صراع الأضداد والنظائر
أحمد الحلي
أن تنسلخ روايةٌ ما عن لغتها الأم وتنسلك في حيوية ونسيج اللغات الحية الأخرى ، فإن معنى ذلك أنها قد استوفت عناصر القوة والديمومة ، وأنها بلغت الذروة في الجمال وحسن الإتقان ...
وفي حقيقة الأمر ، فإن هناك صفاتٍ ومزايا كثيرة ومتشعبة وأحياناً عسيرة جداً يتوجب أن تتوفر في الرواية الناجحة من أجل أن تصل إلى مثل هذه المنزلة الرفيعة
الرواية التي بين أيدينا ، تنتمي إلى هذا النوع من الروايات ، فهي رواية استثنائية بل ومن طراز فريد ، وهي بعنوان " اسمي أحمر" للروائي التركي أورهان باموق ( مواليد اسطنبول عام ) 1952 والذي حاز بها على جائزة نوبل للآداب عام 2006 وسط إجماع تام في الأوساط الثقافية العالمية بأنه هو من سيفوز بهذه الجائزة الأدبية المرموقة ... وهي صادرة عن مؤسسة المدى قبل أعوام بترجمة عبد القادر عبداللي....
تتشعب أحداث الرواية الدراماتيكية وتتشظى على مستويات متعددة ، وكل مستوىً منها ربما لم يتح للكثيرين منا من قبل أن يلم إلماماً كافياً بالموضوع الذي تدور حوله ...، وبناءً على ذلك فإنها تضع على مائدتنا أطباقاً شهية متنوعة من الزاد المعرفي الذي نحن بأمس الحاجة إليه ...
وكما يتبدّى لنا منذ البداية ، فإن باموق استلهم أحداثاً معينة من التأريخ العثماني في العصور الوسيطة وتوقف عنده ملياً ليقوم بوضع أساسيات البناء المعماري الفخم لروايته ، شأنه في ذلك شأن أي سلطان من سلاطين آل عثمان ، ممن اعتادوا أن يتركوا بصماتهم وسمات عصرهم من خلال الطرز المعمارية الباذخة للمسجد الذي يتركه خلفه أحدهم قبل موته ، بيد أننا نستطيع أن نتبين أن الأثر الذي تركه باموق هو الأكثر ديمومة ورسوخاً وديناميكية ...
النقش خانة أو المركز الأساسي للفن العثماني
تدور فيه وتتفرع عنه هذه أحداث الرواية ، وهو مؤسسة تعليمية تابعة لديوان السلطنة مباشرة ، وهو بمثابة مدرسة نظامية يتلقى فيها عشرات التلاميذ النابهون تعليمهم وتدريبهم على يد أساتذة مهرة في فن النقش ، وتنحصر مهمة هذه المدرسة وطلابها وأساتذتها في تزويق وتذهيب وتزيين الكتب التي يأمر السلطان أو الوزراء بتأليفها أو الاعتناء بها بناءً على توصية خاصة من كبار مستشاريه ...وغالباً ما يجسد بعض هذه الكتب مرحلته الزمنية بما فيها من حروب واستعراضات عسكرية ضخمة وكذلك ما يتعلق بمناسبات اجتماعية كحفلات الزفاف والختان ورحلات الصيد التي يقوم بها السلطان نفسه أو أحد أبنائه أو كبار باشواته ، أو ما يتعلق بأحداث تأريخية أو دينية بعينها كتصوير وتجسيد قصة الإسراء والمعراج ...
قصة حب من طراز خاص
هذه هي الثيمة الأبرز والأكثر قوة وفاعلية وديناميكية في هذه الرواية وهي العقدة التي تتشابك وتتفرع عنها كل الخيوط ، حيث يتيح لنا الكاتب أن نتتبع بشغف تصاعد وتيرة الحب بين بطل الرواية "قرة" وبين ابنة خالته " شكورة" التي وبحكم صغر سنها لم تكد تعي شيئاً من المشاعر الجيّاشة التي تتملك قلب ابن خالتها تجاهها ، وحين يحاول هذا أن يصرّح بحبه لها ينتبه زوج خالته إلى ذلك ويعتبر أن قرة تجاوز حدوده ، فيوصد بوجهه الباب ، الأمر الذي يدفع بالعاشق إلى الانسحاب والانكفاء ، فيحاول أن يجد له متنفّساً في مزاولة أعمال أخرى يستطيع من خلالها أن يكرّس له وجوداً ، ثم يقرر الرحيل عن اسطنبول إلى أمكنة أخرى نائية ...
وهو يخبرنا عن طبيعة عمله هناك قائلاً ؛
" بعد أن تركت اسطنبول بأربع سنوات فقط ، وفي أثناء تجوالي في سهول دولة العجم المترامية ، وفي جبالها المغطاة بالثلج ومدنها المهمومة حاملاً الرسائل وجامعاً الضرائب ، انتبهت إلى أنني بدأت أنسى وجه حبيبتي الصغيرة التي بقيت في اسطنبول ، اضطربت وبذلت الكثير من أجل تذكر ذلك الوجه ، وفهمت أن الإنسان لا بد أن ينسى الوجه الذي لم يره مهما كان يحبه ، وفي سنتي السادسة التي قضيتها أخدم الباشوات في الكتابة والسفر في الشرق ، أصبحت أدرك أن الوجه الذي تخيلته لحبيبتي هو في السنة السادسة ، وبدأت أتذكر وجهاً آخر تماماً ، عندما عدت إلى المدينة بعد اثنتي عشر سنة وأنا في السادسة والثلاثين أدركت أنني أتألم لنسياني وجه حبيبتي " .
وكان زوج الخالة ، أي والد شكورة ، قد شرح لنا الحالة التي مر بها قرة ؛ " وككل شاب يدخل بيتنا ، أو يعرف بوجود ابنتنا الوحيدة شكورة ولو من بعيد عشقها قرة ، ولعل عشق الجميع لابنتي جميلة الجميلات لم يكن أمراً خطيراً يحتاج التوقف عنده ، ولكن قرة الذي تتاح له ، بحكم صلة القربى فرصة الدخول إلى بيتنا ورؤية شكورة ، كان هائماً بها ، ولم ينجح بدفن هيامه بداخله، كما كنت آمل ، ارتكب خطيئة التعبير عن حريق قلبه لابنتي ، وعلى إثر ذلك اضطر لقطع رجله عن بيتنا "
وبعد ثلاث سنوات ، يزوّجها أبوها من فارس ، وكان عمرها حوالي خمسة عشر عاماً ، وبعد أن يجعلها هذا المحارب تلد صبيين ، يذهب إلى الحرب ولكنه لم يعد وتستمر الحالة لأربع سنوات تالية . وفي حقيقة الأمر فإن شكورة هي التي اختارت زوجها ، وتروي لنا كيف حصل ذلك ؛ " لعلكم شعرتم أن أبي يحبني كثيراً ، جاء ثلاثة أولاد قبلي ، ولكن الله أخذهم واحداً واحداً وتركني أنا البنت ، يهتم أبي بي كثيراً ، ولكنني لم أتزوّج من رجلٍ اختاره هو ، بل تزوّجت من فارس رأيته بنفسي وأعجبني ، لو بقي الأمر لوالدي لكان خياره رجلاً من أكبر العائلات ويفهم في النقش والفن ، وقوياً وصاحب جاه ، وغنياً مثل قارون ، ولأن رجلاً لهذا غير موجود حتى في كتبه ، كنت سأبقى في البيت منتظرة ، وسامة زوجي اسطورية تتبادلها الألسن ، أرسلت له خبراً عن طريق وسطاء ، ووجدت فرصة فبرز أمامي في طريق عودتي من الحمّام ، عيناه تقدحان شرراً ، وعشقته فوراً ، جسمه أبيض ووجهه مائل إلى السمرة ، وعيناه خضراوان وذراعاه قويتان ولكنه يبدو بريئاً ، وهو صامت كطفل نائم ، رفضه والدي في البداية لأنه محارب فقير ، ورضي بتزويجي له عندما قلت له ؛ " سأقتل نفسي" !
ولم يلبث زوج الخالة أن يكتب إلى قرة طالباً قدومه من تبريز ، لسبب آخر يشرحه قائلاً ؛ " أنا أعمل منذ فترة على كتاب طلبه مني أساس العالم حضرة سلطاننا ، ولأن الكتاب يتسم بالسرية سحب سلطاننا من كبير المحاسبين مبلغاً من المال لأجلي
اتفقت مع أمهر نقّاشي النقش خانة السلطانية ، أكلّف واحداً منهم برسم كلب ، وآخر شجرة ، وآخر إطار مع غيمات في الأفق وآخر خيول ، الأمور التي أكلّفهم برسمها هي كتلك التي رسمها أساتذة البندقية ، أردت أن يمثّل سلطاننا العالم كلّه ..."
جديرٌ بالذكر أن زوج الخالة هذا ، الذي تم تكليفه بهذه المهمة الخطيرة ، كان عمل لعدد من السنوات سفيراً للسلطان في البندقية ، وكما يبدو فإن السلطان أرسله إلى هناك لسبب خاص جداً يتمثل في أن يطلع عن كثب على مهارات الفنانين الإيطاليين في تلك الفترة ، من أجل توظيفها واستثمارها في رسومات الكتب التي يأمر السلطان بتأليفها ...
وبعد أن يحضر قرة إلى اسطنبول بعد غياب عنها دام أكثر من اثنتي عشر عاماً ، يتحدّث له عن طبيعة المهمة التي أوكلها السلطان إليه بصدد تأليف الكتاب والإشراف عليه ؛ " قلت كل رسم يحكي حكاية ، ولتجميل الكتاب الذي نقرؤه يرسم النقاش أجمل مواقف الحكاية ، التقاء العاشقين لأول مرة ، قطع البطل رستم الرأس الوحشي للشيطان ، قدر رستم الذي أدرك بعد فوات الأوان أن الغريب الذي قتله هو ابنه ، مجنون ليلى الذي فقد عقله لعشقه وسط الطبيعة الوحشية بين الأسود والفهود والوعول وبنات آوى ، وحزن الاسكندر عندما ذهب إلى الغابة لمعرفة المستقبل من الطيور ، فوجد صقراً ضخماً مزّق حجلته الخاصة ، لا أحد يستطيع التفكير برسم من دون حكاية ..."
تتداخل أحداث الرواية وتتشابك وفق اسلوب السرد الشيّق الذي ابتكره باموق ، وهو أسلوب يعتمد على ما تحكيه لنا شخصيات الرواية ، كلٌّ وفق منظوره وتصوره ، وهو أتاح حتى لبعض الحيوانات أو الجمادات والصفات أن تتحدث ...
وحين يخرج قرة من بيت خالته من دون أن يتاح له أن يرى حبيبته ، وأثناء محاولته القفز على حصانه ، تظهر له بطريقة حكائية امرأةٌ ضخمة جداً سرعان ما عرفها ، إنها يهودية تلبس ثياباً زهرية ، وتحمل صرّتها متوجّهةً نحوه .
قالت ؛ " يا سبعي ، يا شاب ، فعلاً إنك وسيم كما قالوا عنك ، هل أنت متزوج أم عازب ؟ هل تشتري منديلاً حريرياً من إستر أم الصرّة لحبيبتك بالسر؟
وحين يعلن عن رفضه تقترب منه أكثر وتدس في يده رسالة ، قالت له ؛ " اركب حصانك ، وسقه خبباً ، اذهب بجانب هذا الجدار ، ثم انعطف إلى اليمين ، ولا تحرف طريقك ، وعندها تصل إلى شجرة الرمان ، التفت وانظر إلى البيت الذي خرجت منه ، إلى النافذة التي تقابلك "
حين يصل إلى المكان المحدد تنفتح النافذة المغطاة بالجليد ، وهناك يرى وسط إطار النافذة المتلامعة تحت أشعة الشمس وجه حبيبته ، بعد اثنتي عشر سنة ، ها هو وجهها بين الأغصان المغطاة بالثلج .
تخبرنا إستر اليهودية بمضمون رسالة شكورة إلى قرة وفيما يلي نصها ؛
" قرة أفندي ، أنت تأتي إلى بيتنا اعتماداً على صلة القربى التي تربطك بنا ، لا تتوقع أن تحظى مني بإشارة ، حدثت أمورٌ كثيرة بعد ذهابك ، تزوّجت ولديَّ ولدان كسبعين ، أحدهما أورهان ، قبل قليل دخل ورأيته ، أنا منذ أربع سنوات انتظر عودة زوجي ، ولا أفكر بأمرٍ آخر ، يمكن أن أشعر بوجودي مع ولدين وأب عجوز أن لا أحد لنا ، ولا مناص ، وأننا ضعفاء ، ويمكن أن أكون بحاجة إلى قوة رجل وحمايته ، ولكن يجب ألا يفكر أحدٌ باستغلال هذا الوضع ، لهذا السبب ، لطفاً ، لا تطرق بابنا مرةً أخرى ، أحرجتني مرّة ، كم تعذّبت لإثبات براءتي أمام أبي " .
ترى إستر اليهودية أن رسالة شكورة هذه تدعو إلى العشق أكثر مما تدعو إلى رفضه ، ودليلها ، أن كاتبتها عطّرتها بعطرٍ نفّاذ يدوم طويلاً ...
لم تلبث شكورة أن تحدثنا عن حياتها في بيت أهل زوجها مع ولديها ، حيث كان الأب يطمح ، وبعد انقطاع أي خبر عن ابنه الفارس في الجيش العثماني أثناء حربهم المتواصلة مع الصفويين ، أن يتزوّج ابنه الثاني حسن المقيم معهم في ذات البيت من شكورة ، وكان يتوجب عليهم أن يثبتوا أمام القاضي أن الزوج المفقود متوفّى من خلال إحضار شهود ...
تقول شكورة ؛ " لو بذلت مجهوداً لأمكنني أن أعشق حسن ، وهو أصغر من زوجي المفقود بثماني سنوات ، ولكن عليَّ بذل الكثير من أجل أن أعشق هذا الرجل الذي جعلني غسّالة ، ولم يتردد بإرسالي إلى السوق لشراء الأغراض كالجاريات والعبيد " ، وتخبرنا أن حسن هذا حاول عدة مرات مضايقتها ، تقبيلها ، مداعبتها بيديه ، مخبراً إياها أن زوجها لن يعود أبداً ، مهدداً إيّاها بأنه سوف يقتلها ، وبكى أمامها مثل طفل ، ولأنه عجول وفوضوي على حد قولها ، لم يُعطِ فرصةً للعشق النبيل والحقيقي الذي تحكي عنه الملاحم ، ففهمت أنها لا تستطيع الزواج منه .
في إحدى الليالي ، عندما حاول الضغط على باب غرفتها التي تنام فيها مع ولديها ، تنهض فوراً ، ودون اهتمام لخوف الأولاد فتصرخ بأعلى صوتها ؛ " إن الجان الشرّير يحاول الدخول إلى غرفتها ، فيستيقظ حموها على صراخها ، فيُدرك السبب الحقيقي وراء صراخها ، وفي الصباح تعلن أمامهما أنها ستذهب مع ولديها إلى بيت أبيها المريض لرعايته ، وأنها ستبقى هناك لمدة طويلة .
وبما أن حبكة الرواية الأساسية تعتمد على ثيمة النقش والمرويات القديمة المتعلقة به ، فإنها زخرت بعشرات الحكايات من عصور مختلفة ، ولا سيما المتعلقة بالعشق والغرام ، والتي غالباً ما تنتهي بنهاية فاجعة غير متوقعة ، وتبرز لنا حكاية خسرو وشيرين المنقولة من التراث الفارسي ، فبعد مكابدات وألم يتزوج خسرو من حبيبته شيرين ، إلا أن ابنه شيرويه من زوجته الأولى ، سرعان ما يعشق زوجة أبيه شيرين ، وبينما كان الأب العجوز مع زوجته الجميلة شيرين ينظر إلى الرسم المعلّق الذي كان يمثلهما وكان يظهر فيه شاباً وسيماً ، يرتعد قلبه فجأة ، فيدخل الابن من النافذة ، ويغرز خنجره الكبير في صدر أبيه ، ليقضي ليلته مع معشوقته شيرين ، التي تستسلم له طواعية ...
الشيخ نصرت الأرضرومي
يتطرق باموق في روايته هذه إلى قضية التطرف الديني بطريقة ساخرة ، ويأتي الحديث عن هذا الأمر في بداية الرواية على لسان كلب ، حيث يتحدث عن أحد الشيوخ المتزمتين ، والذي كان يحث أتباعه ومريديه على التقوقع والانغلاق ويحرضهم على مهاجمة كافة المظاهر التي لا تتناسب مع رؤيته للدين والتشريع الإسلامي .
يقول الكلب " كان يا ما كان في قديم الزمان ، كان هناك عاصمة فيها جامع ضخم ، لنفترض إنه جامع البيازيد ، هناك واعظ لا يعرف أصول العلاقات أتى من مدينة ريفية ، لعله كان مضطراً لإخفاء اسمه ، ولنفترض أنه الشيخ حصرت ، هذا الرجل واعظ عنيد ، كان كل جمعة يهيّج المصلين ، ويبكيهم حتى أن هناك من تجف عيناه من كثرة البكاء ، ويُغمى عليه وينصرع ، ولكن ، انتبهوا ، لا تُخطئوا ، فهو لا يبكي مثل بقية الوعّاظ الأقوياء اللسان ، بل على العكس ، فهو يُبكي الجميع ولا يرف له جفن ، وحديثه المؤنّب للجماعة يُعطيه قوة إضافية ، كان هذا الشيخ لا يكفّ عن القول ؛ " السبب الوحيد للغلاء والوباء والهزائم هو نسيان الإسلام كما كان في زمن حضرة نبينا ، وانخداعنا بكتب وأفكار أخرى ، وأحابيل مختلفة على أنها من الإسلام ، هل كان في زمن حضرة محمد قراءة مولد ؟ هل كان يُعمل أربعينية للميّت توزع فيها الحلاوة والعوّامات على روحه ؟ هل كان يُقرأ القرآن الكريم حسب المقامات الموسيقية شأنه في ذلك شأن الأغاني ؟ هل كان هناك من يصعد إلى المئذنة قائلاً لنفسه ؛ ما أجمل صوتي ! هل كان المسلمون في بداية عهد الرسالة يطلبون من الموتى والأضرحة مدداً ويسجدون للحجارة مثل الوثنيين ؟
ويأخذ هذا الشيخ بالتهجم على أصحاب الطرق الصوفية ناعتاً إيّاهم بأبشع النعوت ومختتماً كلامه بـالتوصية ؛ يجب هدم الزوايا والتكيات ، وحفر أساساتها بمقدار سبعة أشبار ورمي التراب الناتج عن هذا الحفر في البحر ، وفي هذه الحالة فقط يمكن إقامة الصلاة هناك ..
ويتطرّق الكلب إلى مسألة أخرى ؛ " يقال إن الشيخ حصرت ، عندما يشتد انفعاله ، ويتطاير اللعاب من فمه يأخذ بالصراخ ؛ " أيها المؤمنون ، شرب القهوة حرام ، ولأن حضرت نبينا يعرف أنها تخدر العقل وتثقب المعدة ، وتسبب الفتق والعقم ، ولأنها حيلة شيطانية فإنه (ص) لم يكن يشرب القهوة قط ، إن المقاهي أمكنة يقصدها أهل الكيف ..."
ونحن نعلم أن هناك الكثير من الأتباع والمريدين ممن يتأثرون بهذا الشيخ المهووس ، وكان أحد هؤلاء المدعو ظريف ، وهو واحد من أربعة نقّاشين كانوا يعدون أفضل نقّاشي السلطنة ، وكان عمله على كتاب زوج خالة قرة يقتصر على التذهيب ، وقد أحدثت تخرصات الشيخ الأرضرومي في عقله بلبلة واضطراباً كبيرين ، لا سيما إتهام الشيخ لزوج الخالة من طرف خفي بأنه يحضر كتاباً للسلطان فيه مخالفة صريحة لتعاليم الإسلام ، فيُعلن ظريف عن ندمه ونكوصه عن الاشتراك مع رفاقه الثلاثة في هذه المهمة ، ويُفضي بمخاوفه إلى أحد زملائه ، الذي خشي أن يتفاقم الوضع أكثر فأكثر ، لا سيما وأن تأثير الشيخ الأرضرومي أخذ يتعاظم وينتشر ، فيقرر أن يضع حداً لذلك ، وعندما يلتقيه ثانية يلمس مدى اضطرابه وفزعه من خلال قوله وتأكيده ؛ " إن الرسم الذي تعملونه حرامٌ عظيم ، أتعرفون هذا ؟ إنه كفرٌ لا يجرؤ عليه أحد ، إنه زندقة ، ستُحرَقون في قعر جهنم ، لن يهدأ عذابكم ، ولن تخف آلامُكم ، وقد أشركتموني في هذا ... "
يتمشى معه ، وبعد أن يصيرا بالقرب من البئر ، يخبره أن المال الذي وعده به موجود في حفرة على بعد خمس عشرة خطوة من البئر ، يقول القاتل ؛ " أمسكت الصخرة الموضوعة بجانب البئر بانهماك ، وبينما كان يعد خطوته السابعة أو الثامنة لحقت به ، ونزلت بالحجر على رأسه من الخلف بكل قوتي " ، وبعد أن يتأكد من موته يرميه في الجب .
حديث ما بعد الموت (1)
الآن أنا ميّت، جُثةٌ في قعر جُب ، مضى كثيرٌ من الوقت على لفظي نفَسي الأخير ، وتوقف قلبي منذ زمن طويل ، ولكن لا أحد يعرف ما جرى لي غير قاتلي السافل ، إنه رذيل مقرف ، أصغى إلى نفَسي للتأكد من موتي وجسَّ نبضي ، ثم رفسني على بطني ، بعد ذلك حملني إلى الجُبّ ورفعني وألقاني ، رأسي الذي كسره الحجر تفتت في الجب ، انسحق وجهي وجبيني ، وخدّاي لم يبق منهما أثر ، تكسّرت عظامي امتلأ فمي دماً ، أربعةُ أيامٍ مضت على غيابي عن البيت ، زوجتي وأولادي بحثوا عني ، ابنتي انهارت لشدة البكاء وهي تنظر إلى باب الحديقة ، عيون الجميع على الباب والطريق ، كنت سعيداً ، الآن أفهم أنني كنت سعيداً ، كنت أعمل أفضل تذهيب في نقش خانة السلطان ، ليس هناك مُذَهّب يستطيع الاقتراب من مهارتي ، كان يدخلني في الشهر تسعمائة قرش أبيض من عملي في الخارج ، وهذا بالطبع يجعل موتي لا يُطاق ، باختصار أنا المدعو بين النقّشين ظريف أفندي متُّ ولكنني لم أُدفَن .شكايتي الآن ليست من تساقط أسناني مثل الحمص الهش في فمي المدمى ، وليس من سحق وجهي إلى حد عدم معرفته ، وليس من استعصائي في قعر جب ، بل من شعوري بأنني ما زلت حياً ، عليهم أن يجدوا جُثتي في أسرع وقت ، ويصلّوا عليّ ، ويشيّعونني ويدفنونني ، والأهم من هذا عليهم أن يجدوا قاتلي ، عليكم معرفة أنه إذا لم يُلقَ القبض على ذلك السافل ، فلن أهدأ في قبري حتى لو دفنوني في قبرٍ رائع ، وسأبقى أبثّكم اللاإيمان والبلبلة ، جدوا ابن القحبة قاتلي ، وأنا أحكي لكم بالتفصيل عمّا رأيته في الحياة الآخرة ، ولكن بعد أن تقبضوا على قاتلي عليكم أن تعذّبوه بـ ( المنغنة) ، وأن تكسروا عظامه الثماني عشرة ، وتُفضّل عظام الصدر ، وجعلها تطقطق ببطء ، بعد ذلك تثقبون جلدة رأسه ذات الشعر الطويل المزيّت والمقرف بالسياخ الخاصة بالجلادين ، واقتلعوا ذلك الشعر شعرة شعرة وهو يصرخ ، ولكن يتوجب عليّ أن أنبهكم منذ الآن ، أن وراء موتي مؤامرة مقرفة على ديننا وتقاليدنا ورؤيتنا للعالم ، افتحوا أعينكم ، واعرفوا لماذا قتلني أعداء الإسلام الذي تؤمنون به وتعيشونه ، ولماذا يُمكن أن يقتلوكم في يوم ما ، ها هي أقوال الواعظ الكبير الشيخ نصرت الأرضرومي كلها التي كنت أستمع إليها باكياً تتحقق قولاً قولاً ..." .
وبالعودة إلى إستر اليهودية ، فقد كانت دائبةً وسريعة الحركة ، تقتني بعض الحاجيات الضرورية والملابس النسائية من السفن الراسية ثم تعرض بضاعتها متجوّلةً على النسوة المرفهات في بيوتهن ، والأهم من ذلك كله أنها كانت تقوم بعملها الأساس ، وهو نقل الرسائل بين المحبين مقابل أجر ، وكانت لديها حيلها الخاصة للاطلاع على فحوى كثيرٍ من تلك الرسائل ، بل وأنها كثيراً كانت تعمد إلى إطلاع بعض المتنافسين على رسائل بعضهم إلى الفتاة ذاتها ، وقد لاحظنا كيف أن هناك من كان ينازع قرة على قلب شكورة ، وهو حسن أخو زوجها المفقود والأصغر سناً منه بثماني سنوات ، والأهم من ذلك أن شكورة نفسها كانت تستظرفه ، وتتمنى في بعض الأحيان لو أنها ألقت بنفسها في حضنه ، ولكنّ صرامتها واعتدادها بنفسها يمنعانها من ذلك ...
يقرأ حسن رسالة قرة إلى شكورة جواباً على رسالتها السابقة ؛
" شكورة خانم الحبيبة ، لأنني عشت سنوات طويلة على خيال شخصٍ واحد ، أتفهّم بإكبارٍ انتظارك لزوجك وعدم تفكيرك بغيره ، ما الذي يُمكن توقّعه من امرأة مثلك غير الاستقامة والعفة (هنا يضحك حسن مقهقهاً) ولكن مجيئي إلى أبيك من أجل النقش لا يعني أنني سأضايقه ، هذا لا يخطر ببالي أبداً ، كما أنني لن أقول إنك أعطيتني إشارةً أو منحتني جرأة ، عندما بدا لي وجهك من النافذة كالنور لم أفكر سوى أن هذا عطاء من الله لي ، لأن سعادتي لرؤية وجهك تكفيني ، أما وأنك تقولين لا تقترب مني ، فهل أنتِ ملاك ليكون الاقتراب منكِ مخيفاً إلى هذا الحد ؟"
بعد أن يعثروا على جثة ظريف على إثر انتشار رائحة العفونة المنبعثة منها ؛ نقرأ ما يقوله القاتل الذي يدلي هو أيضاً باعترافاته أسوة بشخصيات الرواية الأخرى ؛
" كنتُ أكثر الباكين عندما كان يُرَدم التراب البارد الرطب فوق جسد ظريف أفندي المسكين المتفتت ، كنت أصرخ قائلاً ؛ " دعوني أموت وأُدفَن معه ، وبدأ ثرثارو النقش خانة يعتقدون أن بيني وبين ظريف أفندي علاقة صميمية ..."
رسالة
شكورة خانم ، أنا احترق مثل الجمر ، وأعلم أن هذا لا يهمك ، عندما أنام أحلم أنني أطارد خيالك في الهضاب القفراء ، كلما تتركين دون جواب رسالة تتلقّينها مني ، أعرف أنكِ تقرأينها ينغرز في قلبي سهمٌ في نهايته ثلاثُ ريشات ..."
إزاء حيرتها أمام هذين العاشقين المتنافسيْن ؛ حسن وقرة ، ولكونهما يتألمان جرّاء هذا العشق ، تشرع بالمقارنة بينهما ؛ " قرة ذهب اثنتي عشر سنةً بعيداً وانقطع وزال ، وحسن يرسل إليّ يومياً رسائل منقوشة في زواياها رسوم طيور وغزلان ، ولكثرة قراءة هذه الرسائل أخذتُ أخاف منه بدايةً ، ومن ثم تعلمت كيف أشعر بالفضول نحوه ، ولمعرفتي أن حسناً فضوليٌ للإطلاع على ما يخصّني لم أُدهَش لمعرفتي بالأمر ، شككت أن إستر تسمح له بقراءة الرسائل التي أرسلها إلى قرة ."
ولكنها تعلم أن قلبها ، في سره ، يخفق لعاشقها القديم قرة ، فتقرر أن تلتقيه في أحد البيوت المهجورة ، وكان يُطلق عليه بيت اليهودي المشنوق ، ترسل ولديها مع الجارية خيرية إلى السوق وتذهب إلى لقاء عشيقها ، وحين يلتقيان تدور بينهما أحاديث شجية ، تقول ؛ " حكى لي حكايات جميلة جداً وكثيرة ، حكى عن النظر إلى الرسم والوقوع في العشق ، وتحدث عن تحمله العذاب من أجلي ، الآن لا أشعر سوى بسحر كلماته ترن في داخلي ، شعرت بالذنب لأنني جعلته يتعذب على مدى اثنتي عشرة سنةً ، يا لقرة ويا لجمال عباراته التي يقولها ، ويا لجمال هذا الإنسان ، إنه مثل طفل بريء ، أقرأ هذا في عينيه ، حبّه لي يمنحني الأمان ، ثم تحاضنّا ، استمتعت بهذا إلى حد أنني لم أشعر بالذنب ، وبشعور ممتع أحلى من العسل فقدتُ صوابي ، اندسست فيه أكثر ، وسمحت له بتقبيلي وأنا قبّلته ، وبينما كنا نتبادل القبل شعرت بأن العالم كله دخل في ظلامٍ لذيذ ، أردتُ للجميع أن يتحاضنوا مثلنا ، كأنني أتذكر أن العشق أمرٌ كهذا ، أدخل لسانه في فمي ، كنتُ مستمتعة إلى حد شعوري بأن العالم كلّه بدأ يغرق في جمالٍ برّاق ..."
وبينما شكورة وقرة منشغلين بعشقهما ، كان والد شكورة قلقاً جداً بشأن مقتل نقّاشه ظريف أفندي ، واعتبر أن ذلك يتضمن رسالة تهديد مباشر له ، وأنه ربما سيكون الضحية التالية ، وبناءً على ذلك حاول جاهداً التوصل إلى معرفة القاتل ، بعض القرائن والدلائل رجّحت أن يكون واحداً من بين النقاشين الثلاثة المتبقين الذين يعملون معه على الكتاب السري الذي كان السلطان قد كلفه بإنجازه ، فيرسل قرة إلى كبير النقاشين الشيخ عثمان لاستطلاع رأيه حول هذا الأمر ، خاصة وأن هؤلاء الثلاثة بالإضافة إلى المرحوم ظريف هم أقرب تلامذته إليه وأنه (أي الشيخ عثمان) هو من أطلق عليهم ألقابهم التي عُرفوا بها ...
في تلك الليلة ، التي أتيح لقرة أن يلتقي فيها بمعشوقته شكورة ، كان هناك من يطرق باب بيت زوج الخالة ، يستقبله هذا بوجل ، على الرغم من أن بينهما عملاً مشتركاً ، يسأله ؛ هل تخاف يا بني من الرسوم التي نُعدها ؟
فيجيبه ؛ " لم يعد كتابُنا سراً ، لعل هذا غير مهم ، ولكن الشائعات في كل مكان ، يُقال بشكل غير مباشر إننا نكفر بديننا ، يقال ، ليس حضرة سلطاننا من طلب تأليف الكتاب ، بل هو كتاب عملناه حسب مزاجنا ، ويقال أيضاً إننا نحضّر كتاباً يسخر من حضرة سلطاننا ، وهو كتاب إنكار وزندقة ، وإننا نقلد فيه معلمي الكفار من الرسامين ، وأننا ننظر بعين الكلاب الشاردة القذرة منظورياً ، فإذا رسمنا ذبابة وجامعاً نرسم الذبابة بحجم الجامع بحجة أن الجامع في الخلف ، وهذا كفر بديننا ، وسخرية من المؤمنين الذاهبين إلى الجامع ، وأنا لم أعد أستطيع النوم لكثرة ما أفكر به " ..
يثور بينهما حوارٌ طويل حول هذا الأمر ، يُمسك الحُقّة البرونزية الثقيلة بيده ، يقول زوج الخالة عندما يراه متفحصاً الحقة البرونزية ؛ إنها حُقّة مغولية عمرُها ثلاثمائة عام ، جلبها قرة من تبريز ونستخدمها للون الأحمر فقط ، في تلك اللحظة يعترف له ؛ أنا قتلت ظريف أفندي .
ومع ذلك يستمر النقاش بينهما حول النقش والحكايات الأسطورية والواقعية المتعلقة به ، ربما تفادياً منهما من الوصول إلى اللحظة الحاسمة ، وأخيراً يهوي بها على رأسه ...
حديث ما بعد الموت (2)
صار عقلي ورؤيتي وذكرياتي وعيني هي مخاوفي ، تداخلت فيما بينها ، لم أكن أرى أيّ لون ، أدركت أن الألوان كلّها غدت أحمر ، اعتقدت أن دمي حبرٌ أحمر ، وجدت الموت في تلك اللحظة ظلماً وجوراً ، أغلقت عيني حزناً ، ولكي لا يكون الرجل المعادي لي آخر ما أره في هذا العالم ، بعد هذا فوراً رأيت ضوءاً لطيفاً ممتعاً ، كان ذلك الضوء جذّاباً وممتعاً مثل نوم من شأنه أن يهدئ كل آلامي ، سألت مثل طفل ؛ من أنتَ ؟ قال أنا عزرائيل ، أنا الذي أنهي سفر ابن آدم في هذا العالم ، أنا أفصل الأولاد عن أمهاتهم والأزواج عن زوجاتهم ، والعاشقيْن كلٌ منهما عن الآخر ، والآباء عن بناتهم ، لن يبقى حيٌّ في هذا العالم دون لقائي "
يعلم السلطان بحادثة قتل زوج الخالة ، ومعلومٌ أن الأخير كان مقرّباً من السلطان ومن خاصته ، وأنه أوكل إليه عدداً من المناصب كما أسلفنا ، وأهم من ذلك كله أنه أوكل إليه بتأليف هذا الكتاب الخطير الذي كان النقّاشون الأربعة يضعون لمساتهم الأخيرة عليه ، ولم يتبق سوى تدوين الوقائع ومجريات الأحداث ، حيث وجد زوج الخالة أن خير من يستطيع القيام بهذه المهمة هو قرة ، ومن أجل ذلك كتب إليه يستقدمه إلى اسطنبول ..، ويجري استنفار كبير لمعرفة القاتل ، وكانت الشبهات تحوم حول أحد النقاشين الثلاثة المتبقين ، ولكن من هو بالتحديد ، لا أحد يدري .
حين تعود شكورة من خلوتها مع قرة ، تتفاجأ وتنصدم بموت أبيها ، ولا سيما وأنه تم بهذه الطريقة البشعة ، ولذا وبناءً على تفاقم الإحساس لديها بأنها أصبحت وحيدة وأنه لا بد من ثم من وجود رجل قوي بقربها يوفر الحماية لها ، ونعلم أنها سبق واتفقت في لقائها مع قرة على ضرورة أن يتزوجا على الرغم من أن وضعهما والظروف المحيطة بهما كانت ملتبسة إلى أبعد الحدود ، حيث وتلافياً من إقدام حسن وأبيه على استصدار أمر قضائي باستعادتها إلى بيت زوجها إذا علما بوفاة أبيها فكان لابد من إخفاء موته بأية وسيلة ممكنة والادعاء بأنه مريض ، كما أنه لا بد لهما من استصدار أمر قضائي يتضمن الإقرار بموت زوج شكورة المفقود من أجل أن يصبح الزواج ممكناً ...
وكان السلطان ، حين علم بحيثيات قضية مقتل زوج الخالة قد أصدر أوامره إلى الصدر الأعظم أن يستدعي إليه كبير النقاشين الشيخ عثمان وكذلك قرة وأن يبلغهما بضرورة أن يتم الكشف عن قاتل زوج الخالة ، وحدد لهما موعداً أمده ثلاثة أيام من أجل أن يتوصلا إلى معرفة اسم القاتل ، وإلا فإنهما سوف يتعرضان إلى التعذيب الشديد ثم يُقتلان هما وباقي النقاشين الثلاثة وبعد بحث واستقصاء طويلين في عدد كبير من المخطوطات السلطانية القديمة التي سُمح لهما بمعاينتها ، واستناداً إلى رسومات عثرت عليها زوجة ظريف أفندي في جيبه يوم جيء بجثته بعد استخراجها من الجب ، وبهذه الطريق يستطيع كبير النقاشين وقرة من تحديد هوية القاتل ...
يذهب قرة إلى النقاشيْن فراشة ولقلق ويخبرهما أنه تم التعرف إلى القاتل وأنه زميلهما زيتون ، ويتفق الثلاثة على الذهاب إلى بيت زيتون بعد أن يضعوا خطة مدروسة ، يواجه قرة زيتون بالاتهامات حول رسمة الحصان التي وجدوها في جيب ظريف أفندي ، فيُنكر أنه قام برسمها ، فيخبره قرة أن الذي قام بتحديد المسؤولية عن ذلك هو شيخهم عثمان أفندي نفسه ، أما أن يخوننا أبونا وأستاذنا ، ويتسبب بقتلنا أو نخونه ونتسبب بقتله ، وبينما هو سارح في أفكاره وهو في موقف الدفاع عن نفسه ، يشعر أنهم يتهامسون ، وفجأة يقفز الثلاثة فوقه محاولين تثبيته إلى الأرض ، وحدثت مدافعة ومعركة ، ولكنهم استطاعوا أخيراً تسميره إلى الأرض ، وأمسك قرة خنجره ووضعه على رقبته ، ثم أخرج قرة من حزامه شيئاً ، إنها إبرة طويلة ، رأسها مدبب جداً ، يقول زيتون ؛ " في لحظة قرّبها من عيني ، ثم تحرّك حركة أبدى فيها إمكانية غرزها في عيني " ، قال قرة ؛ " قبل ثمانين سنة أدرك أستاذ أساتذة النقش في بلاد فارس بهزاد عند سقوط مدينة هرات بيد أعداء ملكها أن كل شيء انتهى ، ولكي لا يجبره السلطان الجديد على نقش أمور لا يحبها ، أعمى نفسه بشرف ، ثم انتقل المغرز مع بهزاد الأعمى والسكران من هرات إلى تبريز ، ومن هناك تم إرساله هدية مع كتاب الشاهنامة من الشاه طهماسب إلى والد سلطاننا ، وهو بيدي الآن ، بعد أن سرقته من خزانة السلطان ، وأثناء ذلك حصل تدافع بينهم ، يقول زيتون ؛ " وحدث كل شيء بسرعة ، إذْ لم أنتبه إلى ما حدث ، شعرت بألم حاد بعيني اليمنى وتخدّر جبيني للحظة ، وبعد ذلك عاد كل شيء كما كان ، ولكن ترسّخ في داخلي هلع ، ثم رأيت الإبرة تنغرز بتصميم في عيني اليسرى ، شعرت بالحرقة ، كأن الخدر الذي في جبيني انتشر في رأسي كله ، وتوقف هذا الخدر عند خروج الإبرة ، كانوا ينظرون مرةً إلى عيني ومرةً إلى رأس الإبرة ، كأنهم غير واثقين مما حدث " .
وأخيراً لم يجد زيتون بداً من أن يعترف بجريمتيه ، محاولاً تبريرهما ، ثم يطلبون منه أن يُطلعهم على الرسم الأخير في الكتاب الذي تشاركوا في إنجازه والذي كان سرقه من أحد الصناديق في بيت زوج الخالة بعد قتله إياه ، ذلك الرسم الذي بقي سراً لم يعلم أيٌ منهم إلا جزءاً من ماهيته ، فيناولهم إياه ، ويستغل انهماكهم بالنظر إليه فيلوي ذراع قرة فيسقط الخنجر من يده ، يلتقطه ، ويُقرّب رأس الخنجر الحاد من عين قرة ، ثم يجمع زيتون أغراضه التي تناثرت ...
ولكن ما إن خطا خطوة أو إثنتين نحو الباب ، حتى قفز فوقه قرة بمهارة ، ولكنه لم يكن محظوظاً ، حيث تعرقلت قدمه بشيءٍ ما وفقد توازنه ، وأمسك به زيتون من رقبته والخنجر بيده ، وأمر زميليه الآخرين بالجلوس حيث هما ، فجلسا ، ثم يُدخل رأس الخنجر في منخر قرة ، يقول له ؛ " أستطيع أن أقطع رأسك إن أردتُ الآن ، ولكن يمكنني أن أعفو عنك من أجل سعادة شكورة وولديها ، عاملها جيداً " ولكن يده تتصرف عكس معنى كلامه ، فيُنزل خنجره على رقبة قرة بكل قوته ..( نعلم بعد ذلك أن قرة لم يمت ، وهو نجى من هذه الضربة القاتلة ليعيش بقية حياته مع حبيبته وزوجته شكورة ، وربما يكون الحب هو من حقق معجزة نجاته ) .
يأخذ زيتون أغراضه على عجل ويقرر الذهاب إلى مبنى النقش خانة ، وما أن يصل إلى هناك يوقفه أحدهم ، يقول زيتون ؛ " كان لصوته خنة تخدش الأذن ، قال إن الخنجر المدمّى ذا المقبض المرصع بالياقوت الذي بيدي يعود له ، وقد سرقه ابن أخيه شوكت بالاتفاق مع أمه شكورة ، ثم سلّماه إلى قرة ، وهذا يثبت أنني من رجال قرة الذين داهموا بيته واختطفوا شكورة " ، ويستدرك زيتون ؛ " إن هذا الرجل الغاضب الذي يدّعي المعرفة استنتج بأن قرة سيأتي مع أصدقائه إلى النقش خانة ، وكان يحمل سيفاً طويلاً يبرق بلون أحمر ، حاولت أن أوضح له ، حاولت أن أقول ؛ الرحمة توقف " ! ولكنه كان قد نفّذ الحركة ، أما أنا فلم أستطع حتى إشهار خنجري ، استطعت رفع يدي التي تحمل الصرة ، طارت صرّتي في الهواء ، قطع السيف الأحمرُ يدي أولاً دون إبطاء عابراً رقبتي من هذا الطرف إلى ذاك قاطعاً رأسي ..." .
حديث ما بعد الموت (3)
أدركتُ أن رأسي قُطع من الخطوتين المهتزتين اللتين خطاهما جسدي الذي تركني ، ومن هزّي الخنجر بشكل غبي ومن تدفق الدم من رقبتي مثل النافورة وانهياري على الأرض ، رجلاي المسكينتان كانتا تمشيان تلقائياً وتتخبطان مثل تخبط حصان مسكين دون جدوى قبيل الموت ، وبسبب سقوط رأسي وسط الطين لم أستطع رؤية قاتلي بشكلٍ كافٍ ولا الصرة المليئة بالرسوم والحاوية ذهبياتي التي طالما تمسكت بها بقوة ، الأمر الذي فكرت فيه قبل أن يقطع السيف رأسي هو ؛ أن السفينة ستبحر بعد ساعة وأنني سوف أتمكن من الصعود إليها والذهاب من ثم إلى الهند حيث أخدم في بلاط الشاه هناك ..." .