محمد حيّاوي من خلال
روايته (خان الشابندر)
ومضة حياة مفعمة بالنشيج
أحمد الحلي
هل ينبغي لنا القول إن شحة عناصر الجمال من حولنا وقلتها هي ما أعطاها كل
هذا الزخم من القيمة والفاعلية والقوة الدافعة .
ينطبق هذا المبدأ الحيوي على شتى المناحي ولا سيما ما يدخل منها في إطار
الإبداع الأدبي وعلى وجه الخصوص في عالم الرواية تحديداً .
بين أيدينا رواية من طراز خاص تنطبق عليها هذه المواصفات بعنوان (خان
الشابندر) للروائي العراقي المقيم في هولندا
محمد حياوي الذي يبدو أنه صاغ لنا عملاً حاذقاً يتواشج ويتواءم مع الحالة العراقية
الراهنة ما بعد سقوط الصنم ، وما استتبع هذا الحدث المدوي من انعكاسات وانهيارات
وتشظيات في كافة مفاصل الدولة والحياةأيضاً ...
لا يساورنا شك ، بأن محمد حياوي توافرت لديه عناصر الأهلية الكاملة قبل أن
يشرع في الإبحار بسفينته عبر هذه الأمواج المتلاطمة من المتعة المدافة بمزيد من
ثيمات الألم والفجيعة والإحساس بالضياع
...
ازدانت الرواية على غلافها الأخير بعدد من الجمل التي هي كشّافات
ضرورية لمجريات ما يحدث داخل الرواية ،
نقتبس منها ؛
*لقطة مكثّفة ومركّزة لحياة بغداد السرية
والمعتمة ، البائسة والمحزنة ، التي سببها حكم شمولي ثم احتلال أميركي .
* تتأرجح حيوات هند
وضوية ونيفين بين أمواج الانفجارات المرعبة والعالم الفنتازي الذي يقف على رأسه
مجر ، الفيلسوف الصوفي الغريب .
وهناك في مدخل الكتاب جملة شعرية في غاية الأهمية لشاعرة أفغانية
شابة اسمها رحيلة موسكا قتلها رجال طالبان
هي ؛
" جسدي طازج مثل أوراق الحنّاء ، أخضر
من الخارج ، لكنه لحم نـييء من الداخل "
في بداية الرواية نقرأ عبارة للشخصية
المحورية هند تخاطب بها بطل الرواية الذي كان هاجسه استقصاء حكايات هاتيك النساء
المغلوبات على أمرهن والمضاعة حياتهن سدىً ؛
" سنحرسك في الليالي الحالكات ، حتى من
دون أن ترانا ، ولكن احذر ، لأنك لن تعود إلى طبيعتك السابقة على الإطلاق ، فاستعد
واترك تخاذلك وجبنك وتهيّأ لاحتراق روحكَ في كانون محبتنا "
وبالفعل ، ومنذ الوهلة الأولى يقذف بنا محمد
حياوي في أتون روايته هذه ، عبر حبكة غاية في الإتقان والشاعرية .
بطل الرواية ، الأستاذ علي ، الصحفي العائد
من غربة طويلة قضّاها في الغرب ، يعود إلى بغداد بهاجس إنساني وتعاطف كلي مع الكائنات والفئات المهمشة والتي عانت وتعاني
من انسحاق شديد جرّاء وطأة الأحداث الكارثية التي وجدت نفسها مقذوفة في أتونها
المستعر ...
يقوده أحد أصدقائه ممن لديهم خبرة وافية
بأزقة بغداد وعالمها التحتاني إلى إحدى الخرائب ، حيث تسكن مجموعة من الفتيات
بائعات الهوى في منزل القوادة أم صبيح التي توفر لهن السكن والحماية والرعاية في
مقابل فائدة مادية ، ومن الواضح أن هذه المجموعة من البشر تعيش على هامش الحياة ،
حيث الأخطار المحدقة بهن من كل جانب .
وكما يتضح لنا منذ البداية فإن الأستاذ علي
لم يذهب إلى هناك من أجل الحصول على المتعة وإنما من أجل هدف آخر تماماً ، فهو يحاول الوقوف
عن كثب والتعرف على قصص وحكايات تلك الفتيات والأسباب التي دفعت بهن للوصول إلى
هذه الحال ، ولأول وهلة تقع عينه على إحداهن ، شابة سمراء في مقتبل العمر اسمها
ضوية ، في بداية الأمر لم تفهم طبيعة
المهمة التي جاء من أجلها ، يبدي استعداده لدفع المبلغ كاملاً من دون أن يمارس
الجنس معها مضافاً إليه مستحقات القوادة أم صبيح ، تتقبل الأمر على مضض ، وتبدأ
بسرد حكايتها وتحولها بصورة قهرية إلى ضحية وبالتالي وصولها إلى هذا المكان ...
وقبل وصول الرواية إلى هذا المفترق المفصلي
نتعرّف إلى شخصية نسائية أخرى هي الصحفية نيفين التي تعمل معه في ذات الصحيفة ،
يلتقيها باستمرار ، أو بالأحرى هي تتواجد معه في ذات الشقة ، وهي أيضاً لديها
حكايتها الخاصة ، تختلف مع زوجها الذي يقرر الرحيل إلى استراليا مستصحباً معه ابنتهما الوحيدة ...
الفتاة الثانية التي يلتقيها في ذلك الماخور
اسمها هند ، التي تتوثق علاقته بها ولكنها
لم تشأ أن تخبره بحكايتها ، تقول له حين تقع عينها عليه لأول وهلة
- شكلك مختلف حقاً ، ما الذي رماك علينا ؟
- كنتُ مارّاً من هنا صدفةً ، فاقترح عليَّ
صديقٌ لي الدخول إلى البيت والإطلاع على عالمكم .
ضحكت ضحكة خافتة وقالت ؛
- عالم الفضيلة تقصد ؟
- لا ، عالم القصص الحزينة والأحلام المحبطة
والأمنيات الذابلة .
سرعان ما يكتشف أنها امرأة استثنائية ، فهي
بالإضافة إلى جمالها الأخاذ متعلمة تهوى سماع الموسيقى والأغاني الراقية ، كما
أنها مولعة بقراءة الكتب ، تخبره أنها كانت تعمل مدرسة قبل أن تتدهور أمورها وتصل
إلى هذا المكان ، وأنها عملت مترجمة مع القوات الأمريكية بعد سقوط نظام صدام
مباشرة ، الأمر الذي أدى ملاحقة أفراد الميليشيات لها ، حتى تم إلقاء القبض عليها
وصدر حكمٌ فوري بإعدامها ، ويوكل تنفيذ المهمة إلى شابين يأخذانها في صبيحة اليوم
التالي بسيارتهما إلى حافة أحد الأهوار ، يوقفانها ثم يطلقان النار فوق رأسها ،
فتسقط وتظن أنها ماتت ، يخبرانها أنها يتوجب عليها الهرب بعيداً وأن لا يراها أحد
في المدينة بعد الآن ...وظلت تتنقل من
مكان إلى آخر مع معاناة فظيعة تتعرض لها ...
نعلم بعد ذلك أن هند تهيم به حباً وعشقاً
،تجد فيه ملاذها وخلاصها وعالمها المثير الذي تفتقد ، تقول له وهي مستلقية في حضنه
؛
- يُخيّل لي أننا لسنا في بغداد ، بل في
يوتيبيا غريبة معلّقة في مكانٍ ما بين
الأرض والسماء .
وكما يتضح لنا فإن الرواية بمجملها ، بمثابة
نشيد إنساني رفيع ، يتقصّى حياة المستلبين والمهمشين والمقصيين ...
من بين الشخصيات الغريبة والمثيرة التي حفلت هذه الرواية بها شخصية مجر ، ذلك الكائن
الأسطوري ، الذي تقول هند عنه ؛
- إنه عتيق جداً ، عمره أكثر من مائة عام ، منذ
وطأت قدماي إلى منزل أم صبيح وهو يجوب الأرجاء ويعرف مفاتيح الأمور ، أسمع عنه
الكثير من الحكايات الغريبة ، لكنه طيب القلب ، وفي أغلب الأحيان يبدو لنا مثل
ملاك حارس ...
ويوماً بعد يوم ، تتوطد أواصر العلاقة بينه
وبين مجر ، وبينما كانا معاً يقفان على أحد السطوح ، يلاحظ أستاذ علي أنه بين أونة
وأخرى يشير بيده ملقياً أو رادّاً التحية
على كائنات لم يستطع هو أن يراها ، يمد
مجر ذراعه مشيراً إلى السماء بسبابته المقوسة ؛
- انظر إلى تلك النجوم البعيدة ... إلى ذلك
الكون الفسيح ، كم عمرنا باعتقادك قياساً بعمر الزمن ، لقد وجد هذا الكون قبلنا
بملايين السنين ، وسيبقى بعدنا بملايين السنين ، لكن هل أفاد البشر من عمرهم
القصير ، أم أفنوه باتنظار الموت ؟
ثم يقول ؛ انظر إلى الخراب من حولنا ، البيوت
مهدمة على أسرارها ، لكن العشب مازال ينمو فوق السطوح الآيلة للسقوط ، ماذا يعني لك
الحب ؟ ها ، أنتم الماديين تعتقدون أنه نوع من الكيمياء فحسب ، ولكن أتعلم ، كتبنا
تقول ؛ إنه يخفق في أفئدتنا ، أرواحنا الحبيسة وسط أجسادنا مثل حمامة شغوفة هي
الله نفسه الذي يٌفني الكثيرُ من البشر حياتهم بحثاً عنه في أمكنة أخرى ، لكنَّ
الأرواح تظل محلّقة في ملكوت الله ....
ولمّا كانت مناطق بغداد واقعة بين
كمّاشتي الميليشيات الدينية المتنوعة وصراعاتها الدموية المستمرة ، فقد بقي القدر
يتربّص ببيت أم صبيح الذي أصبح قشة في مهب الريح الجهنمية ، وفي مرحلةٍ ما انفلت
زمام الأمور وفقدت جماعة الملة جليل التي كانت توفر نوعاً من الحماية لبيت أم صبيح
في مقابل أتاوات يتم دفعها بين الحين والآخر ، وقد يرغب بعض المعممين بممارسة
الجنس مع إحداهن ، فلا تملك هذه إلا أن
تنصاع وتذعن ...
والذي حدث ، أن جماعة الملة جليل فقدت
السيطرة على المنطقة بعد هجوم كاسح شنته ميليشيا منافسة أشد عتواً وتطرفاً استخدمت
فيه المدافع الرشاشة والرمانات اليدوية والهاونات .
يخبر مجر أستاذ علي الذي حضر إلى المكان بعد مرور
فترة من الوقت على الواقعة برفقة زميلته نيفين عمّا جرى في ذلك اليوم
المشؤوم ، اتّكأ على الجدار المهدّم وسحب نفساً من سيجارته ، ثم التفت نحوهما ،
وبدت ابتسامته الغريبة واضحة ؛
- في تلك الليلة ، نزل الجميع إلى هذه الغرفة
التي نحن نقف على أطلالها الآن ،وتسللوا من الفتحة التي في الجدار عبر الخزانة إلى
البيت المجاور ، كان من المفروض وجود فتحة أخرى مقابلة توصلهم إلى الزقاق الخلفي ،
لكنَّ قذيفة هاون ما هدّمت الجدار وردمت الفتحة على ما يبدو ، فتكوّم الجميع بعضهم
فوق بعض في غرفة صغيرة عندما دخل المسلحون يحملون سكاكين ضخمة وبلطات ، لم يصرخن
أو يتوسلن ، حاولن حماية ضوية بتخبئتها خلفهن ، هل تعرف ضوية طفلتهن الشقية التي
كنَّ يسرّبن مشاعر أمومتهن من خلالها ؟
- نعم أعرفها .
- حسناً كانت آخر محاولاتهن لإثبات إنسانيتهن
، لكن من دون جدوى ، فقد أخذ المطر بالهطول فجأة ، وراح يغسل بقايا الدم والسخام
ويخلّف عشرات السواقي الدقيقة ، لم ينقطع المطر لثلاثة أيام متواصلة ، كانت الرؤوس
المزروعة فوق الطوب مبللة بالكالمل وخصلات الشعر المبلول ملتصقة على الوجوه ...
لم يشأ كاتب الرواية الإفصاح عن بعض الأحاجي
التي رصّعت مفاصل نصّه الروائي المتقن ، من ضمنها إيجاد تبرير وتفسيرللعلاقة
الحميمية التي تربط بطل الرواية بكافة
الفتيات الجميلات الموجودات في ذات المكان ، من دون أن نلمس أية بوادر للغيرة
بينهن من أجل نيل الحظوة لديه ، وهذا أمر في منتهى الغرابة حقاً ...
الأمر الآخر هو شخصية مجر الغرائبية التي
تنبثق خارج مجريات الأحداث وإن تضمنت في
بعدها الخفي تفاعلاً وانسجاماً وتنويعاً آسراً على نغمة الرواية الأساسية ...
أما الأمر الثالث ، فهو ظهور الأجنحة
العملاقة الغامضة وهي تخفق هنا وهناك ، مؤكد أنها لم تكن سوى حلم أو رؤيا تنتاب
بطل الرواية وتهيمن على مخيلته ، لتعكس لنا رغبته في الخلاص والإنعتاق له شخصياً
ولكائناته ولبطلات روايته اللواتي انغلقت أمامهن منافذ الأمل ....