الأحد، 5 فبراير 2017

فاطمة ألعبيدي رحلة البحث عن الفردوس المفقود-عادل كامل








تجارب عراقية معاصرة

فاطمة ألعبيدي

رحلة البحث عن الفردوس المفقود




عادل كامل

[1]  مؤشرات
     مازال يدور في ذهني سؤال لم اجب عليه: أيهما  مهد للآخر ـ الضروري أم الجمالي ـ لاكتساب جدلية يستحيل تفكيكها من غير العودة إلى الصفر: كيف تكّونت، أو نشأت رسومات المغارات، إن لم تكن استثناء ً في الانتقال من الضرورة إلى السحر، ومن العشوائية إلى الدلالات الرمزية، ومن التشوش إلى البناء المنظم، ومن الاضطراب إلى  البناءات الجمالية ...، وهي الضرورة التي من الصعب عزلها عن فضاء الحرية...، فإذا كانت التجارب المبكرة ـ وهي ليست فنية إلا بوصفها اخفت هذا الهاجس ـ في الفخار أكثر وضوحا ً في الإقناع، فان آثار النحت ـ للآلهة الأم ـ ومشاهد الصيد المنفذة فوق جدران المغارات، ستتحدث عن أقدم مفهوم للمصنع: الرحم.  فالطبية ـ بحد ذاتها ـ بوصفها مازالت بدائية وغير مركبة، إلا إنها كانت أقدم نظام للتوليد ـ والتكاثر، وتحدي الغياب. إلا أن عصر الفلسفة سيأتي بعد سنوات طويلة لردم الفجوات، ذلك لأن المصنع، من وجهة نظر (بدائية/ شحيحة التجارب) ستتوقف عند الحياة اليومية، كصعوباتها، وكالبحث عن الحلول الممكنة لتجاوز التحديات، والمعوقات، في الحقبة ذاتها كانت الوظائف تأخذ طريقها إلى التخصص، من المباشر إلى الرمزي، ومن المتاهات إلى الأدلة. فاليد/ العين/ وباقي الحواس، في مجال المنجزات شبه الفنية، ستمتلك مهارات لصياغة أدوات معرفية مبكرة توازي انشغاله بتحصين دفاعاته ضد التهديدات اليومية الدائمة.  فهل كان (الرسم) كعلامة أولى، مع المجسمات، وتحول الأصوات إلى إشارات، والصور إلى علامات، حروف، بمثابة تحول مهد للتقدم المزدوج في صناعة: الأدوات ـ ومن ثم ـ صناعة: علاماتها، أم كان لتحول الوظائف، من مباشرة إلى رمزية، ومن خشنة إلى رقيقة، ومن خلوها من المعنى إلى انتظامها ببرمجة مبكرة للمعاني، أثره الذي سيؤدي دوره المستقل عن الأداء المباشر...، كي تكتسب التصوّرات، من المجال الافتراضي المبني على الاحتمالات، دون إغفال التعلم من الأخطاء، لغة معرفية مبكرة ـ بعد اكتشاف النار والخامات والطاقات الكامنة في الطبيعة، وفي الذات ـ ممهدة للخيال أن يشكل جزءا ً من خصائص (المصنع) ولغزه...؟
   ها أنا أجد فن (الرسم) بعضا ً من الإجابة، بعد أن توارت الأسئلة عبر نسيجه البنائي، فالحائك يخفي سر الحياكة بالخيوط ليعلن عن ميلاد مستحدث، كما توارت أسئلة (النحت) في مجسمات الآلهة  الأم، مثلما ينقلنا السؤال الخاص بتكون اللغة إلى: الإنسان نفسه بوصفه لغزا ً...، بدل التوقف عند (الأثر/ العلامات/ الرموز/ واللا متوقع من الإشارات..الخ)، إنما كي تأتي فتوحات لا نهائية تمد الجسور بين (الذات) وأثرها، بين الضوء وظله، الصوت وصداه، وبين تراكم (العلامات) وأسرار اشتغال تلك المصانع، بوصفها لم تعد (بدائية) ـ ككل ما يحدث بعيدا ً عن الإرادة الواعية ـ لتدخل في حقبة إن الإرادة، ليست مستقلة عن مستحدثاتها، كعمل الطائر ببناء عشه، ليس بوصفه سكنا ً فحسب، بل بما يمثله من تحديات سمحت للأشكال ـ كمستحدثات ـ أن تؤسس نظام محاكاة (الرحم) ـ ولكن بإشراف مباشر لقوى أخذه بالتقدم، وبالتغيير، وليس بالتأمل حسب: الدماغ. لأن عمل الأخير، هنا، (كعمل قوانين الولادة ـ الموت/ الليل ـ النهار/ الحضور ـ الغياب ...الخ) يدشن تضافر العناصر عبر عملها المشترك ـ وليس المزدوج ـ نحو بنية جمالية ترتقي بكل ما يتعرض للاندثار، ليصبح بنية تؤدي دورها في ديمومة الامتداد، حتى لو كانت محكومة بزوالها العنيد.

         


   فالرسم عند كثير من الرسامات، وعند عدد من الرسامين، سيعمل على إعادة صياغة الإجابات، بإخفاء أسئلتها، إن لم يرتق بالأسئلة إلى مجال يجعل من التطبيقات، عالما ً لا ينتظر شروحا ً، أو تأويلات زائدة. فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تختزل عمل (المصنع) بما يمتلك من عناصر فنية ـ شعرية ـ وجمالية. فمنجزها الفني يتقاطع مع النافع، ولكنه، في الوقت نفسه، يعيد الحفر في أقدم الأسئلة: إن لم يكن الرسم  ضرورة...، كالشعر...، فلماذا استحدثه الإنسان، قبل أن تتكون معتقداته، وأعرافه، ومحرماته، ومعارفه الأخرى،  حتى لو كانت غير مدوّنة...، فهل ثمة أسئلة ـ كامنة في البصريات ـ تلخص  النسق التعويضي ( سيكولوجيا ً / فسلجيا ً / افتراضيا ً...الخ) لصدمات الغياب....، يتقاطع مع المنجز ـ بتوحد عمل المخيال بعيدا ًعن اليومي المباشر، ولا يدع مجالا ً لاتساع الفجوة بين الصدمات وطرق مجابهتها ـ حيث الأسئلة العصية تماثل سؤال:   هل يصنع شعره، أم الشعر هو الذي يصنع الشاعر...؟
    فالحلقة ـ هنا ـ لا تماثل انبثاق الليل من النهار، أو النهار من الليل، ولا تماثل خروج الحي من الميت، وخروج الميت من الحي....، قدر دينامية صانعي العلامات، بما يمثله الصانع، من علاقة جدلية للدينامية ذاتها ـ وهي ـ في الأخير، تستبعد ضرورات البرهان، بوصفه الطاقة  غير القابلة للنفاد.
    فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تسمح للبديهة أن تمتلك قانونها، مثلما لا تقّيد القانون بضرورات الوظيفة ـ البديهة ـ فالرسم، عندما يعمل عمل الموسيقا، يؤدي دور الارتقاء، أو الانتقال بالخامات من وجودها المحض، الملقى، نحو عالمها الافتراضي، ألحلمي، الأكثر تساميا ً، والأقل تقيدا ً بعالم الضرورات، الأرض، وقسوتها.


[2] بعيدا ً عن الازدواجية
   بعد نصف قرن من العمل في الكتابة ـ بمعظم أقسامها ـ أجد الفجوة مازالت اكبر ـ مما كنت اعتقد ـ بين ما يدور في ذهن (الكاتب) وتطبيقاته، ونصوصه المدوّنة، حتى تبدو الأخيرة تعمل بمعزل عن المجال الذهني ـ التخيلي/ الافتراضي ـ مما يوسع المسافة ويمنحها بعدا ً آخر بين (الكاتب)، والمتلقي، من ناحية، وبين الكاتب ومن سيتولى إعادة تقيم منجزه، بغية استخلاص الدرس، من ناحية ثانية.(1)
   فالإشارات النقدية التي وجهها د. مازن المعموري لعدد من العاملين في حقلي التدريس، وفي الكتابة، وهم يتناولون تجربة الرسامة وجدان الماجد، لا تبدو سليمة فحسب، بل تظهر المدى السلبي لهذه العلاقة، كي يغيب (النقد) ـ الذي طالما استبعدته إلا بوصفه مؤشرات بحث لنقاد الغد ـ بالمرة، عنا، باستثناء إشارات متناثرة، على مدى تاريخ الفن الحديث في العراق، لم تفض إلى إحكام معرفية لصياغة لغة نقدية، أو حتى مقاربة للنقد، وما يتطلبه من: معلومات صحيحة، ورؤية نقدية واضحة، فضلا ً عن الخبرات التي يتطلبها الكاتب، كي يحق له أن يتحمل مسؤوليات النقد، ومستلزماته العلمية، والفلسفية..
   وإذا كانت إشارات المازن قد بدأت أساسا ً بما تم عرضه من تجارب الرسامة الماجد ـ وهي التجارب المثيرة للشفقة حقا ً بوصفها نفذت لذائقة لا علاقة لها بالفن ـ فان  التجارب المميزة لها، كفنانة شابة، كانت تثير الفضول، بل والدهشة، بما فيها من مغامرة وتجريب. وعلى كل فان ازدواجية (الفنان/ الفنانة) ـ هذه ـ  تلقي المزيد من الضوء على أسماء كبيرة، بدءا ً بفائق حسن  وإسماعيل الشيخلي، وانتهاء ً بالحرفيين المشغولين بمحاكاة لوحات المستشرقين، والخيول، والأزقة البغدادية، واستنساخ الجانب السطحي من الحرف العربي، ضمن التشكيل الحديث...الخ، مع تفاوت التكنيك، والثقافة، والغايات. إنها  ازدواجية تماثل ما يعانيه الفنان من تخبط، وهو يرسم بأكثر من أسلوب، حتى اذكر إن الفنان حافظ ألدروبي، قال لي ذات مرة: رسمت بكل الأساليب ولكني لا اعرف ماذا يريدون أن ارسم؟! مما يوضح غياب الرؤية النقدية لدى الفنان، مثلما نجدها، لدى معلمي الفن، وهم يتظاهرون بدور الأستاذية،  ويرتدون أقنعة النقاد الكبار.
    وأدق مثال تطبيقي يفسر مدى أثرهم في تردي المستوى التعليمي ـ في كليات ومعاهد الفنون الجميلة ـ حد تدميرهم للكثير من المواهب،  والإسهام بقمع مغامرة التجريب، بوصف الفن: تحديا ً، كما قال هاوزر، وليس بحثا ً عن مكاسب آنية، وزائلة.
   إلا أن الاستثناء يبقى قاعدة لمواصلة الكتابة، كالذي نجده في تجربة الفنانة فاطمة ألعبيدي، باستبعاد الازدواجية، لا في الغايات ولا في الأسلوب حسب، ليس لأنها بعيدة عن الوسط (الفني)، أو لأنها لم تحترف مهنة تلبية متطلبات الذائقة الاستهلاكية، بل لرؤيتها المغايرة لهذا التوجه، ومدى انحيازها لمشروعها الفني/ الجمالي، وعملها المتواصل، الحثيث، بمنح الرسم صلة جدلية بالموسيقا، ومعالجة الرموز كوحدات جمالية متضمنة بنيتها البنائية، ونسيجها الخلاق، ضمن سنوات تكاد فيها عزلة الفنانين تحتم علي البعض منهم،  نذر الكثير من حياتهم من اجل فنهم، وليس من اجل أهداف تتقاطع من رسالة الفنان، وما يتضمنه الفن من أبعاد حضارية، وإنسانية.







1 ـ إشارتي إلى المقال الذي كتبه د. مازن المعموري تعقيبا ً على ما جاء في مجلة"آفاق أدبية) العددان الثالث والرابع/ السنة الأولى 2011، حول الملف المنشور حول الفنانة "وجدان الماجد".

 


[3]  جسور
    وإن كان هناك من يولي (الذات) دورا ً ـ يبدو منعزلا ً عن مكوناته، مناخه، وأهدافه ـ في تحديد خصوصية هذه الذات، ذات الفنان، وهو اعتقاد يستند إلى وضع الذات على المحك، وفي المواجهة، لكن لو عزلت هذه الذات ـ كعزل أية ذرة عن أخرى ـ يغدو (الموضوع) قد فقد احد أركان وجوده بوصفه عابرا ً لمجموع: أجزاءه، نحو الكل الذي هو ـ بحد ذاته ـ وحدة، بنية، تدخل ضمن سلسلة من العلاقات، تبدأ باللا مرئي ـ ولا تتوقف عن المرئيات، ليس لأن الحركة تمثل جسورا ً لا عدد لها بين الحدود، بل لأنها غير مستقلة بذاتها، مهما بدت، تمتلك كيانها الخاص، والفريد.
    وفاطمة ألعبيدي، التي حملت تراثا ً عائليا ً نادرا ً ـ كالذي عاشته نزيهة سليم، وعشتار جميل حمودي ووسماء حسن على سبيل المثال ـ ستغذي تجربتها بالحفر في المنجز  التشكيلي العراقي الحديث، والنسوي منه خاصة،  بما يحقق تجانسا ً مع رؤيتها للعالم، كي يأتي الفن صيغة منصهرات لبناء نصوصها الفنية. فلا يمكن إغفال إن مديحة عمر عالجت جماليات الحرف العربي عبر جدلية خيالها وصلته المتجذّرة بالمورث، والبيئة، كالذي شغل نزيهة سليم بمفهوم الاختزال، وعالم المرأة، بينما خصصت بهيجة الحكيم مسيرتها لتصوير البستان ـ الفردوس ـ متجانسا ً مع تجارب سعاد العطار، مهين الصراف، بتول الفكيكي، ليلى العطار، وداد الاورفلي، سلمى العلاق وغيرهن، فضلا ً عن تجارب متضادة للتطرف شكلت (انثويتها) وفق مفهوم: الخصب، التوليد، بسمة (شرقية) سمحت لتضافر عناصر البيئة، والموروث عامة،  والمحلي الشعبي تحديدا ً، باستقصاء الذاتي ومنحه سمة (الهوية) للتشكيل النسوي الحديث في العراق.
    فتجربة فاطمة ألعبيدي، تأتي لتؤكد مدى قراءتها لقرن من التشكيل الحديث، ولكن بعين عملت على منحها خصوصيتها في الاستبصار. إن المتلقي المعني بالقراءة ـ وليس إغفالها أو هدمها ـ سيعثر على مفهوم (النسج) لديها بوصفه عملية حياكة، إنما بأدوات أسهمت الفنون الحديثة بتشذيبها، وصقلها، لتتوحد فيها الطاقات الكامنة للفنانة، عبر أشكالها كلغة تتوخى منح الآخر حرية اكبر بقراءة موضوعاتها المختارة، مما يؤكد إنها لم تغفل منهجها التجريبي المعزز لمفهوم (الهوية) ـ الخصوصية ـ بإضافات شعرية، وفكرية، تجعل من البعد الجمالي موقفا ً إزاء عقود من الصدمات، والتحولات، والخراب. فالفنانة لم تنحز إلى الموضوعات الفنية على حساب شعرية النص الفني، وجمالياته، كما لم تعزل أشكالها عن رؤيتها ذات الجوهر الواقعي، فهي لم تستخدم الأثر إعلانا ً عن (الواقع)، بل استبدلته بلغة ضمنتها محركاتها باستخدام العناصر التشكيلية: اللون/ الخط/ الملمس/ الفضاء: الحركة/ والتباين في القيم الضوئية... الخ، لتلخص المسار الدينامي للأسلوب الذي يحافظ على ديناميته، ولا يتوقف عند نهاية مقررة مسبقا ً. فالفنانة ترسم بذات أدركت مدى اتساع موضوعاتها المعالجة، وبهذا فان تجربتها الفنية حافظت ـ من غير تزمت ـ على المنجز النسوي للفنانات الرائدات، بسماتها الشرقية، عبر منح الصوت أعلى دراجته: اللون.  فالصمت يغدو لغة لا تتوخى المعنى إلا بوصفه غدا أسلوبا ً للرؤية ـ وللحياة.   انه جسر سمح للفضاء الخارجي أن يشكل نسقا ً لبناء النص الفني، وفي الوقت نفسه، يمارس النص دوره جسرا ً للعبور من  العالم الداخلي نحو الفضاء الخارجي. فالواقعية سمحت لها أن تجد في التجريد كل ما لا يمكن شرحه ـ أو تحديد معناه. إنها ـ من زاوية ابعد ـ تجعل  من موضوعات (الحياة) المعنى المستتر للآلهة (إنانا): رؤية المشهد من زواياه المتعددة، عبر صراع سمح للقراءة أن لا تتوقف عن خلاصة أخيرة، أو نهائية، بل ستعالجها بمنحها الطاقات الكامنة في ذاتها ـ كفنانة ـ وفي خاماتها، كعناصر  مكونة لنصوصها الجمالية.


[4] عناوين: التجريد أم الاختزال؟
    لم يترك فنان الكهف عناوين لرسوماته، ليس لأن اللغة لم تكن أداة قد دخلت في الخدمة، بل لأن وضع أي عنوان لها كان بإمكانه أن يعزلها عن معناها الأبعد، إن لم يصنع فجوة قابلة للتشتت، وقد يصعب ردمها. على أن وضع العنوان ـ شبيه بمن يسير  نحو هدف محدد، كوضع إشارة دالة على مكان بدل الوقوع في المتاهة، فهل هذا دقيق إزاء موضوعات تتضمن أكثر من إشكالية، كالثنائيات في تصادماتها، في تشكلها، في انصهارها، وفي تحولاتها....؟
     تضع فاطمة ألعبيدي، عناوين نصوصها الفنية،  ليس كي تدلنا على طريق يفضي إلى المعنى المقصود...، كرسم برتقالة ووضع عنوانها معها! ولكن عندما يرسم الرسام صورة شخصية لشخص محدد فانه يضطر لوضع اسم الشخص المرسوم...، وهنا يحدث الاختلاف بين رسام محترف يؤدي عملا ً محددا ً وبين فنان ربما ـ هو ـ يعمل على استقصاء المعاني الكامنة في ذاته ـ مثلما ستكون كامنة في منجزه الفني.
     ولأن تجربة فاطمة ألعبيدي ولدت في حقبة مكتظة بالاتجاهات والأساليب، منذ أربعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، ولأنها عاشت مرحلة تحولات، تصادمات، واجتهادات، فقد بات بحكم التجريب أن تختار الفنانة منحى لها بين عنوان العمل الفني ومضمونه.   فهل قصدت أن تدلنا ـ بالعنوان ـ كإشارة أو كعلامة ـ أم كجسر يقود إلى ما بعد الضفة الثانية...؟
    إن الرسامة تختار ـ على سبيل المثال ـ  العنوانين التالية لعدد من رسومها: صدام الخير والشر/ شمس وإعصار/ جزيرة العشاق/ جنتي/ الجزيرة الحلم/ أفكار متصارعة/ ظهور الفجر/ طائر السلام/ أحلام التفاؤل/ ألوان التحليق في السماء/ راقصة البالية...الخ، فنجد إن هذه العناوين تشترك بالحديث عن موضوعات اختارتها بعناية، كاستحالة استبدال عنوان بآخر، أو نص بنص سواه...، ولكن القراءة الأكثر عناية بدراسة العلاقات ما بين العناصر التشكيلية واللغوية ـ أي العناوين ـ يفضي للتعرف على مساحة ضاجة بما لا يمكن تقييده بعنوان، ولكن هذا لا يماثل وضع كلمة (تجريد) إزاء ما لا يحصى من الرسومات التجريدية، وإنما هو  إجراء مقاربة لموضوع متحرك/ دينامي، يتقاطع مع تحديد المعنى بكلمة أو بعنوان. فالصراع القائم على أزمنة، فلسفات، أفكار، تيارات، أساليب مختلفة، متنوعة، يوسع من العلاقة ويمنحها المعنى الذي حمل عنوان (إنانا)، كرمز: للسلام والحرب، للحب والبغضاء، للرقة والقسوة، وللحياة والموت...الخ فهو لم يغادر القصد الذي كلما غدا مرئيا ً ازداد بعدا ً وتواريا ً، ليس داخل الكلمة وحدها، بل في المضمون ذاته الذي عمل على ابتكار عناوين له، طالما الهدف امتلك أصلا ً جدليا ً، لم ينغلق عند خاتمة أخيرة، أو نهائية.
   إنها ـ إذا ً ـ تنظر لمرئياتها برؤية تحفر في المجال الأبعد، ومادامت أدواتها تستند إلى البصريات ـ عناصر الخط/ اللون/ الفراغ/ الأفق/ والملامس.... الخ ـ فإنها ستعمل كي تتوغل ابعد منها، عبر أنساقها المختزلة بضرب سمح للمعاني أن تصبح تجريدات، وفي الوقت نفسه، سمحت للتجريد أن يحمل عنوانا ً خاصا ً، ومحددا ً. ذلك ليس لأن مادتها تتسع للذهاب ابعد من السكون حسب، بل منهجها الذي سمح لها باختيار المقاربة مع الموسيقا ـ الألوان، غاية كامنة في وسائلها، مثلما توحدت الوسائل مع غاياتها.  فهل ثمة خلاصة تجعل من نصوصها التجريدية شكلية خالصة، أم إنها تناور ـ ككل غواية كامنة في الدهشة ـ بينهما؟  ليس لدي  المتلقي إلا حرية استقصاء اختيارها الدائم لرصد الأضداد، ليس لأجل تصويرها، بل لمنح البصريات ذات الطاقة المشفرة الكامنة في الحرف ـ وفي الكلمة ـ وفي ما تعمل اللغة عليه باستنطاق فعل التوغل في المناطق المجهولة، كي يأخذ المعنى مصداقيته وهو لا يصوّر إلا إشكاليات غدا البعد الجمالي مفتاحا ً لفك المضامين الكامنة خلف أقفالها الموصدة.


[5] الموسيقا بوصفها بعدا ً
    كما من الصعب ـ ولكن ليس من المستحيل ـ تعريف النحت بعيدا ً عن أبعاده الثلاثية، فان الرسم، منذ كونته عناصره التقليدية، لم يغادر السطح ـ بالمعنى المبكر لتحديد المصطلحات ـ لكن هذا وحده سيمهد للذهاب ابعد من المرئيات ـ السطوح، والأبعاد ـ بالانتقال من التعبير المحض نحو مكوناته الجمالية، وما يخفيه من مشفرات تعمل وفق الأنظمة التي هي قيد الاكتشاف، أو التي ستبقى نائية ومخبأة في مداها المجهول.
    فإذا كان النحت ـ مع الفخار ـ يماثل المكان بوصفه تراكم أزمنة ـ فان الرسم ـ عند رسامي المغارات ـ لم يهمل المجال  الزمني/ الحركي/ الصوتي/ كأحد عناصر بناء النص ونسجه ـ الشبيه بالفن ـ والفني بعد ذلك. فالزمن ـ بحد ذاته ـ كما في تجربة ألعبيدي ـ سيمثل هاجسها بتأمل المرئيات ورصد تحولاتها. فالفنانة ـ بعفويتها وانعتاقها من المحاكاة والاستنساخ والتنصيص المباشر ـ تسمح لهذه العلاقة أن تصوّر فضاء ً مسرحيا ً ـ ومضادا ً له في الوقت نفسه ـ للأشكال، في رصد انبثاقها، وأفولها. هكذا يتجدد الاشتباك، من لوحة إلى لوحة أخرى، كتتمة، تكملة، تماثل العامل المساعد ـ في التفاعلات ـ  بالحفاظ على دوره الدينامي، ولكن هذا العمل (الوسيط أو المساعد) سيشكل لغز القوة بتناميها من المادي نحو الروحي، فهو ضرب من القوة الداخلية ـ بما تمتلكه الفنانة ـ مع ما في الطاقات الخارجية، كعلاقة جدلية تتضمن رؤيتها ـ وهاجسها ـ لمفهوم: النسج أو البناء. على إنها لا تقوم بعمليات البناء إلا انطلاقا ً من دراستها للطبيعة ـ بخاماتها  ومكوناتها ـ تفكيكها وبعثرتها وتركها تتدفق، تتناثر عبر العلاقة ذاتها القائمة بين المساحة وما تشغلها من عناصر: نقاط/ خطوط/ حدود حرة/ حد إن الفنانة ستحرر أشكالها من أنظمتها الهندسية، وتجعلها أكثر قدرة على التسامي، ومغادرة حتمية الانجذاب إلى الأرض ـ كثقل ـ لتحقق بهذا الدافع توقا ً يهدم ـ ويعيد بناء ـ  أقدم قواعد التكوين. فالمركز لن يتجمد عند خط الأفق، أو في بؤرة الحدث، إلا ليأخذ مداه، بحركة شبيهة بحركة الزمن لا  ُترصد إلا عبر الوحدات المرئية،  ضمن وحدات القياس الخاصة بكل لون ـ مثلما هي متحققة في الأصوات ـ والموسيقا بعد ذلك. إنها تترك لا شعورها ـ ولا وعيها ـ يحققان أقدم برنامج سابق على بواكير فن التجريد في فاتحة القرن العشرين، ليرى (كاندنسكي)، الذي تبنى مفهوم الروحي في الفن، بضرورة العودة إلى اقل الأجزاء أهمية، في التجارب الفنية، المكملة للعمل الفني، ولكنها سوف تؤدي دورا ً أساسيا ً، وليس مساعدا ً أو تمويهيا ً، أو وهميا ً، وسيكون من الصعب عزلها عن الأثر الفني، حتى لو كانت قد نشأت بمحض المصادفة. فالمخربشات أو العفويات أو اللا متوقعات ... الخ، المنفذة في الكثير من الرسومات ـ القديمة والحديثة والأكثر حداثة ـ تتضمن انشغالا ً نادرا ً لتقصي كل ما يصعب رصده، أو الإمساك به، فهو سبيه بالزمن الخالص، لأنه شبيه بالضوء وقد تحرر من المجال، كي يصعب التعرف على ماهيته (الزمن)، أو ماديته (الضوء)، إلا عبر التصادم ـ ضمن عملية الرصد ـ والبناء، أي بناء تلك اللحظة الاستثنائية للراصد، وقد غدا ـ هو ـ  المركز ـ والعامل المساعد ـ معا ً، في تحقيق هوية: النص الفني.
    إن فاطمة ألعبيدي التي بدأت تجاربها برصد الطبيعة ـ  البيئة ـ لم تتوقف عند المحاكاة، بالمعنى الواقعي أو التقليدي أو بما شرّع له (مونيه) في تصوير: اللحظة ـ الانطباع، بل استثمرت هذه الخبرات لتصوير كل ما يذهب ابعد من التصوير. فالتجريد ـ بهذا المعنى ـ ليس اختزالا ً ـ بحسب تجربة موندريان ـ من المشخص إلى ذروته، وتجريده من ملامحه، بل العمل على تقصي المجال غير الخاضع للبصر ـ والبصريات ـ بما يمتلكه من ماهية تماثل الزمن ـ في ذاته ـ والضوء في انتقالاته نحو مجالات تمتلك مديات ابعد من أدوات الرصد.
   ليدخل ـ في هذا النسج ـ عنصر الصوت، مكملا ً المجال اللغوي الصامت. فنحن إزاء ثلاثة مداخل اشتركت في رصد (الحدث)، فالزمن غدا مسرحا ً، والألوان ـ بتنوعها ـ اتخذت علاماتها، فيما سيمثل الصوت أكثر صلة بحاسة الإصغاء، لكن ليس حاسة السمع، بل للخلايا الكامنة في الدماغ.
    ولهذا يبدو (التجريد) قد امتلك أسبقية تاريخية في بنائية النصوص ـ الأنا القديمة التي أكسبتها مديات العبور نحونا فعلها الدينامي ـ مثلما التقطها الرائي المعاصر، مكملا ً المجال الحدسي ـ بمرتكزاته العلمية ـ لتمثل آليات التجريد ـ بما يمتلكه من ذهاب ابعد من الآخر ـ المتلقي ـ وهو يمتلك حرية التأويل، بعد حرية التذوق ـ الدهشة، وإعادة القراءة.
      وهنا تحديدا ً تهدم فاطمة ألعبيدي، ولا تتجنب حسب، مفهوم (الفن ألتزييني، ألتزويقي) نحو الفن الخالي من البذخ ـ أو المنفذ للأغراض النفعية، المباشرة، المكملة للتأثيث، والاستعمالات العملية،  بتقصيها للمعاني الغائبة، النائية، في ذاتها، وفي العالم الخارجي، وفي النص الفني أخيرا ً، بما تمتلكه من حرية ـ هي الأخرى ـ تشترط الذهاب ابعد من وظيفتها العملية، أو التطبيقية. فهي تنحاز  لمضمون توحد بعناصره الاعتبارية، وربما الافتراضية، وإن بدت مرئية، أو مسموعة، وقابلة للرصد، ليجرجرنا للامساك أبدا ً نحو الذي يذهب ابعد من أثره ـ فهو ليس تجريدا ً خالصا ً إلا لعمله على تتبع آثار خطاه الدينامية، فهو ـ في نهاية المطاف ـ تجربة في الرؤيا ـ مثلما هو تجربة قائمة على الرؤية الفنية، بأدواتها، وعناصرها الجمالية.





[6] بصمات: الهوية ومضاداتها
    مع إن أي مفهوم للـ (الهوية) لا يتوخى ملاحظة تأثيرات التيارات (العالمية) وعبورها من غير قيود، بل وبسلاسة، نحو أكثر المناطق تحصنا ً، أو جمودا ً، ودراسة المفاهيم الأقل دينامية للهوية، بل والساكنة، وما تعانيه من تصدعات، وصراعات، على صعيد المحركات، من ناحية، ومنظومتها العلاماتية التي تشكل ملامح الأسلوب في تميزه، وقدراته على الفعالية، سيقلل من نتائج أية دراسة تجد في الفن مقاربة للحفاظ على الترابط، أو التقدم إلى الأمام، من ناحية ثانية، وأخيرا ً فان الاستحداث ـ أو أي مفهوم للابتكار ـ إن وجد، فانه إن فقد هويته، فانه سيمنح العشوائية قدرات لا محدودة، في تقويض الفن، وبصماته، ومصيره أيضا ً.
   فإذا كانت كثير من التجارب الفنية قد بدأت بالنموذج (الأوربي)، على مدى القرن الماضي، بوصفها ولدت بعد قطيعة مع التاريخ العام، والثقافي، والفني خاصة، دامت قرون طويلة من الزمن، فان بعض التجارب الفنية لم تهمل  دراسة الاتجاهات (العالمية) وعبر تحول عالمنا إلى مجموعة من القرى، الأسواق، المهرجانات، الألعاب الرياضية، الالكترونية، والتدميرية ...الخ، لم تهمل البحث المتواصل عن إعادة نسج النصوص الفنية بفهم متقدم للايكولوجية، بمعناها الشامل: البيئي، الوراثي، الاجتماعي، النفسي، الثقافي، الجمالي ...الخ،  لتحديد مقاربة لمفهوم (الهوية)، مادام عالمنا يشيد تقدمه وفق آليات الصراع ـ التصادم ـ والمحو.
     ولأن تجربة  فاطمة ألعبيدي، لم تحصل في كوكب غير كوكب الأرض، وفي بلاد شهدت (تخمة) من النكبات، والماسي، فإنها ستبقى شديدة الصلة بإعادة قراءة العلاقة بين تأثيرات هذا الواقع، في نصوصها الفنية، من ناحية، وبين رؤيتها الفنية وما يكمن في اختيارها للرسم، كأسلوب يحقق لها (الانتماء/ الموقف)، والحفر في بيئتها، وليس مغادراتها، طلبا ً للملاذ، والسلامة، من ناحية ثانية.  
   ولأن الفن الشرقي، لم يعد كامنا ً في (الذاكرة/ المتحف)، أو في الماضي، بعد أن اكتسب خصائص الهوية ـ البصمات ـ الأسلوب، وليس الفن الشرقي، في الوقت نفسه، هو المحاكاة للسطوح، المرئيات، العلامات، بأساليب لا تتجانس مع التطور الهائل للعلوم، والبيئات، والأفكار، والتقنيات، ولهوية (المواطن) فوق كوكبنا، فان الفن الشرقي، لم يعد عملية استنساخ آلية تلبي حاجات السوق، كي تزدهر بعض التيارات الأحادية، كرسم العلامات التراثية، أو الاثارية، أو تصوير المناطق السياحية، أو الاستحواذ على الأشكال الجاهزة، أو تلبية رغبات (السائح) الأجنبي، وإنما غدا المشروع الفني أكثر تعقيدا ً، وصعوبة، مادام الاستحداث ـ بحد ذاته ـ لا يحدث مصادفة، أو عشوائيا ً...
   وليس من الصعب اكتشاف نزعة الفنانة لتأمل عالمها وقد تحول إلى مهرجان تزدحم عناصره تارة، أو تختزل إلى فضاءات ومساحات باعثة على السلام، والسكينة. فالرسامة لا تزخرف، ولا تنقش، ولا تحاكي ملامح الفنون الشرقية، إلا بإعادة تأملها لبيئتها، ورصد التحولات، والمتغيرات، ومنحها  لغة بصرية تتمتع بالعفوية، والسلاسة، والتلقائية، والسماح لخيالها أن يأخذ مداه الأبعد...، فهي لا تستعير برنامجا ً محددا ً، لا من حداثات الفن الأوربي، ولا من تراثها الشرقي، إلا بحدود نزعتها ببناء لغة عابرة لـ: (الأنا)، وعابرة للأحادية، نحو (أنا) طليقة، تعمل على إعادة رصد ما يحدث، بنزعة شعرية، قوامها دمج انشغالات الحواس، بعضها بالبعض الآخر، خاصة: السمع والبصر...، فالألوان تشترك ـ حد الاشتباك الذي يقارن بما يحدث عند النساج في نسج عمله ـ ببناء رقعة ذات سطح فضائي، أكثر من كونه بعدا ً مكانيا ً، فالفنانة لم تستخدم التركيب، و التوليف، أو استخدام الخامات اللا فنية، أو التلصيق، وباقي الوسائل المستعارة من التجارب العالمية ...الخ،  ليس لأنها لا تود أن تجاور (موضات) أو (نزعات) المحاكاة القائمة على عزل اكبر بين (الفن) و (المتلقي العام) فحسب، بل لتجنبها وتوخيها العودة إلى سلاسة كادت تغيب إزاء الاستعارات، والاستنساخ، حد الاستحواذ، من الفنون الأكثر صلة بعالم قائم على العنف، ومحو الآخر، فالفنانة ألعبيدي تسمح لرؤيتها برصد المجالات المكرسكوبية أحيانا ً، والأخرى المنظور لها عن بعد...، وذلك لأن  الحلم غدا مكونا ً من أجزاء تبني بها توقيعها ـ بصمتها ـ شخصيتها، حيث الحلم لن يتشكل رومانسيا ً، بل بتهذيب العاطفة واختزالها كي ترسم بالصوت،  لتسمعنا أعلى الأصوات، عبر الخطوط والحركة، وعبر نافورات الألوان، وعبر اختلاف الإيحاء ألملمسي، دامجة (المعاني) بالتكنيك، عبر الأصوات وقد استحالت إلى عناصر بصرية، مثلما تؤدي العناصر الفنية وظيفة تدوّين المشفرات عبر نزعتها الروحية لعالم اقل تصادما ً، وقسوة. فالهوية لم تتكون عن قصد، كالتكرار أو التوكيد، ولم تتكون بمحض المصادفة أيضا ً،  بهاجس التجربة والخطأ، وإنما ستصبح اختيارا ً قائما ً على معرفة (حرة) وقد قيدت بأكثر الآمال غواية: الحلم. فالفردوس سيشكل علامة مشفرة لفهم عالمها الداخلي، وقد غدا فضاء ً مركبا ً من وحداته المختلفة، حيث العلاقة بين اللا متناهي في الاتساع، محاذيا ً أو مقابلا ً اللا متناهي في الضيق، كعلاقة جوار لأكثر الأشكال توفرا ً في الطبيعة: العناصر: الماء والهواء، وهما يعيدان غزل صور لعالم يزول ـ  ولكن لعالم يتكون أيضا ً. فالهاجس الواقعي ـ حد الوثيقة ـ ينصهر، حد المحو، ضمن هاجسها المشفر  برصد التصادم، التفاعل، كمشهد مرئي، وملموس، نحو ذروته: الموسيقا ـ المجال الروحي وهو يلخص رؤيتها ـ ليس جماليا ً حسب ـ بل باستعادة مكانة الفن السحيقة، وموقعه كأداة افتراضية زاخرة بومضات الحياة في  تحولاتها. فالجمالي يفقد أحاديته، كي يغدو مخاضا ً لسلاسل من المواجهات، إنما لا توهمنا الفنانة بأنها عثرت على (الأمل)، ولكنها، عمليا ً، لم تتخل عنه.
عضو رابطة نقاد الفن [الايكا] منذ عام 1982

الفنانة في سطور
ـ ولدت في العراق ـ 1974
ـ عضو جمعية ونقابة الفنانين العراقيين.
ـ نشأت في بيت الفنان الرائد محمود العبيدى، ودرست الفن على يديه.
ـ شاركت في المعارض الجماعية داخل القطر وخارجه.
ـ حازت على العديد من الجوائز الفنية الدولية والعربية.

الخميس، 2 فبراير 2017

السنوات العجاف- قصة قصيرة- عادل كامل

قصة قصيرة

السنوات العجاف



عادل كامل
     شرد ذهن البقرة وهي تصغي إلى ذبذبات جنينها، فطمأنته إن سنوات الجفاف، السنوات العجاف، سنوات ندرة الطعام، والفاقة، والأمراض، وانعدام الاستقرار توشك أن تبلغ ذروتها، وتصبح من الماضي، وإنها، خاطبته عبر الذبذبات ذاتها، لن يضطر للموت جوعا ً، أو قضاء حياته متنقلا ً من محنة إلى أخرى، وإلا فإنها لن تدعه يغادر رحمها أبدا !
 فخاطبها الثور الواقف بجوارها:
ـ حسنا ً فعلت، فانا نفسي لا امتلك الإجابة...، فهل ستنتهي سنوات الاضطراب، والمصائب، والبلايا حقا ً، أم إنها بالذات ليست إلا حاصل ديمومة ماضيها؟
   بيد أن البقرة ردت:
ـ  انه يرفس! اللعين، يرفس!
ـ ربما يلعب، يلهو، يمرح...، تأكدي من الأمر؟
ـ لا ...، بل يخبرني بأنه سيجد ألف وسيلة بعدم المغادرة، انه يعلن لي: سأعمل بالرجوع إلى ما قبل هذا الوجود!
    هز الثور رأسه إلى اليسار، والى اليمين، وحدق في عيني البقرة الشاردتين:
ـ من كان يتوقع هذا ...، فانا طالما عرفت ـ وتأكد لي بما لا يقبل الشك ـ انك بقرة عقيم! ثم، جاءت سنوات القحط، والشغب، وندرة الأعشاب، والدغل، والأشواك، وحلت سنوات الحرب، والغبار الأسود، والغبار الرمادي، وسنوات الرمل، فهزل جسدك حتى كان من المستحيل أن يحصل هذا الحمل إلا بمعجزة...؟
ـ يا نور قلبي، يا ثوري الجميل...، دعك من هذا الكلام...، الم يتم تعقيمك، بمعنى تم اخصاؤك، في عام النكبة، ولم يتركوا لا ثورا ً ولا عجلا ً ولا حتى من كان يتمتع بأطياف ذكورة، طليقا ً لا في البساتين، ولا في الحقول...، إلا وعقموه ...؟
ـ بلى... ، سيدتي، فعلوا ...، لكن هذا كان بلا نفع، فالنبتة العنيدة تنبت حتى في أقسى الصخور، الم أخبرك: إن القضاء على خلية الخلق شبيه باستحداثها من العدم؟
     شرد ذهنها، أقال هذا أم لم يقله، لم تكترث، لأن شرودها سمح لها بمخاطبة جنينها، بعد ان هدأ عن الرفس:
ـ أخبرتك، يا عزيزي، إن سنوات المحنة لن تمتد...، طويلا ً، ولن تستمر إلى الأبد...، وان الأمطار على وشك السقوط، كما تقول العرافات، وخبراء الأنواء الجوية، والحكماء، وباعة الغنم، والماعز، والبعران، والجاموس، وكما أكدت الغزلان الخبر ببعض التردد...، وهذه ليست دعايات، أو إشاعات، أو كلام سحرة...، فقد تأكد لنا، لو امتدت سنوات الكارثة ...، فان سلطات الحديقة وعدتنا بتوزيع العلف المستورد مجانا ً...، أسوة بما يحصل خارج حديقتنا؟
    ضحك الثور، ووجد جسده اقل وزنا ً، بل حتى شعر برغبة بالطيران، فسألته البقرة حالا ً:
ـ أسردت طرفة لك كي لا تبكي، بل كي تقهقه من غير سبب؟
   هز رأسه، ومازال لا يقدر أن يمنع نفسه من الضحك:
ـ لا...، بل تذكرت سنوات النعيم، والوفرة،  وما كان فائضا ً في المعالف، من أرزاق، ونعم، وطعام؟
    لم تجب، لأنها تذكرت كيف تم إرسال أعداد كبيرة من العجول، والثيران، عداه هو، إلى المجزرة. ودار بخلدها إنها ربما كانت هي المعجزة، وإلا لماذا كان الاستثناء؟
  اكتأب الثور، وأحس بألم حاد يسري في جسده، متنقلا ً، ليقول لها:
ـ لا تحزني! ما أن تضعي حملك هذا حتى يتم التخلص منه!
ولم يخبرها: فالناس جياع، بل تمتم: إنما السنن هي أكثر عنادا ً من استبدالها، أو تبديلها، أو تعديلها، أو دحضها!
    سمع الجنين، وهو في شهرة الأخير، كلمات الثور، الوالد، فاخبر والدته بأنه سيضرب عن تناول أي مادة تصله منها، وسيمتنع عن إكمال نموه، ليولد ميتا ً: حيث ستضطرين إلى إجهاضي!  آ ...، سأولد ميتا ً، ولن تضطري لرؤيتي وأنا أجرجر إلى المجزرة، ويذبحني ابن سفاح؟ وأضاف معتذرا ً لها؛ فقد لا يكون القصاب هو تحديدا ً ولد كما هو حالي، لكن رائحة سكينه لا تدع كلماتي إلا أن تفقد بصرها، وبصيرتها، فعذرا ً لهؤلاء الذين يلدون رغم استحالة ولادتهم!
ـ لا يا حبيبي، لن ادعك تفعل هذا أبدا ً، وان تأتي بلا نفس، بلا ضحكات، بلا صراخ، ولن اسمح خوارك، واراك تلعب كباقي العجول....، لا لن ادعك تفعلها!
   ورفعت صوتها:
ـ فانا قد اهلك من شدة الحزن، والأسى..، بسببك يا عجلي، لن ادعك تفعلها، فلا تفعلها، أرجوك!
      فسمع الثور ذبذبات الجنين وفك شفرتها، وقرأها، فقال للبقرة:
ـ اخبريه، يا عزيزتي، أن المصيبة التي لا حل لها ليست مصيبة، والذنب الذي نرغم على اقترافه ليس ذنبا ً، ثم إن كل من يأتي من المجهول يبقى بقبضته، ولن يفلت منها، حتى لو كسرت يد هذا المجهول، أو بترت، أو فقدت وجودها!
    صمتت البقرة فترة غير قصيرة، وسألته:
ـ ما هي هذه المصيبة...؟
   فأجاب:
ـ مع إنني لا اعرفها، لكن لا معنى أصلا ً للبحث عن حلول للمشكلة التي لا حل لها.
وأضاف من غير تردد، أو تلعثم:
ـ فالحمل حصل....، إن كانت الأم عقيما ً، والوالد مخصيا ً، أم لا...، فالحمل بحد ذاته ذهب ابعد من المعجزة! فما فائدة المعجزة أن تحصل من غير حمل...، وما معنى الحمل الذي حصل حتى لو لم تكن هناك معجزة....؟
ـ صحيح، طمأنتني....، لكن اخبرني ماذا سنفعل؟
ـ الاحتمالات كثيرة..، متعددة، ومتنوعة...، فانا سمعت إنهم سيوزعون العلف مجانا ً، وسمعت إن سنوات الجفاف قد بلغت نهايتها، وسمعت إنهم سيسمحون لنا بالعودة إلى الحقول، والى المزارع...، بل ويسمحون لنا بالهجرة إلى حدائق العالم، من غير قيد أو شرط، بل وهناك أخبار سارة أخرى لا تحصى...
     أخبرت البقرة جنينها:
ـ هل سمعت، الم اقل لك أن المستقبل لنا!
وتأوهت:
ـ آ ...، لو كنت شاعرة وأنشدت: لن ندعك أيها المستقبل تمشي وحيدا ً في المتاهات!
فقال لها:
ـ وهل يمتلك السيد والدي الإجابة على السؤال الذي لا جواب عليه؟
   ارتج جسدها، وارتجفت، فقال الثور يخاطب الجنين:
ـ  يا ولدي....، أنصحك: لا تخرج!
ـ قلت لها...، ولكنها قد تهلك بسببي؟ فما أن أموت، حتى يأتي الطبيب، ويأمر بإرسالها إلى ....، والباقي أنت تعرفه، فانا قبل أن أتكّون تكوّنت في ّ رائحة السكين!
    خار الثور، ودار حول البقرة دورة كاملة، وتمتم:
ـ لا حل للمعضلة التي نحن فيها.
ـ أية معضلة....، الم تقل إنها غير موجودة باستحالة وجود حل لها؟
ـ بالضبط...، لأن حملك لا وجود له، وهذه حقيقة لا يمكن دحضها.
ـ تماما ً، ولكنه يرفس، وربما يلعب، وربما نال عضوية السيرك، أو نال شرف الزعامة...، من يدري، عندما تكون المعرفة آخر ما يحصل؟
 فخاطب الثور الجنين:
ـ وماذا لو لم تكن أمك عقيما ً، ووالدك مخصيا ً، وماذا فعلت لو تكن السنوات سنوات قحط، وفاقة...، يلهو الفأر بالأسد، والبعوضة تدرب النمور على الرقص، القملة تتزعم مواكب المجد، والضفدعة تغزل شعرا ً بمغزل الريح....، ماذا كنت فعلت؟
   ولم يدع الجنين يتفوه بكلمة، أضاف متابعا ً بصوت مرتجف:
ـ هل سنعرف ماذا تفعل...، أتأتينا بالمعجزات....، وتبشرنا بالخوارق...، أم لا تكون إلا خير خلف لخير سلف...؟
   لم يدم الحوار طويلا ً، لأن البقرة جاءها المخاض، فوضعت عجلها. الأخير نهض حالا ً. على انه لم يكن عجلا ً، بل شبيها ً بديناصور له رأس أفعى، وذيل تمساح، فخاطبهما بصوت حاد:
ـ لا أريد أن أراكما أمامي أبدا ً....!
     صدمت البقرة، لكنها راحت تعالجها بمشاعر أم، فولولت، وأخذت تتضرع، ثم وجدت إنها تتخذ موقفا ً مغايرا ً:
ـ لولا الوصايا ....، وأنا تركتها تتسلل إليك، عبر دمي، طوال حملي لك...، لكنت أرسلتك إلى المحرقة!
فقال لها بصوت مدو ٍ:
ـ أنا هو من يقول: لولا الوصايا ....، لكنت ....، ولكن آن لك أن تذهبي، اغربي، وابحثي عن زريبة لا أراك فيها. أما أنت، أيها المخصي، فاختر المصير الوحيد الذي لا تستطيع أن تتلافاه!
    اقتربت البقرة منه، وسألته، قبل تهم بالفرار:
ـ أهذا جزاء عملي معك، أهذا ثمرة شقائي، أهذا ما كنت آمل أن احصل عليه؟
صرخ غاضبا ً:
ـ ومن طلب منك بذل هذا كله...، اهو من اجلي...، أم إن السنوات العجاف تعرف بماذا تحبل، وبماذا تلد...؟
    خار الثور، ودار حول نفسه، مثل مخمور، مع انه تجنب تناول ماء البركة المسكر، وصرخ في وجه الديناصور الوليد:
ـ لن تفلت منهم!
ـ يا أحمق...، أتعرف من أنا.....؟ أنا هو سليل تاريخ طويل يسري في ّ...، أنا المنحدر من الأفاعي، والديناصورات العملاقة، من التماسيح، ومن ذكاء الضباع، وحنكة الغربان، ومكر الهداهد، أنا أخذت من سم العقارب حصانتي، ومن القنافذ دفاعاتي...، ولم ارث منك إلا هذا القرن! وسأكسره.
     أمر الابن حرسه الخاص برفع القرن الشبيه برمح، واستبداله بقبعة، وإضافة حراشف شفافة للذيل، مع تركيب حزمة من الأجنحة للطيران العالي، وأخرى للطيران الخفيض، من غير إهمال نصب مجسات رادارية للمراقبة عن بعد.
   صفق الثور، بإرادة لا واعية، شارد الذهن:
ـ حقا ً أنت وحدك جدير بالبقاء...، وحدك جدير بالثناء...، فماذا تلد المحنة غير من يقهرها!
قال الابن:
ـ اغرب عني...! فانا بنفسي سأذهب إلى البحر واتي بالغيوم، أنا بنفسي سأصلح ما تم تخريبه، سادعوا الموتى للمشاركة في اعمار ما هدمه الأعداء، والفاسدين، والكسالى، أنا بنفسي سأعاقب كل من مس ارض حديقتنا ومستنقعاتها وأجنحتها....، آنذاك تكون السنوات العجاف قد بلغت نهايتها.، فلا منازعات، ولا حروب، ولا تمويهات.
فقال الثور متضرعا ً:
ـ خذني معك! أتضرع إليك، قبل ذبحي؟
ـ آ ...، أيها الأحمق، أنا لن أغادر قبل أن أراك معلقا ً، ولحمك يوزع للضواري الجائعة، وقبل أن أرى جلدك يرسل إلى المصانع لتصنع منه البساطيل، والحقائب، وارى الباقي يرسل إلى المتحف..!
   فكر الثور مذعورا ً:
ـ أبن من أنت...؟
ـ أنا هو ابن المحنة التي لا وجود لها! فانا هو ابنك، وابن تلك التي تعرف بمن حبلت!
    بعد أن كبل الثور بالسلاسل، وربط بالحبال، خاطب الابن:
ـ أيها الزعيم ....، أيها المغوار، أيها القائد، أيها البطل ....، لا تلد المحنة إلا من يذهب ابعد منها.
    اقتربت البقرة من الثور، وهمست في آذنه، وهي ترتجف أيضا ً:
ـ ذات مرة أخبرتني بان المعضلة التي لا حل لها هي وحدها تحمل بشارة الخلاص؟
ـ كان هذا في سنوات الخوف، والقحط، والمجاعة، والخراب...
   فسألته:
ـ وهل اختلف الأمر...؟
ـ لا...! فالزعيم أمر بتوزيع الهدايا، وأوسمة المجد.
    اقتربت البقرة من الزعيم، وراحت تتضرع أن يخلي سبيل زوجها، لأنهما سيغادران، من غير رجعة. لكن الزعيم قال بصوت آمر:
ـ  سأفعل ذلك! بعد أن سأغفر للجميع؛ للبعوض والعناكب والبرغوث والقمل والسحالي والجرذان والديدان والحشرات والبرمائيات والخنازير وبنات أوى، إلا هو .....، وأنت معه!
   فقالت البقرة وهي توشك على الانهيار:
ـ لم يكن الذنب ذنبه، صدقني أيها الزعيم الجبار، ولم أكن أبدا ً شريكته في ارتكاب هذا الذنب...، فلا هو ارتكب الإثم ولا أنا آثمة!
ـ آ ...، يا لها من أسطورة! يا لها من مسرحية، ملهاة، عندما اجهل الجواب على سؤال: من أتى بي إلى هذا الوجود إذا ً...؟
ـ لا احد! فأنت ابن هذه الزرائب، والحظائر، والحفر، والمستنقعات...، ولدت من الهواء والتراب في ليلة المجاعة، بعد اشتداد المذابح، إبان سنوات الفاقة، وتفشي الأوبئة، أنت هو ابننا الغالي، العزيز، أيها القائد الخالد. ألا يرق قلبك لكلمات أم تجهل من يشفي جرحها، مع إنها حرصت أن تحميك من الأذى، ومن الظلمات.
       وراح يصغي لها، بلا مبالاة، فسره أن يرى الجميع غادروا أوكارهم، حفرهم، جحورهم، حظائرهم، وبركهم، ليتجمعوا بمجموعات ملأت الساحة الكبرى، والممرات، والمساحات الأخرى، وهم يهتفون، يزعقون، يصفقون، ويلوحون للابن الذي أمر بوضع نهاية لعصر الجفاف، والشروع بتدشين عصر الرفاهية.
    فخاطب الجميع، وهو يربت فوق كتف الثور، من اليسار، وفوق كتف البقرة، من اليمين:
ـ كانت سنوات يجدر بنا نسيناها، ومحوها من ذاكرتكم...، وإلا ما فائدة تذكر الفوضى، وتذكر خسائرها، حيث الجار قتل جاره، والابنة دست السم لوالدها، والابن لم يلتزم بالوصايا.....، والزوجة توشي بزوجها، ولم ينج من هذا العصر الغريب إلا هذا الواقف أمامكم، وهذه الأم التي حبلت بي رغم استحالة الحمل، إلا بتوفر حزمة من المعجزات...
     هتف وزير التصفيق والدعاية:
ـ ارفعوا أصواتكم، ابتهجوا...، اهتفوا ...، فالقائد لم يخرج إلا من رحم الحرية، ولم يأت إلا بعد أن قهر الاستحالات، وعبر محيطات المياه الآسنة...، فانتم يا سكان حديقتنا، طلقاء...، طلقاء بمعنى الكلمة، وبإمكانكم الحصول على مكرمات زعيمنا هدايا مجانية، في ذكرى عام النصر، والفلاح، والمجد.
   بكت البقرة، وهي تعانق الثور:
ـ الم ْ أخبرك، يا خلي الغالي، إن النهايات السعيدة، هي وحدها التي تزيح سنوات الغبار، والوحل، والرداءة...، الم اقل لك إن المستقبل لحديقتنا، وعصرها البهيج.
      اقترب الثور منها، وهمس في آذنها من غير كلمات، ففهمت انه حصل على مزرعة نائية وعليها أن ترافقه في الذهاب إليها: حيث هناك، أيتها الغالية، سنفكر بإنجاب ابننا الثاني، بعد زوال السنوات العجاف!
    فقالت الأم تخاطب زعيمها:    
ـ عندما التقطتك من الشمس، سمعتك تقول لي، أماه: كلما ازدهرت النكبات فالأمل يكون قاب قوسين أو أدنى...، فقلت لك: لن تدوم الظلمات إلا وتجد من يروضها، وما أن وضعتك، أيها الزعيم، حتى بدأت بشائر الرخاء، وبدأ شعبك يدرك انك قدوتهم، فالشمس دليلك، وشعبك زرعك! فلا عقم ولا عقيمات، ولا قصاب يلوح بالسكين، ولا مجازر، ولا أقفاص، لا القوي يسلب قوت الضعفاء، ولا الضعفاء يسرقون من كنوز الأغنياء، الكل يتنعم بالموازنة، والمصالحة، والشفافية، وإلا سيقال ماذا تلد الأفعى غير الصل، وماذا تلد الظلمات غير الظلم؟
     اقترب الثور منها كثيرا ً، وهمس في آذنها، من غير كلمات، خشية قراءة ما يدور برأسيهما، ففهمت أن لا تتكلم، وان لا تفكر، وان لا تحلم، بل أن تمشي خلفه، بهدوء، بوقار، وبصمت، لأن هناك زمرة من القصابين، يقفون عند بوابة الحديقة، بالانتظار!
28/1/2017

النزعة الوطنية في رواية "الزيتون لا يموت" لعبد القادر بن الحاج نصر-هيام الفرشيشي


نقد

النزعة الوطنية في رواية "الزيتون لا يموت" لعبد القادر بن الحاج نصر



هيام الفرشيشي

  
انخرط عبد القادر بن الحاج نصر ككل كتاب الرواية إثر الاستقلال في موجة كتاب الرواية الوطنية ، وبما أن الرواية الوطنية تستلهم صفحات التاريخ المشرقة والشخصيات الفاعلة في صنع الاستقلال وقوى الشعب التي تفاعلت مع هذا المشروع السياسي المناوئ للاستعمار ، فقد كانت بمثابة ولاء للوطن وإثبات للذات ، و تنشئة الأجيال على الحس الوطني وعلى النسج على أحداثه البطولية ، لذلك تعتمد أغلب الروايات الوطنية للتدريس في المعاهد الثانوية ببلادنا ( تونس ).
تنفتح رواية "الزتون لا يموت" على حيرة الاسكافي وهو يمسك الجريدة القديمة ، ويؤجل الحديث عن عنوان الجريدة إثر تلمس الحالة النفسية والمزاجية للشخصية التي تريد الانتقال إلى مكان موهوم يخرجها من التردد والاستسلام ، الصحيفة إذن هي العمل : " لقد سمع أن جريدة العمل قد أحتجزت هذا الصباح ، وهي لذلك لم تصل إليه ليقرأها .. ويخيط الأحداث بين سطورها ، ويفهم موقفه من نفسه ، ومن منزلته ، ومن العالم . لقد علم أن الجريدة صدرت وأحتجزت ، وهاهو يقرر أن يراجع موقفه " ص11 . ثم نراه يتساءل إثر وصف حركات يديه المتشنجة ونظراته القلقة " لكن لماذا احتجزت سلطات الاحتلال جريدة العمل . إنه يكاد يعرف ذلك . ويعرف أن فيها حروفا كان من الأجدر أن يطلع عليها .. ويقرأها ويعيد قراءتها . هذه الحروف قد تنير له السبيل .. إنه يعرف ما تخفيه من أسرار . إنه يعرف ككل الناس ماذا تعني كتابة العنوان باللون الأحمر .. يعرف أن ذلك بداية نشاط وحركة .. وكم ظل يتابع هذه العناوين الحمراء ، وأجهد نفسه ، فظل لاهثا وراء سر كلماتها حتى أدركه ، وهو لا يشك أنه أدركه على حقيقته " ص12
يبدو الاسكافي عضوا في حركة التحرر من الاستعمار فهو يدرك الإشارات السياسية ، ويتناول فحمة ، ويكتب شعارات على الحائط مناوئة للاستعمار : " أيها الاستعمار ما أجمل أن أرى رأسك الخامج مصلوبا على خشبة .. مرميا في صتدوق قمامة " ص13 . بل يكتب أكثر من شعار وهو ينكل بجسم الاستعمار رغم إدراك مصيره المرتقب . وينتقل من كتابة الشعارات إلى كتابة الخواطر الذاتية المجسدة لوعيه السياسي والذي تفجر من خلال مواكبته لقراءة مقالات الزعيم بورقيبة ، وهو يتجسد لنا بهذه الأعمال بمثابة المثقف العارف بأصول اللعبة السياسية أكثر من كونه عامل بسيط ، إذ يتخطى التعبير المباشر إلى الرمز حين يرسم منزلا ومدخنة طلاها بالسواد لكي تختفي وتحل محلها شجرة الزيتون .
تبدو شخصية الاسكافي واضحة ، وهي شخصية الوطني المناوئ للاستعمار والذي يمتلك أبجديات وترميزات الفعل السياسي على أنه اسكافي فهو في حالة توتر وحيرة ويريد أن يجسد منزلته الإنسانية في هذا العالم ، وهو في حالة ضيق من المشاهدة اليومية لعساكر الاستعمار وهو ينكلون بالتونسيين ، بل يكشف لنا عن السبب الأساسي لرغبته في التنقل من المكان الذي سلط عليه مشاعر الضيق : " سنجازيك .. ائت لنا بالأخبار .. سنعطيك الدراهم . سنريحك من عملك .. اعمل معنا .. ستصبح معنا كالموظف .. ستمنح أكثر من الموظفين .. سنعطيك منزلا جديدا ..هل فهمت ؟ " ص19 . إنه يقاوم إغراءات المستعمر لأنه صاحب قضية سياسية ووطنية لا تجسم إلا بالنضال والثبات . وهو يمتلك الدافع الكافي لخوض المعركة ، بل يبدو لنا قويا في تصوير مشاعر النقمة التي انفجرت داخله ، إنه شخصية ايجابية فاعلة ، يمتلك من البسالة الذكورية ما يجعله لا يقل قيمة عن السياسي المحنك الحاضر في ضمير ووجدان الشعب .
والوطن هاجس ومحرك لأفعاله تلك التي تؤطر بداية الحركة والعمل السياسي منذ بداية الرواية ، من خلال التركيز على الصحيفة التي تؤطر الوقائع السياسية والتاريخية المعروفة . فوعي الاسكافي يجسد الوعي السياسي من خلال أنموذج حزبي : " سيكتب على جدران الدكان : يسقط الاستعمار .. يحيا الحزب .. يحيا الشعب حرا .. يسقط الجنرال " ص21 . والدافع للحركة هو إرادة الحياة ، وتنزيل المناضل منزلة البطل : " كيف يجب عليه أن يحمل مصيره ، كما يحمل الأبطال مصيرهم .. أجل ! إنه أيضا بطل " ص25 .
ينتقل الكاتب من فضاء القرية إلى فضاء المدينة حيث حركات الأيادي غاضبة متشنجة وفيها غضب وعنف ، وحيث يعثر على الحلم الجماعي الذي نبت في القرية الساكنة . والغضب بركان خامد ينتظر قوة الدفع ، واستشعر أن المسافة تقصر بينه وبين حلمه ، وبين الناس في هذا المكان ، بل اكتشف الرابط العاطفي الدقيق الذي يشدهم وهو الشعور الوطني . فيسترجع الحوادث والتحركات الوطنية لهؤلاء الذين انفجروا في "وادي ميللز" أو في "سوق الأربعاء" ، "لماذا لا يكون واحدا من الذين انفجر بهم هذا اليوم " حمام الأنف" وتظاهروا أمام قصر الباي هاتفين بحياة تونس وسقوط الاستعمار " ص32 .
هناك في الغرفة الصغيرة قاده أحمد الذي التقاه على الرصيف ، هناك تحدث عن جراد الجنرال ، وذهل حين عرف بأن أحمد يعرفه لأنه تعرف على جميع أعضاء الحركة . إن زمن المدينة وفضاءاتها لا ينفتح إلا على المظاهرات ، وشخصياتها لا تنم إلا على العمل السري ضد الاستعمار ، بدءا بعامل البلدية الذي ينقل أخبار ومواعيد الاجتماعات والمظاهرات ويوزع المناشير . فكل الأحداث السابقة ما هي إلا تبرير لمظاهرة 8 افريل في "رحبة الغنم" . فالزمان والمكان يشيران إلى حدث تاريخي هام اتسعت له زقاق وجدران المدينة والذي ترتب عليه الشعور بالانفراج : " ذلك أن الفجر قد بدا يقترب من السماء والأرض والعباد . وأن الليل شرع في الابتعاد . وكان في نفسه حنين لا يقاوم " ص50 .
للمعركة ضد المستعمر قائد للحركة ، وجموع تتدافع في ساحة القصبة ، يحملون اللافتات ، وبرز أحدهم وهو يخطب . وقد استبدل الكاتب كلمة "متظاهرين" بكلمة الشعب ليعطي لتلك الأحداث طابعا وطنيا :
- بداية المظاهرة في رحبة الغنم على مقربة من منزل الزعيم الذي كان طريح الفراش - المناداة ببرلمان تونسي عبر الصراخ والهتاف
- الامتزاج بين مظاهرة الحلفاوين ومظاهرة رحبة الغنم في باب بحر .
- القبض على علي بلهوان وجلبه إلى المعركة العسكرية لاستنطاقه بالتربينال
- المطالبة بإطلاق سراح الزعيم علي بلهوان
- إطلاق الرصاص على المتظاهرين من قبل المستعمر
- التقاط الحجارة وقذفها على جنود الاحتلال
- اندفاع جماعة نحو عربة تراموي وأوقفوها وكسروها
- نقل الضحايا غلى نادي الحزب
- القبض على أعضاء الحركة
وإثر هذه الاحداث الوطنية المؤرخة تنتهي رواية " الزيتون لا يموت " بالأمل على المعاناة : " وأحس أن الظلام يداهم عينيه .. وأنه يريد أن ينام .. أن يسقط على الأرض .. وكان الليل آنذاك يتحول إلى فجر " . وما نستشفه من خلال هذه الرواية عودة المؤلف إلى أحداث الرواية انطلاقا من تاريخ الحركة الوطنية في تونس والتي تعد ملحمة كفاح انسجم فيها القائد الوطني مع أعضاء الحركة وانتقى الوقائع والأحداث التاريخية المقترنة بعيد الشهداء (9 أفريل) وهي نتيجة عمل سياسي منظم بقادة زعيم الحزب الحبيب بورقيبة ، والذي فجر الوعي السياسي في نفوس الأحرار عبر كتاباته في جريدة العمل .
وتمجد الرواية العمل الوطني ، وتبني على شخصيات فاعلة انتقلت من حالة الضيق إلى حالة الانفراج . ولم تقل الرواية شيئا جديدا عما ورد في كتب التاريخ إذ قامت على استلهام المقاومة من شخصيات تاريخية معروفة وخاصة الزعيم بورقيبة التي ظلت صورته غائبة ، ولكن كلماته هي الحاضرة والمرتسمة لأنها تشكل الوعي الوطني في أذهان أعضاء حركة الحزب . كما تناولت شخصية علي بلهوان لكونه خطيبا سياسيا دون أن يقترب الكاتب من روح تلك الشخصية ، فقد وردت في سياق الأحداث لكونها من "الحوافز المشتركة" التي تؤدي وظفتها حسب السياق والواقعة . اما شخصية الزعيم بورقيبة فهي من " الحوافز الديناميكية " التي ساهمت في تغيير الأحداث بتوجيهاتها . أما الاسكافي وأحمد وعامل البلدية وغيرهم من المتظاهرين فهم " حوافز ديناميكية " أيضا قامت على عاتقهم الأحداث النضالية ، وهي أرفع من ان تكون شخصيات قارة مساعدة ، فقد كتب الاسكافي الشعارات الحزبية وترك دكانه حين طلب منه المستعمر التحول إلى مخبر وانخرط في العمل السياسي التحريري ، وأحمد الذي خرج من السجن السياسي وعاد إليه في آخر الرواية ، وهو يتلقى العقاب والإهانات كان يؤمن بديمومة الصراع ، ويبقى عامل البلدية رمزا وطنيا " إن عامل البلدية زيتونة مباركة يضيء زيتها .. في كل شارع من العاصمة عامل بلدي فرع من هذه الزيتونة كاملة لها فروعها " ص94
- كل تلك الحوافز المشتركة والديناميكية يرى من خلالها الوعي الوطني ، فاهتمت الرواية بهاجس الوعي السياسي في حركة زمنية خطية . تتجه من التأزم نحو الانفراج وجعلت المنطق التاريخي يعلو على المنطق الروائي .فلم تتشعب أحداث هذه الرواية بل كانت تتجه وجهة مقررة وهي التمهيد لأحداث 8-9 أفريل 1938 . ولم تخرج هذه الرواية عن خط الرواية الوطنية التونسية التي ظهرت مع محمد العروسي المطوي حيث ينفذ الفعل السياسي المنكمش من القرية إلى المدينة كفضاء للعمل السياسي والعمل السري .



اساطير الحضارات العراقية- ابتسام يوسف الطاهر




تراث

اساطير الحضارات العراقية


ابتسام يوسف الطاهر

  
 
بالرغم من غنى التاريخ العراقي متمثلا بثلاث حضارات الآشورية والبابلية والسومرية، والتي تركت أثارها بصمة مميزة بين الحضارات القديمة وقد كانت مهدا لما أتى بعدها من حضارات، حيث نشأت قبل ما يقارب 7000 قبل الميلاد. وبالرغم من الأرث الحضاري  التي تركته تلك الحضارات  الثلاث، من بقايا مدن ومؤلفات كتبت على الواح طينية من اساطير وقوانين مكتوبة ومنحوتات، ومعابد بعضها انتقل تصميمها لقارات أخرى كما في حضارة المايا في المكسيك التي تشبه بعض معابدها المخروطية  معبد الزقورة المعروف في العراق. بالرغم من كل ذلك  لم يحظى العراق وارثه  الحضاري الذي يتميز به بالاهتمام الاعلامي الذي يستحقه اوالدراسات الاثارية كما هو بالنسبة للحضارات الاخرى ، الاغريقية او المصرية.
فقد عرض التلفزيون البريطاني عشرات الافلام الوثاقية والدراسات عن الحضارة الفرعونية والاغريقية والرومانية. بينما لم أشاهد فيلما واحدا عن حضارات العراق!
 لاشك ان السبب الرئيسي هو في مستوى الاعلام العراقي الذي لم يكن له دور فعال في هذا المجال..حيث اكتفى سابقا بالتركيز على حروب القائد الكارثية، وبعدها تعطل كما تعطلت مؤسسات الدولة العراقية بسبب الاحتلال والارهاب والفوضى.
للأساطير العراقية دور كبير بتشكيل الكثير من المعتقدات الدينية فقصص التورات بكل أسفارها اعتمدت على الاساطير السومرية والبابلية وأخذت عنها الكثير. فقصة دموزي او تموز من اكثر الأساطير العراقية التي تناقلتها الأجيال واستوحت منها الشعوب بعض طقوسها الدينية. ذكر دموزي في الأنجيل (انجيل حزقيل) باستخدامه الكلمة العبرية (تموز) البابلية الأصل، والتي مازالت تستخدم اليوم كاسم لشهر جويلية أو يوليو july، وقد استخدم اسم تموز بالتقويم السنوي قبل ثلاثة الآف سنة.
فاحتفالات القدماء بعودة تموز للحياة تشبه الاحتفال بقيامة المسيح أواحتفال بعض الشعوب بالربيع كما هو في اعياد النوروز وعيد الشجرة او عيد الربيع او عيد شم النسيم في مصر وكذلك عيد الام لان الام رمز للخصوبة والحياة وتجددها.
والحزن على موته او انتقاله للعالم السفلي تشبه الى حد بعيد احتفالات عاشوراء وذكرى استشهاد الحسين كذلك احتفالات المسيحيين بالجمعة العظيمة أي اليوم الذي صلب به سيدنا عيسى وبالايستر،  والاسم هنا يوحي باسم عشتار التي تتبادل العودة لعالمنا مع زوجها الاله دموزي.
يقول الباحث سيد القمني في كتابه الأسطورة والتراث، ان هناك شبه اتفاق على أن الدين الابتدائي في ظهوره يشبه الأسطورة. غير أن الدين يتميز عن الأسطورة حيث الاخيرة بعيدة عن الفردية وغير مفروضة. فيحق للناس تصديقها أو رفضها. بينما الدين جاء بفعل ظروف موضوعية دخل فيه الجانب الفردي واللمسة العبقرية، فأصبح توجيها مخططا ليصبح اعتقادا مفروضا فظهر مفهوم الأيمان والكفر.
وظهرت مدارس عديدة لتفسير الأسطورة ودراستها ، تقوم على مبادئ ثلاث: 1-الأسطورة تصف حقائق تاريخية. 2- انها رموز لحقائق فلسفية دائمة. 3- أنها انعكاسات لعملية طبيعية بصيرورة لا تتوقف.
ومجمل المدارس التي تهتم بالأسطورة تتبع مناهج عدة منها البوهيمي الذي يرى أن الأسطورة قصة لأمجاد أبطال غابرين. والطبيعي، الذي يعتبر أبطال الأساطير ظاهرة طبيعية تم تشخيصها في قصة لشخصيات مقدسة. والمنهج المجازي الذي يرى أن الأسطورة قصة مجازية تخفي معاني ثقافية عميقة. أما المنهج الرمزي فيرى الأسطورة تعبيرا عن فلسفة كاملة لعصرها لذا يجب دراسة تلك العصور لفك رموز الأسطورة. بينما المنهج العقلي يرى أن الأسطورة نتيجة لسوء فهم او خطأ بتفسير رواية او حادثة أقدم، ارتكبه مجموعة أفراد من الذين تداولوا القصة. بينما منهج التحليل النفسي يحتسب الأسطورة رموزا لرغبات غريزية وانفعالات نفسية.
تبقى الأسطورة نقل مبالغ به ربما لطبيعة التفكير الجماعي لظاهرة معينة أو محاولة لتفسير بعض الظواهر الطبيعية التي حيرت الإنسان منذ بداية تكوين المجتمعات البدائية . وبالإمكان قراءة بعض العبر من بين سطور تلك الأساطير. فقصص الأساطير تشكل العمود الأول لتراث الشعوب ، لتستمد من ذلك التراث الكثير لو عرفت كيف تحافظ عليه وتدرسه بشكل معمق بعيد عن السطحية وتستلهم منه منهج التفكير والتساؤل الذي بواسطته يتم التطور والتقدم.
 
قصص من العراق القديم
  

لاشك ان هناك الكثير من الباحثين والمهتمين بعلم الآثار من البريطانيين وغيرهم وهناك العديد من الكتب عن حضارة وادي الرافدين (ميسوبوتوميا) كما أطلق عليها الاغريق.
 من بين المهتمين بهذا الشأن هناك مجموعة تسمي نفسها (زيبانغ)  zibang وهي كلمة سومرية تعني (تنفس الحياة) باللغة الاكدية ، أو (ينبوع الحياة) بالسومرية. هذه المجموعة لها نشاطات بإعادة ترجمة الميثولوجيا العراقية للانكليزية وقراءة القصص الاسطورية على الطلاب والمريدين. ومنهم (فران هازلتون) صاحبة كتاب (قصص من العراق القديم) الذي ترجمته للانكليزية عن اللغة السومرية والاكدية. حيث أعادت صياغة القصص بأسلوب يتماشى مع مفهوم السامع الانكليزي ويسهل على القارئ الانكليزي استيعاب روح القصة.
فران هزلتون حفيدة لأحد الموسيقيين، درست السياسة والفلسفة والاقتصاد في جامعة اكسفورد. ثم درست الميثولوجيا بالحضارة الشرقية في جامعة الدراسات الأفريقية والشرقية في لندن (SAOS).
تقول الكاتبة أنها صارت قارئة  (story teller) لقصص وأساطير بلاد مابين النهرين بمساعدة زملائها مثل فيونا كولينز وجون بيتر وعازفة القيثارة العراقية تارا جاف. فقد أعادوا قراءة تلك القصص التي كتبت قبل ما يقارب الأربعة آلاف سنة، بطريقة أكثر سلاسة وقربا للسامع من ترجمات الأكاديميين فوجدت قبولا وتجاوبا من جمهور السامعين.
الكتاب يحتوي على اثنا عشر قصة من الأدب الأسطوري السومري والاكدي. مأخوذة عن الألواح الطينية التي تركها السومريون والأكديون من مختلف الأحجام من التي يصل حجم بعضها من الصغر أحيانا الى مالا يزيد عن ثلاث سنتيمترات عرضا ومثلها طولا تحتوي على مواضيع قصصية أو تعليمات بكتابة من الدقة والصغر تذهل المتمعن وتثير إعجابه بحرفية الكاتب في ذلك العصر ودقة عمله.
ويتبين أن هناك اختلاف باللفظ بين اللغة السومرية والأكدية وكذلك البابلية . فمثلا مدينة (اوروك) الاكدية تلفظ بالسومرية (اونوج) واله السماء (آنو) يلفظ  بالسومرية (آن) . واكد تلفظ بالسومرية (آجيد) الجيم تقرأ على الطريقة المصرية كما يعتقد الباحثين. كذلك الالهة عشتار البابلية يسميها السومريون انانا، والاله تموز البابلي هو دموزي عند السومريين.
في تلك الأساطير  نرى الالهة يتصرفون مثل البشر بمزاجية من غضب أو رضا أو غيرة! وقصر نظرهم يؤدي أحيانا الى كوارث كما هو بالطوفان. كذلك يشعرون بلحظات من الفرح والتسامح.
ومن قراءتنا لتلك الأساطير نجد الاسئلة ذاتها الذي حيرت الإنسان لليوم، ما الفرق بين الخلود والعدم؟
 (mortal & immortals) . ولماذا لا يصل الانسان للخلود، ولماذا تغيرت حياة الناس بعد الطوفان؟.
وترينا الأساطير أن الهة بلاد مابين النهرين (العراق) بنت المدن وشقت الأنهر والجداول لكنها ما عادت تمشي على الارض. فا حيانا يعينون ملكا ليدير المدن نيابة عنهم. وكثير من الأحيان يتصرف الملك بلا حكمة ويفشل بالحصول على رضا الناس فيستخدم القوة والتهديد ليسيطر عليهم.
في قصة (حلم ديموزي) ص123، نرى الاله الذي هو الراعي وزوج اله الخصب انانا في الميثولوجيا العراقية، ويعرف زواجهما بالزواج المقدس، ويشكل موته وعودته للحياة كل عام في فصل الربيع رمزا لتجدد الحياة وتجدد الخصوبة. أو هو محاولة من الإنسان في ذلك الزمن لتفسير ظاهرة الربيع وتجدد الحياة لكل الكائنات الحية، وسباتها أو موتها في فصل الشتاء.
وتعكس لنا تلك القصة طبيعة الحياة حينها حيث يقتصر العمل على الرعي والفلاحة، والرعاة والفلاحين عادة ما يتعرضون للخطر من الظواهر الطبيعية أو من سطوة وقسوة الحكام عليهم بفرض الخدمة أو اتخاذهم كمحاربين رغما عنهم.
"كان ديموزي يسير وحيدا بارضه اعتمر قلبه الحزن "ايتها الجبال، هل ستبكينني حين أموت؟ أيتها الأهوار أيها النهر ، هل ستبكونني حين اموت؟.. هلا اخبرتم امي بموتي لو نادتني لآتيها بالخبز ..هل ستنتحبون علي مثل اختي كشتينانا؟".
 "تمدد ديموزي على العشب ونام ..استيقظ فرك عينيه كان مرعوبا صاح "كيشتينانا، اختي الصغيرة التي تغني أعذب الغناء الحكيمة الذكية التي تجيد الكتابة على الألواح الطينية، التي تعرف تفسير الأحلام تعالي واخبريني على حلمي..في ذلك الحلم رأيت قصبا يحيط بي..احدهما هزت رأسها لي ..وأخريات قسمت نصفين شجرة طويلة...".  تطلب منه اخته السكوت وقد أرعبها الحلم الذي فيه نبوءة موته فتفسر حلمه بأن القصب الذي يحيط به هم الاشرار الذين سيقبضوا عليه، والقصبة التي هزت رأسها هي أمه التي ستحزن عليه، والقصبة التي شقت نصفين هي دموزي واخته حيث سيفترقان، تقول القصة انه بالرغم من محاولة اله الشمس اوتو لمساعدة دموزي والاستجابة لدعائه وتوسلاته فيحوله لغزال ليهرب من الرجال الأشرار، لكنهم في النهاية يتمكنوا منه.. فيحل الحزن والظلام لموت دموزي ليتبادل الدور مع انانا التي لابد أن تسلمه للعالم السفلي لتتمكن هي من العودة لعالم الارض، للحياة، ليعود مرة اخرى بحلول الربيع.
معظم القصص توحي كتابتها بانها كانت صلوات.. كأنها أدعية أو تراتيل لتمجيد تلك الالهة أو تقربا لها، فيها تكرار لبعض العبارات. كما يبدو جليا في قصة (انانا والملك)ص117:
"كل يوم حين تغيب الشمس ترتفع نجمة عشتار وتتلألأ في السماء..كل شهر يتضاءل نور القمر وتظهر قوة النجمة وتشع بنورها..كل سنة في بداية الربيع ينام الملك مع الالهة انانا ليمارسا الحب حيث تتفتح الزهور وتبرعم الاغصان وتزدهر الارض ويتبارك الناس...قديما في أرض سومر شحب الضياء حين اقترب اليوم من نهايته، نهضت انانا وأضاءت كما تضئ نجمة المساء (الزهرة)..اضاءت السماء كحزمة ضوء
توقف الناس ليتطلعوا لها
ارتفعت الطيور تحلق في السماء عاليا ذهبت لتستريح في بيوتها
وسبحت الاسماك في اعماق الانهر
كلها سبحت بحمد انانا.. في لرض سومر كل الشباب الذين وجدوا الحب والمتعة مع الازواج. صلاة لالهة انانا سيدتنا سيدة المساء.
في كل مساء حين يحل الظلام تشرق انانا بضياء  كالقمر او الشمس ظهرا، بينما الناس نيام..تحرسهم حيث تمنع الشر وتثيب العدل وتنشر الخير.
كل يوم وقبل بزوغ الشمس تبزغ نجمة انانا كل صباح تشرق بابتسامتها العذبة للناس..الذين ملئوا موائدهم بالجبن والتمر والعسل والفواكه مع نبيذ الصباح .. ذبحوا القرابين لها ووجد الراحلين طريقهم سالكا لعبادتها..لانانا بنيت المعابد .. المجد للالهة انانا التي تدين لها كل قوة..التي نحها ابوها (انكي) اله الحكمة والماء العذب.. حين زارته لدى (ابزو) اين ينبع الماء والحكمة.
سارت مواكب اهالي سومر ذوي الشعر الاسود، تدق طبولهم الالحان القدسية. يتقدمهم الصبيان باحلى ملابسهم سرحوا شعورهم.. ثم النساء الحكيمات اكثرهم حكمة ترافق الملك.. يتبعهم قارعي الطبول بعدهم الجنود يوفهم جاهزة للدفاع عن انانا...يتبعهم الاسرى يغنون لانانا ..ثم موكب البنات ذوات الشعر الاجعد يتبعهن الكهنة كلهم اتوا لانانا.
"يحيا الملك والصلاة لانانا"  يهتف اهالي سومر ذوي الشعر الاسود، فهناك الكثير من الطعام والشراب ، والموسيقى الصاخبة التي كافية لتصد عنهم الرياح الجنوبية.
المجد والحمد لانانا ملكة السماء والارض، اكبر بنات القمر خالدة الشباب.. المجد للالهة انانا.ص 122
من هذه القصة وغيرها نعرف عن اشكال اهالي سومر عن طعامهم وطقوسهم. وطريقتهم بالتفكير والاحتفال والابتهاج  بالمناسبات الدينية في ذلك الوقت.






أنا.. الماكنة.. النقود-علي الابراهيمي

من أعمال الفنان وليد القيسي
  
نصوص


أنا.. الماكنة.. النقود



علي الابراهيمي



   
أنا, في عالم من اوراق المرحاض المموّهة بالألوان والرسوم, والتي نطلق عليها اصطلاحا (النقود), أعيش كأنني آلة, مع احترامي لمكانة الآلة والماكنة. فانا ادرك جيدا ان مستواي الطبقي هو دون مستوى الماكنة , ويتوجب عليّ ان اخدمها ستة ايام في الاسبوع . لا لشيء سوى لانها السبب في حصولي على المزيد من اوراق المرحاض, التي امسح بها اوساخ المعيشة .
قال لي صديقي, الذي هو انا بكل تأكيد, ذات مرة: كيف تشبه النقود المبجلة باوراق المرحاض التي لا قيمة لها؟ فاجبته: وهل للنقود قيمة فعلا ! .
لقد تحيّر صديقي, وراح يطلب المزيد , وفي حالة من البوح قلت له : انت ربما تعرف ان الانسان الاول كان لا يتعامل بالنقد الورقي الذي نعرفه اليوم , فاشار موافقا , لكنه كان يعتمد نظام المقايضة السلعية رحمه الله , وفي مرحلة لاحقة ابتكر فكرة اسرع واسهل في التعامل , تتلخص في سك قطع صغيرة يمكن حملها , تكتسب قيمتها السوقية من قيمتها المعدنية , فلم يجد اثمن من الذهب والفضة , الا ان فكرة طرأت لاحد الاشخاص الاذكياء في خطوة غبية ان يبتكر فكرة ( السندات المالية ) , وهي عبارة عن اوراق تكتسب قيمتها من خلال الضمان العقاري او الزراعي الثابت او المتحرك الذي تمثله , لكن شخصا ذكيا آخر بالتعاون مع مجلس الاشخاص الاذكياء المحتالين تقدموا خطوة اخرى نحو الفراغ , فاتفقوا ان يكون لتلك الورقة ضمان ثابت , يحتفظ به ذلك الكيان الخرافي المسمى ( البنك ) , وبالتأكيد ولانهم اذكياء فقد جعلوا ذلك الضمان شيئا يملكونه هم وحدهم , نعم انه ( الذهب ) . لكنك كما تعي لا يوجد من الذهب ما يغطي نفقات حرب واحدة من حروب هؤلاء الاذكياء على الاغبياء من امثالنا . تعجب صديقي , فلم يجد الا ان يقول : لقد لخبطتني . لا , يا سيدي , لا تتلخبط , فالمسألة بسيطة , انهم كما قلنا اذكياء , فاتفقوا على امرين : ان يجعلونا اكثر غباءً , وان يستخدموا اوراق المرحاض كعملة نقدية , دون اي ضمان ثابت او متحرك , وللامر الاول اعطاهم ( السيد ) صندوقا يغلفون به عقولنا الغبية , اسموه ( التلفاز ) , وللامر الثاني جعلوا اوراق المرحاض الخاصة بهم معيارا لكل النقد في العالم , فاصبح مساويا لقيمة ورق المرحاض الخاص بهم .
صديقي راح يومئ للتوضيح , فرحت شارحا : صديقي العزيز , عندما تطلب الحكومة نقودا من ( السيد ) ماذا يحصل ؟ , سوف يصدر السيد اوراقا مرحاضية باسم ( السندات ) , تتجه نحو الجهة المختصة بالرسوم , فتقوم بدورها بجلب اوراق اخرى , وتلونها وتزينها برسوم معينة ترمز لحضارة السيد , ثم تقوم بمنحها للحكومة , مقابل نسبة من الفائدة . قال صديقي: وما المشكلة ؟ , فاجبته : هناك مشكلتان : الاولى ان هذه الاوراق منذ الربع الاول للقرن العشرين - وتمهيدا لحرب كبيرة لا يسدها الضمان الذهبي - قاموا بالغاء التوقيع الذي كان على ظهرها , والذي يتعهد بامكانية استعادتها كذهب , وترجمة ذلك انها اصبحت عبارة عن ورقة بلا ضمان , يعني ورقة مرحاض , تأخذ قيمتها السوقية من خلال توقيع ( السيد ) فقط , اي ان السيد اصبح هو الضمان , ولان باقي النقد في العالم جعل نقد ( السيد ) , والذي اسماه ( العملة الصعبة ) , ضمانا لنقده , اصبح جميع النقد عبارة عن ( اوراق مرحاض ) . اما المشكلة الثانية فهي ملفتة للنظر , وتتعلق بالفائدة التي يطلبها السيد على اوراقه . هنا قال صديقي : لا بأس ان يأخذ السيد نفعا مقابل جهوده . فقاطعته : صديقي , انت لازلت لا تفهم , فتلك الفائدة غير موجودة في الواقع , عندما يطبع السيد 100 ورقة مرحاضية مثلا , وله فائدة مقدارها 10 ورقات مرحاضية , فيجب على الحكومة ان تسدد 110 , و لكن الاوراق الموجودة في السوق هي ( 100 ) , و هي الاوراق التي طبعها السيد , فمن اين تأتي الحكومة ب ( 10 ) الفائدة ؟ . قطّب صديقي حاجبيه , فتداركته مهدئا : اسمع يا صديقي , سيكون ( السيد ) هنا كريما , ويبقي تلك الفائدة ( دينا ) برقبة الحكومة , وهي بدورها سوف تطلب المزيد من اوراق المرحاض الملونة من السيد , لتسديد دينها , فيطبع السيد , وتزداد فوائده , ويزداد الدين على الحكومة , فتلجأ حينها لاستقطاعه من ثروات ( الشعب ) , ولكن لان الدين من المستحيل - علميا - تسديده , سيظل الشعب والحكومة مدينين للسيد دائما . ومرورا بحالات الطوارئ والحروب , سوف يصل الدين الى حد خيالي , فتعمد الحكومة الى التقشف , ولكنها لن تسدد دينها , فلتغي الكثير من الوظائف , وترفع الدعم عن الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية والصحية .
ولان السيد يعلم ان الحكومة لن تسدد دينها , فهو يعلم ان اللعبة ( الوهمية ) ربما تنكشف , ويتحرك شعب حكومة السيد , لذا ساعدها معلوماتيا , فاخبرها انها يمكنها ان تقاوم اذا استطاعت ان تستحوذ على ثروات وموارد الامم الاخرى . استجابت الحكومة لرأي السيد وبدأت فعل ذلك , تحت تغطية فضائية عبر اسلحة ( التلفاز ) المتقدمة .
صديقي , راح متسائلا , في التفاتة ذكية منه : وما علاقتنا نحن هنا بما يقوم به السيد هناك ؟ , فاجبته : يا صديقي , اخبرتك سابقا اننا نقوّم نقدنا باوراق السيد , هذا اولا , وثانيا فالسيد - ولانه اشره واشرس مخلوق عرفته الارض - قرّر ان يعمم نظامه ( المتحضر ) على الامم المختلفة , فانشأ ( صندوقا ) , الداخل فيه لن يخرج ابداً . فصرخ صديقي : اي مجنون سوف يدخل ذلك الصندوق ؟ ! . تبسمت , وقلت له : ان الفقراء دائما مجانين , اما الاغنياء فيمكن ان يدخلوا اذا سلموا قيادهم لقائد سكران او شيطان . وهناك آلية اخرى , تتم بزرع خيوط تعمل مع الصندوق داخل اجساد الامم , ويا حبذا لو كانت تحمل الوانا تشابه الوان الامم , او انها كانت جزءا من تلك الامة .
قال صديقي : طيّب , وما علاقة ذلك كله بالماكنة , وهي كما نعلم اعطاناها العلم لتخدمنا ؟ . ضحكت كثيرا , واجبته : وكيف تكون الماكنة لخدمتنا , ونحن نخدمها ليل نهار , وكل خمسة اشخاص من بني البشر تقريبا يخدمون ماكنة , فيزيتونها وينظفونها ويجملونها , لا لشيء سوى انها ساهمت في طرد ما يقارب 60 شخصا منهم ! . لكن هي ربما تستحق هذا التكريم , لانها ساعدت ( منظومة السيد ) في التخلص من تكاليف هذا العدد من بني البشر , كما انها سوف تطرد المزيد , ولن تستجيب الحكومات لهم , فلن يكون حينها موجودا غير السيد ذاته .
في لحظة غباء من صديقي , قال : ان المنظومة التي ينشئها السيد خطرة , فكيف سيحميها ؟ . اجبته : بالعسكرة , المزيد من العساكر , وسوف نرى مستقبلا - كما هو واضح من الحاضر - مزيدا من الجنود , فهي الوظيفة الوحيدة التي لازال مفتوحة .
صديقي : ولما هذا كله ؟ .
: هذا ما اراده ( السيد الاكبر ) , فقد سمعت انه اعور لايرى الا مصلحته فقط . وبغير هذا النظام لن يكون هناك عبيد .
صديقي : كيف ؟
: تزايد المديونية والتضخم وتسريح العمال سوف يخفض الاجور , وبالتالي المزيد من العبيد زهيدي الاجور .
قال صديقي : لقد تذكرتُ الآن نكتة ظريفة وعلى شكل تساؤل ساقه قريب لي , (من يعمل اكثر, نحن ام الحمير؟) . حدقتُ في وجهه : هل ترى انها نكتة ! , لا يا صديقي , انها الحقيقة.
نحن من يعمل ستة ايام في الاسبوع , من الساعة السابعة صباحا وحتى الثالثة مساءاً , وساعتان للطريق, يكون المجموع ( 11 ) ساعة. وسنكون حينئذ متعبين , فننام ساعتين اضافيتين عصرا, اما ليلا فنومنا يجب ان يكون مبكرا, الساعة التاسعة, لنستيقظ في السادسة صباحا , فيكون المجموع الكلي ( 21 ). تتبقى ثلاث ساعات, واحدة للاهل, وواحدة للطعام , وواحدة للمخدر الذي يهون علينا كل ذلك, من خلال مجموعة العاب بهلوانية , والذي نسميه ( التلفاز ).
وفي النهاية تكون مكافئتنا مجموعة من اوراق المرحاض , التي لا يعطيها قيمة سوى توقيع ذلك الذي يدير النظام , والذي لو امتنع عن التوقيع سوف ينهار النظام , وهو نظام هائل ومعقد جدا , اسمه ( الوهم ) .
قال صديقي مرتعبا : نحن عبيد ! . نعم نحن عبيد , لاننا لو تسببنا بعطل الماكنة بالصدفة سوف نتعرض للعقوبة , والتي تصل الى السجن , فيما لو اصابتنا الماكنة نحن بعطل سوف يستبدلوننا بخدم جدد . فمن منا وجد ليخدم الثاني .
صديقي : اذن كيف يعمل النظام ؟ .
: يعمل عبر تحريك الموارد والاشخاص , فتدور جميعا حول مركز واحد , اسمه ( السيد البنكي ) , والذي سوف يمولها باوراق المرحاض , التي تستند الى تأريخ من وجودها السابق الحقيقي , والذي تم استبداله بحاضر من الوهم , من اللاضمان . يعني ان الحافز معنوي , لا حقيقي , الاعتقاد بوجود ضمان , خدعة كبيرة من الوهم , تكفي لتحريك النظام , ادعاء السيد ان الامور بخير .
هو بتلك الاوراق المرحاضية التي لا تساوي شيئا واقعيا يستحوذ على الثروات والموارد , وعلى جهود البشر , ليعيد دورانها داخل المنظومة , وربحه انها يدير اللعبة دون ان يدفع او يبذل شيئا . هو يشتري المؤسسات العامة والخاصة , كذلك هو يشتري الدول , تحت غطاء حرية التجارة , وغطاء من الاستعمار والاستهتار , وايضا ولتسهيل مهمته يقتل المؤسسات والكيانات الصغيرة والمحلية , وبتعاون الشياطين , الذين نسميهم ( ساسة ومسؤولين ) .
تصور لو انك اخذت قرضا بقيمة 10000 ورقة , لبناء منزل , حينها ستطلبه من الحكومة , او اي جزء من النظام , وبعد جهد ستناله , مقابل دفعك لفائدة مقدارها 800 ورقة , وطبعا سوف تكون الحكومة قد اخذته من السيد , مقابل 400 ورقة مثلا , انت حينها ستعمل لدى احدى مؤسسات النظام لتسديد قرضك , حيث ستأخذ اوراقا مرحاضية , لتعطيها للحكومة , التي سوف تعطيها للسيد , وبالتالي اصبح مجهودك ومجهود الحكومة ربحا للسيد وحده . فانت قد عملت عند السيد , دون مقابل ازاء جهدك .
ان للسيد بناءً هرميا , يقوم على قاعدة رباعية , تجده مرسوما على احد اوراق المرحاض , وكما تعلم فان للقاعدة الرباعية اركان , هي ( الشعب , الحكومة , الموارد , الماكنة ) , وقد وصل بناءه هذا قريبا من القمة , وقد بناه بطبقات خيالية العدد من اوراق المرحاض , ولو تم وجلس فوق قمته ( السيد الاكبر ) سوف يقضى علينا جميعا .
صديقي : لماذا ؟
: لاننا حينها لن نستطيع التنفس , بسبب الطبقات الهائلة لاوراق المرحاض فوقنا .
صديقي : والنتيجة ؟
: سنصل جميعا الى لحظة يعجز فيها الجميع عن تسديد ما بذمته من اوراق المرحاض , بعد ان تصل تلك الاوراق - بسبب التضخم - الى اللاقيمة .
صديقي : والحل ؟
: العودة الى الذات , الى نظم تخضع لارادتنا , الى ضمانات حقيقية .
صديقي : نعم ..
: ثم خلق مجموعة من دوائر المنظومات الصغيرة , تلقف ما يأفكون , تلتهم هرم السيد , فيكون حينها مشتت الذهن , ثم تلتحم تلك الدوائرة في دائرة اكبر .



قصاصات من أوراق منسية-ياسر عيسى الياسري

شعر

قصاصات من أوراق منسية



ياسر عيسى الياسري

   
للحلم نافذتــانِ
يدخل من احداهما
وتكون الاخرى مغلقةً
يبقى الحلم حبيسا ً
وملتصقا بالكوابيسْ .
**
لا دخان في الافقْ
هل توقفت ماكينات الموت... ؟
هل انتهى زمن تنانيرالخبز... ؟
ومواقد الدفء...؟
انه الموت يدخل في ثنايا ثيابنا
فلا نراه ُ.. ولا نرى الافقْ
**
منذ زمان أعلنت إفلاسي من الحب ْ
تلك الكلمة المفرغة من حروفها
تحاول ألا تحتضر في بلادي
بلادي.. التي تحاول ألا تموت َ
وتحاولُ..
ان نبقى نحاول الغناء
ولو بأصوات أخرى
تحسن قليلا من الغناء
أو حتى قليلا من بكائنا
قليلا من كل شيء ْ.
**
نعشق العبودية ونطالب بالحرية ِ
وحين نفقد عبوديتنا
تصيبنا الحرية بالإكتئاب
عُقدِ الصور
تماثيلِ العبودية ِ
ونبقى رغم حريتنا
نجتر.. وبألم ٍ ذكريات ِ العبودية ِ
**
أيها الطائر الذي مله الصمتُ
أطلق جناحك للريح رغم انك نسيت التحليق َ
غرد بصوتك النادر رغم انك نسيت الغناء ْ
أنت منحتني أشياء ثمينة ً
وأنا منحتك قفصا ً وأنثى

قصت جناحك َ
صادرت صوتك َ
وأرغمتك على الركوعْ.
**
حتى ينتهي العام ْ
ما تزال أمامي بضعة مناسبات ٍ
تستدعي مني بعض الحزن ْ
أو قليلا منه ُ
لا فرق فالعام سينتهي حتما ً.  


الأربعاء، 1 فبراير 2017

متابعات عالمية كاترين مانسفيلد أميرة السرد القصير-اسماعيل غزالي

متابعات عالمية
كاترين مانسفيلد أميرة السرد القصير


اسماعيل غزالي
فتاة نيوزيلندا المتمرّدة، كاترين مانسفيلد (1888/1923)، اسم ودود ولدود في شجرة القصّة الكونية . انحازتْ لحبّ القصّة القصيرة في إنجلترا، وانتدبتْها ملاذاً أثيراً لحياتها العاصفة التي لازمتها التّعاسة والخيبة . وكان بيتُ القصّة القصيرة وطناً ومنفى، يتردّد فيه رجعُ أصداءِ سيرتها المتوتّرة .

براعة الدقّة .

صرامة الحدث .

شعرية الصّدمة .

تذويت اللّغة والمونولوج المبطّن .


إضافة إلى الإيقاع المتخلّق عن تعالق السوناتات في نصوصها الحكائية، هي أقانيم شديدة الحضور في كتابة كاترين مانسفيلد السّردية، وبها اجترحتْ إبداعيّة نصّها القصصي الفريد، الذي خبرتْ فيه دروس تشيخوف وموباسان . ففي بيدرها الخاص، عالجتْ غلال لحظة زمنها، وحلجتْ القشور عن جواهر القطاف الصّعب، واستأثرتْ بزمّرد الحكاية .

(الرّياح تهبّ)، نموذج قصصيّ ساطع، يتمثّل مهارة وفذاذة هذه الكاتبة الأثيرة، ويستضمر البديع من مناخ ذاتها ومغامرتها . القصة تحكي عن فتاة متمرّدة، ترصد انفعالات شخصيتها عبر تداعيات يوم تهبّ فيه الرياح بشكل متعاقب . تنبغ كاترين مانسفيلد في وضع القارئ داخل اللحظة القلقة للحكي، فيتناهى إلى سمعه صفير الرياح ومهبّها المريب والمثير في آن .

فالفتاة تبدي سخطاً في الأوّل من عصف الرياح الذي تختبل له الأشياء المعتادة، ويمتدّ هذا السّخط إلى الأسرة حين تقول لأمّها إلى الجحيم . يلتمع معدن القصّة في مشهد الدّرس الموسيقي، حيث آلية التّصوير تلتقط العناصر الحسّية لما يقع في حجرة الدّرس مع المستر روبين هذا الذي يجلس إلى جانبها على كرسي البيانو ويفرد لها مشاعر خاصّة وتعاملاً استثنائيّاً، فيعزفان معاً من ريبرتوار الروائع الكلاسيكيّة بدل نوتات المقرّر الدراسي . تباغتهما ماري سوانسن الفتاة الأخرى القادمة إلى درسها قبل الموعد ويرجعان رغماً عنهما إلى التقيّد بالدرس .

الحياة مخيفة! قالت الفتاة ماتيلدا لنفسها عندما شمّت رائحة الربيع في قميص المستر روبن وقد كان خدّها لصيقاً ببدلته الصّوفية . (هنا المفارقة التي يصنعها الموقف الحكائي لرؤية القصّة، حيث يشقّ خطّ الرّبيع بقوّة دائرة الخريف) . المفارقة التي تشكّل التحوّل في خطّية النّص:

إذ ما يني السّخط على الرّياح يتحوّل إلى مديح ضمني حيث تتمازج الرّياح والموسيقا في سلك واحد مفتول، عندما تتساءل الفتاة ماتيلدا: ألم يكتب أحدهم قصيدة للرّياح؟ وكأنّ القصّة هنا، تسرق من الشّعر قبس ناره وتتحوّل إلى قصيدة نثرية . يرسّخ هذا المنحى في النصّ، موضوع الموسيقا من جهة والبنية الإيقاعية الخفيّة للقصّة ويتقوّى بتكرار كلمة الرياح وتناسلها من جهة ثانية .

القصّة منسوجة على منوال ثلاثي التواتر:

لحظة الفزع الأولى مع استيقاظ ماتيلدا من نومها واكتشاف صرير الرياح كعلامة على نهاية الصيف وبداية الخريف الذي تسِمُهُ بالقبيح، وامتعاضها من أمّها التي تحاول منعها من ثني طرف قبّعتها بينما تقطف الأقحوان في الحديقة .

لحظة درس الموسيقا الذي تفتر فيه حدّة هجاء الرياح بحضور المستر روبين وعزف كلاسيكيات الموسيقا .

لحظة المتنزه على السّاحل، مع بوجي والرّجوع بالحكي النّوستالجي إلى ذكريات الطفولة .

في القصّة جملة مسنونة يمكن أن تنسحب على ذات المؤلّفة بامتياز من دون أن يعني الأمرُ اقترافَ إسقاط خشن: (امرأة بطبع مأساوي قاتم، يلفّها البياض، جلستْ على إحدى الصّخور، مشبكة ركبتيها، واضعة ذقنها بين يديها) .

لم تكن فيرجينيا وولف، تجامل في كلمة اعترافها: (إنّها الكاتبة الوحيدة التي أغار منها)، وهما معاً إلى جانب د . ه . لورنس، كانتا من أعضاء حلقة (بلوسبيري) الأدبيّة .

رغم موجة الانتقاد القاسية التي تكبّدتها القاصة البديعة في عصرها، فقد استطاعتْ بذائقتها الرّفيعة ومغامرتها السّديدة وألمعيتها الجليلة أن تضخّ هواء جديداً في حديقة السّرد، وشيّدتْ بكتابتها المكثّفة لمدرسة قصصيّة، كان لها التأثير الواسع في أجيال القصّة في القرن الماضي ولا يزال التأثير العاتي نفسه يلقي بظلاله على نماذج من كتابة القصّةالمعاصرة .

طرز مانسفيلد الحكائي البديع، خلّدها كنجمة قطب في سماء القصّة، وإنْ عاشتْ حياة قصيرة لا تتعدّى 35 سنة، أودى بها مرض السلّ، الذي عاشت فترة قاسية من عمرها تحاربه متنقّلة بين المستشفيات، كتنقّلها السابق بين أكثر من عاشق، إلى أن تزوّجت النّاقد والكاتب (جون ميدلتون موراي) .

ولا غرابة أن تكون حياتها مثل قصّة قصيرة، لتماهيها المطلق مع هذاالفنّ السّردي الوامض .الفنّ الذي أخلصتْ له بقسوة وغرام وإتقان، لم يطو ذكرها بعد غيابها كأميرة للسّرد القصير، وخلدتْ بخلوده ضدّ سطوة النّسيان

فرنسيس بيكن ( 1909 - 1992 )-ترجمة واعداد عدنان المبارك

شذرات


فرنسيس بيكن ( 1909 - 1992 )


ترجمة واعداد عدنان المبارك

- التصوير أزدواجية. والتصوير التجريدي هو شيء أستيتيكي بالكامل. يبقى هو دائما على مستو واحد. انه معن فعلا بجمال نماذجه الأستيتيكية.
- في حالتي يكون التصوير painting كله ... مجرد حدث. أنا أتوقعه لكن من الصعب نقله وفق ما توقعته. انه تحويل في التصوير الحالي. في الحقيقة غالبما لا أعرف ما سيعنيه التصوير ، وقد يعني أشياء كثيرة هي أحسن بكثير مما قدرت على عمله.
- التصوير كله هو حادث لكنه أيضا ليس بحادث ، فعلى الفنان اختيار أيّ جزء من أجزاء الحادث عليه أن يحتفظ به.
- أنت تريد الدقة و ليس التمثيل. اذا عرفت كيف تعمل التشكيل figuration فأنت تفشل هنا. لأن كل شيء تعمله تؤديه بالمصادفة. في أثناء التصوير عليك أن تعرف ما تعمله و ليس كيف تعمله.
- أنا أريد للغاية الصورة المطلوبة لكني أريد أن تأتي بالمصادفة.
- أنت ترى كيف أصبح التصوير أو الفن بكامله الآن لعبة تشوّش الانسان. وماهو الأخاذ حاليا صيرورة اللعبة أصعب فأصعب على الفنان.
- أنا مؤمن بالفوضى المطلوبة عميقا ، ففي الظلام تكون كل الألوان على اتفاق.

- بعض الصور يأتي مباشرة الى الجهاز العصبي ، و الأخرى تروي لك القصة كخطبة لاذعة عبر الدماغ.
- أذا كنت قادرا على الكلام عن هذا الأمر فلماذا تصوّره ؟
- أمر ميؤوس منه على الداوم الكلام عن التصوير ، فالمرء لايفعل شيئا سوى الدوران حوله.
- الفن الكبير هو دائما للتركيز واعادة اختراع لما يسمى بالحقيقة ، لما تعرفه كينونتنا – اعادة تركيز... واتلاف ما اكتسبته الحقيقة عبر الزمن.
- التصوير هو اليوم حدس واغلاق وكسب ما يحدث حين تقوم بقذف الأشياء الى أسفل.
- عملية الخلق هي مزيج من الغريزة والمهارة والثقافة وحمّى ابداع مرتفعة، وهي شبيهة بالعقار. وهي تلك الحالة الخاصة عندما يحصل كل شيء بسرعة بالغة - المزيج من الوعي واللاوعي ، من الخوف والغبطة ، انه مزيج صغير كما ممارسة الحب أي الفعل الفيزيقي للحب.
- لايمكنك نقل الحقيقة الا عبرالتشويه. عليك أن تشوّه كي تقوم بتحويل ما يسمى ظهورا في الصورة.
- الشعور باليأس والشقاء هو أكثر نفعا للفنان من الشعور بالرضا. فاليأس والشقاء يطيلان من حسّاسيتك كلها.
- حين أجلس ويأتيني حلم النهار تتحرك الصورة كما شرائح ملوّنة لما أعقب الحلم.
- كل أعمالنا تأخذ طيفها اللوني من تعقيدات القلب كما المشاهد الطبيعية التي تأخذ تنوّعها من الضوء.
- قلائل جدا يملكون شعورا طبيعيا بالتصوير ، أكيد أنهم يفكرون بصورة طبيعية : التصوير هو تعبير عن مزاج الفنان. ولكونه هكذا كثيرا ما يكون هو في حالة يأس عظيم ، وتأتي أسعد لوحاته حين يعمل بالألوان.
- قبل أن أبدأ العمل أملك شعورا غامضا قليلا : السعادة هي اثارة من نوع خاص ، ولأن بمكنة الشقاء أن يأتي دائما بعدها ببرهة.
- الشهرة الطيبة مثل النار. حين تشعلها يسهل الحفاظ عليها لكن حين تطفيؤها يكون من الصعب اشعالها ثانية.
- هي حالة يائسة للعقل عندما يرغب في امتلاك أشياء قليلة وأخرى كثيرة للخوف.
- شكل المصوّر ilustrational يخبرك فورا من خلال العقل عن أيّ شيء يتكلم الشكل بينما غير المصوّر يؤثر أولا على الاحساس و بعدها يتسرب بطء في الحقيقة .
- المشخص figure الجذّاب و المسرّ هو رسالة دائمة للتوصية.
- الصورة تعينني أيضا في العثور على الأفكار وتحقيقها. أنا أنظر الى مئات من مختلف الأشياء ، من الصور المتعارضة وأقنص التفاصيل كما الناس الذين يأكلون من صحون الآخرين.
- بمكنتك القول اني بلا الهام ولا أملك شيئا عدا الحاجة الى التصوير.
- أطمح في أن تقوم غرائزي بالعمل الصحيح ، فانا أعجز عن محو ما عملته. و اذا كنت قد رسمت شيئا في البدء فسيكون فنّي مجرد تصويرات illustrations لرسومات drawings .
- ما مكسبي من عمل لا أحبه ؟
- لكل واحد تفسيره للتصوير الذي يشاهده.
- اريد أن أعمل بورتريهات وصور. لا أعرف كيف. فخارج اليأس لا أرى شيئا عدا التصوير في كل الأحوال. وفجأة تتخثر الأشياء التي تعملها وتأخذ الشكل الذي أقصده. اجمالا هي العلامات الدقيقة التي تكون خارج الأخرى القائمة بالتقديم .
- أنا لا أؤمن بأن الفن متاح وذو فائدة ، انه نادر وفضولي ، وينبغي أن يكون معزولا. قد يكون هناك من يدرك سحره لكن أكثره معزول.
- بيكاسو هو سبب تصويري . هو الشخص الأب الذي منحني الرغبة في أن ألوّن.
- عثر فيلاسكيز على التوازن بين التصوير illustration النموذجي الذي طلبه كي ينتج و بين العطفة الساحقة التي أثارها في المتفرج.
- أنا أستخدم في عملي كل أنواع الأشياء : مكانس قديمة ، بلوزات قديمة ، كل أنواع الأدوات والمواد. أنا ألوّن كي أثير نفسي وأعمل شيئا لنفسي أيضا.
- منح التصوير حياتي المعنى الذي من دونه لما ملكته.
- بعض الفنانين يترك أشياء ملحوظة ستكون من دونها أعمالا فاشلة بعد مائة عام . أنا تركت مثل هذه الأمور ، فأعمالي معلقة في المتاحف لكن في يوما قد ينفيني ( تيت غاليري ) و بقية المتاحف الى القبو... لا أحد يعرف أبدا.
- عمل الفنان هو على الدوام تعميق السرّ.
-السرّ يكمن في اللامعقول الذي تقوم أنت باظهاره. واذا كنت تعمل تصويرا illustration فسوف لن يكن ذلك أمرا لامعقولا.
- الفن العظيم منظّم بكل عمق وحتى لو كان هذا النظام أشياء كثيرة وغرزية وصدفية تخرج على الرغبة في النظام واعادة الواقعة الى النظام العصبي بأسلوب أكثر عنفا.
- نحن لانمل في التصوير سوى جهازنا العصبي .
- أنا أعمل تصويرا لنفسي . لا أعرف كيف هو عمل شيء آخر. كما أن عليّ أن أكسب حياتي وأحتلّ نفسي.
- التصوير هو النموذج لنظامي العصبي والمنقول الى القماشة.
- أحاول أن أجعل الصور أدق ما يمكن لجهازي العصبي.
- كانت عندي صور فوتوغرافية لتصويرها ، فانا أفضل العمل وفقها على التصوير وفق موديل حيّ مثلا...
- أنا أبغض وجهي ، وعملت بورتريهاتي اذ لم يكن هناك أيّ أحد كي أعمل له بورتريها.
- اذا كانت نماذجي في معالجات مروّعة لم أكن قادرا على ابعادها عن المعضلة التقنية.
- الفنانون كلهم غرور ولا ينتبهون بسرعة الى أن يبقوا شيئا للأجيال القادمة. هم يريدون أن يكونوا محبوبين وأحرارا في الوقت نفسه. لكن لا أحد حرّا.
- على الصورة أن يعاد خلقها من البحث وليس من صورة الشيء ، لكن ليس هناك من توتر في اللوحة طالما ليس هناك من عراك مع الشيء.



تشكيليون في الذاكرة محمود صبري بين التنظير والرسم :ماضي حسن









تشكيليون في الذاكرة
محمود صبري بين التنظير والرسم




ماضي حسن

مدخل
إذا أردنا أن ندخل إلى عالم الفنان (محمود صبري) فاننا سنكون امام واقع يفرض علينا احكام ضمن مفهوم البداهة الماثلة للعيان وهي اقتران شخصية هذا الفنان في مجال بنيته الفكرية ونتاجه الفني بعملية الابداع والبحث، والفن بدون هاتين الصفتين يضحى اداء ميتا بلا تفاعل مع معطيات كل عصر ومكان وعندما عرف تولستوي Tostoi الفن بأنه (ضرب من النشاط البشري الذي يتمثل في قيام الانسان يتوصيل عواطفه الى الاخرين) فانه حينئذ اهمل الجانب الفكري وافرد مساحة الوجدان ويقع رودان Rodan بذات الاحادية ولكن التركيز على الجانب الذي فقده تولستوي أي (الفكر) اذ يقول:-
(ان الفن مظهر لنشاط الفكر الذي يحاول ان يتقهم العالم وان يعيننا نحن بدورنا  على ان نفهمه) .

 

ونحن نرى ان بجمع التعريفين يسكتمل المعنى وقد تجسد ذلك عند تعريف سوريو Soriau اذ يقول (ان الفن هو نشاط ابداعي من شانه ان يصنع اشياء او ينتج موضوعا) وبهذا النص سنعود الى بداية الحديث والقول بأن الفن هو ابداع : أي اصالة ومرونة وطلاقة، والاصالة هنا تعني الارتباط بالنمط (الافتراقي) وليس (الاتفاقي) أي الخروج من دائرة الشعور الجمعي المترسبة في دائرة سياق انماط التفكير والتي تكبل عجلات الحراك الابداعي في بعض جوانبها.
بهذا المبدأ وبهذه المنطلقات كان الفنان (محمود صبري) باحثا ومبدعا وملتزما بقضايا مجتمعه ومتجاوزا المشكلات الادائية .

 

لقد عبر عن ذلك في العقد الخامس بدراسات فكرية الى جانب نتاجاته الفنية التعبيرية في الرسم،لقد كان محمود صبري يحاور المستجدات المعاصرة في زمن التكنونووي وبنفس الوقت يمسك منابع جذور الفن وفك رموزه وقوانينه السائدة، لقد اراد ان يربط الساكن بالمتحرك او يكشف عن ذلك على وجه الدقة فقوانين سرعة الضوء ومنظومة التفاعل والاتحاد بين اجزاء الاجزاء لم تكن منعزلة عن قوانين مفردات التشكل البصري ونسيجه المتجانس بين المرئي واللا مرئي،لقد كان محمود صبري واقعيا وماديا في الرؤى والاستنتاج، بل علميا في مختبرات النتائج والتحولات التجريبية واللامرئي عنده حقائق تحكمها قوانين علمية لها تأثير ووجود في اطار مساحة التحول من حالة الى حالة أي من المادة الى الطاقة والعكس صحيح ايضا،فأجزاء الذرة غير المرئية لم تعد تصورات (فنتازية) .



الصلة بالواقع الاجتماعي:-
ولو عدنا مرة اخرى الى المنطلقات التي انطلق منها الفنان نلاحظ الالتزام بالواقع الاجتماعي من ارهاصات وانكسارات منعكسة في بنيتها التحتية (الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية) أي نتائج واقع شيء تتداخل فيها اسباب ونتائج ،العلة والمعلول، دال ومدلول، فوارق طبقية ومسار سياسي تتحكم فيه بنية التركيبة الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن مداخلاتها باحداث المنطقة عموما ومنها احداث عام 1967 وثورة الجزائر وغيرها لقد كان عمله (نعش الشهيد) خلاصة لتلك  التمثلات في ضمير الفنان واحساسه الواعي لجميع قضايا مجتمعه لقد كان الفنان يشّخص الواقع بحساسيته ودقة ،انه يرصد الاسباب المحركة ونتائجها في اسلوبيته التعبيرية مبتعدا عن او رافضا بالاصح حكاية ترفية الفن وتزيينه الارستقراطي وانزله من عرشه العاجي الى حيثيات الواقع الشعبي لقد كان محمود صبري بسيطا عندما توسط البسطاء ومفكرا عندما اعتنق صهوة المفكر والمنظر والناقد ، ومن المفيد القول هنا ان الانتماء الفني الى الوسط الجماهيري الذي فعله الفنان ليس بطريقة الافتعال والتي يتولد عنها نتاج مبتورة، بل حافظ على القيمة العليا التي ترتكز على المنابع التاريخية والذاتية بخطاب معاصر ،وقد تناول الموضوعات الاجتماعية الاكثر وضوحا وتماسا مع الحالة الانسانية وتأثيراتها المعلنة دون الفقر الاجتماعي ،الامراض، المظاهرات، التشهير، ومشاكل اخرى. ان تلك الزوايا من المجتمع كان الفنان يرصدها، يتفاعل يدخل الى الوجدان والفكر معا ولم يعد محض تسجيل لظاهرة عابرة كان الفنان مسؤولا عن تبني هذه الظواهر وتحويلها الى عمل تنبثق من خلاله موجات من التساؤل والاثارة والدهشة والحوار والتفسير والاستنتاج الى ما يمنحه المستقبل من تحولات او (انتفاضات) مقترحة او متوقعة بذلك فقد حقق الفنان وظيفته التنبؤية والتنظيرية ،لقد زاوج الفنان هنا منذ بداية منطلقاته الاولى بين حالة الاداء التعبيري للمشكلة (القضية) وبين مستويات التفكير التنظيري الناقد لحيثيات الواقع ومشكلاته.

أسلوبية الفنان:-
لا تفضل انماط الانساق، او عناصر الوحدات المتسقة في اعمال الفنان عن (دراماتيكية) الافعال المحركة لها وبهذا التفاعل الجدلي تتحدد لنا اسلوبية الفنان الواضحة انها خطوط حادة وداكنة تكشفها تعبيرات (تراجيدية) متأسية على مصائرها ويختلط الوجع مع الوجدان، المأساة مع الامل المعاناة مع الصبر، ويتحقق بعد ذلك بانسجام عندما تفصح البنية الشكلية للعمل مع المحمولات الداخلية له (المضمون) ففي الالوان ينفرد العمل باللون الاحمر مع الاسود ليشكل استجابة مع مضمون العمل للثورة وتأخذ بنائية التوزيع في عمل (تشييع الشهيد) جانبين للكتل المتراصة ،اذ تشكل الوجوه والقامات المنتصبة التي تحمل الشهيد نمطا إيقاعيا متكررا تلتحم الاجساد الحاملة للشهيد منظوية تحت جسده الممتد أفقيا للإيحاء بقيمة وعظمة التضحية من اجل هذه الاجساد الباقية ،انها تحتمي به وتؤكد وجودها من خلال تضحيته، اما الصف الثاني من العمل فتبدو الأشكال أكثر دينامية وذعرا من الموقف صيحات نساء ووجوه واجمة وايدي مرتفعة يتوسطهم جندي ربما يتوعد بثأر له والمضي قدما في المواصلة لدرب الشهيد، ان هذه الصورة للمشهد الدراماتيكي الذي جسده الفنان هي ترجمة وإحاطة لأفكار الفنان في مرحلته تلك ،وكذلك لاستشراقات المستقبل نظريا وعمليا في مجال الفني في الرسم.


الأحد، 29 يناير 2017

أختام *- عادل كامل















أختام *





 الختم الخامس


عادل كامل

 " أرجو أن يصار إلى طباعة أختامك  ورسوماتك, فهي بعض من كدك الفني.
لا يسعني إلا أن  ارفع رأسي فخرا بمنجزك الثقافي والفني."
علي النجار/ 2017





                                                                              [ إن الفنان، وهو يؤلف عمله الفني، لا  يدرك نسبة واحد بالألف من 

تفسيراته الممكنة]


غيورغي غاتشف


[1] التتابع: ابعد من الغياب/ أو الحضور تاما ً


     لا أريد لبصري، وربما لأصابعي، أو باقي حواسي، أن تغادر أداة السومري في الحفر فوق الطين، فأنا ابني بالكلمات مأواي، كما يبني الطائر عشه: الم ْ يلمح باشلار إلى ذلك كعلاقة بين قلب الطائر وعشه: المكان كقلب وقد غدا شعرا ً! فانا أكاد اسمع كلماتي تغادر (ما قبل) ماضيها كي تأخذني معها إلى (ما بعد) موتي. أليس هذا ـ ولا اعرف لماذا تذكرت الشاعر سامي مهدي ـ مقاربة لتعريف الشعر: ان ننتقل من المجهول ـ بزوالنا ـ إلى ما بعد الكلمات، لغزا ً يذهب ابعد من حضوره ـ وابعد من غيابه! سر وجود كائنات وجدت مصيرها لا علاقة له بما شغلها: لا بالحواس ولا بالعقل ولا بمخفياتهما أيضا ً، إنما بعلاقة لا غياب فيها وقد أصبح الحضور تاما ً.
   وها أنا اترك أصابعي تعمل كي أتتبع عثراتها، وتوقفاتها، وما تريد ان تقول.. لكنني اعرف ان الفن ليس اختيارا ً خالصا ً، أو لعبا ً حرا ً، كأنه من غير علة، أو قد عزل عن مكوناته، مثلما أدركت منذ زمن بعيد ان الحرية، كي تحافظ على ما فيها من سر، فإنها الضرورة وقد غادرت قيودها: حرية لا تذهب ابعد من هذه القيود، ولكنها ستمنح هذه القيود تاريخ الإنسان: مجده وعبثه، رمزيته وعدمه، عناده وتلاشيه.

[2] أدور، بمعنى: أتسمر!
     ها أنا أدور، كالسومري الذي تحدث عن الدورات: دورة الفرد، دورة السلطة، ودورة الأرض، ودورة الكون، الأمر الذي سمح له ان يجد دافعا ً إلى: الكتابة/ الفن/ الحكمة. ومع أنني لا اعرف ـ إلا عبر الآثار ـ ذلك الزمن السحيق، لكني أكاد أعيد سكني عند ضفاف الفرات، وأنا أعيد قراءة شريعة أور نمو، بين كائنات استبعدت العنف عن حياتها، فلم تدع الراعي يسفك دم المزارع، كما في قابيل وهابيل في النص التوراتي، بل صاغت مفهوما ً تكامليا ً سنجد أصداءه في ديانات الهند، والصين القديمتين؛ وهي الذروة ذاتها التي بلغتها ملحمة جلجامش: الخالد ليس من لا يموت، بل الذي يمتلك قدرة ان يمتد صانعا مصيره، كأقدم قانون للمصالحة بين السماء والأرض، وعمليا ً، لا نستطيع إغفال العلاقة بين من تراكمت الثروات عنده، وبين من سلبت منه. ففي بنود الشريعة ان الإنسان لا يمتلك إلا ان يحافظ على المسافة النائية بين من في الأعالي وبين من صنع من الطين.
    أدور، بمعنى، أتسمر! فانا مثل المسمار (إشارة إلى تماثيل الأسس) أجد أنني لم اعد معزولا ً ـ وأنا أؤدي عمل الحرية كضرورة، وأؤدي دور الضرورة عندما لا تكون الحرية وهما ً، فالمسمار ما هو إلا علاقة إقامة. انه إشارة لمفتاح بين اللاحافات ـ وحافتي: إقامتي. وهنا أجد العالم وقد تحول الى بستان، فاستعيد نسق الاسطورة في صياغة تدريباتي، لا بصفتها تسلية، ولا بصفتها عقارا ً، ولا  بصفتها عبثا ُ، او ما شابه ذلك، بل واجبا ً مضادا ً للواجب: قهرا ً للقهر. ففي الفن ـ أجد أني أؤدي دور المسمار، لا دور الريح أو الزمن، فالأول علاقة، والثاني(الريح أو الزمن) امتداد عبر فواصل. ذلك لأن المسمار ذروة عمل: انه كد الإنسان وكلمته.  

[3]المسمار ـ ابعد من الدفن
      وربما كان للصليب، قبل ثمانية آلاف عام، المنقوش والمحفور والمرسوم فوق فخاريات أعالي الفرات، وجنوبه، إشارة لضرب من الصلح اثر اشتباكات أو تصادمات. فالصليب سيأخذ الشعار الذي اختاره (هتلر) (وكأنه فعل ذلك بوحي من نيتشه)، شبيها ً بالصليب المعقوف المرسوم فوق سطوح فخاريات أعالي الفرات: لأنه رمز إلى مركزية السلطة، وحدودها. فالسلطة هي حصيلة ما لا يحصى من الكد، حد الحرب، وهنا يلتقي قصد هتلر ويفارق: فهو شعار سلطة تحكم الجهات أربع، وعند هتلر، يتكرر القصد، ولكن في عالم يصعب حكمه خارج ديمومة الاشتباك.
    إلا أنني أجد المسمار ـ الصليب ـ من جانب الرأي العام إلى الخاص، كي يتشكل عبر الدفن. فالميت مسمار، هو الآخر، وشغف الأحياء بموتاهم لن يفقد دوره أو حضوره. فالذاكرة لم تصبح مستقبلا ً معزولا ً عن مقدماتها/ جذورها.  وهنا يأخذ القبر محتوى وشكل المسمار ـ الصليب أيضا ً: انه البذرة التي يتحتم ان تدفن، كي تنبت، كتأويل لأقدم آلية قتل لا واعية للإله ديموزي. فلو لم تقم (إنانا) ـ في لا وعيها ـ بإنزال حبيبها إلى العالم السفلي الذي لا عودة منه، لأصبح وجوده صنو الريح!
    وليس لزمن قصير مكث سكان وادي الرافدين يندبون مأساة ديموزي، بقتل البطل ـ أي دفن البذرة ـ فسيتكرر الفعل ـ ضمن دورة وجود الإنسان ـ لتمنح الانتظار، بعد ذلك، جدلية الديمومة ـ والامتداد. الم ْ يدون الحكيم السومري: ما من امرأة ولدت ابنا بريئا ً قط! حتى أصبحت الأخيرة رمزا ً للأفعى، ورمزا ً للشيطان. من ثم دخلت اللاوعي الجمعي، وقد جعل منها الحكيم (ماني) نشاطا ً مقترنا ً بالعتمة ـ العدم. وبمعنى ما: فالحياة مكثت تمتد، مثل عمل المسمار، لا يكتفي بالحفر، والنقش، بل لأنه سيذهب ابعد من الدفن.
[4] ما بعد/ وما قبل ومضات الغياب
     فيشرد ذهني، في محاولة التأويل، حول منهجي في التفكير: هل ثمة برمجة صاغتها حتميتها، أم أنها وجدت بتعديلاتها، خارج عمل المشفرات الوراثية، وعمل الجينات..؟ أي ان المضاف، يتكّون بحسب السياق ذاته حتى لو قمت بدحضه!  فالمصادفة لم تحدث من تلقاء ذاتها، كي تأخذ هذا النظام المشفر، من اللا مرئيات إلى الوعي، ومن الدماغ إلى المجرة، ومن اللا حافات إلى ما هو خارجها!  أتذكر ـ في هذا الجزء من اللحظة ـ أن احد الفلاسفة الأتراك، وبلذّة متصوف، أو عاشق، أو فنان، قال ان الله يقع خارج هذا كله! ولا أرى انه أضاف حرفا ً ليعزز بديهة ان الخالق وحده ليس بحاجة إلى برهان. فهناك: واجب الوجود. لكن حدود عمل الوعي تصطدم، وتشتبك، في المحدود: الانشغال بالموت، والولادة. فالإنسان يأتي إلى الدنيا ـ بحسب المثل الصيني القديم ـ في الحزن ويموت فيه. على ان فرحا ً ما بالحياة وبالموت، له سياقه العنيد: حتميته ـ: العمل. ومرة أخرى لا تبدو اختياراتي خالية من الإثم! فانا بعملي الفت النظر ...، ثمة متراكمات، كنوز صغيرة لفتت نظر اللصوص! ومثلما لا اعرف كم فقدت، من أحلامي ومن ممتلكاتي المجهولة، جرحت، وبالحزن وحده ذهبت إلى روحي: كل هذا يأخذ موقعه في الأثير: غبار المجرات، والنجوم، والأثير الممتد بين لا حافات الفضاءات. فأصغي إلى صوت موتي: أيها الولد ـ أيها العجوز ـ انك لم تذق بعد ما بعد اللذّة! فعد راقب ومضات قلبك وهي تنسج بأصابعك هذا الختم: محو الفراغات. فلا تغضب، ولا تتذمر، وإلا من يطرق بالمطرقة فوق المسمار، وإلا من سيذهب من غير ظل، بعد ان فقد نوره، ويكمل تتمات اللغز، وإلا من يحتفل بالراحل، ومن يحتفل بالحبيب، وأنت ـ وأنت كباقي الغائبين في ومضات حضورهم، وكالبشر وقد أغوتهم فخاخ ما بعد/ وما قبل ـ هذا الحضورـ تمشي في جنازة الريح، وأنت تشيّع زمنك متتبعا ً الأثر وقد سبقك في الغياب !


[5] الطيف: اكتمال دورة المقدمات بنهاياتها
     ليس، كما ألمحت، ان ما أراه يتوارى، هو ان أرى حضورا ً للفن ذاته، كعدم يغادر أبديته، ليسكن المسافة ما بين الخامات والبصر/ اليد، ولكنه ليس شيئا ً مغايرا ً. ان أصابعي، مرة ثانية، تمنحني العزاء: لن أتتبع موتي! ها أنا أراه يحدق في ّ، فأموت، كي اتركه يغادرني، لكنني ـ في روحي النائية ـ أدرك استحالة صياغة هذا، أو الإمساك بأثره. فانا  سأتوارى، ضمن آليات الدورة! وأعترف أني وضعت علامة التعجب لسؤال خطر ببالي قبل الكتابة: ماذا لو عدت أشاهد الزمن يرتد إلى الوراء، كما افعل بفلم أراه بالمقلوب: من الموت إلى لحظة الولادة، والى ما قبل الخلق! ثم، أواصل تتبع الانسحاب إلى ما قبل التكوين! كي أتساءل: هل تخطيت حدودي...؟ لا! فأنا ـ بداهة ـ مركب من الأبعاد اللا محدودة بدا ً من الزمن إلى ما قبله، فأنا موجود في الوجود حد استحالة وجود نقيض له، عدا تحولات الأشكال، تبعا ً لمحركاتها.
    ألا يحق لي ـ كي لا ادع الفكرة تغيب ـ ان امسك بنظام سمح لي ـ خارج إرادتي ـ ان امتلك هذا الحضور...؟ أم، لأن الحضور وقد بلغ غيابه، سمح لي بما ليس غائبا ً، وبما ليس حاضرا ً، لأمر ما شبيه بالطيف، أو بما لا يمكن رسم مروره، أو وصفه بالكلمات...؟ هل تراني أصبحت نائيا ً عن جسدي، عن أصابعي، وعن رأسي، كي أوثق حالة شبيه بالصفر، التي تكتمل فيها الأبعاد، أو بالأحرى، ترجع إلى أصلها! كي يحافظ الأثر على دمج المقدمات بنهاياتها، لكن عبر هذا المرور، وقد اكتسب زمنه، ومنفاه، سواء بسواء...؟