نضال الأشقر ومُني واصف وماجدة الرومي... صور مبدعات موشاة بالفضة
وردة تزرع في السماء مع همسة كل امرأة
مؤيد داود البصام
ما هو السر في الشعلة التي تتأجج باستمرار؟ فأي طاقة هي التي تحرك هذه الديناميكية، وتجعلها دائمة التوهج، إذا لم تكن مرتبطة بمزود لا ينضب يحملها علي الاستمرار والبقاء، إنها الطاقة التي تتجدد في داخل النفس البشرية، كلما أستوقفها ألم إنساني، أو مشاركة حميمية لوجع ما، الطاقة المتأصلة في النفس البشرية في كل زمان ومكان، لا تحتاج لتأجيج لأنها تتحرك من تلقائها، بمشاعر خارجة عن إرادة الفرد، الحلم الذي يراودها أن تكون البشرية عائلة واحدة، والإنسان حر سيد نفسه، ينتمي إلي الذين يقفون في صف المقهورين والمضطهدين أينما كانوا، نداً في مقابل صف من لا يملكون الحس الإنساني والمشاعر المتعاطفة مع المظلومين ضد الظالمين. هذه هي روح الإبداع بأنساقه، الذي يحمل الوجع الإنساني ويناضل من اجل قهره، تحركه المشاعر الإنسانية التي تتلبس الكائن فيغدوا من فرط حساسيته، مثل الطفل في انفعالاته، حتى لتحس انك أمام أطفال وليس أمام عمالقة خرج من بين أيديهم وأفواههم وعقولهم أعظم الإنتاج البشري وأخلده، ان عظمة المبدعين الحقيقيين والذين خلدتهم أعمالهم، هي تلك المشاعر الانسانية المفرطة في الحساسية، والتي لاتنظر لأي مكسب سوي التعبير عن مشاعرها اللحظوية تجاه الحدث، تجاه الألم الانساني في كل زمان ومكان، و صوت (انتجونا)، يدوي في الارجاء يقض مضاجع الطغاة والظالمين " ولدت لأحب لا لأبغض "، انه المعني الانساني الذي يحمله المبدع في داخله، يتقن ممارسة الحب ولايعرف البغضاء والحقد، ولا أريد ان اتخذ المطربة الرائعة فيروز مثالا، لان ما كتب عنها يغطي ما للقول مجددا عنها، ولكن للفت النظر كمثال لنقطة مهمة في أداءها، انها عندما تنطق الكلمات ذات الاثارة والمعبرة عن المشاعر والاحاسيس، فان جسمها ينتفض وكأنها تخرج الكلمات بهذا الدفع الضاغط، حيث تهبط يديها بلا شعور الي ما تحت خصرها، ومع انطلاق الكلمات، ترتفع بيديها وبرفع جسدها الي اعلي كانها تستخرج روحها مع الكلمات، تريد ان تطير، بينما تتمثل عند كوكب الشرق في الحركة الشبه دائرية التي تقسمها ما بين اليسار واليمين وهزة الرأس وشد الكفين، وكانها تعصر الروح لاخراج الكلمات، وهو ما سنجده يتكرر بصور متوازية اومختلفة فيمن سنكتب عنهن، انه التعبير عن اقصي درجات التوافق بين الحسي والروحي.
ما أوجه التشابه في الأداء؟ هل المقارنة تفي بالغرض لاكتشاف الحقيقة؟ قد تكون المقارنة احد الطرق للوصول الي الحالة، ولكنها ليس كل شيْ، فالملاحظة التي اوردناها عن الرائعة فيروز وام كلثوم، ممكن ان نجدها في أداء الراحل ناظم الغزالي او عبد الحليم حافظ بصورة واخري كما سبق القول، او عندما كان الراحل محمد مهدي الجواهري يلقي شعره، او عندما يلقي الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، او الشاعر مظفر النواب، وهناك امثلة كثيرة لاحصر لها في الوطن العربي لشعراء ومغنين وفنانين وممثلين، تنطبق عليهم هذه الحقيقة، ولكن هل هذا الرأي ينطبق عندما نتحدث عن ثلاث رائعات، بصمن باصواتهن وحركاتهن وسكناتهن، علي الفنون السمعية والمرئية، ليس في واقعهن المحلي بل تجاوزن محيطهن الي مداه الواسع عربيا وعالميا، وهنا نجد المفارقة، أن الراحل عبد الحليم حافظ كان بنفس الانفعالية في الاداء ويغرق في الاداء ويذوب مع الكلمات، بينما نجد اعظم الملحنين العرب محمد عبد الوهاب، كانت انفعالاته هادئة، ولا يتكلف مشقة الانفعال وتنساب الكلمات بتلقائية وسلاسة، وياتي السؤال، اين يكمن السر في هذه النقطة؟ .
ولسنا الان بمعرض الاجابة السريعة علي هذه النقطة، حتي نستوفي، ما اردنا ان نقوله، في اوجه التشابه في انفعالية الاداء بين المبدعات اللواتي اخذناهن مثالا علي صدق المشاعر، الذي جعل منهن قمما اينما وصل صوتهن او وقفن علي خشبة المسرح او ظهرن علي شاشة التلفاز، الفنانات نضال الاشقر وماجده الرومي ومني واصف، قمم وضعن بصماتهن في المسرح وفي الغناء، بصوتهن وادائهن الذي أبهر السامع والرائي، وعندما نتحدث عن كل واحدة منهن بخصائصها، فكانما نتحدث عن الأخريات .
نضال الاشقر.. وصوتها المعجون بالعسجد..
فهل تمتاز نضال الاشقر ببحة صوتها وتوناتها العالية، ذات النبرة الموسيقية المتعددة التونات؟ من دون ان تكون لهذه الحنجرة مثيلا؟ وللحق أن هناك مثل هذه الحنجرة الكثير، ولكن اني لهم هذا الايمان المترسخ بقضية الانسان، لتخرج الكلمات من القلب، بكل انحناءاته وتقلصاته، فتسمو الكلمات ويتعالي الجمال في اعمق معانيه، انه السحر الذي تعبر به حتي لكأنك تخر من وقفتك دهشة للكلمات من اين لها هذا السحر والجمال، انها تستخرج مكنونات النفس البشرية فتضيع في الانسجام الذي تحدثه فيك، الحركة، وتعبير الوجه، انه التعالي الذي تبثه، بين الاداء في حركة اليد والجسد وتعابير الوجه وانطلاق الكلمات، تختلط الاحاسيس بين الحس الرومانسي الشاعري الذي يوحيه رخامة الصوت، والبث الثوري لانطلاق الكلمة، الذي يجعل السامع تتجسد لديه الاحاسيس بشكلها المعمق كما اراد لها الكاتب او الشاعر، وتبتعد عن كونها كلمات مكتوبة او حروف منضودة، انما مشاعر متاصلة تصل بقوة اقناعها من خلال الصوت والحركة وجمال اللحن وابداع الخالق في تركيب هذه القيم الجمالية بتناسق مبهر، فتغرق بين لحن الكلمات وبسالة الحركة التي تمجد علو الانسان وشموخه، انها تحملك علي الارتفاع والسمو، تستخرج الكلمات بعمق احاسيسها التي انصبت من أعماق واغوار النفس الانسانية، التي تعيش الحب بكل جلاله لتمجيد الانسان والشجر والجماد وكل ما هو جميل، وهذه المشتركات تجدها تتكررعندما تسمع وتري الفنانة ماجده الرومي، اوتري المبدعة مني واصف. .
منى واصف وماجدة الرومي والحميمية..
الفنانة ماجدة الرومي بكل طابعها الدرامي، وهي تندمج بيديها وحركة جسدها، وزغللة عينيها وتعابير وجهها، تصل في لحظة النشوة الي فقدان السيطرة علي أجزاء الجسد، وتغدق تعابير وجهها صور الانتشاء والانسجام والذوبان بالكلمات، التي تخرج عن المألوف، وكأنها تحتار في اختيار الطريق الذي تخرجُ به هذه المشاعر، فتتحرك بتناقضٍ يصل الي حد التوهان، بهذا السمو الروحي الذي يسعي له المريد بالمجاهدة للوصول الي لحظة التجلي والتوحد، تنشر اطياف لكلمات تختلف مخارج حروفها عن مالوف ما نسمع، ان لحظة النشوة والذوبان التي تصاحب ماجدة وهي تنطق الكلمات، تجعلها كانها للتو تتذوق حلاوة ما تقول، وليس ما عملت عليه منذ لحظة اطلاعها علي النص والبروفات، فهو الزمن غير المحسوب للحظة التذوق والانتشاء، فاي كبرياء وسمو تحملها وهي تطوح بيديها وكانها تحارب جيوشا فتنزلق السيوف والرماح من بينهما، وليس أمامنا الا ما لخصت هذه الحالة بكلمات، في كيفية اندماج الكل بالجزء والجزء بالكل، ما عبرت عنه اعظم من ابتدع الرقص التعبيري في القرن العشرين، الراقصة الامريكية ايزادورا دنكان، 1878 ــ 1927، بقولها " المشهد هو أنا، لا تقولوا هو حالة نفسية، بل قولوا هو حركة نفس، أندفاعة نفس، انفجارة نفس، انني ارقص حركات روحي "، من مذكرات دنكان التي ترجمها الراحل حافظ الدروبي . انها حالة السمو التي تتحدث عنها في انطلاقة الروح في التعبير عن المكنونات الداخلية، حينما تتحرر الروح من قيود الجسد، وكذلك جسد هذه الحالة التعبيرية الخلاقة لسمو الروح وانطلاقتها، الراقص الروسي الاسطورة رودلف نورييف، 1938 ــ 1993، وهو نفس الاحساس والانطباع الذي تخلقه لنا الفنانة مني واصف، عندما تقف علي خشبة المسرح او أمام الكاميرا.
مني واصف وحلم الشموخ..
أي اداء تقدمه هذه المبدعة واي كبرياء وشموخ، ينطلق في تعابير وجهها وحركة يديها وصلابة جسدها، حتي عندما تبكي، ففي بكائها كبرياء وكرامة المقهور الذي لايملك امكانية الرد، ولكنه لا ينحني لمذليه، في كل مشاهدها التي قدمتها في لقطات البكاء، هناك كبرياء وعزة نفس، وليس خضوع واذلال، انها تمثل روح الشموخ والعظمة، وليس شكل الذل والهوان، وهنا مكمن عظمة الاداء الذي تنسجه بقوة صوتها ورسوخ حركتها التي تمنحك طابع التحدي والسمو والشموخ، لما قرأناه عن المرأة المناضلة والفارسة، والجزء المهم في حياتها الاجتماعية والفكرية، المرأة العربية في حركتها الواقعية والاجتماعية والفكرية عبر العصور،] وهذا لايعني حصر الفكرة بطابعها القومي، ولكن ما قدمته من اعمال صورت المرأة العربية في عصورها من الخنساء ولحد الان [، انها تمنح البناء الدرامي للشخصية ابهي صورة، اذا كان دورا تاريخيا او اجتماعيا، لاتحس فيه تلك الميوعة، التي تخذل الممثل لعدم ادراكه وغوره في معرفة البناء الدرامي للشخصية المنوط به تمثيلها ضمن الجو العام، انها تمثل حالة الانسجام، وكأنما الدور هي وهي الدور، فلا يمكنك الا ان تنسجم مع انسجامها وتكسر الحاجز الذي بينك وبينها، بان ماتراه حقيقة وليس تمثيل. ان الجهد المفعم بتصوير الحالة واعادتها الي البناء العام للنص، هو ما تؤديه مني واصف وكأنها خلقت له.
فماذا يسع السامع والرآئي، الا ان يدرك الحلم الذي يتجسد علي ارض الواقع، ليتمثل حلمه، عندما نقف لاحتساب الرؤية والانصات، سندرك ان نشيد الانشاد الذي تتلوه نضال الاشقر بسحب الكلمات والالحان من الاعلي الي الاسفل، تقابلها مني واصف التي تبني قاعدة صلدة البناء لرفع الصورة والكلمات من الاسفل الي الاعلي، وتجتمع الصور والكلمات بين السماء والارض، عندما تشدو ماجدة الرومي، وكأن العالم يخلق من جديد، ويبقي أن ابداع المثال الذي اتخذناه نموذجا، هو الذي يحسسنا بانسانيتنا ويدخلنا في المتاهة بين الواقع والحلم، والرؤية والفنتازيا، ومرده عندما يكون الصدق في المنطلق هو الدافع الاساس الذي يلتزم به المبدع، يصدر هذا الابداع الرائع، وما يأتي بعده تحصيل حاصل.