السبت، 14 مارس 2015

عادل كامل تجارب ملونة










مبدعون في الذاكرة-د. إحسان فتحي



مبدعون في الذاكرة


الزملاء المعماريون والمهندسون العراقيون الأعزاء في كل مكان

تحياتي الطيبة

د. إحسان فتحي

هذه بعض السطور عن الصديق العزيز وزميل المسيرة في قسم العمارة في جامعة بغداد، هيثم خورشيد، وهو الطير المهاجر الذي يرنو دوما بحنين عميق إلى الديار العتيقة في الوطن، وها هو قد التجأ إلى الرسم كوسيلة تشغله عن هموم العراق وما يجري فيه من مآسي ودمار. هذه تحية له ولعلنا نرى نماذجا من رسوماته، وتمنياتنا له بالصحة والعافية والمزيد من العطاء.

آمال سالم-الصورة أو مقاومة الغياب










 آمال سالم
الصورة أو مقاومة الغياب


 


    اذا كانت المصوّرة الفوتوغرافية آمال سالم قد احترفت، كزملاء لها، مهنة الصحافة، فإنها لم تختر إلا عينها. فالصحافة لديها كاختيار شبيه بمن ينتظر من لا وجود له، لأنها، ببساطة، حاولت الإمساك بهذا الذي لم يترك إلا ماضيه: محوه: الغياب. فهي أدركت أنها لم تنشغل بمراقبة عمل (سيزيف)، وإنها لن تؤدي دوره حسب، بل عليها ان تخترعه! فهي اختارت العمل ذاته الشبيه بمن اختار هبات الضوء: مقاومة الظلام. لكن عملها في الصحافة لم يقيدها بنقل الخبر (الصورة). لا لأنها أدركت ان مهمة (الجسور) هي الإقامة، رمزيا ً في الأقل، وليس وسيلة للعبور، والنقل، بل لأن العمل ذاته، هو اللغز، وهو ان يحافظ على ديناميته.
    على ان (اللغز) لا يكمن في المكان، ولا في مرور الزمن، بالمعنى المألوف، بل في العثور على علاماته وهي تنحدر إلى الغروب. كان عملها الفني لوعة أم اكتشفت أنها في الجحيم. فالخسائر وحدها ستعوضها بما تحول لدي البعض إلى مظاهر، بمعنى: أقنعة. لهذا ليس لديها إلا ان تصوّر عالمها الذي لا تعرف أكان قدرا ً أم  عليها ألا تستسلم له.
    فانشغالها بالتركيب، والجمع، والتوليف، والصهر ...الخ، كلها اهتمامات فلسفية لا علاقة لها بالأقنعة، سمح لها ان تدمج المسار الشاق ، والجذاب ـ للفنون بفن العصر: التصوير .
    فما هو قيد الزوال، لم يعد سطحا ً، أو بعدا ً أحاديا ً، أو ملمسا ً، أو لونا ً، بل، كما في لا وعيها السحيق، يشتغل في الأقاصي، حيث الأبعاد لا وجود لها من غير من يعيد إليها ـ بروح الضوء والمراقب ـ عناصرها، وهنا رسخت آمال سالم أقدم قانون للحرية: فك القيود/ أو الاشتباك معها، والحفر في الظلمات.

 

     فلم تجد للحرية أدق تعريف يماثل إنها ليست للدعاية. ذلك لأن الفن لم يمت، حتى وان تحول، كما تحولت بعض المقدسات، إلى سلع، وهوس بالمال، والبذخ، فكانت منحت حياتها برمتها للعمل، وربما، كما قال اكزوبري، ذات مرة، كي تنساه.
   ولهذا انغمرت بتصوير المدينة التي سكنتها، من ثم لم تتخل عنها. فبغداد ليست مدينة أشباح، وموتى، ومقابر، وسفك دماء، كما إنها ليست أزقة، وبيوت تحجرت وتحولت إلى أقفاص، ومكعبات، بل مازالت تمتلك الرفيف المشفر وعليها ان تحاوره: تصوّره، حيث لحظة الإبداع، لا تخدعنا بالخلود، أو بالأبدية، بل بما لم يدشن بعد. ففي مرئياتها اجتمعت العلامات كي تحول الوهم إلى مشاهد كائنات تحمل أسرار مدينتها، وأسرارها هي أيضا ً.
   وإذا كانت قد قدمت آلاف الصور للرسامين، كي يستثمروها في أساليبهم الواقعية، فانها لم تخف انها وحدت عمل الارض بالفكر: الرحم بالوعي، والقديم بالمستحدث. فلم تعمل بشعور الآسف، أو الجفاء، في بلد لا يجيد إلا محو علاماته، ورموزه الإبداعية، عامة، وإنما عبرت ـ بفنها ـ حيث صورها تدوّن مشروعها الطويل في قنص ولادات النهار ـ وما توارى في الظلمات.
   عمليا تبلورت رؤيتها بدمجها لموروثات لغز البذرة، كأقدم علامة حملت مشفرات عمل الأم، الولادة، مع ما سيشكل تحولا ً إلى الجنسانية الذكورية، لم يحدث طوعا ً، أو طاعة، أو رضوخا ً لقيود المهنة، والمجتمع، بل وعيا ً في ما يمتلكه الوعي ـ للمستقبل ـ بما يمثله الفن من ارتقاء ـ ورقي ـ وتشذيب، كي يصبح الجمال هو هذا الذي لا يرتد، ولا ينغلق، بل الذي يمارس إقامته، في المرور، وليس في الاستهلاك.



 


   إنها مصوّرة أعادت للأشكال ما كان توارى فيها من خلجات، وحياة، في الأصل، وكونت منها ـ رسالتها، من غير عون، عدا ما يمتلكه هاجسها الجمالي من العبور من الغياب إلى الحضور، ومن السطح إلى الأبعاد، انه، بإيجاز: كل هذا الكامن في لغز الوجود، وقلب مفهوم الغواية، إلى تحرر منها، والى حرية، وهي وحدها تصبح توغلا ً في مخفياتها، والإمساك بهذا الذي يمتلك سر ديناميته، وديمومته، حيث لم تخسر آمال سالم، إلا ما سيتحول إلى علامات ضوء، وعلامات تقاوم غيابها.
 
وكنت كتبت، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، الإشارة التالي:
ـ " تقنيات   التصوير الفوتوغرافي  وفن الرسم


  




   في سياق تاريخ طويل للفنون، لا يمكن فصل الفعل (الحدث/ الحركة) عن الأثر الذي يدخل في تركيب الذاكرة،  ذلك لأنهما سيشكلان  أصول فن التصوير الفوتوغرافي، ومبررات تدشيناته البكر. والمصورة آمال سالم، لم تمارس عملها الفني، إلا بعد أن اشتغلت سنوات غير قصيرة في الصحافة، ورصدت ـ عبرها ـ الحياة المعاصرة في العراق.  بيد أنها سرعان ما وجدت موهبتها في حقل أكثر صلة بالتشكيل، بمعناه الجمالي والفني معا ً .. فبهرتها العناصر في تداخلاتها، وحركتها، ومجالها المتجدد.
    في هذا المسار، كما عند عدد قليل من المصورين العراقيين، دمجت الفنانة عمل العدسة بلغة الرسم  وما يتوخاه من رهافة، وجعلت المكان ـ بحركته ـ البصرية علامة متداخلة بوظائف التصوير الفوتوغرافي: إنها ليست لعبة لاختزال الزمن، بل الوقوف بجواره، وإعادة صياغته كي يأخذ امتداده ومغزاه. هكذا ستوثق بغداد، وناسها، والطبيعة، محافظة على دينامية الأشكال، كفن له نظامه الخاص. وهذا الجهد ستتمسك به آمال سالم، كي يغدو مادة للرسامين، ولكنها ستبث خطابها داخل تكوينات تؤكد عنايتها بالإنسان، وتراثه الشعبي، ورموزه، مع الاحتفاظ بما سيشكل أسلوبها في الرؤية. فالأشكال لن تصير أشياء ً، وإنما سترتبط عناصر الرسم، كالضوء، وملمس الخامات، والمساحات، والمنظور، وحساسية الفضاء وشفافيته: إنها أولت نصوصها، عبر سنوات عملها كمصورة في الصحافة أو كفنانة تعمل لحسابها الخاص، ولإشباع رغبتها الجمالية، عناية ارتبطت بعملها اليومي، وبرصدها للمتغيرات والثوابت بتأملات لا تبعث إلا على الدهشة، والأسى العميق أيضا ً.  وفي الوقت نفسه، لن تغادر مكونات الأثر، كبنية تتحرك داخلها الأفعال، والأشكال، حيث يغدو فن التصوير الفوتوغرافي مجاورا لفن الرسم، في علاقة جدلية تبلغ ذروتها في: بلورة نص تتكامل فيه الروافد، كعناصر وكحركة، وكخامات وتحويرات، لتندمج، وتتكامل لأجل النص الجمالي، بانتقاله من الرسم إلى العدسة، ومن الأخيرة إلى شفافية الرسم، ورهافته."




*آمال سالم
ـ  ولدت في بغداد. وعملت في الصحافة منذ عام 1979 في الاتحاد العام لنساء العراق. وفي العام 1980 انتقلت إلى وكالة الأنباء العراقية.  وأسهمت ـ كمصورة  صحفية ـ  في الوكالة بتوثيق معظم الأحداث التي شهدتها البلاد. كما شاركت في جميع معارض الوكالة داخل العراق وخارجه. ودربت عددا ً من الكوادر في التصوير الصحفي.  وشركت في اغلب المعارض التي أقامتها جمعية المصورين العراقيين. وفي العام 1997 انتقلت للعمل في دائرة الفنون كمصورة للأعمال الفنية والمعارض الشخصية، وكان لها دورها في أرشفة الحركة الفنية منذ ذلك الوقت. وقد حصلت على جوائز وشهادات تقديرية. والفنانة تحمل شهادة الدبلوم في التصوير الفوتوغرافي منذ عام1989. تعمل في وزارة الثقافة، ومصورة في مجلة: تشكيل.

مرثية مدينة اور-اهل الجنوب السمومريون



مرثية مدينة اور
اهل الجنوب السمومريون


      يشكل أدب مراثي المدن المدمرة جنساً خاصاً في الأدب الرافديني، ولدينا عنه نماذج عديدة منها: لعنة مدينة أكاد، ومرثية سومر وأور، ومرثية نفَّر، ومرثية مدينة أور، التي سوف نقدم فيما يلي منتخبات من سطورها البالغ عددها نحو 430 سطراً.
يعود النص بتاريخه إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، وهو يصف الهجوم الكاسح الذي شنه العيلاميون الإيرانيون وقبائل السوبارتو البدوية على مدينة أور السومرية وتدميرها. ولكن كاتب النص لا يصف هذا الحدث في سياق تاريخي، بل في سياق ديني، ويعزو الحدث بكامله إلى غضب الآلهة على المدينة واتخاذهم قراراً بتدميرها.
لقد كانت السلطة العليا في الكون كما تصوره الرافدينيون تتركز في يد مجمع الآلهة. وكان هذا المجمع ينعقد، كلما دعت الحاجة، في معبد الإله إنليل المدعو إيكور في مدينة نيبور، وذلك برئاسة كبير الآلهة آن. وقبل التداول في المسائل التي عقد الاجتماع للنظر فيها،
كان الآلهة يأكلون ويشربون مما يقدم إليهم من قرابين في المعبد، وبعد ذلك يتعاهدون على الالتزام بالقرارات التي سوف تصدر عن المجمع، ثم تطرح أمامهم المسائل للتداول بشأنها، حيث يعلن كل إله بقوله (هييم)، أي فليكن ذلك، دلالة موافقته على القرار. بعد ذلك يقوم آلهة الأقدار السبعة بالصياغة الأخيرة للقرارات وتُعطى إلى الإله إنليل مهمة تنفيذها. وهو يلعب في نصنا هذا الدور الرئيسي في تدمير مدينة أور وإفناء شعبها. ولكن حتى هذا الإله الأقوى في مجمع الآلهة لم يكن بمنجاة من مساءلة المجمع الذي اعترض في إحدى المرات على سلوكه المشين عندما اغتصب في شبابه الإلهة ننليل، حيث قرر الآلهة بالإجماع نفيه لفترة مؤقتة إلى العالم الأسفل، على ما تقصه لنا أسطورة إنليل وننليل. يبتدئ نص مرثية مدينة أور بوصف الكاتب لكيفية قيام آلهة البلاد بهجر معابدها ومدنها قبل أن تحل الكارثة الوشيكة:
لقد هَجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
الثور البري، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
ملك كل الديار، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
إنليل هجر اصطبله، وحظيرته قد أسلمت للريح.
وزوجته هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننليل هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ملكة كيش هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننماخ هجرت كيش، بيتها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
يتابع كاتب النص على هذا المنوال حتى يستنفد لائحة آلهة سومر الرئيسية، وكيف هجر كل منهم مدينته ومعبده. ثم يأخذ بعد ذلك بتوجيه مرثاته إلى كل المدن والمعابد التي هجرها آلهتها بالترتيب نفسه. وعندما ينتهي من ذلك، نجد الإلهة ننجال، إلهة مدينة أور وزوجة إله القمر نانا (=سن)، تندب مدينتها أور التي حُمّ عليها القضاء.
اليوم الذي كنتُ أخشى،
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب عليَّ وقُدّر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب علي وقُدر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
اليوم الذي كنت أرتعد منه، يوم العاصفة،
يوم العاصفة ذاك قد كُتب علي وقدر،
هبط علي مثقلاً بالدمع.
الليلة التي كنت أرتعد منها،
ليلة البكاء المر قد قُدّرت عليّ،
لم أستطع الهرب أمام ليلة القضاء تلك.
جفا الرقاد وسادتي والأحلام،
لأن الأسى المر قد قُدِّر على أرضي وشعبي.
سعيت إلى شعبي كما البقرة على عجلها،
فلم أستطع نشله من الطين،
لأن الحزن والأسى قد قُدرا على مدينتي.
حتى لو نشرت جناحي وطرت إليها مثل طائر،
فإن أور ستُدمَّر فوق أساساتها،
أور ستفنى في مكانها.
وحتى لو أنني صرخت ونُحتُ:
" يا يوم العاصفة ذاك عُد إلى صحرائك"
فإن وطأة العاصفة لم تكن لتُرفع عني.
بعد ذلك نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن مدينتها. وتستجدي مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار بشأنها:
ثم توجهتُ بتصميم نحو مجمع الآلهة قبل انفضاضه،
بينما كان آلهة الآنوناكي جلوساً يتعاهدون.
جرجرت ساقيَّ، فتحت ذراعيَّ،
بحرقة ذرفت الدموع أمام آن،
وبصدق نُحتُ أمام إنليل.
قلت لهما: عسى أور لا تُدمر،
عسى مدينتي أور لا تُدمر قلت لهما،
وعسى شعبها لا يُسلم إلى الذبح، قلت لهما.
ولكن آن لم يثلج صدري بكلمة،
بل أصدر الأوامر بهلاك أور،
وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.
بعد ذلك يبدأ الإله إنليل هجومه الكاسح على المدينة مستخدماً العاصفة سلاحه المرعب الفتاك:
دعا إنليل العاصفة، والناس ينوحون.
أخذ الرياح الطيبة من سومر، والناس ينوحون.
وأرسل بدلاً منها الرياح الشيطانية، والناس ينوحون.
وأوكل بها كينجالولا حارس العواصف.
دعا الرياح التي تُهلك الديار، والناس ينوحون.
واختار إنليل جيبيل إله النار مساعداً له.
دعا الأعاصير السماوية، والناس ينوحون.
دعا الأعاصير الزاعقة عبر السماوات، والناس ينوحون.
العواصف التي تهلك الديار تزأر فوق الأرض، والناس ينوحون.
وفي جبهة الرياح أوقد النيران المتوهجة، والناس ينوحون.
والعواصف التي أمر بها إنليل في حقد،
غطت أور مثل عباءة واكتنفتها مثل ملاءة كتان.
أيها الأب نانا، لقد آلت المدينة إلى خراب، والناس ينوحون.
وجثث أهلها، مثل كسرات الفخار، ملأت جنباتها.
الجدران المتينة قد تهاوت، والناس ينوحون.
وعند البوابات العالية وفي الطرقات، تكدست الجثث،
وفي جاداتها العريضة التي شهدت الاحتفالات، اختلط الموتى،
وذابت الأجساد من تلقاء نفسها مثل زبدة تحت الشمس.
رجالها الذين لقوا حتفهم بالفأس مطروحون بلا غطاء رأس،
ورجالها الذين صُرعوا بالحراب مطروحون بلا أكفان،
في المكان الذي ولدتهم فيه أمهاتهم مضرجون بدمائهم.
في أور هلك القوي والضعيف من الجوع.
الآباء والأمهات الذين لزموا بيوتهم التهمتهم الحرائق،
والصغار الذين لزموا أحضان أمهاتهم جرفهم الطوفان مثل السمك.
تركت الأمهات بناتهن، والناس ينوحون.
ترك الآباء أبناءهم، والناس ينوحون.
وآلهة المدينة، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ننجال، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ثروات أور التي تراكمت في الديار وُضعت عليها أيدي مدنسة،
وفي عنابرها المليئة بالخيرات أُضرمت النار.
العيلاميون والسوبارتيون المخربون عاملوها باحتقار،
بالمعاول هدموا أور، البيت البار، والناس ينوحون.
أحالوا المدينة إلى ركام، والناس ينوحون.
إلهتها صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
ننجال صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
أنا السيدة، مدينتي آلت إلى خراب، وبيتي آل إلى خراب.
أيها الإله نانا، أور آلت إلى خراب وشعبها قد تشتت.
لقد لعن آنو حقاً مدينتي، ومدينتي حقاً آلت إلى خراب.
لقد أعلن إنليل حقاً عداوته لبيتي، وبيتي حقاً أُعمل فيه المعول.
في حقول مدينتي لم يعد ينبت القمح، وفلاحوها هجروها،
والكروم وبساتين النخيل التي كانت تفيض بالخمر والعسل،
صارت تغل الأشواك الجبلية.
أيها الإله نانا، أور لم تعد موجودة، ولم أعد سيدتها.
الويل لي، المدينة آلت إلى خراب، البيت آل إلى خراب.
أي نانا، أور المقام المقدس، آلت إلى خراب، وشعبها هلك.
الويل لي، أين أجلس، الويل لي أين أقف.
أنا ننجال، مثل راع مهمل راحت خرافه نهباً للسلاح.
الويل لي، أنا التي نُفيتْ من المدينة ولا تجد مكان راحة لها.
أنا ننجال التي نُفيتْ من بيتها ولا تجد لها سكناً.
بعد أن تتابع ننجال على هذا المنوال وتنتهي من تفجعها، يبدأ كاتب النص بتوجيه خطاب مطول إليها:
أيتها الملكة اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أي ننجال اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أيتها السيدة البارة التي هُدمت مدينتها، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد صارت مدينتك مدينة غريبة، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد تحول بيتك إلى بيت للدموع، اجعلي قلبك مثل الماء.
مدينتك التي آلت إلى خراب، لم تعودي سيدتها.
بيتك الذي اُسلم إلى المعول، لم تعودي تسكنين فيه.
شعبك الذي سيق إلى الذبح قد أدار ظهره لمليكته.
أور المقام المقدس راحت نهباً للرياح، كيف تقدرين على البقاء؟
أغانيك تحولت إلى نواح، وأنغامك صارت إلى نشيج.
في طرقك التي كانت ممهدة للعربات، زحفت أشواك الجبال.
أي مليكتي، حقاً لقد هجرتِ مدينتك، حقاً لقد هجرت بيتك.
فإلى متى تقفين جانباً كأنك عدو؟
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة في مدينتك فقد هجرتها،
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة من شعبها فقد هجرت شعبك.
عسى آنو ملك الآلهة ينطق قائلاً: هذا يكفي.
وعسى إنليل ملك كل الديار يرسم لك قدراً طيباً.
عساه يعيد مدينتك إلى مكانتها لتمارسي عليها السيادة.
أيها الأب نانا لا تدع العاصفة تستقر قرب المدينة.
عسى أن تُحطَّم شكيمة العاصفة تماماً.
ويُغلق في وجهها الباب كما تُغلق بوابة الليل العظيم.
أيها الأب نانا، إن المستضعفين الذين مشوا في طريقك،
يذرفون الدموع أمامك، دموع البيت المقوض، ويستصرخونك.
والمطروحون ذوو الرؤوس السود يسجدون أمامك.
أيها الأب نانا، إن المدينة التي ستعود سيرتها الأولى،
سوف تخطو بفخر وعزة أمامك.
إن المدينة التي ستعود إلى مكانتها، سوف تبجلك.
على هذه الطريقة ينتهي نص مرثية مدينة أور، وقد بدأت أور تنهض من كبوتها وتضمد جراحها لتعود إلى سابق عهدها كواحدة من أهم مدن وادي الرافدين الجنوبي.
على الرغم من أن هذا النص يقوم على حادثة تاريخية وقعت في زمن معين ومكان معين، إلا أن الكاتب قد ارتفع بالحدث من مستوى التاريخ إلى مستوى الأسطورة. فهو والحالة هذه ينتمي إلى زمرة من الأساطير أدعوها بالأساطير التاريخية. أما عن رسالة النص فواضحة كل الوضوح، وهي تقول لنا إن عالمنا قائم على الصيرورة والتبدل الدائم، والإنسان لا يكاد يطمئن إلى ثبات وديمومة رغده حتى يحم عليه قضاء الآلهة بغتة وهو غارق في لهوه ومتع حياته اليومية التي أَمِنَ إلى استمرارها؛ والدول والممالك لا تقوم وتزدهر فتصل أوج عزها حتى تأتي ساعة انحدارها. إن أور لم ترتكب ذنباً واضحاً ومع ذلك قررت مشيئة الآلهة الخافية على الأفهام تدميرها وإفناء شعبها، وليس على الإنسان أن يتساءل عن مشروعية القضاء والقدر. مثل هذه الرسالة يقدمها لنا مقطع من نص آخر معروف بعنوان «مرثية سومر و أور»، وهو يدور حول الموضوع نفسه. فبعد أن رأى إله القمر نانا هول الكارثة التي حلت بمدينته، يمثل أمام إنليل ملتمساً الرحمة لها:
أي أبي الذي أنجبني،
أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها؟
أي إنليل أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها.
أي أبي الذي أنجبني،
افتح ذراعيك، خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
أي إنليل، افتح ذراعيك خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
دع اسمك يعلو في أور مجدداً، وأهلها يتكاثرون من أجلك.
فيجيبه إنليل بعد أن استمع إليه مطولاً، بأن قرار الآلهة لا رجعة عنه، وأن البشر لم يُعطوا ميثاقاً باستمرار الأحوال وراحة البال. لم تقترف أور إثماً أو ذنباً ولكن قد حُمَّ عليها القضاء:
أجاب إنليل ابنه نانا- سُوين:
قلب المدينة يبكي، وناي القصب فيها ينوح.
شعبها يقضي يومه في النواح والنحيب.
أي نانا، أيها النبيل، عد لشأنك،
فإنك لن تقايض بالدمع شيئاً.
حُكْمنا لا مبدل لكلماته، حكم مجمع الآلهة.
لقد مُنحت أور سلطاناً ولكنها لم تُمنح دواماً.
منذ القدم، منذ أن أرسيت البلاد إلى يومها هذا،
من رأى منكم مُلكاً باقياً؟
كذا فسلطان أور قد اجتُث وولى.
أما أنت يا نانا، فدع الهم عنك واهجر البلد.


ما ألذي جرى للطيار الألماني فوق بغداد في 15 مايس 1941؟-د.إحسان فتحي








د.إحسان فتحي

  وكيف غيرت هذه الحادثة تاريخ العراق والمنطقة برمتها؟ كان يوم الخميس 15-5-1941 يوما صيفيا حارا وبسماء زرقاء جميلة وصافية. نسيم خفيف يهز نخيل البساتين البغدادية بإيقاع متمايل. أهالي بغداد نزلوا توا من نومتهم القلقة في سطوح بيوتهم ذلك لان الوضع السياسي كان متوترا جدا وحكومة ماسمي بـ (الدفاع الوطني) كانت تتلقى الضربات العسكرية من القوات البريطانية في قاعدة الحبانية وتتوجه نحو بغداد. رشيد عالي الكيلاني كان قد أعلن انقلابه على حكومة طه الهاشمي يوم 1 نيسان 1941 وسبب ذلك في هروب الوصي عبد الإله بن علي في سيارة السفير الأمريكي (بول نابنشو) الى  الحبانية ، ونقل بعد ذلك إلى بارجة حربية بريطانية راسية في شط العرب اسمها (كوكشيفر). الطائرات البريطانية بدأت بقصف بغداد منذ 4 مايس.  السفير الألماني والحقوقي اللامع (فريتز غروبا) كان قد نسق مع الانقلابيين منذ فترة طويلة للحد من نفوذ البريطانيين في العراق والاعتماد بدلا من ذلك على المانيا النازية التي كانت تحقق الانتصارات تلو الاخرى وعلى كافة الجبهات وخاصة في شمال أفريقيا. وبهدف تحقيق ضربة فاعلة للقوات البريطانية في المنطقة اختارت القيادة الألمانية الطيار البارز الميجور (اكسل فون بلومبرغ) وهو ابن الفيلد مارشال المشهور ( فيرنر فون بلومبرغ) للقيام بجولة استطلاعية بالعراق للتمهيد بتأسيس فرقة عسكرية عراقية وعربية من المتطوعين وبقيادة المانية. اطلق الاسم الحركي ( سبيشل ستاف اف) على الطيار اكسل وكان تحت امرة الجنرال (هلموت فيلمي).  كانت الخطة السرية هذه تتضمن قيام مجموعة من الطيارين الالمان سميت ب (فلايجر  فوهرر اراك) تتبعه فور نجاح مباحثاته يوم السبت 17 مايس في مقر القيادة العراقية. كان كل شيء يبدو مرتبا ومحكما. رشيد عالي ووزير دفاعه ناجي شوكت كانا متلهفان لمقابلة هذا الطيار الألماني الوسيم.  اقترب الطيار اكسل من بغداد وشاهد من بعيد قبتي الروضة الكاظمية الذهبيتين تسطعان ببريق يسحر  العيون، ورأى نهر دجلة العظيم وهو يتلوى كعاشق يحتضن حبيبته بقوة ويهيم بها في ملحمة وجودية أزلية.  قرر الهبوط في مطار بغداد المدني في الوشاش، على ما يبدو، وليس في مطار معسكر الرشيد البعيد الذي كان الانجليز يطلقون عليه اسم (الهنيدي). كان صوت أي طائرة في سماء بغداد يعني انها انجليزية وستقصف المدينة.  وكان لدى الجيش العراقي آنذاك عددا لا بأس به من المدافع الرشاشة المضادة للطائرات. ظهر له مدرج المطار بكل وضوح وبدء يهبط بطائرته تدريجيا وبكل عناية. وفجأة انهال عليه الرصاص من كل صوب واتجاه!  حاول ان يصعد بطائرته مرة أخرى ولكن الأوان كان قد  فات!  أصيب برأسه بطلقة نارية. بدأ نظره يتلاشى ولكنه استطاع الهبوط بطائرته، والدخان الأسود ينفث منها،  واستمرت الطائرة بالتحرك بسرعة حتى انزلقت في منطقة ترابية في اخر المطار.  هناك روايات مختلفة تحاول تفسير ما حصل، احدهما تقول بان الطيار اصيبب (نار صديقة) من العراقيين لاعتقادهم بأنه طيار انجليزي جاء ليقصفهم. ورواية أخرى تقول بأنه أصيب من قبل طيارة انجليزية لأنه تبين بأنه أصيب برصاصة بأعلى رأسه مما يدل على إصابته مباشرة من طائرة  تطير فوقه. هرع الناس من المناطق المجاورة لرؤية الطيارة المعطوبة ولكنهم شاهدوا الطيار قد فارق الحياة مصابا بطلقة نارية في أعلى رأسه. أتت مفرزة من الجنود العراقيين وتم نقل جثة الطيار السيئ الحظ إلى السفارة الألمانية ودفن لاحقا في المقبرة المسيحية في باب الشرقي.  في موقع الحادث كان احد الأشخاص الذي كان يعملون في سوق السراجين قد انتبه إلى مقعد الطيار الجلدي الفاخر ذو اللون البيجي واقتلعه بسرعة وذهب به فورا إلى احد الأسطوات المشهورين في السوق وباعه إليه. فكر هذا الاسطة المتمرس في أحسن طريقة يمكن بها استغلال هذا الجلد الفاخر الذي لم يسبق ان رأى مثله بكل حياته! قرر ان يصنع (جرابين) رائعين قد يغري بهما بعض الشخصيات البغدادية الهامة لمسدساتهما المفضلة!  وفعلا تم ذلك. الجراب الأول هو الآن عند ورثة نجيب الربيعي، رئيس مجلس السيادة سابقا (1904-1965) والآخر هو الآن عند المحامي نصير الجادرجي! ان هذا (الجراب) الجلدي الفاخر الذي تجدون صورته ملحقة مع هذا المقال هو كل ما يتبقى من خطة ألمانية رهيبة كان من الممكن ان تغير خارطة الشرق الأوسط تماما، لكن الأقدار تأتي بأمور غير متوقعة، والتاريخ يزخر بالأحداث والمفاجآت المذهلة. أما الداهية فريتز جروبا فقد استطاع الإفلات من البريطانيين الذين حاولوا المستحيل للقبض عليه!  هرب إلى الموصل ثم الى تركيا وبعدها وصل ألمانيا وواصل عمله الدبلوماسي.
 15-3-2015 

ما ألذي جرى للطيار الألماني فوق بغداد في 15 مايس 1941؟--

الأحد، 8 مارس 2015

تخطيطات-عادل كامل













بسيم حكيم والعمارة العربية الإسلامية- د. إحسان فتحي




بسيم حكيم والعمارة العربية الإسلامية




د. إحسان فتحي


الأعزاء المعماريون والمخططون العراقيون والأصدقاء

تحياتي الطيبة وبعد
     وددت هذه المرة ان اكتب بعض السطور عن مفهوم المدينة "العربية الإسلامية" والذي ظهر كمصطلح " العمارة الإسلامية" في بداية القرن العشرين من قبل بعض المؤرخين الغربيين.  ولا تزال العديد من المصطلحات المتداولة التي تبنيناها نحن العرب المسلمون بسرعة، بالرغم من حاجتها إلى الكثير من الفحص والتمحيص، تسبب ولا تزال تسبب كثيرا من الإشكاليات الفكرية. ان احدث كتاب كبير صدر في عام 2008 عنوانه ( المدينة في العالم الإسلامي) وليس (المدينة الإسلامية). ومن الواضح جدا انه يوجد الان صراع شديد بين عدة اتجاهات في هذا الشأن أهمها: الاتجاه الاستشراقي الطوبوغرافي والذي يركز على مورفولوجية المدينة، والاتجاه الفقهي الاسلامي الذي اكد على اهمية التشريعات الدينية ومبدء (لاضرر ولا ضرار) على تشكيل المدينة، والاتجاه الذي ياخذ بتاثير كل هذه العوامل معا وبعدم وجود "نموذج" موحد يجمع كل المدن في العالم الاسلامي من اندونيسيا الى الاندلس.  
ان اهم من كتب ونظر في المدينة الإسلامية من المفكرين الغربيين هم: جرونباوم، جروبه، ماسينيون، الاخوين الفرنسيين مارسيه، كاهين، هيلينبراند، ايرا لابيدس، سوفاجيه، جانيت ابو اللغد، ايكلمان، ريموند، كندي، كارل براون، شتيرن، بيانكا، بركهارت، يوجين رث، اتيليو بيتروجيولي، باولو كونيو، بالباس، سارجنت، لازنر، ريناتا هولود، وكذلك الفيلسوف الالماني المعروف ماكس ويبر، واخرون.
اما المعماريون والمخططون والجغرافيون الحضريون العرب فلم ينتبهوا لهذا المفهوم الا منذ فترة الستينيات من القرن الماضي وبرز منهم : حسن فتحي، سابا شبر، عبد الباقي ابراهيم، كاظم الجنابي، محمد عبد الستار عثمان، عبد الجبار ناجي، خالص الاشعب، نزار السيد، البرت حوراني، هشام جعيط،  ناصر رباط، ياسر طباع، مشاري النعيم، جميل اكبر، صالح الهذلول، وليد السيد احمد، مصطفى بن حموش، خالد عزب، وبسيم حكيم ، واخرون.
وهنا اود ان اثمن جهود المعماري والباحث الحضري العراقي اللامع بسيم حكيم الذي يعتبر الان احد ابرز المنظرين في هذا المجال. ولد في بغداد بحدود 1937 ودرس العمارة في جامعة ليفربول متخرجا منها عام 1962، ثم درس التخطيط الحضري في جامعة هارفرد حاصلا على الماجستير منها عام 1971. له كتب عديدة مهمة اصبحت تدرس كمراجع اساسية في اهم جامعات العالم.
اتمنى للصديق والزميل العزيز بسيم حكيم وافر الصحة ومزيدا من العطاء الفكري المتميز.



قصة قصيرة أحلام يوم غائم- عادل كامل

قصة قصيرة

 أحلام يوم غائم


عادل كامل
    لم يفلح الفأر، رغم تحرشاته، ولكزاته، وقذفه بالحصى، ووخزه بمخالبه، في إيقاظ الأسد، حتى بدا له شبيها ً بالتمثال الذي طالما أثار إعجابه، بهيأته، ورشاقته، وتناسق نظراته مع جسده.
   عاد الفأر، مرة ثانية، يتحرش، ويوخز، من غير جدوى. حتى فكر ان يسرق إحدى العربات التي كانت تفخخ، في الحديقة، ويقودها بنفسه، ليفجر القفص؛ والأسد في عرينه.
ـ عرينه...، لا.
متابعا ً بصوت ساخر:
ـ عن أي عرين أتحدث...،  وأنا لا أشاهد إلا أرضا ً مبللة رائحتها تذهب ابعد من أسوار الحديقة، حتى أصبح المسكين ينام فوق برازه!
   واستغرب الفأر إنهم كانوا شيدوا له تمثالا ً، أقاموه، عند المدخل، منذ سنوات بعيدة، وها هو لم يعد يكترث لماضيه، ولا للزائرين، وهم ـ مثله ـ فشلوا في إثارته، وإيقاظه من سباته العميق.
ـ أسد...؟!
   لأنه شاهد الدب يرقص، كما شاهد الذئاب لا تكف عن الحركة، ومراقبه الزوار، ورأى الزرافة تلوح برأسها كأنها مازالت في البرية، والتمساح يداعب أصابع الأطفال بمرح، والكركدن يحدق في السماء، وشاهد سواها، عدا الأسد، ومعه ليوث آخرين أيضا ً، يغطون في سبات عميق.
   كانت ظهيرة باردة، غائمة، والسماء تنذر بسقوط المطر، عندما خرج الفأر خصيصا ً لزيارته، إثر حلم رأى فيه الأسد، منتفضا ً، غاضبا ً، يلقي خطابا ً في الساحة الكبرى، وسط الحديقة، ويدعوا لإنزال الهزيمة بالثعالب، وبنات أوى، والنمور، والدعالج، والأفاعي، والخنازير، وبالمخلوقات المماثلة، في مكرها، ووضاعتها.
   ثم ها هو يجد الأسد جثة هامدة. فلكزه بقوة، ووخزه بشوكة، وما ان لمح الدم يخرج من الجرح، حتى أدرك انه على قيد الحياة، مما أثار فضوله، وحيرته. فابتعد عنه، مرتجف الأوصال:
ـ لا معنى للحديث معك عن الماضي السحيق.
   لكن الفأر سمع لغط الزائرين، المتجمهرين، فشاهدهم ضجرين، يتأففون، وحائرين أيضا ً، فقال يخاطبه:
ـ بل أنا أحدثك عن العصر الذي لم يجرأ أحدا ً إلا ان يقدم لك الولاء والطاعة ...، مع إننا لم ننس ان ما فعله أسلافي، وأجدادي، وآبائي من احترام لكم، فكنا نأتيك بالهدايا، للاعتراف لك بالسيادة، والفخامة، والعظمة.
صمت برهة وقال لنفسه:
ـ لا معنى للاسترسال..، فأنت تعرف ان زمنك ولى...، وأصبحت عتيقا ً، باليا ً، لا تصلح حتى للسيرك! مع انك طالما أثرت إعجابنا بوثباتك، ورقصاتك، ومهارتك في القفزات البهلوانية...، ولكن ما الذي كان يدور في رأسي، بعد ان رأيتك في الحلم؟
    ارتج جسد الفأر، وهو يشاهد الزائرين يتجمهرون خلف القضبان، فسأل نفسه: ما الذي يثير فضولهم، ودهشتهم  ..؟
فسمع احدهم يقول:
ـ ربما هرم، وأصبح عاجزا ً..
وأضاف آخر:
ـ وتعب من الزعامة، ارتوى منها، شبع، فتخلى عنها.
ـ ربما يعاني من الجوع، أو من الخنوع، أو الإذلال!
ـ أو أصيب بأحد أمراض العصر..
ـ أو في الغالب فقد مرحه، وهيبته، ورهبته ...؟
    اقترب الفأر منه كثيرا ً، من غير حذر، وحدق في رأسه الكبير، وراح يتتبع ملتقطا ً الذبذبات الصادرة عن دماغه:
ـ أيها الفأر...، ماذا تريد مني...؟ منذ ساعة وأنت تدور، وتهذي، وكأنك الموت نفسه جاء يبشرني بالخلاص...، فعد ـ أرجوك ـ إلى جحرك، لعل أسد التراب يبتلعك، في الطريق..، أو يجهز عليك كلب من كلابنا السائبة!
فدار بخلد الفأر: حتى في نومه، وفي لاوعيه مازال شرسا ً، وعدوانيا ً!
ـ أيها الغبي...، لو كنت شريرا ً، كما قلت، لمسحت الأرض بك، فما أنت سوى لقمة ضئيلة ...، وإلا فأنني سأنتفض...، مع إنني اعرف انك ستلوذ بالفرار...، كما يفعل أمثالك، الأنذال، وكما فعل أسلافك، وهربوا من الغابات، وغزوا قرى البشر ومدنهم.
ـ لن اهرب...، فلوا افترستني سأقول هذا أفضل من ان أموت بين أنياب قط، أو كلب متوحش...، فهذه حسنة نادرة آمل ان تفعلها، فانا طالما حلمت ان يفترسني أسد بدل الموت في حفرة مظلمة.
ـ لن ادعك تستفزني، فانا عمليا ً لا أريد ان اعرف ما يدور برؤوس الحمقى وهم أكثر سخفا ً وبذاءة منك...، فعليك ان لا تتجاوز حدودك.
ـ وأنت...، هل عرفتها؟
ـ إنها بحدود المساحة التي أشعلها!
ـ مسكين، لم يتركوا لك من الأرض الشاسعة، ومن غاباتها، ومن براريها، إلا مسحة بحدود جسدك!
ـ وماذا افعل بها حتى لو وهبوني أرضا ً بسعة السماء؟
ـ حسنا ًلم يفعلوا ذلك!
ـ نذل..، فأر مطابخ، مجاري، ومزابل...، وبوزك ملوث بالسخام، ومصيرك أما ينتهي داخل المصيدة، أو تمزقك الأنياب..
ـ وأنت، يا سيدي، هل يشفع لك تمثالك...، وهذا الجمهور الغفير من المعجبين الساخرين، المستهزئين، والمتندرين بك...؟
ـ يا أحمق، أنا هو من لم يعد مكترثا ً للدنيا وما فيها، لا ماضيها ولا مستقبلها، بعد ان بانت عن حقيقة أوهامها، أو قل: أوهام حقيقتها !
فقال الفأر ساخرا ً:
ـ حتى أنا آبى ان أبول عليك!
ـ نذل، قلت انك نذل، ككل حيوان مأبون، ابسط أفعاله النذالة!
ـ أنا لست مأفونا، ولا مثليا ً، أنا ـ يا سيدي ـ ضحيتكم!
ـ وهل أنا هو المدير...؟
   سمع احد الزوار يخاطبه:
ـ عضه!
 فأجابه:
ـ أنا لست كلبا ً سائبا ً، ألا ترى الأسد يحلم!
   صفق الجمهور، وارتفعت هتافاتهم، فسمع الفأر احدهم يسأله:
ـ وبماذا يحلم؟
ـ يحلم ان تغادروا الحديقة، كي يستيقظ، وينتظر حلول الليل، لتأمل النجوم، والمجرات، والكوزرات...!
ـ اهو من الحرس الخاص؟
ـ لا ..، هو من أنهى دورهم، وجعل حديقتنا منزوعة السلاح، فهو اتخذ من المنقرضات قدوة له...!
صفقوا للفأر:
ـ عجيب..، ان نجد فأرا ً يفكر في هذه الحديقة؟
ـ أسس..، قد يسمعنا المدير...، وقد يسمعنا الأسد...، فماذا افعل، أم ان موتي سيبهجكم...، لأن دوري، هو الآخر، أصبح فائضا ً...؟
    دار بخلد الأسد، وقد أدار ظهره نحو الجدار، تاركا ً الزوار في حيرة اكبر، ان المصائب لا تأتي إلا بحلول عمياء! مع ان نهاياتها لا تذهب ابعد من مقدماتها إلا بوصفهما بالغة التوازن، متابعا ً مع نفسه: فطالما ذكر جدي: سيأتي الزمن الذي تتندر فيه عليكم أرذل البهائم، واقلها حنكة، ولكن أشدها قدرة على المواجهة، البقاء،  والعبور.
  اقترب الفأر من آذنه، هامسا ً:
ـ لا تكترث ...، سأروي لك الحلم الذي رأيته، للجميع.
    ساد الصمت، لبرهة، ثم سمع امرأة تطلب ان يسرد لها تفاصيل الحلم، من غير تفسير، أو تأويل:
ـ لم يكن حلما ً بمعنى إشباع الرغبة، أو الاستمتاع، أو التحذير، بل كان كابوسا ً.                                  عادت وأكدت إنها ليست بحاجة إلى التفسير، والإفراط في المبالغة:
ـ لا تتفلسف...، طلبنا منك ان تروي ما شاهدت، ومن الأفضل ان تسلينا، مادمنا في عصر التسليات.
ـ آ ....
تأوه، ثم بدأ يروي بصوت متقطع:
ـ كنت أقف قدام سيادته، في الباب. فسألني: ماذا تفعل...؟ فقلت: جئت أؤدي ولاء الطاعة، والشكر، والامتنان. لكن الأسد انتفض، ونزل من المنصة، واخذ يلاطفني ومسح علي ّ بلسانه الكريم...، لم يبصق في فمي!، بل مسح جسدي كله، وباركني. وقال لي: مبارك دربك يا غلام.  آنذاك فقدت الوعي، لزمن وجيز، وما ان أفقت، حتى رحت أشاهد الأسد يثب، ويرتفع عاليا ً، فقد أصبح يحوّم بأجنحة نسر، فوق سماء الحديقة. ثم فجأة اكفهرت الدنيا، فأرعدت السماء، أبرقت، اغبرت، اسودت، وامتلأت بسلاسل دوي حتى حسبت إنها نهاية الدنيا. فهمس الأسد في إذني: إنها الحرب...، إنها الحرب، إنها الحرب. كررها ثلاث مرات. فسألته والفزع كاد يقتلعني قلعا ً: ماذا افعل...؟ غاب الأسد لحظات، توارى، ثم ظهر أمامي عاريا ً، من غير جلد، ومن غير شعر، وقد انتزعت أنيابه منه وقطع ذيله...، حتى بدا لي مثل ديناصور صغير غاطس في بركة..، فسألته: ماذا حدث؟ أجاب بتردد: اسكت، أخشى عليك ان تعاقب بجريرة انك من أتباعي، أو لأنك رأيتني، ورأيت هذا الذي أنا نفسي لم أره منذ زمن بعيد. فضحكت، وأنا اخبره: ماذا أبقيت لي كي يأخذوه مني، فأنت سلخت جلدي وجلود أسلافي سلخا ً لم يسمح لي إلا ان أكون من أتباعك، حتى قيام الساعة.
صاحت السيدة بصوت مرتفع:
ـ ليس هذا هو الحلم الذي رأيته...!
فسألها الفأر باستغراب:
ـ أكنت في رأسي؟
 أجابت بصوت جازم:
ـ لا تموه...، أرجوك، وإلا سأضطر لإخبار السيد المدير؟
ـ ومن أنت ...؟
ـ إن لم ترو ...، الحلم كما رايته، فستعرف من أنا؟
    سمع الأسد يأمره بسرد تفاصيل الحلم كاملة، من غير تلاعب، محذرا ً من التمادي في المبالغة، والتهويل، والخداع:
ـ الأسد هو الأسد..، مثل قولنا: ليس لدينا إلا ما هو موجد!
ـ أوجز، ولا تتحايل، فطبائعكم هي التي أفضت بنا إلى هذا الحضيض!
ـ ولكن سعادته لم يكترث للعواصف، والأمطار، ولا للريح ذات الأنياب اللولبية، الشبيهة بمجسات العناكب، وبعض الدابات الليلة، لأن مخلوقات حديقتنا بدأت بالفرار، والهرب، فقد سرت شائعة تقول ان الطوفان على الأسوار ...، وانه سيكنسنا من خارطة البسيطة، ويجتث ماضينا، آنذاك نكون كأننا سقطنا في قاع العدم.  لكن فخامته لم يحرك ساكنا ً، فعطت عليه من شدة الهول: يا سيدي، هذه هي نهاية العالم! فدعنا نهرب. كاد يكشر عن أنيابه، ويغضب، ولكنه أبى وتكبر. فقلت بسليقة الواجب: سأموت معك إذا !. فأقصى ما يحلم به العبد ابن العبد ابن ابن العبيد هو ان يموت من اجل سيده..! آنذاك مرت سفينة كبيرة، بلا أشرعة، أو بيارق، أو دخان، لأنها لم تكن سفينة نوح، ولا سفينة تجارية، أو تقل السائحين، بل كانت سفينة حربية. فانتشلونا عنوة، رغم امتناع سيدي من ذلك. فسيادته أبدى امتعاضه...، في بادئ الأمر، ثم لان، هادن، واسترخى، ورضخ للأمر الواقع..، وأنا عملت مثله.
عادت السيدة تصرخ:
ـ وكيف انتهى الحلم؟
ـ سيدتي، لماذا الصراخ، ما أسبابه، وأنا أكلمك باحترام العقلاء...، هل هذه هي حقوق المرأة....، هل هذه هي المساواة، وأنت سيدة لطيفة جاءت لزياراتنا في مثل هذا اليوم الغائم، المكفهر، الأسود...؟
ـ آسفة، فالعاطفة كادت تفسد علي ّ عقلي، بعد ان بلغت أقاصي الحلم ومناطقه النائية!
ـ لم ينته ...، فانتم تعرفون استحالة وضع خاتمة للذي مقدماته مسبوقة بأسبابها، مثلما تعرفون ان الأسباب ليست بحاجة إلى الأسباب كي تمتد، فالرأس يكمل الذنب، مثلما الذنب لا يمكن فصله عن الرأس، كما روى أسلافنا في غابر الدهر.
وهن للحظة ثم عاد يتكلم:
ـ  عادوا وأقاموا للأسد التمثال ..، وهو القائم اليوم في الباب العظمى لحديقتنا...، ثم دار الزمن دورته، فأكرموه بهذا القفص، وبالأرض التي هي بحجم جسده المبارك! وقالوا له: لن يمسك الضر، ولا الشر، ولا الفاقة، ولا المرض، ولا البرد، ولا التسفيه، حتى نهاية حياتك مهما امتدت وعبرت حواجزها المحرمة.
    خاطب الأسد الفأر عبر الذبذبات، من غير زئير، أو صوت، أو همس:
ـ لِم َحرّفت وحذفت، موّهت وكذّبت، بالغت وأخفيت...، لكن ماذا افعل عندما لا تزوّر الأسفار إلا من أمثالك...؟
ـ صه...! أنا أتحدث إلى السيدة الأولى..؟
  قال الأسد للفأر، بالأسلوب نفسه:
ـ لقد خدعتك...، إنها عشيقته، لأنه طلب منها ان تتجسس علينا مباشرة، بعيدا ً عن الأنظمة الأخرى.
 فخاطبها الفأر:
ـ آ ..، هل أنت سيدة موقرة أم من المخبرات؟
   لم تسمعه، فقال للأسد:
ـ لم تنتبه لي، ولم تجبني.
قال الأسد له:
ـ أنا مازلت أسدا ً، وعليك ان تعرف مع من تتكلم؟
اقترب الفأر من الأسد، وهمس في آذنه:
ـ أصبح عدد الزائرين لا يحتمل، كأن يوم القيامة حل علينا، في هذا اليوم المكفهر...، فالسماء اسودت، والعاصفة اشتدت.
سمع ذبذبات الأسد:
ـ يا أحمق، الشمس مازالت في الأعالي تؤدي عملها..، وما هذه الغيوم إلا شبيهة بهذا الطوفان، مهمتها حجب الحقيقة.
  ارتج جسد الفأر:
ـ أشم رائحة كريهة..
ـ وهل هناك عفنا ً اشد من رائحتك ...، لأنك كنت تحلم ان تراني ميتا ً..، وها أنا لم أمت...؟
وقال متابعا ً:
ـ والآن اخبرني كم بلغ عدد المشيعين ...؟
ـ سيدي ...، الآن فهمت! فاغفر لي ارتكابي لهذا الذنب...؟
فسأله الأسد:
ـ ماذا فهمت؟
ـ انك أنت من يشيعهم إلى الأبدية!
واسترسل الفأر:
ـ لقد اشتدت العاصفة، وراحت تقتلع الأشجار، وتهدم الأسوار، وتكنس العلامات، فهي تهب من الشمال ومن الجنوب، ومن اليسار ومن اليمين ...، أيها الميت انهض! أرجوك، باسم أسلافك وأحفادك ..، هم يستنجدون، ويستغيثون، ويطلبون العون منك!
ـ أغلق فمك، أرجوك، فانا لا امتلك سفينة...، وأنت تعرف إنها كانت بارجة حربية...، وذهبت، فلا تربك علي ّ خاتمة الحلم!
ـ آ ....، أكان هذا وهما ً...؟ أكان هذا سرابا ً...؟
ـ لا ...، لم يكن وهما ً ولا سرابا ً...، فعندما تستيقظ ستكتشف انك بانتظار قرون كي ترى انك لم تستيقظ أبدا ً، وما ان ترفع رأسك حتى تجده طار في الهواء، أو أكلته الضباع، فلا تجهد نفسك بتأويل ما تراه، فانا أصدرت تعاليمي بمراقبة أحلام هؤلاء النائمين، فانا لا أتوقف عند التأويل، ولا عند التفسير، ولا عند تعدد الاحتمالات...، لأنني ساترك الحلم يذهب ابعد من الحالم، مثلما تعلمت ان ادع الحالم يذهب ابعد من أحلامه.
5/3/2015