الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

في المكتبة- إصدارات فنية وجمالية ونقدية- عادل كامل

في المكتبة

إصدارات فنية وجمالية ونقدية


 عادل كامل
    لولا آثار متفرقة نقشت فوق العظام، البردي، الطين، الجلود، الحجر، الورق، وصولا ً إلى عصر المعادن، والى عصر تقنيات عالمنا المعاصر، فهل كان ممكننا ً التعرف على ما لا يحصى من الوثائق ـ العلامات، تتحدث عن تاريخ راح يرسخ ريادته باستحداث: تحديات، مضادة لعوامل التلف، الإهمال، والنسيان، للحفاظ على كل ما يؤرخ تاريخ الإنسان، وأسفاره.
   إن الانتقال من عصر (الأصوات) إلى عصر (الكتابة) والحفر، شبيه بالانتقال من الغريزة إلى الوعي بإرادة الوجود، وديمومته، لمنح الحضارة اهتمامات أرقى بالبناء، والتقدم، والتهذيب.
   فكل وثيقة، مهما بدت غير مهمة، حملت آثار غائرة أو كلمات دوّنت بخامات قاومت الزمن، ما هي إلا حلقة في سفر شبيه بالخزين الكامن في قاع (الذاكرة) الجمعية، والفردية/ معا ً، ذاكرة تحكي قصة مشوقة، وشاقة، للمواجهات المبكرة مع قسوة الطبيعة،  وتقلباتها، مرورا ً بكوارث الحروب، وليس انتهاء ً بعصر يحدق في مستقبله المجهول: عصر الإبادات، الانخلاع والتشتت، وصناعة الموت.
    إن هذا الانتقال من (الأصوات) إلى (المدونات)،  كالانتقال من البرية إلى القرى، ومن المدن إلى العواصم، وكالتطور في أدوات الإنتاج، نحو الأدوات المنتجة لها، وكالانتقال من عصر الأم الكبرى، إلى عصر الإمبراطوريات بزعامات الرجال، وكالانتقال من عصور العبودية، إلى عصور تحرير العاملين على تطبيقات: الحرية...
    فالحرف، في الكلمة، والكلمة في العبارة، والجملة في الصفحة، والأخيرة في الكتاب، كلها تشكل موسوعة مركزية للرأسمال البشري الرمزي الذي شيّد بجهود مضنية للحفاظ على أسفار الإنسان، بمذاقها اللاذع، أو الشفاف....
   فثمة مدونات تبلورت عبر (الحرف) و (الصورة)، اجتمعت فيها خبرات: الكاتب، المصمم، الحفار، الطباع، و ....، كي تشكل خطوة في سلم لا يهبط إلى الأسفل، بل يرتفع إلى الذرى، موازيا ً حلم الحفاظ على الإنسان، وحضوره فوق هذا الكوكب.
[1] مصطفى عبد المعطي
نحت ـ برونز
    خصصت قاعة الزمالك للفن ـ بالقاهرة في مصر العربية ـ عرضا ً للأعمال البرونزية للنحات المصري الرائد مصطفى عبد المعطي (1938/الإسكندرية)، مع إصدار كاتلوك ـ دليل أنيق ـ بمثابة كتاب مصوّر لأعماله الفنية.
    إننا إزاء وثيقة تسمح للمتلقي أن يشعر بالأسف لمئات المعارض ـ الجمعية والشخصية ـ التي أقيمت، على مدى القرن الماضي، ولم تترك أثرا ً دالا ً عليها، كهذا الكتاب الذي تضمن عرضا ً لأعماله الفنية، ولكتابات نقدية مرافقة لتجربته الرائدة

   فكتب د. فاروق وهبة: " تقوم التجربة الإبداعية عند الفنان مصطفى عبد المعطي على شمولية الرؤية المترامية الأبعاد بأبجدية تجريبية شديدة الخصوصية هندسية المقاصد، يخرج فيها العمل الفني من مصنف الحدود الحاسمة بين التصوير والنحت. توالت التجارب مرورا ً بالتنقيب في الإشارات والرموز الرياضية والفلكية والسحرية، بحثا ً عن أبجدية ميتافيزيقية، وتوازي مع التصوير سلاسة في فن الرسم كفن مكتمل، له أصول وأحكام. وتدور تجربة الفنان في الذاكرة الفرعونية وطبيعة ملخصة إلى أقصى حدود وتفاعلت تجربته وتفاقمت لتصل إلى إطلاق العنان للبعد الثالث، ليتسيد الموقف، ولا مناص في أن يتحول هذا التجسد، إلى أعمال نحتية، تفاجئنا بملكة فاعلة، كمن يمارس النحت منذ أمد بعيد وهو يثبت بهذا إن ذاكرته البصرية تحمل مساحة عريضة من المخزون الثقافي والفني. إن تجربة النحت عند الفنان مصطفى عبد المعطي هي ارث له أصول ارابسكية وفرعونية وشعبية، وهي مقدرة تعبر عن اقتداره ووصوله إلى أعلى درجات الموهبة التي تعطي للفنان بلا حساب ما تمليه إرادته. إن الفنان مصطفى عبد المعطي، من فناني مصر القلائل، الذين يملكون تفوق القدرة النادرة، التي تتيح له أن يوضع في مصاف الفنانين العالميين."
 * قاعة الزمالك للفن/ القاهرة ـ جمهورية مصر العربية/ 2015


[2]  [تحولات تقنيات
الإظهار في النحت المعاصر]

     يرصد النحات الراحل أياد حامد، في كتابه [تحولات تقنيات الإظهار في النحت المعاصر] العلاقات القائمة بين فن (النحت) والمتغيرات الحاصلة في المجالات الاجتماعية، ومنها العلمية، والتكنولوجية، والنفسية، بوصفها علاقة غير منظورة، في الغالب، عند المراقب العام، أو لدى المتلقي. فالثورات (الفنية) ـ على صعيد الأشكال والمعالجات والخامات ـ وعلى صعيد الرؤى والأساليب وطرق المعالجة ـ  تحدث على نحو لا يمكن عزله عن التطور الحاصل في المجالات المختلفة لبنية الحياة، وأنساقها.
    ولأن الكاتب ـ والكتاب رسالة ماجستير ـ يمتلك ممارسة عملية لفن النحت، فقد راح يحفر في المناطق ذات الصلة بالحركات الفنية، وأثرها في الرؤية الجمالية. فالنحت ليس فنا ً مستقلا ً عن العلم، فثمة نسبة معينة من المعارف العلمية لدى النحات، مثلما نجد أن أصحاب النظريات العلمية والمخترعات المستحدثة يسهمون بإزالة الغموض والالتباسات الخاصة بالمنجزات الفنية، والجمالية.
   فلقد شهد النحت المعاصر استعمال العديد من الأساليب والتقنيات في اظهر المنجز النحتي للوجود، فقد كان هذا الفن يسير بموازاة التحولات الفنية الأخرى التي حدثت في العالم...ن وقد شكل نهاية القرن التاسع عشر، بداية الانطلاق الحقيقي للنحت بتجاربه المعاصرة ممثلة في تجارب النحاتين الرواد لتأسيس المبادئ  التقنية والجمالية للإظهار. وهذا ما أدى إلى نشوء حركة نحتية نشطة ذات أساليب جمالية وتقنية عديدة خضوع كل مرحلة من مراحله إلى ضوابط اجتماعية وثقافية وسياسية كان لها الأثر الكبير في تحديد مسارات التحول التقني والجمالي لعملية الإظهار.
  • صدر الكتاب عن "شبكة الإعلام العراقي" بغداد ـ 2014



[3] [جغرافية الجدل في الفكر والفلسفة والفن ـ العصور القديمة ـ رنين ورموز وبشر]


    يذكر الفنان د. شوقي الموسوي في كتابه [جغرافية الجدل في الفكر والفلسفة والفن ـ العصور القديمة ـ رنين ورموز وبشر] ان كتابه يقدم مجموعة من المبادئ والأسس الجدلية في مجال الفكر لدى الإنسان القديم، ويحاول أيضا ً ان يتتبع تطور الفكر الإنساني القديم بحدود مفهوم الجدل أو الجدلية التي توصل به إلى مراحل متقدمة من التفكير، إلى مراحل إنتاج الأسئلة، وخاصة عندما جوبه الإنسان آنذاك بمشكلات تتعدى الظواهر المجردة، مثل مشكلة (أصل الكون) ومشكلة الغاية (غاية الوجود)، حاول جاهدا ً التوصل إلى بعض الإجابات المرضية عن مثل هكذا أسئلة، أقحمته فيها تأملاته في صراع جدلي مع هذا الكون العجيب الممتلئ بالأسرار والأطياف، التي تفسر ظواهر عالم المرئيات ...، وبهذا التصوّر الفكري يصح لنا عد هذا الاتجاه المتمثل بالتفكير التأملي المستعين بالجدل، احد أوجه محاولات الإنسان الأولى الرامية إلى تنظيم تأملاته المبعثرة وبنائها جدليا ً، بشكل يسهل له إدراك المرئيات (الجزئيات) المتعددة في إطار فكري شامل موحد.. وكلها قد لا تشكل مشروعا ً لتأسيس منهج جدلي موحد حسب، بل يرتقي به إلى دلالات أعمق بواسطة معان العلم الكلي بالمبادئ الأولى.
   فيحلل الكاتب موضوعات، مثل: مفهوم الجدل فلسفيا ً/ جغرافية الجدل في الفكر الإنساني القديم ما قبل الطوفان، وفي الفكر العراقي، والفكر المصري/ وثمة تطبيقات في فنون الإنسان البدائي، وباقي الحضارات/  من ثم يدرس التطبيقات في فنون حضارتي الهند والصين القديمتين/ ليدرس التطبيقات الجدلية في فلسفة وفنون حضارة اليونان القديمة. مستنتجا ً ان آليات الجدل والتصورات الكلية، هي إحدى أهم القوى الفكرية الفاعلة في تشكيل بنية الصورة الزمانية في حضارات الشرق القديمة ـ العراقية على وفق منظور جدلي يستعين به الفنان القديم للوصول إلى بنية متراكبة ومتداخلة بين ما هو معلن وما هو مخفي لخلق انساق تقترب من الهندسة متسمة بالوحدة. وقد لعب عنصر الخيال المشحون بالطاقات الروحانية المستحصلة من آليات الجدل في فنون الحضارات القديمة، دورا ً رئيسيا ً في اقتراح أشكال مشبعة بالقيم الروحية التي تسهم في ترحيل ما هو جزئي إلى كلي. كي يلاحظ ان المحرك الأول للفنون الشرقية القديمة هو القوى اللا مرئية، مما سمح للفنان ان يحاول على وفق منهجه الجدلي المستند إلى رؤية حدسية، تضمنت نتاجاته بمسحة من المثال المتجسد بعالم الحريات.
  • صدر الكتاب عن دار (رند) للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق ـ 2011




[4]   [السطح التصويري
بين التخيل والمنطق والتأويل]


  كما هي العلاقة بين العلم ـ والتكنولوجيا لا تمر إلا عبر التطبيقات/ التجريب، فان هذه العلاقة لا يمكن ان تحقق تقدما ً، بين التنظير والمتلقي العام، فضلا ً عن دارسي الفنون، إلا عبر الدراسات التي  تعمل على ردم الفجوات، إن لم اقل الانقطاعات، بينهما.
   ولابد من الاعتراف بالصعوبات، بعد الاعتراف بندرة الدراسات المعنية بتقليص المسافات بين المجالات النظرية/النقدية، والمجالات العملية/ التطبيقية..، في مسارات الفن الحديث، وتحولاته، خلال القرن الأخير.
    في كتابه [السطح التصويري ـ بين التخيّل والمنطق والتأويل] لا يهدم الباحث أ. د. علي شناوة وادي، جسورا ً قائمة، بل يعمل على تأسيسها. فثمة موضوعات تعنى بالفن الأوربي، وجماليات (الحداثة)، التأويل، وقضايا كموت الفن ..الخ، التي تناولها الباحث، تبقى محفزا ً لدراستها، في واقعها، وإعادة استثمارها، وإنتاجها، بعد ان بلغت ذروتها، وربما أفولها، في بلدانها التي ازدهرت فيها. فالمنحى العام للدراسات النظرية/ النقدية،  لن يسهم بردم الفجوات والفراغات بين الجمهور العام، والفن المعاصر حسب، بل بين الفلسفات الحديثة وطلاب الفن أنفسهم، بما يحدث من تنوع في مجالات المعرفة المعاصرة، وتعقيداتها.
   فيذكر المؤلف ان دراساته، عبر منهجها الوصفي التحليلي تارة، والتحليلي النقدي بمدياته التأويلية تارة أخرى..، تتقصى المنظومة العلاماتية لمصطلحات فنية لها انشغالاتها الفاعلة في السطح التصويري، وتلمس البنية التأسيسية التي تقوم عليها هذه المصطلحات الجمالية فلسفيا ً ونفسيا ً ونقديا ً، فضلا ً عن دراسة حركة العناصر ووسائل التنظيم فيها، ودراسة المنحى الابستمولوجي عبر  التأسيسات المعرفية والروحية والرؤيوية والفلسفية والنفسية، الذي يعد إثراء ً مفاهيميا ً عبر جدله وإشكالاته وإفرازاته ومخرجاته، بل معطياته مع التعبيري والشكلاني والتقني والأسلوبي. إذ ْ يعد السطح منظومة علاقاتية مركبة تقوم على أساس إبداعي بقدرات كيفية معقدة تتسم بالأصالة، وتستنهض كما من المسميات الاستطيقية بشكلها الانتقائي، لتعبر بذلك عن معطى جمالي يقف وراءه كم من العوامل الذاتية والموضوعية، وعلى مستوى التأويلية  والتفكيك، يأخذ الخطاب الجمالي صورا ً مغايرة كمثل هذه المسميات.

* رقم الإيداع في المكتبة الوطنية (585) لـعام 2007. الحلة ـ مطبعة الصادق.




[5] فن الرسم
في القرن العشرين

     لو لم يكن الفن ضرورة، تماثل ألتوق للتحرر، لكان انتشاره محدودا ً، وليس ظاهرة رافقت المجتمعات، منذ نشأتها، وحتى تحول عالمنا إلى قرية صغيرة.
    وفن الرسم ـ المعني بالبصريات ـ لا يمكن عزله عن الفنون السمعية، والحدسية، من ناحية، ولا عن المجال العملي النفعي الخاص بالتطور في مجالات الحياة اليومية، من ناحية ثانية.
    فالكاتب "جيان كاسو" في كتابه [فن الرسم في القرن العشرين] ترجمة: لؤي مثنى بكتاش، يسلط الضوء على قرن  شهد تحولات شتى وفي مجالات مختلفة ومنها فن الرسم.
    ففي مناقشة مستفيضة واضاءات على مسيرة الحركات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين وازدهرت فيه وأثرت في مجمل الاتجاهات الفنية العالمية خاصة: الانطباعية/ التكعيبية/ التعبيرية/ الوحشية/ المستقبلية/ السريالية/ والطليعية...الخ، من الاتجاهات التي أبدع فيها رواد الفن التشكيلي في هذا القرن الذي شاعت فيه مفاهيم الثقافة والأدب والفلسفة، وازدهرت ازدهارا ً تجاوز الحدود الجغرافية لعاصمة الفن، باريس، نحو العالم بأسره.
    على أن المؤلف ـ وإن كان يؤدي دور المؤرخ ـ اتخذ من النقد الإبداعي منهجا ً له يسمح للمتلقي بقراءة شاملة لدراسة الاتجاهات الفنية وتنوعها، ضمن العوامل المؤثرة في إنتاج الفن، وأهميته في إثراء المعرفة الجمالية.
   فإذا كان فن الرسم ـ في القرن العشرين ـ قدم مفهوما ً يخص تحطيم الصورة، بدءا ً بالانطباعية، فانه ذهب ابعد من ذلك في منح الرسامين مغامرة استحداث أساليب ترى الواقع من زوايا تمنح الأفكار شرعية، ومغامرة أيضا ً، في عالم ظهرت فيه النسبية، وتفكيك الذرة، مثلما شهد حروبا ً مروعة أدت إلى تحولات كبرى على صعيد الأنظمة الحضارية، وتطبيقاتها، لتجد موقعها في تحرير (الخيال)  ومده بتحديات تتجاوز المفاهيم التقليدية، نحو عالم بصري زاخر بالمشفرات، والتأويلات، والأسرار.
   فيذكر الكاتب كاسو: " يجب البحث عن جذور هذا التغيير خارج الفن. فقد اظهر النظام الاقتصادي الرأسمالي قدرته حتى الآن على التجدد الذاتي. ولكن تناقضاته العميقة نتج عنها انحلال الصيغ الثقافية. وان الظروف الاقتصادية التي خضع لها الفن هي حتمية في الواقع. وفي التحليل للسوق الحالي وانعكاساته في الفن نجد انه لم يترك فجوات كثيرة للحرية الفنية: فهمل ذو معنى يمكنه أن يكون امتصاصا ً للأعمال الطليعية ذاتها. على الرغم من انه ـ كما اظهر ادوارد سانجنتي ـ ان الطليعية هي ظاهرة برجوازية، لجأ إليها الفنانون الذين أرادوا معارضة وحرية في هذا المنهج. وعلى الرغم من ذلك، ولحد الآن لم يكن تحقيقها ممكنا ً، وان كان ذلك بنسبة قليلة."
    إن قضية تهديم الخيال التقليدي اتبعت طريقين متداخلين بصورة منطقية:  احدهما يسمى بالبنائي، وهو ذو عامل عقلي راجح، والآخر يسمى بالمعبر، وهو إظهار المعنى الباطني.
موضحا ً: " إن عصرنا ـ عصر الصورة ـ كما اسماه بحق ميشيل راغون، يخلو في الواقع من الخيال الحقيقي. ويعبر بالتحديد عن الآتي: عن عدم امتلاك الخيال،  وتفتيت المعروف، والمقبول.  إن ظروف مجتمعنا منعت، بلا شك، خلق خيال جديد: لأن انحلال تلك الصورة التقليدية، وعدم الإمكانية لأخرى غيرها هي مظاهر للمشكلة نفسها. ويبدو  اليوم إن الفن نفسه هو الذي تلاشى، والطليعية طغت على ما فُهم بوصفه فنا ً."
  • الكتاب صدر عن  وزارة الثقافة/  دار المأمون ـ بغداد ـ2013

[6] الانزياح في الخزف المعاصر
    يأتي كتاب د. محمد ألعبيدي [الانزياح في الخزف المعاصر] بجزأين، 2016، لاستذكار مسارات بلغت فيها الحداثة الأوربية ذروتها، ممهدة لمفهوم إعادة إنتاج (الفن) بروح العصر، بما يتمتع به العصر من صخب، تصادمات، اختلافات، وتقنيات تذهب ابعد من خيالها النظري، العلمي، بل ومن العلم بوصفه لم يترك حيزا ً لم يحاول سبر مناطقه القصية.
   فعلى خلاف موقف الناقد الانكليزي "هربرت ريد" الذي منح الخزف مرتبة الفنون اليدوية، التطبيقية، والنفعية، نجد الباحث محمد ألعبيدي، يتمسك بالحفر في لغز (الخزف) بوصفه رافق الإنسان بالانتقال من عصر الأصوات إلى زمن الكتابة، وبقراءة أكثر خصائص العصور اشتباكا ً للمفاهيم، القيم، المثل، والأشكال المستحدثة.
    فإذا كان "جون كوهين" يُعد احد مؤسسي تيار (الانزياح)، والذي طوره "تيري تيدوروف"، فان ألعبيدي سيتوسع بالعثور على اشتباكات لا تحصى في الفلسفة، النظريات، الاتجاهات الأدبية، الأفكار، التقنيات، والابتكارات الأسلوبية التي غذت أنظمة الانزياح، بالاستناد إلى دحض (الثابت) و (الأبدي) و (المقدس)، نحو فهم أعمق  لديالكتيك فن الخزف بالحداثة، وما بعدها. مراقبا ً بدقة جدلية التأثر والتأثير، والحذف والاضافة، بوصف الخزف احد علامات استلهام أكثر الرهافات قدرة على احتواء التركيب، التداخل، الانصهار، التوليف، برصد فن الخزف وهو يتبنى مقولة غوته: روح العصر.
    فبعد تحليل مصطلح (الانزياح) ومنهجيته في النقد الحديث، أعطى عناية فائقة لهذا المقترب الرئيس والفاعل في دراسة النصوص الفنية، وتحليلها، وتسليط الضوء على دور (الانزياح) في ضرورة التوفيق بين المصطلحات الكثيرة، من اجل تعريف حدود النظرة الشمولية للظاهرة الإبداعية بإسنادها إلى : حضور المبدع، مؤلفا ً أو مستهلكا ً، وحضور الشكل أو الصورة، لتشكل الظاهرة الجمالية.
   فالانزياحات ستتنوع بتنوع المغامرات الفنية المعاصرة في شتى المجالات؛ من الفلسفة إلى الأسلوبية، من البنائية إلى التفكيكية، من التعبيرية إلى الرمزية، ومن النقد إلى الشعرية ..الخ، كي تحتم دينامية النفي، ونفي النفي، عن قدرات فن الخزف على صياغة علاماته المستمدة من مكونات عصر قائم على الوفرة، الاختلاف، والتقويض.
   ولعل المكانة التي أولاها الباحث لفن الخزف، ستمنح المتلقي، المعني بالمعرفة، والثقافة، والخزاف على وجه التحديد، لقراءة تستند وتقوم على قراءات ترجعنا إلى الأصول البكر للخامة، وموقعها في التدشين الفني،  بوصفها حاملة للغز الجسد ـ ولروح الإنسان، وليس بوصفها حاملة تطبيقا ً نفعيا ً، فضلا ً عن نزعة الانزياح المتواصلة لدينامية العلامات، الأشكال، الرموز، ومدى انشغالها بروافد العصر العلمية، التقنية، في سياق تبلور ظاهرة  فنية لها خصائصها الذاتية ـ الفردية، في عالم تحكمه انساق الموجة الثالثة، عصر ما بعد الصناعة، وتتحكم به تيارات العولمة، حيث أصبح فن الخزف مدفنا ً، لكن ليس للموتى، بل لكيانات وأجيال تحثنا أن نتلمس فيها خصائصها الفريدة، أسلوبا ًيحقق دينامية المفاهيم التوليدية، لفنون تكاد ـ هي الأخرى ـ تتعرض للانزياح، في عصر البضائع، والسلع، مانحا ً مغامرته الجمالية أصولها بروافدها المعرفية، الفلسفية، وكل ما يخص اللا متوقع الحاصل في زمن التصادمات، ومغامرات الخيال الأبعد، نحو قراءة يتحول فيها المتلقي، إلى جسر أو ممر نحو الإقامة في أكثر المناطق: خلخلة، حركة، وشوقا ً لاكتشاف ما لم يكتشف بعد.

* صدر الكتاب بجزأين عن دار الفراهيدي للنشر والتوزيع ـ بغداد ـ 2016.



كينيث كوك: سحر الأعداد- شعر

شعر
كينيث كوك: سحر الأعداد

Previous image Next image
/


كينيث كوك (1925-2002) شاعر ومؤلف مسرحي وأستاذ جامعي أميركي من مواليد مدينة سنسناتي بولاية أوهايو. تلقى تعليمه في جامعة هارفرد ونال شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا. بدأ النشر مبكرا وامتد نشاطه الأدبي والأكاديمي منذ عام 1950 حتى وفاته. أصبح عضوا بارزا في جماعة أدبية أطلق عليها اسم ((مدرسة نيويورك)) تضم شعراء من بينهم فرانك أوهارا وجون آشبري.
بدأ كوك نشر كتبه خلال ستينات القرن الماضي الا انه لم ينل حظه من الشهرة الا في السبعينات مع ظهور مجموعته المعنونة ((فن الحب: قصائد)) عام 1975 تلتها مجموعات عديدة نال بعضها جوائز أدبية مهمة مثل جائزة بولنغن عن مجموعته ((قطار)) عام 1994 ثم جائزة فاي بيتا كابا عن مجموعته ((عناوين جديدة)) عام 2000.
عمل كوك في التدريس الجامعي وتدريس الكتابة الإبداعية، كما أطلق عام 1970 كتابا رائدا في تعليم الشعر عنوانه ((رغبات وكذبات وأحلام: تعليم الأطفال كتابة الشعر)) تبعه بكتب أخرى ومختارات شعرية تعنى بتعليم الأطفال والكبار تذوق الشعر فهمه وتأليفه. نشر كوك أيضا مئات المسرحيات الطليعية ورواية واحدة ومجموعة قصصية.
سحر الأعداد
سحر الأعداد— 1
كم كان غريبا سماع الأثاث يُنقل من مكان إلى آخر في الشقة في الطابق العلوي!                                       
كنتُ في السادسة والعشرين وأنتِ في الواحدة والعشرين.
سحر الأعداد— 2
سألتـِني إن كنت أريد الهرب، لكنني قلت لا وواصلت المسير.
كنتُ في التاسعة عشر، وأنتِ في السابعة.
سحر الأعداد— 3
أجل، ولكن هل سين يحبنا حقا؟
كنا كلانا في السابعة والعشرين.
سحر الأعداد— 4
تشبهين جيري لويس (1950)
سحر الأعداد— 5
جدي وجدتي يريدانك أن تذهبي إلى منزلهما لتناول طعام العشاء.
كانا في التاسعة والستين وأنا سنتان ونصف.
سحر الأعداد— 6
في أحد الأيام عندما كنت في التاسعة والعشرين من العمر التقيت بك ولم يحدث شيء.
سحر الأعداد— 7
كلا، بالطبع لم أكن أنا من جاء إلى المكتبة!
عينان بنيتان، وجنتان متوردتان، شعر بني. كنتُ في التاسعة والعشرين، وأنتِ في السادسة عشرة.
سحر الأعداد— 8
بعد أن مارسنا الحب في إحدى الليالي في ((روكبورت)) خرجتُ وقبـّلت الطريق
كنت أشعر ببالغ الإثارة. كنت في الثالثة والعشرين وأنت في التاسعة عشرة.
سحر الأعداد— 9
كنت في التاسعة والعشرين وأنت كذلك. قضينا وقتا مفعما بالعاطفة والشهوة.
كل شيء قرأته كان يتحول إلى قصة عنك وعني، وكل شيء قمت به يتحول إلى قصيدة.
_________________________________



الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

سلافا حجازي ثورة قلب في فنجان مكسور-ابراهيم ابراهيم


مبدعون
سلافا حجازي ثورة قلب في فنجان مكسور
ابراهيم ابراهيم 

     قد تكون سلافا حجازي اسم من الأسماء في لغة من لغات البشر لا يحمل سوى دلالة انثى في معناه الدلالي لكن تفاصيل خارطتها و قراءة فنجانها فيما بعد أو قبل لحظة الشمس تظهر لك عمقاً إنسانياً أكثر من مساحة عشق أو وطن يمكن للمرء أن يحلم به. 
نعم العالم قرية صغيرة و المسمى بالافتراضي " الفيسبوك " قرية أصغر، و تحية الصباح و المساء بين أقصى الجنوب البعيد و أقصى الشمال الابعد تَعبرُ حالاتنا النفسية ببرودة تشبه نسمات الياسمينة التي راقصت طفولتنا وهكذا كانت أمسيتي مع خطوط و ظلال و في بعض الاحيان الوان المنتشرة في الحقول المحيطة بالفيسبوك.

 كائن بشري مغاير و عملية ولادة مسلحة تديرها حركات قلم سلافا حجازي بالابيض و الاسود خطوط ناقمة و مستاءة كما توحي خلفية الباهتة في انحناءاتها على أشياء لا ترغب بها القلوب الصغيرة التي تشبه قلبها، تلك الخطوط التي تمتد إلى ما بعد خطها الاصلي لتُعَبِر سلافا عن لحظة صمت مخيفة تنتمي و ينتمي إليها دمشقها التي هي نفسها بدأت تفوح برائحة الرصاص بدلاً من بردى و ياسمينها، الكائن الممتد هو ليس انثى و هو ليس رجلاً لكن ايحاء لكائن بشري يتمتع بصمت لا يشبه صمت سلافا و أشيائها الجميلة الي تحاصرها في ظل الصخب القاهر. لا تنسى شفافية الفنانة بياض الامل الممدد عبر بقع تحيط بالسكاكين و القنابل و الرصاصات كي تحلم بالعودة قليلاً إلى صباحات القهوة الدمشقية.

هل للمرء حقيقتان تشبها بعضهما البعض مع فارق الممارسات و معالجة المَشاهد الايحائية التي تعبر عن أرشبف تنهداته أو رقصات مشاعره تجاه الامتدادات الروحية اللامتناهية التي تباغت سلافا حجازي في لحظات اللالون و اللا عالم و اللا حدود لخيالاتها .. لا مسافات ممتدة طويلة بين سلافا و زوايا التحديد الحسي في حركات التي تحمل من العناوين ما يكفي لكل واحد تحميلها كيفما يشاء.

 تراقص الاسئلة ريشتها الرصاصية ليحاصر الاسود الابيض القادم و بعنوان مسلسل جديد عن وطن مربوط من قلب سلافا إلى شفاه الصغير الذي بات يخجل من صدر أمه و يتركه ليلعب لعبة الوطن... مَنْ يقتل مَنْ..؟؟ مشاعرها تجاور الازقة التي هاجرت دمشق بالاسود و تركت الاحمر الدامي يلون وجوه القادمين مع طيور الاغتراب لتسكن في رعب مسدس كاتم للحب و العشق و الوطن.. نعم سلافا ثائرة مغايرة تفعل كل شيء من أجل دُمَّر و الزبداني وحلب وحماه و حمص إلا الرصاصات و الفلسفات..!!! 
تبقى التوافذ الخشبية في أحيائها المهاجرة و مواعيد القهوة دمشق.. دمشق...دمشق و الباقي أصابع لم يبق منها سوى واحدة.. لترسم بكائها بالحناء و قليل من الالوان.. حجازي هذه تلغي بعض ما تعودنا عليه من أن الانتقال من التشكيل إلى التصوير إلى الرسم المخطط بالابيض والاسود تتطلب استعداد الذائقة الجمالية لمجسمات اللون و الفكرة حسب توحي الزوايا و النظر.. النقطة لدى سلافا لوحة مليئة بالاشياء قد لا يراه المرء للوهلة الاولى.

..   
و اللحظات التي تلي العيون تكبر تلك الأشياء و تتمدد إلى مساحات عشق تكفي كل عشاق الارض. ما الفرق مثلاً في أن تسمع فيروز و تتألم من سطوة الموسيقى و الصوت و بين أن تتألم بموسيقى مرسومة بالألوان، مفروشة الألم بتفاصيله و أنت تراقب القادم. سلافا لم تعرف نوع الموسيقى التي تعزفها لكنها المؤكد أنها الموسيقى و هذا أجمل ما في تنهداتها و المؤكد أنها تخترق الجراح الإنساني لكنها تباغتك بأن جدائل فتاة سورية صغيرة معلقة بحبل غسيل شائك لا بد أن تنشف و يلبسها القادمون من بعدها هو فستان واحد فقط لكنه أبيض يشبه قلبها. 
  




المحـــرقـــــة-فرج ياسين


قصة قصيرة
المحـــرقـــــة


   
(ذا كان القلبُ مرتاباً، فإن الكلمات لا تُجدي نفعاً)
((مسلسل الحسناء والوحش))
حين شددتُ قامتي متوازناً فوق المنضدة. كانت حافة النافذة تمس سرتي، ويكاد حرفها العلوي يقع تحت أرنبة أنفي، الأمر الذي لم يتح لي النظر إلى داخل الفجوة العميقة السوداء . ثم تسلقت إلى مسامعي نبرة أبي الجافة الآمرة .
- رويدا ، رويدا . انحني الآن وأسند مؤخرتك إلى الحائط. أشد ما كان يخيفني علوق شباك العناكب في أصابعي نسيجها اللزج، واحتمال وجود بيضها أو صغارها الميتة، ودوت في رأسي أصوات انسحاق بطونها الجوف اليابسة بين أناملي . لكنني انحنيت وأسندت مؤخرتي متوازناً في قتام رجفة ، أخذت بجماع جسدي قلت : أنني مستعد يا أبتي .
كانت الساعة قد جاوزت الثامنة ، والعتمة حشت كل مرافق البيت وزواياه. وقد ظل أبي يتصبب عرقاً منذ الساعة الثالثة ظهراً تحت شمس تموز اللاهبة، جاثياً أمام المحرقة التي صنعها بنفسه .
نصف برميل مثقب الجوانب في خطوط متوازية شديدة القرب من بعضها ، تنفث الدخان موجات رصاصية سريعة، تحت ربوة متأرجحة من اللهب المستمر. عشرات الكتب، ورزم الأوراق الصغيرة والمجلات والصحف، ألقى بها في ذلك الأتون . وكنت أحمل إليه صناديق الكارتون المملوءة ، وأضعها بين يديه وهو يجلس في ظل رفرف النافذة في الممر العريض، أمام الحديقة. جيب دشداشته المفتوح، يكشف عن صدره الكثيف الشعر وطيات بطنه الأسمر المغضن الجلد. ومن وراء زجاج نظارته، جعلت فقاعات العرق تنفجر وتنسرب حول زاويتي عينيه، وفي الغضون الشائكة في وجنتيه.
كم فكرت بأن ذلك الماء البراق يختلط بعصارة من نوع مختلف، ينبجس من أعماق تكتظ بالندم والأسى! دأبت على مراقبته ، وهو يقلب الأوراق. ويتصفح الكتب والمجلات التي كنت أدفع بها إليه. متجرءاً في محاولتين أو ثلاث، إقحام عيني من وراء رأسه فأفلح في قراءة عدد من العناوين، أو مشاهدة تلك السطور التي وضع تحتها خطوطاً مختلفة الطول. بقلم الرصاص، ولسبب لا أعرف كنهه، ما كنت لأمتلك الجرأة على النظر الصريح إلى أي من هذه الأوراق ، أو الكتب، كان إحساساً عميقاً بالخجل تسربلت به كل هبة في نفسي! مم كنت خجلاً ؟ وقد زين صمته الجريح لنفسي أن تغلف هجسها الحزين ، بالانقياد الآلي إلى تنفيذ ما يريده مني . وتخفي كل ذلك وراء غبار صمت يفهق ببلاغة دقائقه .
في الساعة الثامنة ، وبعد رفض دعوتين للوالدة من أجل الدخول ، وتناول شيء من الطعام أو الشراب ، طرح نظارته وجفف عرق جبهته ، وجعل ينظر في وجهي لأول مرة منذ الساعة الواحدة . وقد خيل إلي أن شيئاً ما جعل يطوف حول وجهه تلك اللحظة . لم يكن ابتسامة - على كل حال - بل شيء يشبه كلمة شكراً إذا قيلت بطريقة تجعلها مصممة ليس من أجل أحد ، بل من أجل كل شيء .
ثم دخل البيت صامتاً فدرجت خلفه ، وتوقفت أمام الثلاجة في المطبخ ، تناولت قنينة ماء مبرد ، فساورني برهة أن أذهب بها إليه . ألم يكن ضامئاً ؟ بيد أنني فشلت في احتراق قلقي ، فأوثقت خطوتي في مكانها ، واكتفيت بالشرب .
أعدت القنينة إلى مكانها ثم ذهبت خلفه . فرأيته وهو يقف في الفسحة المربعة التي في وسط السلم ، يستل نظارته ثم يضعها فوق انفه . التفت إلي غير انه لم يقل شيئاً . بعد ذلك بقليل عاد أدراجه ، فتراجعت نزلاً حتى أتيحت لي رؤيته وهو يتم طي منضدة أحضرها من إحدى الحجرات . ثم عاد إلى مكانه في صحن السلم فنصب المنضدة . ثم نقر على الحائط بأنامله . تسمع خاشعاً لكأنه يتوقع وجود من سيبادر للإجابة على إشارته ، وكنت أراقب لاهثاً حين بصرت به ، وهو يرمي الجدار بسلسلة من الضربات بجمع كفه . حتى تشققت صفحة الجدار في خطوط رقيقة . أول الأمر راسمة مستيطلاً كبيراً ، لم يصمد أمام الضربات الجديدة ، فتقصفت أطرافه كلها ، ولم يزل كذلك حتى خيل إلي أن الجدار قد تهاوى . لكنه استقبل اللوح الخشبي المنتزع بكفيه وأمسك بحاشيته السفلى ، ثم أدناه إلى صدره فأحتضنه واركنه في طرف من المكان .
قال : هيا يا بني أعتل هذه المنضدة ؟
ليس ثمة غير الظلمة الحالكة في عمق الفجوة أما شباك العناكب ، فمن غير المعقول أنها ستكون هناك - قلت لنفسي - لأن المكان محكم الغلق ، ما شككت به مرة قط .. لذلك فقد كانت الظلمة هي الهاجس الوحيد الذي بات يحرك مخاوفي . ولم أمتلك الجرأة لأطلب إليه الذهاب حتى نهاية السلم ، والضغط على زر النور الذي يوجد هناك. لذلك اكتفيت بإرسال بصري في عمق الحلكة . لقد عز علي أن أخيب ظنه ، فلم أقل له أنني لا أرى الرزمة . بل عزمت على إطلاق يدي في الفجوة ، حقاً لقد كنت وجلاً ومروعاً . بيد أن الأمر لا يحتمل التأخير . أنه الفصل الأخير في يوم يضج بالمفارقة، فأغمضت عيني وأطلقت كفي في الفراغ مستقرئاً بأناملي ما وراء الحافة الدنيا . ثمة مس مكهرب لزج تسرب من ذرات التراب اللازبة هناك في القاع ، وعام فوق زغب جلدي . فهجست رفيف الشعيرات الصاعق المروع ، لكن ابي كان يفكر - لا بد - بأمر مختلف تماماً . إنها تلك الرزمة ! ولا يريد إلا أن يتم كل ذلك بسرعة ودقة . فالمحرقة ما زالت تنتظر في الحديقة وهو جاد في القضاء على كل الكلمات التي أحبها ، وأعتنقها ذات يوم ، والتي خاب بها أيضاً . وما كنت سأنقل أناملي إلى أبعد من ذلك لولا أن ذلك المس اللزج قد أفرغ سورته برمتها وانقشع مفسحاً لشيمتي التي شحذها الامتحان السبيل أمام خطوة جديدة .
وفعلت . كانت قوائم المنضدة تزق تحت قدمي ، بينما انتهزت بقعة بحجم الدرهم من شمس الغروب المحتضرة ، وجود ثغرة في الستارة المزاحة قليلاً ، فتسللت وانسكبت فوق جبهتي وكانت ستنهمر في عيني حال لمسي لرباط الرزمة . فهتفت :
- ها هي الرزمة يا أبي .
لم يجب . فسحبت الرزمة . كانت كبيرة جداً ، فاستعنت بيدي الأخرى ، وأدنيتها فشممت رائحة وخمة ، إنها رائحة الفراغ والعطن . ثم نفثت زفيراً حاراً عميقاً ، ولعل أبي فطن إلى سعادتي بذلك النجاح الصغير ، حين سارع إلى إغماد ابتسامة سريعة حاول برهة انتزاعها
من بين شفتيه .
قال : والآن أسقط هذه الرزمة .
فأزحتها بيدي ، وسمعت صوت ارتطامها بحرف المنضدة ، ولما نظرت إلى تحت رأيت ظل حركة تدحرجها على درجات السلم . وكانت الوالدة في المطبخ فقالت : هل حصل شيء ؟ لكن أبي أجابها : لا . أبداً ، ثمة رزمة كبيرة فقط .
ثم هبط السلم مقتفياً أثر الرزمة فألتقطها وأحتضنها ملتفتاً إلي .
- أما أنت فأهبط بسلام . ودع المنضدة في مكانها الآن .
وجعلت أهبط راعش الركبتين ، حتى تم لي ثني ساقي ، ثم تشبثت بحاجز السلم المعدني ، وقفزت وراء المنضدة نافضاً ثوبي ، وأسرعت في النزول ، ثم انفلت خارجاً إلى الحديقة .
كان أبي قد فك أربطة الرزمة ، ونشر محتوياتها من الصحف والمجلات والأوراق ، وأمسك بواحدة من تلك الصحف القديمة ، ثم أغرق في قراءتها ، ولسبب ما لم أجرؤ على الاقتراب منه هذه المرة . لقد تراجعت ووقفت تحت سقف الطارمة ، وبقيت كذلك حتى امتصت الظلمة السنة النار التي أججها أبي من جديد .

* من مجموعة (واجهات براقة)  


الهولندي لاورنس فان دير زي: الحنين إلى الزمن المغاربي- ترجمة عبد الرحمن الماجدي

ثقافات
الهولندي لاورنس فان دير زي: الحنين إلى الزمن المغاربي

 ترجمة عبد الرحمن الماجدي

 لاورنس فان دير زي  Laurens van der Zee شاعر وقاص هولدني. ولد عام 1948. بدأ النشر عام 1972في بعض المجلات الأدبية الجادة. ونشر عددا من أعماله في الاعوام 1988 و1994 ضمن طبعات محدودة. وصدر له عام 2003 كتاب "لا توجد معجزة" إضافة لكتب شعرية ونثرية أخرى مثل "الهولندي الطائر" و "الفتاة ذات الشعر الذهبي" عام 2003 و "ثمة هواء في أذني" 2004 و "ذلك ماسوف نفعله" عام 2006. إضافة لعدد من الكتب الشعرية والقصصية الاخرى. أختير عام 2012 شاعرا لمدينة فاخنينيغن لمدة 3 سنوات.
النص التالي كتبه لفعالية "نقطة اللاعودة" التي يحييها شعراء وكتاب وتشكيليون هولنديون في مدينة فاخنينغن الهولندية مطلع شهر نوفمبر المقبل. يصور فيه بعضا من مشاعره وانطباعاته حول رحلة آنفة قام بها لدول المغرب العربي.
الحنين إلى الزمن المغاربي..
لم أكن أعلم، إنما البحوث تشير إلى أني في العام 1971 كنت أدرس علم الاجتماع في المجتعات غير الغربية، حيث كنت شابا في الثانية والعشرين من العمر، في قرية جبلية بتونس، فكانت نقطة اللاعودة- شيء لايمكنك الفكاك منه أو العيش بدونه.

مع مضي السنوات أصبح واضحاً بأن انطباعاتي التي تكونت خلال مايقارب الأربعين سنة قد حددت أفكاري وتصرفاتي. حيث لم أكن أعلم، وكيف كان لي أن أعلم: بالحيرة والاحباط والشعور بالوحدة الذي كان يقطر من رسائلي للمنزل.

فاذا كانت لي أمنية هي بانتهاء رحلتي والذهاب للبيت ونسيان كل شيء بسرعة! وهذا ماحصل بالفعل: فخلافا لما معتاد لدينا في الجامعة، فقد غيرت موضوع دراسي، وكان بالامكان إنجاز أكثر من مقدمة للموضوع لكنها لم تمر من بين أصابعي (فقط بيننا كعلماء أنثربولوجيا: بدأت تقريري بالقول: إنني كنت في القرية
A، أنجزت عملي الميداني، حيث كل شخص يعمل لنفسه لايجاد موديلات وأنواع غير موجودة في كتبنا).

بعد بضع سنوات، دأبت على تلقي طلبات من طلاب القرية ومساعديّ الثقاة تستجدي سنتات معدودة تسبق طلب الكتب المدرسية.
اذا ماتجاهلت خجلي الدائم من عدم التجاوب معهم، فإن الخجل الأكبر أن القرية التي كنت أعيش فيها تقع في الطريق نحو الجزائر، بحيث لا يمكنني العثور عليها في الخارطة في وقت لاحق، "أوجيا"، لم أسمع بها أبداً من قبل.

باختصار، ما من شيء حدث، أنا لم أعش هناك، كان حلماً. كابوس منذ البداية، فمترجمي الاول من الفرنسبة للعربية؛ من خلال محادثاتنا بالفرنسية مع القرويين، فخخ أبحاثي المتقلبة، فدون أن أعلم، وربما هو لم يكن يعلم ذلك، حين كان ينتقي مايراه مناسبا من إجابات السكان، وكان يهين كبار السن بعبارات غير مهذبة، ويتعامل بطريقة غير لائقة مع بنات القرية.

الكابوس كان في أكل الماعز للنصوص من آلة طباعتي، وفي البراغيث التي على سريري القش في كوخ طيني معتم في قرية فقيرة، وفي الكلاب البرية التي تحتم عليك أن تحمل بيدك دائما حجراً، والأسوأ: هو الخوف من الاعتراف أن القرية كلها تبدو بلا فائدة، وما من أحد يود أن يكون أنثربولوجياً فاشلاً مثلي.

بعد عقود، يمكن التنبؤ بأني، سأدفع آخر مالدي من سنتات لشراء دروس اللغة العربية، وسابحث في الأسواق عن أشرطة أم كلثوم المستعملة.
وسأنفق مئات الخلدنات واليوروات على المزيد من الدروس والكتب، وحتى على استحصال شهادة اللغة العربية الفصحى، ستكون حزيناً على هدر تلك المعارف بوقت سريع، وستظن بأني أحمق.

لكن ربما كنت هناك، سراً، في العام 1971، فمن وراء شجرة زيتون قديمة جداً كنت ترى، عند الغروب، الرعاة عائدين من الحقول، وأعداداً كبيرة من الأطفال العابثين. مشاعر كل هؤلاء الناس كانت ترنو بعيداً نحو مصر حيث يُبث حفل غنائي لأم كلثوم في كل أنحاء المغرب العربي، الهدوء عمّ كلَ شيء هناك، جاءت القرية كلها مجتمعة تحت شجرة، كانت كل أجهزة الراديو ترانسيستور والناس تغني معاً.

 تلك الروائح، تلك الأصوات، تلك الطبيعة، و أوئلك الناس الطيبون...
 الدموع تنزل من عيوني وأنا أكتب كل هذا، إنهم لن يعودوا، إنهم يسمعوني، دائما وأبداً.



الخميس، 6 أكتوبر 2016

أختام *-عادل كامل





















أختام *


 الختم الثالث

عادل كامل
[20] المحركات ـ ورد الفعل
     لست بصدد إثارة سؤال: كيف تكّونت الرهافة، وكيف اقترنت بما سندعوه بالعد الجمالي، وما إذا كانت جميع الفنون ـ قبل بدائية، مرورا ً بإنسان المغارات، وصولا ً إلى النزعات المضادة للفن ـ تتطلب قدرا ً من التنسيق، الخاص ببنية العمل، وما يمثله من معان، وجسور مع الخارج، بل بصدد: هل ثمة مقاربات لمفهوم شامل لهذه المنجزات، غير التهذيب، والتقانة، والشفافية، يشترك في تحديد ماهية الفن، وعلاماته، ومشفراته، كوجود واكب الحياة البشرية منذ ظهور المجموعات المصغرة حتى تحول عالمنا إلى قرية قائمة على شبكة من العلاقات، الاتصالات، والمصير شبه المشترك!
      ما المشترك ان لم يكن فيه قوى مازالت تجدد اقتران الفنون بالدوافع، وبنا يسمى: الحضارة. فأي (القوى) بإمكانها ان تكون موازية لقوى مضادة لها، والمتلقي المعاصر تتوفر لديه ما لا يحصى منها من: وثائق، وأرقام، وصور مباشرة تجعله يدرك انه يعيش في عالم لا احد يتوقع نهايته خلال عقود...؟!
      فالإنسانيون الكلاسيكيون، من فلاسفة وحكماء وعلماء وخبراء ..الخ يؤكدون مسارا ً تصاعديا ً للقوانين ذاتها التي نشأت فيها ـ وعليها ـ وتمثلتها قوى الصراع.
     ولست بصدد كيف استطاع الإنسان ان يحافظ على حياته خلال المليون عام الأخيرة، ولا كيف صنع وسائله في الحماية، والتكيف، والتقدم المعرفي، بل أنا أسير حالة قسرية لأفكار جهنمية لن تترك لي استراحة ان أرى أملا ً ما يعيد لي توازني في وجود يصعب رؤيته إلا عدما ً! قد يكون الجواب الوحيد شبيه بجواب: الأشياء/ النبات/ الحيوان، بعدم الاكتراث، المتضمن تعديلات دفاعية لمواجهة التلوث، والاحتضار المتواصل، والسلبية بصفتها دفاعا ً أخيرا ً لتجاوز أزمات فاتحة الألفية الثالثة. ذلك لأن إمكانية السيطرة على الخط المتصاعد لتراكم أدوات الاشتباك، والصراع، مازالت تغذي قانون الصياد ـ الطريدة.
     والمصورات الوثائقية توضح بجلاء كيف بدأت الحروب باشتباكات الوسائل الطبيعية: الأسنان، والمخالب، والأصابع، من ثم بالعصي والحجارة، مرورا ً بالمعادن والبارود، تمهيدا ً ـ بعد أسلحة الدمار الشامل ـ لأنظمة ذاتية عالية البرمجة، وربما بالغة الرهافة!
     والواقع البشري، عمليا ً، مكث يتقدم من غير تعديلات تذكر. فعندما كانت هناك مجاميع بشرية متناثرة بحسب توفر موارد الغذاء، وصولا ً إلى عالم تحكمه الشركات العملاقة، مكث قانون الصياد يبدع أقنعته في الحفاظ على التراتبية، علما ً  ان الخسائر البشرية، من الحرب بالمخالب إلى الحرب بأسلحة المحو، الأكثر فتكا ً، لا تجد مبررات لها وكأن شيئا ً لم يحدث!
بيرتراند راسل كتب في مطلع ستينيات القرن الماضي:
    ـ" انه لمن الغريب والمثير لأقصى درجات الأسى أن نلاحظ كيف إن سباق التسلح يدمر الحس الأخلاقي. فانا لو تسببت عمدا ً بإصابة شخص بالسرطان وجب ان اعتبر وحشا ً، غير أنني إذا ما تسببت عمدا ً بإصابة آلاف الناس بالسرطان اعتبرت وطنيا ً نبيلا ً"
   مثال مضاد لنزعة التدمير، ولأي دافع من دوافعها، إن كانت متأصلة أو مستحدثة، ان كانت الأسباب اقتصادية، أو ثقافية، أو رمزية، فان أشكال الدمار ـ بتنوعها ـ تترك نسقها في عزل الإنسان، وتجريده، ودفعه بعيدا ً عن معالجة نزعات التصادم، وما تتركه من أسى، ولا مبالاة في مواقف مليارات البشر، حيث ان أكثر من مليار إنسان يعيشون بدرجات لن تقارن برفاهية المحميات الطبيعية للحيوان، أو في حدائق الحيوان، أو حتى في بعض السجون! فضلا ً عن المليارات الأخرى، غير بعيدة عن اثر التلوث وما تؤدي إليه في ظهور أجيال مناعتها أخذة بالاضمحلال!  إنها تقارير معلنة يحرص النظام (الحر) على نشرها، كنقد ذاتي، لكن مبادرة مغايرة لها لا آمل ان توقف حتمية التدهور.
   هذا كله ولدّ لدى الأكثر رهافة، وعند المتضامنين مع البيئة (في النشاط الايكولوجي) كالجماعات الخضر، والنضال ضد التلوث، والضوضاء، ولأجل الأطفال، وحقوق النساء، والقابعين في المحتجزات، ووراء القضبان، وسجناء حرية التعبير ...الخ هذا كله له أثره في شتى أساليب التعبير التي لا استطيع تحديد معاييرها الجمالية، تحافظ ـ بالدرجة الأولى ـ على ما قصده شوبنهاور، بالحياة كإرادة، كامتداد، ومتابعة، واستكمال الدورة، حسب الفكر السومري، و (الحلولية) و (المثنويات) و (المرجئة) و( الدهرية) و...الخ عندما  عملت كل جماعة ـ عادة ما يعبر عنها حكيم أو زعيم أو فيلسوف أو من يؤدي هذا الدور ـ على إيجاد توازن لديمومة الاشتباك، وليس لتشذيبه، في الأقل.
     كيف يحافظ الجمال ـ والجميل ـ على تماسكه، داخل النص الفني، وما يميزه عن عبث الأصابع وباقي الحواس وهي تحدق في السفينة، الأرض، عندما لا يكون هناك من ناج ٍ، والطوفان ليس وهما ً!
    أنا لم اصدم بمواقف المشتغلين في الكتابة، والفنون، والفكر، بصفتهم يعملون كموظفين في الأجهزة ذاتها التي صاغ نظامها أول قاتل، صياد، تميز بالمكر والدهاء، ومن سيؤدي دوره عبر التاريخ فحسب، بل لأن الأمل بوجود (أمل) غدا منجزا ً تشرف عليه المؤسسات ذاتها التي حولت العالم إلى زنزانات اما مزدحمة  بالبضائع، وأما بمثابة (علب) تم حشوها بالفائض من السكان!  أو إلى عالم انشطر إلى نظام لتصنيع: الأسلحة/ السينما/ المخدرات/ الدعارة/ والمتاجرة بالأعضاء البشرية/ وغسل العقول/ والتلاعب بالمشفرات الوراثية/ والأحادية ...الخ وإما إلى إمبراطوريات ومملكات ومعسكران من (النمل)، لكن بعيدا ً عن رؤية مصيرها، وهي ترجع إلى العناصر التي كونها، إنما باليات بالغة الدقة، وخالية إلا من رحمة الموت، أو بحياة أخرى يمسك بلغز نظامها الصياد ذاته، بعد ان يكون قد تحول إلى أثير، ورجع إلى العناصر ذاتها، التي كونت باقي الأنواع!

[21] حدود ـ ولا حافات
     مازال هناك (اثر/ أو ما يشبه الفن/ نص) ـ من الخدوش فوق الجدران إلى كل ما هو مضاد للفن، وضمنا ً  التجارب غير المنفصلة عن العبثيين، والبدائيين المعاصرين والعشوائيين ـ غير مكتشفة، فهي مازالت أما تحت الأرض، أو بعيدة عن التحقيق، والنشر. وفي الوقت الذي تتنوع فيه المناهج، واليات القراءة، واستحالة سيادة مدرسة أو برنامجا ً أخيرا ً للقراءة، أو حتى المفاضلة، أو الدحض، والإلغاء، والتهميش، فان عملية إعادة قراءة (الخزين)، وفق النقد الأقل انحيازا ً لفلسفة ما من الفلسفات،  فإنها تقوم بإعادة تخليق ما تم دفنه، دون إغفال ان هناك اندثارا ً حتميا ً يتوازن بين (الموت/ البعث) في الديمومة. فهذا الذي حمل (ميتافيزيقا) السلعة، ذاته، بحسب ومضى فلسفية لكارل ماركس، مسبوقة بسياق: لا ـ سلعي، لأن عصر (السلعة) ـ عصر الصراع حد المحو ـ ليس قانونا ً أبديا ً، أو غير قابل للتشذيب.  لا لأن مشروع (الحضارة ـ التشذيب ـ الارتقاء الجمالي ـ والإقامة في عالم محتمل ..الخ)  له سلطته فحسب، بل لأن الآليات الكلية للإرادة تسهم بعزل الأقل أهمية، كالموضات، والإعلانات التجارية، وملصقات حقب الانحطاط والتدهور.
     هكذا يتسلل إلي ّ، في لحظة شروق أولى بذور الشمس، من الأزرق العميق إلى الفضي إلى الذهبي إلى البياض المتوهج، في صباح هذا اليوم من تموز (22/7/2011) مفتاحا ً لقراءة ما وراء الأبواب: ذلك المجهول الذي اسمه النص ـ واسمه، في الأصل، علامة وجود: اثر!
    لقد أشرت إلى نصوص تمجد سلطة أعلى الهرم، عبر تقديم الأضاحي، والنذور، والطاعة، حد ان المقارنة بين الطرفين، لا معقولة، وغير منطقية، عندما يقوم 999% من بسطاء الناس، المجهولين، كالنمل، الفانين، غير المدربين على التفكير، ولا على حب الحكمة، بإعلاء شان آلهة، أو من يؤدي دورهم، بأنه سياق شيّد، كما شيّد الكوخ! فهل سنستغني عن ما لا يحصى من تلك العلامات الشبيهة بالفن، والنفعية الاستهلاكية ذات السمات الجمالية، لأننا لم نعد نسكن الكهف، أو الكوخ، أو الخيمة؟
      ان أعظم المدن المشيّدة بالتقانات الحديثة، المتحركة، والتي تلبي متطلبات الرفاهية، إلى جانب الوظائف، لا تخفي نظام الكوخ فحسب، بل لا تستطيع دحضه!
    فهناك السقف، الأساس، الجدران، النوافذ، والباب! فهل سيكون الفردوس أو الجنة شيئا ً آخر...؟ وهل ستكون نساء، وطعام، ولذائد العالم الآخر، للمكرمين بدخول الفردوس، مغايرا ً لتصورات الحواس، والحدس، والمخيال، والعقل...؟
   ان وسائل التحليل، والحفر، والتنقيب، والتفسير، والتأويل، لن تضع برنامجا ً سيستغني عن مراحل ما قبل الطفولة، أو عن طفولة الإنسان ... هذا اذا كان الزمن قد وضع كطرف في: اللا زمن. لا لأن المصادفة وجدت بالمصادفة، ضمن دورة محكمة بما فيها من نظام فحسب، وبعيدا ً عن تاريخ التكيف، والديمومة لأجل الديمومة، وتقدمها، وارتدادها، وإنما لأن شيئا ً ما لم يسمح للزوال ـ وللذي ينبثق منه ـ ان تكون له خاتمة.
   ألا يلتقي، بإحكام، البرنامج العلمي المتفوق، بالرهافة الجمالية، وبالمعتقد الذي تتمثل فيه، وتتوارى، دينامية الخلق؟  وان أي قراءة 0احادية) مهما بدت محكمة، إنما ينقصها التعرف على نفيها، فضلا ً عن الذي أهملته، أو استغنت عنه.
    فقد يأتي زمن تتم فيه معرفة تلك المناطق التي لم ترها أبصرنا، ولا حواسنا، ولا أجهزتنا المختلفة، ذلك الكامن في ترليونات ترليونات المشفرات المشعة، والباثة للأصوات والخطوط والألوان، ولغز اشتغالها، كي تمضي في الوجود الذي وجد بما هو ابعد من وسائلنا في الإدراك.
    وليكن، من وجهة نظر الميتافيزيقا،  اسمه (الرحمة) أو (العدل) ولكنه، من وجهة نظر العلم، ومختبراته، لن يكون لا معقولا ً، أو نسقا ً عشوائيا ً حرا ً، وهو السياق الذي كانت تنقصه، حتى فاتحة الألفية الثالثة، هذا التوحد الذي طالما تجسد في ومضات حكماء أو شعراء أو علماء أو فلاسفة أو فناني أو سحرة، أو خيميائي  الأزمنة منذ عصر صناعة الأكواخ، إلى عصر السكن بلا جدران، وبلا سقف، في الفضاءات..! ذلك لأن السكن القادم ـ عندما يبلغ تعداد سكان الأرض المائة مليار نسمة ـ لن يستغني عن المفتاح الذي يبحث عن القفل، والذي لن يكون ـ كتأويل ارغب ان لا يكون طوباويا ً، أو أحاديا ً أو باذخا ً بلغز الرهافات ـ خاتمة إلا اذا كانت دورة الحياة تكون قد بلغت ذروتها: الوجود ممتدا ً بلغزه، الذي طالما سكن فعل الاشتباك، ولكن الذي صاغ طرقه، من غير ان تكون له خاتمة، أو نهاية.
     أليس هذا سببا ً طالما منح عزلتي ان لا أرى أفواه هؤلاء الذين ينتزعون الطعام من أفواه الأطفال والفقراء والنساء للتمتع بأخلاقيات الصياد ـ وصولا ً للذين يمسكون ـ ويمارسون ـ سلطة الاجتثاث، والمحو، والإبادة. وهل لو كان كارل ماركس، أو رامبو، أو نيتشه، وقبلهم المعري، أو الجنيد، أو محي الدين بن عربي،  أو منعم فرات، أو ملا عبود الكرخي، أو جواد سليم، أو مدني صالح، سيقولون شيئا ً آخر...؟!



تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


أحمد العمراوي: الشعر بمفهومه التقليدي تغيَّر الآن-حاوره: فيصل رشدي

أحمد العمراوي: الشعر بمفهومه التقليدي تغيَّر الآن
خاص- ثقافات

حاوره: فيصل رشدي

نستضيف شاعرا من المغرب حيث للشعر مكانة خاصة في هذا البلد، الذي أنجب شعراء كبارا على مر العصور،  تركوا بصمتهم في الشعر الإنساني العالمي. منهم من مات، ومنهم  من لازال يعيش معنا، مفضلا كتابة الشعر لأن الشعر هو أساس الحياة.

وضيفنا في هذا الحوار يفضل كتابة الشعر للتعبير عن أحاسيسه ، رغم كونه يزاوج بينه وبين النقد والكتابة المفتوحة. فهو يرى بأن الشعر هو خلود الإنسان وتراث الدول وفخر الرجال. ضيفنا هو الشاعر المغربي الأستاذ أحمد العمرواي، ابن مدينة فاس التي رأى بها النور عام 1955 وتربى فيها، يعرفها معرفة الأب لابنه. درس بها وأحبها وكتب عنها، يحكي لنا العمرواي ذكرياته فيها وعن شعره وكذلك واقع الشعر في المغرب والعالم العربي.

         أحمد العمراوي هو خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس. وخريج جامعة القرويين بفاس أيضا. ثم خريج المركز الوطني لمفتشي التعليم الثانوي بالرباط .

         عمل أستاذا لمادتي اللغة العربية والتربية الدينية. وتختص في التقويم وديداكتيك المواد الدراسية. ثم عمل مفتشا ورئيسا للجنة الامتحانات بأكاديمية وزارة التربية الوطنية بالرباط إلى حدود  2005 فبل المغادرة الطوعية. هو عضو مشارك في لجان التأليف المدرسي عدة مرات. وهو الكاتب العام لفرع اتحاد كتاب المغرب بالرباط حاليا .

         شغل منصب  المدير المسؤول عن مجلة “فضاءات تربوية” التي تصدرها نيابة وزارة التربية الوطنية بالرباط.·يشتغل حاليا بمحترفات أدب الأطفال وكتابة التلاميذ بالمغرب وخارجه.

         هو عضو مسؤول بخلية حوار الديانات بمجموعة مدارس الإيكام (التعليم الكاثوليكي بالمغرب ) ومؤطر ومنشط تربوي بالتعليم العمومي سابقا وبالتعليم الخاص حاليا. وهومؤطر مادة التربية الدينية بمجموعة الإيكام بالمغرب إلى الآن.

         مشرف على محترفات كتابية للصغار والكبار بالمعرض الدولي للكتاب عدة مرات، وبمختلف مدن المغرب. أطر العمراوي وأشرف على بحوث الطلبة المفتشين بالرباط. كما أسس وأدار المقهى الثقافي راندا بحي النهضة بالرباط. وهو عضو شبكة المقاهي الأدبية بالمغرب وأمين مالها. وهو من أوائل من أنشأ موقعا شعريا إلكترونيا بالمغرب.

         شارك الشاعر أحمد العمراوي ومثل المغرب في عدة مهرجانات شعرية دولية آخرها مهرجان “سيت” العالمي بفرنسا صيف 2013 والذي ضم 115 شاعرا من مختلف أنحاء العالم.

         يزاوج العمراوي بين الشعر والنقد والتربية ، ومن أهم إصاراته :

مجمع الأهواء : شعر  الطبعة الأولى ،1997 فضالة المحمدية، الطبعة الثانية 2001 دار الأمان، الرباط.

ينابيع مائية: شعر، الطبعة الأولى  2003‏ دار الأمان، الرباط.

الينابيع : حقيبة شعرية تشكيلية بالاشتراك مع الفنان الراحل عبد الإله بوعود، طباعة حريرية ، 2003.

يتجددون كأفعى ، شعر، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2015

س : مرحبا بكم أستاذ أحمد العمرواي

ج : شكرا الصديق فيصل رشدي ، وسعيد أن يحاور شاعر شاعرا في زمن قل فيه الشعر وكثر  فيه الشعراء.

س:  أنت ابن مدينة فاس، حدثنا عن بداياتك الأولى بها؟

ج : المكان بأهله يقول المتصوفة، والمكان الأول يرتبط بمسقط الرأس وله أكثر من دلالة رمزية حسب أمبرتو إيكو، ثم أذكر قول أبي تمام:

نقل فؤادك حيث شئت من الهـوى                           ما الحب إلا للحبيب الأول

كم موطن في الأرض يألفه الفتى                  وحنينه أبدا لأول منــــزل

أما عن فاس المكان فهي مقام العابرين كما يسمونها، عبور ضروري من الظلمة إلى الضوء. نشأت بها وعشقت كل حجرة منها. هل أقول أنني أحملها رمزيا معي أينما حللت؟ يطلق على مدينة فاس اسم العاصمة العلمية، وهو اسم يليق بها كثيرا خاصة في ما سبق من الأيام. لقد مثلت فاس العاصمة الإدارية للمغرب مدة طويلة نظرا لموقعها الجغرافي والتاريخي، قبل أن تنتقل هذه التمثيلية إلى الرباط  في السنوات الأخيرة. مكان صوفي بروائحه وأبوابه وتاريخه.

         نشأت بحي قديم من أحياء المدن العتيقة بفاس يقال إنه الموطن الذي وقفت به بغلة المولى إدريس حين وضع أول حجر لتأسيس هذه المدينة التاريخية، ليس بعيدا عن مسجد النوار أول مسجد أسس بفاس، وهو مهمل أيما إهمال للأسف الآن. بعدوة الأندلس حيث مسجدها الكبير.

         البيت الذي نشأت فيه هو بيت أدب وعلم وفقه، فتحت عيني على مكتبة والدي رحمه الله الحاج محمد بن التهامي العمراوي الإمام وعالم القرويين المتخصص في النحو والفقه والقرآت القرأنية والأدب أيضا. أينما وليت وجهك تجد أمامك كتبا متعددة في مختلف المجالات التراثية. هكذا وجدت نفسي في جو مشحون بالكتاب والكتابة. وأذكر أن بيتنا الصغير نسبيا كان مرتعا  لتجمع الفقهاء الذين كانوا يحضرون مع أبي كل خميس تقريبا لإحياء أذكار لتوحيد الله ومدح نبيه الكريم.

         والبيت نفسه سيتحول، فيما بعد، إلى مكان للنقاش الثقافي والسياسي في مراحل السبعينات. والكثير من الأسماء المغربية في المشهد الثقافي الآن تشهد على حضورها الدائم بهذا البيت والنهل من مكتبة المنزل التي لم تبخل على أحد في المعرفة. قد أذكر أسماء وازنة إذا سمحت لي للاستشهاد أصدقاء أعتز بهم: سعيد يقطين، فريد الزاهي، نور الدين الزاهي، عبد الفتاح الديوري، أخي المرحوم إلياس إدريس العمراوي، أخي الشاعر محمد العمراوي، الشاعر عبد الرحمن حمومي، الشاعر سعد سرحان، الشاعر عزيز الحاكم، القاص حميد مشمش المقيم بالنمسا،الكاتب مصطفى الكليتي،،،، ولائحة طويلة قد لا يتسع المكان لذكرها. فكيف لا تكون كاتبا في جو كان التنافس فيه حول وقت قراءة الروايات، بحيث كنا نقضي ليالي بيضاء لإتمام روايات لنجيب محفوظ ونناقشها. هذه أجواء فاس .

         هذا إضافة للجمعيات الثقافية التي أخص منها بالذكر جمعية مسرح الأقنعة التي أسسناها رفقة ثلة من الكتاب والمبدعين والتي استضافت آنذاك كتابا كبارا مثل الشاعر أحمد المجاطي، القاص والروائي محمد عز الدين التازي، الكاتب المعروف أحمد المديني، الشاعر محمد السرغيني… وآخرون…

2–  لك قصيدة بعنوان” إبتسموا إنكم في فاس” وردت فيها هذه العبارة  مكتوبة بأكثر من عشرين لغة، ما دلالة هذا العنوان ؟

         تُعرف مدينة فاس بأبوابها التاريخية المتعددة: باب المحروق، باب عجيسة، باب المكينة، باب فتوح وغيرها، ولعل من أشهر أبواب المدينة : باب أبي الجنود، والذي يطلق عليه المغاربة الآن اسم باب بوجلود. هو مدخل رئيسي معروف لدى السياح المغاربة منهم والأجانب، فأمامه تقام حفلات وسهرات مهرجان الموسيقى الروحية والعتيقة بفاس. على سور محادٍ له وبالضبط على حائط مسجد بوجلود العتيق نجد ملصقا ضخما يحمل هذه العبارة : ” ابتسنوا إنكم في فاس” ، كتبت بأزيد من عشرين لغة. هو أثر خلف في ذهني الكثير من التساؤلات وأنا جالس بمقهى بوجلود، ألاحظ الخلق وأبصر المكتوب. ولكن بمجرد أن تطأ قدمك عتبات المدينة العتيقة وأنت تدخل المدينة تلاحظ مظاهر متناقضة: حب وعنف، جمال وقبح، فقر ورفاهية… كلها تصدمك وأنت تتقدم ، والشاعر بطبعه هو من يلتقط مثل هذه اللحظات ويحولها إلى نص شعري قد يكون ساخرا كما هو شأن قصائد مجموعة “مرارات” المنشورة في ديواني الأخير : ” يتجددون كأفعى” وقد تجد عناوين أخرى في الاتجاه نفس من مثل: ” أنا مغربي ومتخلف طبعا لا” و ” ليس مهما” و” سيان” وغيرها.

3 – هل عنوان ديوانك باب الفتوح يدل على باب الفتوح المكان المعروف بفاس أم له دلالات أخرى؟

         نعم من ناحية ولا من ناحية أخرى، فباب الفتوح هو أقدم الأبواب وهو يوجد بالجهة الشرقية للمدينة، ومنه كان ينطلق موكب الحجاج سابقا، وبه توجد المقبرة الشهيرة  التي تضم رفات أغلب أولياء المغرب وفقهائه. هو باب ينقلك من سراديب المدينة العتيقة نحو حداثة الحافلات وسيارات الأجرة الصغيرة الحمراء التي ستقودك نحو المدينة الجديدة. نشأت غير بعيد عن هذا الحي شبه الشعبي. كل كتابة تأتي من أثر هو ما يطلق عليه ” غاستون باشلار” لفظ الخيال المادي وهو يحلل ذلك في علاقة الشعر بالماء والأحلام في كتابه الهام ” الماء والأحلام، دراسة عن الخيال والمادة”

         باب الفتوح من ناحية أخرى يشير إلى الفتح الشعري والصوفي الذي يحصل للشاعر حين تنفرج غمته بقصيدة أو مقطع شعري، وأجواء ديوان باب الفتوح هي أجواء تمتح من الصوفية ولكن بما أطلق عليه لفظ ” الصوفية الجديدة” . صوفية عميقة في لغتها تزاوج بين الحداثة والمتخيل الصوفي. وقد أتاني العنوان وأنا أكتب قصيدة طويلة أسميتها : “أبواب باريس” حين أقمت بهذه المدينة بعض الوقت، وبعض النقاد كتب أنني أحمل معي  أبواب فاس حتى في باريس. والفرق هو أن أبواب باريس لا وجود لها ماديا كأسوار، بينما أبواب فاس قائمة بجدرانها العتيقة. وإذن فالعنوان قد يحيل إلى دلالتين كما يقول “ريفاتير” الدلالة التي يحملها حرفيا ودلالة أخرى مستترة قد تكون هي الأعمق.

4 – هل يمكن أن توضح لنا أكثر المقصود بهذا اللفظ: ” الصوفية الجديدة” ؟

         ” القراءة العاشقة والصوفية الجديدة” هو عنوان مقال كتبته سيصدر قريبا ضمن كتاب: ” الكتبة وأسرار الرماد” خصصته لتأملات في الشعر والكتابة والفن بالمغرب وغيره على الطربقة البارتية (نسبة إلى رولان بارت) في شذراته العميقة.

         والصوفية الجديدة ترتبط بالقراءة التي تقودك حتما إلى الكتابة عما قرأت بشكل تفاعلى بين متلقٍّ قارئ نموذجي على حد تعبير “إيزر” و ” أمبرتو إكو ” وبين كاتب محترق بلوعة الحرف، أليس هذا ما فعله الصوفية وهم يتأملون أحوالهم ومقاماتهم؟ إلا أن الفرق هو كلمة الجديدة التي أعني بها الربط بين واقع الناس وعشق الكلمة الجميلة، ستجد نفسك مرغما على الكتابة هنا وأنت أنت تقرأ عبد الفتاح كيليطو، أو تسمع صوت العربي باطما ، أو تتأمل لوحة للفنان التشكيلي عبد الإله بوعود أو وأنت غارق في تفاصيل شخصيات لمحمد برادة أو عبد القادر الشاوي، أو حتى وأنت تفكك تعقيدات أرشيف جاك ديريدا. من هنا أتتني التسمية التي سأكتشف فيما بعد أن بعض النقاد الشباب قد أطلقها في بعض تحليلاته ولكن بطريقة مختلفة.

5 – كانت مدينة فاس تشهد سهرات ومسامرات شعرية بين الشعراء، هل لا زالت اليوم تحظى بتلك  السهرات والمسامرات؟

         المتتبع للمشهد الثقافي المغربي سيلاحظ قلة الأنشطة المرتبطة بما أسميته المسامرات بين الشعراء، إلا أننا نلاحظ بالمقابل أنشطة منظمة تقوم بها الجامعة وكلية آداب ظهر المهراز خاصة، وما يقوم به بيت الشعر واتحاد كتاب المغرب أحيانا. إلا أن ما أثارني في السنتين الأخيرتين هو ظهور صالونات ثقافية تقام في بيت الشاعر. وهذا ما قام به الشاعر محمد بنطلحة في بيته حين كرم الشاعر الكبير محمد السرغيني، لقد كانت مسامرة شعرية وثقافية حضرها ثلة من الكتاب والشواعر والشاعرات، تكلف محمد بنطلحة بالإيواء والتغدية ليوم وليلة على حسابه الشخصي، كان لي شرف حضورها كمشارك ومقرر لجلساتها التي ستصدر في كتاب لاحقا، وقد ساهم في جلسات هذا التكريم بصالون محمد بنطلحة مجموعة من الفعاليات الثقافية أذكر منها : الشاعرتين: فاطمة الزهراء بنيس، الشاعرة والمغنية الفلسطينية شادية حامد  ، والشعراء      محمد بنطلحة ،محمد بودويك، عبد السلام الموساوي، عزيز الحاكم ، محمد الصالحي ، أحمد العمراوي ، وحضرها من النقاد والمفكرين، محمد البكري، بنعيسة بوحمالة، إدريس كثير. كل هذا طبعا بحضور الشاعر المكرم محمد السرغيني. كان النقاش والتذكر والمحاورة أهم ما ميز الجلسات التي استمرت إلى وقت متأخر من الليل. لقد أحيى محمد بنطلحة تقليدا قديما كنا نقوم به في فاس بعيدا عن أضواء الإعلام والبهرجة الصحافية رغم أهميتها أحيانا. وسيقيم محمد بنطلحة تكريما آخر لشاعر آخر هو عبد الرفيع الجواهري وبحضور شعراء ومثقفين آخرين. هو صالون ثقافي بامتياز.

         من جهة أخرى نلاحظ كثرة المهرجانات الثقافية الأخرى بفاس كمهرجانات الثقافة البروحية، والموسيقى الروحية، وربيع الفلسفة وغيرها. لقد قلت الملتقيات الخاصة بالشعر في فاس خاصة بالقياس للسابق.

6 – عادة ما نسمع الصالونات الأدبية في المشرق خاصة صالون مي زيادة، هل في المغرب صالونات أدبية شبيهة بالمشرق العربي؟

         في الآونة الأخيرة بدأت بعض الصالونات الثقافية تظهر في المغرب بهذا الاسم أو بغيره، أذكر من بينها تمثيلا لا حصرا : الصالون الأدبي الذي تشرف عليه الشاعرة أسماء بنكيران بأكادير، وصالون الكاتبة زهرة الزيراوي بالبيضاء وغيرهما. وما يلفت النظر هو ظهور نوع آخر من الصالونات الثقافية من خلال المقاهي الثقافية التي أسسنا شبكة لها في مختلف أنحاء المغرب بحيث أشغل منصب أمين مالها. وهي شبكة تستضيف فنانين وشعراء وكتابا من مختلف الاتجاهات في لقاءات حميمية تعوض ثرثرة المقاهي إلى تواصل هادف وفعال.

7 – لماذا اخترت بعض عناوين قصائدك باللغة الفرنسية ، ما هو الدافع؟

         قد لا يكون للشاعر اختيار في اختيار اسم مولوده بما أن الاسم يدل على المسمى، فعنوان قصيدة : Grand A  مثلا قد لا يحمل الدلالة نفسها وهو يترجم للعربية بما أنه إحالة على لفظ عميق استعمله المحلل النفساني الفرنسي جاك لاكان، يصعب ترجمته حرفيا وهو مقصود لإثارة القارئ الذي عليه أن يجتهد قليلا وهو يقرأ النص قراءة عاشقة. والأمر نفسه ينطبق على باقي العناوين. ليس في الأمر تبخيسا للغة العربية أبدا ولكنه الشعر المختلف الجديد الذي يفرض نفسه بقوة.

8-  أدرجت في قصيدة لك الحكاية الشعبية ، وسلطت الضوء على  شخصية “سعدون” لماذا هذه الشخصية دون سواها؟

         وأنت تكتب تحضرك آثار مخلفة على الذاكرة : أسماء أمكنة، كتب، شخصيات… وشخصية “سعدون” إضافة إلى شخصية “عسالة” أو “حربة” مثلا هي شخصيات مهمة في مدينة فاس التقليدية، مجرد ذكر هذه الأسماء يستدعي لديك أشرطة كثيرة. هم مجاذيب المدينة العقلاء. كلامهم حكمة وشعر شعبي. لقد ضحوا بعقولهم من أجلنا. وهي شخصيات مؤثثة لفضاء مدينة فاس كما هو شأن كل المدن التقليدية. مجاذيب لا تؤذي أحدا. أليس المكان بأهله؟

 9– أنت تزاوج بين كتابة الشعر وكتابة الدراسات النقدية والكتابة في المجال التربوي والثقافي عامة. أين تجد نفسك أكثر؟

            أنا أعتبر نفسي شاعرا بالدرجة الأولى، هكذا وجدتني منذ البادية، إلا أن الشعر بمفهومه التقليدي تغير الآن، كما تعرف، فلم يعد الشاعر هو ذلك الكائن المثالي الخارق الذي يأتيه الإلهام من عبقر، الشعر يوجد في القصة والرواية والدراسات النقدية. أحيانا وبحكم القراءة العاشقة التي تحدثنا عنها ، أجد نفسي منساقا لكتابة تأملات قد ترقى أحيانا إلى مصاف الدراسات النقدية، ولكن الهمّ الشعري يبقى حاضرا في كل كتابة. الشعر هو الأصل وكل ما نقوم به هو من أجل ترسيخه. الشعر هو المحبة والسلم ، وهو أيضا تعرية الواقع والارتفاع عنه أحيانا بالحلم والمتخيل. كل كتابة أو إبداع هو شعر الآن ، وأنت تعرف أن اللغة وحدها لم تعد كافية للإفراج عن غمة الذات والأشياء. التواصل عبر الرقمي أثّر على كل شيء وعلى الشاعر أن يعيد النظر في أدواته حتى لا يبقى في عصر الانشداد لماضيه فقط.

10 – استضافك الشاعر والإعلامي ياسين عدنان في برنامجه التلفزيوني المعروف  “مشارف” وكان موضوع الحلقة عن ورشات الكتابة الإبداعية لدى الأطفال، تحدثت عن المحترفات وأهميتها في الكتابة وأكدت على ارتباط القراءة بالكتابة الإبداعية، كما أشرت إلى أهمية الابتداء بالكتابة للوصول للقراءة. هل يمكنكم توضيح الأمر.

         ” الكتابة الإبداعية والمتخيل الشعري للتلاميذ ” هو كتاب يلخص تجربتي المتواضعة في مجال المحترفات الكتابية ، وأعني بها ورشات الكتابة الإبداعية، والاسم الصحيح هو المُحتَرَف. وقد أطلق هذا اللفظ قديما على كل عمل تعلمي لحرفة أو فن، وهو ليس ترجمة حرفية للفظ الفرنسي d’écriture  Atelier رغم التطابق الظاهر بين اللفظين . ملخص ما ذهبت إليه هو نفور الأطفال والمتعلمين من الكتابة بمفهومها التقليدي، إذ أن التلميذ مثلا في المدرسة لا يكتب إلا ما قاله الآخرون  في التعبير والإنشاء، ونحن نادرا ما نترك الحرية للمتعلم ليكتب ما يشعر به، ما يخالجه، وحين نفسح له المجال لفعل ذلك فإنه سيجد نفسه مضطرا لتصحيح لغته بنفسه بالبحث والقراءة. ومن هنا قد تؤدي الكتابة الإبداعية في الشعر خاصة لتعزيز القراءة. هذا ما قصدته حين عبرت في الكتاب قائلا : ” في كل منا يرقد شاعر وما علينا إلا إيقاظه” . والإيقاظ سيتم بمقروء آخر، بالتأويل وبطرق ووسائل متعددة أخرى قد تكون مختلفة مثل ما قمنا به في مهرجان سيت الفرنسية منذ سنتين في صلام الكلمة. Slam  ، وقد كانت تجربة متميزة حبّبتْ الكتابة والقراءة بعدها للمستفيدين من المحترف.

11– هل يمكن للمدرسة أن تنتج شعراء؟

         هو السؤال نفسه الذي طرحه علي ياسين عدنان  في برنامجه المتميز في الفضاء السمعي البصري المغربي “مشارف” و أنت تعرف أنني أخوض في المحترفات الكتابية والإبداعية منذ الثنانينيات من  القرن الماضي وما زلت ولم يكن هدفي أبدا خلق شعراء وكتاب من خلال المحترفات، إن همي الأساسي هو تحبيب اللغة والقراءة للمتعلمين والتدريس بطرق مختلفة، وخلق شعراء في تلك المرحلة فقط. فكم يشعر المتعلم بلذة كبرى وهو يخترق ويقتحم اللغة للتعبير عن ذاته، وقد وصلت مع بعض المستفيدين من المحترفات الكتابية إلى درجة مطالبتهم هم أنفسهم بكتابة قصيدة لكونهم يشعرون بالمتعة وهم يسخرون من عالمهم بطريقتهم الخاصة. هي طريقة فنية تدفع للقراءة من أجل الكتابة.

12 –  كيف ترى دور اتحاد كتاب المغرب في تشجيع المواهب الشابة على الإبداع؟

         يمكن لاتحاد كتاب المغرب أن يلعب دورا هاما في التشجيع على الكتابة والقراءة من خلاله فروعه المنتشرة في كل المدن المغربية. لقد أنشأ الاتحاد جوائز للكتاب الشباب، يمنحها سنويا للكتاب الجدد الذين ينشرون كتابهم الأول، إلا أنه أمر غير كاف في نظرنا. على الفروع أن تقوم بهذه المهمة، ولكن بتشجيع من وزارة الثقافة ومن المجالس المنتخبة والجامعات خاصة، وكذا من الخواص الغيورين على الشأن الثقافي في هذا البلد، والذي بدونه لن تكون هناك قيمة لأي تقدم اقتصادي مفصول عن جذوره الثقافية. نحن نحاول في فرع اتحاد كتاب المغرب فرع الرباط القيام بهذا من خلال النزول للمؤسسات التعليمية وللمقاهي الثقافية للتعريف بالكتابة والكتاب في المغرب إلا إن اليد الواحدة لا تصفق كما يقال.

13 – أريد رأيك في أربعة شعراء مغاربة: محمد بنيس، محمد بنطلحة، محمد السرغيني، محمد الصالحي؟

         محمد بنيس ليس شاعرا فحسب بالمعنى التقليدي للكلمة، إنه فاعل ثقافي ومنظر ومتابع ومدافع عن اللغة العربية وعن الحداثة خارج المغرب. هو شاعر يعرف ما يقول. لقد خاض حروبا شرسة في الماضي لدرجة أن همش من طرف الكثير داخل المغرب في مختلف اللقاءات، وقد انتبه له الكثيرون الآن من خلال التكريمات المتتالية التي أقيمت له. يكفي أن نذكر تأسيسه لبيت الشعر في المغرب ودعوته لتخصيص يوم عالمي للشعر، والتي انطلقت من المغرب لتفعل عالميا فيما بعد.

         محمد بنطلحة علامة بارزة في الشعر المغربي الحديث. مؤسس ورائد  للشعر المغربي. قمة الحداثة. يحفر الكلمة ويعيدها قبل إخراجها للناس. هو أشهر الشعراء المغاربة في المشرق والمغرب. عوالمه متخيلة وجريئة تقتحم اللغة والتقليد مسلحة بثوابت القول عربيا وعالميا. تصاب بالدهشة وأنت تقرأ المختلف في كتابته والذي لا يمكن أن يقوله غيره. هو فاعل وشاعر شديد الحساسية، لا يهادن. هو صوت يعتز به المشهد الثقافي العربي والمغربي والعالمي.

         محمد السرغيني رائد الرواد المتعدد. شاعر بألف شكل. كتب بالعربية وبالفرنسية والإسبانية . وله يد كبرى على أغلب مثقفي المغرب الذين تتلمذوا على يديه بشكل مباشر أو غير مباشر. ترجم وواكب المشهد الثقافي شعرا ونقدا وتشكيلا وصورة. عالمه تتداخل فيه الفلسفة بالفكر بالحكاية والأسطورة مما يدفع للتسلح بعلوم وثقافات متعددة للدخول لعوالمه المتميزة.

         محمد الصالحي صوت شعري مختلف. عرف بشذراته الدقيقة وبانتمائه بإخلاص لقصيدة النثر ولكن بطريقته الخاصة. وما لا يعرفه الكثيرون هو ثقافته التراثية الهائلة. وهو يحفظ دواوين الشعر العربي القديم وخاصة ديوان المتنبي كاملا. هو صوت الحداثة المؤسسة على خلفية فكرية وثقافية عميقة عكس ما نراه لدى بعض الشعراء الذين يلغون كل مقروء سابق بدعوى “قتل الأب” دون معرفة بما يقولون.

14–  وماذا عن شعراء الحساسية الجديدة بالمغرب كما سميتها؟

         قد يكون الشعر هو الأكثر حضورا في المشهد الشعري المغربي من حيث الكم، كثرة الدواوين الصادرة وكثرة الملتقيات الشعرية يؤكد ذلك. الشعر هو الدعوة للمختلف من خلال فسح المجال أمام الخيال والمتخيل. ولكن بامتلاك أدوات جديدة . الشاعر ينوب عن الآخرين في إثبات الجمال بدل القبح. الوردة عوض الدبابة. وكذا بالفضح والاقتحام من خلال اللغة أيضا. لقد ظهرت موجة قوية من شعراء الحساسية الجديدة في المغرب منذ التسعينيات إلا أنها قلت أو كررت نفسها الآن للأسف وهذا بفعل تأثيرات أخرى أكبر. لقد تراجع دور المقروء ودور الثقافة والكتابة التقليدية لدى الشباب ، بحيث أصبحوا ينفرون من كل ما هو تقليدي. بعض الشعراء يواكبون المشهد ويكتبون بحساسية مختلفة، متخذين من السخرية والمغايِر شكلا لها، مع توظيف بعض التقنيات الصوتية أحيانا، وأهم ميزة لهذه الموجة التي ليست شابة بالضرورة هي الحسم مع الثوابت اللغوية والإيقاعية الرتيبة والبحث عن المدهش والمتوهج والمختلف. قد نلاحظ ذلك عند شعراء شباب كما نجده عند كبار الشعراء، كما هو شأن الشاعر الكبير محمد السرغيني الذي تجاوز التسعين، أطال الله في عمره، وما زال يكتب وكأنه شاعر شاب. الشعر مواكبة تسبق ما هو سياسي ومجتمعي. تعبر عن الموقف بوسائلها الخاصة التي تواكب بل تسبق كل مستجد بتنبئ مستقبلي.

15 – أما زلت ترى جدوى وضرورة للشعر في الزمن الرقمي؟

         المحلل النفساني الشهير سيغموند فرويد كان يقول دائما في محاضراته : إننا نتعلم الكثير من الشعراء، وإن آخر كائن سيوجد على الأرض هو الشاعر. وأذكر قولة هولدرلين الخالدة : وما يتبقى يتمه الشعراء. إن الدلالة الرمزية لهذا الكلام هو أن الشاعر هو الكائن البشري نفسه، لأنه يرتبط بالخيال والتخيل الذي بدونهما سيعم الجفاف، ويكثر العنف والقتل. مهما امتدت الرقمية لكل المجالات فسيبقى هناك متسع للشعر والقصيدة. نعم سيطرأ تغيير على الأشكال والمفاهيم، بما أن اللغة نفسها أصبحت تتحول باستمرار وبشكل سريع. الفن ضرورة والشعر ضرورة الضروريات. وإذا أردت أن تقتل شعبا فدمر لغته ومتخيله وشعره أيضا. الشعر ضرورة ويجب أن يبقى كذلك في كل الأزمنة بما فيها الزمن الرقمي الهائل.