الثلاثاء، 17 مارس 2015
السبت، 14 مارس 2015
مبدعون في الذاكرة-د. إحسان فتحي
مبدعون في الذاكرة
الزملاء المعماريون والمهندسون العراقيون الأعزاء في كل مكان
تحياتي الطيبة
د. إحسان فتحي
هذه بعض السطور عن الصديق العزيز وزميل المسيرة في قسم العمارة في جامعة بغداد، هيثم خورشيد، وهو الطير المهاجر الذي يرنو دوما بحنين عميق إلى الديار العتيقة في الوطن، وها هو قد التجأ إلى الرسم كوسيلة تشغله عن هموم العراق وما يجري فيه من مآسي ودمار. هذه تحية له ولعلنا نرى نماذجا من رسوماته، وتمنياتنا له بالصحة والعافية والمزيد من العطاء.
آمال سالم-الصورة أو مقاومة الغياب
آمال سالم
الصورة أو مقاومة الغياب
اذا كانت المصوّرة الفوتوغرافية آمال سالم قد احترفت، كزملاء لها، مهنة الصحافة، فإنها لم تختر إلا عينها. فالصحافة لديها كاختيار شبيه بمن ينتظر من لا وجود له، لأنها، ببساطة، حاولت الإمساك بهذا الذي لم يترك إلا ماضيه: محوه: الغياب. فهي أدركت أنها لم تنشغل بمراقبة عمل (سيزيف)، وإنها لن تؤدي دوره حسب، بل عليها ان تخترعه! فهي اختارت العمل ذاته الشبيه بمن اختار هبات الضوء: مقاومة الظلام. لكن عملها في الصحافة لم يقيدها بنقل الخبر (الصورة). لا لأنها أدركت ان مهمة (الجسور) هي الإقامة، رمزيا ً في الأقل، وليس وسيلة للعبور، والنقل، بل لأن العمل ذاته، هو اللغز، وهو ان يحافظ على ديناميته.
على ان (اللغز) لا يكمن في المكان، ولا في مرور الزمن، بالمعنى المألوف، بل في العثور على علاماته وهي تنحدر إلى الغروب. كان عملها الفني لوعة أم اكتشفت أنها في الجحيم. فالخسائر وحدها ستعوضها بما تحول لدي البعض إلى مظاهر، بمعنى: أقنعة. لهذا ليس لديها إلا ان تصوّر عالمها الذي لا تعرف أكان قدرا ً أم عليها ألا تستسلم له.
فانشغالها بالتركيب، والجمع، والتوليف، والصهر ...الخ، كلها اهتمامات فلسفية لا علاقة لها بالأقنعة، سمح لها ان تدمج المسار الشاق ، والجذاب ـ للفنون بفن العصر: التصوير .
فما هو قيد الزوال، لم يعد سطحا ً، أو بعدا ً أحاديا ً، أو ملمسا ً، أو لونا ً، بل، كما في لا وعيها السحيق، يشتغل في الأقاصي، حيث الأبعاد لا وجود لها من غير من يعيد إليها ـ بروح الضوء والمراقب ـ عناصرها، وهنا رسخت آمال سالم أقدم قانون للحرية: فك القيود/ أو الاشتباك معها، والحفر في الظلمات.
فلم تجد للحرية أدق تعريف يماثل إنها ليست للدعاية. ذلك لأن الفن لم يمت، حتى وان تحول، كما تحولت بعض المقدسات، إلى سلع، وهوس بالمال، والبذخ، فكانت منحت حياتها برمتها للعمل، وربما، كما قال اكزوبري، ذات مرة، كي تنساه.
ولهذا انغمرت بتصوير المدينة التي سكنتها، من ثم لم تتخل عنها. فبغداد ليست مدينة أشباح، وموتى، ومقابر، وسفك دماء، كما إنها ليست أزقة، وبيوت تحجرت وتحولت إلى أقفاص، ومكعبات، بل مازالت تمتلك الرفيف المشفر وعليها ان تحاوره: تصوّره، حيث لحظة الإبداع، لا تخدعنا بالخلود، أو بالأبدية، بل بما لم يدشن بعد. ففي مرئياتها اجتمعت العلامات كي تحول الوهم إلى مشاهد كائنات تحمل أسرار مدينتها، وأسرارها هي أيضا ً.
وإذا كانت قد قدمت آلاف الصور للرسامين، كي يستثمروها في أساليبهم الواقعية، فانها لم تخف انها وحدت عمل الارض بالفكر: الرحم بالوعي، والقديم بالمستحدث. فلم تعمل بشعور الآسف، أو الجفاء، في بلد لا يجيد إلا محو علاماته، ورموزه الإبداعية، عامة، وإنما عبرت ـ بفنها ـ حيث صورها تدوّن مشروعها الطويل في قنص ولادات النهار ـ وما توارى في الظلمات.
عمليا تبلورت رؤيتها بدمجها لموروثات لغز البذرة، كأقدم علامة حملت مشفرات عمل الأم، الولادة، مع ما سيشكل تحولا ً إلى الجنسانية الذكورية، لم يحدث طوعا ً، أو طاعة، أو رضوخا ً لقيود المهنة، والمجتمع، بل وعيا ً في ما يمتلكه الوعي ـ للمستقبل ـ بما يمثله الفن من ارتقاء ـ ورقي ـ وتشذيب، كي يصبح الجمال هو هذا الذي لا يرتد، ولا ينغلق، بل الذي يمارس إقامته، في المرور، وليس في الاستهلاك.
إنها مصوّرة أعادت للأشكال ما كان توارى فيها من خلجات، وحياة، في الأصل، وكونت منها ـ رسالتها، من غير عون، عدا ما يمتلكه هاجسها الجمالي من العبور من الغياب إلى الحضور، ومن السطح إلى الأبعاد، انه، بإيجاز: كل هذا الكامن في لغز الوجود، وقلب مفهوم الغواية، إلى تحرر منها، والى حرية، وهي وحدها تصبح توغلا ً في مخفياتها، والإمساك بهذا الذي يمتلك سر ديناميته، وديمومته، حيث لم تخسر آمال سالم، إلا ما سيتحول إلى علامات ضوء، وعلامات تقاوم غيابها.
• وكنت كتبت، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، الإشارة التالي:
ـ " تقنيات التصوير الفوتوغرافي وفن الرسم
في سياق تاريخ طويل للفنون، لا يمكن فصل الفعل (الحدث/ الحركة) عن الأثر الذي يدخل في تركيب الذاكرة، ذلك لأنهما سيشكلان أصول فن التصوير الفوتوغرافي، ومبررات تدشيناته البكر. والمصورة آمال سالم، لم تمارس عملها الفني، إلا بعد أن اشتغلت سنوات غير قصيرة في الصحافة، ورصدت ـ عبرها ـ الحياة المعاصرة في العراق. بيد أنها سرعان ما وجدت موهبتها في حقل أكثر صلة بالتشكيل، بمعناه الجمالي والفني معا ً .. فبهرتها العناصر في تداخلاتها، وحركتها، ومجالها المتجدد.
في هذا المسار، كما عند عدد قليل من المصورين العراقيين، دمجت الفنانة عمل العدسة بلغة الرسم وما يتوخاه من رهافة، وجعلت المكان ـ بحركته ـ البصرية علامة متداخلة بوظائف التصوير الفوتوغرافي: إنها ليست لعبة لاختزال الزمن، بل الوقوف بجواره، وإعادة صياغته كي يأخذ امتداده ومغزاه. هكذا ستوثق بغداد، وناسها، والطبيعة، محافظة على دينامية الأشكال، كفن له نظامه الخاص. وهذا الجهد ستتمسك به آمال سالم، كي يغدو مادة للرسامين، ولكنها ستبث خطابها داخل تكوينات تؤكد عنايتها بالإنسان، وتراثه الشعبي، ورموزه، مع الاحتفاظ بما سيشكل أسلوبها في الرؤية. فالأشكال لن تصير أشياء ً، وإنما سترتبط عناصر الرسم، كالضوء، وملمس الخامات، والمساحات، والمنظور، وحساسية الفضاء وشفافيته: إنها أولت نصوصها، عبر سنوات عملها كمصورة في الصحافة أو كفنانة تعمل لحسابها الخاص، ولإشباع رغبتها الجمالية، عناية ارتبطت بعملها اليومي، وبرصدها للمتغيرات والثوابت بتأملات لا تبعث إلا على الدهشة، والأسى العميق أيضا ً. وفي الوقت نفسه، لن تغادر مكونات الأثر، كبنية تتحرك داخلها الأفعال، والأشكال، حيث يغدو فن التصوير الفوتوغرافي مجاورا لفن الرسم، في علاقة جدلية تبلغ ذروتها في: بلورة نص تتكامل فيه الروافد، كعناصر وكحركة، وكخامات وتحويرات، لتندمج، وتتكامل لأجل النص الجمالي، بانتقاله من الرسم إلى العدسة، ومن الأخيرة إلى شفافية الرسم، ورهافته."
*آمال سالم
ـ ولدت في بغداد. وعملت في الصحافة منذ عام 1979 في الاتحاد العام لنساء العراق. وفي العام 1980 انتقلت إلى وكالة الأنباء العراقية. وأسهمت ـ كمصورة صحفية ـ في الوكالة بتوثيق معظم الأحداث التي شهدتها البلاد. كما شاركت في جميع معارض الوكالة داخل العراق وخارجه. ودربت عددا ً من الكوادر في التصوير الصحفي. وشركت في اغلب المعارض التي أقامتها جمعية المصورين العراقيين. وفي العام 1997 انتقلت للعمل في دائرة الفنون كمصورة للأعمال الفنية والمعارض الشخصية، وكان لها دورها في أرشفة الحركة الفنية منذ ذلك الوقت. وقد حصلت على جوائز وشهادات تقديرية. والفنانة تحمل شهادة الدبلوم في التصوير الفوتوغرافي منذ عام1989. تعمل في وزارة الثقافة، ومصورة في مجلة: تشكيل.
مرثية مدينة اور-اهل الجنوب السمومريون
مرثية مدينة اور
اهل الجنوب السمومريون
يشكل أدب مراثي المدن المدمرة جنساً خاصاً في الأدب الرافديني، ولدينا عنه نماذج عديدة منها: لعنة مدينة أكاد، ومرثية سومر وأور، ومرثية نفَّر، ومرثية مدينة أور، التي سوف نقدم فيما يلي منتخبات من سطورها البالغ عددها نحو 430 سطراً.
يعود النص بتاريخه إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، وهو يصف الهجوم الكاسح الذي شنه العيلاميون الإيرانيون وقبائل السوبارتو البدوية على مدينة أور السومرية وتدميرها. ولكن كاتب النص لا يصف هذا الحدث في سياق تاريخي، بل في سياق ديني، ويعزو الحدث بكامله إلى غضب الآلهة على المدينة واتخاذهم قراراً بتدميرها.
لقد كانت السلطة العليا في الكون كما تصوره الرافدينيون تتركز في يد مجمع الآلهة. وكان هذا المجمع ينعقد، كلما دعت الحاجة، في معبد الإله إنليل المدعو إيكور في مدينة نيبور، وذلك برئاسة كبير الآلهة آن. وقبل التداول في المسائل التي عقد الاجتماع للنظر فيها،
كان الآلهة يأكلون ويشربون مما يقدم إليهم من قرابين في المعبد، وبعد ذلك يتعاهدون على الالتزام بالقرارات التي سوف تصدر عن المجمع، ثم تطرح أمامهم المسائل للتداول بشأنها، حيث يعلن كل إله بقوله (هييم)، أي فليكن ذلك، دلالة موافقته على القرار. بعد ذلك يقوم آلهة الأقدار السبعة بالصياغة الأخيرة للقرارات وتُعطى إلى الإله إنليل مهمة تنفيذها. وهو يلعب في نصنا هذا الدور الرئيسي في تدمير مدينة أور وإفناء شعبها. ولكن حتى هذا الإله الأقوى في مجمع الآلهة لم يكن بمنجاة من مساءلة المجمع الذي اعترض في إحدى المرات على سلوكه المشين عندما اغتصب في شبابه الإلهة ننليل، حيث قرر الآلهة بالإجماع نفيه لفترة مؤقتة إلى العالم الأسفل، على ما تقصه لنا أسطورة إنليل وننليل. يبتدئ نص مرثية مدينة أور بوصف الكاتب لكيفية قيام آلهة البلاد بهجر معابدها ومدنها قبل أن تحل الكارثة الوشيكة:
لقد هَجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
الثور البري، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
ملك كل الديار، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
إنليل هجر اصطبله، وحظيرته قد أسلمت للريح.
وزوجته هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننليل هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ملكة كيش هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننماخ هجرت كيش، بيتها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
يتابع كاتب النص على هذا المنوال حتى يستنفد لائحة آلهة سومر الرئيسية، وكيف هجر كل منهم مدينته ومعبده. ثم يأخذ بعد ذلك بتوجيه مرثاته إلى كل المدن والمعابد التي هجرها آلهتها بالترتيب نفسه. وعندما ينتهي من ذلك، نجد الإلهة ننجال، إلهة مدينة أور وزوجة إله القمر نانا (=سن)، تندب مدينتها أور التي حُمّ عليها القضاء.
اليوم الذي كنتُ أخشى،
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب عليَّ وقُدّر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب علي وقُدر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
اليوم الذي كنت أرتعد منه، يوم العاصفة،
يوم العاصفة ذاك قد كُتب علي وقدر،
هبط علي مثقلاً بالدمع.
الليلة التي كنت أرتعد منها،
ليلة البكاء المر قد قُدّرت عليّ،
لم أستطع الهرب أمام ليلة القضاء تلك.
جفا الرقاد وسادتي والأحلام،
لأن الأسى المر قد قُدِّر على أرضي وشعبي.
سعيت إلى شعبي كما البقرة على عجلها،
فلم أستطع نشله من الطين،
لأن الحزن والأسى قد قُدرا على مدينتي.
حتى لو نشرت جناحي وطرت إليها مثل طائر،
فإن أور ستُدمَّر فوق أساساتها،
أور ستفنى في مكانها.
وحتى لو أنني صرخت ونُحتُ:
" يا يوم العاصفة ذاك عُد إلى صحرائك"
فإن وطأة العاصفة لم تكن لتُرفع عني.
بعد ذلك نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن مدينتها. وتستجدي مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار بشأنها:
ثم توجهتُ بتصميم نحو مجمع الآلهة قبل انفضاضه،
بينما كان آلهة الآنوناكي جلوساً يتعاهدون.
جرجرت ساقيَّ، فتحت ذراعيَّ،
بحرقة ذرفت الدموع أمام آن،
وبصدق نُحتُ أمام إنليل.
قلت لهما: عسى أور لا تُدمر،
عسى مدينتي أور لا تُدمر قلت لهما،
وعسى شعبها لا يُسلم إلى الذبح، قلت لهما.
ولكن آن لم يثلج صدري بكلمة،
بل أصدر الأوامر بهلاك أور،
وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.
بعد ذلك يبدأ الإله إنليل هجومه الكاسح على المدينة مستخدماً العاصفة سلاحه المرعب الفتاك:
دعا إنليل العاصفة، والناس ينوحون.
أخذ الرياح الطيبة من سومر، والناس ينوحون.
وأرسل بدلاً منها الرياح الشيطانية، والناس ينوحون.
وأوكل بها كينجالولا حارس العواصف.
دعا الرياح التي تُهلك الديار، والناس ينوحون.
واختار إنليل جيبيل إله النار مساعداً له.
دعا الأعاصير السماوية، والناس ينوحون.
دعا الأعاصير الزاعقة عبر السماوات، والناس ينوحون.
العواصف التي تهلك الديار تزأر فوق الأرض، والناس ينوحون.
وفي جبهة الرياح أوقد النيران المتوهجة، والناس ينوحون.
والعواصف التي أمر بها إنليل في حقد،
غطت أور مثل عباءة واكتنفتها مثل ملاءة كتان.
أيها الأب نانا، لقد آلت المدينة إلى خراب، والناس ينوحون.
وجثث أهلها، مثل كسرات الفخار، ملأت جنباتها.
الجدران المتينة قد تهاوت، والناس ينوحون.
وعند البوابات العالية وفي الطرقات، تكدست الجثث،
وفي جاداتها العريضة التي شهدت الاحتفالات، اختلط الموتى،
وذابت الأجساد من تلقاء نفسها مثل زبدة تحت الشمس.
رجالها الذين لقوا حتفهم بالفأس مطروحون بلا غطاء رأس،
ورجالها الذين صُرعوا بالحراب مطروحون بلا أكفان،
في المكان الذي ولدتهم فيه أمهاتهم مضرجون بدمائهم.
في أور هلك القوي والضعيف من الجوع.
الآباء والأمهات الذين لزموا بيوتهم التهمتهم الحرائق،
والصغار الذين لزموا أحضان أمهاتهم جرفهم الطوفان مثل السمك.
تركت الأمهات بناتهن، والناس ينوحون.
ترك الآباء أبناءهم، والناس ينوحون.
وآلهة المدينة، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ننجال، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ثروات أور التي تراكمت في الديار وُضعت عليها أيدي مدنسة،
وفي عنابرها المليئة بالخيرات أُضرمت النار.
العيلاميون والسوبارتيون المخربون عاملوها باحتقار،
بالمعاول هدموا أور، البيت البار، والناس ينوحون.
أحالوا المدينة إلى ركام، والناس ينوحون.
إلهتها صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
ننجال صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
أنا السيدة، مدينتي آلت إلى خراب، وبيتي آل إلى خراب.
أيها الإله نانا، أور آلت إلى خراب وشعبها قد تشتت.
لقد لعن آنو حقاً مدينتي، ومدينتي حقاً آلت إلى خراب.
لقد أعلن إنليل حقاً عداوته لبيتي، وبيتي حقاً أُعمل فيه المعول.
في حقول مدينتي لم يعد ينبت القمح، وفلاحوها هجروها،
والكروم وبساتين النخيل التي كانت تفيض بالخمر والعسل،
صارت تغل الأشواك الجبلية.
أيها الإله نانا، أور لم تعد موجودة، ولم أعد سيدتها.
الويل لي، المدينة آلت إلى خراب، البيت آل إلى خراب.
أي نانا، أور المقام المقدس، آلت إلى خراب، وشعبها هلك.
الويل لي، أين أجلس، الويل لي أين أقف.
أنا ننجال، مثل راع مهمل راحت خرافه نهباً للسلاح.
الويل لي، أنا التي نُفيتْ من المدينة ولا تجد مكان راحة لها.
أنا ننجال التي نُفيتْ من بيتها ولا تجد لها سكناً.
بعد أن تتابع ننجال على هذا المنوال وتنتهي من تفجعها، يبدأ كاتب النص بتوجيه خطاب مطول إليها:
أيتها الملكة اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أي ننجال اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أيتها السيدة البارة التي هُدمت مدينتها، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد صارت مدينتك مدينة غريبة، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد تحول بيتك إلى بيت للدموع، اجعلي قلبك مثل الماء.
مدينتك التي آلت إلى خراب، لم تعودي سيدتها.
بيتك الذي اُسلم إلى المعول، لم تعودي تسكنين فيه.
شعبك الذي سيق إلى الذبح قد أدار ظهره لمليكته.
أور المقام المقدس راحت نهباً للرياح، كيف تقدرين على البقاء؟
أغانيك تحولت إلى نواح، وأنغامك صارت إلى نشيج.
في طرقك التي كانت ممهدة للعربات، زحفت أشواك الجبال.
أي مليكتي، حقاً لقد هجرتِ مدينتك، حقاً لقد هجرت بيتك.
فإلى متى تقفين جانباً كأنك عدو؟
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة في مدينتك فقد هجرتها،
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة من شعبها فقد هجرت شعبك.
عسى آنو ملك الآلهة ينطق قائلاً: هذا يكفي.
وعسى إنليل ملك كل الديار يرسم لك قدراً طيباً.
عساه يعيد مدينتك إلى مكانتها لتمارسي عليها السيادة.
أيها الأب نانا لا تدع العاصفة تستقر قرب المدينة.
عسى أن تُحطَّم شكيمة العاصفة تماماً.
ويُغلق في وجهها الباب كما تُغلق بوابة الليل العظيم.
أيها الأب نانا، إن المستضعفين الذين مشوا في طريقك،
يذرفون الدموع أمامك، دموع البيت المقوض، ويستصرخونك.
والمطروحون ذوو الرؤوس السود يسجدون أمامك.
أيها الأب نانا، إن المدينة التي ستعود سيرتها الأولى،
سوف تخطو بفخر وعزة أمامك.
إن المدينة التي ستعود إلى مكانتها، سوف تبجلك.
على هذه الطريقة ينتهي نص مرثية مدينة أور، وقد بدأت أور تنهض من كبوتها وتضمد جراحها لتعود إلى سابق عهدها كواحدة من أهم مدن وادي الرافدين الجنوبي.
على الرغم من أن هذا النص يقوم على حادثة تاريخية وقعت في زمن معين ومكان معين، إلا أن الكاتب قد ارتفع بالحدث من مستوى التاريخ إلى مستوى الأسطورة. فهو والحالة هذه ينتمي إلى زمرة من الأساطير أدعوها بالأساطير التاريخية. أما عن رسالة النص فواضحة كل الوضوح، وهي تقول لنا إن عالمنا قائم على الصيرورة والتبدل الدائم، والإنسان لا يكاد يطمئن إلى ثبات وديمومة رغده حتى يحم عليه قضاء الآلهة بغتة وهو غارق في لهوه ومتع حياته اليومية التي أَمِنَ إلى استمرارها؛ والدول والممالك لا تقوم وتزدهر فتصل أوج عزها حتى تأتي ساعة انحدارها. إن أور لم ترتكب ذنباً واضحاً ومع ذلك قررت مشيئة الآلهة الخافية على الأفهام تدميرها وإفناء شعبها، وليس على الإنسان أن يتساءل عن مشروعية القضاء والقدر. مثل هذه الرسالة يقدمها لنا مقطع من نص آخر معروف بعنوان «مرثية سومر و أور»، وهو يدور حول الموضوع نفسه. فبعد أن رأى إله القمر نانا هول الكارثة التي حلت بمدينته، يمثل أمام إنليل ملتمساً الرحمة لها:
أي أبي الذي أنجبني،
أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها؟
أي إنليل أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها.
أي أبي الذي أنجبني،
افتح ذراعيك، خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
أي إنليل، افتح ذراعيك خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
دع اسمك يعلو في أور مجدداً، وأهلها يتكاثرون من أجلك.
فيجيبه إنليل بعد أن استمع إليه مطولاً، بأن قرار الآلهة لا رجعة عنه، وأن البشر لم يُعطوا ميثاقاً باستمرار الأحوال وراحة البال. لم تقترف أور إثماً أو ذنباً ولكن قد حُمَّ عليها القضاء:
أجاب إنليل ابنه نانا- سُوين:
قلب المدينة يبكي، وناي القصب فيها ينوح.
شعبها يقضي يومه في النواح والنحيب.
أي نانا، أيها النبيل، عد لشأنك،
فإنك لن تقايض بالدمع شيئاً.
حُكْمنا لا مبدل لكلماته، حكم مجمع الآلهة.
لقد مُنحت أور سلطاناً ولكنها لم تُمنح دواماً.
منذ القدم، منذ أن أرسيت البلاد إلى يومها هذا،
من رأى منكم مُلكاً باقياً؟
كذا فسلطان أور قد اجتُث وولى.
أما أنت يا نانا، فدع الهم عنك واهجر البلد.
ما ألذي جرى للطيار الألماني فوق بغداد في 15 مايس 1941؟-د.إحسان فتحي
د.إحسان فتحي
وكيف غيرت هذه الحادثة تاريخ العراق والمنطقة برمتها؟ كان يوم الخميس
15-5-1941 يوما صيفيا حارا وبسماء زرقاء جميلة وصافية. نسيم خفيف يهز نخيل
البساتين البغدادية بإيقاع متمايل. أهالي بغداد نزلوا توا من نومتهم القلقة في
سطوح بيوتهم ذلك لان الوضع السياسي كان متوترا جدا وحكومة ماسمي بـ (الدفاع
الوطني) كانت تتلقى الضربات العسكرية من القوات البريطانية في قاعدة الحبانية
وتتوجه نحو بغداد. رشيد عالي الكيلاني كان قد أعلن انقلابه على حكومة طه الهاشمي
يوم 1 نيسان 1941 وسبب ذلك في هروب الوصي عبد الإله بن علي في سيارة السفير
الأمريكي (بول نابنشو) الى الحبانية ،
ونقل بعد ذلك إلى بارجة حربية بريطانية راسية في شط العرب اسمها (كوكشيفر).
الطائرات البريطانية بدأت بقصف بغداد منذ 4 مايس.
السفير الألماني والحقوقي اللامع (فريتز غروبا) كان قد نسق مع الانقلابيين
منذ فترة طويلة للحد من نفوذ البريطانيين في العراق والاعتماد بدلا من ذلك على
المانيا النازية التي كانت تحقق الانتصارات تلو الاخرى وعلى كافة الجبهات وخاصة في
شمال أفريقيا. وبهدف تحقيق ضربة فاعلة للقوات البريطانية في المنطقة اختارت
القيادة الألمانية الطيار البارز الميجور (اكسل فون بلومبرغ) وهو ابن الفيلد
مارشال المشهور ( فيرنر فون بلومبرغ) للقيام بجولة استطلاعية بالعراق للتمهيد
بتأسيس فرقة عسكرية عراقية وعربية من المتطوعين وبقيادة المانية. اطلق الاسم
الحركي ( سبيشل ستاف اف) على الطيار اكسل وكان تحت امرة الجنرال (هلموت
فيلمي). كانت الخطة السرية هذه تتضمن قيام
مجموعة من الطيارين الالمان سميت ب (فلايجر
فوهرر اراك) تتبعه فور نجاح مباحثاته يوم السبت 17 مايس في مقر القيادة
العراقية. كان كل شيء يبدو مرتبا ومحكما. رشيد عالي ووزير دفاعه ناجي شوكت كانا
متلهفان لمقابلة هذا الطيار الألماني الوسيم.
اقترب الطيار اكسل من بغداد وشاهد من بعيد قبتي الروضة الكاظمية الذهبيتين
تسطعان ببريق يسحر العيون، ورأى نهر دجلة
العظيم وهو يتلوى كعاشق يحتضن حبيبته بقوة ويهيم بها في ملحمة وجودية أزلية. قرر الهبوط في مطار بغداد المدني في الوشاش،
على ما يبدو، وليس في مطار معسكر الرشيد البعيد الذي كان الانجليز يطلقون عليه اسم
(الهنيدي). كان صوت أي طائرة في سماء بغداد يعني انها انجليزية وستقصف
المدينة. وكان لدى الجيش العراقي آنذاك
عددا لا بأس به من المدافع الرشاشة المضادة للطائرات. ظهر له مدرج المطار بكل وضوح
وبدء يهبط بطائرته تدريجيا وبكل عناية. وفجأة انهال عليه الرصاص من كل صوب
واتجاه! حاول ان يصعد بطائرته مرة أخرى
ولكن الأوان كان قد فات! أصيب برأسه بطلقة نارية. بدأ نظره يتلاشى ولكنه
استطاع الهبوط بطائرته، والدخان الأسود ينفث منها، واستمرت الطائرة بالتحرك بسرعة حتى انزلقت في
منطقة ترابية في اخر المطار. هناك روايات
مختلفة تحاول تفسير ما حصل، احدهما تقول بان الطيار اصيبب (نار صديقة) من
العراقيين لاعتقادهم بأنه طيار انجليزي جاء ليقصفهم. ورواية أخرى تقول بأنه أصيب
من قبل طيارة انجليزية لأنه تبين بأنه أصيب برصاصة بأعلى رأسه مما يدل على إصابته
مباشرة من طائرة تطير فوقه. هرع الناس من
المناطق المجاورة لرؤية الطيارة المعطوبة ولكنهم شاهدوا الطيار قد فارق الحياة
مصابا بطلقة نارية في أعلى رأسه. أتت مفرزة من الجنود العراقيين وتم نقل جثة
الطيار السيئ الحظ إلى السفارة الألمانية ودفن لاحقا في المقبرة المسيحية في باب
الشرقي. في موقع الحادث كان احد الأشخاص
الذي كان يعملون في سوق السراجين قد انتبه إلى مقعد الطيار الجلدي الفاخر ذو اللون
البيجي واقتلعه بسرعة وذهب به فورا إلى احد الأسطوات المشهورين في السوق وباعه
إليه. فكر هذا الاسطة المتمرس في أحسن طريقة يمكن بها استغلال هذا الجلد الفاخر
الذي لم يسبق ان رأى مثله بكل حياته! قرر ان يصنع (جرابين) رائعين قد يغري بهما
بعض الشخصيات البغدادية الهامة لمسدساتهما المفضلة! وفعلا تم ذلك. الجراب الأول هو الآن عند ورثة
نجيب الربيعي، رئيس مجلس السيادة سابقا (1904-1965) والآخر هو الآن عند المحامي
نصير الجادرجي! ان هذا (الجراب) الجلدي الفاخر الذي تجدون صورته ملحقة مع هذا
المقال هو كل ما يتبقى من خطة ألمانية رهيبة كان من الممكن ان تغير خارطة الشرق
الأوسط تماما، لكن الأقدار تأتي بأمور غير متوقعة، والتاريخ يزخر بالأحداث
والمفاجآت المذهلة. أما الداهية فريتز جروبا فقد استطاع الإفلات من البريطانيين
الذين حاولوا المستحيل للقبض عليه! هرب
إلى الموصل ثم الى تركيا وبعدها وصل ألمانيا وواصل عمله الدبلوماسي.
ما ألذي جرى للطيار الألماني فوق
بغداد في 15 مايس 1941؟--
الخميس، 12 مارس 2015
الاثنين، 9 مارس 2015
الأحد، 8 مارس 2015
بسيم حكيم والعمارة العربية الإسلامية- د. إحسان فتحي
بسيم حكيم والعمارة
العربية الإسلامية
د.
إحسان فتحي
الأعزاء
المعماريون والمخططون العراقيون والأصدقاء
تحياتي
الطيبة وبعد
وددت هذه المرة ان اكتب بعض
السطور عن مفهوم المدينة "العربية الإسلامية" والذي ظهر كمصطلح "
العمارة الإسلامية" في بداية القرن العشرين من قبل بعض المؤرخين
الغربيين. ولا تزال العديد من المصطلحات
المتداولة التي تبنيناها نحن العرب المسلمون بسرعة، بالرغم من حاجتها إلى الكثير
من الفحص والتمحيص، تسبب ولا تزال تسبب كثيرا من الإشكاليات الفكرية. ان احدث كتاب
كبير صدر في عام 2008 عنوانه ( المدينة في العالم الإسلامي) وليس (المدينة الإسلامية).
ومن الواضح جدا انه يوجد الان صراع شديد بين عدة اتجاهات في هذا الشأن أهمها:
الاتجاه الاستشراقي الطوبوغرافي والذي يركز على مورفولوجية المدينة، والاتجاه
الفقهي الاسلامي الذي اكد على اهمية التشريعات الدينية ومبدء (لاضرر ولا ضرار) على
تشكيل المدينة، والاتجاه الذي ياخذ بتاثير كل هذه العوامل معا وبعدم وجود
"نموذج" موحد يجمع كل المدن في العالم الاسلامي من اندونيسيا الى
الاندلس.
ان اهم من كتب ونظر في المدينة الإسلامية من المفكرين الغربيين هم:
جرونباوم، جروبه، ماسينيون، الاخوين الفرنسيين مارسيه، كاهين، هيلينبراند، ايرا
لابيدس، سوفاجيه، جانيت ابو اللغد، ايكلمان، ريموند، كندي، كارل براون، شتيرن،
بيانكا، بركهارت، يوجين رث، اتيليو بيتروجيولي، باولو كونيو، بالباس، سارجنت،
لازنر، ريناتا هولود، وكذلك الفيلسوف الالماني المعروف ماكس ويبر، واخرون.
اما المعماريون والمخططون والجغرافيون الحضريون العرب فلم ينتبهوا لهذا
المفهوم الا منذ فترة الستينيات من القرن الماضي وبرز منهم : حسن فتحي، سابا شبر،
عبد الباقي ابراهيم، كاظم الجنابي، محمد عبد الستار عثمان، عبد الجبار ناجي، خالص
الاشعب، نزار السيد، البرت حوراني، هشام جعيط،
ناصر رباط، ياسر طباع، مشاري النعيم، جميل اكبر، صالح الهذلول، وليد السيد
احمد، مصطفى بن حموش، خالد عزب، وبسيم حكيم ، واخرون.
وهنا اود ان اثمن جهود المعماري والباحث الحضري العراقي اللامع بسيم حكيم
الذي يعتبر الان احد ابرز المنظرين في هذا المجال. ولد في بغداد بحدود 1937 ودرس
العمارة في جامعة ليفربول متخرجا منها عام 1962، ثم درس التخطيط الحضري في جامعة
هارفرد حاصلا على الماجستير منها عام 1971. له كتب عديدة مهمة اصبحت تدرس كمراجع
اساسية في اهم جامعات العالم.
اتمنى للصديق والزميل العزيز بسيم حكيم وافر الصحة ومزيدا من العطاء الفكري
المتميز.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)