الاثنين، 18 يوليو 2016

محمد حيّاوي من خلال روايته (خان الشابندر)-أحمد الحلي



محمد حيّاوي من خلال روايته (خان الشابندر)

ومضة حياة مفعمة بالنشيج

أحمد الحلي

هل ينبغي لنا القول إن شحة عناصر الجمال من حولنا وقلتها هي ما أعطاها كل هذا الزخم من القيمة والفاعلية والقوة الدافعة .
ينطبق هذا المبدأ الحيوي على شتى المناحي ولا سيما ما يدخل منها في إطار الإبداع الأدبي وعلى وجه الخصوص في عالم الرواية تحديداً  .
بين أيدينا رواية من طراز خاص  تنطبق عليها هذه المواصفات بعنوان (خان الشابندر) للروائي العراقي المقيم في هولندا  محمد حياوي الذي يبدو أنه صاغ لنا عملاً  حاذقاً يتواشج ويتواءم مع الحالة العراقية الراهنة ما بعد سقوط الصنم ، وما استتبع هذا الحدث المدوي من انعكاسات وانهيارات وتشظيات في كافة مفاصل الدولة والحياةأيضاً ...
لا يساورنا شك ، بأن محمد حياوي توافرت لديه عناصر الأهلية الكاملة قبل أن يشرع في الإبحار بسفينته عبر هذه الأمواج المتلاطمة من المتعة المدافة بمزيد من ثيمات الألم  والفجيعة والإحساس بالضياع ...
ازدانت الرواية على غلافها الأخير بعدد من الجمل التي هي كشّافات ضرورية  لمجريات ما يحدث داخل الرواية ، نقتبس  منها ؛
*لقطة مكثّفة ومركّزة لحياة بغداد السرية والمعتمة ، البائسة والمحزنة ، التي سببها حكم شمولي ثم احتلال أميركي .
* تتأرجح حيوات هند وضوية ونيفين بين أمواج الانفجارات المرعبة والعالم الفنتازي الذي يقف على رأسه مجر ، الفيلسوف الصوفي الغريب .
وهناك في مدخل الكتاب  جملة شعرية في غاية الأهمية لشاعرة أفغانية شابة اسمها رحيلة موسكا  قتلها رجال طالبان هي ؛
" جسدي طازج مثل أوراق الحنّاء ، أخضر من الخارج ، لكنه لحم نـييء من الداخل "
في بداية الرواية نقرأ عبارة للشخصية المحورية هند تخاطب بها بطل الرواية الذي كان هاجسه استقصاء حكايات هاتيك النساء المغلوبات على أمرهن والمضاعة حياتهن سدىً ؛
" سنحرسك في الليالي الحالكات ، حتى من دون أن ترانا ، ولكن احذر ، لأنك لن تعود إلى طبيعتك السابقة على الإطلاق ، فاستعد واترك تخاذلك وجبنك وتهيّأ لاحتراق روحكَ في كانون محبتنا "
وبالفعل ، ومنذ الوهلة الأولى يقذف بنا محمد حياوي في أتون روايته هذه ، عبر حبكة غاية في الإتقان والشاعرية .
بطل الرواية ، الأستاذ علي ، الصحفي العائد من غربة طويلة قضّاها في الغرب ، يعود إلى بغداد بهاجس إنساني وتعاطف كلي  مع الكائنات والفئات المهمشة والتي عانت وتعاني من انسحاق شديد جرّاء وطأة الأحداث الكارثية التي وجدت نفسها مقذوفة في أتونها المستعر ...
يقوده أحد أصدقائه ممن لديهم خبرة وافية بأزقة بغداد وعالمها التحتاني إلى إحدى الخرائب ، حيث تسكن مجموعة من الفتيات بائعات الهوى في منزل القوادة أم صبيح التي توفر لهن السكن والحماية والرعاية في مقابل فائدة مادية ، ومن الواضح أن هذه المجموعة من البشر تعيش على هامش الحياة ، حيث الأخطار المحدقة بهن من كل جانب .
وكما يتضح لنا منذ البداية فإن الأستاذ علي لم يذهب إلى هناك من أجل الحصول على المتعة  وإنما من أجل هدف آخر تماماً ، فهو يحاول الوقوف عن كثب والتعرف على قصص وحكايات تلك الفتيات والأسباب التي دفعت بهن للوصول إلى هذه الحال ، ولأول وهلة تقع عينه على إحداهن ، شابة سمراء في مقتبل العمر اسمها ضوية ،  في بداية الأمر لم تفهم طبيعة المهمة التي جاء من أجلها ، يبدي استعداده لدفع المبلغ كاملاً من دون أن يمارس الجنس معها مضافاً إليه مستحقات القوادة أم صبيح ، تتقبل الأمر على مضض ، وتبدأ بسرد حكايتها وتحولها بصورة قهرية إلى ضحية وبالتالي وصولها إلى هذا المكان ...
وقبل وصول الرواية إلى هذا المفترق المفصلي نتعرّف إلى شخصية نسائية أخرى هي الصحفية نيفين التي تعمل معه في ذات الصحيفة ، يلتقيها باستمرار ، أو بالأحرى هي تتواجد معه في ذات الشقة ، وهي أيضاً لديها حكايتها الخاصة ، تختلف مع زوجها الذي يقرر الرحيل إلى استراليا مستصحباً معه  ابنتهما الوحيدة ...
الفتاة الثانية التي يلتقيها في ذلك الماخور اسمها هند ، التي تتوثق علاقته بها ولكنها  لم تشأ أن تخبره بحكايتها ، تقول له حين تقع عينها عليه لأول وهلة
- شكلك مختلف حقاً ، ما الذي رماك علينا ؟
- كنتُ مارّاً من هنا صدفةً ، فاقترح عليَّ صديقٌ لي الدخول إلى البيت والإطلاع على عالمكم .
ضحكت ضحكة خافتة وقالت ؛
- عالم الفضيلة تقصد ؟
- لا ، عالم القصص الحزينة والأحلام المحبطة والأمنيات الذابلة .
سرعان ما يكتشف أنها امرأة استثنائية ، فهي بالإضافة إلى جمالها الأخاذ متعلمة تهوى سماع الموسيقى والأغاني الراقية ، كما أنها مولعة بقراءة الكتب ، تخبره أنها كانت تعمل مدرسة قبل أن تتدهور أمورها وتصل إلى هذا المكان ، وأنها عملت مترجمة مع القوات الأمريكية بعد سقوط نظام صدام مباشرة ، الأمر الذي أدى ملاحقة أفراد الميليشيات لها ، حتى تم إلقاء القبض عليها وصدر حكمٌ فوري بإعدامها ، ويوكل تنفيذ المهمة إلى شابين يأخذانها في صبيحة اليوم التالي بسيارتهما إلى حافة أحد الأهوار ، يوقفانها ثم يطلقان النار فوق رأسها ، فتسقط وتظن أنها ماتت ، يخبرانها أنها يتوجب عليها الهرب بعيداً وأن لا يراها أحد في المدينة بعد الآن  ...وظلت تتنقل من مكان إلى آخر مع معاناة فظيعة تتعرض لها ...
نعلم بعد ذلك أن هند تهيم به حباً وعشقاً ،تجد فيه ملاذها وخلاصها وعالمها المثير الذي تفتقد ، تقول له وهي مستلقية في حضنه ؛
- يُخيّل لي أننا لسنا في بغداد ، بل في يوتيبيا غريبة معلّقة في مكانٍ ما بين  الأرض والسماء .
وكما يتضح لنا فإن الرواية بمجملها ، بمثابة نشيد إنساني رفيع ، يتقصّى حياة المستلبين والمهمشين والمقصيين ...
من بين الشخصيات الغريبة والمثيرة  التي حفلت هذه الرواية بها شخصية مجر ، ذلك الكائن الأسطوري ، الذي تقول هند عنه ؛
- إنه عتيق جداً ، عمره أكثر من مائة عام ، منذ وطأت قدماي إلى منزل أم صبيح وهو يجوب الأرجاء ويعرف مفاتيح الأمور ، أسمع عنه الكثير من الحكايات الغريبة ، لكنه طيب القلب ، وفي أغلب الأحيان يبدو لنا مثل ملاك حارس ...
ويوماً بعد يوم ، تتوطد أواصر العلاقة بينه وبين مجر ، وبينما كانا معاً يقفان على أحد السطوح ، يلاحظ أستاذ علي أنه بين أونة وأخرى يشير بيده ملقياً أو  رادّاً التحية على كائنات لم يستطع هو أن يراها ،  يمد مجر ذراعه مشيراً إلى السماء بسبابته المقوسة ؛
- انظر إلى تلك النجوم البعيدة ... إلى ذلك الكون الفسيح ، كم عمرنا باعتقادك قياساً بعمر الزمن ، لقد وجد هذا الكون قبلنا بملايين السنين ، وسيبقى بعدنا بملايين السنين ، لكن هل أفاد البشر من عمرهم القصير ، أم أفنوه باتنظار الموت ؟
ثم يقول ؛ انظر إلى الخراب من حولنا ، البيوت مهدمة على أسرارها ، لكن العشب مازال ينمو فوق السطوح الآيلة للسقوط ، ماذا يعني لك الحب ؟ ها ، أنتم الماديين تعتقدون أنه نوع من الكيمياء فحسب ، ولكن أتعلم ، كتبنا تقول ؛ إنه يخفق في أفئدتنا ، أرواحنا الحبيسة وسط أجسادنا مثل حمامة شغوفة هي الله نفسه الذي يٌفني الكثيرُ من البشر حياتهم بحثاً عنه في أمكنة أخرى ، لكنَّ الأرواح تظل محلّقة في ملكوت الله ....
ولمّا كانت مناطق  بغداد واقعة بين كمّاشتي الميليشيات الدينية المتنوعة وصراعاتها الدموية المستمرة ، فقد بقي القدر يتربّص ببيت أم صبيح الذي أصبح قشة في مهب الريح الجهنمية ، وفي مرحلةٍ ما انفلت زمام الأمور وفقدت جماعة الملة جليل التي كانت توفر نوعاً من الحماية لبيت أم صبيح في مقابل أتاوات يتم دفعها بين الحين والآخر ، وقد يرغب بعض المعممين بممارسة الجنس مع إحداهن ، فلا تملك هذه  إلا أن تنصاع وتذعن ...
والذي حدث ، أن جماعة الملة جليل فقدت السيطرة على المنطقة بعد هجوم كاسح شنته ميليشيا منافسة أشد عتواً وتطرفاً استخدمت فيه المدافع الرشاشة والرمانات اليدوية والهاونات .
يخبر مجر أستاذ علي الذي حضر إلى المكان بعد مرور فترة من  الوقت على الواقعة  برفقة زميلته نيفين عمّا جرى في ذلك اليوم المشؤوم ، اتّكأ على الجدار المهدّم وسحب نفساً من سيجارته ، ثم التفت نحوهما ، وبدت ابتسامته الغريبة واضحة ؛
- في تلك الليلة ، نزل الجميع إلى هذه الغرفة التي نحن نقف على أطلالها الآن ،وتسللوا من الفتحة التي في الجدار عبر الخزانة إلى البيت المجاور ، كان من المفروض وجود فتحة أخرى مقابلة توصلهم إلى الزقاق الخلفي ، لكنَّ قذيفة هاون ما هدّمت الجدار وردمت الفتحة على ما يبدو ، فتكوّم الجميع بعضهم فوق بعض في غرفة صغيرة عندما دخل المسلحون يحملون سكاكين ضخمة وبلطات ، لم يصرخن أو يتوسلن ، حاولن حماية ضوية بتخبئتها خلفهن ، هل تعرف ضوية طفلتهن الشقية التي كنَّ يسرّبن مشاعر أمومتهن من خلالها ؟
- نعم أعرفها .
- حسناً كانت آخر محاولاتهن لإثبات إنسانيتهن ، لكن من دون جدوى ، فقد أخذ المطر بالهطول فجأة ، وراح يغسل بقايا الدم والسخام ويخلّف عشرات السواقي الدقيقة ، لم ينقطع المطر لثلاثة أيام متواصلة ، كانت الرؤوس المزروعة فوق الطوب مبللة بالكالمل وخصلات الشعر المبلول ملتصقة على الوجوه ...
لم يشأ كاتب الرواية الإفصاح عن بعض الأحاجي التي رصّعت مفاصل نصّه الروائي المتقن ، من ضمنها إيجاد تبرير وتفسيرللعلاقة الحميمية  التي تربط بطل الرواية بكافة الفتيات الجميلات الموجودات في ذات المكان ، من دون أن نلمس أية بوادر للغيرة بينهن من أجل نيل الحظوة لديه ، وهذا أمر في منتهى الغرابة حقاً ...
الأمر الآخر هو شخصية مجر الغرائبية التي تنبثق خارج مجريات الأحداث  وإن تضمنت في بعدها الخفي تفاعلاً وانسجاماً وتنويعاً آسراً على نغمة الرواية الأساسية ...
أما الأمر الثالث ، فهو ظهور الأجنحة العملاقة الغامضة وهي تخفق هنا وهناك ، مؤكد أنها لم تكن سوى حلم أو رؤيا تنتاب بطل الرواية وتهيمن على مخيلته ، لتعكس لنا رغبته في الخلاص والإنعتاق له شخصياً ولكائناته ولبطلات روايته اللواتي انغلقت أمامهن منافذ الأمل ....


الأحد، 17 يوليو 2016

قصة قصيرة مياه زرقاء-عادل كامل

قصة قصيرة


مياه زرقاء

عادل كامل
     رفعت الضفدعة البيضاء رأسها قليلا ً عن سطح الماء، وتساءلت: ما هذه الضجة..؟ ذلك لأنها شاهدت ما يشبه العراك يجري عند ضفة المستنقع، فخافت أن تصاب بالأذى، ولهذا كادت أن تغطس لولا ارتفاع الأصوات على نحو أربكها، وأثار قلقلها…، فصرخت:
ـ ما هذا العراك…؟
فقال لها كبير البعوض الواقف بجوارها:
ـ ما شأنك أنت بنا….، فالقضية لا علاقة لها بك!
اقتربت الضفدعة من كبير البعوض:
ـ اعرف انك مخلوق مؤذ…، وأنا استطيع محوك من الوجود…، لكنني تساءلت بأدب جم عن هذا الإزعاج، لا أكثر ولا اقل…، وأنت تعرف إنني ضفدعة مستقلة، واحترم حرية الجميع!
ـ وماذا فعلت، وماذا قلت لك، سيدتي؟
ـ كل هذا العياط، واللغط، والنباح، والتهريج، والصراخ ….، وتقول: ماذا فعلنا؟
فسأل البرغوث الواقف فوق رأس الكركدن:
ـ اخبرها بالأمر، لماذا تتردد…؟
قال كبير البعوض للضفدعة البيضاء:
ـ كنا بصدد رفع دعوى حول الماء غير الصالح للحياة في هذا المستنقع…، وعن الهواء، وعن تردي الخدمات الضرورية!
ـ آ ….، إذا ً …، فانتم تفكرون بالإصلاح، والعمل من اجلنا جميعا ً…، أنا آسفة، بل اكرر اعتذاري، مرة ثانية.
فقال جرذ المجاري الذي كان يصغي للحوار:
ـ الغريب انك قانعة بما آلت إليه مياه المستنقع، وفساد الهواء، وما حل بالعشب، وباقي المرافق….
ـ وماذا تريد مني أن افعل …، بعد أن أغلقت الرقابة، باسم الشفافية، علينا المنافذ…؟ هل ادعوهم لسلخ جلدي، أم إلى تغيير لوني، وارتداء قناع حمار …، أو جلد ماعز؟
    اقترب كلب كان يسعى لتناول الماء، وقال لها:
ـ أنا اعترض…!
فسألته الضفدعة، وقد أحست إنها تختنق:
ـ بالتأكيد …، لأن مهمتك قائمة على المشاكسة، ومعرفة ما يدور في قلوبنا، مع إن أجهزة الحديقة الحديثة تعرف ما يدور في خلايا رؤوسنا قبل شروعنا بأي عمل…، فأنت تعرف إن العالم الحديث لا يترك سكانه عرضة للمشاكل، والأحزان، والقلق!
    صاح كبير البعوض بنشوة:
ـ لا تدعونا نختلف، ونكمل ما يجري هنا وهناك، من زعيق، ومشاكسات، واختلاف…، بسبب مياه المستنقع الآسنة، وتحولها إلى مادة متصلبة، لكثافة النفايات، وتراكم الأوساخ…، أو لأن رائحة المستنقع باتت أكثر من كريهة…
أجاب الكركدن:
ـ هذه مشكلة أزلية…، ليس بسبب الإهمال، ووجود اللصوص، والمزورين، والجواسيس، والأنذال…، بل لأننا جميعا ً خرجنا من هذا العفن! وهذه هي الحصيلة: الكل ضد الكل، حتى إجراء التصفيات، وإنزال الهزيمة بالجميع!
    اقترب دب جبلي الأصل، وأبدى معارضته، فقال انه ينفي الاتهامات الأخيرة، التي صرح بها السيد الكركدن:
ـ فهي باطلة! لأنها منحازة، وليست إنسانية!
   رد البرغوث:
ـ سيدي الدب…، إذا كنت لا تميز بين الماء الصالح للشرب عن سواه…، فماذا نفعل لك…؟
ـ أأنا لا أميز…، أيها البرغوث المقزز للضمائر، والجلود، يا من سلبنا الراحة، والسكينة، وحرمنا من أحلام منتصف الليل!
   اقترب هر من الضفدعة، وقد تغير لون جلدها وبات رماديا ً:
ـ كل هذا يحدث بسبب المستنقع….، لكنكم تجاهلتم ما يحدث هناك، في باقي الأجنحة…، فالأبرياء يشكون من ندرة الطعام، ومن الإهمال، وانعدام الخدمات، بل ومن الملوثات الفضائية، وكأننا لا نعيش في حديقة حديثة شيدت وفق آخر مكتشفات العلم، وما بعد الحداثات.
   صاحت الضفدعة بألم:
ـ بعد قليل ستتحدث عن مصائب جناح الغربان، والأفاعي، والفئران….؟
فقال الهر:
ـ أليست العدالة واحدة وهي أس المشكلة…؟
ضحك الحمار:
ـ أنا أخشى أن يتم ردم المستنقع، وطردنا، أو إرسالنا إلى المحرقة!
فقال الدب:
ـ  صحيح…، آنذاك ماذا سنفعل، وعلى ماذا نعترض، وعلى أي أمر نختلف…؟
أجابت الضفدعة:
ـ دعونا نتوصل إلى صيغة معتدلة، لا نحو اليسار، ولا نحو اليمين، ولا البقاء في الوسط….، ونخبر السلطات بضرورة فتح قناة لخروج الماء الراكد، وأخرى ترفدنا بالمياه العذبة، فالبلاد غنية بها حد التخمة!
قال البرغوث:
ـ إنها مشكلة مياه إذا ً ...؟ لكن لا احد تحدث عن الجفاف، وزحف الرمال، واليباب الذي دب ّ في روحانا...
رد الدب:
ـ إنها ليست مشكلة جفاف، أو عفونة، أو وفرة مياه...؛ إنها مشكلة توزيع، وإهمال، ولا مبالاة....، بل وكراهية متأصلة فينا! فالموت لم يأت بعد الحياة، بل الحياة ذاتها ليست إلا مناورة مفضوحة معه، مناورة للتمويه...، لكن ماذا فعلنا غير تركنا المعضلة تذوب، وتتوارى!
   تساءلت الضفدعة، وهي تتحسس جلدها الرمادي، بغضب:
ـ بالتأكيد، سيدي، الكراهية صنو الموت...، كلاهما خرجا من هذا العفن...، لكن ما علاقتنا بالأمر...، لو كنا نمتلك حسما ً حقيقيا ً يوازي أحلامنا، وآمالنا الضائعة...؟
   صرخ الكركدن:
ـ في أي غور عميق تسكن هذه الضمائر ...، وما علاقتها بأحلامنا المنهوبة...؟
ـ لست أنت المقصود...، سيدي، ثم لماذا هذه الحساسية، فكلما وجهت الاتهام إلى جهة تبرعت بالدفاع عن نفسك!
   هز رأسه:
ـ مع ذلك أفضل أن تعتذري...، سيدتي الضفدعة الزرقاء؟
ـ لن افعل ذلك ....، لأن هناك جهات مازالت تؤمن بالعدالة...
ـ حددي، أي الجهات هي المقصودة...؟
قال كبير البعوض:
ـ القضية واضحة للغاية...، فالماء الطاهر الأتي من النهر يذهب إلى النعاج، والثيران، والحمير!
اعترض الحمار:
ـ أبدا ً....، فها أنا جئت ابحث عن سد رمقي...، من مياه المستنقع، وأنا مازالت أخشى أن يصدر قرارا ً بردم بركتنا هذه...؟
ـ أين يذهب ماء النهر الخالد...؟
   سأل الحمار:
ـ إلى الخيول، والى جناح السيدة المستشارة، والى مكتب سعادة السيد المدير.
صاح البرغوث:
ـ هكذا يتم الاستهانة بعقولنا، وبإرادتنا، وبأحلامنا....، وكأننا من الدرجة الثالثة، وكأننا لم نولد في هذه الحديقة...؟
   قال الهر للجرذ:
ـ ماذا تقول...؟
رد الجرذ:
ـ كما قالت السيدة الضفدعة ذات اللون البلوري، فنحن كائنات عاطلة عن العمل، كائنات منزوعة الإرادة، والعقول، و....، وكما أشارت بحكمة ورهافة فان الإهمال هو نصيبنا، مثل اللامبالاة، مقترنة بالعفونة الأولى. بل أنا اعتقد حد الإيمان بان هذا الاختلاف لا فائدة منه إلا بتعزيز إدارة الحديقة، وديمومة دستورها الأعمى، وجعل لا شرعيتها من أولى الطاعات!
   قفز البرغوث مبتعدا ً عن رأس الكركدن، ووقف فوق رأس الحمار:
ـ يقولون إنكم من أكثر الكائنات ذكاء ً، وحكمة، ومن أكثرها قبولا ً بحمل الأوزار، والرضا بالخسائر...، حتى إننا لم نسمع إن حمارا ً انتحر، أو تذمر، أو أغلق فمه؟
رد الحمار بخجل:
ـ لم نلتفت إلى هذه المعضلات، لأنها باطلة، لأن المعضلة التي لا حل لها لا وجود لها أساسا ً، فلماذا نخدع أنفسنا، ولماذا نخدعكم...؟
فسأله الجرذ:
ـ ما هي مشكلتكم إذا ً...؟
ـ الماء الآسن...، وانقطاع التيار الكهربائي، وانعدام الخدمات، والتعليم، والصحة، وكثرة المحرمات، والتردد في تطبيقات الشفافية!
     ضحك الدب:
ـ بعد قليل ستتطرق إلى عثرات الديمقراطية، أو ربما تراها تمشي عرجاء...؟
ـ لا ..، إلا الديمقراطية، سيدي، فهي وحدها الحقيقة الراسخة التي يحلم بها الجميع ولا يحصل عليها احد!
ـ فيلسوف...، كأنك تذكرني بسقراط؟
ـ ولماذا سقراط؟
ـ لأنه كان يلمح إلى إجابات لأسئلة  لا وجود لها!
تساءلت الضفدعة بقلق:
ـ أم لديك رأي آخر...؟
   تراجع الحمار، لأن الكلب راح ينبح بأعلى ما يمتلك من قوة، وهو يشاهد احد النمور متجها ً نحو المستنقع. قال الكلب ومازال مذعورا ً:
ـ دعونا نغلق أفواهنا...، ونعرف ماذا يريد هذا النمر...؟
     قرأ النمر ما كان يدور في رؤوسهم، فقال للجميع:
ـ لا تخافوا....، فانا أشاطركم  مشاعركم، وحقوقكم، ومطالبكم، ورغباتكم....، ليس بسبب الماء الأسود، بل بسبب الهواء الثقيل، عديم اللون والرائحة والمذاق،  وليس بسبب الغذاء الفاسد، غير الصالح للاستخدام، بل بما يبثه التلفاز من أفلام داعرة، ووحشية، محفزة على القتل، وسفك الدماء، والاعتداء على الحرمات!
ـ آ ...، سيدي، إذا كنت تعرف هذا كله...، فلماذا لم تعترض؟
ـ وهل هناك جدوى من الاعتراض غير أن نعرض مصائرنا للتشهير، والتنكيل، والاتهامات الباطلة...؟
قال كبير البعوض:
ـ  أنا قلت للسيدة الضفدعة، أمنا المبجلة سيدة الأغوار والظلمات، مادمنا جميعا ً في عداد الهالكين، ولا أمل لنا بالنجاة، فلماذا نحرض إدارة الحديقة بالإسراع في اجتثاثنا، ومحونا من الوجود...؟
صرخت الضفدعة:
ـ يا سيد...، أنا لم اقل هذا الكلام الخطير، ولم أصرح به، بالسر أو بالعلانية....، فانا قلت لنطالبهم بالحفاظ على مستنقعنا، رمزا ً لما تبقى من الدهر...، لأن المستنقع في طريقه إلى الاندثار، والزوال.
    هز الدب رأسه:
ـ آ ...، لو عرفت ما الجدوى من وجودنا في هذه الحديقة...؟
    ضحكت قملة بدينة كانت تدب فوق العشب:
ـ كي نتعارف، ونتصالح، ونمضي أزمنة بهيجة، مفعمة بالمسرة والأفراح!
ـ يا حمار...!
صرخ الحمار في وجه القملة:
ـ وما شأني أنا....؟
ـ آسفة ...، أيها البروفسور الكبير، ولكن الدب استفز مشاعري وتمادى في العنجهية...؟
قال الدب:
ـ أنا لم افعل ذلك...، أنا قلت ما الجدوى من هذا كله وهو بحكم السراب....، وبحكم إجراءات لا علاقة لنا بها...، ولا علاقة لها بنا...!
ضحكت الضفدعة، وقد استعادت لونها الأبيض:
ـ ليذهب كل منكم إلى قفصه، وجناحه، وحفرته، وزريبته، وإلا فأنهم سيضطرون إلى ردم هذا المستنقع فوق رؤوسنا...
تساءل الجرذ بذهن شارد:
ـ آ ...، ماذا فعلنا...، ولماذا هذا الخوف....، فما قلناه لا يشكل خطرا ً على احد! لأن الإدارة أدركت منذ زمن بعيد إنها تستمد قوتها، وشرعيتها، وديمومتها من صخبنا، واختلافنا، وعراكنا الدائم!
ـ صحيح...، هذا بحكم اليقين، وإلا لماذا وجد الشر لو لم تكن له منافع خاصة.
وأضافت الضفدعة بصوت أعلى:
ـ وإلا لماذا تركونا نجتمع، ونتجمع، ونلتقي، وكأننا سنعلن التمرد، وندعو إلى العصيان!   سأل البرغوث الكركدن بصوت حاد:
ـ ما الذي جاء بك إلى هذا المستنقع...؟
ـ الذي أرسلك هو الذي أرسلني! فانا قادوني مثل خروف وقالوا لي: تمتع!
ـ وسمحوا لك بمغادرة قفصك...؟
ـ اسكت...، لم يعد هناك قفصا ً، فالجرذان قرضته، والأرانب التهمت الباقي.
   صاحت الضفدعة:
ـ لن نصل إلى نتيجة ...، أيها السادة، فانا أفكر ـ الآن ـ بكتابة شكوى الخص فيها مطالبنا وأرسلها إلى مكتب سعادة المدير...
قال جرذ المجاري:
ـ أنا دونت ملاحظاتي...، هل ترغبون بقرأتها...؟
قال كبير البعوض:
ـ كلنا آذان مصغية!
بدأ يقرأ:
ـ  سيدي المدير....، قبل أن تكون هناك ارض، وسماء، وقبل الطوفان، وبعده...، كان هناك هذا الذي سيمهد لوجود حديقتنا...، فبعد أن غمر الطوفان الأرض كلها، وأباد من عليها، انسحبت المياه...، تاركة البحر ...الذي، بمرور الزمن، غدا بركة ضحلة....، وهي اليوم توشك على الاختفاء، والتواري.
قال الدب:
ـ جيد...، خيالك جيد، لكن ما المطلوب...؟
تابع جرذ المجاري:
ـ ولأن عصر المجاري، الشبيه بعصر المستنقعات، والظلمات، لم يعد يناسب عصر الشفافية، فإننا نأمل، في هذا العصر الذهبي للعلوم، أن ننال عطف سيادتكم...، بالتكرم بأمر الجهات الرسمية بمعاقبة اللصوص الذين تسببوا بتدمير حياتنا في ما تبقى من البحر الكبير....
تساءل النمر:
ـ ما المقصود بهذه الإشارة...؟
ـ سيدي النمر...، مع انك تشارك الخيول رفاهيتها، فانك تجهل هؤلاء الذين لا يحملون ذرة إخلاص إلى حديقتهم...، هؤلاء الذين حولوا حياتنا إلى جحيم...
ـ آ ...، فهمت، أنت قصدت الخنازير والكلاب والقرود والتماسيح...؟
ـ لا....، لم تعد هناك مخلوقات تشبه التماسيح، لأنها لاذت بالفرار، أما الأسود فهي في طريقها إلى الانقراض، أسوة بالديناصورات العملاقة ....!
ـ اسمع، يا جرذ المجاري، عليك أن تشخص، وان تكون دقيقا ً...
ـ آ ...، نعم، نحن لا نطالب بالرفاهية، بل بالحفاظ على هذا المستنقع ....، فهو وحده يمدنا بالقليل من الحياة.
ـ فهمت....، هات الشكوى....، فانا سأنقلها إلى السيد المدير....، الذي كان قد كلفني بدراسة أحوال الرعية.
   صاحت الضفدعة، وقد بدأت تشكو من الصداع:
ـ دعونا نحتفل!
ـ بماذا تحتفلين....، وأنت مع باقي الضفادع ملأتم الحديقة صخبا ً، ولغطا ً، وضجيجا ً، وعراكا ً، ونقيقا ً ....، فقد كان من المقرر أن تسلكوا طرقا ً نزيهة، ناعمة، شفافة، في عرض مطالبكم، بدل إعلان التمرد...، والتمهيد لإعلان العصيان، وربما الثورة...؟
     ساد الذعر. صاح البرغوث:
ـ قسما ً بالشجر والحجر سأستدعي عشيرتي للدفاع عن حقوقنا، حتى لو تطلب الأمر التضحية بحياتنا...
ـ آ ..، أرجوك...، يا برغوث، أيها المخلوق الوديع، كحمامة، لا تفعلوا ذلك بنا...
وقال كبير البعوض:
ـ وسندعم نحن أيضا ً هذه الانتفاضة، ونحرض الجميع على العصيان....!
نهق الحمار:
ـ أيها الأصدقاء ..، أيها الأخوة، أيها الأشقاء، أيها الرفاق...، ما الجدوى من الحرب، وانتم تعرفون نتائجها...؟
رد الدب:
ـ أنا سأنسحب إلى مغارتي...، ولا شأن لي بأفعالكم المشينة.... فالعنف لا يولد سوى العنف...
صرخت الضفدعة في وجه الدب:
ـ قسما ً بالهواء الأسود الشديد التلوث، وقسما ً بالماء غير الصالح للسباحة، وقسما ً بالبكتريا، والأوساخ....، لن ندعك تعرف الراحة!
ـ ماذا فعلت...، وأنا أموت من الجوع، فلا عسل، ولا عشب، ولا ورود، ولا ...
ـ مت...! بدل أن تبقى تنتظر الموت!
قال النمر:
ـ آن لنا أن نرسلكم إلى المحرقة!
رد الحمار:
ـ أفضل!
ـ ماذا قلت...؟
ـ بدل أن تمزقتنا أنياب العاطلين عن العمل...، ونصبح أشلاء ً ممزقة في بطونها النتنة، المحرقة تطهرنا بنارها الأزلية ...، وتخلصنا من عفن هذا المستنقع!
ـ اقترب.
  اقترب الحمار منه، قال النمر:
ـ آن لي أن افترسك....، فانا كنت ابحث عن وليمة!
ضحك الحمار بلامبالاة:
ـ ولكن جسدي مشبع بماء المستنقع الضار، السام، المر المذاق....! فما أن تتذوق لحمي حتى تصاب بجنون الحمير...، فتصبح هزأة للنعاج، والفئران، والأرانب...؟
ـ اغرب عن وجهي.
    اقترب غراب ووقف فوق قفص مهدم ونعب:
ـ اهربوا .... اهربوا...
فسألته الضفدعة بذعر:
ـ ما حصل أيها الغراب ...؟
ـ الضباع أعلنت تمردها، وثورتها، بالاشتراك مع الأفاعي، والعقارب، والنمل....
ـ علينا...؟
ـ لا اعرف...، لكنها لم تترك شيئا ً إلا وخربته، دمرته، ولم تبق حجرا ً فوق حجر، ولا ممرا ً سالما ً من الأذى...، وهي الآن في طريقها إلى المستنقع العظيم!
صاحت الضفدعة وهي ترتجف ذعرا ً:
ـ اغطسوا .... اغطسوا ...
  بدأ الجميع يغطسون ...، عدا النمر. فقال للغراب:
ـ ومن حرضهم على هذا التمرد ...؟
ـ أنا!
ـ أنت ...؟
ـ لست أنا تماما ً.....، ولكنني أخبرتهم بنوايا البرغوث والجراد والحشرات والقوارض والبرمائيات ...، فصرخوا: إلى الموت... إلى الموت! فأنت تعرف لم يعد لديهم ما يتشبثوا به غير الخلاص من هذه الحياة الوضيعة! مع إنهم كانوا يصرخون: إلى النصر.. إلى النصر!
ـ وعلى من ينتصرون...؟
ـ على المستنقع!
ـ اسمع يا غراب، أيها الشاهد  على أقدم فعل من أفعال الإثم، لقد أصبحت محرضا ً...، فأنت شريك في الفعل، وأنا سأخبر سعادة السيد المدير بأمرك؟
ضحك الغراب حتى سقط أرضا ً:
ـ هرب المدير...، يا سيدي!
ـ أين هرب...؟
ـ إلى الفردوس!
ـ وأين يقع هذا الفردوس ...؟
ـ  بعيدا ً عن هذا المستنقع.
ـ آ ...، دعنا نلحق بسعادته!
ـ سر أمامي...، وأنا سأتتبع خطاك...!
ـ أيها الغراب....، أنا اعرف انك سترسلني إلى المحرقة...؟
ـ سيدي، بدل أن تمضي حياتك في هذا المستنقع، فان النار ستمحو أثرك...، وتجعلك نسيا ً منسيا، فلا احد يعرف من كان السبب في زوال حديقتنا، ولا احد سينبش عن أسباب غيابها، وزوالها من هذا الوجود. فلا الجاني كسب شيئا ً يذكر، ولا المجني عليه لديه رغبة باستعادة ما فقده!
5/7/2016

الرسم يجعل رؤيتنا للحياة أكثر وضوحًا-*ماريا بوبوفا / ترجمة : آماليا داود



الرسم يجعل رؤيتنا للحياة أكثر وضوحًا

*ماريا بوبوفا / ترجمة : آماليا داود


خاص ثقافات

" فقط عندما ننظر بعين الحب نرى ما يراه الرسام " كتبت هذا هنري ميلر عام 1967 في جوهرته المنسية "ان ترسم يعني أن تحب مجدداً " .
الرسم بالفعل يحول الممر السري بين العقل و القلب إلى طريق ذي اتجاهين _ بينما نحن مبرمجون على إغفال غالبية ما يدور حولنا ، أن نتعلم الرسم هو إعادة برمجتنا على رؤية العالم بشكل مختلف ، بشكل حميمي أكثر عن طريق التواجد فيه و الاعتزاز بتفاصيله التي كانت خفيّة سابقاً.

و ربما لهذا تُعلم الفنانة ليندا باري فن القص البصري على أنه فن مجزٍ بلا حدود "لجعلنا موجودين و رؤية الموجود".

قبل قرن من ميلر و قرن و نصف من باري ، قام الناقد و المفكر جون روسكين بفحص فلسفة الكيفية التي يساعدنا فيها الرسم على رؤية العالم بشكل غني ، كتبها روسكين عندما كان عمره تسعة عشر عاماً مقالة بعنوان " عن الكرامة النسبية لدراسات الموسيقى و الرسم ، و المنافع المستمدة من ممارستها " ، و موجودة في كتاب " أعمال جون روسكين " الجزء الأول .

إنه تأمل جميل لثلاثة أسباب مناسبة لوقتنا هذا ، هذا العصر الذي استسلمنا فيه إلى " نزعة الاستهلاك الجمالي" للتصوير الفوتوغرافي ، وتغير رؤيتنا إلى هذا العالم حيث أصبحنا ننظر إليه من خلال كاميرات الهواتف النقالة التي نصور بها أنفسنا بدلاً من الطبيعية اللانهائية و نغفل عن الافتتان بها ، و الرسم اليوم هو استعادة الكرامة و الفرح الخاص .

كتبَ روسكين : 
دع شخصان يخرجان في نزهة : الأول رسام جيد ، و الثاني لا علاقة له بالرسم . دعهما يمشيان في ممر أخضر . وسوف يكون هناك اختلاف كبير في المشهد من وجهة نظرهما . فالثاني سوف يرى الممر و الأشجار ،وسوف يميز الأشجار باللون الأخضر ، و مع ذلك لن يفكر بشيء تجاهها ، سوف يرى شروق الشمس ، وأن شروقها له تأثير مبهج ، لكن الأشجار تظلل الممر و تجعله بارداً ، و سوف يرى امرأة عجوز ترتدي عباءة حمراء ، وهذا كل ما يراه !

لكن ماذا يرى الرسام ؟ فعيناه معتادتان على البحث عن سبب الجمال ، واختراق أدق تفاصيل هذا السحر. ينظر لأعلى ، ويلتقط كيف تنقسم أشعة الشمس بالرذاذ على الأوراق اللامعة من فوقه ، وحتى يمتلئ الهواء بضوء زمردي ، والنباتات تتراقص في المنطقة الخضراء ، والخطوط اللامعة التي تسقط على مجموعة من أوراق الشجر والتي تبرز مشرقة وجميلة في الظلام، وظلال خجولة لشجرة بعيدة ، حيث يلمع الضوء الأبيض مرة أخرى من الخلف ، وكأنه تساقط للشهب ، وتظهر بعض الأغصان هنا وهناك بين المجموعة الكبيرة من الأوراق ، بمئات الألوان المتعددة . 
(....) 
ألا يستحق هذا المشاهدة ؟ ومع ذلك إذا لم تكن رساماً سوف تمر على هذه المساحة الخضراء ،وترجع لبيتك مجدداً ،ولن تجد ما تفكر فيه أو تقوله عن هذا المشهد ،عدا أنك مررت به .
لا يمنحنا الرسم وجودا أكثر حميمة مع العالم فقط بل دعوة لا تقاوم لرواية القصص ، فامرأة في عباءة حمراء ستكون بالنسبة لغير الرسام مجرد عابرة غريبة ، أما الرسام سوف ينسج عنها" كمية كبيرة من التكهنات " كما يقول روسكين ،ويسعى الرسام إلى وضعها بشكل صحيح في سياق المشهد ، ويلعب دائماً بالقصص المختلفة الممكنة عن هويتها ، وكيف انتهى بها الأمر هنا، وهذا هو الدافع للتخمين الإبداعي ، ويؤكد روسكين هذا هو صميم ما يجعل الفنان يرى العالم بشكل مختلف : 
من حالة عديمة الأهمية : طير على الدرابزين ، جسر خشبي فوق جدول ، فرع مكسور، طفل يلبس مريلة ، أو حوذي يلبس عباءة ، يستخلص الفنان التسلية والتطوير والتكهنات . في كل شيء هو نفس الشيء ، حيث ترى العين العادية سحابة بيضاء ، الفنان يلاحظ التدرج بين الضوء و الظل ، واختلاط الألوان : الأحمر والأرجواني والرمادي والذهبي والأبيض ،المحيط الرشيق الشكل ،وليونة الظلال على الأطراف الذائبة ، وسطوع دون لمعان ، وشفافية دون اختفاء ، واعتدال جميل للسماء العميقة التي تطل وسط السحابة الثلجية بعينيها الزرقاوين الناعمتين ، في الحقيقة متعة الرسام في التأمل بالطبيعة هي أيضاً غامضة ، وبالنسبة لشخص ما ليس لديه حس الرسم إذا وهبته الذوق والطاقة ، سوف يشعر بالنظر إلى الطبيعة تقريباً مثل الرجل الأعمى الذي أبصر لتوه. 

المصدر brainpickings


التاريخ : 2016/07/12 05:26:37



الخميس، 14 يوليو 2016

أدب خارج شروط اللغة-*د. آمنة بلعلي


أدب خارج شروط اللغة

*د. آمنة بلعلي
مع تسارع أثر الوسائط التفاعلية التي أسفرت عنها وسائل الإعلام والاتّصال الجديدة، خاصّة الإنترنت، ظهر تصوُّر جديد يسمّى التصوُّر الرقمي أو الإلكتروني، الذي يجعل من النصّ مجموعة من الشذرات التي تربط بينها محدّدات رقمية هي ما عرف بـ«الروابط»، وذلك من أجل خلق تفاعل بين النصّ والوسائط وتسهيل التنقُّل بين ثنايا النص، وتوجيه القارئ للتفاعل مع النص بواسطتها، وكان ذلك بتأثير من تحوُّلات الكتابة الرقمية عند الغرب، منذ بداية ستينيات القرن الماضي، والتي تحقَّقت، بصورة واضحة، في تسعينيات القرن الماضي. فاقترحت مفاهيم ومصطلحات جديدة تجاوزت المصطلحات التي روّجت لها الدراسات النصّية مثل النصّ، والتناصّ، والبنية، إلى مصطلحات مركّبة تجمع بين النصّ والوسيط، كالنصّ المتفرّع HYPERTEXTE، وقد تُرجِم بـ«المفرَّع، والمتشعّب والمترابط، والشبكي»، ثم شاعت صيغ أخرى تعبِّر عن علاقة الأدب بالوسيط الإلكتروني كالأدب الإلكتروني والأدب التفاعلي والأدب الرقمي وغيرها. وقد سعى سعيد يقطين إلى شرح مفهوم النصّ المترابط الذي خلق إمكانيات متعدِّدة للقراءة التي يتفاعل القارئ فيها مع النصّ بفضل الروابط، ويعدّه نمطاً جديداً قائماً على الانفتاح(1). ونشهد، اليوم، مع الكَمّ القليل الذي كُتِب حول هذا النمط الجديد ومع التفاعل المحدود من الأدباء معه، مجموعة كبيرة من المصطلحات التي يُرَوَّج لها في الثقافة النقدية العربية، والتي توثِّق العلاقة مع التقنية أكثر من الأدب، من قبيل: الأدب الافتراضي، والأدب الإلكتروني والرقمي، والأدب التوليفي، والأدب التوليدي، والأدب الفرجوي، وغير ذلك.

إن هذا النمط الجديد من الأدب يفرض شروطاً خارج شروط اللغة التي تُعَدّ المكوِّن الأساس للأدب، وعوض التّعامل مع اللغة أصبح التعامل مع الوسيط الإلكتروني، وعوض امتلاك القدرة على التشكيل غير المألوف للغة وعقد علاقات غير طبيعية بين الكلمات لإنشاء صور، وإحداث إيقاع أصبح هناك شرط امتلاك القدرة على الإلمام ببرامج معيّنة ومهارة الإبحار في الشبكة، أو الاستعانة بمن يملك هذه المهارة من مهندسي الإعلام الآلي، وقد عُبِّر عن هذه الحالة بـ«التفاعل» الذي وُصِف به هذا النوع من الأدب، كما أصبح صفة لقارئ هذا الأدب.

والذي يهمّنا هنا هو: هل جاءت العلاقة بالرقمية بنمط جديد في الكتابة، فخلقت بلاغة جديدة نستطيع من خلالها أن نتحدّث عن جنس أدبي جديد؟

لقد طُرِح هذا السؤال في النقد الغربي في البدايات الأولى من هذا التلاقي، وعلى الرغم من أنهم كانوا يبشّرون ببلاغة جديدة،إلا أننا نجدهم لم يتمكّنوا من تبيّن هذه الجِدّة إلا فيما تتميّز به الكتابة من روابط وطريقة بنائها، وتصبح القضية- ببساطة- حديثاً عن تفاعل وعلاقات بين روابط، مقابل تفاعل بين عناصر النصّ الواحد أو النصوص الأخرى، مثلما دعت إليه البنيوية والتناصّية، لكننا نجدهم، فيما بعد، ومع نهاية الثمانينات يضعون القيمة الجمالية والتخييل محلّ اهتماماتهم في معاينة تطوّر العلاقة بين الأدب والوسائط الرقمية.

ولقد تلقّى النقّاد العرب هذا التحوّل الغربي في علاقة الأدب مع التقنية تلقّيهم للفتح العظيم، فربطوا هذا الانخراط بالتحديث وبِرِهانات الثقافة وبالمستقبل؛ حيث ذهب سعيد يقطين، مثلاً، إلى المقارنة بين معرفة التقنية الحديثة، ومعرفة بَرّاية القلم عند العرب القدامى بوصفها وسيلة تقنية من أجل كتابة جيدة، ومن ثمة، فالكاتب المعاصر ليس بمقدوره مساير التطوُّر التكنولوجي وكتابة نصّ جيّد إلا بتعلُّم التقنية لأن «عدم معرفة وظائف الحزمة المكتبية، وكيفية صناعة الروابط من خلالها، أو من خلال غيرها من البرمجيات الخاصة، أو كيفية استخدام برنامج خاصّ بالكتابة الرقمية، لا يمكن أبداً أن يجعلنا قادرين، كتّاباً وقرّاء، على كتابة النص الرقمي وتلقّيه»(2)؛ وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على المتلقّي لكي لا يبقى مجرّد متلقٍّ تقليدي يبحث، فقط، عن المعلومة، وكان سعيد يقطين قد ربط مستقبل الثقافة العربية كلّها بالنصّ الرقمي، في كتابه الأول «النص المترابط والثقافة العربية». 

واضح من هذا الموقف أنه تَمّ ربط المعلوماتية والرقمنة بالتحديث، فبالرقمنة يتجدّد فكرنا، هذا في الوقت الذي يحذّر فيه الغرب، اليوم، من الدور الذي لعبته هذه التقنية في تشيئ الإنسان وجعله غير قادر على الإبداع الحقيقي؛ حيث عطّلت قدراته الذهنية والعضوية.

إن الوعي الإبداعي والوعي النقدي لا يمكن أن يكونا رقمَّيين، لأن التقنية تشكِّل جزءاً بسيطاً من الوعي، فسوء التدبير السياسي، والتزمُّت الديني، والتعصُّب للرأي ليسوا من آثار عدم الوعي بالتقنية، وإلا كيف نفسِّر العطاءات الإبداعية وبلوغ التفكير أرقى درجاته في مراحل معيَّنة من الحضارة الإسلامية!؟ وتبقى المناظرة الإسلامية أرقى ما يمكن أن يصل إليه التفاعل الإيجابي في التفكير الذي كان سمة أساسية من سمات الحضارة الإسلامية. 

لعلّ ما يمكن أن يلاحَظ في تلقّي هذا النوع من الأدب الذي لا يزال مجال إبداعه ضئيلاً، على الرغم من الكَمّ الهائل من الكتب التي أُلِّفت حوله، هو التعامل الرومانسي معه على حساب الأدب الورقي، ويتجلّى ذلك من خلال ربط التطور الفكري بمزيد من الاندماج في الافتراضية التي يفرضها الإبحار الإلكتروني، وجعله سؤالاً مهمّاً من أسئلة الثقافة العربية، وربط الحداثة في الأدب به، إلى حَدّ أن البعض لا يتورّع في وسمه بـ(جنس جديد)، أو حتى (مدرسة جديدة).

صحيح أن الأدب يساير علاقة المبدع والمتلقّي مع متطلّبات التطوّر الحضاري للمجتمع، ويعبّر عن تحوُّل هذه العلاقة، ولكن، هل عبّر الأدب الرقمي ذاته على حالة جديدة، ومنطق جديد في التفكير عند الغرب، أم أنه كان مجرَّد تجلٍّ من تجلّيات التطوّر الفكري للفرد الأوروبي؟ ثم، كيف نفسِّر اعتراض المفكّرين والنقّاد في الغرب أنفسهم، على إمكانية إعطاء هذا الدور للتكنولوجيا على حساب الفرد والإبداع؟ فنراهم يحذّرون من الأخطار التي أحدثتها التكنولوجيات الجديدة في الفرد والمجتمع، وخاصّة أن هذا النوع من الممارسة الإبداعية لم تحقّق ما به يشكّل ظاهرة طاغية، فمازال الغرب ينتج الكتب الورقية، وما زالوا يقروّن بأهمّية الكتاب الورقي، الذي أصبح ضرورة في الوقت الراهن. 

يبدو أن سؤال التقنية في الأدب أصبح سؤالاً مركزياً في الحداثة الشعرية العربية المعاصرة، غير أن هناك من يستبصر رؤية مستقبلية أخرى، تطرح سؤال التقنية على المحكّ، جنباً إلى جنب مع سؤال الإبداع والإضافة والمشاركة في الفعل الثقافي العالمي والحقّ في الاختلاف، مثلما ذهب إليه المفكِّر طه عبد الرحمن، وفي الاتّجاه نفسه نجد محمد أسليم يرى أن مفهوم الإبداع الرقمي بالطريقة التي فُهِم بها سيؤدّي بالأدب إلى الانقراض، ليفسح المجال لشكل من اللعب التفاعلي بين الإنسان والآلة، تزول فيه الحدود بين الإبداع والتلقّي، أو الكتابة والقراءة، بل سيختفي هذان النشاطان مفهوماً واصطلاحاً، وتنشأ منظومة من المفاهيم والمصطلحات التي تعبّر عن تجربة أخرى يفنى فيها مفهوما الكتابة والقراءة(3)، وسواء أعَبَّر هذا الرأي عن نظرة تفاؤلية أم عبَّر عن نظرة تشاؤمية، فإن ما أشار إليه محمد أسليم، ينبّهنا إلى عدم قدرتنا على امتلاك رؤية لما سوف يكون عليه الأدب الرقمي، وأننا لن نشهد سوى انقراضه، ونتلمّس أبعاد هذه النظرة عند الذين نظَّروا وللأدب الرقمي ومارسوه. 

ساد الاعتقاد بأن حداثة هذا الأدب ترتبط بالموضوع الرقمي، وهم يعيدون مفهوم الأدب إلى الثنائية التقليدية التي كانت تنتصر إلى المضمون، وتجعل منه معياراً للتحديث، مثلما جاء في ما اصْطََلح عليه محمد سناجلة بـ«الرواية الرقمية الواقعية»، حيث يسحب مفهوم الواقعية إلى العالم الافتراضي الرقمي، وتصبح الرواية نوعاً جديداً؛ لأن مضمونها حديث على الواقع الافتراضي، كما يصبح معيار الجِدّة في الرواية الرقمية، هو التأكيد على «أن الرقمية والعوالم الافتراضية هي بصدد الحلول- حرفياً- محلّ الواقع بكافّة قطاعاته وأنشطته بما يقتضي التعامل معها بوصفها واقعاً، أي أمراً ملموساً وموجوداً، يمكن أن يجلب الفرح للمرء ويسعده ويكافئه، مثلما يمكن أن يجلب له الشقاء والبؤس»(4). وسواء أقَصَد محمد سناجلة التنظير أم لم يقصده، فإن ما يثيره هذا التعريف هو ربط هذا الشكل الجديد بموضوع العالم الافتراضي، فيما يذهب البعض إلى ربطه بالوسيط الإلكتروني بوصفه حاملاً، ونجده عند الذين تستهويهم فكرة التفاعل ربطه بدور الروابط في إحداث التفاعل بين القارئ والنصّ الرقمي، مثلما تذهب إلى ذلك فاطمة البريكي في كتابها «الأدب التفاعلي»، أو زهور كرام في «الأدب الرقمي». غير أن الأمر بالنسبة للشعر الرقمي مختلف عند الشاعر مشتاق معن، الذي يبدو أنه لم يستسغ اصطلاح الواقعية الرقمية، فقال بـ«المجازية الرقمية»(5)، وكأنه يؤكِّد على أن موضوع الشعر الرقمي ليس هو الواقع الافتراضي، ولذلك نلاحظ أن قصيدته الرقمية لا تكاد تختلف، في نصّها اللغوي، عن الشعر الحداثي الذي يكتبه بعض الشعراء الحداثيين الذين يوظِّفون التناصّ كاستراتيجية تجسّد رؤية مجازية للواقع العربي كما تجلَّت له في 2007.

إن مطالبة القارئ أن ينخرط في التفاعلية مع المبدع، تفرض عليه أن يصرف اهتمامه إلى التقنية على حساب النص، وإن المشاركة التي يتحدّثون عنها هي مشاركة شكلية وافتراضية لا غير، ما دامت مجرّد اختيارات للقارئ في تعديل البرمجة وتغيير مواقع النوافذ؛ أي إنه بإمكان القارئ الدخول إلى ملفّات البرمجة والعرض الموجودة في قاعدة بيانات النصّ، وإحداث ما يشاء من إعادة لتشكيل البرمجة بما يتواءم مع ذوقه، دون المساس بالمتن الرئيس للنصّ.(6)

ذلك هو هاجس سؤال التقنية الذي يثيره الحديث عن الأدب الرقمي في الثقافة العربية المعاصرة، سواء ما تعلَّق بالرواية الرقمية، أو ما ارتبط، خاصةً، بالشعر الرقمي، بالإضافة إلى ما ينبغي أن يكون عليه دور هذه التقنية في تحديث القصيدة العربية، وهل تكتسب القصيدة بهذه التقنية بلاغة جديدة؟ وما علاقتها بالتقاليد البلاغية لتحوّلات الشعر العربي، ودور هذا الشعر في عملية التواصل؟ وكيف تسهم في جعل النصّ الشعري يمتدّ إلى وعي القارئ العربي وإلى لاوعيه وإلى تاريخه الشعري الذي شكّل جزءاً كبيراً من مخيّلته، بخلاف الرواية التي هي جنس طارئ في الثقافة العربية؟ وهل يكشف هذا النوع من الشعر عن تغيُّر في مفهوم الشعر ووظيفته وأدواته، أم أن الأمر متعلِّق بحامل مادّي لا غير.



هوامش:

1 - يراجَع سعيد يقطين، «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية (نحو كتابة عربية رقمية)» المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء، ط1، المغرب 2008، ص 59 - 61.

2 - سعيد يقطين، «علينا اتخاذ الوعي الرقمي نقطة تحوُّل في فهمنا للثقافة والسياسة». حاوره: محمد صبح، المرجع السابق.

3 - محمد أسليم، «نظرية الرواية الواقعية الرقمية»، موقع محمد أسليم.

style="text-align: justify;">


style="text-align: justify;">


تونكي دراخت:ولدت لأروي قصص أطفال خرافية-فاتن صبح


تونكي دراخت:ولدت لأروي قصص أطفال خرافية

فاتن صبح

«الذاكرة هي المَعين الأول الذي يغرف من خيره الفنان. لا توجد ذكريات من دون ذاكرة، بغياب الذكريات نحن لا أحد، مجرد نكرة». هكذا تلخص كاتبة قصص الأطفال الهولندية تونكي دراخت تجربتها لصحيفة «غارديان» البريطانية من على حافة سريرها في مأوى لاهاي، حيث تلفها بطانية كطائر ضعيف.

تتنقل دراخت بين الهولندية والإنجليزية قبل أن تغدو مرهقة من الاهتمام الإعلامي بها، وتعتبر أنه يوجد دوماً مكان خلف الأبواب الموصدة، على المقلب الآخر، وطالما أن الباب موصد، فلن نتمكن من معرفة ماذا يوجد خلفه. أما عن المصدر الذي تستقي منه رواياتها فتشير إلى المقلب الآخر من الباب.

كُسرت اللعنة أخيراً، لتصل إبداعات تونكي دراخت القصصية الطفولية، بعد 52 عاماً إلى بريطانيا. وهو حدث غمرت فرحة حدوثه تغضنات وجه دراخت الذي تحمل تجاعيدها علامات سنّيها الأربعة والثمانين، فتبتسم برضا الناضج وفرح الطفل، وتقول: " أجل، أنا راضية، راضية بالفعل."

وأخيراً تم الأمر، وربما تسلك بقية القصص الطريق ذاتها، من يعلم؟ يسعني أن أحلم، أليس كذلك؟ ينبغي أن أبقي عقلي منشغلاً قليلاً علّي بذلك أنسى وهن جسدي. إنه دوماً أمر جيد أن يكون لديك ما تتطلع إليه».

تعترف تونكي دراخت بفضل تلامذتها «المتعِبين والثرثارين» على حد قولها، في إقدامها على سبر غور الكتابة في لاهاي خلال خمسينيات القرن الفائت، وتصف بداياتها بالقول، إنها اكتشفت أنها تملك المقدرة على جعل طلابها يصمتون لحظة تبدأ بالقص على مسامعهم رواية كانت تخترع أحداثها تاركةً لمخيلتهم رسم صورها وتلوينها. وتبتسم وهي تقول: «وكانت تلك بداية مسيرتي المهنية ككاتبة قصص أطفال».

وتتابع دراخت مسلسل ذكريات فترة التعليم : «بدأت ذات مرة أخبر الأولاد قصة صبي فتح الباب لدى سماعه طرقات خفيفة وطلب استغاثة موجوع. اخترعت اسم البطل وجعلت في يده رسالة يسلمها، بلا أن تكون لدي أدنى فكرة عن محتواها أو كيف سينتهي بها الأمر. كان ذلك في آخر يوم من الفصل الدراسي، وكان الطلاب يصغون بأفواه مفتوحة انشداهاً، ثم جاءت العطلة الصيفية، وبدأت أستفيض بتفاصيل رواية ولدت باسم (رسالة إلى الملك)».

محاولات وبدايات

انطلقت دراخت  في عالم الكتابة قبل ذلك بكثير، حيث تقول: « اكتشفت أنه بإمكاني كتابة القصص في معسكر الاعتقال، حيث كنت أكتب القصص لأصدقائي، القصص المليئة بالأبطال من السجناء الذين تمكنوا من الهرب. وكانت تلك المرة الأولى التي أخط فيها قصصاً خاصة بي. لم يكن من كتب هناك، فحاولت أيضاً الرسم في الرمال وعلى الجدران.. لم يكن هناك من أوراق».

قبعت دراخت وأختاها ووالدتهم في معسكر يضم عشرة آلاف شخص من النساء والأطفال، في حين كان الوالد معتقلاً كأسير حرب في معسكر آخر، وقد عثر عليهم بعد إحلال الهدنة مستعيناً بالصليب الأحمر. وتذكرت دراخت تلك الفترة قائلةً: « لم نكن نعرف خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب ما إذا كان والدي حياً أو ميتاً.

كان يتعين على جميع أصحاب البشرة البيضاء البقاء في المعتقل باعتبارهم العدو. وكان الوضع داخل المعتقل أكثر أماناً من الخارج، وعلى الرغم من أنه لم يكن يوجد ما يكفي من الطعام هناك، وكنت أشعر بالجوع الشديد، لكن الجوع كان منتشر أينما كان».

وتقول: لم تكن الفانتازيا تدخل في حساباتهم لأنها كانت تعتبر نوعاً من الكتب المجنونة الحافلة بالفرسان المعتوهين أصحاب الأسماء الغريبة».


لطالما كانت دراخت معجبةً كثيراً بالتقليد الإنجليزي لأدب الفانتازيا، إلى درجة أنها حين قرأت كتاب «سيد الخواتم» للمؤلف تولكيين لم تتمكن من الكتابة لمدة ستة أشهر كاملة، مخافة أن يتأثر أسلوبها بكتاباته. وقالت: « حاولت مرةً أن أكتب قصةً واقعية جداً.. فبدأت أروي حكاية صف مدرسي ينتقل طلابه في حافلة إلى مكان ما، ثم ما لبث هؤلاء مع انتهاء الفصل الثاني من الحكاية أن بدؤوا بالطيران، تلك هي الطريقة التي يعمل فيها دماغي! أن راوية قصص خرافية.» وأضافت بحزم واضح: « هكذا ولدت ولا أستطيع فعل شيء حيال ذلك».

تشعر دراخت، التي لا تزال تتلقى من الأولاد رسائل ممهورة باسم بطلي روايتها تيوري وبياك بالتواضع إزاء الجاذبية المستدامة لروايتها وتتساءل قائلة: «هذا جنون، فالرواية قديمة جداً في عدد من جوانبها، فهي لا تتقيد بزمان أو مكان، وتنتمي إلى عالم الفانتازيا العائدة للعصور الوسطى. إنها نوع من القصة البدائية البسيطة جداً».

«رسالة إلى الملك».. إحساس عميق في عالم خيالي

أدرك آدم فرويدنهايم، صاحب دار نشر بوشكين المتخصصة بقصص الأطفال المترجمة، أن بحوزته مقتنى ثميناً، حين «تسلل ابني ماكس إلى غرفة نومي وسرق الصفحات المئة والخمسين الأخيرة من رواية (رسالة إلى الملك) ليكملها بنفسه».

كيف لا، والرواية حصدت ثناء أبرز المرجعيات النقدية. فوصفتها كل من «تايمز» و«صنداي تايمز» البريطانيتين بـ«المبهرة الاستثنائية» و«رواية لا تمل من قلب أوراقها». في حين وصفتها صحيفة «مترو» البريطانية بأنها «ملحمة تدق لها القلوب وينتشي مدمنو الفانتازيا بقراءتها من الصفحة الأولى».

تطبع أعمال دراخت سمة الثنائية الطاغية، المتولدة أحياناً من المزج بين عوالم مختلفة، وتزاوج مشهديات قائمة على المقارنات، فيخيل للقارئ أنه أمام مرايا عاكسة للأحداث، تؤكد أن أكثر من شخص واحد يعيش في كل كائن بشري من شخصيات دراخت.

كثيراً ما تستعين دراخت بعناصر من الأساطير والخرافات، وترتكز رواياتها بشكل أساسي على بطل، أو بضعة أبطال ذكور غالباً ما يكونون في سن المراهقة، فيمضون في رحلات بحث شخصية، ويخوضون مغامرات استكشافية تعلل كينونتها عناصر تتجسد بوجود الرسالة مثلاً في رواية «رسالة إلى الملك»، وتودي بهم في نهاية المطاف إلى الغوص في أعماق شخصيتهم وأبعادها ومكنوناتها.

تتعمّد رواية «رسالة إلى الملك» بإحساس إيماني عميق على الرغم من أن ميدان أحداثها يتوزع بين ثلاث ممالك تنتمي إلى عالم الإقطاع الخيالي..

وتتسم مملكتان من الثلاث، بالجمال والمثالية والتنظيم، خلافاً للمملكة الثالثة، التي تهدد سلام وأمان الأخيرتين. أما بطل الرواية، فمراهق في السادسة عشرة من العمر يدعى تيوري، ويميل إلى التفكير بأن رحلته المنتظرة تتخذ طابع الحج، فينطلق في مغامرته الاستكشافية أعزل.. مفلساً، بملابس رثة وغياب حصان يمتطيه.

صور ومعبد

تعرض المشاهد الأولى من الرواية صورةً من قلب معبد يضج بالصلوات، ويحتم على تيوري الانتظار فيه صائماً بانتظار ترسيمه فارساً في صباح اليوم التالي. لكن ماذا عسى المراهق أن يفعل حين يدق رجل غامض الباب مستغيثاً به في «مسألة حياة أو موت»؟ يقبل تيوري متردداً مهمة تسليم رسالة إلى الفارس الأسود صاحب الدرع الأبيض. وبما أن مضمون الرسالة فائق الأهمية ولأن الشاب قادر على تنفيذ المهمة قبل بزوغ الفجر والعودة لشرح موقفه، فهو يقبل بالذهاب.

توليف وجماليات
تسير توليفة الرواية بجمالية تتنقل بين الفقرات المستمدة إلهامها من حكايات الخيال وميثولوجيا الملك آرثر. ويلاحق تيوري عدداً من الشائعات، ويتعرض للاعتقال أكثر من مرة. حتمية إخفاء الرسالة عن أي مخلوق أبرز ما يطبع مسعى تيوري ربما، وتلعب على الرواية على وتر دفع «الأحداث» للتفاعل مع مجريات عالم الراشدين، بما يجعل القارئ يتحرق لمعرفة أشياء بغاية الأهمية، فيما نموه الذاتي محدود بمحدودية إدراكه للأمور.

خطر وتعويذات
تزخر مغامرة تيوري في «رسالة إلى الملك» بملامح آسرة مبهجة وصادقة، وتستكمل في رواية أخرى لدراخت حملت عنوان «أسرار الغابة»، حيث تتوالى فصول رواية السير تيوري وصديقه بياك تنفيذاً لمهمة خطيرة أخرى، حيث كبر المراهق وأصبح رجلاً ووقع في الحب.

تحكي التتمة المنصوصة بقلم دراخت وروحها قصة البطل تيوري المنطلق مع رفيقه بياك إلى قلب أكثر الغابات رعباً، حيث يرافقه الخطر في كل خطوة..فيواجه أقسى الاختبارات بحثاً عن فارس مفقود في عالم مظلم. وتيوري المراهق مهيأ ليكون هاري بوتر المقبل، حيث العمل جار على تحويل القصة لعمل تلفزيوني ضخم نقلت روايته إلى الإنجليزية المترجمة لورا واتكينسون.

شذرات
ولدت تونكي دراخت عام 1930، في مستعمرة الهند الشرقية الهولندية، مدينة جاكارتا الإندونيسية. وهي الابنة البكر لموظف حكومي هولندي. اعتقلت دراخت عام 1942 لثلاث سنوات بمعسكر ياباني لأسرى الحرب. وعادت إلى هولندا نهائياً وهي في عمر الـ 18، حيث درست في الكلية الملكية للفنون، وأصبحت رسامة ومعلمة. اكتسبت شهرتها ككاتبة هولندية شابة عام 1962 مع صدور روايتها «رسالة إلى الملك». وفازت عنها بجائزة القلم الذهبي لأفضل كاتبة شابة للعام.
------
البيان


التاريخ : 2015/10/09 01:19:36

الأحد، 10 يوليو 2016

جفاف وقصص قصيرة أخرى- عادل كامل

جفاف وقصص قصيرة أخرى




    [ عندما تصبح الفوضى قدرا ً، والظلم حد الجور عدالة، يكون قهر عوامل القهر جهدا ً ضائعا ً، وعندما تصبح اللا شرعية ممرا ً للاحتفالات، فان العمل على إغراق السفينة يكون واجبا ً، بل واجبا ً مقدسا ً! وعندما يصبح العفن مقياسا ً، فلا موقع للعطر، في الهواء، وعندما  يصبح الأعمى علامة للطريق، يكون واجبا ً أن تفقأ عيون المبصرين، وعندما يصبح الأحمق رمزا ً للنبوغ، والكرامات، فان أصحاب العقول السليمة، يستحقون الجلد، بل والسجن، وعندما يصبح الأعرج معلما ً للرقص، والأعور حارسا ً للمرمى، واللص أمينا لبيت المال، والفاسد علامة للنبل، والمأبون قدوة....، تكون الهزيمة وحدها نصرا ً مؤزرا ،ً وأبديا ً، وكل من لا يوافق، لا يرسل إلا إلى المكان الذي لا عودة منه: الجحيم!]


عادل كامل

[1] جفاف
   بعد سنوات طويلة من الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة، وندرة المياه، انهمرت الأمطار غزيرة، حتى راحت السيول تجرف ما تصادفه، وهي تهدم البيوت، وتقتلع جذوع الأشجار وما تبقى من سيقانها، معها، في انحدارها نحو البحر.
   فضحك الحكيم، مع نفسه، وهو يردد:
ـ ثم سيحل الجفاف، مرة أخرى...!
فسأله جاره:
ـ ماذا تقصد؟
ـ ببساطة، اقصد: لماذا لم ننشأ، على مدى عقود، سدودا ً للحفاظ على هذه المياه...، أليس الماء هو سر وجودنا، وسر ديمومة الحياة؟
أجاب الآخر حالا ً:
ـ  وهل تريد أن تجفف مياه البحر، وتهلك كائناته الحية؟

 [2] مع الريح
    سألت البعوضة ذبابة كانت تجاورها في تأمل الاحتفال السنوي بالعام الجديد:
ـ متى ستستولين على السلطة، وتصبحين قدوة لنا؟
    ضحكت الذبابة:
ـ  وماذا  افعل بأكثر مما امتلك من نعيم، ومسرات، كي أصدع راسي بإدارة هذه المزبلة...؟
ـ آ ....، لكن لا احد يهتف بحياتك، ويدعوا لك بالأبدية، والخلود، والمجد...؟
ـ وما فائدة الهتاف الذي يأتي مع الريح، ولا يذهب إلا معها؟


[3] اختلاف
ـ أتعرف، أيها العزيز، ما الفارق بيني وبينك؟
رد الكبش:
ـ أنا أتخلف عنك بنسبة 99%..
ابتسم العامل المكلف بالمراقبة:
ـ إذا ً أنا أتقدم عليك بنسبة 1% فقط؟
   ضحك الكبش:
ـ  النسبة ثابتة، سيدي، فأنت مازلت تشبهنا، ونحن مازالتا نعمل كي لا ندع عقولنا تحث خطاها نحو عقولكم،  فإذا كنتم وضعتمونا داخل هذه الزرائب، والأسوار، والأقفاص، فانتم لستم طلقاء أبدا ً! لأننا، ببساطة، نراكم أسرى قوانين هذه الحديقة، ولا نرى الحديقة، إلا داخل قفص بلا جدران، وبلا حدود!
ـ ها أنت تفكر بنسبة 1% ...، أما أنا فلا أفكر إلا بنسبة 99%!
رد الكبش بعد لحظة صمت:
ـ  ولكن ماذا لو أجرينا جمعا ً للنسبتين؟
 ضحك العامل المكلف بالمراقبة:
ـ  لن تكون هناك حديقة!
ـ لا...!، لا يا سيدي،  بل ستتسع هذه الحديقة، ولكنها كلما اتسعت، لن تدعنا نرى إلا وقد أحكمت أسوارها علينا حد انك لا تعرف انك حيوان بنسبة 99%، ولا أنا اعرف أنني امتلك نسبة 1% من عقولكم الشريرة!


[4] شفافية
   بعد أن استمع إلى التقرير العلمي، عبر شاشة الحديقة، تمتم مع نفسه، وهو يفقد توازنه في العودة إلى مغارته:
ـ  أنا لا اعرف ما الجدوى من نشر الإحصائيات، والأرقام، والوثائق....؟
    رد الدب الذي سمعه يتكلم مع نفسه:
ـ  وما شأنك....، إن كان هناك 65 مليون نازح، مشرد، مهجر، وما ـ هو ـ شأنك إن كان  هناك 260 مليون أرملة في العالم ...، وما شأنك  أن 17 ألف طفل يموتون في كل يوم....، بينما لا تسأل لماذا وضعونا داخل هذه القضبان الحديدية، وهم ـ بلا حياء ـ يتحدثون عن الشفافية؟
حدق في عينيه مذعورا ً:
ـ وهناك أكثر من ملياري إنسان يعيشون تحت خط الفقر، مثل الدواب، والبهائم، والديدان...!
ـ أعرف ...، لكن ما شأني، وما ـ هو ـ شأنك، وقد قرروا  حمايتنا من الأعداء، ومنحونا ما يكفي من العلف..؟
   ابتعد، متمتما ً:
ـ  الآن عرفت كيف روضونا، وكيف رضخنا للأمر ...، حتى لم نعد نميز هل هذه الأقفاص وجدت لحمايتنا، أم كي يستمتعوا بمشاهدتنا، ونحن نرقص، فوق الحبال، مع القطط، ومع القردة، ومع الكلاب، داخل هذا السيرك؟



[5] سعادة
    سأل الكبش النعجة وهما يشاهدان الطائرات تقصف مدينة فترتفع أعمدة الدخان ..، ملونة، مثل قوس قزح:
ـ أتعرفين ما هو سر سعادتنا...؟
أجابت النعجة:
ـ اجل، اعرف!
ـ ما هو هذا السر..؟
ـ أنا امتلك قدرة تجاهل أن هناك 99% سببا ً للتعاسة، وإن هناك سببا ً واحدا ً للسعادة مازلت اجهله!
ـ يا حمارة، يا نعجتي الغالية، أنت سعيدة بنسبة 99%، والسبب الوحيد لشقائك انك سعيدة لأنك  لا تريدين معرفته!

[6] حرية
   اقترب الحمل من قفص الذئب وسأله:
ـ ما رأيك بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي؟
فكر قليلا ً، وأجاب الذئب:
ـ  مادمت لا استطيع مغادرة هذا القفص الذي حجزوني داخله...، فهل باستطاعتي أن اعرف كيف حصلت على حريتك،  التي لا تعنيني شيئا ً!


[7] محرمات
ـ اغرب ما في هذا الوجود...، إن الذين يتمتعون بالسعادة، هم أكثرهم إدراكا ً بتعاسات الآخرين!
ـ آ .....، لكن الأغرب من هذا، في هذا الوجود نفسه، أن التعساء، الأذلاء، والممحوين وحدهم يبذلون كل ما بوسعهم للحفاظ على نظام السعادة!
ـ اسكت ...، فأنت تكاد تتجاوز المحرمات، والخطوط الحمراء!
ـ وهل هناك محرمات، أو خطوطا ً حمراء، أبقوها لنا كي نفكر بالاقتراب منها، أو مسها، حتى لو بطيف كلمة؟!


[8] شكر
ـ ماذا تقول للرب، لو استدعاك، بعد الموت؟
ـ سأقول له: شكرا ً، أيها الرب، انك أهلكتني، قبل أن  انجح بمعرفة سر خطتك بخلقي!

[9] السبب
ـ أراك تغرد، أيها البلبل، والموت يزحف للقضاء علينا جميعا ً؟
ـ لم يبق لدي ّ إلا السبب الوحيد الذي اجهله، يجعلني أغرد، فان لم افعل، فقد اعرفه  فازداد طربا ً حد الموت!

[10] حكمة
ـ هل حقا ً تلتقط حكمتك من أفواه المجانين؟
ـ آ ....، كلا، بل انأ استمدها من هؤلاء  العقلاء الذين سلبوا عقولنا منا!

[11] حرية
ـ ماذا تفعل لو أطلقنا سراحك من هذا السجن؟
ـ لا تسخر مني، يا سعادة المحقق، وكأن الحرية توزع مجانا ً، أو تمنح من غير ثمن؟
ـ نعم، انك ستدفع حياتك ثمنا ً لها!
ـ سيدي، أنا لم أر في حياتي إلا القليل من الحرية...، وهذا القليل هو الذي قادني إلى هذا السجن، فدعني احلم بها، بدل أن ترسلني إلى العالم الذي لا عودة منهً.!


[12] علف
ـ لِم َ أعلنت الإضراب عن الطعام، وأنت تعرف إننا أعطيناكم علفا ً يكفي لسنوات؟
ـ أنا لم اضرب عن الطعام، لكن لم يعد لدي عمل اعمله سوى اجترار العلف...، فقلت: بدل أن أموت متخما ً،  لعل الجوع يسمح لعقلي بالعثور على درب للخروج من هذه المحنة!
ـ وهل نحن في محنة؟ وأنت ترى الجميع أكثر انشغالا ً بالحصول على حصص مضاعفة من العلف؟
ـ ألا ترى أن هذه الخطة، أيها الحمار، لا تدعنا نرى إلا الدرب نفسه...، وإن الخروج عليه، يتطلب خطة أخرى...؟
ـ وهل سنعثر عليها بعد الموت،  بعد أن تكون أضعتها وأنت على قيد الحياة؟
ـ سيدي، لا التخمة تسمح لي بالعثور على جواب، ولا الجوع يسمح لي بالذهاب ابعد منه! فلكل منهما باب يفضي على الآخر، ولكنهما لا يلتقيان أبدا ً!


[13] الجاني
   عاد الثعلب المكلف بالتحقيق، يعيد النظر في لغز اختفاء أشبال السبع، من الحديقة، ليجد إنها ـ الأسباب ـ لا تقود إلا إلى السبع نفسه، لكنه تراجع ونفي أن يكون السبع ظالما ً حتى ضد نفسه!
   اقتربت اللبوة من الثعلب وسألته:
ـ  أراك مترددا ً...؟
ـ سيدتي، وهل يسمح الخوف لعقلي أن يعمل؟
قالت اللبوة بمرح:
ـ ها أنا عدت من عرين السبع توا ً...
ـ مبروك! لأننا الآن بانتظار الحمل، والولادة...، فما الجدوى بالبحث عن قضية أصبحت من الماضي؟
   قالت اللبوة بحزن مكتوم:
ـ  وما أدراك إن الجريمة لن ترتكب، مرة ثانية؟
   حدق في عينيها مذعورا ً:
ـ  وأنا لن اضطر للقبول بالبحث عن الجاني!
فقالت اللبوة:
ـ ولكني، أيها المحقق، اعرفه!
اقترب منها، وهمس بصوت خفيض جدا ً:
ـ يبدو إن الخوف منحك شجاعة الاعتراف! ولكن من هو الجاني، بحق السماء، أيتها اللبوة...؟
ـ  وهل باستطاعتي أن أخبرك....، وأنت تعرفه، وقد خبأت الأمر علينا!


[14] خطة
ـ اخبرني...، بما تبقى لديك من ضمير...، هل تتطلب خطة المدير، مديرنا الأبدي،  في هذه الحديقة، أن يترك الطاعون يفتك بنا، بعد أن أهلكنا الخوف، وبعد أن مات صغارنا جوعا ً، وبعد أن هرب معظمنا، وبعد أن عم الفساد حد انك لم تعد ترى منفذا ً للخلاص، ولا جدوى من الشكوى، ولا فائدة من طلب الرحمة...؟
ـ أجل ...، فلو كنت، أيها المتشائم، أمينا على أداء الفرائض، والطاعة، لكنت أبعدت عنك هذه الأسئلة، وهذا الأسى..
ـ ولكني، سيدي، أديتها، كما لم يؤدها غيري، ولا المدير نفسه فعلها أيضا ً! ومع ذلك، ها أنت تراني أوشك على الموت جوعا ً، ومرضا ً، حتى لم اعد امتلك عقلي.
ـ آ ...، أيها الحزين، نعم، هناك خطة لدى مديرنا، مديرنا الأبدي، لكنها أعلى من أن تكون عالية...، وأنا غير مخول بالحديث عنها.
ـ وما ذنبي أنا..؟
ـ  ذنبك...، أيها الأحمق، انك خرجت من عفن هذه المستنقعات، وما عليك إلا أن ترتوي منها، من ثم، وأنت اعرف العارفين: إن من يولد في هذه المستنقعات لا يموت إلا فيها!
ـ حقا ً، إنها خطة بارعة، محكمة، درجة إنها لم تسمح لي إلا بتنفيذها، مع إنني كنت اعرف سبل الفرار منها!


[15] وباء
    بعد أن اكتسح الوباء الحديقة، ولم يترك إلا عددا ً قليلا ً من الناجين، شاهد احدهم جاره يفطس في الضحك، فسأله:
ـ  ما المضحك في الأمر، وقد عمت المصيبة علينا جميعا ً؟
ـ  أنا لا اضحك...، أنا ابكي!
ـ ولماذا تبكي...؟
ـ أنا لا ابكي ...، فانا لا اضحك!
ـ ما الذي يجعلك تتلعثم هكذا ولا تعرف ماذا تقول؟
ـ سيدي، لقد أدركت إن الحرية وحدها أكثر استحالة من الوهم!، والمصيبة التي أدركتها أن الوهم هو أيضا ً أكثر استحالة من الحرية!
ـ آ ...، ما الذي يدعوك للانشغال بهذه الأسئلة...، وأنت نجوت من الوباء؟
ـ صحيح، أنا نجوت...، ولكني لا اعرف ما المصير الذي ينتظر أولادي، وأحفادي؟
ـ وهل لديك أولاد نجوا من الوباء؟
ـ لا ...، ولكني أخشى أن أعاقب إن لم اعمل على إنجابهم!


[16] المحاكمة
   جرجرت بقسوة، وقادوها، عبر الممرات الخلفية، نحو المغارة. لم تظهر البقرة النحيلة، الضامرة، ألما ً، أو ذعرا ً، بل مكثت هادئة، ولا مبالية أيضا ً. حتى إنها عندما وضعت في القفص، هزت رأسها من غير سخرية. وعندما سألها الضبع ـ القاضي ـ  إذا ما كانت اختارت محاميا ً قالت إنها لم ترتكب ذنبا ً أو جريمة، أو إثما ً.
فسألها:
ـ  ألا يعد إضرابك، بحد ذاته، مخالفة بينة، يعاقب عليها القانون...؟
   فردت بصوت واثق:
ـ إنها ـ سيدي ـ حرية شخصية، والدستور ينص عليها.
فسألها الضبع:
ـ  هذا صحيح، ولكن، ألا يعد هذا تحريضا ً للأبقار، والنعاج، ولباقي إناث المزرعة،  للامتناع عن الحمل، بل ولكراهية الذكور...، والاستخفاف بإرادة الحياة؟!
ـ لا!
وأضافت بثقة وبلا تردد:
ـ فانا لم اجعل من اختياري قضية عامة، ولم اسمح لها بالانتشار، لأنها، في الأصل، قضية شخصية خالصة.
ـ حسنا ً، هل بالإمكان التعرف على هذه الأسباب الشخصية، أم إنها شخصية حقا ً...؟
ـ سيدي، وإن كنت لا أريد محاكاة حكمة الشاعر الذي قال: هذا ما جناه أبي علي ّ وأنا ما جنيت على احد...، إلا أنني وجدت نفسي اسلك حكمته، من غير أوامر قسرية، وبلا خوف...!
صمت لحظة وقال بصيغة سؤال::
ـ هذا يعني أن الحياة جريمة ...، وعلينا ألا نرتكبها؟
ـ لا!
ـ هذا يعني أن ديمومتها خطيئة...؟
ـ كلا!
ـ لِم َ إذا ً الإضراب عن الإنجاب، واختيار طريق الفناء.....؟
ـ قلت ـ سيدي ـ لا أريد أن أنجب عجولا ً للذبح، وهذا كل ما في الأمر! فلا داعي لإقحام الفلسفة، والحكمة، في هذه القضية.
ابتسم الضبع:
ـ ولكننا سنرسلك، اليوم أو غدا ً، إلى .....، المسلخ! ولا نرسلك من اجل لحمك، أو جلدك، أو عظامك، بل عبرة!
    هزت رأسها، ولم تجب. فسألها:
ـ  أنت راضية؟
ـ وهل لاعتراضي معنى...؟
   ساد الصمت للحظات، ثم سألها القاضي:
ـ  هل لديك أقوال أخرى...؟
ـ وهل كنت تكلمت؟ كلا، ليس لدي ّ ما أقول.
ـ إذا ً...، سنرسلك إلى الموت؟
ـ اعرف...، حتى اجهل جهلة هذه الحديقة يعرفون هذه البديهة...، فانا سأموت مثلما الجميع سيلقون المصير نفسه..، فما الجديد...، وما الغريب في المعضلة؟
ـ يبدو انك سعيدة، بل وأكاد أراك مسرورة أيضا ً؟
ـ  نعم، لكني لست حزينة، وليس لدي شعور بالأسف على ما يستحق أن آسف عليه! فانا سأموت بإرادتي....بل بحريتي، بدل أن أكون سببا ً بموت آخرين لا إرادة لهم في  اختيار الحياة، مثلما لا خلاص لهم في تجنب الموت!


[17] غزال
   استيقظ الدب فوجد نفسه تحول إلى غزال:
ـ غريب...، فانا كنت آمل أن أتحول إلى تمساح، أو نمر، أو حتى إلى ذئب؟
   لكن الغزال سأل شبح الدب الذي مازال يحّوم في الكهف:
ـ وهل أنا غير جدير بك؟
ـ لم اقصد هذا ـ يا وجودي الشفاف ـ بل قصدت أن الدفاع عنك غدا مستحيلا ً؟
ـ لم افهم قصدك...، أرجوك، أنا بحاجة إلى إيضاح؟
قال شبح الدب:
ـ  ومن ذا باستطاعته أن يدرك أن سر أكثر المخلوقات وضاعة وحده يقدر على إحراز أعظم الانتصارات!

[18] لغة
ـ  تكلم..، اشرح لي قضيتك؟
ـ سيدي، أخبرتك، لا تمتلك اللغة قدرة على معالجة القضية التي دعتكم إلى اعتقالي، وسجني.
هز المحقق رأسه:
ـ  ولهذا طلبت منك أن تستحدث البديل!
ـ وهل باستطاعتي أن اخترع لغة لقضية مازالت قابعة مقدماتها ترفرف في الأثير! ضمن خطة حكيمة تتموج كأطياف أحلام لم تخطر ببال مخلوق لم يتكون بعد!
ـ ها أنت تعترف بجريمتك؟
ـ اجل...، أنا اعترف بوجود أطياف، ورفيف، وخطة...، مثل الذي يعترف بوجود وجود يستحيل دحضه...، وقد بينت لسيادتكم، أن لغتنا وجدت لمعالجة قضايا  عبرها الزمن، وإنها غدت غير صالحة للاستخدام!
ـ ها أنت تؤكد بعدم صلاحيتنا أصلا ً...؟
ـ اجل...، فهل باستطاعة سكين عمياء أن تستأصل ورما ً لم يتم تحديد موقعه بعد؟ كذلك، سيدي، لغتنا لا تؤدي إلا ما تؤديه هذه السكين، تمد بعمر المريض، ولكن ليس إلى الأبد!

[19]   اختلاف
ـ ما الاختلاف بين كائن يذهب إلى الفردوس...، وآخر يذهب إلى الجحيم...؟
ـ ربما الاختلاف يكمن في أن الأول لن يضطر إلى ارتكاب آثام تقود خطاه إلى الجحيم...، أما الآخر فربما يكون تعلم كيف يتطهر من خطاياه كي يخرج من النار!
ـ وأنت ...، أين تود أن تذهب؟
   مبتسما ًأجاب:
ـ  وهل كنت حرا ً في المجيء إلى هذه الدنيا، كي اختار نهاية أعدت لي قبل أن أرى هذه الظلمات، وقبل أن أرى هذا القليل من الضوء الذي سمح لي لرؤيتها كم هي بلا حافات، وبلا حدود!

[20] قلت ولم اقل
ـ هل ترغب أن تذهب بعيدا ً عن هذا المستنقع، وتغادره إلى الأبد ...؟
ـ كلا!
ـ غريب...، أنا أفكر أن أمنحك حرية الهرب...، والخلاص، وأنت تعترض علي ّ؟
ـ أجل...، لأنني لو هربت، فانا سأحمل معي جرثومة الداء ذاته، الذي كافحنا ـ حد الموت ـ من اجل بقاءه مزدهرا ً، وهو لم يتعرض للوهن، للشيخوخة، ولا للهرم...، وأما أن أبقى، وأنا في البعيد، احلم بالعودة إلى مستنقعي!
ـ كأنك عدت تكرر: ما الضوء إلا حزمة ظلام شفاف! وما المكان، ليس سوى أزمنة متجمدة...! وكأنك تريد أن تقول: ما الحرية، في الأخير، إلا أصداء فوضى خلاقة؟!
ـ أنا لم اقل هذا أبدا ً! أنا أخبرتك باني ـ أينما وليت ـ فان الموت اعد إلي ّ، قبل ولادتي!
29/6/2016
Az4445363@gmail.com

فلسفة الضحك-*عبدالسلام ناس عبدالكريم



-

فلسفة الضحك

*عبدالسلام ناس عبدالكريم



الضحك والبكاء ثنائية فيزيولوجية المظهر تلخص حقلين شعوريين باطنيين لدى الإنسان هما السرور والحزن، وعليهما مناط تصنيف الكوميديا والتراجيديا على مستوى الاصطلاح الأدبي الموصول بتمييز المشاعر وحالات النزوع الإنساني. 
وقد تفاعلت الثقافة الإنسانية مع ثيمة الضّحك بحسب اختلاف أطياف النّظر وتنوّع السياقات المرجعية لهذه الثقافات، ومدى تأثيرها في إفراز معايير الخلق الفني وتوجيه الحماس الإبداعي. وفي نظري ليست ثمة ثقافة اهتمت بهذا الغرض ونقلته على مستوى الإبداع الأدبي شعرا ونثرا كالثقافة العربية، فاهتم بها الشعر من خلال تجربة شعراء النقائض في العصر الأموي تحت باب الهجاء، وطوّرها شعراء العصر العباسي والأندلسي بأشكال ومظاهر وأغراض مختلفة، بحسب التحولات الحضارية والثقافية. أمّا في النثر فبالإضافة إلى الجاحظ الذي كان مولعا بالسخرية في جلّ ما كتب، ولاسيما في كتاب «البخلاء» و»رسالة التربيع والتدوير»، فهناك كتاب آخرون اهتموا بهذا الموضوع وخصصوا له فصولا مهمة من كتبهم منهم الخطيب البغدادي صاحب «التطفيل»، والحصري القيرواني صاحب «الجواهر في الملح والنوادر»، وابن الجوزي صاحب «أخبار الظراف والمتماجنين»، من دون أن ننسى كتّاب المقامات. 
ومعلوم أن هذه النصوص حول فن السخرية والضحك قد جمعت بين المتعة التي وصفها كتاب الضحك الغربيون بأكسير السعادة كما سيتعين لاحقا، وبين الفائدة العلمية الموصولة بالسياق التاريخي والحضاري وبالواقع السياسي والمجتمعي. وليس قصدنا من هذا المبحث المزيد من استقراء مظاهر الإبداع الإنساني حول هذه الظاهرة، لأن المجال واسع ولا يكفيه هذا المقام. وإنّما غايتنا في الأمر هي ربطها بمبدأ المتعة في عمقه الفلسفي، ووضعها في السياق المعرفي الإنساني والعلمي كما تبلور من خلال أبحاث الفلاسفة والكتاب وعلماء عصر النهضة الأوروبية. يقول نيتشه في نهاية أطروحته «ما بعد الخير والشر»: «سأمضي للمجازفة بتصنيف الفلاسفة وفق رُتبهم في الضحك» أجل، فلقد كان لنيتشه نفور قوي من الفلاسفة الذين جنحوا، بحسب قوله إلى منح سمعة سيئة للضحك، فأعلن توماس هوبز مدانا بهذه الجنحة. وعلى الرغم من أنّ إدانة نيتشه تلك تنطوي على بعض المبالغة، بحيث ترتكز على اقتباس أسيئ تفسيره لما قاله هوبز عن الضحك في الفلسفة، إلاّ أنه كان مُحقّا بدون شك في تأكيد ما قاله هوبز الذي كان متوافقا مع أغلبية مفكري عصره حول بديهة اعتبار الضحك موضوعا يتعيّن على الفلاسفة الاهتمام به جدّيّا. وفي الواقع لقد بدأ هذا الاهتمام يتزايد عبر العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، خاصة من لدن فلاسفة إنسانيين مرموقين من أمثال كاستيكليون في «كورتيجيانو» ورابليه في «بانتاغرييل». وبعد ذلك في نهاية القرن وللمرّة الأولى منذ نهاية العصور القديمة بدأ يتبلور أدب طبّي متخَصّص يتعلق بالمظاهر الفيزيولوجيّة وكذا السيكلوجية لهذه الظاهرة. والرائد في هذا المجال هو لورانت جوبير طبيب مونبيلييه الذي نشر كتابه «علاج الضحك» في باريس سنة 1579. وظل كثير من الأطباء بعده ومنهم سيلسي مانشيسي الإيطالي يتشبثون بهذه المقارنة ويتحمسون لهذا الموضوع باعتباره ثيمة إنسانية بالأساس. وقد خصص ديكارت ثلاثة فصول للمجال الذي يحتله الضحك ضمن المشاعر الإنسانية في عمله الأخير «أهواء النفس» 1648. كما أثار هوبز عديدا من القضايا حوله في كتابه «عناصر القانون»، ودافع سبينوزا عن قيمة الضحك في كتاب «الأخلاق». ودأب على ذلك كثير من مريدي وأتباع ديكارت الذين عبروا عن اهتمام استثنائي بهذه الظاهرة ولاسيما هنري مور في كتابه «حساب الفضيلة». والقضية التي نودّ إثارتها بصدد هذا الموضوع هي بكلّ بساطة، لماذا يجد كلّ الكتاب أنفسهم مهتمّين على نحو جادّ بالضحك؟ وقد يُفضي هذا السّؤال إلى جواب مفاده أنّ كلّ هذا الحشد من الكتاب يتفقون على نقطة أساس هي أن القضية الأكثر أهمية بصدد الضحك موصولة بالمشاعر التي يثيرها. ولعلّ واحدة من بين تلك المشاعر التي يتفق حولها الجميع هي بالضرورة الإحساس بالفرح أو السّعادة. وفي ذلك يقول كاستيليون: «إن الضّحك لا يبرز إلا في الإنسانية وهو دائما علامة على ابتهاج معيّن وانشراح نستشعره في دواخل الرّوح». ومع ذلك يتم الاتفاق على أنّ هذا الفرح والسرور يتعيّن أن يكونا على نحو جدّ استثنائي.
ومن خلال ذلك فإننا سنصل إلى الخلاصة الأكثر تميّزا، ويمكن أيضا أن تكون الأكثر إثارة للحيرة، وهي أن الفرح المُعبَّر عنه من خلال الضحك هو دائما موصول بمشاعر الاحتقار، إن لم نقـُل بالكراهية والمقت. وعند الإنسانيين فإن واحدة من بين أقدم الحجج بهذا الصدد الحجةُ التي قدمها كاستيجليون: «إننا في كلّ مرّة نضحك فيها نقدّم الدليل على أنّنا نسخر من شخص أو من حال معيّن متهكمين وهازئين بالرذائل». ولقد طرح الكتاب المعالجون النظرية نفسها تحت شكل أكثر عمقا. ويعدُّ التحليل الأكثر حذقا حول هذه النقطة لجوبير في كتابه سالف الذكر حيث يقول: «إنّ الضحك كمادّة وموضوع وسياق مقترن بحاسّتين أساسيتين هما السمع والبصر، لأنّ كلّ ما هو مضحك يذكر أو يشار إليه كشيء شنيع لا يستحقّ الإشفاق والرحمة، والأسلوب المشترك لضحكنا هو دائما السّخرية والازدراء». ولقد طوّرت هذه الحجّة بشكل أوسع من طرف الجيل اللاحق الذي أحبّ وصل هذه الخلاصة الإنسانية باهتمامات الأدب الطبّي الذي كان في أوج انبثاقاته. 
والكاتب الذي سعى جاهدا إلى ترسيخ هذه الصلة هو روبير بروتون في نصّه الطريف «تشريح الكآبة» 1621، حيث يقول في مقدمته: «إننا حينما نضحك فإننا ندين الآخر، ندين عالم الجنون، ونضيف أن العالم لم يكن قطّ على هذا القدر من الجنون الذي يتعيّن إدانته، وكذا الأمر بالنسبة لهؤلاء المجانين المثيرين للضحك». وفي هذا الخضم من شعور الذات الضاحكة في تميزها الذاتي إزاء موضوعها، تبرز دائما مسألة التعاظم إزاء الآخر، ومن تجلـّيات الأمر أنهم حينما يضحكون عليك فهم يسخرون منك وينتصرون عليك ويمقتونك. فثمة إذن أمران متلازمان ، ملاحظة النقيصة التي تتحدد من مظهر ضعف، والوعي بها على نحو يثير شعورا بالفرح والبهجة ويشي بقدرة الاكتشاف، باعتبارها قدرة خلاقة وسامية في النفس. وثمّة تشارك مع هذا المنطق البرهاني ينبغي التوقف عنده، وهو أنه بحسب هوبز يتعين رصد التباين الملحوظ بين الضحك والابتسام ومن ذلك ما بينه ميناجير في كتابه «النهضة والضحك» من أن الضحك يعبر عن السخرية، بينما الابتسامة تعتبر تعبيرا طبيعيا عن المتعة، وبشكل خاص عن المودة والتشجيع. فعلى ســـبيل المثال يحيل السير توماس براون، وهو طبيب آخر متشبع بالمعرفـــة الإنسانية على هذه الفقرة التي تشكل لغزا مدرسيا، وهي التساؤل عمّا إذا كان المسيح لم يضحك قط.والجواب من براون أنه لا يمكننا أن نتخيل بأنه أي المسيح لم يبتسم قط، لأنّ الابتســـامة ســـتكون الدليلَ الأكثر يقينا على إنسانيته. 
إنّ هذا التصور عن الابتسام يجعله موصولا بالسّموّ وبالخصوص بالصّورة المسيحيّة عن الجنة كحالة من الفرح الأبدي، ومن ثمّ فإنّ الابتسامات التي نراها غالبا في اللوحات الدينية لعصر النهضة الأوروبي، حسبما يبدو ربّما فُهمت عموما على أنها تعبير عن وعي فرِح بهذه الرِّفعة. وفي العادة في مثل هذه اللوحات يدلوننا من خلال إشارات اليد والنظرات الممتلئة بالرغبة المرفوعة إلى السماء بأن موضوع هذا الفرح هو فعل سماويّ. ولكن في الحالة الأكثر شهرة ضمن هذه النماذج فإن جيوكاندا ليوناردو دافينشي يظلّ منبع الفرح الداخلي للموناليزا المبتسمة يشكل لغزا عصيّ الفهم. وهو ما يمنح للوحة سحرها الأبدي.
____

*القدس العربي

الثلاثاء، 5 يوليو 2016

فئران وقصص قصيرة أخرى- عادل كامل

فئران  وقصص قصيرة أخرى






عادل كامل
[1] سر الضوء!
    بعد أن ولدته، سأل الحمل أمه:
ـ هل حقا ً ولدنا للذبح؟!
أجابت مذعورة:
ـ لا!
فراح يتمتم مع نفسه بصوت خفيض:
ـ إذا كانت أمي تكذب علي ّ وتخدعني، فمن ذا سيخبرني بالحقيقة؟
   سمعته يدمدم مع نفسه بشرود، فقالت:
ـ اقترب مني فأنت تشعر بالجوع، وما عليك إلا أن تتغذى ترضع وترتوي من حليبي!
   لكنه لم يخبرها بما دار بخلده: إن أمي لا تعرف إنها تتعجل بإرسالي إلى الموت، فهي تريد مني أن اكبر، سريعا ً، وأتمتع بالصحة التي تسمح لهم بذلك!
  لكنها سمعت ما دار بباله، فسألته:
ـ هل كان علي ّ أن لا ادعك تخرج من الظلمات وإلى الأبد؟
   آنذاك راح يضحك حد انه فقد هدوءه فصار يتمرغ بالتراب يذرف الدموع المرة:
ـ الآن ...، يا أماه...، فهمت سر الضوء....، فانا، بعد الآن، ومهما عملت، لن اعثر على مكان لا تراني فيه الذئاب!

[2] حكمة
  خاطب الفار، بصوت متلعثم، حزين، عصفورا ً كان يقف بجواره وهما يتأملان أقفاص المفترسات، في الحديقة:
ـ آ ...، كم تبدو وديعة، طيبة، حتى إنها تبدو راضية، مطمئنة، بل وسعيدة!
  رد العصفور:
ـ صديقي...، القضبان تروّض أشرس المفترسات....!
ضحك الفأر:
ـ ولكنها لم تستطع أن تروضني؟
    استدرك العصفور متذكرا ً إن الفار سيصبح قائدا ً لجناح النمور، السباع، والذئاب...، أجاب، وهو يشير إلى الصقور والنسور القابعة خلف قضبان أقفاصها الحديدية:
ـ ولا أنا استطاعت تلك النسور والصقور أن تمنعني من الكلام بطلاقة!  
    الفار ـ هو الآخر ـ استدرك، فسأل العصفور:
ـ لكن، يا صديقي، أود أن تخبرني: من ذا اخترع هذه الأقفاص...؟
ـ اعتقد أن السؤال الذي كان عليك أن تسألني، هو: ماذا كنا سنفعل من غير هذه الأقفاص، وليس من اخترعها، أو ننبش بحثا ًعن حكمتها؟!
ـ لكنك طليق...، مثلي...، فأنت ستدير جناح النسور، والصقور، مثلما أنا أصبحت قائدا ً لجناح التماسيح، والدببة، والأفاعي أيضا !
   هز العصفور رأسه، بذهن شارد، ولم يجب. قال الفأر:
ـ أراك أصبحت تخاف أن أوشي بك؟
فقال العصفور ضاحكا ً:
ـ لا أنت ستصبح ذئبا ً..، ولا أنا باستطاعتي أن أصبح عقابا ً...، إنما علينا ألا نسرف  بالسعادة...، فالدورة لم تكتمل!
ـ آ ....، أنا حسبتها لم تبدأ؟
ـ أصبت! لأنني طالما رأيت الهرم لا يرتكز على القاعدة، بل على الرأس، فالدورة لا تنتهي بخاتمة، لان مقدماتها، هي الأخرى، ترجعنا إلى ما قبل وجودها! وهنا فلا احد باستطاعته معرفة ما جرى، ويجرى، وما تراه يذهب ابعد منا، وابعد من هذه الأقفاص أيضا ً!
ضحك:
ـ لا بد انك كنت تمشي بالمقلوب، وإلا كيف لا ترى الهرم بلا قاعدة وبلا رأس أيضا ً!
ـ أصبت، يا صديقي، وهذا هو سر خلود حديقتنا، إن كنت عادلا ً فالعقاب بانتظارك، وإن كنت ظالما ً فما عليك إلا أن تمجد من صنع هذه الأقفاص، ولا تهدر زمنك بالبحث عن الحكمة، ولا عن الحكماء!

[3] محنة أيضا ً
   وهما يراقبان معركة اشتدت فيها المواجهة في تنوع الأسلحة المستخدمة، سأل الطائر رفيقه بصوت خائف:
ـ غريب أمر هؤلاء البشر...، هؤلاء يطلقون النار ضد هؤلاء بغزارة وهم يصرخون: انتصرنا...، وهؤلاء يردون بالمثل ويصرخون بأصوات أعلى: انتصرنا....
ـ وأنت ماذا تقول؟
ـ أنا لا أقول، بل الحقيقة وحدها تقول: لم ينتصر إلا الموت!
ـ آ ...، تقصد أن الموت هو من حرضهم على القتل...، وأعمى بصائرهم...، خاصة أن هناك طرقا ً أخرى غير القتل، والذبح، والتنكيل، و.... يستطيع  أن يخطف فيها  أرواحهم منهم، بهدوء، وبسكينة، ومن غير كل هذا العنف، وألام !
   صمت لحظة ثم عثر على جواب:
ـ عندما يأتي الموت ليقبض على روحي سأسأله هذا السؤال.
ضحك الآخر وهو يهم بالطيران:
ـ دعنا نعثر على ممر امن للهرب، والنجاة ....، قبل أن نفكر بالعثور على الرد الذي دوّن قبل وجودنا للذبح، والموت!

[4] ملاعب
   بعد أن ارتفعا عاليا ً في السماء، أثناء هجرتهما إلى مكان آخر، سأل الطائر زميله في الرحلة، وهما يحدقان في الأرض:
ـ يا لها من ملاعب عملاقة مكتظة بمئات الآلاف من البشر...
ـ وما الغريب في الأمر...، يا صديقي، ألا تراهم  اجتمعوا لمشاهدة مباراة عظيمة بكرة القدم...؟
ـ اعرف! واعرف أن هذه الحشود منشغلة بمراقبة حركة الأقدام وهي تلهو بكرة صغيرة ملأت بالهواء...، وهناك الملايين تتبع اللعب عبر الشاشات في هذا العالم..،  ولكن هل لديهم عقول سليمة حقا ً  ...، كي تشغلهم كرة صغيرة ملأت بالهواء؟
ـ ما الذي تريد أن تقوله ...؟
ـ الم تكن هذه الملايين، هي ذاتها، التي كانت تذهب إلى المعابد..؟
ـ آ ...، الآن فهمت قصدك: من المعابد إلى الملاعب...، في المرة الأولى كانوا يذهبون لعلهم يحصلون على جناح في الجنة، وفي المرة الثانية لم يعد يشغلهم الأمر فهم سعداء بملاعبهم، وبلاعبيهم أيضا !
ـ هذا صحيح تماما ً...، ولكني مازالت أتساءل: كيف يحصل الملايين على طعامهم...؟
رفع صوته قليلا ً:
ـ انك حقا ً لا تفكر إلا بالملايين التي تعيش من غير طعام، التي تعيش تحت خط الفقر، لكني سأقول لك: ما دامت النهاية، في الحالتين، واحدة، فان من يكد، ويشقى سيوفر الطعام لهذه الملايين العاطلة عن العمل....!

[5] امتحان
   قال الذئب يخاطب الغزال بعد أن أوقعها في كمينه:
ـ إذا أجبت ِ جوابا ً صحيحا ً، على سؤالي، فانا سأطلق سراحك!
أجابت الغزال:
ـ مع أنني لا اجهل ما الذي سيحدث لي...، إن أجبت جوابا ً صحيحا ً أو خاطئا ً، فانا استمع إليك، أيها الذئب..!
فسألها:
ـ لِم َ أراك مرتبكة...، فهل أضعت ِ الدرب، أم الدرب أضاعك..؟
ـ لا الدرب تاه عني، ولا أنا أضعته...؟!
صاح الذئب:
ـ كدت تعثرين على الجواب الصحيح!
ـ سيدي، حتى لو وجدت الجواب كاملا ً...، فالحقيقة، لا أنا امتلك قدرة على فهمها، ولا أنت باستطاعتك أن تتخلى عنها!
ضحك الذئب:
ـ والآن، أيتها الغزالة، اهربي....، فانا لن اعتدي عليك!
ـ سيدي، هذا ـ هو ـ أكثر المقترحات قسوة، وألما ً...، فهل هناك مكان يمكن أن اذهب إليه لا يقع تحت سلطتك، وهل هناك مكان ما بإمكانه أن يحميني منك؟  فأنت مثل الآلهة القديمة خلقت البشر من اجلها، وليس من اجل أنفسهم، وما أن راح البشر يدركون فداحة المحنة، حتى راحوا  يحلمون أن يبلغوا ذروتها، في المعرفة، وليس في الهرب منها!
اقترب الذئب منها، وقال بصوت مرتجف:
ـ المشكلة أن المعرفة وحدها أصبحت تعمل ضدنا، ولكنها لا تعمل ضد نفسها، فلو كنت افترستك، لكنت استرحت، أما الآن فانا أصبحت أكثر إدراكا ً إن المشكلة ستتضاعف  إن افترسك، أو لم افترسك، لان المشكلة لا علاقة لها بالخطأ أو بالجواب السليم!


[6] المتمردون
  ـ للمرة الألف، بعد الألف، اكرر: لا تدع قطيعك يستغيث، ويستنجد، ولا يعرف ماذا يعمل.....
   كانت أصوات ملايين المتمردين ترتفع عاليا ً، آتية من مختلف الجهات، مما سببت إرباكا ً لسعادة المدير، مديرنا، وأثارت غضبه، حد انه بدا مرتبكا ً، وقلقا ً أيضا ً...، فقد أكد لمساعده انه لم يتخذ التدابير المناسبة، وإلا فان الحشود المليونية قد تزحف نحو القصر، وتقضي عليه.
متابعا ً قال لمساعده، بثقة بدت ليست زائفة:
ـ وأنا اكرر، للمرة الألف، بعد الألف: لا تدع القطيع لا يجد حلا ً إلا بالتمرد علينا...، أما أن نشبعها حد  التخمة، وأما لا ندعها تتنفس، ذلك لأن الفجوة بينهما لا تربكهم، ولا تربكنا حسب، بل هي الكارثة عينها!
ابتسم المساعد:
ـ سيدي...، لم نترك وسيلة لم نجربها معهم...؛ لأن التمرد لا علاقة له بمعضلات الحياة ولا بمعضلات الموت!
   صاح المدير بصوت مرتجف:
ـ ها أنت ترجعنا إلى نظرية: إذا أردت أن تقضي على الآخر فامنحه الحرية! وأنا سبق لي أن شرعت قانون: إذا أردت أن تكسب الآخر فدع الحرية  وحدها تعمل عملها حد الموت!
صمت برهة، وسأل المساعد:
ـ ماذا يريدون...؟
ـ سيدي...، لا يريدون شيئا ً محددا ً...
ـ فهمت!
ـ ماذا فهمت...، سيدي؟
ـ لم تعد وسائلنا كافية لإجراء الصلح، ولا لإجراء المصالحة...، والآن عليك أن تمنحهم كل الحريات التي حرموا منها...، ولا تدعهم يحلمون بأحلام حجبت عنهم...، فالقطيع إذا حرم منها، يغدو قوة من الصعب معالجتها بوسائلنا البالية!
ـ فعلنا هذا ... سيدي، لكن بلا جدوى...
ـ إذا ً لم يعد لدينا إلا أن ندعهم يحصلون على أقاصي الأحلام!
اقترب المساعد منه كثيرا ً:
ـ ولكن...، لا أنا، ولا أنت، يعرف شيئا ً عن هذه الأحلام...، لأنها، في الغالب، ستبتلعنا!
ـ لا تجادل..، فبعد أن فشلت السجون بالقضاء عليهم، وبعد أن فشلت الحروب بالحد من ثوراتهم، دعهم يمضون حياتهم يحلمون إنهم كسبوا الرهان!
ـ وبماذا يحلمون؟
ـ حقا ً انك أصبحت واحدا ً  منهم! ألا تدرك انك لو حجبت الأحلام عنهم، فلا جدوى حتى لو منحتهم الأبدية، أو أرسلتهم إلى الفردوس...، أقول لك: دعهم يحلمون، كي يدركوا إنهم أصبحوا أحرارا ً...، لأننا لن نقضي على خطرهم إلا بالأحلام، لأن القضاء على العبيد لا يحدث بالقضاء عليهم، بل بمنحهم أقاصي الحريات!
ـ سيدي...، ولكن ماذا لو عادوا وطلبوا الخبز...، والماء...، والقليل من الهواء...؟
ـ  أعطهم الكلام، يا حمار...، أعطهم الكلام ثم الكلام...، فهو وحده سيقودهم لمعرفة أن لا معرفة إلا بالمزيد منها. آنذاك نكون كسبنا الرهان!
ـ وهل تراهم يجهلون إنهم خسروا رهانهم معنا...؟
ـ لا...، لا تدعهم يشعرون بالخسران، بل دعهم يتشبثون به.
ـ لكننا فعلنا هذا معهم أيضا ً.. ، لا الحروب ولا السجون ...، لا القيود ولا المتاهات، لا الوعود ولا الأحلام ولا الحريات...، أثمرت نتيجة...، فهل سيكون الكلام مجديا ً معهم؟
وأضاف يتحدث مع نفسه بصوت مرتفع:
ـ عندما لا نمتلك علاجا ً حقيقيا ً للمعضلة..، عليك أن تخترع معضلات بلا علاج! فلو كنا عرفنا السر، وصدقناه، لكان الزوال برنامجا ً ترفيهيا ً لنا، ولهم!
ـ ولكنني ـ سيدي ـ لم افهم كلمة واحدة من خطابك العظيم!
ـ ولا أنا أيضا ً!  فلو كنت اعرف ماذا أقول...، ستكون اللعبة برمتها، باطلة! والآن ـ أيها الحمار الأحمق ـ أما تدعهم يرتوون من الحياة حد الموت، وأما يشبعون من الموت حد القبول بالحياة، وإلا فان تمردهم سيقودهم للقضاء علينا!
صمت برهة وجيزة ثم أضاف:
ـ فإذا لم نقدر على وضع حلول ناجعة، لم تخطر ببالك، أو ببالي، فان هذا القطيع، إن لم يحصل على ما يريد، لم يعد لديه إلا أن يحلم بالقضاء علينا!
وأضاف حالا ً:
ـ والآن ما عليك إلا أن تجد حلا ً للمعضلة التي تذهب ابعد من وجود حل لها!
ـ أصبت! سيدي، فما عليك إلا أن تنزل إلى الساحة وتصبح في مقدمة الملايين، وتكون قدوة لها ..
ـ وأنت ماذا ستفعل...، أيها الحمار؟
ـ سأبحث ـ سيدي ـ عن المعضلة التي لا وجود لها، لأنني سأتتبع خطاك في إقامة دولة المستقبل...
ـ أيها المساعد ..، أصغ إلي ّ:  ما عليك إلا أن تخترع وسيلة يدرك فيها الجميع إنهم لا يمتلكون سواها: إنهم صاروا يتمتعون بأكثر مما حلموا به، وإنهم أصبحوا أحرارا ً أكثر مما في الحرية من مديات، وآفاق، ولا تدعهم يتساءلون: ما الحرية! دعهم ينشدون لها ويرقصون سكارى ثملون بها حد استحالة الإفاقة منها! ولا تدعهم يتساءلون لماذا هم حصلوا على أكثر مما طلبوا، بل دعهم يفكرون بالحصول على كل ما هو بانتظارهم...، فلا احد سيعود من الموت ويخبرهم بالأمر، إنما دعهم يدركون إنهم هم وحدهم الأجدر بمثل تلك المكاسب، وإلا فان المعضلات القابلة للحل ستغدو باطلة، آنذاك تصير الدنيا مساوية لضدها، وهذا ما لا يبعث فينا إلا المزيد من الإحزان، والملل.
ـ سيدي، اعتقد انك غادرت الكلام! وصرت تحلم!
ـ احلم؟
ـ سيدي، انك المدير، وليس لديهم آخر يحل محلك...!
ـ أيها الأحمق..
ـ نعم ...، نعم سيدي..
ـ المتمردون لم يتركوا لنا فرصة للهرب...، ولا فرصة للحوار، ولا فرصة للمصالحة...، فماذا  نفعل، وأنت تراهم يسدون الممرات علينا ..يغلقون بوابات السماء، ويحاصروننا من الجهات كلها؟
ـ سيدي، سيتم القضاء علينا... ، كما يبدو...، بانتظار من يكمل الدورة!
ـ لكن الحياة لن تنته...، حتى لو تم القضاء علينا!
ـ ولن تنتهي أبدا ً حتى لو تم القضاء علهم أيضا ً...!

[7]  بداية
ـ ما ـ هي ـ الحكمة التي علي ّ أن أتعلمها منك، يا جدي...؟
ـ أن لا تتعلم شيئا ً!
ـ آ   .....، ولكنك أمضيت حياتك كلها في الحصول عليها...؟
ـ يا حفيدي، فعلت ذلك: كي تبحث ـ أنت ـ عن طريق آخر لا  يوصلك إلى هذه النهاية!
ـ وهل أبقيتم لنا ممرا ً للنجاة...؟
ـ  إذا قلت كلاما ً صحيحا ً، فهذا يعني: إنها هي ذروة الحكمة! وما عليك، الآن، إلا أن تبدأ منها!

[8] منقرضات
   سأل الصرصار نملة كانت تقف بجواره:
ـ هل أسلافك كانوا من سلالة الفيلة حقا ً....، وإلا فانا سأضطر إلى افتراسك حالا ً...؟
ـ لو قلت لك نعم، أو لا، فانا أسيرتك، ولكن لدي ّ سؤال: هل صحيح ما يقال بان أسلافك ينحدرون من الديناصورات العملاقة؟
ـ سؤال غريب!
ـ ما الغريب في السؤال؟
ـ  لقد خطر ببالي سؤال آخر: من منهما كان سببا ً بانقراض الآخر؟
ـ  يا أحمق...، لا احد..، فلو كان لديك ذرة من العقل، لفكرت كيف تنجو من البحث عن فيل بحجم نملة!
ـ صاح الصرصار:
ـ لن ادعك تهربين، مني، وأنا استمد قوتي من دماء أسلافي وهي تسري في شراييني!
ضحكت النملة، وهي تترك جسدها للريح:
ـ  هكذا خدعنا، يا أحمق، بانتظار عصور لا نضطر فيها لتأجيل هلاكنا!

[9] استحالة
     خاطب الفأر العجوز قطة وضعت صغارها توا ً:
ـ ولادة سعيدة!
   رفعت القطة رأسها قليلا ً وقالت للفأر:
ـ اهرب!
   لم يستطع منع نفسه من الضحك:
ـ إذا كنت نجحت بالفرار منك، طوال عقود، وأنت وحيدة، فهل باستطاعتي أن أنجو من هذا العدد، وأنا أصبحت وحيدا ً؟!

[10] مواجهة
     بذل النمر جهدا ً كبيرا ً ليصل إلى أعلى غصن في الشجرة، فلم يعثر في عش الحمامة إلا على صغير خرج من البيضة توا ً. قال الصغير:
ـ افترسني!
فقال النمر ضاحكا ً:
ـ جئت اخبر والديك بأمر خاص!
  ابتسم الصغير قائلا ً:
ـ  لا تلعب، فلا يليق بك أن تكون ماكرا ً كالثعالب!
اندهش النمر:
ـ كيف عرفت، وأنت لا تعرف شيئا ً عن قوانين غابتنا؟
ـ لا..، يا سيدي، لقد حاولت أن لا اخرج من البيضة، وأموت فيها...، ولكن رائحتك أفزعت الموت، فخرجت كي أخبرك انك لا تستطيع النزول من الشجرة، ليس لأن الذئاب والسباع والكلاب، تحاصرك، في الأسفل، بل لأن النسور والصقور والغربان لن تدعك تصعد أعلى من هذا الغصن!

[11] للبيع
ـ لماذا تبيع أصابعك ..؟
ـ وماذا افعل بها، بعد أن منوعنا من العمل!
ـ حسنا ً...، ولكني أود أن اشتري منك عقلك!
   أجاب القرد ضاحكا ً:
ـ لو كنت امتلك عقلا ً...، لعرفت كيف أنجو من هذه المحنة...!

[12] لوعة
     صرخ الأرنب بأعلى ما يمتلك من قوة، في وجه الضبع:
ـ  لِم َ لا تفترسني، فتستريح مني، وأستريح منك؟
ـ أنا انتظر موتك...، أيها الأرنب.
ـ آ ....، إذا ً دعني اذهب...، وما أن أموت، فافعل بي ما شئت.
ـ يا أحمق...، وهل باستطاعتي أن امنع الذئاب الجائعة من افتراسك؟
ـ آ ....، والآن ستجعلني أموت خوفا ً...، لتأكل فطيسة ماتت كمدا ً، ما أقبحك..؟
ـ هذا أفضل من أن أراك تغيب في أفواه الآخرين!

[13] مهرجون
  وهما يتأملان مسيرات مليونية تملأ الممرات، الساحات، والشوارع، في فجر يوم بارد، سألت القملة زميلتها، وهما يستمتعان بالدفيء، في أذن الكركدن:
ـ لماذا يزعقون، يهتفون، يصرخون ، ويمجدون هذا الحيوان الأليف؟!
ـ انه سيد البرية، وأمير المستنقعات، وأسد الغابات...فلماذا لا يهتفون له؟
ـ وهل ـ هو ـ بحاجة إلى هذا اللغط، الزعيق، وهل هو بحاجة إلى من يهتف باسمه، ويمجده، في هذا الفجر...؟
ـ  أنا لا اعتقد انه طلب منهم أن يفعلوا ذلك...
ـ من دعاهم إذا ً....، أولا ً، ولماذا لم يحرك ساكنا ً، ثانيا ً...؟
ـ اذهبي ووجهي السؤال إلى الدابات، البهائم، الزواحف، القوارض، والحشرات...، ما الجدوى من الثناء على كائن لا يعنيه هذا الأمر...؟
ـ ها...، وهل اذهب واسأل الفئران والديدان والجرذان لماذا تمجدون كائنا ً ليس بحاجة إلى هذا الثناء...، وأنا اعرف تماما ً ما الذي سيحصل لي، قبل أن اسحق، وقبل أن أصبح كأنني ولدت فائضة! ولكن لماذا لم يحرك ساكنا ً، ويعترض، حتى يبدو لي انه أخفى خطة ما نجهل سرها!
ـ أنا لا اجتهد، فلا أتكلم إلا بما اعرف! فانا لا أتصوّر أن زعيمنا العظيم هذا قد يشغل نفسه بتوجيهات وضيعة، ثم هل لديه الوقت ليهدره مع العوام والرعاع!
ـ آ ...، دعينا نستمتع بالدفيء، في أذن قائدنا، قبل أن يشاركها الاحتفال، وينتفض، فلا نجد ملاذا ً آمنا ً كهذا الفردوس!

[14] ومضات
ـ إذا كنت أدركت، منذ زمن بعيد، انك لن تدرك شيئا ً يستحق الإدراك، فلماذا كرست حياتك كلها للمعرفة؟
  أجاب الجد حفيده بابتسامة مختزلة:
ـ كان من المستحيل إدراك هذه النتيجة، إلا بقضاء العمر كله من اجل التحقق إن كانت صائبة أو خاطئة....؟
ـ والنتيجة؟
ـ  لم تعد تعنيني إن كانت صائبة أو خاطئة، إنما  أنا اسأل نفسي: بماذا كنت سأنشغل، لو لم انشغل بمعرفة كل ما كنت اجهله؟
ـ الم ْ تقل انك كنت أدركت انك لن تدرك شيئا ً يستحق بذل هذا الجهد...؟
ـ قلت...، ولكني لم اقل: اغطسوا عميقا ً في قاع الظلمات! فانا طالما كنت أتلمس أن هناك ومضات...، حتى وإن كانت جعلتني أرى لا حافاتها المظلمة! ومضات إن غابت، فكأن الكون برمته لا يمتلك إلا أن يمدني بهذا الذي كلما أدركت استحالة إدراكه، وهو يجعلني استحدث هذه الومضات، قبل أن أغيب!
* المجسم للنحات العراقي معتصم الكبيسي
24/6/2016