمها الداخلي، وقد غدا فضاء ً مركبا ً من وحداته المختلفة، حيث العلاقة بين اللا متناهي في الاتساع، محاذيا ً أو مقابلا ً اللا متناهي في الضيق، كعلاقة جوار لأكثر الأشكال توفرا ً في الطبيعة: العناصر: الماء والهواء، وهما يعيدان غزل صور لعالم يزول ـ ولكن لعالم يتكون أيضا ً. فالهاجس الواقعي ـ حد الوثيقة ـ ينصهر، حد المحو، ضمن هاجسها المشفر برصد التصادم، التفاعل، كمشهد مرئي، وملموس، نحو ذروته: الموسيقا ـ المجال الروحي وهو يلخص رؤيتها ـ ليس جماليا ً حسب ـ بل باستعادة مكانة الفن السحيقة، وموقعه كأداة افتراضية زاخرة بومضات الحياة في تحولاتها. فالجمالي يفقد أحاديته، كي يغدو مخاضا ً لسلاسل من المواجهات، إنما لا توهمنا الفنانة بأنها عثرت على (الأمل)، ولكنها، عمليا ً، لم تتخل عنه.
• عضو رابطة نقاد الفن [الايكا] منذ عام 1982
الفنانة في سطور
ـ ولدت في العراق ـ 1974
ـ عضو جمعية ونقابة الفنانين العراقيين.
ـ نشأت في بيت الفنان الرائد محمود العبيدى، ودرست الفن على يديه.
ـ شاركت في المعارض الجماعية داخل القطر وخارجه.
ـ حازت على العديد من الجوائز الفنية الدولية والعربية.