في التشكيل العربي المعاصر
ثراء التعبير , عند الفنان صلاح جياد
ماضي حسن
عند بدء الملامح الاولى , للتشخيص , والتامل , والاستدراك , تفصح لنا اعمال الفنان التشكيلي ( صلاح جياد المسعودي ) المولود عام 1947 البصرة , باعماله المعاصرة , ايحاءات الصراع لجزئيات المفردات , اذ تتحول التفاصيل التي تشكل اللبنات الاولى للخلاصة التكوينية , من سياق النمط - الاستاتيكي - الساكن - الى - حركة - ديناميكية متشابكة الاطراف والجذور , تبدوا لنا كذلك بالاستناد , والاستمداد , من المنهجية التفكيكية للاجزاء , والتي تمنح البعد الاخر, الى التطابق مع المفهوم السائد في الحداثة الادبية , بما تتضمن موت - الكاتب - وانشغال المستلم , او , المتامل بحيثيات وصخب - ادرامية الحدث - على نحو مثير , واستغراقي , طفحت معالم تلك التجارب وتغيراتها المتعاقبة , بعد مخاض طويل , استمد جذورها منذ دخوله معهد الفنون الجميلة عام 1964 - 1968 والتي ارست اسسه الاكاديمية , والاشتراطية الدراسية الملزمة , والملتزمة , فضلا عن تحويل تلك الطاقة المختزنة ,التي ارست اسسها التطبيقية في مجال الصحافة , ومنها - مجلة الف باء - ويعد احد المساهمين في تاسيسها عام 1967 وبعدها بسنتين , اشتغاله في صحافة الاطفال , وهو طالب في اكاديمية الفنون الجميلة , لقد كانت تلك المساحات التطبيقية للفنان - صلاح جياد - قبل مغادرته العراق عام 1976 الى باريس ليستقر فيها , نشاطا يكسب الخبرات , عالما ابتكاريا , واستكشافا , واضافة , للمخزون التعليمي الى منتوج مرئي يتداوله , ويتلقاه , قراء , يستدعي من الفنان , الرعاية الجدية , والدافع المعنوي , نحو تطوير الواقع المعرفي , والخبرة , الى واقع التلقي الواسع الافق , والرسمي , اذ تتحول مخزونات المعرفة التعليمية ومستوى القدرات الى مراقبة واستقصاء وترقب لردود الافعال والنتائج والملاحظات , تلك هي نتائج العمل في مجال المنشورات الاعلامية , لاسيما في السنوات المبكرة , المصاحبة الى زمن الدراسة التعليمية في الاختصاص , والاختيار المحض , لاتجاه تحقيق هاجس الشعور الذي ينغز الموهوب مبكرا , لاختيار طرق التخصص . بهذه المقاييس نستنتج لما توصل اليه الفنان - صلاح جياد - بقوة مقدرته الادائية , وبالتاسيسات الاكاديمية المدروسة مذ , كان طالبا في معهد الفنون الجميلة , وما تلاها في اكاديمية الفنون , وبنشاطاته ضمن المجال الاعلامي , كانت تتنوع في افاق مجالاتها الاسلوبية , وحسب متطلبات الضرورة المكلف بها , حيث ارفدها بقدراته الادائية , وارفدته تراكما للتجربة , والخبرات , والبحث عن ارساء اسس التحول, نحو ركوب موجة الاكتشاف لمعالم البناء الحر , وموجة الحداثة , بصورة غير مماثلة , او مناظرة للحركة السائدة , بل هي نتاج تلقائي لخلاصة تراكم التجارب من جراء كثافة وتنوع غمار الممارسة الادائية بمهارة , لقد اقترن ذلك بمن جايلوه عن قرب, مكانا , وزمانا , ومرحلة واحدة , كالفنان فيصل العيبي , والفنان هادي نعمان , ووليد شيت , ومحمد مهر الدين , وغيرهم , تلك النخبة التي تجمع بين جيل عقدي الستينيات, والسبعينيات , لها مميزات التاكيد على الاستجابة الحماسية للواقع الموضوعي , وما تضمنه من احداث دراماتيكية مختلفة , سواء على الصعيد الاجتماعي , اوالسياسي , وكذلك صراعات المنطقة العربية ابان احداث عام 1967 , وما تلاها عام 1973 , فضلا عن اصدام التضادات بين اطراف , وثبات , وحوافز التقدم , مع مناقضاتها الاخرى المختلفة , والمتعددة الاوجه , والوسائل , ولكن النتيجة واحدة , هي التخلف, وتكبيل المجتمع باثقال , واحباطات , يحصد نتائجها الان , وبتزايد واستمرار , لقد كان هذا الجيل من الفنانين والادباء , او فئة المثقفين بشكل عام , ومنهم موضوع بحثنا الفنان - صلاح جياد - يحركهم هاجس الوعي , والادراك , والبحث عن الحلول , يتجسد ذلك الوعي الفكري بالنتاج الابداعي , وبحسب الاختصاص , لقد كانت اعمال الفنان- صلاح جياد - تمتلك في تاسيس جذورها ذروة من الحماس الوجداني الثائر نحو امتداد تجسيدات من ماثلوه بذلك الاتجاه كالفنان محمود صبري , ولكن بروحية ونزعة تتلائم مع قدراته الاكاديمية واسلوبيته الخاضعة الى مساحة التجريب المستمر , ان ايصال دفق النزعات الجامحة بقوة وبتعبير عالي الى الاخرين : باثارة, وانتباه, واختصار , لابد من الاستعانة بمهارة الوسائل المتبعة : بقوة الفرشاة عند الرسام , واليات التنفيذ الاخرى نتيجة التمرس المكثف , وبالبدايات , والخطوات البديهية , الاكاديمية , ولقد تجلى ذلك وضوحا للعيان , في اعماله الواقعية - للفلكلور العراقي - في المتحف البغدادي ابان السبعينييات , هو , مع نخبة من الفنانين الذين جايلوه , كما ذكرنا انفا , لذلك شكلت نتاجاته الفنية اللاحقة مرحلة ناضجة , ومتحركة في كل ابعادها الفكرية , وثيماتها المبطنة , عن طريق مراحل السمو الاتقاني , والادائي للاعمال , سواء عن طريق التاسيس الانشائي , او هيرمونية اللون , وملائمته مع ثيمة الهدف , او موازنة وحدات التفاصيل التكوينية . .
- تحولات .. وامتداد -
برغم التحولات الادائية الحداثية للفنان - صلاح جياد - الا انها تسمو بعملية , الترابط الشكلاني , كامتداد لتاسيسات البنية التركيبية للتكوينات , لاسيما ثرائها في - منظومة الاشباع اللوني - وبذلك فان خصوصية الايحاء الاسلوبي تبقى تلامس شخصية الفنان , بهدوئها الحكيم , والمتامل على وفق , تفسيرها السايكلوجي , ومن الامور التي تكتشف لنا كمتابعة للتحولات المرحلية , والاسلوبية , والنمطية , للمبدعين , تبقى توءكد هوية الفنان باول خطوة , اللمحات للمتابع , والمستدرك , حين يستند الفنان كما ذكرنا على خطوات اتقانه التاسيسي , وعلى عكس ذلك تذهب السمات العامة هباءا, في حالة التحولات , الحدية , والمفاجئة عند القفزات, المفتعلة, لدى فاقدي الاتقان الاكاديمي , ان التعريج على هذه الموضوعات في محل دراسة فنان له تاريخ , وحاضر , يحقق ما نصبو اليه من مغزى مهم , كإسناد مرجعي في مجال المقارنة والتوكيد , لما يسود الان موجة من العبث الاتقاني , وسوء فهم - الحداثة - وما بعدها - وباصداء, وتشجيع بما يعادلها من دخيلي الوسط المعرفي , النقدي , او الاعلامي , لدرجة زرع غشاوة الوهم المختلط , بلا شك لقد زحفت تلك الموجة في بلدان محدودة , ومنها بلدنا الام - العراق - لدرجة ضياع الاصالة بين اختلاطات الامواج , ولكنني ارى انها ستتفلتر بالتدريج بعد تراكم كميتها , بعد بلوغ مرحلة السخرية , وعودة الى افصاحات, واشارات الاعمال المعاصرة للفنان - صلاح جياد - فان ما تتضمنه دلالات الثيمة الابداعية للاعمال تتلائم وتنسجم مع قوة اشاراتها العنيفة في الصراع الجدلي للاجزاء , فلكل مفردة لها, ضرتها , ولهذا تجد فورات من الاحتدام العنيف في بنية الاشكال , ثم بين المفردات للشكل الواحد من التكوين , ويتكامل ذلك بوجه اخر بمساحات المتضادات اللونية , ان تلك المنظومة من الاحتدامات , تشعر في خلاصة صراعاتها التفصيلية , تركن الى حالة من الانسجام الملخص في نتائج البنية العامة للتكوين , اي ان التفكيك المعنف للمفردات , تسمو عليه حالة الترابط الموحد , كاحدى مستلزمات عناصر الفن التشكيلي , توحد حركاتها الصاخبة , ومتضاداتها اللونية , وملامسها الشكلية التي توحي الى ملامح النحت - الناتيء - لذلك فعملية هيجان الصراع لم يكن مقتصرا على نمطية التضادات الشكلانية , واللونية, وانما الى محتوى اشارات الملمس , بمجاوراتها المختلفة , تتضمن اعمال الفنان - صلاح جياد - موضوعات متداخلة بين مرجعيات التراث العراقي القديم , كالوجوه السومرية , واجسادهم القوية الغليضة , ومعالم المفرات المعمارية لتلك الفترة , وكذلك مفردات لوجوه واجساد معاصرة , تتخللها معالم من المفردات الفلكلورية , كالاهلة, والقبب , وغيرها من المرموزات , والسميائيات المتداخلة في الانساق التكويني , تتزاحم تلك الاختلاطات بين مرموزات الارث , ومفرداتها المعاصرة , لتشكل تكوينات ممتعة . .
من الملاحظ إن الفنان صلاح جياد : يهتم كثيرا بعملية التوازن الشكلي , والتوازن الاشكلي للبناء الإنشائي , إذ نجد حتى- التوازنات الاشكلية - تتلاءم مع إيقاعاتها الحرة للمفردات , والتوازن يحصل احيانا بحالة التبادل المتناظر بين التكوين الرئيس لموضوعة العمل , وبين الفضاء المطلق , ولم يدع للفراغات تنتاب الفواصل بين المفردات , بالرغم من تعددها , وازدحامها , فلقد يعالج ذلك بمليء المساحات بالمادة اللونية بواسطة المتضادات والتباين بين الداكن , والفاتح , وتترابط تلك الاشكال بخطوط رشيقة , تشبه أنسجة الخيوط , لتخلق نوعين من الهدف البنائي للتكوين : 1 - هدف ترابط التوحد التكويني , 2 - هدف حركة الاشياء الراكدة باتجاهات معاكسة لها . وبالرغم من حرية الحركة للأشياء وتجردها من نسبها الذهبية , الا ان هذه الاشكال يخترقها تكوينا , من نفس فصيلة اللون , والتكوين , ولكن حافاتها تتسم بدقة حافات حدودها , لذلك نجد ان الصراعات المحتدمة التي تحدثنا عنها ليس في نطاق الاهداف الفكرية , والثيمات , وانما في بنائية تكويناتها التشكيلية , وفي اغلب اعماله التعبيرية المعاصرة لم يعمد إلى اظهار تضادات لونية بطريقة الكونتراس , وإنما بتضادات العتمة ومساحاتها الصغيرة مع الفاتحة , لذلك نرى العمل يمتليء بثراء غزير للمفردات بتعقيداتها وكثافتها المزدحمة , كما ان الخطوط تنقطع عن مواصلة استمرارها افقيا , وعموديا بانحناءات , او استدارات تشكل اوصالا للحروفية , وبعض اعماله يعمد الفنان الى جعلها على نمطية الايقونات بايقاعاتها المتكررة . .