الجمعة، 25 مارس 2016

كيتا باردول ... ترميم المكان-علي رشيد






كيتا باردول ... ترميم المكان


علي رشيد

أعادت أعمال الفنانة والمعمارية الهولندية كيتا باردول التركيبية الأخيرة تأثيث المكان من خلال تدوير إنتاج خامته ، وبنهج مبتكر وأليف . حيث تستعيد المفردة صياغتها البصرية ، وبمعالجات تتيح للمادة ( الخشب ) إلى توسيع دلالتها وهي تفهرس الفكرة ، بعد أن تتجرّد من عناصرها التزينية لتحرضنا على النظر إلى قياسات جديدة لمحيطنا وهو مشغولا ببوح تعبيريي معتمدا على حيادية المادة ، وعفوية الأداء .






مجموعة من أعمال نفذت بمادة الخشب ، وبعض المهملات لتشكّل كيانات تنصيبية تعتمد على حيّزها الفضائي ( الطبيعة ) دون أن تحجب سعته ، أو تربك بداءته . الفنانة باردول ترى أن الطبيعة أشبه بالنص . نص لايمكن العبث بأحباره ، أو كينونته . لكن يمكننا فنيا إعادة قراءته بمنطوق فني لايسيء إلى قيمة ، أو يشوه كيانه . بل سيشكل العمل الفني توازن يحفظ للطبيعة عفتها ، و يستجلي خصوصيتها .


 


شكّلت هذه التنصيبات شفرة تشير إلى ما يلامس حياة الكائن وعزلته ، وبالقدر نفسه رمّمت المكان من وحشته عبر تأملات بصرية تبوح لنا حضورا في المشهد الذي يختزل اليومي بمنظومة الاسئلة التي تحاصرنا . ربما كان الخراب ، واللايقين أكثرنا حضورا وهما يتلبسان روح المادة منسلخة من كيانها لتتحول إلى بقايا تشير إلى حضور تلاشى ، أوكما لو أنها أطلال هجرتها الحياة لتتآكل بغربتها .


 


تتوزع الأعمال بين أشكال عمودية بمظهر جياكوميتي يبدو تمثيلا لقلق الفرد وهشاشته ، وهاجسه الوجودي ، وبين كتل تتموضع بشكل متواتر في فضاء تكون الطبيعة حاضنة لها . كتل تبدو وكأنها هجرة للمكان ، أو أمتعة يتعذّر الإمساك بتفاصيلها أو جهتها .

تخرجت كيتا باردول"Gitta Pardoel" من جامعة دلفت للعمارة عام 1991، وحصلت على درجة الماجستير بالعمارة، وكذلك درست الفن في أكاديمية "أوترخت" في هولندا، وتحصلت على الماجستير بالفن والعمارة من جامعة ليستير في بريطانيا، وتلبرغ في هولندا. واشتغلت في العديد من المنشآت والمكاتب الهندسية، ونفذت العديد من الإنشاءات، مازجة تصاميمها الهندسية بقياس الفن ومخيلته. تمارس، حاليا، التدريس أستاذة لمادة الفن، والتصميم البيئي، والعمارة في أكاديمية الفنون في تلبرغ، وكذلك في الأكاديمية الملكية للفنون في لاهاي. شاركت في العديد من المعارض الفردية والمشتركة، وفي بلدان عدة منها إيطاليا، وهولندا ،قطر ، ألمانيا ، الأرجنتين، اسبانيا ، السويد، وغيرها من البلدان .



*علي رشيد شاعر وتشكيلي من مواليد 1957 كربلاء درس الفن في معهد الفنون الجميلة - بغداد و أكاديمية الفنون الملكية – لاهاي -;- حاصل على شهادة الماجستير من جامعة ليستر/ بريطانيا وغرناطة / أسبانيا . يعمل في النص والتشكيل على مشروعه الذي مارسه منذ بداية الثمانينيات والذي أسماه -;- تدوين الذاكرة .أقام العديد من المعارض في العديد من الدول العربية والأوربية منها العراق ، الجزائر، ليبيا ، فلندا ،الدنمارك ، النرويج ، بلجيكا ، وهولندا حيث يقيم أصدر الكتب التالية :أضحية رمزية لمعارك الله – كتاب تخطيطات الغياب – كتاب يدوي بنسخة واحدة لقصيدة مرسومة خرائط مدبوغة بالذعر – مجموعة شعرية ذاكرة الصهيل – مجموعة شعرية لديه العديد من المخطوطات المعدة للطبع

أين نحن من العالم...؟ - نبراس هاشم





أين نحن من العالم...؟



نبراس هاشم

   نطلق أحكاما ً مجهولة، لتبدأ الذاكرة بشريط جديد مختلف عن كل ما خزنته في الماضي من معالم ومعارف وقراءات وكتابات ومشاهدات؛ فحينما وصلت إلى مطار شارل ديغول، شعرت أن هناك ذاكرة جديدة لا يسعها كل ما يخترع من ذاكرات الخزن ألحديثه، وددت لو كان لدي ّ Ram إضافي كي استطع تحمل ما شاهدت عيناي ولمست ذاكرتي عند المضي بمدينة أشبه بمتحف حالم مفتوح يحتوي على عدة مباني تسمى بالمتاحف؛ بوابات مفتوحة لفنون مختلفة على مدى سنين طويلة منها ما حمل لقب الرومانتك والكلاسك والقوطي والديني والعقائدي والسياسي والحديث والمعاصر والبوب ارت والسينما والمسرح وسيمفونيات تصدح في كنائس مذهله ككنيسة MaGdalina (مريم العذراء) في الكونكورد - باريس ، تنصت الإذن إلى صوت العزف الحنين والعين تطير لما تحمله الكنيسة من رسوم ونقوش زجاجية ومطبوعات بابوية وادعيه ربانيه ، تتلألأ الوجوه المارة من ضوء الشموع المنتشرة في الزوايا وممرات المبنى ، أسير وأقول مع ذاتي نعم أنت في باريس ، حلم وما هو بحلم في الحقيقة ، ظروف عمياء جعلت من أحلامنا رؤيا لا تطبق في الواقع وتطبيقه سهل جداً مجرد إصرار ، سرقت من الإنسان أحلام اللون والشكل والملمس الصحيح والهواء المترجم كل طلبة الفن في العالم يرحلون إلى المتاحف كي يتلمسوا بواقع ما يقرؤون إلا نحن وقعت علينا أحكام مجهولة دون إثباتات وعلينا تطبيق العقوبة المجهولة ، ندفع ثمن مجهول مثل الأحدب في نوتردام أرعبني ذلك الصعود المرعب والدرجات المتآكلة لأجراس نوتردام (الخوف من الحياة ثلاثة أرباع الموت ) كما ذكر رسل . مللت اللغة المسموعة، فأنا احتاج إلى لغة أكثر نظاره مثل متحف البونبيدو مثلاً لغة خاصة حديثه وكأني اشهد ما تبنيه مخيلاتي من أحلام ومستحيلات وما عند الإنسان مستحيل إلا نحن من يسكن هذه البلاد .. حجوم ومساحات وأفكار وصور وأصوات لغات تشكيليه بواقعها الفني اللانهائي تنتمي بمرئياتها وسمعياتها وبصريتها إلى روح الفن الهادف بإنسانيته الحقيقية لأمثال مشابه لتلك الأعمال في دول العالم .. عكس ما ينتمي إليه وزير ثقافتنا البصيرة يقتني عمل مكرر لأحد طلبة الفن في أوربا .. لا اعتب عليه لان الثقافة البصيرة لا تعرف انتماءات أو اقتباسات أو اجهل لغة انتمائهم .. وسأضطر لأستدير وأتأمل بالبونبيدو ...
-(البونبيدو) هو من اكبر متاحف الفن المعاصر في باريس (وهذه صوره له من ثلاث زوايا)


20 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل

20  قصة قصيرة جدا ً



" لم تلد امرأة ما قط ابنا ً بريئا ً"
مثل سومري
"إن البراءة كلمة باطلة وكل منا مجرم أمام الجميع"
دستويفسكي


عادل كامل

إلى صديقي عدنان المبارك، وهو يكافح من اجل عالم اقل دناءة، وقسوة.
[1]  بغاء
    ليس ـ في حديقتنا ـ باستطاعة احد البت بالأسباب التي أفضت  بالغزال لاختيار مهنة البغاء، مهنة لها، بدل المهن الأخرى المعروفة، في السيرك، أو الملاعب، أو في اختيار المرعى، أو الانزواء بعيدا ً عن الأضواء، والمهرجانات، والاعتكاف في ركن بعيد.
     ولكن احدهم افلح بالتعرف على سرها، وقد أخفاه عنا، حتى بعد أن غابت الغزال عن الوجود، ولكنه لم يفلح بكتمانه، عند لحظات احتضاره، فأعلنه، لي.
    قال انه عرف إن الغزال استأجرت حجرة صغيرة في جناح الملاهي، وملاعب الليل، وإنها اختارته للعمل معها، بوابا ً، مهمته الإشراف على ترتيبات الداخلين ـ والخارجين، من تلك الغرفة، التي كانت تمارس فيها البغاء، لسنوات طويلة.
   قال لي انه سمعها ـ ذات يوم ـ تقول لأحد زبائنها: يا سيدي، إن فعلتها، فستدخل النار! فيسألها الزبون: وإن لم افعلها؟ فتقول له: تبتعد عنها درجة. فيقول: وماذا افعل بهذا المال؟ تقول له: دعه لي.... ، فانا أخذه لأنفقه على الطرائد والمشردين والمستضعفين والنازحين والأيتام والأرامل وكبار السن....، فيسألها: ها أنت لا تسمحين لي بمسك، وأنا جئت اطلب المؤانسة، كما لا تدعيني ارتكب الإثم، ثم تطلبين المال مني، من غير جهد؟ فتقول: ها أنت ابتعدت درجة ثانية عن النار. فيتعجب، مستسلما ً لطلبها، فيعطيها كل ما معه، ويغادر كما دخل. فتقول له: ها أنت  اقتربت درجة من الفردوس.
   وقال البواب لي: والغريب إنها مكثت تعمل في المبغى حتى حانت ساعة وداعها للحياة! فسألتها: ما سرك يا أيتها الغزال؟ فقالت لي: لا سر في الأمر، لأنني كنت ادعوهم إلى عدم ارتكاب الإثم والابتعاد عنه، أما لماذا كان عليهم دفع المال، من غير حق، فكان يقربهم خطوة من الفردوس..!
   وما أن أوشك البواب على الرحيل، حتى استدعاني، ليروي لي هذا السر. ولكنني سألته: لماذا مكثت تعمل معها سنوات طويلة، والمكان مشبوه، ولم تفارقها..؟ فقال: هي لم تتركني؟ فسألته: مهنة البغاء أم الغزال؟ قال: لا المهنة ولا الغزال! بل الحياة! وتركته يسترسل في كلامه، فقال متابعا ً: الحياة  التي كلما سبرت غورا ً من أغوارها ازددت شغفا ً بالتعرف على سر من إسرارها!
ـ وها أنت دعوتني قبيل موتك، فماذا تود أن تقول لي، ولماذا اخترت مكانا ً مشبوها ً للعمل فيه؟
قال:
ـ أنا كنت الشاهد الوحيد على عفة الغزال، وطهارتها. فانا كنت، في كل يوم، أتتبع خطى هؤلاء وهم يغادرون من غير دنس، أو إثم.
   صمت قليلا ً، ثم باح لي بسر آخر ـ قال ـ انه كان قد اقترن بها، وفق شرعيتنا، وإنهما، هو وهي، بعد ذلك وجدا لذّة في قهر تلك اللذات..! قال انه لم يلمسها، ولا هي طلبت منه ذلك أيضا ً.
 بعد ذلك، أنا فضحت السر،  قبيل موتي،  لأنني لم احتمل أن ادفنه معي، ويغيب، كما غابت الغزال، وكما غاب من حفظ سرها. .!

[2] النعجة تفكر!
    مكثت النعجة تتبع خطوات الذئب، حتى توقفت عند باب وكره، فسألها:
ـ ماذا تريدين؟
أجابت بصوت خفيض:
ـ خلصني!
ضحك الذئب وقال لها:
ـ أنا لم أتركك حبا ً بك، ولا حبا ً بمن ستحملين به وتلدينه، ولا حبا ً بالخراف أو الراعي، أو بأي مفهوم من مفاهيم الرحمة...؟!
وسكت. فسألته مذعورة:
ـ لماذا إذا ً تركتني؟
ـ لأنني ـ أنا نفسي ـ ابحث عمن يخلصني...، فإذا كنت انشغلت بإيذائكم، طوال حياتي السابقة، فانا اليوم، أصبحت منشغلا ً بالبحث عن هذا الذي لا يدعني منشغلا ً بأمثالكم!
فقالت بخوف اشد:
ـ  ما اقساك...، حتى وأنت تتوب لم يخل قلبك من الجور؟
فرد بذهن شارد:
ـ  وما شأني أنا...، أيتها النعجة العزيزة، فإذا كنت أنا هو المسؤول، أفلا يعني هذا إني بلغت ذروة الكفر، والمعصية؟
    ضحكت النعجة، وقالت بمرح:
ـ الآن عرفت كم الرحمة ـ من غير قسوة ـ أكثر درجة من الجور!
   فاقترب منها:
ـ اسمعي؛ أنا سأذهب للنوم...، وعندما استيقظ، سأكون جعت...، فانتظريني عند الباب، ولا تبرحي!
قالت:
ـ  وأنا سأنشغل بأكل العشب، والارتواء من ماء النبع، وتنفس الهواء العذب...، وتأمل السماء الزرقاء، كي تجد شيئا ً في ّ يسد جوعك!

[3] غريب
   بعد أن رأى بالتلسكوب العملاق، مجرة تلتهم أخرى، وتبتلعها، خاطب نفسه  بشرود تام:
ـ الغريب أني أمضيت حياتي بالحصول على بيت صغير...، ولم افلح، والأغرب....، من ذلك، إنني كلما جمعت مبلغا ً لشراء قبر لي، سرقوه مني...، بل والأغرب من ذلك إنني كلما حصلت على كفن كي استر به جسدي عند الموت، لم أجد شيئا ً يستحق الدفن....!

[4] نور
ـ من...، من في اعتقادك ارفع درجة: الظلام أم النور...؟
ـ النور!
ـ ولكني ادعوك أن تمحو الظلام....، فماذا سترى؟
ـ لا أرى شيئا ً.
ـ فلماذا تعجلت وأجبت..؟
ـ  وهل تركت لي فرصة لقول كلام آخر؟ آ .... لو كان سؤالك: هل هناك ظلام من غير نور؟


[5] مصائر
    بعد أن وضعت الأتان كرا ً...، سمعت ابنها البغل يفطس من الضحك وهو يتمرغ في الوحل....، فسألته:
ـ ما الذي يضحكك، وأنا ولدت حمارا ً صغيرا ً؟
   رفع رأسه، محدقا ً في عينيها الذابلتين، تارة، وفي عيني شقيقه المتوهجتين، تارة ثانية، فكف عن القهقهة، وصار ينوح بصوت مكظوم عميق الحزن، فسألته:
ـ ما الذي يدعوك إلى البكاء الآن...؟
بعد صمت وجيز أجاب:
ـ في المرة الأولى قلت لنفسي: لا اعرف أأشكر أبي الحصان، أم أشكرك ِ ، لأنكما ولدتماني بغلا ً...، حيث تتوقف عندي سلسلة أحزان الحمير! وفي المرة الثانية، وأنت تضعين ًكرا ً جميلا ً، أدركت إني لن اقدر على تخليص شقيقي من عمر سيمضيه في حمل الأوزار...؟
ـ كأنك تحملني ما لا طاقة على حمله، وأنا غير مذنبة في الحالتين!
 ابتعد خطوة عنها، قائلا ً:
ـ مادامت المصيبة لا تلد إلا مصيبة، فهل باستطاعتي أن أكون سعيدا ً وقد أدركت تماما ً أن هناك سواك، من الاتانات، تلد بغالا ً.....، حتى لو كنت عقيما ً، فالمضحك المبكي، شبيهة بالمبكي المضحك، كلاهما لا يقود إلا للمزيد من المرح المر، فانا لم اختر مصيري، ولو كنت اخترته، فهو اشد مرارة من مصائر الحمير!


[6] سر
ـ هل تود أن أخبرك بالسر؟
ـ أتمزح معي؟
ـ لا!
فضحك حتى سقط أرضا ً:
ـ  لو كنت عرفت السر..، لكنت بعداد الغائبين!
ـ ولكني عرفته، مع إنني أخاطبك...
ـ ها أنت أسرفت بالكلام....، فلو كنت عرفته، فهل كان تركك تتندر بالحديث عنه...، فالسر أما أن يقتل صاحبه، وأما صاحبه سيقوم بدفنه!


[7] جوع
    بعد مطاردة وجيزة، امسك النمر بالثور، وانبت أنيابه في رقبته، فسمع النمر الثور يتمتم بصوت لا يخلو من التندر:
ـ كنت أظن انك تعلمت الرحمة؟
جفل النمر، فسأله:
ـ ماذا تقصد؟
ـ  أن تكون مثل البشر...، تتركني اسمن، ثم تذبحني بالسكين! بدل أن تمزق جسدي بمخالبك وتقطعني بأنيابك!
ـ آ ....، آنذاك سأكون وضعت في القفص...، بانتظار  لحمك يأتيني باردا ً! أو أن لا أجد طعاما ً يقيني من الجوع!


[8] محنة
سأل الحفيد ـ التواق للمجد ـ جده الذي ركل في مكان قصي، في جناح المفترسات:
ـ ما ـ هي ـ أقسى المحن التي اكتويت بها، ولم تنج منها، يا جدي؟
  اضطرب الجد:
ـ المحنة التي أنا فيها!
ـ ولِم َ لم تخبرني بها، كي أخلصك منها؟
بعد صمت طويل قال الجد:
ـ بماذا أخبرك...، وهل ستصدق؟ فإذا أخبرتك: إن محنتي إنني بلا محنة! لأن  الذي وهبها لي، هو لا يريد أن يخلصني منها!، فقد تركني لا انتظر مسرة اسر بها، ولا عذابا ً اكتوي به أو أتوجع....، فبعد أن خبرت أحوال الحدائق، وأحوال الدواب، والبهائم، والأنعام ـ بعد أن عشت في البراري والغابات والمستنقعات والوديان ـ صرت أرى الحياة تمر مر السحاب، فلا هي أخذتني معها، ولا أنا انجذبت إليها! لم احلم بفردوسها، ولم اخف من جحيمها!
   ابتسم الحفيد، وقال لجده:
ـ الآن عرفت لماذا عزلوك!


[9] كلمات
    لم تعد الحمامة الأم إلى عشها، فسأل الصغير شقيقه:
ـ هل ارتكبت إثما ً ...؟
رد بخوف:
ـ انه السؤال ذاته الذي دار ببالي، وقلت: من منا ارتكب الخطيئة، كي نموت جوعا ً، ونحن لم نر في الدنيا إلا هذا القبر الذي اعد لنا قبل الولادة؟
أجابه:
ـ المعضلة انك تعلمت الكلام، قبل أن تتعلم الطيران!
ـ يا أخي... لو كنت تعلمت الطيران، لكان الكلام هو الأداة الوحيدة الأكثر فتكا ً!
ـ ولكن دعنا نسأل أنفسنا، قبل أن نموت: إذا كنت أنت لم تتركب إثما ً، ولا أنا..، فقد تكون أمنا العزيزة ارتكبت الفحشاء، وقامت بعمل أهلكها؟
ـ ربما يكون والدنا؟
   قال الأول بصوت خفيض جدا ً:
ـ ها أنت تدرك إننا ـ أنا وأنت ـ لا نستطيع الحصول على الطعام، ولا نقدر على الطيران، ولكننا بحاجة لمعرفة من منا ارتكب الإثم كي نعاقب  ..؟
ـ ربما لا احد منا، لا أنا ولا أمي، لا أنت ولا أبي، فعل شيئا ً، وهذا ما يدعونا إلى الكلام!
ـ وماذا نفعل والموت يدنو حتى لو كنا أبرياء تماما ً.
ـ آ ...، قد يكون الكلام هو الخطيئة الوحيدة التي نعاقب عليها، فانا ادعوك إلى الصمت، لعلنا نموت من غير ضجة، ومن غير كلمات!

[10] طعام
    قالت الدودة لرفيقتها، وهما يقفان في أعلى الشجرة:
ـ انظري...، ما أوفر الطعام في هذا اليوم...
فردت عليها:
ـ مازال عطر هذه الجثث حادا ً...
ـ لننتظر ... فستتفسخ!
ـ اجل.، إنها لا تستطيع الهرب، فلِم َ العجلة...
ـ لكن... انظري....، هناك الحشرات، وهناك الطيور، وهناك الضباع ....
ـ لا تكترثي، يا عزيزتي....، فالحرب بين الأشرار لم تنته!

[11] مصائر
ـ لم يبقوا مكانا ً لنا، في هذه الزريبة...، فدعنا ـ يا جدي ـ نهرب، ونبحث عن ملاذ...
  لامست نظرات الصقر العجوز قضبان القفص ببصره، بعد أن شاهد الساحات تكتظ بجثث التماسيح، والنمور، وبأشلاء أفراس النهر والفيلة، بالثيران والسباع، وببقايا الحيتان والغزلان، وبأخرى مازالت تتمرغ، تتلوى، وهي تبحث لها عن مخبأ، بعد أن غزت الحديقة مجموعات من الكائنات الغريبة، مجهولة المصدر....
فتمتم الصقر العجوز مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ  ومن ذا يستقبلك...، وسكان الحدائق، والمحميات، والبراري، بلا استثناء، شاركوا بالقضاء عليك، اجتثاثك، ومحوك من الوجود؟
    فصرخ احدهم:
ـ هل نستسلم للموت من غير مقاومة؟
   عاد الجد يتأمل قضبان القفص بنظره الشارد، متندرا ً، وأجاب:
ـ  حتى لو كسرنا قيود هذه الأقفاص، فمن ذا سيحطم قضبان السجون الأخرى...؟

[12] لغز



    افتتح البغل محاضرته حول أسباب العنف، ودوافعه المستترة، والمخفية، والمموهة بأقنعة تتحول من عصر إلى آخر، ويتم استبدالها، وتجديدها، بشعارات مناسبة، شاملة جميع الأنواع التي انقرضت، ومن هي على قيد الانقراض، مؤكدا ً إن في العنف غواية لا تقاوم، وتبدو متجذرة، لكن ...، هذا كله لم يلغ لغز وجودنا، وأضاف البغل بحزن:
ـ يبدو أن موتنا، وخاتمة حياتنا، قد وضعت قبل أن ترى عيوننا النور....، وإلا ....، ما معنى إنفاق هذه الموارد، والثروات، والطاقات، في جعل الموت حقيقة غير قابلة للدحض؟
ثم أضاف بعد برهة صمت:
ـ الأمر الذي يجعلني أتساءل: ماذا لو أنفقنا هذه الموارد، والطاقات، والثروات، ببناء حياتنا من غير غوايات القتل، وسفك الدماء؟
رفع السبع مخالبه وتساءل:
ـ وماذا افعل بهذه المخالب...
وتساءل الذئب:
ـ وماذا افعل بهذه الأنياب...؟
  فقال البغل:
ـ الم ْ اقل لكم ...
قبل أن يكمل عبارته، توزع جسده، بين المفترسات، باحتفال وجيز، وهو يردد:
ـ الم اقل إن العنف وحده كتم لغز ديمومته!


[13] الحمامة والغراب
سألت الحمامة البيضاء، القابعة في قفصها بجوار الغراب الأسود:
ـ  لابد إن حزنت شديد حتى انك لم تستبدل لونك الأسود هذا أبدا ً...؟
فأجاب من غير تفكير:
ـ ولابد إن أفراحك، أيتها الحمامة، لا يناسبها إلا هذا البياض، مع إننا جميعا ً لم نغادر هذا السجن!

[14] عقار
   التقى الديك ابن أوى، في الطريق، فسأله:
ـ لو سألتك أتقول الحق؟
ـ وهل لديك شك أني لا أقول إلا الحق...؟
ـ حسنا ً...، كم مرة أعلنت توبتك؟
   لم ينتظر طويلا ً، ليقول:
ـ بعدد المرات التي أثمت فيها؟!
فسأله الديك، قبل أن يهرب ويتوارى منه:
ـ لكن لِم َ لم تتب مرة واحدة والى الأبد كي تذهب إلى الفردوس؟
ـ الحق أقول لك، إنني حاولت ذلك...، ولكني كلما ارتكبت الإثم اشتقت إلى التوبة، وكلما تبت ازددت شوقا ً للاثم! فهل لديك عقار لا يدعني أتوب كي احن إلى ارتكب الآثام، وهل لديك عقار لا يدعني ارتكب الآثام كي أتوب؟
من بعيد، صاح الديك:
ـ  لو كان لهذا العقار وجود، في هذه الدنيا الموحشة، المقفرة، والكالحة، لكان بني البشر عثروا عليه، وتركونا نموت بهدوء!

[15] المصيبة
ـ انظروا.....، هذا هو من كان يهتف: عاش التمساح الطاغية...
    احتشد قطعان الدواب، المواشي، والزواحف من حوله، يتقدمهم كبير الجرذان،  فقال بصوت خفيض:
ـ رويدكم...
ورفع صوته:
ـ  أنا لا أتنصل، ولا أنكر، ولا اعتذر....، إني هتفت بحياة الطاغية التمساح...
فساد الصمت برهة بدت كالأبدية، ليقول متابعا ً:
ـ  فالسيد كبير الجرذان أفرط في مدح الضباع،  ومساعده كان يعمل بمعيته في الحرس الخاص، والأخر أثنى على زعامة الثعالب،  والسيد آمر جناحنا كان مرشدا ً لقائدنا الفيل، وقد بح صوته في ذكر محاسنه، والثناء على حكمته، ورجاحة عقله....
   امتد الصمت، ولم يرد عليه أحدا ً، فقال يخاطبهم:
ـ فأنت ِ...، يا بومة، الم تشتمي الشمس، وأنت َ يا غراب، الم تمجد الظلمات...، وأنت ِ يا حرباء...، هل اعترضنا على تلونك بحسب الظروف....، وأنت يا نورس الم ترقص عندما غمرنا الطوفان...
    فتقدم منه كبير الجرذان، وسأله:
ـ والآن، في هذا الزمن، ماذا تقول...؟
  اقترب منه وقال هامسا ً:
ـ تبا ً للزمن الذي يدعوني اهتف فيه: عاش الجرذ!
فسأله:
ـ لكنك هتفت بحياتي!
ـ المصيبة أعظم لو إني كنت لعنتك، والأشد منها إني لو كنت صمت!

[16[ الموت
ـ ماذا تريد مني وأنت تتبع ظلي أينما ذهبت؟
أجاب الآخر بسؤال:
ـ وهل لديك ظل كي أتتبعه؟
ـ إذا ً سأتسمر ـ هنا ـ حتى يدركني الموت!
ضحك الآخر، مبتعدا ً عنه، حتى كاد يتوارى، فصرخ يسأله:
ـ هربت ... إلى ... أين؟
ـ سأدعك متسمرا ً وأنت لا تحلم  إلا أن أتيك وأخلصك!
ـ آ ....، الآن...، عرفت من تكون...، فأرجوك لا تتركني، وقد صار الموت خلاصي!

[17] خسارة
ـ أتعرف .... لماذا يذهب البعض إلى الموت، بشوق، حتى تظنه عثر على خلاصه...؟
ـ ربما لأن الحياة سلبت منه، وما عاد يفهمها..، فأصبحت فائضة ولا تعني عنده شيئا ً يذكر...، فراح هؤلاء يبحثون عن مكان آخر...، غير المكان الذي أصبح موحشا ً، وخرابا ً...؟
ـ لكن من سلبهم الحياة؟
ـ ربما من رآها ذات معنى، وفهمها، ليجني مكاسب جراء إنزال الموت في الآخرين!
ـ ولكن ـ يا سيدي ـ الجميع هم بحكم الموتى...، من يدعوا إلى الموت أو من يموت ...؟
ـ ربما أن يأتي الموت متأخرا ً، بعض الوقت،  أفضل من حياة لا معنى لها! وربما الخسارة ذات المعنى خير من الربح المفقود مهما كان كبيرا ً!

[18] مرح
   شاهد الذئب حارس الحديقة يغلق أبواب الأقفاص الحديدية، ويتأكد من إحكام أقفالها، فراح يضحك، ويضحك بصوت جهوري، حتى لفت انتباه الحارس الذي اقترب منه، وسأله:
ـ ما المضحك في الأمر...؟
ـ المضحك انك أصبحت تخاف على نفسك منا، بينما الحقيقة هي علينا أن نخاف منكم!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد ...، لو تركت الأبواب مشرعة، فانك لن تجد أحدا ً منا سيغادر أقفاصه، بعد سنين طويلة أمضيناها فيها، أو يفكر القيام بعمل طائش، بعد الرفاهية التي حصلنا عليها، لأن القضاء عليكم لن يحل المعضلة، بل يسفهها!
ـ ولكن هذا يدعوا للبكاء؟
ـ يكفي إننا بكينا طويلا ً، وآن لنا أن نقضي ما تبقى من أعمارنا مرحين!

[19]  قهر
    للمرة الأولى شاهد النورس، عند ضفاف النهر، دبا ً يصطاد السمك، سمكة بعد أخرى، ولكنه بدل أن يأكلها، كان يمزقها بمخالبه، ويسحقها بأنيابه، ويعيدها إلى الماء... فاقترب النورس منه، شارد الذهن، وسأله:
ـ يبدو انك تلهو ...؟
ـ لا!
ـ ماذا تفعل إذا ً...؟
ـ اعمل!
ـ أقتلك للسمك تدعوه عملا ً...؟
ـ لا!
ـ اشرح لي، أرجوك، فعقلي لا يستوعب ما تقوم به..
ـ أنا أتدرب على الصيد، يا عديم العقل!
وأضاف بزهو:
ـ لأنني لو لم افعل هذا...، فانا ساجد نفسي عاطلا ً عن العمل، أو أصاب بالخمول!
ـ آ ...، الآن فهمت لماذا تدوم الحروب بين بني البشر، لأن من يعمل على قهرها، ُيقهر!

[20] حدائق وسجون
ـ دعنا نهرب، يا صديقي، ونعثر على ملاذ آمن لنا...
ـ ولكن قد نقع في الأسر، ويلقى القبض علينا، أو ربما نقتل...؟
ـ هذا أفضل من انتظار الموت...
فرد عليه بصوت مرح:
ـ أنا لم اطلب منك البقاء بانتظار الموت، معنا، كما لا أمنعك من الهرب، والبحث عن خلاصك، مادام الموت آت على الجميع، اليوم أو غدا ً...؟
ـ ولكني ما أن اذهب بعيدا ً عنكم حتى يتم نسياني، وأصبح كأنني لم أولد ولم أمت؟
ـ يا صديقي...، ليس ثمة مشكلة في الأمر: فعندما تنجو وتجد ملاذا ً آمنا ً لك،  فآنذاك تنسانا، ولا تعرف شيئا ً عنا، وفي الوقت نفسه، نحن أيضا ً لا نعرف شيئا  عنكً!
ـ آ ...، يا صديقي ..فأنت اخترت قفصك ولا ترغب بمغادرته...، أما أنا فسأجازف بالهرب لعلي أنجو...
ـ لا بأس..، فنحن عشنا سنوات طويلة داخل أقفاص هذه الحديقة، وأسوارها، أما أنت، فستعيش داخل قفص بلا حدود...، ولكن هذه الحدود، يا عزيزي، لن تذهب ابعد من أسوار حديقتنا أبدا ً! فنحن اخترنا مصائرنا بإرادتنا، أما أنت فقد اخترت حريتك بمعزل عنا!
ـ هكذا إذا ً سأصبح نسيا ً منسيا ً، واسمي سيزول من ذاكرتكم؟
ـ يا صديقي...؛ إنها المسافة ذاتها، إن حصلت هنا، أو هناك...، فإما أن تعيش في حديقة هذا السجن، أو تعيش سجنك داخل هذه الحديقة! فجدنا الأعظم قال لنا ذات يوم: مسافة العدم واحدة، إن مشيتها وأنت في سجنك، أو مشيتها وأنت خارجه!!
ـ كأنك لا تريد مني أن اهرب، وأنجو...؟
ـ وهل تقدر أن تنجو...، إن هربت أو لم تهرب، مادامت السجون لم تبن إلا وسط الحدائق، ومادامت الحدائق لا وجود لها إلا داخل هذه السجون! فأينما وليت فإما حديقة مسّورة بالجدران، وإما  لا وجود للجدران إلا داخل الحدائق!
23/3/2016
Az4445363@gmail.com







كاظم حيدر والبراق!- د. أحسان فتحي




كاظم حيدر والبراق!


 د. أحسان فتحي
 نجح مزاد (كريستيز) البريطاني في بيع لوحة (البراق) للفنان العراقي الراحل كاظم حيدر (1932-1985) في 16-3-2016 في مدينة دبي بمبلغ قدره 545000 دولار أمريكي بعد ان كانت قد قدرت قيمتها بحوالي 200000 دولار!  ولم اتمكن (حتى الان) الحصول على اسم المشتري الغامض الذي اشترى ايضا لوحات لفنانين مصريين متوفين بأسعار جيدة جدا.
اني اعرف هذه اللوحة الجميلة لكاظم جيدا لأنني كنت أراها كثيرا عندما كنت اتردد على دار الكاتب والناقد الفلسطيني العراقي الكبير، جبرا إبراهيم جبرا (1919-1994)، في الثمانينات من القرن الماضي. وكانت امانة العاصمة، بتوصية من المعماري رفعة الجادرجي قد كلفتنا، جبرا وأنا، بتأليف كتاب عن بغداد عام 1987. كان موقع العمل في دار جبرا في المنصور وكنا نعمل سوية لفترات طويلة استمرت أشهر عديدة أصبحنا بعدها أصدقاء مقربين جدا بالرغم من الفارق بين عمرينا. وكان هو يزورني في بعض الأحيان في داري الصغيرة في الحارثية لانجاز بعض النصوص في الكتاب.  كان جبرا يمتلك عددا قليلا من لوحات الفنانين العراقيين من بينها لوحة جواد للشاعرة لميعة عباس عمارة، ولوحة لعلاء بشير، ولوحة لفائق حسن، ولوحتين لكاظم حيدر احدهما البراق، وبعض المنحوتات لمحمد غني وخالد الرحال، ولوحة لسعاد العطار وأخرى لراكان دبدوب ولوحة كبيرة لجميل حمودي، ولوحة كبيرة نسبيا لشاكر حسن ال سعيد، وكذلك علق حوالي 5 لوحات جميلة كان هو قد رسمها في فترة الأربعينات والخمسينات. وعندما توفي جبرا انتقلت ممتلكاته ومن بينها اللوحات والقطع النحتية إلى ولديه سدير وياسرواللذين هاجرا العراق بعد سنوات قليلة من وفاته.







وفي 4 نيسان 2010 انفجرت سيارة مفخخة قرب دار جبرا والسفارة المصرية في بغداد مما ادى الى موت 17 شخص والى تدمير شبه كامل لدار جبرا الذي احتوى على الاف الكتب والوثائق الخاصة بجبرا والتي لم يستطع ولداه ان ينقلاها معهم الى خارج العراق. المهم هنا ان لوحة كاظم حيدر والتي كنت قد صورتها في بيت جبرا قد نجت من هذا الانفجار المروع وكتب لها ان تحلق عاليا في عالم الاسعار بعد ان كان ثمنها في حينها 30 دينارا فقط لا غير! وكنت قد تعرفت على كاظم لأول مرة عام 1961 في لندن حيث كان هو يدرس تصميم ديكورات المسرح رجع إلى الوطن في 1962. وعندما رجعت انا للعراق بعد الدراسة في 1968 كنت التقي به كثيرا مع بعض الأصدقاء. ولا أنسى ذلك اليوم الذي زرته في داره مع الصديق الراحل زهير العطية في منتصف السبعينات وفوجئنا بوجود حصان ضعيف ( مسقو، ومصاب بمجاعة!) في الحديقة الصغيرة امام الدار. وعندما سالناه عن الامر قال انه اضطر لشراء هذا الحصان من بائع عربانة نفط في المحلة وذلك لمساعدته في تخطيط ورسم جدارية كبيرة جدا موضوعها كان عن (الحصان العربي وجماله الأخاذ) لمبنى القيادة القومية لحزب البعث. ضحكنا كثيرا في وقتها مما سبب حرجا له لان الحصان "الموديل" لم يكن مثاليا او جميلا ابدا لكنه كان مضطرا لانجاز العمل خلال فترة قصيرة جدا ولم يكن لديه الوقت للذهاب الى "العرب". وللعلم بان هذا العمل الكبير (اقدر مقاساته ب 3 في 9 متر) كان هو والمبنى قد دمره الأمريكان تماما في 1991، ولعل ابن أخته الدكتور نجم يملك صورا أو تخطيطات لهذا العمل الجبار.




بقى ان اقول بانه لم يخطر ببالي ابدا حينذاك ان اشتري عملا من الصديق العزيز (كاظم عبد حيدر الجنديل) ولم اطلب منه ان يهديني عملا من أعماله الفنية لأنني متأكد بانه لم يكن سيتردد في تلبية طلبي هذا. عاش بحالة مادية متواضعة جدا ولم يكن يحلم أبدا بوصول أعماله إلى مثل هذه الأسعار المذهلة، شأنه شأن العديد من الفنانين الكبار الذين يشكل رحيلهم عن عالمنا قفزة استثمارية مثمرة لتجار الفن والمضاربين المتربصين كالذئاب الكاسرة!
أخيرا أود التحذير من اعمال الرواد المزورة، وخاصة المتوفين منهم، لان هذه الأسعار المغرية شعلت السوق الفني وستحفز عصابات التزوير على المضي قدما في إنتاج الأعمال المزورة عسى أن تنطلي حيلهم على حتى بعض الأشخاص وبعض دور المزاد "المرموقة"!





الاثنين، 21 مارس 2016

جورج طرابيشي: ما بعد العقلانية...وسؤال النظرية النقدية العربية-حيدر علي سلامة*


جورج طرابيشي: ما بعد العقلانية...وسؤال النظرية النقدية العربية
حيدر علي سلامة*

خاص ثقافات

طرابيشي: من فاجع الموت إلى فاجع العقلانية
استقبلت الأوساط الثقافية والأكاديمية والأدبية إلى جانب الصحفية، خبر رحيل الفيلسوف والمفكر جورج طرابيشي بشكل تخطى إلى حد بعيد تراجيديا فاجع الرحيل، ليتمركز حول تراجيديا فاجع العقلانية في خطابنا الثقافي. وعند الحديث عن ثيمة العقلانية ومدى تلازمها وارتباطها مع فاجع رحيل طرابيشي، فإننا في الواقع نتكلم عن مدى راهنية إعادة "فهم وتأويل" مفهوم فلسفة العقلانية في الثقافة العربية خاصة والادبيات الإسلامية عامة. إذ ينبغي علينا أن نتساءل حول كيفية التعاطي مع هذا المفهوم وشروط تشكله في التاريخ؟ من اجل ان لا يُختزل مفهوم العقلانية عندنا إلى مجرد انتماء إلى سلسلة لامتناهية من المبادئ الأولية المطلقة، التي قد تتحول مع مرور الوقت إلى شعارات وايديولوجيات فحسب.
كل هذه الأسئلة الإشكالية فرضتها لحظة فاجع رحيل المفكر طرابيشي. فمتابعة سريعة لما يُنشر ويُكتب في هذه اللحظة الراهنة، تكشف لنا كيف أن مفهوم العقلانية ما زال مفهوما يشوبه الكثير من الغموض والالتباس جراء التداول الأرثوذكسي له من قبل المختصين عندنا في الشأن الفلسفي والثقافي على حد سواء.
فرغم أن مفهوم العقلانية من أكثر المفاهيم الذي ارتبط ولصق بمشروع طرابيشي/الفلسفي/الثقافي/الإسلامي، فإن ما يُؤخذ على أغلب تلك الكتابات التي ظهرت بعد رحيله، عدم تحديدها لشكل هذه العقلانية وبيان وظائفها التاريخية والنقدية، بل ولم يتم الوقوف عند معانيها المتحولة في مشروع طرابيشي. وذلك لان أكثر تلك الكتابات اقتصرت في تناولها لمفهوم العقلانية في مشروع طرابيشي ضمن مراحله المتأخرة فحسب، خاصة في مؤلفاته التي عالجت قضايا وإشكالات التراث والخطاب الإسلامي. وكأن المفكر طرابيشي لم يؤسس لهذا المفهوم في مؤلفاته وترجماته المبكرة بطريقة تاريخية ونقدية لا سيما في مؤلفاته حول جدل الفلسفات المادية؛ والوجودية؛ والماركسية/التحلينفسية. والسؤال الذي نود طرحه هنا، لماذا التزمت أغلب الكتابات والمقالات التي نُشرت إبان لحظة رحيل طرابيشي، حالة من الصمت تجاه مرحلة "العقلانية المادية المبكرة" لطرابيشي، واستبدالها بـ "أيديولوجيا العقلانية التقليدية" وتحويلها إلى عقيدة ارثوذكسية في مؤلفات طرابيشي المتأخرة؟ ألم يعمل طرابيشي في ترجماته ومؤلفاته الفلسفية والسيكولوجية والمادية "المبكرة" على نقد وتفكيك مفاهيم قدسنة العقل وتصنيم الأيديولوجيا وعبادة الشخصيات في مثل هذه العقلانيات؟ ألم تكن عقلانية طرابيشي المبكرة ضد مفهوم الصلاحية Validity سواء في الأيديولوجيا والفلسفة الماركسية وخطاب المثقف والسلطة؟ ألم يؤسس طرابيشي لمبدأ البحث والتحري والتحقيق inquiry في فلسفته المادية/العقلانية بهدف نقد الانغلاق العقائدي في الفلسفة والسياسية والنقد وخطابات العلم والدين؟ فكيف أصبح طرابيشي أحد رواد العقلانية العربية التقليدية (ذو الاتجاه الواحد)؟ في حين انه من المعروف، أنه شكّل "قطيعة ابستمولوجية" في كتاباته وترجماته المبكرة مع مثل هذه العقلانية الدوغمائية، لينعرج بها نحو "نظرية نقدية عربية" قوض فيها كل من: استبدادية السياسي؛ وسلطوية المثقف؛ وسلفية/ وارثوذكسية المتمركسين العرب.
فلماذا سكت المثقف العربي عن ذكر عقلانية طرابيشي المادية المبكرة، أي عقلانية "دار الطليعة" وسلسلة قضايا السياسة والمجتمع؟ ويصر في الوقت نفسه على اظهار طرابيشي في عقلانية واحدية، هي عقلانية دار الساقي "المتأخرة"؟

حقا، نحن نقف هنا أمام فاجعين: فاجع الرحيل؛ وفاجع العود الابدي للأيديولوجيا في فلسفة طرابيشي، التي لطالما سعى جاهدا إلى ملاحقتها ورصد بؤر تواجدها وتكاثرها وانتشارها بدء من مجتمع المثقفين والانتلجينسيا العربية مرورا بالحياة اليومية والاجتماعية والسياسية للجماهير.

هرطقات طرابيشية في نقد الأيديولوجيا والمثقف
مثلت مرحلة الستينيات والسبعينيات لجورج طرابيشي البداية الحقيقية لتشكيل جينالوجيا "النظرية النقدية العربية" التي يمكن اعتبارها البديل الابستمولوجي والثقافي لسيطرة المشاريع الماركسية الأرثوذكسية والقوموية ذات التوجهات الأحادية والواحدية الضيقة في الفكر والتخطيط وتكوين سيكولوجيا الإنسان حسب مقاييس زعماء الأيديولوجيات المذكورة أعلاه.
لذلك، سعى طرابيشي في هذه المرحلة إلى إعادة النظر بالمشاريع العقلانية التي تكونت في ظل صعود هذه الأيديولوجيات، معيداً إلى اذهاننا الاعمال الفلسفية والسوسيولوجية والمنطقية لمدرسة فرانكفورت التي تشكلت بوادرها بعد صعود الشموليات التوتاليتارية المتمثلة بالنازية والهتلرية والماركسيات الارثوذكسية، حيث عملت هذه المدرسة على إعادة النظر بتاريخ مفهوم العقلانية في الفكر الغربي والبحث في بنيته ومنطقه الداخلي الذي أنتج وافرز مثل هذه الشموليات في الحياة والسياسة والمجتمع. فكانت العودة إلى الرواد الأوائل في نقد وتفكيك تاريخ العقلانية الغربية واشكالها السلطوية والمتمثلة بالفرويدية؛ والماركسية؛ والغرامشوية والوجودية هي اهمّ ما ميز ترجمات طرابيشي في مرحلة الستينيات/والسبعينيات. ففي عام 1974 ترجم طرابيشي اهم مؤلف لعالم التحليل النفسي/الماركسي ويلهلم رايش وهوكراس: (ما الوعي الطبقي؟ نحو علم نفس سياسي للجماهير) والصادر عن دار الطليعة. فإذا كانت حسب طرابيشي: ((نقطة الانطلاق المركزية في هذا الكراس التمييز بين الوعي الطبقي للقادة والوعي (او الشعور) الطبقي للجماهير، فإن نقطة الوصول هي إرساء بعض أسس ما اسماه رايش بعلم نفس الجماهير: فقد استطاع النازيون ان يفرضوا سيطرتهم على الحركة الجماهيرية بالرغم من ظلال نظريتهم وتهافت ايديولوجيتهم، ورجعية مبادئهم، وهذا لأنهم عرفوا كيف يتوجهون إلى بسيكولوجيا الجماهير وكيف يخاطبون فيها نفسيتها. أما الاشتراكيون والماركسيون فإنهم، لجهلهم بعلم النفس الجماهيري ولرفضهم إياه، وجدوا انفسهم مقضيا عليهم بالانعزال عن الجماهير وبخسارة نفوذهم عليها بالرغم من صواب نظريتهم وثورية ايديولوجيتهم. ومن ثم فإن هذا الكراس نداء إلى تأسيس علم نفس للجماهير، ولكن علم نفس تكون الجماهير ذاته لا موضوعه)) (ويلهلم رايش: ما الوعي الطبقي؟ نحو علم نفس سياسي للجماهير، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى،1974 ص-ص5-6).
لقد استمر طرابيشي في مواصلة دوره التنويري في ترجمة اهم الأعمال الفلسفية والسياسية التي تفضح وتفكك عمل الأيديولوجيات، سيما عندما تتحول إلى حقائق ومقولات عقلانية وسايكولوجية تؤمن بها الجماهير وتُسلم بصوابها رغم زيفها وبطلانها. من هنا، جاءت ترجمته لكتاب جان مارك بيوتي (فكر غرامشي السياسي). ثم تأليفه لكتابه الذائع الصيت وهو (الماركسية والايديولوجيا)؛ ثم اعقبها بترجمته لكتاب (الماركسية والوجودية) لجورج لوكاش، إلى جانب ترجماته الأساسية في المادية الجدلية من جهة؛ وترجماته في نظرية نمط الإنتاج الاسيوي. ولا يفتنا الإشارة هنا أيضا إلى أهمية ترجماته لمؤلفات مؤسس التحليل النفسي فرويد وانشغاله في تأويل بعض مفاهيمه المتعلقة بتحليل البنية العصابية للمثقف والثقافة العربية، فقد استأثرت هذه الإشكالية بأهتمام طرابيشي منذ السبعينيات حتى مرحلة صدور مؤلفه (هرطقات) 2006، حيث كان تركيزه منصبا بالدرجة الأولى على إعادة تأويل مفهوم القسوة الذي يتوزع بين كل من الماركسية/والمثقف/والحاكم، حيث لاحظ كيف أن: ((القسوة ..أمست...عنواناً للحكم الماركسي، من حيث هو حكم مثقفين...وما ذلك لأن المثقف بطبيعته قاسٍ، بل لأن الوظيفة التي أنيطت به على مرّ عصور التاريخ هي تمثيل الوجدان البشري والدفاع عن مبادئه وقيمه ومصالحه. ولكن إذا كان المثقف هو، على هذا النحو، وجدان الحاكم، فمن يكون وجدان المثقف عندما يصير هو نفسه حاكماً؟ وبعبارة أخرى، إن الدكتاتورية التي مورست بأسم المثال الماركسي هي، في أحد معيّناتها، نتيجة اجتماع الحاكم والمثقف في شخص واحد، ومن ثم توحّد السلطة والوجدان)). (جورج طرابيشي: المثقف وسقوط الماركسية، موقع الحوار المتمدن -العدد: 1732 - 2006 / 11 / 12 - 09:59)
هكذا تبدو المقاربة بين الماركسية؛ والايديولوجيا؛ والمثقف، من اهم مرتكزات نقد العقلانية العربية التقليدية من جهة؛ ونقد أيديولوجيا المثقف من جهة أخرى. فالمثقف هنا اصبح مماثلا لمفهوم العقلانية المطلقة التي تحلق في سماء المبادئ الكلية وتتعإلى على مفهوم الوجود في العالم: ((فعلى هذا المثقف أن ينزع عن بصره وبصيرته غشاوة الأيديولوجيا، وأن يحرر نفسه من الصيغ الجاهزة والمفاهيم المتآكلة، وأن يضع ذاته من جديد في مدرسة الواقع والحقيقة. وكذلك، وعلى الأخص، في مدرسة المعرفة. فالمسافة المعرفية التي تفصل مثقف الهامش، ممثلاً بالمثقف العربي، عن مثقف المركز، باتت لا تقلّ شساعة عن المسافة الاقتصادية والتكنلوجية التي تفصل البلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة. (المصدر نفسه)
ثم يلجأ طرابيشي إلى معجم المفكر الراحل ياسين الحافظ ليستعير منه بعض المفردات الأساسية في نقد بنية وفكر المثقف: ((الذي طالما طاب له أن يتصوّر نفسه سابقاً مجتمعه، والذي طالما طاب له أن يتصور أن مهمته التاريخية هي على وجه التحديد أن يتقدم مجتمعه لينير له "أقوم المسالك" إلى التقدم، هو اليوم مسبوق ومفوّت في مجال اختصاصه بالذات، أي في الثقافة)). (المصدر نفسه)
من هنا، ان فكر طرابيشي المبكر والمتأخر، ينبهنا إلى ضرورة الانتباه إلى: العقلانية العربية المفوّتة؛ والماركسية المفوّتة؛ والمثقف المفوّت. ومع هذا الثالوث تتشكل بوادر "نظرية نقدية عربية/مابعد العقلانية" خاصة وان طربيشي دعا إلى: ((فكر متحرر من كل اشكال الاستعباد الأيديولوجي لان الأيديولوجيا بالنسبة اليه هي اكبر عدو يمكن ان تواجهه المعرفة وعلى ضوء ذلك صرح ان اليقين ليس في ثبات مقولة ما مهما بدت قوية ومتينة وانما هو كما بيّن ذلك متأثرا بكارل بوبر في عدم الايمان بالاعتقاد)). (ضحى بوعجينة، جورج طرابيشي ودوره في التنوير العربي :البعد الماركسي في فكر جورج طرابيشي، موقع الأوان)
ما حاولنا ان نشير اليه فيما جئنا على طرحه أعلاه، ان جورج طرابيشي قد طرح في مؤلفاته المبكرة البديل الانتقالي من العقلانية العربية التقليدية إلى النظرية النقدية العربية، وما كانت مجمل صور تحولاته الفكرية بين الفلسفات اللاوثوقية ، كالماركسية؛ والوجودية؛ والتحليل النفسي؛ وفلسفة نمط الإنتاج الآسيوي؛ والدراسات الأدبية والجمالية التحلينفسية؛ إلا دليلا على وعي طرابيشي بضرورة تقديم البديل لهذه العقلانية المسؤولة عن انتاج منطق الهزائم والمرائر في تاريخ ثقافتنا العربية.
________
*باحث من العراق-مختص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها


التاريخ : 2016/03/18 09:54:03

الخميس، 17 مارس 2016

قصة قصيرة حكاية رواها لا احد!-عادل كامل



قصة قصيرة


حكاية رواها لا احد!


عادل كامل


    في البدء، تقدم الموكب، الجرذ الأعظم، محاطا ً بحرسه الخاص، من ثم سار خلفه موكب الجرابيع، ذات الرؤوس الابرية، أعقبه مباشرة، موكب فصائل الفئران المتوحشة، برفقة أكلات الدود، والفضلات، والأعشاب البرية، من ثم ظهر موكب السبع، مكبلا ً بالحبال، والسلاسل الحديدية، باتجاه المنصة الكبرى، خلف زرائب الأبقار، وحظائر الحمير والبغال والخيول، حيث اكتظت الأرصفة، الممرات، الدروب، والفضاء، بسكان الحديقة، تلبية لنداء استحضار رغباتهم النائية، ومكبوتاتهم المندثرة، إذ تم تحريرها من ظلماتها، وقيودها، وصارت تتمتع بحق رؤية مديرهم السابق، وهو الأوحد الذي وازن خطاه مع ضجيج الأصوات المتناثرة، غير آبه للمسرة والبهجة التي قرأها في أحداقهم، وفوق سطوح عيونهم المبللة بدموع النشوة، واللذات الطليقة، وغير آبه لمسراتهم وهم يعلنون عنها وهو يلقى حتفه، في نهاية المطاف، في المكان ذاته الذي توج فيه مديرا ً أبديا ً  لزمنهم غير القابل للأفول.
     عند المنصة الكبرى، وقف قائد الجرذ الأعظم، شامخا ً، رافعا ً رأسه نحو الغيوم، فتوقفت الفصائل، والجحافل، والصنوف، مشيرا ً بحركة غير مرئية بترك السبع يتقدم صوب المشنقة، التي نصبت وسط منصة التتويج، وهي ذاتها حملت شعار منصة الخلود، كي يضع الحبل، بنفسه، ويلفه حول عنقه، بانتظار بدء الاحتفال بعام الشنق.
    على إن الروايات تعددت، تنوعت، حد استحالة معرفة كيف اختفى السبع، وتوارى عن الأنظار. كل ما أجمعت عليه الوثائق، والصور، والفيديوهات، وما سجلته الكاميرات الخفية، وأجهزة التقاط ذبذبات الصمت، وكل ما اجمع عليه الشهود، إن الجرذ الأعظم ألقى خطابا ً موجزا ً لكنه امتد ـ بتعدد المصادر وتنوعها ـ سنوات غير محددة، ثم اختفى، هو الآخر، وغاب تاركا ً أثرا ً يمحو كل اثر لغيابه، مؤكدين ديمومة حضوره، والى الأبد.
   فقال كبير الضباع إنها مسرحية رخويات رواها رأس لا وجود له، وإنها ليست هزلية، ولا تمت بنسق المآسي، أو النكبات، ولكنها ـ في خاتمة المطاف ـ لا تضع حدا ً لمسارات يصعب دحضها، ولا محوها، كما شاعت همهمات مغايرة، تقول إن الحدث مكثت يتجدد، مع فجر كل يوم طال ليله، إنما هناك أراء خالفت زعيم الذباب، معترفة، إن ما جرى لم يكن وهما ً ولا طيفا ً، لا كابوسا ً ولا برقا ً، بل هو الحقيقة مكتفية بذاتها، ومن الصعب تفكيك أصولها أو إعادتها إلى الجذر، وانه لا جدوى من محاولات طمس معالمها، أو إعادتها يانعة خضار بعد الحدث. فأيده مسؤول الموروثات المحنك، بأشرة صامتة، وقورة، أكدت تجانس وحده الأضداد بين النفي وحتميات التجدد التي لا غبار عليها، فالسبع لم يختف، ولا كبير الجرذان توارى، وإنما حدث إن الفراغات اتسعت، بين الحدث، والمشاهدين، سكان البرية والغابات والكهوف مع سكان الحديقة، وان ما حصل ليس لعبة لعبت من غير لاعبين، لأن اللاعبين لم يظهروا براعة اللعب، بل لأن التشبث بالحتميات مفهوم عفا عليه الوقت. فقال كبير الثيران لخنزير فقد بصره، إن التمسك بالقانون أورث تعددية جوفاء، خالية من المرونة الجدلية، فالسبع أدى دوره، ودورته، وان كبير الجرذان ـ بأمانته ـ حسب تعبيره ـ لم يخن الأمانة، حيث الفعل جرى في أوانه، ولا صلة للماضي به، الأمر الذي صاغ منه يوما ً من أبهى أيام المجد، والكرامات.  فكاد الخنزير يستعيد بصره، لكنه فطس من الضحك، قائلا ً، انه لم ير سوى اللحظات التي وجدت عوامل تكاملها في الظهور، بين الأسباب والنتائج، وهي ذاتها تماثل العلاقة بين المدير وضحاياه، فاستقام الحدث على ركائزه الصائبة. فاعترض صرصار على السياق، بوصفه يخلو من العلم والعلمانية، ويخلو من المنهج والمنهجية، لافتا ً النظر إلى معادلة كادت أن تغيب، معادلة تقول لا مبررات من غير فاعلين، إن كانوا أشباحا ً أو أطيافا ً، مرئيين أو لا مرئيين، فسأله الثور الأسود صاحب القرون المتعددة، بعد اختفاء الخنزير الأعمى الذي رأى النور، هل رأيت المشهد كاملا ً، من غير تشوش، وتمويهات، وضغوطات؟ فلم يجب، بل وجد ضفدعة تتباهى وتنطق بأنها جرجرت من مستنقعها، مع عشائر الضفادع، والسحالي، والسلاحف، للتمتع بنزهة العمر، والحصول على وسام الإبداع، عند المنصة الكبرى. فلم يجد الخنزير فرصة أكثر سلاسة للاختفاء، لكنه اصطدم ببعير، نهره، أأنت أعمى، فرد الخنزير عليه؛ الأعمى من لا يرى العميان.
    لكن النمل الذي تجمهر، مع الجراد، وباقي هوام المستنقعات، والصحارى، كانوا يعيدون سرد الحكاية، على نحو مختلف، كل الاختلاف، فقال كبير النمل، للنحل، وللبرغوث، وللديدان الشريطية، والحلزونية، إن السبع هو الذي ألقى بالجرذ إلى الهاوية، وعلقه بالمشنقة ليتدلى في الهواء، أزمنة طويلة، قبل أن يتحول عفنه إلى أثير، فامتعض زعيم القمل، لا يا سيدي، أنا رأيت الهاوية تنادي، فلم تجد من يستجيب لها، سوى ابنها البار، ومديرها الخالد، أما الجرذ، فعاد إلى الشق الذي خرج منه، فصفق كبير الغربان، وأمر أتباعه بالمغادرة، منوها ً، إن التعددية تجاوزت الحدود ذاتها التي خلفتها الزعامات الأحادية، والثيوحيوانية، لكن الأفعى أمسكت به، يا غراب...، لو كانت التعددية ـ كما قلت ـ غير متوازنة مع مكوناتها، فان فضائلها لا تتساوى مع آثامها، والأمر ـ قالت متابعة ـ لم يجر إلا باستكمال دورته...
   استيقظ السبع داخل فضاء قفصه الحديدي، ونادى على الجرذ، طالبا ً الاقتراب منه:
ـ ماذا تريد؟ رد الجرذ، فقال السبع:
ـ حلمت حلما ً شبيها ً بالكابوس، مركب ومشفر بالألغاز ...!
فقال كبير الجرذان:
ـ كل الاضطرابات لها خاتمة سابقة على مقدماتها....، وإلا لكنت أرسلتك إلى الهاوية، وانتهى الاحتفال!
فخاطبه السبع غاضبا ً:
ـ حتى أنت... أصبحت تشاكسني؟
ـ ماذا تريد...، هل أفسر لك حلمك الذي كنا صنعناه معا ً، وصار من الماضي؟
ـ لا، لم اطلب منك تأويلا ً، ولا شرحا ً ، ولا تفسيرا ً...، لكن الكابوس مازال ينهش  أحشائي، ويتنزه داخل رأسي!
ـ أيها الموقر، وهل كنت ستصبح سبعا ً لولا انك ولدت بمخالب صقر وبأنياب تمساح ...؟
ـ ولكنك، طوال زمن الكابوس، كنت قاسيا ًحد غياب المرح، وظالما ً حد الجور...، وأنت تعرف إن زوالك مدوّن قبل ولادتك في هذه المستعمرة؟
ـ قسما ً بالسواقي، بالحفر وبالظلمات...، أنا لم أبرح موقعي...، ولكني رأيت حلمك وأنت تأمل أن تستعيد عرشك، وتحلم بالعودة إلى المنصة، وقد رأيتك تجاوزت حافات المحرمات، والخطوط السود!
ـ يا سعادة كبير الجرذان، أيها الحارس الأمين، الصادق، لقد كان كابوسا ً تخللته استراحات وجيزة، فانا حلمت بموتي قبل أن احلم باستعادة حياتي..، فانا لم اذهب ابعد من حدود هذا القفص...، وقد آن لك أن تفتح لي الباب!
ـ قد ... قد أطلق سراحك، لكن من ذا سيحررك من الكابوس، ويشفيك من علله؟
ـ كأنك أدركت أن احدنا هو من صنع الآخر، فلا أنا أساوي شيئا ً من غيرك، ولا أنت لك اثر يذكر من غيري، والآن أراك تعمل على قلب المعادلة؟
ـ آه .. كأنك تريد الاعتراف بما لم يتبدل: لولا العبيد لتحرر السادة! وكأنك تومئ ـ عن بعد ـ لتقول: لولا الضحايا لكان القتلة غير مضطرين إلى ارتكاب جرائهم؟ إنما القضية مغايرة تماما ً: إنها محنة اغتصاب....، فلو نظرت إلى هيأتك، سيدي، لعرفت انك مهضومات فرائسك المستضعفة....!
ـ لا تجحد ...، وتذكر ما سيؤول إليه مصيرك بعد الموت؟
ـ ها، ها، لم يعد لدي ّ ما افقده...، واخسره..،  فانا ولدت كأنني لم أمت، وسأولد وكأن موتي الدائم دلالة حياة  أبدية! فانا ـ مثلك ـ كالضوء يفقد وجوده من غير الظلمات، وكالظلمات لا معنى لها من غير الضوء!
ـ إذا ً من أوقعني في غواية ارتكاب الفضائل؟
ـ آ ....، تذكرت ـ سيدي ـ عندما وقعت الحرب، وتناثرت الجثث، ولم تبق حفرة من غير مصاب، عندما صار عدد الأيتام بعدد حبات الرمل، انك كنت تبتسم...، هل تتذكر ابتسامتك الخالدة، سيدي...؟
ـ ...
ـ لكننا تعلمنا منها الصمت! فكلما قهقهت أدركنا إن النكبات على الأبواب...، تزحف كالطاعون، وكالوباء...
ـ وهل رأيت عربة تعمل من غير وقود...، هل هناك نار من غير حطب، وهل هناك هرم من غير قاعدة...؟
ـ ها أنت بدأت تذهب ابعد من حدودنا!
ـ وماذا افعل لمخلوقات طالما كانت تهتف لموتها؟
ـ لأنها ـ سيدي ـ لم تغادر حفرها، وسجونها، وعفنها...، بل حتى إنها صارت تمجد ظلماتها! وتستشهد من اجل عدمها! .. كي تنجو...، وأنت كنت تراها فتزداد بهجة!
ـ ها أنت ترتكب الإثم، لأنني كنت أروم قيادتها إلى الذرى...، والمجد، والخلود!
ـ آ ...، كي ترجعها إلى التراب، زاعما ً انك ترسلها إلى الفردوس، إنما من كان سلبها ...، إرادتها، ومن كان عطل عمل عقولها ...؟
ـ وهل للدواب عقول، وكأنك تقول: الأشجار تفكر، وللنمل ذاكرة، والجرذان تحلم؟
ـ من سلبها..، اغتصبها، روضها...، وتركها تدب، من حفرة إلى حفرة، حتى صارت لا تمجد إلا من يرسلها إلى الأثير...؟ والآن أسألك: ألا ترغب بالخروج من الكابوس؟
ـ هذه هي المعضلة...، حتى الديناصورات رحلت كما يرحل البعوض، والذباب، والبرغوث..، فما الذي احصل عليه، لو خرجت، غير أن انتظر الثعالب تبول علي ّ...، والجرذان تجادلني في المصائر...؟
ـ ...
ـ ومع ذلك انتظر منك أن تطلق سراحي، وتخرجني من هذا الكابوس.
ـ سيدي، لو فعلت، أكون تجاوزت الخيانة، مع إنني لم اشتغل جاسوسا ً ، كما لم اعمل في الدوائر المظلمة! ولم انشغل حتى بمراقبة الشاذين، آسف، اللوطيين، آسف: المثلين!
ـ يا أحمق، أنا لم اهرم بعد...، فانا خبأت لغز قوتي في التراب، وفي الماء، وفي النار، وفي العواصف... فان لم تطلق سراحي فسأضطر إلى كسر قيودي، وأنت هو من سيشرف على تدوين باقي فصول الحكاية...
ـ وستعفو عني ؟
ـ شرط أن تعرف من هو أنت...؟
ـ أستاذ، أنا لم أجد واحدا ً من سكان هذه الحديقة يجهل نفسه! فكل من رأيته، يقول: أنا ـ هو ـ من رأى ..، وفهم، وفكر، وعرف! وكأنه هو وحده مدير الشركات العابرة للكواكب والنجوم والمجرات! فلم أر بعوضة لم تبد شراسة في الدفاع عن كيانها، ولا ذبابة، وما رأيت قط فأرا ً ولا صرصارا ً لم يحلم أن يكون سبعا ً، أو في الأقل: نمرا ً أو ثعلبا ً!
ـ اجل....، اجل، حتى أردأ الديدان وضاعة تعمل للقضاء على أرقاها، فلا مكان للحشرات الجميلة في غابة خرج سكانها من عفن الآبار، أومن وحل المستنقعات الضحلة  ...!
ـ هذه هي المعضلة، هذه هي الكارثة!
ـ اخرس...، فانا سأعود كما يعود الوباء...، وانشر مجدي!
ـ مجد الطاعون؟
ـ ها أنت تجاوزت حدود الحلم!
ـ وأنت لم تشف من كابوس الزعامة.
ـ يا حمار....، أية زعامة، وأنا احتفلت الضفادع، الأرانب، الخنافس، والحشرات بغروب شمسي؟
ـ آ ....، كم كانت أيامك جميلة!
ـ ها أنت تتلذذ بالسخرية، وتلهو بزعيمك، لهو لاعب تدور من حول عنقه حبال الموت؟
ـ لا ترعبني....، قبل قليل حاولت إغوائي بإطلاق سراحك...، وها أنت تستدرجني إلى فلسفتك...؟
ـ إذا ً....، اغرب عن وجهي، ودعني ابحث عن عقار آخر أعالج فيه العلة التي لا مناص إنها سابقة في وجودها على دواء الشفاء!
صرخ الجرذ:
ـ  سأطلق سراحك!
ـ غريب ...، ما الذي حدث؟
ـ فكرت... أن تعود إلى السجن الأكبر، إلى القفص الذي لا قضبان له! بدل أن تجعل مني لعبة، أو تسحقني بإشارة من عينيك!
ـ لا ...، بل سأدعك تؤدي دور الجرذ الأعظم...، وسأنصبك زعيما ً على القطط، وعلى الكلاب.... أيضا ً.
ـ وأنت؟
ـ أنا هو من يصنع لك هذا المجد.
ـ ها، ها، لا جديد تحت هذه السماء، فلم تلد بهيمة وليدا ً يأتينا إلا بالقديم!
ـ وما الجديد؟
ـ أن لا نولد في هذه الحديقة، داخل أقفاصها، ونموت موت النعاج، والعبيد!
ـ لا تشتم شعبك، فلولا القطيع من تكون أنت...؟
ـ صفر تائه بين الاصفرار، أو مثل عدم ممتد، سراب مشغول بتمويهات الفراغات!

ـ أحسنت ...، لكن دعني أكمل...
ـ ....
ـ سأطلق سراحك، وأقول للقطيع: أمسكت بالشرير ...، وأنت ستمشي خفيض الرأس، مكسور الخاطر، مبلل المؤخرة....، ثم، في لحظة الموت، سأطلق سراحك!
ـ انك تتحدث عن نهاية الزمن؟
ـ سيدي، وهل هناك زمن كي تكون له نهاية. بالعكس: هذه هي البداية التي ستمتد لتلتهم نهايتها!
ـ كابوس ينمو كي يبلغ درجة الحلم!
ـ ها أنا ناولتك الدواء...، فما عليك إلا أن تتناوله....، كي تشفى!
ـ وتقودني ـ سيدي كبير الجرذان ـ إلى منصة الشنق، ثم تدعني أغيب؟
ـ السباع، يا أحمق، كالديناصورات، ما أن ينقرض الواحد منها، حتى يأتي الحفيد...، فليس باستطاعة احد القضاء على هذا اللغز: ديناصورات، كلاب، جرذان، أرانب، سباع، برغوث...، فهي آلات لا تمتلك إلا أن تعمل ببرمجتها! أما ترهات الثيران، والثعالب، والغربان، فما هي إلا تمويهات تعزز هذا المجد!
ـ ومن سيكون حفيدي؟
   قرب رأسه، وهمس بصوت خفيض:
ـ  أنت!
ـ  من أنا كي أكون  أنا هذا الحفيد؟
ـ أنت الأوحد...، فأنت هو الذهب الأنقى حتى من المعادن المستحدثة!
ـ وبأي ميزان ستزنني؟
ـ بالقانون ذاته الذي جعلك سيدا ً على الغابات، البراري، والصحارى.
ـ ولكني لم اعد ـ في هذه الحديقة ـ إلا صورة أزمنة صارت خارج الخدمة، وعاطلة عن العمل!
ـ آ ...، تقصد انك بلغت الذروة؟ لكنك أغفلت: إن العاطل عن العمل، هو، هو وحده، الجدير بلعب هذا الدور...
ـ لكننا ـ جميعا ً ـ لا عمل لدينا، سوى الحفاظ على القانون: لا تعمل، ولا تدع سواك يعمل...؟
ـ تقصد: لا تفكر ولا تدع أحدا ً يفكر..؟
ـ ليس هذا تماما ً..، بل: لنعمل العمل الوحيد الذي لا يسمح إلا بديمومة هذا العمل!
ـ وجدتها، سيدي، وجدتها!
ـ ما هي؟
ـ  أن أطلق سراحك، كي ادخل أنا القفص، فأنت ستكون الجلاد،  وأنا سأكون الضحية؟
ـ فكرة ليست باطلة...، قل لي: كيف خطرت ببالك؟
ـ سيدي، العاطل عن العمل، وحده، يجيد الابتكار..! وهكذا استعيد مجدي الغائب.
ـ وأنا أصبح حارسا ً...، لكن، ما هي ... مهمتي؟
ـ  أن تطلق سراحي، وتقودني إلى منصة الخلود!
ـ لتحتفل بالقضاء على سلالة الجرذان؟
ـ لا.. أيها الحمار...، لأنني ـ حينئذ ـ سأدعو إلى انتخابك ...
ـ ومن ينتخبني؟
ـ البعوض، البرغوث، الصراصير، كما سأستدعي المنقرضات، الزواحف، والثدييات، وكل دابة تدب، وكل من في الماء، وفي الهواء...، فأنت ستحصل على نسبة 99%...!
صرخ السبع غاضبا ً:
ـ  ومن هذا الذي عصى أوامر عدم انتخابي، كي احصل على 99%؟
ـ لا احد!
ـ كيف...، وأنت لم تضع 1000%، شرطا ً للخاتمة؟
ـ اللا احد ... سيدي، هو العامل المساعد كضرورة لإعلان المساواة، فالانعتاق لا غبار عليه لو حصل من غير العاب بهلوانية!
ـ ما أذكاك ..!
ـ سيدي، أنا هو من سلالتك ذاتها، فقد حفظت لغز مورثاتك ... كاملة، ولم اخف مدى قدرتها على بلوغ الذروة؟
ـ يكاد رأسي يتخلى عني؟
ـ ستتعلم، سيدي، إن السلطة تروض براءتك، وعفتك، وأمانتك!  وتجعل منكم ـ سيدي ـ قدوة!
ـ للجرذان...، في هذا العالم المنحدر نحو الغروب..، والزوال؟
ـ سنزول معك...، فالكل يلقون المصير ذاته. فالسفينة عندما تغرق لا تدع أحدا ً يتمتع حتى بمن أغرقها!
ـ آ ....، السبع أفاق، فوجد انه  يتتبع خطا أحلام ضحاياه!
ـ هو ذا القانون الذي ينسج الحكاية ذاتها، فلا ثمة عبيد، ولا ثمة طغاة، ماداموا هم شركاء في السرد!
ـ أكاد اصدق أني أصبحت خارج هذا القفص!
ـ حتى لو لم تصدق، سيدي، فالحقيقة وحدها لن تدحض!
ـ حقيقة أنكم أصبحتم أحرارا ً، وطلقاء، كما خرجتم من أرحام أمهاتكم!
ـ بل ـ سيدي ـ أصبحنا خارج قيودنا، وخارج أرحام أمهاتنا أيضا ً!
ـ الم ْ اقل لكم ذلك...، ولكنكم لم تصدقونني!
ـ ها نحن نرصف لك الدرب... فسر!
ـ والآن ...، أرجوك، افتح هذا الباب اللعين...
ـ لا وجود لهذا الباب...، ولا وجود لأي جدار، أو سور، أو حائط...، لا توجد، بعد الآن، محرمات، أو ممنوعات باستطاعتها أن تمنع ولادة الفجر الجديد....، فالغابة من غير حشرات، ديدان، ونمل، شبيهة بكتاب من غير  حروف!
ـ اسمع يا ملعون: أراك أغويتني، فصرت تتحكم بمسارات الحلم!
ـ سيدي، هذا هو: كابوس المجد!
ـ ومن طلب منك أن تخترع لي هذا المجد؟
ـ انه..، سيدي، الذي منعك عنه، هو، جعلني افعل ذلك!
ـ ها أنا أرى المنصة، ها أنا أراك، ها أنا أغيب، مرة أخرى...
ـ لا تتأخر ...، سيدي!
ـ وماذا سيقولون إن لم اعد؟
ـ سنبقى عند المنصة، عند ضفاف الأنهار، في الوديان، في البراري، في الشقوق، وعند الآبار...، في الغابات وفي الحدائق....، نطلبك، نناديك، نترجى حضورك...، فان لم تأت، فدربك لن يغيب عنا، حتى لو غبت!
ـ آ ....، أيها العقل المحنك، كأنك أنت هو الموت جاء ليقطف روحي؟
ـ تقصد ....، يعيدها إليك؟
ـ  ها، ها، وهل كانت لدي ّ روح...، أيها العقل المختل، كي يأخذها؟
ـ آ ...، سيدي، كم تبدو جبارا ً، وأنت تنتصب، مثل صخرة فوق بوابات الجحيم! بل كأنك الهرم ذاته، مات صاحبه كي تبقى الحجارة تروي  حكايتها العنيدة!
ـ الم ْ تتعب، يا جرذ، الم ْ تضجر من استدراج أحلامك الهامدة، لتبثها، في ارض جفت ينابيعها، فجف زرعها، وهلكت مواشيها، وخلت حتى من العويل؟
ـ  سيدي، هذه هي: أحلام ضحاياك، ألا تسمعها، أم أنت فقدت السمع أيضا ً؟
ـ أنا لا اسمع إلا الدوى...، داخل هذا الرأس! فانا لا اسمع إلا صوتي!
ـ انه صوتنا...، صوت الرمل ممتزجا ً بصوت الريح، صوت الصمت مخلوطا ً بحبيبات الزمن...، فهو يدب، يزحف، يترنح...، ألا تراه...، ألا ترى غيابك وقد غدا في ذروة حضوره؟
ـ لا أرى شيئا ً محددا ً...، عدا سماع صرير المفتاح يدور في القفل...، اسمعه ولا اسمعه، وكأني لا أرى إلا حافات الإعصار، تعزلني عنكم، وتعزلكم عني، وانتم تقودون خطاي إلى أعماق الهاوية؛ هاوية المجد، والخلود!
ـ سيدي، هذا هو المجد!
ـ لا فائدة من الغواية، فالأحفاد يتناسلون، من غير رأس أو ذنب، البعوض يلد الدواب، والزواحف تلد الطيور، البرغوث ينز مع الثيران، والثعالب تتصاهر مع النمور، الكلاب تبني حديقة القطط، والجرذان تحتفل بيوم الخلود!
ـ آن لك ـ سيدي ـ أن تفرح، فمن يموت بلا بهجة، كأنه ولد من غير ذنب، ومن ولد من غير خطيئة، كأنه، مرة بعد أخرى، منذ الأزل إلى الأبد، ولد كي لا يموت!
14/3/2016
Az4445363@gmail.com

الفنانة فخر النساء تستيقظ من رقادها علي كلمات تلميذتها لمسات لونية تمردت علي عصر الحريم - مؤيد داود البصام






الفنانة  فخر النساء تستيقظ من رقادها علي كلمات تلميذتها
لمسات لونية تمردت علي عصر الحريم
 


مؤيد داود البصام
أقام المركز الثقافي الملكي أولي فعالياته للحوارات البصرية المفتوحة والذي يديره د. مازن عصفور علي المسرح الدائري حول أعمال الفنانة الراحلة فخر النساء وتلميذتها الفنانة هند ناصر وقد ابتدأ د. مازن الفعالية بشرح أهمية مثل هذه اللقاءات التي ينظمها المركز لتساهم علي خلق مناخات تواصليه بين الفنانين والمتلقين مما يساهم في تنمية الذائقة الفنية لدي المتلقي. ثم تحدثت الفنانة هند ناصر عن تجربتها مع الفنانة الراحلة التي امتدت عبر خمسة عشر عاما قائلة (كانت تمدنا بالحيوية والنشاط بما تمتلكه أعمالها من لمسة من الفن الشرقي التي تمتاز بالزخرفة والمشربيات) ثم أضافت الفنانة هند أثناء عرض أعمال الفنانة الراحلة علي الشاشة (امتازت أعمالها آنذاك برؤية العالم من خلال المشربيات التي استقتها من مشاهداتها حينما كانت في العراق بألوان زاهية تمثل الروح الشرقية الذي يميزها عن الغرب فهي بدأت بالتجريب حتي انتهت بالتجريد وتحولت من الشكل و الأبعاد والعمق إلي تسطيحه إلي أن أصبح نقاطا ثم إلي تقنية) بعدها عرضت أعمال الفنانة هند وتحدثت عن أعمالها وتأثيرات الفنانة فخر النساء علي أعمالها. دار حوار بعد ذلك بين الجمهور والفنانة هند ود. مازن ابتدأه الفنان محمد العامري وتلاه مجموعة من الفنانين والنقاد في النقاش الفنان والناقد محمد أبو زريق والفنانة سامية الزرو والفنان مؤيد البصام ومما يذكر فان الفنانة الراحلة فخر النساء كانت من مواليد اسطنبول عام 1902 تأثرت في بداية حياتها بمدرسة الخط التركي والنمنمات الفارسية وعندما غادرت تركيا إلي باريس ومع تنقلاتها في العواصم الأوربية تأثرت واندمجت مع الحركات الفنية التي كانت تموج بها الساحة الأوربية فتأثرت بالانطباعية وبعد انضمامها الي جماعة (د) بدأت تأثيرات رمزية البيرت ماركيه وهنري ماتيس تظهر في أعمالها ثم نحت نحو التجريدية التعبيرية، كانت تمتلك إيقاعا قويا للخطوط تسيطر عليه، يتضح هذا في أعمالها الانطباعية والرمزية وهو من آثار مدرسة الخط التركية التي كانت لها السيادة علي ضوء توجهات الدولة العثمانية السلفية والتي جعلت مدارس الخط تضم اغلب أبناء الأمراء والعائلات المعروفة لأنهم اعتبروا الخط من اشرف الأعمال وقد عرضت أعمال الفنانة فخر النساء في اغلب المعارض الأوروبية والأمريكية وأعمالها موجودة في اغلب المتاحف العالمية، أم أعمال الفنانة هند ناصر فتختلف عن أعمال الفنانة فخر النساء كونها تستخدم المساحة اللونية بديلا عن الخط حتي في الأعمال التعبيرية مع استخدامها للألوان الوحشية والمساحات بلون واحد يقطع بلون دون حدود باستخدام القطع بين الألوان لتغطية السطح بنقاوته من التداخل اللوني والمزج، واستخدمت الفنانة فخر النساء في بعض من لوحاتها هذا الأسلوب بتقسيمها للسطح الي أقسام ملونة بمدها علي السطح وليس للإنشاء ويغلب علي أعمال الفنانة هند لوحات الطبيعة والتجريد اللوني.



الشتات الفني العراقي!- د. إحسان فتحي

الشتات الفني العراقي!

 د. إحسان فتحي


إن هجرة الكفاءات العراقية بكافة أنواعها ومستوياتها لهي ظاهرة كان لها اكبرالاثر في تراجع العراق كدولة وكمجتمع إلى أدنى الدرجات اقتصاديا وتكنولوجيا وتعليميا وعمرانيا وفنيا وذوقيا وحضاريا وفي كل شيء. فأنت إن أردت تدمير دولة فما عليك إلا أن تطرد طبقتها الوسطى وكفاءتها!  إن هذا الانحدار(الذي بدء منذ إسقاط النظام الملكي في 1958 وتصاعد تدريجيا بعد ذلك) شمل ويشمل كل تفاصيل الحياة، ومن الصعب أن نرى أي استثناء لهذا التدهور في أي مجال، بل على العكس من ذلك، فان هذه الظاهرة المدمرة كانت لها تفاعلات متصاعدة ولوغارثمية. فتفجرت الطائفية المتخلفة في أبشع حالاتها، وانتشر الفساد بشكل خيالي يصعب تصوره في اي "دولة"، وسقطت الاخلاق والقيم النبيلة، وانقلبت المعايير والموازين، وتقهقر الذوق العام الى درجة مضحكة من الصعب، بل من المستحيل، ان تجد لها مثيلا إلا في اتعس المجتمعات البدائية في الكرة الأرضية. أصبحت قيمة الإنسان تقترب من درجة الصفر...والمعاناة اليومية المهينة أضحت مقبولة لا يعترض عليها احد.
من بين هذه الهجرات الكارثية هي نزوح الأغلبية الساحقة من ابرز الفنانين العراقيين الى دول غربية عديدة وإقامتهم وتجنسهم فيها. الهجرة إلى الدول العربية محدودة لأنها صعبة والإقامة فيها باتت شبه مستحيلة بسبب الكرم أو الضيافة العربية ذائعة الصيت!  ومن الصعب جدا الان، وبعد مروركل هذه الفترة الزمنية، وتجذرهم هم وعوائلهم ان يرجع، او حتى ان يفكربالرجوع، اي منهم الى الوطن. انها تذكرة بأتجاه واحد دون رجعة!  هكذا هو الامر...العراق تميز بطرده لخيرة أبنائه...  العراق هوالاول في تهجيروتشتيت كفاءاته...القسوة هنا تحطم القلب...فأنت تبيع أغلى ما عندك من كتب ومقتنيات بأبخس الاثمان... تترك دارتك الحنونة واخوانك واخواتك واصدقائك...الدموع تحرق العيون والخدود... وحديقتك المشبعة بعطر الجوري والقداح تتوارى بعيدا...البلابل توقفت عن التغريد منذ زمن...المقابر تنمو بسرعة وتبتلع الاموات بلهفة ولوعة ...فارضها متعطشة للدماء...وتشد رحالك الى عالم مجهول مبتدءا من الصفر...نعم من الصفر...انها مغامرة خطرة، غير محسوبة، مجهولة، لكنها الوحيدة المتاحة... انت وصلت الى درب معتم ومسدود... وباب ثقيلة موصدة بأقفال عملاقة...نعم هكذا هو الامر... تذكرة طرد باتجاه واحد!
ولكي اوضح فداحة الامر، سأبين لكم هنا قائمة باسماء بعض الفنانين العراقيين التشكيليين المقيمين في شتات المهجر. ان الاعداد
الحقيقية هي اكثر بكثيرولكنها، بالرغم من ذلك، تعطيكم مؤشرا لافتا وحزينا:
المملكة المتحدة: ضياء العزاوي، سعاد العطار، فيصل لعيبي، علاء بشير، هناء مال الله، بتول الفكيكي، هاشم سمرجي، رشاد سليم، وليد ستي، امين شتي، صادق طعمة، علاء سريح، عبد الرحيم الوكيل، سعدي داود، ساطع هاشم، علاء جمعة، كريم الاسدي، عبير الخطيب، يوسف الناصر، مهين الصراف، فهر الصالح، يوسف الناصر، عصام السعيد (ت 1988)، ناظم رمزي (ت 2013)، باسم مهدي، هاني مظهر، صادق طعمة، زينب الجواري، حسن الجراح، سؤدد النائب، احمد العزوز، محمد علي داود، ميروان جلال، ريبوار سعيد، اناهيد سركيس، جنان العاني، جلال علوان، ليلى العقابي، أنسام الجراح، واخرون.
الولايات المتحدة الامريكية: سعدي الكعبي، هاشم الطويل، طارق ابراهيم، عامر العبيدي، نزار يحي، صالح الجميعي، هيثم حسن، محمد فرادي، احمد السوداني، محمد الشمري، غالب المنصوري، حميد العطار، دلير شاكر، صدرالدين امين، عامر فتوحي، قيس السندي، نزيهة رشيد، خالد ثامر، عبد الحسين تويج، فؤاد مرزا، سعيد حيدر، وفاء بلال، طالب العلاق، سلام عمر، نجم جيجان، اديب مكي، سلام النوري، هناء الوردي، هيف قهرمان، سنان حسين، اسامة عبد الكريم، فائق حسين (ت 2003)، عبد الامير علوان (ت 2014)، عبد الكريم خليل، عامرعلي، رائد نوري الراوي، ناصر ثامر، أحمد غريب، أحمد الكرخي، بول بطو، سلام عمر، فيان سورا، وسماء الشوربجي، واخرون.
كندا: عيسى حنا (ت 2010) سهيل الهنداوي، سومر الهنداوي، علي المعمار، هيثم عزيزة، ماضي حسن، محمود العبيدي، هاشم حنون، كريم رسن، زينا مصطفى سليم، فؤاد حمدي، مها مصطفى، سلام خضر، حبوش ابراهيم رضا، جبار الجنابي، محمد القاسم، موفق نعمة، سيف جلميران، واخرون.
هولندا: علي طالب، عفيفة لعيبي، فردوس حبيب،  ستار كاووش، ايمان علي، حليم عبد الكريم، نديم كوفي، صادق كويش، سلمان البصري، محمد قريشي، تركي عبد الامير،علي رشيد، فاضل نعمة، ابراهيم رشيد، مهى عبد الكريم، قاسم الساعدي، أراس كريم، هوشيار رشيد، أراز طالب، عوني ساقي، سلام جاز، زياد حيدر، حسام محمد (ت)، بشير مهدي، برهان صالح، فاضل جواد المسافري، كمال خريش، مهند العلاق، رملة الجاسم، سلام عباس جرار، أور حميد البصري، واخرون.
ألمانيا: خالد النائب، مكي حسين، ودود الشيخلي، منير العبيدي، موريس حداد، جبار سلمان، داود سلمان عناد (ت 2012)، غازي الدليمي، حسام البصام، حسن الحداد، فحمان الجابري، منصور البكري، رياض البزاز، سامي احمد الشرع، يونس العزاوي، ايمان عبدالله محمود،نور الدين امين، رضا حسن رضا، واخرون.
فرنسا: فائق حسن (ت 1992)، أرداش كاكافيان (ت 2000)، محمد سعيد الصكار (ت 2014)، مهدي مطشر، غسان فيضي، صلاح جياد، سعد علي، عاصم عبد الامير، نعمان هادي الوكيل، هيمت علي، غني العاني، حسن مسعودي، سليم عبد الله، دلشاد كويستاني، عباس العتابي، عقيل الاوسي، أياد الجلبي، رغد عبد الواحد، يوسف ناصر، واخرون.
ايطاليا: جبر علوان، علي الجابري، عزيز كاظم، رسمي الخفاجي، ازاد ناناكيلي، يوسف حبيب، فؤاد عزيز، علي العساف، مالك المالكي، بهاء بالدين، بشير مهدي، احمد بالدين، جيمس كراني، فؤاد علي، علي عساف، هلال حامد، توفيق سمكو، بالدين احمد، عدنان أطيمش (ت 2012)، سليم عبدالله، واخرون.
الدنمارك: علي جبار، عباس كاظم، ياسين عطية ( قتل في انفجار في بغداد 2013)، واخرون.
السويد: سميرة عبد الوهاب، كريم سعدون، شيبان احمد، عامر سلمان، علي النجار،عبد الاله لعيبي، كاظم الداخل، حيدر علي، عمار داود، عايد جاسم، محمد سامي، سلمان راضي، مظهر احمد، احمد نصيف، حقي جاسم، ابراهيم رشيد، واخرون.
النرويج: يحي الشيخ، واخرون.
النمسا: مخلد المختار، رحمن حاوي، واخرون.
سويسرا: كريم فرحان، فائق العبودي، سعيد فرحان، سلام الشيخ، واخرون.
فنلندا: عادل عابدين (الاردن ايضا)، ستار الفرطوسي، عامرخطيب، علاء الدباغ، كوثر الراوي،  واخرون.
اسبانيا: كاظم شمهود، مازن سامي، سعد علي، جودت حسيب، كمال سلطان، منير السعداوي، واخرون.
جيكيا: محمود صبري ( ت 2012)
استراليا: جسام خضر، سيف المراياتي، مازن احمد، واخرون.
الاردن: وداد الاورفلي، رافع الناصري (ت 2014)، محمد غني (ت 2011)،محمد مهر الدين (ت 2015)، ماهود احمد، سلمان عباس، سيروان بران، شنيار عبد الله، غسان غائب، علي التاجر، نشأت الالوسي، راجحة القدسي، عزام البزاز، سعيد شنين، ضياء الراوي، سينا عطا، ليث الترك، خالد وهل، علي زيني، ندى يونس، سوسن الصراف، زينب فيضي، ياسين المحمداوي (ت 2003)، خالد القصاب (ت 2004)، محمد صبري (ت 2004)، مديحة عمر (ت 2005)، وسماء الاغا (ت 2015)، واخرون.
لبنان: عمران القيسي، ليلى كبة، رياض نعمة، نهى الراضي (ت 2004).
ألامارات: ناطق الالوسي، وائل المرعب، أياد الحسيني، محمد تعبان، سرمد الموسوي، حسين السلوان، سرمد الموسوي، خالد المقدادي، معتصم الكبيسي، حسين القيسي، زيد الاعظمي، رياض معتوق، محمد خالد، ليلى العكيلي، واخرون.
قطر: إسماعيل عزام، احمد البحراني، سالم مذكور، مزاحم الناصري، وليد القيسي، كريم البكري، نهاد العزاوي، واخرون.
عمان: شوكت الربيعي، صبيح كلش.
وهناك مئات آخرون لا نعرفهم في المهجر...  ...ومئات يتلهفون الفرصة لبناء حياة جديدة من الصفر.
 * معماري، عضو نقابة المهندسين منذ 1968
عضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين منذ 1968
عضو رابطة نقاد الفن العالمية منذ 1987
آذار 2016



خطاب أوباما والذين يظنون "أن الضبع يبتسم"-صائب خليل

خطاب أوباما والذين يظنون "أن الضبع يبتسم"

صائب خليل
16 آذار 2016

أثارت الحركتان الأمريكيتان الأخيرتان بمهاجمة أوباما للسعودية (1) وزيارة القنصل الأمريكي لجرحى الحشد(2)، قلقا وشعوراً بأن شيئاً مشبوهاً يوشك ان يحدث. لكن ما تسبب لي بالقلق الأكبر هو رد الفعل "الإيجابي" الغريب لدى الحشد لزيارة القنصل!
عندما قرأت خبر زيارة القنصل، ورأيته يلوك العربية في الفلم، تذكرت فوراً "سفرة الموت" عام 1989، حينما رأينا مفاجأة أخرى كانت خارج المألوف أيضا، عندما اخذ صدام حسين ضحيته "عدنان خير الله" في سفرة سياحية إلى الحبانية نقلت على الهواء مباشرة، ليوحي للناس أن علاقتهما على أفضل ما تكون. وفهم الناس بعد ذلك سر هذا التلطف المفاجئ والغريب من صدام حسين، حين "سقطت" طائرة وزير الدفاع السابق عدنان جراء "خلل فني"! فهم الجميع عندها الخدعة وأن ذلك اللطف تجاه الضحية لم يكن إلا "صك تبرئة" يتم إعداده ليسبق الجريمة المخططة للقضاء عليها.

وإذا كان صدام حسين قد سعى لتقديم صك تبرئة واحد قبل ارتكابه فعلته فإن أميركا تقدم اليوم للشعب العراقي صكين! إذ لا تكتفي بالزيارة المثيرة للانتباه للقنصل الأمريكي في البصرة، بل ترفقها بهجوم أكثر إثارة للانتباه لأوباما ضد السعودية. ورغم انها ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها مسؤول أمريكي كبير، بعض عملائهم، (بايدن والإمارات مثلا قبل فترة وجيزة) في تمثيلية القصد منها إلقاء لوم الجرائم الأمريكية على العملاء، إلا أنها كانت هذه المرة أشد. وكذلك، وعلى غير العادة، وربما لإعطاء الأمر المزيد من الأهمية والمصداقية، فإن مسؤولا سعوديا سابقا، قام بالرد على المهاجم، وكانوا دائما يكتفون بالصمت في الماضي.

قلت أن ما اثار قلقي واستغرابي هو رد الفعل للبعض وخاصة جرحى الحشد على تلك الزيارة المقلقة، ورد فعل الناس على تصريح أوباما. وكأن خصوم اميركا كانوا في انتظار أن تلقي لهم عدوتهم بوردة، لينسوا كل ما فعلته بهم ويهرعون وهم مطمئنون إلى حضن الوحش الذي طالما أوغل في دمائهم ومازال!

قيادة الحشد لم تكن مرحبة بالزيارة. فقال العامري في بيان مقتضب، “لا نرحب بزيارة القنصل الأميركي لجرحى الحشد”، مضيفاً بالقول “لو كانوا جادين لأوقفوا تصريحاتهم السيئة ضد الحشد الشعبي”.
وكذلك قال المتحدث باسم حركة عصائب أهل الحق نعيم العبودي، على الزيارة "ان كانت هذه الزيارة إنسانية فهي متأخرة"، مضيفاً "أنها زيارة ذات طابع استراتيجي لا أكثر".(3)

السيد مقتدى الصدر قدم ردا مباشراً وقوياً، برفض زيارة القنصل ودعوة الحشد إلى "التبرؤ منه سريعا"، ومنعه من التدخل في شؤون المجاهدين، ووصفه بـ "الإرهابي"، محذرا من يتماهى معهم بأنه سيكون "في خندق غير خندقهم"، مضيفا أنه لو لم يكن منشغلا بالإصلاحات لكان رده "شديداً".(4)

لكن الرد الأقوى والأوضح كان بلا شك رد الشيخ اوس الخفاجي، والذي وجه رسالة رفض لا لبس فيها ولا تأويل، ولم يترك حتى باب التراجع أو الدبلوماسية مفتوحا، ووصف الأمريكان بالأعداء وذكر القنصل (وكذلك العراقيين الذين نسوا) بأن الحشد قد تلقى هداياهم بشكل قنابل وصواريخ أرسلت إليهم "بالخطأ"، وقال له أنه غير مرحب به وأنه لا يضمن سلامته إن هو كرر الأمر! (5)

لكن ما لا نفهمه هو كيف أتيح للقنصل الأمريكي أن يزور جرحى الحشد دون موافقة قادته؟ وهل يمكن زيارة هؤلاء الجرحى من قبل أي كان دون إشعار قيادة الحشد؟ أليس في الأمر خطرا على سلامتهم من داعش مثلا؟ إنها أسئلة قد تكشف خللاً في مكان ما.
وربما يكون بعض الجواب في بيان كتائب حزب الله الرافض للزيارة أيضا، حيث أعلن المتحدث العسكري باسم المقاومة الاسلامية العراقية (كتائب حزب الله) جعفر الحسيني رفض الكتائب زيارة القنصل الامريكي لجرحى الحشد الشعبي في البصرة، واعتبرها محاولة للمساس بسمعة الحشد من قبل الجانب الأمريكي، مضيفاً انه فعل ذلك على اساس انه ناشط في المنظمات الانسانية العالمية وليس مسؤولا أمريكيا! وقال إن من رحب بزيارة القنصل لا يمثل كتائب حزب الله في حربها ضد داعش ومن يقف ورائها. (6)

ونحن نرى إذن بوضوح أن تلك الزيارة لم تكن على خلفيات تقارب أو مصالحة وإنما كانت اقرب ما تكون إلى الحيل الأمريكية المعروفة، والتي يحاولون بدعم من الإعلام المأجور، تصويرها بشكل يناسب خطة ما في أذهانهم. ويجب ان نتذكر من الجهة الأخرى، إننا لا نعلم على وجه التأكيد إن كانت ردود الفعل الإيجابي التي ظهرت على وسائل الإعلام متماهية مع حركة القنصل الأمريكي، وأن لها وزنها ونسبتها المهمة، أم أن هذا ما ارادت قنوات التلفزيون أن توهمنا به. فنحن نبقى على وعي بأن اعيننا معصوبة لا ترى إلا ما يريده الإعلام الأمريكي والإسرائيلي الذي يدفع تكاليف قنواتنا، لها ان تراه. ومن نقل ردود فعل الجرحى على زيارة القنصل، يمكنه أن يختار العينات التي يريدها لينقلها للتلفزيون. وإن كانت هناك ثلاثة ردود "إيجابية" بين مئة رفض واستنكار، فإن تلك الأخيرة ستحذف كلها ليتم وضع تلك الثلاثة النشاز وكأنها تمثل رد العفل. وهذا يحدث كثيرا جدا في الإعلام، خاصة عندما تكون القضية "مهمة". فمن الغريب جداً أن يتفاءل الضحايا بزيارة من يعلمون تماما أنه يمثل القاتل الرئيسي لبلادهم، ورأس الأفعى التي أطلقت سمها عليهم وعلى رفاقهم، مثلما عبر قادة الحشد عنه في رفضهم.

ومثل التطبيل الإعلامي العراقي المعادي للعراقيين لزيارة القنصل الأمريكي لجرحى الحشد، حصل تصريح أوباما الهادف إلى توجيه أصابع الاتهام إلى ذيول أميركا بدلا من الرأس، على الدعم من الإعلام والمنظمات المشبوهة. فأكد علي السراي “رئيس المنظمة الدولية لمكافحة الارهاب والتطرف الديني”، بشكل غير مباشر، بأن المشكلة هي مشكلة تطرف ديني بحت، موهماً إيانا أن ليس للأمريكان والإسرائيليين أو أي أحد آخر علاقة بها، عندما دعا إلى "تشكيل جبهة عالمية موحدة للوقوف بوجه" الكيان السعودي، وهي لا تختلف عن الدعوات المخادعة للوقوف العالمي بوجه الإرهاب أو بوجه داعش، وكأن الإرهاب أو داعش أو السعودية قادرة بذاتها على مواجهة أحد، دون أن تساندها أكبر القوى وأكثرها إيغالا في الشر. (7)

إن إعطاء السعودية دورا قياديا في الأمر، يجد صدى مساعدا في الكارهين لها، وهم محقون في كرههم. وفي الوقت الذي قد يقف فيه السنة مندهشين مما يحدث بفضل المشاعر الطائفية، فأن المشاعر الطائفية لدى الشيعة في العراق تشجع قبول القصة كحقيقة، لذلك فهم الأكثر عرضة للخداع في هذه النقطة وتصور الذيل رأساً والانشغال به، بل وربما مقاومة أية محاولة للتنبيه، وتفسيرها على أنها محاولة للدفاع عن ذلك الذيل.

وعلى اية حال، ومهما كانت نسبة المخدوعين، فهي كبيرة، لأنها تستند إلى قبول أشياء لا يجب أن يخطر ببال عاقل ان يقبلها. ففكرة أن "السعودية" هي التي تقود الإرهاب، وأن أميركا تقف ضده، فكرة سخيفة للغاية. فرغم اننا نعلم بأن السعودية كانت دائما عنصر تخريب وإرهاب في المنطقة وضد كل شعب يتحرك فيها، ولكننا لا ننسى أبدا انها كانت تفعل ذلك دائما وفي كل حركة بلا استثناء، تنفيذا لأجندة أمريكية وبأوامر أمريكية مباشرة! وقبل ان نقبل أن نتخيل أن السعودية يمكن ان تتصرف في أمر خطير كهذا بشكل يعارض أميركا، علينا أن نتذكر أن هناك قانونا أمريكيا يعتبر الدول الداعمة للإرهاب، جزء من الإرهاب، ويحق لأميركا ان تعاملها على هذا الأساس! وأن هذا القانون وشدة خطر العدوانية الأمريكية، جعلت الكبار نسبيا، مثل إيران وسوريا يتعاونان في لحظات معينة، مع أميركا لإنقاذ أنفسهما من براثنها عندما تكون في لحظة غضب. فكيف يجرؤ حكام السعودية أو قطر، الذين تبدل اميركا أكبر قيادييهم، كما يبدل الرئيس حذاءه، على أن يدعموا إرهابا تحاربه أميركا وتقول إنه يشكل خطرا عليها؟

ما يزيد الغرابة من الانخداع، أن الأمثلة على مثل هذه الحركات كثيرة جداً. لعلنا لم ننس اللطف الزائد من السيد أردوغان وأسطول حريته للفلسطينيين وتقريعه لقادة إسرائيل وإقامة علاقات وطيدة جدا مع سوريا، ليتمكن بعد ذلك من توجيه الطعنة النجلاء في الظهر، لسوريا وللعرب كلهم بدعمه وقيادته لداعش ودوره الأساسي في تحطيم سوريا والعراق وسرقة نفطهما، بل واختراق حدودهما والطموح إلى احتلال أراضيهما!

ولدينا أيضا مثال في الموقف الأميركي نفسه من سوريا. فنذكّر من نسي، بأن حملة الإرهاب الداعشية في سوريا قد بدأت بتقرب أمريكي غير معتاد من سوريا وحكومتها. فأعادت اميركا تعيين سفير لها في سوريا لأول مرة بعد مقاطعة دامت عقودا طويلة. لكن دهشة القيادة السورية وربما فرحتها الساذجة بهذا التغيير غير المفسر، لم تطل كثيراً، فقد قاد هذا السفير عملية إطلاق التظاهرات في حمص وحلب وكان يقوم بزيارات مكوكية إليهم، لإشعال النيران التي أتت على البلاد!

إننا نريد ونتمنى، بل هي اقصى امنياتنا أن تتغير هذه الدولة التي أذاقت البشر الكثير من الدماء، وبخاصة دماءنا، وكذلك بشار الأسد، كان يتمنى عودة العلاقات مع اميركا وإلغاء حصارها عليه. لكن أحلام التمني التي لا أساس لها، قادت الأسد إلى الدمار التام لبلاده، ولا أرى مبررا ألا أتوقع ذات النتيجة في العراق، إن لم تكن أكثر سوءاً.

إن من يريد البقاء على قيد الحياة من الأحياء، يجب ان يتذكر تجاربها، وأن يتحلى بحد أدنى من الوعي، لا أن يكون فاقدا للذاكرة والوعي، ويقفز لأول أمل كاذب لا أساس له ليسقط في الفخ. فنحن في غابة لا ترحم المغفلين غير المنتبهين.

فلطالما أثار انتباهي ان الضباع لها فم يبدو بسبب تركيبته، وكأنها تضحك حين تكشر عن انيابها، ولكن لا شك عندي أن فرائسها ومنافسيها، لا يسارعون إلى الاستسلام لأمانيهم وافتراض "إن الضبع يبتسم"، وأنه "تغير" لحكمة لا يعلمها إلا الله، وصار "صديقا" لفرائسه، وأنهم بفضل تلك المعجزة السعيدة، صاروا بأمان من فكه الرهيب. إننا لن نرى حيواناً بهذه البلاهة يسير على الأرض، لأنه إن وجد يوماً فلا شك أنه قد انقرض! فما بالنا نحن لا نمتلك حتى حكمة الحيوان البسيط؟ لمَ نتصرف وكأننا مخدرون في انتظار أول إشارة ممن يخدعنا، لنقبلها دون ان نختبرها بأية أسئلة، فنفتح له الباب ليذبحنا بلا مقاومة؟

(1) President Obama’s Interview With Jeffrey Goldberg on Syria and Foreign Policy - The Atlantic
 http://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/
(2) القنصل الاميركي العام في البصرة يزور جرحى قوات الحشد الشعبي  https://www.youtube.com/watch?v=pho8b_5xh5k
(3) أهل الحق لـ"آسيا": الحشد أفشل المخططات الأمريكية - وكالة أنباء آسيا
 http://www.asianewslb.com/index.php?page=article&id=19004
(4)  الصدر يصف القنصل الامريكي بالإرهابي ويدعو الى التبرئ من زيارته ومنعه من التدخل في شؤون المجاهدين »
 http://goo.gl/uvFaam
(5) الى قنصل الشر الامريكي في البصرة ... لا تعد لمثلها ... رسالة الشيخ أوس الخفاحي - YouTube
 https://www.youtube.com/watch?v=fQynvJUY19E
(6) كتائب حزب الله ترفض زيارة القنصل الامريكي لجرحى الحشد الشعبي في البصرة وتعتبرها مساس بسمعة الحشد
 http://www.falmoqawama.com/13001-2/

(7)  السراي مخاطباً الامم المتحدة إن توفرت لديكم الإرادة الحقيقية لضرب الارهاب فعليكم القضاء على بني سعود
 http://iraq.neinawa2.com/?p=4227