الخميس، 17 مارس 2016

الشتات الفني العراقي!- د. إحسان فتحي

الشتات الفني العراقي!

 د. إحسان فتحي


إن هجرة الكفاءات العراقية بكافة أنواعها ومستوياتها لهي ظاهرة كان لها اكبرالاثر في تراجع العراق كدولة وكمجتمع إلى أدنى الدرجات اقتصاديا وتكنولوجيا وتعليميا وعمرانيا وفنيا وذوقيا وحضاريا وفي كل شيء. فأنت إن أردت تدمير دولة فما عليك إلا أن تطرد طبقتها الوسطى وكفاءتها!  إن هذا الانحدار(الذي بدء منذ إسقاط النظام الملكي في 1958 وتصاعد تدريجيا بعد ذلك) شمل ويشمل كل تفاصيل الحياة، ومن الصعب أن نرى أي استثناء لهذا التدهور في أي مجال، بل على العكس من ذلك، فان هذه الظاهرة المدمرة كانت لها تفاعلات متصاعدة ولوغارثمية. فتفجرت الطائفية المتخلفة في أبشع حالاتها، وانتشر الفساد بشكل خيالي يصعب تصوره في اي "دولة"، وسقطت الاخلاق والقيم النبيلة، وانقلبت المعايير والموازين، وتقهقر الذوق العام الى درجة مضحكة من الصعب، بل من المستحيل، ان تجد لها مثيلا إلا في اتعس المجتمعات البدائية في الكرة الأرضية. أصبحت قيمة الإنسان تقترب من درجة الصفر...والمعاناة اليومية المهينة أضحت مقبولة لا يعترض عليها احد.
من بين هذه الهجرات الكارثية هي نزوح الأغلبية الساحقة من ابرز الفنانين العراقيين الى دول غربية عديدة وإقامتهم وتجنسهم فيها. الهجرة إلى الدول العربية محدودة لأنها صعبة والإقامة فيها باتت شبه مستحيلة بسبب الكرم أو الضيافة العربية ذائعة الصيت!  ومن الصعب جدا الان، وبعد مروركل هذه الفترة الزمنية، وتجذرهم هم وعوائلهم ان يرجع، او حتى ان يفكربالرجوع، اي منهم الى الوطن. انها تذكرة بأتجاه واحد دون رجعة!  هكذا هو الامر...العراق تميز بطرده لخيرة أبنائه...  العراق هوالاول في تهجيروتشتيت كفاءاته...القسوة هنا تحطم القلب...فأنت تبيع أغلى ما عندك من كتب ومقتنيات بأبخس الاثمان... تترك دارتك الحنونة واخوانك واخواتك واصدقائك...الدموع تحرق العيون والخدود... وحديقتك المشبعة بعطر الجوري والقداح تتوارى بعيدا...البلابل توقفت عن التغريد منذ زمن...المقابر تنمو بسرعة وتبتلع الاموات بلهفة ولوعة ...فارضها متعطشة للدماء...وتشد رحالك الى عالم مجهول مبتدءا من الصفر...نعم من الصفر...انها مغامرة خطرة، غير محسوبة، مجهولة، لكنها الوحيدة المتاحة... انت وصلت الى درب معتم ومسدود... وباب ثقيلة موصدة بأقفال عملاقة...نعم هكذا هو الامر... تذكرة طرد باتجاه واحد!
ولكي اوضح فداحة الامر، سأبين لكم هنا قائمة باسماء بعض الفنانين العراقيين التشكيليين المقيمين في شتات المهجر. ان الاعداد
الحقيقية هي اكثر بكثيرولكنها، بالرغم من ذلك، تعطيكم مؤشرا لافتا وحزينا:
المملكة المتحدة: ضياء العزاوي، سعاد العطار، فيصل لعيبي، علاء بشير، هناء مال الله، بتول الفكيكي، هاشم سمرجي، رشاد سليم، وليد ستي، امين شتي، صادق طعمة، علاء سريح، عبد الرحيم الوكيل، سعدي داود، ساطع هاشم، علاء جمعة، كريم الاسدي، عبير الخطيب، يوسف الناصر، مهين الصراف، فهر الصالح، يوسف الناصر، عصام السعيد (ت 1988)، ناظم رمزي (ت 2013)، باسم مهدي، هاني مظهر، صادق طعمة، زينب الجواري، حسن الجراح، سؤدد النائب، احمد العزوز، محمد علي داود، ميروان جلال، ريبوار سعيد، اناهيد سركيس، جنان العاني، جلال علوان، ليلى العقابي، أنسام الجراح، واخرون.
الولايات المتحدة الامريكية: سعدي الكعبي، هاشم الطويل، طارق ابراهيم، عامر العبيدي، نزار يحي، صالح الجميعي، هيثم حسن، محمد فرادي، احمد السوداني، محمد الشمري، غالب المنصوري، حميد العطار، دلير شاكر، صدرالدين امين، عامر فتوحي، قيس السندي، نزيهة رشيد، خالد ثامر، عبد الحسين تويج، فؤاد مرزا، سعيد حيدر، وفاء بلال، طالب العلاق، سلام عمر، نجم جيجان، اديب مكي، سلام النوري، هناء الوردي، هيف قهرمان، سنان حسين، اسامة عبد الكريم، فائق حسين (ت 2003)، عبد الامير علوان (ت 2014)، عبد الكريم خليل، عامرعلي، رائد نوري الراوي، ناصر ثامر، أحمد غريب، أحمد الكرخي، بول بطو، سلام عمر، فيان سورا، وسماء الشوربجي، واخرون.
كندا: عيسى حنا (ت 2010) سهيل الهنداوي، سومر الهنداوي، علي المعمار، هيثم عزيزة، ماضي حسن، محمود العبيدي، هاشم حنون، كريم رسن، زينا مصطفى سليم، فؤاد حمدي، مها مصطفى، سلام خضر، حبوش ابراهيم رضا، جبار الجنابي، محمد القاسم، موفق نعمة، سيف جلميران، واخرون.
هولندا: علي طالب، عفيفة لعيبي، فردوس حبيب،  ستار كاووش، ايمان علي، حليم عبد الكريم، نديم كوفي، صادق كويش، سلمان البصري، محمد قريشي، تركي عبد الامير،علي رشيد، فاضل نعمة، ابراهيم رشيد، مهى عبد الكريم، قاسم الساعدي، أراس كريم، هوشيار رشيد، أراز طالب، عوني ساقي، سلام جاز، زياد حيدر، حسام محمد (ت)، بشير مهدي، برهان صالح، فاضل جواد المسافري، كمال خريش، مهند العلاق، رملة الجاسم، سلام عباس جرار، أور حميد البصري، واخرون.
ألمانيا: خالد النائب، مكي حسين، ودود الشيخلي، منير العبيدي، موريس حداد، جبار سلمان، داود سلمان عناد (ت 2012)، غازي الدليمي، حسام البصام، حسن الحداد، فحمان الجابري، منصور البكري، رياض البزاز، سامي احمد الشرع، يونس العزاوي، ايمان عبدالله محمود،نور الدين امين، رضا حسن رضا، واخرون.
فرنسا: فائق حسن (ت 1992)، أرداش كاكافيان (ت 2000)، محمد سعيد الصكار (ت 2014)، مهدي مطشر، غسان فيضي، صلاح جياد، سعد علي، عاصم عبد الامير، نعمان هادي الوكيل، هيمت علي، غني العاني، حسن مسعودي، سليم عبد الله، دلشاد كويستاني، عباس العتابي، عقيل الاوسي، أياد الجلبي، رغد عبد الواحد، يوسف ناصر، واخرون.
ايطاليا: جبر علوان، علي الجابري، عزيز كاظم، رسمي الخفاجي، ازاد ناناكيلي، يوسف حبيب، فؤاد عزيز، علي العساف، مالك المالكي، بهاء بالدين، بشير مهدي، احمد بالدين، جيمس كراني، فؤاد علي، علي عساف، هلال حامد، توفيق سمكو، بالدين احمد، عدنان أطيمش (ت 2012)، سليم عبدالله، واخرون.
الدنمارك: علي جبار، عباس كاظم، ياسين عطية ( قتل في انفجار في بغداد 2013)، واخرون.
السويد: سميرة عبد الوهاب، كريم سعدون، شيبان احمد، عامر سلمان، علي النجار،عبد الاله لعيبي، كاظم الداخل، حيدر علي، عمار داود، عايد جاسم، محمد سامي، سلمان راضي، مظهر احمد، احمد نصيف، حقي جاسم، ابراهيم رشيد، واخرون.
النرويج: يحي الشيخ، واخرون.
النمسا: مخلد المختار، رحمن حاوي، واخرون.
سويسرا: كريم فرحان، فائق العبودي، سعيد فرحان، سلام الشيخ، واخرون.
فنلندا: عادل عابدين (الاردن ايضا)، ستار الفرطوسي، عامرخطيب، علاء الدباغ، كوثر الراوي،  واخرون.
اسبانيا: كاظم شمهود، مازن سامي، سعد علي، جودت حسيب، كمال سلطان، منير السعداوي، واخرون.
جيكيا: محمود صبري ( ت 2012)
استراليا: جسام خضر، سيف المراياتي، مازن احمد، واخرون.
الاردن: وداد الاورفلي، رافع الناصري (ت 2014)، محمد غني (ت 2011)،محمد مهر الدين (ت 2015)، ماهود احمد، سلمان عباس، سيروان بران، شنيار عبد الله، غسان غائب، علي التاجر، نشأت الالوسي، راجحة القدسي، عزام البزاز، سعيد شنين، ضياء الراوي، سينا عطا، ليث الترك، خالد وهل، علي زيني، ندى يونس، سوسن الصراف، زينب فيضي، ياسين المحمداوي (ت 2003)، خالد القصاب (ت 2004)، محمد صبري (ت 2004)، مديحة عمر (ت 2005)، وسماء الاغا (ت 2015)، واخرون.
لبنان: عمران القيسي، ليلى كبة، رياض نعمة، نهى الراضي (ت 2004).
ألامارات: ناطق الالوسي، وائل المرعب، أياد الحسيني، محمد تعبان، سرمد الموسوي، حسين السلوان، سرمد الموسوي، خالد المقدادي، معتصم الكبيسي، حسين القيسي، زيد الاعظمي، رياض معتوق، محمد خالد، ليلى العكيلي، واخرون.
قطر: إسماعيل عزام، احمد البحراني، سالم مذكور، مزاحم الناصري، وليد القيسي، كريم البكري، نهاد العزاوي، واخرون.
عمان: شوكت الربيعي، صبيح كلش.
وهناك مئات آخرون لا نعرفهم في المهجر...  ...ومئات يتلهفون الفرصة لبناء حياة جديدة من الصفر.
 * معماري، عضو نقابة المهندسين منذ 1968
عضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين منذ 1968
عضو رابطة نقاد الفن العالمية منذ 1987
آذار 2016



خطاب أوباما والذين يظنون "أن الضبع يبتسم"-صائب خليل

خطاب أوباما والذين يظنون "أن الضبع يبتسم"

صائب خليل
16 آذار 2016

أثارت الحركتان الأمريكيتان الأخيرتان بمهاجمة أوباما للسعودية (1) وزيارة القنصل الأمريكي لجرحى الحشد(2)، قلقا وشعوراً بأن شيئاً مشبوهاً يوشك ان يحدث. لكن ما تسبب لي بالقلق الأكبر هو رد الفعل "الإيجابي" الغريب لدى الحشد لزيارة القنصل!
عندما قرأت خبر زيارة القنصل، ورأيته يلوك العربية في الفلم، تذكرت فوراً "سفرة الموت" عام 1989، حينما رأينا مفاجأة أخرى كانت خارج المألوف أيضا، عندما اخذ صدام حسين ضحيته "عدنان خير الله" في سفرة سياحية إلى الحبانية نقلت على الهواء مباشرة، ليوحي للناس أن علاقتهما على أفضل ما تكون. وفهم الناس بعد ذلك سر هذا التلطف المفاجئ والغريب من صدام حسين، حين "سقطت" طائرة وزير الدفاع السابق عدنان جراء "خلل فني"! فهم الجميع عندها الخدعة وأن ذلك اللطف تجاه الضحية لم يكن إلا "صك تبرئة" يتم إعداده ليسبق الجريمة المخططة للقضاء عليها.

وإذا كان صدام حسين قد سعى لتقديم صك تبرئة واحد قبل ارتكابه فعلته فإن أميركا تقدم اليوم للشعب العراقي صكين! إذ لا تكتفي بالزيارة المثيرة للانتباه للقنصل الأمريكي في البصرة، بل ترفقها بهجوم أكثر إثارة للانتباه لأوباما ضد السعودية. ورغم انها ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها مسؤول أمريكي كبير، بعض عملائهم، (بايدن والإمارات مثلا قبل فترة وجيزة) في تمثيلية القصد منها إلقاء لوم الجرائم الأمريكية على العملاء، إلا أنها كانت هذه المرة أشد. وكذلك، وعلى غير العادة، وربما لإعطاء الأمر المزيد من الأهمية والمصداقية، فإن مسؤولا سعوديا سابقا، قام بالرد على المهاجم، وكانوا دائما يكتفون بالصمت في الماضي.

قلت أن ما اثار قلقي واستغرابي هو رد الفعل للبعض وخاصة جرحى الحشد على تلك الزيارة المقلقة، ورد فعل الناس على تصريح أوباما. وكأن خصوم اميركا كانوا في انتظار أن تلقي لهم عدوتهم بوردة، لينسوا كل ما فعلته بهم ويهرعون وهم مطمئنون إلى حضن الوحش الذي طالما أوغل في دمائهم ومازال!

قيادة الحشد لم تكن مرحبة بالزيارة. فقال العامري في بيان مقتضب، “لا نرحب بزيارة القنصل الأميركي لجرحى الحشد”، مضيفاً بالقول “لو كانوا جادين لأوقفوا تصريحاتهم السيئة ضد الحشد الشعبي”.
وكذلك قال المتحدث باسم حركة عصائب أهل الحق نعيم العبودي، على الزيارة "ان كانت هذه الزيارة إنسانية فهي متأخرة"، مضيفاً "أنها زيارة ذات طابع استراتيجي لا أكثر".(3)

السيد مقتدى الصدر قدم ردا مباشراً وقوياً، برفض زيارة القنصل ودعوة الحشد إلى "التبرؤ منه سريعا"، ومنعه من التدخل في شؤون المجاهدين، ووصفه بـ "الإرهابي"، محذرا من يتماهى معهم بأنه سيكون "في خندق غير خندقهم"، مضيفا أنه لو لم يكن منشغلا بالإصلاحات لكان رده "شديداً".(4)

لكن الرد الأقوى والأوضح كان بلا شك رد الشيخ اوس الخفاجي، والذي وجه رسالة رفض لا لبس فيها ولا تأويل، ولم يترك حتى باب التراجع أو الدبلوماسية مفتوحا، ووصف الأمريكان بالأعداء وذكر القنصل (وكذلك العراقيين الذين نسوا) بأن الحشد قد تلقى هداياهم بشكل قنابل وصواريخ أرسلت إليهم "بالخطأ"، وقال له أنه غير مرحب به وأنه لا يضمن سلامته إن هو كرر الأمر! (5)

لكن ما لا نفهمه هو كيف أتيح للقنصل الأمريكي أن يزور جرحى الحشد دون موافقة قادته؟ وهل يمكن زيارة هؤلاء الجرحى من قبل أي كان دون إشعار قيادة الحشد؟ أليس في الأمر خطرا على سلامتهم من داعش مثلا؟ إنها أسئلة قد تكشف خللاً في مكان ما.
وربما يكون بعض الجواب في بيان كتائب حزب الله الرافض للزيارة أيضا، حيث أعلن المتحدث العسكري باسم المقاومة الاسلامية العراقية (كتائب حزب الله) جعفر الحسيني رفض الكتائب زيارة القنصل الامريكي لجرحى الحشد الشعبي في البصرة، واعتبرها محاولة للمساس بسمعة الحشد من قبل الجانب الأمريكي، مضيفاً انه فعل ذلك على اساس انه ناشط في المنظمات الانسانية العالمية وليس مسؤولا أمريكيا! وقال إن من رحب بزيارة القنصل لا يمثل كتائب حزب الله في حربها ضد داعش ومن يقف ورائها. (6)

ونحن نرى إذن بوضوح أن تلك الزيارة لم تكن على خلفيات تقارب أو مصالحة وإنما كانت اقرب ما تكون إلى الحيل الأمريكية المعروفة، والتي يحاولون بدعم من الإعلام المأجور، تصويرها بشكل يناسب خطة ما في أذهانهم. ويجب ان نتذكر من الجهة الأخرى، إننا لا نعلم على وجه التأكيد إن كانت ردود الفعل الإيجابي التي ظهرت على وسائل الإعلام متماهية مع حركة القنصل الأمريكي، وأن لها وزنها ونسبتها المهمة، أم أن هذا ما ارادت قنوات التلفزيون أن توهمنا به. فنحن نبقى على وعي بأن اعيننا معصوبة لا ترى إلا ما يريده الإعلام الأمريكي والإسرائيلي الذي يدفع تكاليف قنواتنا، لها ان تراه. ومن نقل ردود فعل الجرحى على زيارة القنصل، يمكنه أن يختار العينات التي يريدها لينقلها للتلفزيون. وإن كانت هناك ثلاثة ردود "إيجابية" بين مئة رفض واستنكار، فإن تلك الأخيرة ستحذف كلها ليتم وضع تلك الثلاثة النشاز وكأنها تمثل رد العفل. وهذا يحدث كثيرا جدا في الإعلام، خاصة عندما تكون القضية "مهمة". فمن الغريب جداً أن يتفاءل الضحايا بزيارة من يعلمون تماما أنه يمثل القاتل الرئيسي لبلادهم، ورأس الأفعى التي أطلقت سمها عليهم وعلى رفاقهم، مثلما عبر قادة الحشد عنه في رفضهم.

ومثل التطبيل الإعلامي العراقي المعادي للعراقيين لزيارة القنصل الأمريكي لجرحى الحشد، حصل تصريح أوباما الهادف إلى توجيه أصابع الاتهام إلى ذيول أميركا بدلا من الرأس، على الدعم من الإعلام والمنظمات المشبوهة. فأكد علي السراي “رئيس المنظمة الدولية لمكافحة الارهاب والتطرف الديني”، بشكل غير مباشر، بأن المشكلة هي مشكلة تطرف ديني بحت، موهماً إيانا أن ليس للأمريكان والإسرائيليين أو أي أحد آخر علاقة بها، عندما دعا إلى "تشكيل جبهة عالمية موحدة للوقوف بوجه" الكيان السعودي، وهي لا تختلف عن الدعوات المخادعة للوقوف العالمي بوجه الإرهاب أو بوجه داعش، وكأن الإرهاب أو داعش أو السعودية قادرة بذاتها على مواجهة أحد، دون أن تساندها أكبر القوى وأكثرها إيغالا في الشر. (7)

إن إعطاء السعودية دورا قياديا في الأمر، يجد صدى مساعدا في الكارهين لها، وهم محقون في كرههم. وفي الوقت الذي قد يقف فيه السنة مندهشين مما يحدث بفضل المشاعر الطائفية، فأن المشاعر الطائفية لدى الشيعة في العراق تشجع قبول القصة كحقيقة، لذلك فهم الأكثر عرضة للخداع في هذه النقطة وتصور الذيل رأساً والانشغال به، بل وربما مقاومة أية محاولة للتنبيه، وتفسيرها على أنها محاولة للدفاع عن ذلك الذيل.

وعلى اية حال، ومهما كانت نسبة المخدوعين، فهي كبيرة، لأنها تستند إلى قبول أشياء لا يجب أن يخطر ببال عاقل ان يقبلها. ففكرة أن "السعودية" هي التي تقود الإرهاب، وأن أميركا تقف ضده، فكرة سخيفة للغاية. فرغم اننا نعلم بأن السعودية كانت دائما عنصر تخريب وإرهاب في المنطقة وضد كل شعب يتحرك فيها، ولكننا لا ننسى أبدا انها كانت تفعل ذلك دائما وفي كل حركة بلا استثناء، تنفيذا لأجندة أمريكية وبأوامر أمريكية مباشرة! وقبل ان نقبل أن نتخيل أن السعودية يمكن ان تتصرف في أمر خطير كهذا بشكل يعارض أميركا، علينا أن نتذكر أن هناك قانونا أمريكيا يعتبر الدول الداعمة للإرهاب، جزء من الإرهاب، ويحق لأميركا ان تعاملها على هذا الأساس! وأن هذا القانون وشدة خطر العدوانية الأمريكية، جعلت الكبار نسبيا، مثل إيران وسوريا يتعاونان في لحظات معينة، مع أميركا لإنقاذ أنفسهما من براثنها عندما تكون في لحظة غضب. فكيف يجرؤ حكام السعودية أو قطر، الذين تبدل اميركا أكبر قيادييهم، كما يبدل الرئيس حذاءه، على أن يدعموا إرهابا تحاربه أميركا وتقول إنه يشكل خطرا عليها؟

ما يزيد الغرابة من الانخداع، أن الأمثلة على مثل هذه الحركات كثيرة جداً. لعلنا لم ننس اللطف الزائد من السيد أردوغان وأسطول حريته للفلسطينيين وتقريعه لقادة إسرائيل وإقامة علاقات وطيدة جدا مع سوريا، ليتمكن بعد ذلك من توجيه الطعنة النجلاء في الظهر، لسوريا وللعرب كلهم بدعمه وقيادته لداعش ودوره الأساسي في تحطيم سوريا والعراق وسرقة نفطهما، بل واختراق حدودهما والطموح إلى احتلال أراضيهما!

ولدينا أيضا مثال في الموقف الأميركي نفسه من سوريا. فنذكّر من نسي، بأن حملة الإرهاب الداعشية في سوريا قد بدأت بتقرب أمريكي غير معتاد من سوريا وحكومتها. فأعادت اميركا تعيين سفير لها في سوريا لأول مرة بعد مقاطعة دامت عقودا طويلة. لكن دهشة القيادة السورية وربما فرحتها الساذجة بهذا التغيير غير المفسر، لم تطل كثيراً، فقد قاد هذا السفير عملية إطلاق التظاهرات في حمص وحلب وكان يقوم بزيارات مكوكية إليهم، لإشعال النيران التي أتت على البلاد!

إننا نريد ونتمنى، بل هي اقصى امنياتنا أن تتغير هذه الدولة التي أذاقت البشر الكثير من الدماء، وبخاصة دماءنا، وكذلك بشار الأسد، كان يتمنى عودة العلاقات مع اميركا وإلغاء حصارها عليه. لكن أحلام التمني التي لا أساس لها، قادت الأسد إلى الدمار التام لبلاده، ولا أرى مبررا ألا أتوقع ذات النتيجة في العراق، إن لم تكن أكثر سوءاً.

إن من يريد البقاء على قيد الحياة من الأحياء، يجب ان يتذكر تجاربها، وأن يتحلى بحد أدنى من الوعي، لا أن يكون فاقدا للذاكرة والوعي، ويقفز لأول أمل كاذب لا أساس له ليسقط في الفخ. فنحن في غابة لا ترحم المغفلين غير المنتبهين.

فلطالما أثار انتباهي ان الضباع لها فم يبدو بسبب تركيبته، وكأنها تضحك حين تكشر عن انيابها، ولكن لا شك عندي أن فرائسها ومنافسيها، لا يسارعون إلى الاستسلام لأمانيهم وافتراض "إن الضبع يبتسم"، وأنه "تغير" لحكمة لا يعلمها إلا الله، وصار "صديقا" لفرائسه، وأنهم بفضل تلك المعجزة السعيدة، صاروا بأمان من فكه الرهيب. إننا لن نرى حيواناً بهذه البلاهة يسير على الأرض، لأنه إن وجد يوماً فلا شك أنه قد انقرض! فما بالنا نحن لا نمتلك حتى حكمة الحيوان البسيط؟ لمَ نتصرف وكأننا مخدرون في انتظار أول إشارة ممن يخدعنا، لنقبلها دون ان نختبرها بأية أسئلة، فنفتح له الباب ليذبحنا بلا مقاومة؟

(1) President Obama’s Interview With Jeffrey Goldberg on Syria and Foreign Policy - The Atlantic
 http://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/
(2) القنصل الاميركي العام في البصرة يزور جرحى قوات الحشد الشعبي  https://www.youtube.com/watch?v=pho8b_5xh5k
(3) أهل الحق لـ"آسيا": الحشد أفشل المخططات الأمريكية - وكالة أنباء آسيا
 http://www.asianewslb.com/index.php?page=article&id=19004
(4)  الصدر يصف القنصل الامريكي بالإرهابي ويدعو الى التبرئ من زيارته ومنعه من التدخل في شؤون المجاهدين »
 http://goo.gl/uvFaam
(5) الى قنصل الشر الامريكي في البصرة ... لا تعد لمثلها ... رسالة الشيخ أوس الخفاحي - YouTube
 https://www.youtube.com/watch?v=fQynvJUY19E
(6) كتائب حزب الله ترفض زيارة القنصل الامريكي لجرحى الحشد الشعبي في البصرة وتعتبرها مساس بسمعة الحشد
 http://www.falmoqawama.com/13001-2/

(7)  السراي مخاطباً الامم المتحدة إن توفرت لديكم الإرادة الحقيقية لضرب الارهاب فعليكم القضاء على بني سعود
 http://iraq.neinawa2.com/?p=4227


الاثنين، 14 مارس 2016

أختام*- عادل كامل




















أختام*

عادل كامل
 [21] خاتمة تؤدي دور المقدمة
    ليس لأنني في اشد الساعات شعورا ً بالوحدة، بسبب العوامل غير الشخصية، وليس بسبب شعوري منفيا ً، محبطا ً، مخلوعا ً، بدوافع استحالة تجانسي مع هذا الذي فقد سماته الاعتيادية، المألوفة، التقليدية، وليس بدواعي غياب ما توفر للنبات، أو للطير، من آمان مؤجل، وليس لأن قانون اللا رحمة مكث يمسك بأدق المفاصل، وأكثرها حساسية، فحسب، بل لأسباب تبدو  إنها قائمة على نظام مغاير للأمل الذي راودنا، عند تحول أسلافنا، من مخلوعين ومنفيين تائهين في المستنقعات، البراري، الوديان، إلى: نسبة ضئيلة تتحكم بالمصائر، من غير بناء قاعدة تشذب درجات (الجور) والتعسف،  والانتهاك...
    بسبب هذا كله، في مجتمع صار  الخروج من عصره الاقتصادي (البري/ الابتدائي/ السحيق)، مستحيلا ً، إزاء التقدم الحاصل في مجتمعات لم تتوفر لديها ما لدينا من موارد وطاقات بشرية وكنوز أنجزتها الحقب الذهبية، بحثت عن الوهم ذاته الذي قاد أسلافي ـ في أقدم العصور أو في زمني ـ للعثور على فردوس لا وجود له إلا في: الفن!
    لكن هذا كله لم يعمق المسار الفردي، بل على العكس، عزز حقيقة: إننا ولدنا جماعات، وإن عصيان الأفراد، وتمردهم، أو خروجهم عن الجماعة، لم يحدث إلا للبرهنة بان الجماعة لديها ما تدشنه، وتجربه، بعد... للخروج من عصر: المنافي ـ والصحارى ـ والغابات.
   فالفن، منذ لا مست يد أسلافي الطين، وصاغت نماذجها البكر للآلهة الأم ـ القانون الأول لمفهوم السحر والديمومة ـ كان ذا نزعة جمعية تضامنية لا يؤدي فيها الأفراد ـ الأكثر رهافة أو حكمة أو تشددا ً ـ إلا بحمايتها من التشتت، واندحارها إزاء قوى الطبيعة، أو الضواري، أو القوى المماثلة الأخرى.
    بهذا الهاجس النفسي، المسبوق باليات لاواعية غدت رؤيتي تتبلور بوصفها علاقة دائمة بين التعسف ـ  ومحاولات العثور على منافذ تجعل الحياة اقل عتمة...
   فإذا كنت منشغلا ً ـ لسنوات طويلة ـ بـ: لماذا...؟ فان لحظات الانشغال بالعمل الفني، كانت مقاربة دائمة  للتفكير بلغز يكمن في: أقدم مصنع أنا جزء منه: الرحم. فالحلم الذي مكث يشغل لا وعينا ـ ولا شعورنا ـ  بالعودة إلى اللا عمل، هناك، في المكان المحمي، الأمن، بالغ الدقة في توفير الاطمئنان، والسعادة في ذاتها، العمياء، الشبيهة بما يحدثه أي عقار مخدر، كالمورفين، وباقي السموم، شغلني أيضا ً. فإذا وجدت المنفى هو الزمن الوحيد للحضور إزاء الغياب، فقد تحتم علي ّ أن أؤدي دور الرحم ـ لا وعيه في توفير عناصر الحماية ـ في ديمومة كل ما هو في الطريق إلى الزوال.
   وبعيدا ً عن استعارة كلمات  لا تفسر إلا بما لا يحصى من الكلمات، ولا تقول شيئا ً، فان ترك الأصابع تفكر ـ  مع خلايا الدماغ، وباقي الأعضاء ـ سيختزل مفهوم بناء ذات غير قائمة على التعسف، والاغتصاب. فإذا كان الجسد، وقد وجد نفسه مكونا ً، كأقدم ملكية، فانه سيواجه قدره بالبحث عن عدالة ما، لا تدعه ينتهك، من غير مقاومة.
    ثمة ـ بحسب تراكم الخبرة ـ: الخامات، خامات وجدت إنها فاعلة ـ من الداخل أو بسبب الخارج أو معا ً ـ تمتلك طاقات، وتراكمات، تحتم عليها أن تنتج لغات/ وسائل للخطاب والتواصل: من الصرخة إلى الإشارة، ومن الأصوات إلى الرموز، لأجل  غاية ستبقى تمتلك لغز يجرجرها للتشبث في سبر مناطقها اللا مرئية، وقد صاغت مفهوم: التوقيع ـ الأنا ـ الختم، وكل ما يتعلق بمكونات الهوية. فالختم لا يمكن عزله عن: الكون/ الطبيعة/ المجتمع/ والبيئة ذاتها التي وجدت إنها تتكون عبر تصادماتها ـ فوضاها ـ بحثا ً عن ذات السكينة التي صنعها المصنع الأول، وقذف بها، بعيدا ً عنه!
   هكذا سأكتشف إنني تحولت إلى (سلعة) داخل سوق منتهك، لاكتشف أن المصنع الذي انتجني ـ بمكونات الأرض وعناصرها ـ الأم وهي تتعرض لشتى الانتهاكات الدائمة، يكرر السلع نفسها، ويصر، بعناد غامض وقهري يماثل نهايات الماسي القائمة على تفنيد العدالة، ومنطقها، لا يمتلك إلا  قدرات افتراضية، وهمية في الغالب، في العثور على منافذ للخلاص.
    لكني ـ ببدائيتي التي شذبتها بالقليل من المعلومات والخبرة النظرية والعملية ـ كنت اصنع أختامي، مثلما يبني الطير عشه. فانا كنت شديد الرغبة أن أبقى سلعة محمية من التلف! في عصر لم يعد للآلهة الأم إلا رمادها، بعد أن دخلت أنظمة المراكز الذكورية ـ من الثور إلى رأس الهرم، ومن سادة الغابات والمستنقعات والبراري إلى رؤساء الشركات وكبار زعماء المنظمات القائمة على المشفرات والألغاز ـ في تصادمات لم تسمح لي إلا برؤية هذا القليل من الومضات...، كي احفر هذا الذي ـ هو الآخر ـ أراه يذهب ابعد من غايته، وكأن لغز الغياب يأبى إلا أن يغوينا بظلال حضوره، وأنا أراه يقيدني بتتبع خطاه، حتى لو كان وجوده وهما ً، وقسوته عبرت حدود الآمال، والزمن.
بغداد ـ 1/3/2016
   

تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختام معاصرة.



كيلو الشرف.. بحفنة دم

كيلو الشرف.. بحفنة دم: خاص ( ثقافات )أن تسجَّل في عام واحد ستّ عشرة جريمة قتل لنساء على أيدي أقاربهنّ في مجتمع صغير كفلسطينيي 48، وبزيادة بنسبة 60 بالمئة عن العام السابق، ليفوق عدد المقتولات في العقد الأخير مئةَ أنثى، فإنّ هذه كارثةٌ بيّنة. أمّا أن يكشفَ بحثٌ ميدانيّ أنّ أكثر من 55 بالمئة من شريحة الشبيبة (جيل المستقبل)، يؤيدون هذه الجرائم ويحمّلون ضحيتها المسؤوليةَ

الخميس، 10 مارس 2016

أختام*-عادل كامل




















أختام*

عادل كامل
 [20] مرايا ومرايا مؤجلة
    لا تستطيع أية فلسفة عدمية، وأية قوة تدميرية، وضمنا ً هذا التيار الجارف للانتحاريين، أن تزعزع ذلك الفاصل بين عصر ما قبل (المرآة)، وما بعدها. ليس لأن الحياة قائمة خارج إرادتنا، وكل إرادة من صنع المتراكمات، التاريخ، أو بفعلها، وإنما لأن الوعي المضاد ذاته سيشكل امتدادا ً لها. وبمعنى ما فان اكتشاف (نرسس) الرمزي، لذاته ـ مع تحديد بؤر الخطر: كل ما هو في الخارج، وصولا ً إلى التدمير الذاتي للذات ـ سيدفع بالوعي إلى ذروته: ألانا على حساب الآخر، مما منح الجميع قدرات أعلى في صياغة مبررات الإرادة: ليس بالعودة للحفاظ على (الذات) وتراكماتها، بل للعثور على مسوغات تتوازن فيها شراسة التصادمات، وعدميتها، لكن ثمة قوة ما ستستعيد انبثاقها، على حساب حيوات ستتوارى، ابعد فابعد، كي تمنح الإرادة صيرورتها: وكل ما لم يدشن بعد.
     فهل كان باستطاعتي أن أكوّن قناعة ـ غير مبرمجة بإحكام ـ غير عمياء،  لا أتسلى بها، ولا أتقدم في المجهول،  لا يكون الاضطراب فيها مدمرا ً،  بل متوازنا ً مع هذا الذي يمنح وجودي حده الأدنى من الثبات، والسكينة، ولا يدعني أتستر خلف مرايا وجودها لا يمتلك إلا قوانينه الراسخة: أنا أو الآخر...؟
    قبل أن يرى (نرسس) وجهه فوق سطح الماء، لم يخف، انه رآه قيد الزوال، متموجا ً، إنما، في لحظة الاكتشاف، تشبث بما رأى، وسيعمل وفق اكتشافه، لذاته. إنما ثمة مسيرة طويلة تسبق هذا الاكتشاف، ومراحل لاحقة ستجعل من المواجهات حتميات لفهم القانون ذاته، ليس إلا التصادم المرئيات عبر تحولاتها إلى ذرات، والى كتل، يدمر بعضها البعض الأخر، شبيهة بتصادمات الذرات في النار، وشبيهة بتصادمات المجرات، والنجوم، في الفضاء الأكبر.
    قبل أن يتعرف نرسس على انه: وجه، ولغة، ودهشة، كان يرى في الآخر، شبيها ً له: فكانت الحياة متوازنة عبر صراعها العنيد. وها هو يكتشف انه يمتلك قوة باستطاعتها أن تقول للآخر: إن لم تكن معي فانا لن ادعك تراني عدوا ً! لكن هذا لن يدوم. فكل الحروب تخمد، مثلما خمدت البراكين التي كونت قاراتنا، كي تعمل المرآة، لا في اكتشاف خفايا النفس، ولا شعورها السحيق، أو في لاوعيها المبرمج بمعزل عنها، بل لاكتشاف حتمية إن الكون، يمتد، ويمتد، متسعا ً، إلى ما لانهاية.
     إنها سلسلة تصادمات، إنما لن تقدر أن تضع نهاية لهذا الاشتباك، إلا بالمساومة، كي يأخذ الصلح دوره في ديمومة الاحتفال، وكي يفضي إلى: مرآة شاملة. فعندما  لا يوجد منتصر في نهاية المطاف، لا توجد هزيمة أيضا ً. فهل المرآة  الشاملة، واقعيا ً، مسارا ً انصهرت فيه الروافد القديمة، أم تحضيرا ً لعصر مداه يقع خارج حدود كوكبنا الأزرق الصغير، والأخير يعالج أفوله بعقارات جميعها شبيهة بالسم الكامن في الغوايات...؟
    ها أنا لا أرى إلا ما رآه مدوّن قصة الخلق: العماء! فأمد أصابعي كي اعثر على موطئ قدم، فالعالم الذي لا اعرف عنه شيئا ً، لا يقع داخلي، ولا يقع خارجي، لا لأنه عالم مرايا، وتصوّرات، وصيرورات، حسب، بل لأنه هو كل هذا الذي لا استطيع إلا أن أتوارى فيه، كي أدرك، في نهاية الأمر، إنني أسير غوايات، حتى في عملي المضاد لها.
    ويا له من مجد، وانتصارات ظريفة، لكنها، عمليا ً، وبقليل من الحكمة، لم تشيد إلا فوق الضحايا، والخراب، والخواء  فحسب، بل لأنني عندما لا انتصر على الآخر، وعندما انتصر على (أناي)، فان الهزيمة وحدها ستمتد، وأنا أرى المرايا تتهشم، الواحدة بعد الأخرى، كي لا أرى إلا  لا مرايا، تتجاذب، فاترك أصابعي تصنع أختامها، محاطة بحافات سبقها عدمها، كقوة بلا حدود، في الديمومة.
    انه اللا كل وقد منح كل (أنا) إرادة خفية لاجتياز عصر العماء. فاستعيد دور الأعمى، واتمثله، في الحديث عن نجوم لم أرها، حولت إشعاعات الشمس، إلى فحم، داخل حضارات لم يدم صخبها، إلا ومضات داخل هذا اللا كل، عبر تصادم غوايات غابت عنها المرايا، من الخلف أو من الأمام، وقد اخذ اللا زمن موقعه، نائيا ً، في المحو. انه وجود انبثق من العماء، نحو عدمه، عبر حضور مسبوق بشظايا لن يدوم تجمعها إلا بحدود المسافة ذاتها بين الأزل والأبد، فهل تبقى لي رجاء عدا ترك روحي تحّوم برجاء لا علاقة له بي، أو بما رأيته، عبر مسرات الجحيم، والأصح: عبر جحيم المسرات  المستحيلة...؟

تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

الأربعاء، 9 مارس 2016

المثقف الواحد المتعدد.. البورتريه لا البروفايل-*د. حسن مدن

المثقف الواحد المتعدد.. البورتريه لا البروفايل
*د. حسن مدن

هل من الأجدى أن يحتكم المثقف إلى فكرة أو نظرة محورية واحدة، عبرها يرى الظواهر الأخرى، وأن يرى أن هناك ناظماً للأشياء والظواهر، أم أنه ينظر إليها فرادى، جزئيات مبعثرة مختلفة. حتى تفسير التاريخ نفسه عانى من هذا اللبس، ومثله السلوك العام للبشر، وفي هذا السياق يمكن صوغ أسئلة عدة عمن كان على حق: كارل ماركس مثلاً في اعتماده التفسير الاقتصادي لتطور مجتمعات وسلوك الأفراد، أو فرويد في اعتماده التحليل النفسي منهجاً لفهم النسق العام للسلوك البشري؟ ويمكن سوق أمثلة أخرى عن مزاعم صراع الحضارات والأديان والثقافات وهلم جراً.
أيهما أجدى للمرء: أن تكون بصيرته مفتوحة على الظواهر المختلفة، وهو يسعى لتأويلها مستعيناً بأكثر من منهج وأكثر من رؤية، فيرى الاقتصادي والثقافي والنفسي وسواه في الظاهرة الواحدة، أم يقصر ميدان بحثه ورؤيته على عاملٍ دون سواه؟ أمن الأجدى أن يتمترس المرء وراء رؤية فلسفية بعينها يخضع شتى الظواهر لها محاولاً، طوعاً أو قسراً، تأويلها عبر هذه الرؤية، أم أنه يوسع زاوية نظره فيرى تعدد الأبعاد في الظاهرة الواحدة، فيقاربها من الزوايا المختلفة كي يستوي في نهاية المطاف إلى خلاصة أقرب إلى الحقيقة من سواها.
ثم: ألا يؤدي ذلك إلى نوع من التوفيق الذي يبلغ حد التلفيق بين نقائض مختلفة، متعددة، متناقضة، ولو تأملنا في الكثير من الأطروحات التي تجد لها سوقاً رائجة من حوالينا لوجدنا فيها نماذج لا تحصى على هذا التلفيق، الذي لا يمكن أن ينتج معرفة جديدة، أو يُوَّلد مفاهيم خلاقة. والمعرفة بمقدار ما هي تواصل واستمرارية، فإنها كذلك تتطلب الجرأة على القطيعة مع مفاهيم بلت، حتى لو كان لها من سطوة الحضور ما يتطلب المقارعة الجسورة، كي تشق المعرفة الجديدة لنفسها درباً للأمام. ولكن معرفة أشياء كثيرة، وإن كانت مكسباً للمرء، فإنها أشبه بحبات السبحة التي انفرط عقدها فتناثرت على الأرض كل حبة في جهة، إن لم يجمعها خيط واحد تلتئم فيه.
يجري التبشير اليوم بسقوط الفلسفات والنظريات والمشاريع الكبرى التي كانت تزعم لنفسها امتياز الإحاطة بكل شيء، وتفسيره وتعليله، ويُنعش تفرغ العلوم والمعارف والاختصاصات وتشظيها إلى فروع دقيقة، متخصصة، إلى إنعاش الرأي القائل إنه لم يعد بوسع شيء واحد كبير بأن يحيط بكل شيء، وتروج بعض دعوات ما بعد الحداثة، فرانسوا ليوتار، مثالاً، لما تدعوه نهاية السرديات الكبرى، خاصة منها تلك ذات التوجه اليساري: الثورة والتحرير والعدالة الاجتماعية، بل وحتى قيم التنوير وتمجيد العقل، فيما ذهب هربرت ماركوز ومجايليه من رموز مدرسة فرانكفورت، إلى أن آليات نمط الحياة الاستهلاكي الذي أشاعته الرأسمالية في مرحلة نضوجها، أغرق الناس في أوهام المجتمع الاستهلاكي واستوعب طاقات الاحتجاج لديهم.
هذه الدعوات الآتية في سياق الفكر الغربي تعبيراً عن التعقيدات التي يطرحها تطور الرأسمالية في البلدان المتقدمة تجد أصداء لها في بلداننا العربية التي تبدو أبعد ما تكون عن استيفاء شروط الحداثة الفكرية، وهناك مهووسون بالموضات والتقليعات الفكرية يحاولون اسقاطها على واقع مغاير، شديد الصرامة في بؤسه، فيما نحن في أشد الحاجة إلى نموذج المثقف الذي يجب أن يتوافر على شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وحاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه نزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي.
ليس كافياً أن يكون المثقف مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حكماً على أحداث مجتمعه. وفي عبارات أخرى على المثقف أن يكون صاحب رؤية بديلة وقادراً بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه إلى بث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها مبضع النقد الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرّحة لمريضه.
وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه الوعي الجديد المؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي إلى مواجهة ما مجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في الراهن وفي المقبل من حياتنا العربية.
الثقافة بطبيعتها ديمقراطية، ولكن ذلك لا يتحقق تلقائياً، ثمة جهود يجب أن تبذل من أجل ترسيخ القيم الديمقراطية في الثقافة، بنبذ أشكال التزمت والتعصب والتطرف، بتكريس الانحياز العميق لقيم العقلانية والعلم والتسامح والإنفتاح الحر والشجاع والنقدي في آن على تيارات العصر، سواء في ثقافتنا أو في الثقافات الأخرى دون خوف أوعقد .
في التراث العربي الإسلامي كان العالم أو المفكر في الأصل رجلاً موسوعياً. إنه يجمع بين الفقه والطب والرياضيات والعلوم الفلسفة. أما اليوم فبالكاد نعثر على مثقف متبحر في حقل اختصاصه. نقول هذا الكلام من وحي الضجيج الكبير الذي يثار حول المعلوماتية، التي تطرح بوصفها ثقافة العصر الراهن، ويكثر الكلام عن تدفق المعلومات وانسيابها كما لو كانت هذه المعلومات تخلق نمطاً جديداً من المثقف الموسوعي الذي هو على بينة من كل القضايا، ولكن المعلوماتية أمر، والثقافة أمر آخر.
أفول زمن المثقف الموسوعي له أسباب موضوعية، تكمن في التطور المذهل في المعارف والعلوم بحيث لم يعد في طاقة عقل بشري واحد أن يستوعب كل هذه التطورات، وحيث بات التخصص مطلوباً وضروريا، فحتى التخصصات الفرعية تتشظى هي الأخرى إلى فروع أصغر فأصغر، وبات كل فرع بحاجة لمن يتفوق فيه وينبغ، ولكن الأمر الذي نحن بصدده يتصل بالرؤية الشاملة أو المنظور الفلسفي العام الذي بات الكثير من دعاة الثقافة اليوم يفتقدونه في أطروحاتهم وفي القضايا التي يتناولونها.
يروي الكاتب أنيس منصور الحكاية التالية التي جرت له في وقت ما في ستينات القرن الماضي على الأرجح، إذ حدث أن دعاه المرحوم أحمد بهاء الدين هو وكامل زهيري لمرافقة الشاعر الروسي الكبير يفجيني يفتوشينكو الذي كان يزور مصر يومها بدعوة رسمية في رحلة إلى مدينة الأقصر، وفي ليلة قمرية خرج الثلاثة: منصور وبهاء الدين وزهيري إلى رحلة على متن زورق فوق سطح النيل. كان الشاعر الأجنبي مستلقياً في الزورق مأخوذاً بالقمر والليل والنيل يتأمل في ما يرى. وفجأة ومن دون سابق حديث سأل الضيف مضيفيه: ما هي القضية التي يتجادل حولها المفكرون والمثقفون في مصر، فيتفقون أو يختلفون ما الذي يشغلكم؟ ما هي قضيتكم؟!
يقول أنيس منصور إن السؤال فاجأ جميع مَن هم على الزورق، واجتهد كل مهم في تقديم إجابة. كامل الزهيري تحدث عن الأدب والجدل حول الواقعية كمدرسة، معها أو ضدها. منصور نفسه تحدث عن الوجودية بوصفها رداً لاعتبار الفرد في مواجهة ما فعلته به الشمولية، وأحمد بهاء الدين تحدث عن أمر ثالث، وهكذا. فما كان من الشاعر الضيف إلا أن روى لزملائه المصريين حكاية عن فنان طلب منه أن يرسم بورتريه لرجل مهم، ولكن في وجه هذا الرجل المهم ثمة عاهة، إن أظهرها في الرسم قد يؤخذ عليه ذلك، فاحتال الفنان بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية، أو ما يعرف بـ «البروفيل» وما ذكرتموه من أجوبة ليس أكثر من «بروفيلات» لواقعكم، إنكم تتفادون النظر إلى الواقع كما هو تماماً كما فعل الفنان الذي تحاشى رسم «البورتريه» ولجأ إلى «البروفيل».
يضيف أنيس منصور معقباً: هذا السؤال الذي طرحه الشاعر الضيف والتعقيب الذي قاله فيما بعد شغلاه طويلاً، وسعى للإجابة عنه في العديد من الكتب التي ألفها على مدار عشرين عاماً أو أكثر من دون أن يوفق في الإجابة كما يقول هو نفسه. ولست اتفق مع أنيس منصور، لا في الفكر وفي السلوك السياسي، ولكني أظنه مصيباً تماماً في ما ذهب إليه من أن الفكر العربي مازال مشغولاً بالجدل في قضايا قد تكون مهمة لكنها لا تشكل محور أو جوهر ما يدور في الواقع من اشكاليات.
إن هذا الفكر يقع غالباً في أحد محذورين: الانشغال بتفصيل معين من تفاصيل هذا الواقع، قد يكون مهماً لكنه ليس الأهم، وفي غمرة انشغاله بأمر الشجرة ينسى الغابة التي تتكون من آلاف الأشجار، وإما أنه يلجأ إلى التجريد الذي يغفل حيثيات هذا الواقع، ومن طبيعة الفكر أن يكون مجرداً لأنه يشتغل على القوانين العامة لحركة المجتمع، لكن هذه القوانين حين تبحث مفصولة أو مبتورة عن الواقع الذ تنشط فيه، تصبح رسماً أشبه بالبروفيل لا رسما للبورتريه على نحو ما ذهب يفغيني يفتوشينكو.
يتعين على المثقف الفرد أن يكون متعدداً، لا بمعنى أن يكون مختصاً في كل حقل من حقول المعرفة فذلك محال، وإنما يكون قابضاً على الخيط الذي يشد العلوم بعضها لبعض تعبيرا عن الترابط القائم بين الظواهر في الحياة نفسها وفي الطبيعة الأشمل التي تحوي كل هذه الظواهر.
_________
*جريدة عُمان

الثلاثاء، 8 مارس 2016

لمناسبة يوم المرأة العالمي.... كي لا نوغل في التمويهات... المرأة مازالت في عصر العبودية!-عادل كامل



لمناسبة يوم المرأة العالمي....
كي لا نوغل في التمويهات...
المرأة مازالت في عصر العبودية!

عادل كامل
     ليس في عام 2016 ـ في فاتحة الألفية الثالثة ـ يتم الاحتفاء بالخراب، الذي تعرضت له (المرأة)، في بلداننا ـ العربية/ الإسلامية ـ بل لقرون طويلة خلت أفضت إلى نهايتها المنطقية: تدمير (المرأة) ولغز وجودها بوصفها شكلت أقدم مفهوم لخلية إنتاج: الحياة!
   فلا أقسى من وجود من يزعم أن المرأة حصلت على حقوقها، رغم إنها لم تعد معطلة، أو عاطلة عن العمل، عامة، بل بمحو كيانها الوجودي، والرمزي، معا ً، فهل الحديث عن حضورها ـ كوجود الآخر ـ يسمح بالحديث عن وجود غير مقيد بالأسر في مجتمعات قائمة ـ عبر تاريخها ـ على تدمير: العمل/ التنمية/ الحرية؟ وهن ـ كالآخر ـ يعشن عمرا ً من اليباب، والخواء، أسئلة شبيهة بوجودهن داخل زنزانات في قاع كهف مظلم وموصد بكل سبل تدمير: العمل/ العقل/ والحكمة؟
   ولا جدوى من مناقشة أي فكر لا يتوخى وضع معايير منطقية للحكم....، كالقائم على الافتراضات، والمؤجلات، والتسويات، والتمويهات الرمزية...، لأن إهمال الإحصاء، في الحقوق، لا يسمح للتوغل في مواصلة بناء عالم مؤسس على الحقوق، والواجبات.
  ولنرجع إلى  أقدم مثال كونته الأزمنة السحيقة، ألا وهو: وجود آلاف المجسمات، التماثيل، في شتى بقاع الأرض، تمثل: الآلهة الأم...
   فالعصور البدائية، القائمة على حماية وجودها بنفسها ضمن الاقتصاد البري، أنجزت (المرأة) بوصفها شاملة على عناصر الديمومة، أي بوصفها هي الأصل، الذي أنتج الآخر، الذكرـ ديمومة من غير جنسانية، أو قائمة على القمع، المبرمج، وإنما بما يمثل الحرية المقيدة بالضرورات، وكالحرية لا معنى لها من غير تنمية قائمة على وفرة: الإنتاج، وغناه المادي ـ والروحي.
   فإذا كانت المصانع الأولى، لم يستحدثها احد، من البشر البدائيين، كالكون، والطبيعة،  والكائنات الحية المختلفة من حيوان ونبات....، فان (الرحم) سيشكل نواة أقدم مثال للمصنع، بكامل آليات عمله المتقدمة على أكثر مصانعنا المعاصرة، تطورا ً، ونظاما ً مشفرا ً، تحكم بالديمومة، وفي مواجهة آفاق الزوال.  فالرحم ـ الأكثر صلة بالكون والأرض وملغزاتهما ـ شبيه بالكهف الذي راحت عناصره تتراكم، وتتكامل، من النار، والخامات، وصنع الأدوات، إلى عمليات صياغة الأسئلة ـ سيشكل نواة أول مصنع منتج لأدوات صنع الأدوات، وليس لاستهلاكها حسب. ولعل أدق مثال هو وجود تماثيل الآلهة الأم، بوصفها علامة مبكرة لمفهوم المصنع ـ المركب، وهو يتصدى لصدمات التهديدات الخارجية، والفزع من الضواري، والموت. فهو وحده أداة لصنع الأدوات، لكن هذا لم يكن إلا المفتاح، للبحث عن الباب، وفك أقفاله الموصدة. فالحياة مكثت تتجدد عبر تجدد استحالة العثور على إجابات أخيرة، وحاسمة. إلا أن  مفهوم (الأم/ الأرض/ الخصب والتجدد ...الخ) لم يقهر، لا بفعل كوارث الطبيعة ونكباتها، ولا بفعل استعباد المرأة وإلحاقها بممتلكات الآخر ـ في عصر انتصار الذكورة.
   وحكاية نهاية عصر (الأم) مدوّن في الكثير من الأساطير، رغم عدم زوال آثار عصر (الأمومة)، و عصر (الأم)، بلغز عذريتها، رمزيتها، في الأقل، كما في العذراء والدة السيد المسيح. فبعد أن قام الإله (مردوخ) بقتل الآلهة (تيامة) سادت سلطته، بإلحاق المرأة، بها،  فانتقل المركز، من الآلهة الأم، إلى الإله ـ الذكر.
     وليس ثمة زمن محدد لهذا التحول، أدق من ظهور الزعامات ـ باستثناء زعيمات أو نساء قائدات كانخيدونا ابنة الملك سرجون الاكدي قبل موت تيامة بألفي سنة ـ في وادي النيل، والرافدين، وفي الصين والهند...
    لكن (المصنع) لم يتعطل عن أداء دوره غير المستحدث، فالطبيعة لديها آليات لإنتاج دفاعات محكمة في مواجهة: التطرف أو الجنسانية، والانحياز لجنس على حساب الآخر، إلا إن عصر العبودية ـ عصر خضوع المرأة لمركزية الرجل ـ لم يدم إلا بتعديلات، هي بمثابة ترميمات، للمساواة، والتمويه. فالمركزية عملت تحت هيمنة البنيات الأقوى، حتى إن مثال قابيل وهابيل يرجعنا إلى حكاية أقدم، لهذه المركزية، بغياب دور (المرأة)، ومثال الطرد/ الخروج، النفي، بسبب خضوع حواء للغواية، هو الآخر، مدوّن لتعزيز مركزية (الذكر)، وهو مثال يمكن مقارنته بالقوة المتنامية، لعنصر الذكورة، على حساب دور الأم، المعني بحفظ الحياة.
   على إن عصر (العبودية) يفصح عن تاريخ طويل زاخر بالوثائق والآثار المؤلمة....، ورغم إن البحث مازال يستدعي دراسات تفسر أو تشرح لماذا انتهى عصر الأم، لصالح الآخر، الأقوى، إلا إن تاريخ العبودية، هو تاريخ استبدال (المصنع) بأخر، لم يقد إلى العدالة، أو إلى التوازن، إلا ليأخذ (الذكر) دوره المهيمن، منذ عصر الزراعة، وتحولاتها، وصولا ً إلى العصور الصناعية، وليس انتهاء ً بالموجة الثالثة، عصر ما بعد الصناعة ...، فالمرأة ـ في الحقوق وفي الواجبات ـ مكثت في المرتبة الثانية.
   وفد (نلجم) بظهور فلسفات، ومعتقدات، وسلطات، وأعراف منحت (المرأة)  حقوقها، ومساواتها مع الآخر، ولكن هل حقا ً هذا  يلغي تاريخ (السبي) و (العبودية) ومعاملة المرأة كسلعة، وموضوعا ً للترف، وعلامة من علامات البذخ، الطويل الذي تعرضت له المرأة، في مختلف المجتمعات البشرية، وبدرجات  لا تلغي الفجوات، بينها، إن لم توسعها،  في حقب ازدهار الإمبراطوريات، القائمة على القوة، وسفك الدماء، والاغتصاب ...؟
    إن الحديث عن (المساواة) ليس حكما ً هشا ً، ومخادعا ً فحسب، بل انه يلغي أي تفكير (موضوعي ومقترح للمساواة)، ويدعونا إلى قراءة المعادلة، ليؤسسها على: العمل/ العقل/ الحرية.
    فهل نحج (الرجال) بإقامة أنظمة الكفاية، كي لا تشهد الأرض، في عالمنا المعاصر، أكثر من ملياري (رقم بشري) يعيشون تحت خط الفقر، وبموت أكثر من (17) ألف طفل يوميا ً، ووجود أكثر من (60) مليون  مهجر، نازح، مخلوع عن وطنه، وملايين من الباحثين عن بلدان لا تسفك فيها دمائهم، لأسباب واهية، مصطنعة، خادعة...، وملايين العاطلين عن العمل، والتفكير، وملايين لا علاقة لهم بالحياة، لا بمصنعها ولا بحكمتها؟
   أي احتفاء ـ احتفال ـ يجري للآلهة (الأم) وهي مقيدة بنظام يلفت النظر، بالدرجة الأولى، إلى عالم: العبيد ـ رغم سيادتهم، وامتلاكهم، لإدارة شؤون الأرض، ومصانعها؟!
    فالرجال ـ هنا ـ مثال للعبيد، وليس للأحرار...، وإلا كيف يتم تدمير أقدم مثال للمصنع ....، بأية ذريعة من الذراع، فلسفيا ً،  أو بأي مبرر من المبررات، أو بأي عرف، أو أخلاق، أو قانون... تجري العقوبات، والمعوقات، ضد عمل المصنع الأول: لإنتاج وسائل إنتاج الحرية: التنمية، العقل، والعدالة.
    ألا تبدو المقارنة، اليوم، تلفت نظرنا ليس لتحرير (المرأة) فحسب، بل لتحرير بنية النظام الذي صنع من الرجال سادة افتراضيين،  وبناء عبودية لم  تجعل من المرأة سلعة، رقما ً، هامشا ً، فحسب، بل  مصنعا ً لا ينتج إلا العبيد! ألا يتطلب الاحتفاء/ الاحتفال، إزاحة الوهم، والتوهم، الخداع والمخادعة  برؤية ما يحدث فوق كوكبنا الأزرق الشبيه بحبة رمل في ساحل لا نهائي الامتداد....، وتهديدات لا تدفع بالحياة نحو المجهول، بل تقوضها، عندما لم نتعلم من الآلهة (الأم) لغز الدور الذي افتتحت البشرية معالمها المتمدنة الأولى: كي لا يأتي منح (المرأة) حريتها، حسنة، أو مكرمة، بعد أن تحولت القوة إلى القانون الذي ينتج ـ إلا  قوانين الاستبداد، وتدمير أي حرية قائمة على تكبيل التنمية، وعلى التطرف ألذكوري، الذي ما انفك يعمل على تدمير أي جهد  حقيقي لحياة لا نسمع فيها إلا عويل الأطفال، واستغاثات المرضى، ولا نصغي إلا إلى أنين الأرامل، وبكاء الثكالى!

* جدارية خزفية للآلهة الأم ـ 1994/ 182×31 سم لعادل كامل



الأحد، 6 مارس 2016

غالب المسعودي - نَعَم.....؟(قصة سُريالية)

نَعَم.....؟(قصة سُريالية)-د.غالب المسعودي

نَعَم.....؟(قصة سُريالية)

يا ليتها كانت نِعَم....!

على انغام اغنية سعدي الحلي شربت كاسي الاخيرة حتى الثمالة, غفوت , استرسلت في الطبقة الثالثة من حلمي, اثار (الدوك ستايل) واضحة على ركبتيها, سالتها عن القروح ,قالت انها تمسح وتنظف البيت على ركبتيها, لكني اعرف انها اثار(الدوك ستايل), تصورت انها غلبتني لأني تنازلت لها عن ما تبقى من حلمي الاخير ,غفوت على حلمتها اليسرى , عندما اغفو احلم و اشخر بعمق, كذلك احلم بعمق, روى لي سلطان شذ منذ الصغر, ان مردوس وهو العقل الثاني  في حلمي  وهو في هيئته  الطولية, قال لي ستعشق , سأسير لك الصافات في سماء حلمك, تحميك وستاتيك سفائن محملة بالبخور, لم احزن لأني اعرف ان هذا حلمي الاخير معها, لكني عدت الى ذاكرتي وهي تتمرغ بالطين اليابس, حين اصدر فرمانا عثمانيا نص على ان يكون راس السلطة القضائية ,قوادا للوالي وان يكون الوالي شاذ جنسيا ,وبناء على عدة فقرات من الدستور, عين الوالي كبير الطهاة وكبير الخدم وكبير القوادين وهلم جرا, انا لازلت مصرا منذ حلمنا الاخير ان اثار القروح على ركبتيها تشير الى( الدوك ستايل) لكن احدهم نبهني انها تمارس العادة السرية في أروقة المستشفيات , تعلمت طرقا جديدة للوصول الى لحظة انهيار اللذة, كما يدور في بلدي, المهم وانا في حلمي بعد ان اجريت تعديلا وزاريا على حلمي, قامت احدى النباحات, اعترضت على تسنم وزارة قضيب العفة لشخص عفيف, تصدى لها ذو اللحية الزرقاء, نسي ان يصبغها بالأسود لكثرة انشغاله ,هي في الحقيقة كانت مخططة, انسدل سائل ابيض على فمها , تدفق من حنجرتها صرخت بأعلى صوتها, هذا نهب العذرية ,لم يصغي لندائها ,احد شتمت بؤس مصيرها, اتخذت من العطار القذر سلوتها خانت حلمها, هي مصالح, المفكرون المحتالون خلف عجيزتها, يساريون لم يقتربوا من جحر التنين, شذاذ افق, اكلت من صمتها ,تراءى لها انها في قمة الانتصار, الوالي سخر اجنحته اصدر فرمانا اخر بتعيين كبير النعاق مسؤولا عن التكنوقراط ,لف عمامته اسدل لحيته تعطر بالبخور, رش على قامته المقذية برميل عطر مغشوش تحسبا ,ظهر على شاشة التلفاز..., انا كما هي, نِعَم.... نِعَم.... نِعَم....! هي تبرر كذبتها بالصدق , انا ابرر صدقي بالكذب, ما الفارق اذن....؟ نحن نسير على خط واحد, اكل من نهديها وشرب ,عزل الخمس من حليبها, اودعه في بنك اليسار, جمع الباقي في خيبتها الطينية ,ناور في كسب اصدقائها القدماء ,لم يؤلوا جهدا في كسب  سذاجتها ,اكل من دمعتها وهي قيد النضج ,احتشدت حول اريكتها انواع الشائعات وارقام الهواتف غير المحفوظة, لم تُصدق, لأنها روتها لي على عجل ,لكني في حلمي قضيت وطرا اناقش مستجدات الوضع الراهن ,تبين ان الدخان المتصاعد من خيمتها فيه اثار تمرد واشتعال, لكنه غير ناضج حد اللحظة, تساوره شكوك اعرابي لم يلحظ ان الصحراء مزروعة بسراب الماء ,وعليه ان يزاول صيده البحري ما بين الصخرة والماس ,تعجب الاعرابي الذي كان يبحث عن قطرة ماء اصبح كله ماسا, هو لا يجيد لغة الماورائيات, عندما يعطش ,بول الابل له سلوى, هو كما هي نفس الرؤى والتفكير, لا زلت امارس حلمي في مدينة بيضوية الشكل ,الناس فيها يتباهون بقلوب سوداء كأنها هدايا عيد الحب ,كلابهم تعزف موسيقى رائعة ,رميت بقايا محفظتي لم يلتفت لها احد, كانت تحتوي بقايا من الشبكة العنكبوتية ,كان التنور مشتعلا قرب حافة وسادتي استيقظت من حلمي ,واذا بها تستعطي الحب من جيوب المتسولين ,حمدت مردوس لقساوته معي اذ لم يسمح لي ان التقط سقط المتاع.