الخميس، 26 فبراير 2015
الاثنين، 23 فبراير 2015
قصة قصيرة الغزلان في السماء- عادل كامل
قصة قصيرة
الغزلان في السماء
عادل كامل
ـ لا تتعب نفسك، فالغزلان اختفت.
فقال لها:
ـ اعرف...، أنا قلت لك ِ إنها توارت، كأنها تبخرت، ذابت...، ولكن كيف؟
فقال الثور للأتان، وهما يراقبان الزرائب، والحظائر، وباقي الأجنحة، في الحديقة:
ـ هم يقولون إنها عبرت الحواجز، ثم قفزت الأسوار، ولاذت بالبرية..
هزت الأتان رأسها:
ـ إشاعة!
ـ لا، هناك احتمال إنها أصيبت بأحد الأمراض...، ونفقت، فلم يتم الإعلان عن ذلك لتلافي الفوضى.
فكررت الأتان:
ـ إشاعة.
فرد الثور، بعد لحظة صمت:
ـ الاحتمال الأخير غير معقول..
ـ وما هذا الاحتمال...؟
ـ تم اجتثاثها، فأنت تعرف إنها أقدم نظريات الحكم!
ـ إفراط في السخف، وفي السخرية...، فلماذا يتم اجتثاثها، وهي غير ضارة إن لم تكن منافعها لا تحصى...؟
فكر بصوت مسموع:
ـ ربما لأن جمالها لم يعد محتملا ً...، فثمة حسد، حسد يغيض...، يوخز، ربما سمح لهم باجتثاثها، كي لا تحدث فتنة!
ـ أيحدث الجمال فتنة...؟
قال الثور بعد ان صفن قليلا ً:
ـ نعم، أيتها الأتان العزيزة، انه أكثر الفتن إيلاما ً...، وأذى، ففتنة الجمال الأشد مرارة من القتل!
ـ أنا تحدثت عن الجمال ولم أتحدث عن موضوع آخر...؟
ـ كلاهما، فتنة، توقد ما لا يمكن إطفاؤه!
أجابت الأتان بصوت مرح:
ـ دعك من الجمال، إلا اذا كان علقما ً، فالغزلان مخلوقات وديعات، ظريفات، ناعمات، كأنهن بنات ذاهبات إلى المدرسة!
ـ ربما يكن ارتكبن معصية، أو قمن بالتحريض، أو دارت برؤوسهن خيالات التذمر ...؟
ـ لا أتصور..
لامس الثور جسدها، بعد ان قرب رأسه منها كثيرا ً، هامسا ً:
ـ أعظم السدود تخربها فأرة! وأغنى الأغنياء يقتله بخله!
ـ أنا لا اعتقد!
فكر لبرهة، وأجاب:
ـ هناك احتمال إنهن قمّن بالتخاطر مع غزلان حديقة أجنبية، أو ثرثرن، أو كشفن عن المستور، أو لم يلتزمن بتعاليم سيدنا المدير...؟
ـ لا...، فانا ثور يشم رائحة السكين قبل ان يلوّح بها هذا القصاب.... أو ذاك؟
ـ دعنا من مخاوفك، يا سيدي، فلو أحصيناها فإنها لا تحصى، كالنعم، وأسباب الرخاء!
ـ لم تبق إلا إشاعة واحدة وهي إنهن، في ليلة العاصفة، وعند اشتداد البرد، وهطول الظلمات ممتزجة بالحجارة...، وبعد إعلان النفير، ومنعنا من التجوال...، صعدن إلى السماء؟
ـ ماذا قلت؟
ـ صعدن إلى الأعالي..
ـ وماذا يفعلن هناك؟
ـ هناك احتمالات متعددة، يا سيدتي الجميلة، أما لأنهن غاضبات على إدارة الحديقة، ومديرها العنيد، وأما إنهن تلقيّن دعوة ...، وأما ذهبن للسياحة، أو لأداء فريضة، أو للمؤانسة والاستمتاع، وأما جرت معاملتهن كمعاملة الغرقى، والمحروقين، والمغدور بهم...؟
ـ مع انك تعرف إنني حمارة ذكية، فاتنة، باذخة الحسن، ولم أنجب إلا بغلا ً واحدا ً...، ولم أتورط بالانتماء إلى أطياف الشمال، ولا إلى أطياف الجنوب، ولم تغوني أطياف الوسط، وسواها من الأطياف...، فانا بدأت اشكك...، فثمة وسواس بدأ يوسوس في رأسي.؟
ـ بغبائي؟
ـ لا لم اقصد ذلك، بل قصدت ان الجهل، الجهل وحده، هو الذي يصنع أعظم المعجزات، فهو شبيه بالظلمات التي وحدها تستطيع ان تبصر موقع اصغر عود ثقاب متوقد...!
ـ كي يتم إطفاؤه؟
ـ يا ثوري، لا تدع عقلك النيّر، يبتل بالأوهام، ذلك لأن احتمال صعودهن إلى السماء، شبيه بنزول فيلة أو خراتيت لدك الأرض، ومحونا من هذا الوجود!
انفجر ضاحكا ً، لبرهة، ثم أغلق فمه، وراح يحدق في عينيها العسليتين الواسعتين:
ـ لن أؤذيك بالحديث عن بغلك الابن الذي ذبح فداء ً للذئاب، بل سأتحدث عن الإفراط في حساسيتك، وعن رهافتك المبالغ بها!
ـ وماذا افعل وأنا ولدت حمارة....؟
ولم تدعه يقاطعها، متابعة:
ـ فلم أنجب حمارا ً، مثلي، ليحمل الأثقال، والأوزار، ويجر العربات، وأخيرا ً يصبح نذرا ً للأسود والنمور والتماسيح...، فأنجبت بغلا ً لن يرتكب أخطاء والده الحصان، ولن يرتكب إثم والدته الحمارة!
ـ وهل لا يصعد البغل إلى الأعالي...؟
ـ لا...، لم يصعد ولم ينزل منها ...، بل مزقته أنياب الذئاب، وصار طعاما ً لها...، فقد كان من الصعب، وربما من المستحيل، ان يحصل على أجنحة...، مع إنني بذلت جهدا ً جبارا ً مع النسور، والصقور، والغربان، وسواها من ذوات الأجنحة، فباءت جهودي، وتضرعاتي، ووسائلي المختلفة بالفشل والخيبة.
رآها تبتعد عنه، وسمعها تولول:
ـ لم اقصد إثارة شجونك، واساك...، فنحن ولدنا للمفترسات، خاتمة أعمارنا المقررة قبل ولادتنا...، فهل كان باستطاعتنا التلاعب بالأقدار....؟
استعادت قواها، وقالت بصوت غاضب:
ـ ولا مكان للذئاب في السماء!
وقالت ساخرة:
ـ فقد ترى النمل والنحل والبلابل ولكنك لن ترى النمور والأسود أو الضباع!
أجاب بصوت رزين، هاديء:
ـ اعرف...، ولا مكان للكلاب، ولا مكان للخنازير، ولا مكان للأفاعي أيضا ً...
ـ آ ....، قل كلاما ً يهدأ عقلي المرتبك، المشوش، المضطرب...، وإلا ماذا لو صعدت بنات أوى، والتماسيح، والفيلة، إلى السماء، فأين سنذهب...؟
ـ عدنا نفكر!
وأضاف:
ـ حذار...، فقد تكشفنا أجهزة الذبذبات الذكية..، وتدلهم علينا: عثرنا على ومضات في رأس ثور وفي رأس حمارة في الزريبة المرقمة...، خلف حظائر ...، بجوار أقفاص ....، الأسود!
ـ لا ترعبني..، فأنت، أيها العنيد، مصاب بعقدة السكين! تنام وتستيقظ ولا تتغيب عنك رائحتها! حتى ان طيفها استحال إلى شبح!
ـ أيها الأتان، يا له من مساء كدر، حزين..، شبيه بنهاية العالم.
ـ عدت تفكر...! ألف مرة قلت لك: إذا اكتأبت، أو داهمتك الأحزان، وإذا أصبت بالشرود، أو الذهان، فأذهب حالا ً إلى زريبتك وجد أول بقرة ونزها!
ـ مللت، حتى اسودت علي ّ الدنيا.
ـ للأسف...، أنا اختلف عنك، فانا استطيع فعلها مع أول حصان، بل وحتى مع فيل! لكنك مازلت عنيفا ً، وحشا ً، فأنت أرقى مني.
ـ بماذا أنا أرقى منك...؟
ـ في الأقل، لحمك يباع، وثمنه مرتفع، وجلدك أثمن!
ارتج جسده، وراح يحك جسده بالجدار، بقوة، حتى أدماه. اقتربت منه، هامسة:
ـ لا تغضب...، جلدك لن يذهب إلى المزابل، ولن يحرق، في المحرقة، ولن تتغذى عليه الديدان....، جلدك سيتحول إلى بساطيل في أقدام جنودنا الشجعان!
تهيج، وازداد توترا ً، فهاج، مرة أخرى، وراح ينطح الجدار، حتى كاد يكسر قرنه:
ـ اهدأ ..، أرجوك..، فهذه هي مصائرنا، الحمير، بعد ان حملوا عليها أثقال البشر، أصبحت تعد طعاما ً للعاطلين عن العمل، لحمنا للمفترسات، وجلودك للأحذية!
برك فوق الروث، لدقائق، ثم نهض واقترب منها:
ـ ها أنا أدرك سر غضبك، يا ثوري!
ـ ماذا دار برأسك، أيتها الجميلة، غير صحيح!
ـ ها، وماذا دار برأسي؟
ـ قلت: لا البغال، ولا الحمير، ولا الجاموس، يسمحون لهم برفع رؤوسهم أعلى من حاجز هذه الزريبة!
ـ اقسم بالمدير، وبمساعدته الببغاء، أنت ِ أذكى أتان عرفتها في حياتي.
ـ حمارة تحاور ثور لعلها تغويه!
ـ أسس! بدأت أجهزة كشف الذبذبات تعمل.
ـ إذا ً، أيها الموقر، أين اختفت الغزلان...؟
ـ إنها لم تصعد إلى السماء...، لأن أحدا ً لم يوجه لها دعوة...، ولأنها لا تمتلك أجنحة، ولم يتم اجتثاثها، ولم تمرض، ولم ترسل إلى المحرقة، ولم يسمح لها بالعمل في السيرك ...، فأين اختفت...؟
ـ لو أخبرتك...، ماذا تهديني؟
ـ قبلة!
ـ يا للقمر، ويا للنجوم، ما أبهاهما في حلكة هذا الليل...! ثور يهدي حمارته قبله!
هز رأسه:
ـ حتى لم يعد لدي ّ قرن! غضبي سبب لي النكبات!
فقالت بحزن:
ـ وأنا رهافتي كادت تفقدني عقلي!
صمت برهة وقال لها بصوت مرتفع:
ـ هكذا تغزل اليد بالمغزل غزلها!
ـ ماذا تقصد؟
ـ بالعربي...، الظلمات لا معنى لها إلا بنقيضها...!
ـ غير صحيح، فأنت قلت: شبيه الشيء منجذب إليه؟
ـ أكاد أقول...، أنت مثلي، كلانا اجتاز حاجز الجنون!
ـ لا، لا، لا ، فأنت قصدت: حاجز المحرمات، وكأننا نجونا من الطوفان!
ساد الصمت فترة غير قصيرة، لتسأله بغتة:
ـ لقد ناورت طويلا ً حتى كدت لا تبوح لي بالجواب: أين اختفت، أين توارت، أين ... ذهبت الغزلان، إن لم تهاجر، ولم تهّجر، ولم تصب بداء الخنازير، ولا بالايبولا، ولا بأنفلونزا البلابل، ولا بداء فقدان الذنب، ولم تصب بداء العظمة، وبداء الكلب، ولا بحمى القنافذ...، ولم تذبح فداء ً للقائد، ولم تصعد إلى أعلى الأعالي.....؟
ـ أخاف ان أبوح، يا وردتي!
ـ وهل تراني اعمل مخبرة، وهل حديقتنا تستخدم الحمير لإعلاء مجدها...؟
ـ هذا غير سليم، ليس بدافع الاستحالة، بل لأن حديقتنا لم تعد بحاجة إلى حمير يخبروها بما يحدث...!
ـ أحسنت..، تكاد تخفف من شطحتك، وتطمأن قلبي المضطرب، بهذا الاعتذار.
همس من غير كلمات. فقالت:
ـ فهمت! أنا كنت اعرف ان السيد المدير عقد صفقة خاصة بالغزلان، وأرسلها كي تتجول في حدائق العالم! وهناك من يقول إنها أرسلت إلى المتاحف!
ـ ربما للدعاية ...، ان نفتخر بغزلاننا، وليس بالبراغيث، أو بالديدان..، أو بالصراصير؟
ـ يقال، هناك ألف سبب، ولكن السبب الأول هو: ان السيد المدير باعها! بل ويقال انه باع الحمير والبغال والثيران معها!
ـ لكنه لم يرسلنا.
ـ انتظري ...، فلم يحن زمن سفرنا بعد..!
ـ تقصد، ان السيد المدير، أنقذها، ففي الأقل، لن تذبح ولن تباع ولن تهلك في زرائبها بسبب البرد، أو الإهمال..؟
ـ آ ...، لو أسرع المدير، يا حمارتي، وعجل ببيعنا!
ـ أرجوك ...، ألا تدرك ان الأسى خيانة، والخمول نذالة، وفقدان الأمل جريمة يعاقب عليها القانون!
21/2/2015
الغزلان في السماء
عادل كامل
ـ لا تتعب نفسك، فالغزلان اختفت.
فقال لها:
ـ اعرف...، أنا قلت لك ِ إنها توارت، كأنها تبخرت، ذابت...، ولكن كيف؟
فقال الثور للأتان، وهما يراقبان الزرائب، والحظائر، وباقي الأجنحة، في الحديقة:
ـ هم يقولون إنها عبرت الحواجز، ثم قفزت الأسوار، ولاذت بالبرية..
هزت الأتان رأسها:
ـ إشاعة!
ـ لا، هناك احتمال إنها أصيبت بأحد الأمراض...، ونفقت، فلم يتم الإعلان عن ذلك لتلافي الفوضى.
فكررت الأتان:
ـ إشاعة.
فرد الثور، بعد لحظة صمت:
ـ الاحتمال الأخير غير معقول..
ـ وما هذا الاحتمال...؟
ـ تم اجتثاثها، فأنت تعرف إنها أقدم نظريات الحكم!
ـ إفراط في السخف، وفي السخرية...، فلماذا يتم اجتثاثها، وهي غير ضارة إن لم تكن منافعها لا تحصى...؟
فكر بصوت مسموع:
ـ ربما لأن جمالها لم يعد محتملا ً...، فثمة حسد، حسد يغيض...، يوخز، ربما سمح لهم باجتثاثها، كي لا تحدث فتنة!
ـ أيحدث الجمال فتنة...؟
قال الثور بعد ان صفن قليلا ً:
ـ نعم، أيتها الأتان العزيزة، انه أكثر الفتن إيلاما ً...، وأذى، ففتنة الجمال الأشد مرارة من القتل!
ـ أنا تحدثت عن الجمال ولم أتحدث عن موضوع آخر...؟
ـ كلاهما، فتنة، توقد ما لا يمكن إطفاؤه!
أجابت الأتان بصوت مرح:
ـ دعك من الجمال، إلا اذا كان علقما ً، فالغزلان مخلوقات وديعات، ظريفات، ناعمات، كأنهن بنات ذاهبات إلى المدرسة!
ـ ربما يكن ارتكبن معصية، أو قمن بالتحريض، أو دارت برؤوسهن خيالات التذمر ...؟
ـ لا أتصور..
لامس الثور جسدها، بعد ان قرب رأسه منها كثيرا ً، هامسا ً:
ـ أعظم السدود تخربها فأرة! وأغنى الأغنياء يقتله بخله!
ـ أنا لا اعتقد!
فكر لبرهة، وأجاب:
ـ هناك احتمال إنهن قمّن بالتخاطر مع غزلان حديقة أجنبية، أو ثرثرن، أو كشفن عن المستور، أو لم يلتزمن بتعاليم سيدنا المدير...؟
ـ لا...، فانا ثور يشم رائحة السكين قبل ان يلوّح بها هذا القصاب.... أو ذاك؟
ـ دعنا من مخاوفك، يا سيدي، فلو أحصيناها فإنها لا تحصى، كالنعم، وأسباب الرخاء!
ـ لم تبق إلا إشاعة واحدة وهي إنهن، في ليلة العاصفة، وعند اشتداد البرد، وهطول الظلمات ممتزجة بالحجارة...، وبعد إعلان النفير، ومنعنا من التجوال...، صعدن إلى السماء؟
ـ ماذا قلت؟
ـ صعدن إلى الأعالي..
ـ وماذا يفعلن هناك؟
ـ هناك احتمالات متعددة، يا سيدتي الجميلة، أما لأنهن غاضبات على إدارة الحديقة، ومديرها العنيد، وأما إنهن تلقيّن دعوة ...، وأما ذهبن للسياحة، أو لأداء فريضة، أو للمؤانسة والاستمتاع، وأما جرت معاملتهن كمعاملة الغرقى، والمحروقين، والمغدور بهم...؟
ـ مع انك تعرف إنني حمارة ذكية، فاتنة، باذخة الحسن، ولم أنجب إلا بغلا ً واحدا ً...، ولم أتورط بالانتماء إلى أطياف الشمال، ولا إلى أطياف الجنوب، ولم تغوني أطياف الوسط، وسواها من الأطياف...، فانا بدأت اشكك...، فثمة وسواس بدأ يوسوس في رأسي.؟
ـ بغبائي؟
ـ لا لم اقصد ذلك، بل قصدت ان الجهل، الجهل وحده، هو الذي يصنع أعظم المعجزات، فهو شبيه بالظلمات التي وحدها تستطيع ان تبصر موقع اصغر عود ثقاب متوقد...!
ـ كي يتم إطفاؤه؟
ـ يا ثوري، لا تدع عقلك النيّر، يبتل بالأوهام، ذلك لأن احتمال صعودهن إلى السماء، شبيه بنزول فيلة أو خراتيت لدك الأرض، ومحونا من هذا الوجود!
انفجر ضاحكا ً، لبرهة، ثم أغلق فمه، وراح يحدق في عينيها العسليتين الواسعتين:
ـ لن أؤذيك بالحديث عن بغلك الابن الذي ذبح فداء ً للذئاب، بل سأتحدث عن الإفراط في حساسيتك، وعن رهافتك المبالغ بها!
ـ وماذا افعل وأنا ولدت حمارة....؟
ولم تدعه يقاطعها، متابعة:
ـ فلم أنجب حمارا ً، مثلي، ليحمل الأثقال، والأوزار، ويجر العربات، وأخيرا ً يصبح نذرا ً للأسود والنمور والتماسيح...، فأنجبت بغلا ً لن يرتكب أخطاء والده الحصان، ولن يرتكب إثم والدته الحمارة!
ـ وهل لا يصعد البغل إلى الأعالي...؟
ـ لا...، لم يصعد ولم ينزل منها ...، بل مزقته أنياب الذئاب، وصار طعاما ً لها...، فقد كان من الصعب، وربما من المستحيل، ان يحصل على أجنحة...، مع إنني بذلت جهدا ً جبارا ً مع النسور، والصقور، والغربان، وسواها من ذوات الأجنحة، فباءت جهودي، وتضرعاتي، ووسائلي المختلفة بالفشل والخيبة.
رآها تبتعد عنه، وسمعها تولول:
ـ لم اقصد إثارة شجونك، واساك...، فنحن ولدنا للمفترسات، خاتمة أعمارنا المقررة قبل ولادتنا...، فهل كان باستطاعتنا التلاعب بالأقدار....؟
استعادت قواها، وقالت بصوت غاضب:
ـ ولا مكان للذئاب في السماء!
وقالت ساخرة:
ـ فقد ترى النمل والنحل والبلابل ولكنك لن ترى النمور والأسود أو الضباع!
أجاب بصوت رزين، هاديء:
ـ اعرف...، ولا مكان للكلاب، ولا مكان للخنازير، ولا مكان للأفاعي أيضا ً...
ـ آ ....، قل كلاما ً يهدأ عقلي المرتبك، المشوش، المضطرب...، وإلا ماذا لو صعدت بنات أوى، والتماسيح، والفيلة، إلى السماء، فأين سنذهب...؟
ـ عدنا نفكر!
وأضاف:
ـ حذار...، فقد تكشفنا أجهزة الذبذبات الذكية..، وتدلهم علينا: عثرنا على ومضات في رأس ثور وفي رأس حمارة في الزريبة المرقمة...، خلف حظائر ...، بجوار أقفاص ....، الأسود!
ـ لا ترعبني..، فأنت، أيها العنيد، مصاب بعقدة السكين! تنام وتستيقظ ولا تتغيب عنك رائحتها! حتى ان طيفها استحال إلى شبح!
ـ أيها الأتان، يا له من مساء كدر، حزين..، شبيه بنهاية العالم.
ـ عدت تفكر...! ألف مرة قلت لك: إذا اكتأبت، أو داهمتك الأحزان، وإذا أصبت بالشرود، أو الذهان، فأذهب حالا ً إلى زريبتك وجد أول بقرة ونزها!
ـ مللت، حتى اسودت علي ّ الدنيا.
ـ للأسف...، أنا اختلف عنك، فانا استطيع فعلها مع أول حصان، بل وحتى مع فيل! لكنك مازلت عنيفا ً، وحشا ً، فأنت أرقى مني.
ـ بماذا أنا أرقى منك...؟
ـ في الأقل، لحمك يباع، وثمنه مرتفع، وجلدك أثمن!
ارتج جسده، وراح يحك جسده بالجدار، بقوة، حتى أدماه. اقتربت منه، هامسة:
ـ لا تغضب...، جلدك لن يذهب إلى المزابل، ولن يحرق، في المحرقة، ولن تتغذى عليه الديدان....، جلدك سيتحول إلى بساطيل في أقدام جنودنا الشجعان!
تهيج، وازداد توترا ً، فهاج، مرة أخرى، وراح ينطح الجدار، حتى كاد يكسر قرنه:
ـ اهدأ ..، أرجوك..، فهذه هي مصائرنا، الحمير، بعد ان حملوا عليها أثقال البشر، أصبحت تعد طعاما ً للعاطلين عن العمل، لحمنا للمفترسات، وجلودك للأحذية!
برك فوق الروث، لدقائق، ثم نهض واقترب منها:
ـ ها أنا أدرك سر غضبك، يا ثوري!
ـ ماذا دار برأسك، أيتها الجميلة، غير صحيح!
ـ ها، وماذا دار برأسي؟
ـ قلت: لا البغال، ولا الحمير، ولا الجاموس، يسمحون لهم برفع رؤوسهم أعلى من حاجز هذه الزريبة!
ـ اقسم بالمدير، وبمساعدته الببغاء، أنت ِ أذكى أتان عرفتها في حياتي.
ـ حمارة تحاور ثور لعلها تغويه!
ـ أسس! بدأت أجهزة كشف الذبذبات تعمل.
ـ إذا ً، أيها الموقر، أين اختفت الغزلان...؟
ـ إنها لم تصعد إلى السماء...، لأن أحدا ً لم يوجه لها دعوة...، ولأنها لا تمتلك أجنحة، ولم يتم اجتثاثها، ولم تمرض، ولم ترسل إلى المحرقة، ولم يسمح لها بالعمل في السيرك ...، فأين اختفت...؟
ـ لو أخبرتك...، ماذا تهديني؟
ـ قبلة!
ـ يا للقمر، ويا للنجوم، ما أبهاهما في حلكة هذا الليل...! ثور يهدي حمارته قبله!
هز رأسه:
ـ حتى لم يعد لدي ّ قرن! غضبي سبب لي النكبات!
فقالت بحزن:
ـ وأنا رهافتي كادت تفقدني عقلي!
صمت برهة وقال لها بصوت مرتفع:
ـ هكذا تغزل اليد بالمغزل غزلها!
ـ ماذا تقصد؟
ـ بالعربي...، الظلمات لا معنى لها إلا بنقيضها...!
ـ غير صحيح، فأنت قلت: شبيه الشيء منجذب إليه؟
ـ أكاد أقول...، أنت مثلي، كلانا اجتاز حاجز الجنون!
ـ لا، لا، لا ، فأنت قصدت: حاجز المحرمات، وكأننا نجونا من الطوفان!
ساد الصمت فترة غير قصيرة، لتسأله بغتة:
ـ لقد ناورت طويلا ً حتى كدت لا تبوح لي بالجواب: أين اختفت، أين توارت، أين ... ذهبت الغزلان، إن لم تهاجر، ولم تهّجر، ولم تصب بداء الخنازير، ولا بالايبولا، ولا بأنفلونزا البلابل، ولا بداء فقدان الذنب، ولم تصب بداء العظمة، وبداء الكلب، ولا بحمى القنافذ...، ولم تذبح فداء ً للقائد، ولم تصعد إلى أعلى الأعالي.....؟
ـ أخاف ان أبوح، يا وردتي!
ـ وهل تراني اعمل مخبرة، وهل حديقتنا تستخدم الحمير لإعلاء مجدها...؟
ـ هذا غير سليم، ليس بدافع الاستحالة، بل لأن حديقتنا لم تعد بحاجة إلى حمير يخبروها بما يحدث...!
ـ أحسنت..، تكاد تخفف من شطحتك، وتطمأن قلبي المضطرب، بهذا الاعتذار.
همس من غير كلمات. فقالت:
ـ فهمت! أنا كنت اعرف ان السيد المدير عقد صفقة خاصة بالغزلان، وأرسلها كي تتجول في حدائق العالم! وهناك من يقول إنها أرسلت إلى المتاحف!
ـ ربما للدعاية ...، ان نفتخر بغزلاننا، وليس بالبراغيث، أو بالديدان..، أو بالصراصير؟
ـ يقال، هناك ألف سبب، ولكن السبب الأول هو: ان السيد المدير باعها! بل ويقال انه باع الحمير والبغال والثيران معها!
ـ لكنه لم يرسلنا.
ـ انتظري ...، فلم يحن زمن سفرنا بعد..!
ـ تقصد، ان السيد المدير، أنقذها، ففي الأقل، لن تذبح ولن تباع ولن تهلك في زرائبها بسبب البرد، أو الإهمال..؟
ـ آ ...، لو أسرع المدير، يا حمارتي، وعجل ببيعنا!
ـ أرجوك ...، ألا تدرك ان الأسى خيانة، والخمول نذالة، وفقدان الأمل جريمة يعاقب عليها القانون!
21/2/2015
الشريف الرضي مطارَد في شوارع النجف-علي حسين
عيد الحب
الشريف الرضي مطارَد في شوارع النجف
علي حسين
أيعقل أن يخرج علينا مسؤول محلي ليقول إن الاحتفال بعيد الحب ممنوع، وان مجلس المحافظة سيخوّل، السلطات الأمنية بمكافحة مظاهر الاحتفال بيوم "الحب"، ستتهمونني بالافتراء على مسؤولينا الأعزاء..وإنني أتجنى عليهم، ولكن صدقوني هذا ما قاله عضو مجلس محافظة النجف هاشم الكرعاوي، في تصريح للمدى نشر في عدد يوم الأربعاء الماضي..
لماذا يا سيد تحرم الناس من ان يحتفلوا على محبة الخير والفرح والحياة.. يقول السيد الكرعاوي " في العام الماضي حصل رقص في الشارع و أغانٍ وتشغيل المذياع بصوت عال ".
ثم يختتم ان "ان مجلس المحافظة يؤيد حرية الرأي والتعبير وممارسة الحريات العامة بشرط ان لا تتنافى مع قدسية المحافظة".
طبعا لا أريد أن أعلق على حرية الرأي والتعبير التي تؤمن بها مجالس المحافظات، فقد اكتوينا بنارها اكثر من عشر سنين عجاف.. أما كوميديا ممارسة الحريات فأعتقد أن حرية التعبير التي كفلها الدستور في طريقها إلى العدم على يد مسؤولي "الشفافية ".. ولأننا نعيش اليوم أجواء عيد الحب الذي لا يريد السيد الكرعاوي ومعه بعض مجالس المحافظات للعراقيين أن ينعموا بيوم من الصفاء والوئام..
فقد تذكرت ما كتبه الفقيه والشاعر أبو الطيب بن يحيى الوشّاء حين سُئل عن الحب فقال: "قلّة النوم وإدمان الفكر وإظهار الخشوع وإعلان الحنين"، وهو التعبير الذي استمده شاعر فرنسا الكبير أراغون الذي كتب لمحبوبته إلزا " إنهم لا يصدقون قولي عن الحب برغم هذا الذي أُعانيه "..
وحين عصفت الأهواء بالإمام ابن حزم خرج علينا بكتاب " طوق الحمامة " سطّر فيه أحوال المحبين لم يعرف مثله كتاب في أحوال العشاق، رقة وعذوبة، وصراحة.. وفيه يقول: للحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
فليس لعيني عند غيرك موقف كأنك ما يحكون من حجر البهتأصرفها حيث انصرفت وكيفما تقلبت كالمنعوت في النحو والنعت
وأن الحب دفع بعالم ونقيب للطالبيين مثل الشريف الرضي ان يسطر لنا قصائد قال عنها زكي مبارك: انها اعظم موسوعة في الغزل كتبت في تاريخ العربية
ومن العجب أن الشريف الرضي جامع موسوعة نهج البلاغة يكتب عن الحب والمحبين بأبيات لم يتحرج فيها، ولم يقل لنا مثل " روزخونيو " مجالس المحافظات إن الحب حرام وبدعة.. وإنما قال لنا في سطور لم يكتب أرق وأجمل منها:
وكنت أظن الشوق للبعد وحده ولم أدر أن الشوق للبعد والقربخلا منك طرفي , وامتلأ خاطري كأنك من عيني نقلت إلى قلبي
وقديما قالوا إن الجنون فنون والعشق فن من فنونه واحتجوا بما حصل مع أبي الطيب المتنبي الذي هام عشقا بخولة أخت سيف الدولة الحمداني: وعذلتُ أهل العشق حتى ذقتهُ..
فعجبت كيف يموتُ من لا يعشقُ
في النهاية أتمنى أن نخرج جميعا الى ساحات الوطن لنحتفل بعيد حبّ العراق..
ولتذهب إلى الجحيم كل فتاوى مجالس المحافظات ووصايا مسؤوليها، فنحن بدون المحبة والخير والالفة سنعيش حتما في عتمة وتصحّر مع مسؤولين مصرّين على أن يورثونا الخراب والجهل والكراهية والطائفية.
المومس في ميثالوجيات المنطقة عبادة الأنثى وقرابين البكارة-بقلم روزا ياسين
المومس في ميثالوجيات المنطقة
عبادة الأنثى وقرابين البكارة
بقلم روزا ياسين
تعرّف الميثولوجيا كمفهوم بأنها مجموعة من الخرافات التي حكتها الأمم البائدة ضمن قوالب من السرديات التخييلية تتناسب مع العصر والمنطقة اللذين خلقت فيهما. لكنها أيضاً، وبصيغة أكثر عمقاً، تعبّر بدقة عن ثقافة عصرها ومعارفه وقيمه (1)، ويمكننا من خلال دراستها اكتشاف التاريخ الأكثر قرباً من الحقيقة. بمعنى آخر هي عاكسة لمجموعة الأنظمة الاجتماعية والثقافية السائدة، ومكثّفة لفلسفات الشعوب ومحاولاتها الفكرية الأولى وتفسيراتها لظواهر الطبيعة غير المفسّرة علمياً.
يمكننا اعتبار الميثولوجيا إذاً بمثابة الرابط بين التاريخ الشخصي والتاريخ الجمعي للمجتمع الافتراضي الذي تخيّله سارد النص، كما يرى إريك فروم في كتابه اللغة المنسية، بالتالي يغدو التاريخ القديم والميثولوجيا وجهين لشيء واحد، مما يجعلنا مضطرين لقراءتهما بشكل متكامل وإلا غدت قراءتنا لأي منهما على حدة منقوصة. وربما كان وصف الميثولوجيا بأنها أشبه بـ: "حفرية حية"(2) شديد القرب من الحقيقة رغم أنها تأكل بعضها وتتناسخ وتتكرر إلا أن لها تاريخاً حياً يمكن قراءته في تفاصيلها التكوينية.
بناء على جملة الأفكار السابقة كان البحث عن تفاصيل تخصّ المومس في الميثولوجيا جزءاً متكاملاً مع تاريخية فكرة البغاء. واستكمالاً لذلك كان من الضروري البحث في الميثولوجيا باعتبارها تاريخاً والبحث في التاريخ باعتباره ميثولوجيا، خصوصاً أن الأخيرة تكتنف حقائق يمكن أن نكتشفها بوضوح إذا ربطناها بشرطها التاريخي.
عبادة الزهرة/ الربة الأنثى:
كما أوردت آنفاً يشكّل توالد الميثولوجيات من بعضها البعض السمة الغالبة التي من الممكن لمسها فيما يخصّ عبادة الأنثى في الشرق القديم، وما نتج عنها من معتقدات وإجراءات طقوسية. ذلك أن عبادة الأنثى كانت أول عبادة في تاريخ الديانات الشرقية، ويمكننا فهم المسألة من خلال التشابه الذي لمسته الحضارات القديمة بين المرأة والطبيعة/ الأم المسيطرة، حيث تتشاركان في الخصب بالدرجة الأولى ومن ثم في تشابه وظائف المرأة البيولوجية مع وظائف الطبيعة(3)، حيث تبدو عبادة القمر وعبادة الزهرة متشابهتين باعتبارهما معبّرتين عن الأنثى وخصائصها. عبادة الزهرة، على سبيل المثال، كانت قائمة باعتبارها ربة اللذة والحب الشهواني، وربما الخصب في بعض الأحيان، وقد نشأت منذ الملحمة السومرية في بلاد الرافدين حين كانت الربة إينانا تتربع على عرش الألهة.
واسم إينانا يعني سيدة السماء، حيث (إن) باللغة السومرية تعني السيدة و(آن) تعني السماء(4). ثم أعاد البابليون صياغة تلك العبادة بربة موازية هي عشتار، ربة العشق وملكة اللذة التي تحب المتعة والفرح، حيث ارتبطت عبادتها بقيمة اجتماعية دينية، ومهنة مثلى إن صح التعبير، تتمثلان فيما سمّي: العاهرات المقدسات، المعروفات باسم عشتاريتو أي العشتاريات(5). أولئك المومسات عملن على وهب أجسادهن في المعابد لكل راغب كطقس عبادة مقدسة. لم يكن الأمر وقتئذ مرتبطاً بالإثم بل على العكس كانت تلك المهنة الأقدم مثار فخر لممتهنتها، حتى أن البغايا المقدسات كن يسمين في بابل: الطاهرات الإلاهيات. مما حدا بالقانون الاجتماعي اللاهوتي السائد إلى وضع عقاب صارم لكل من تسوّل له نفسه الحطّ من قدر أولئك المقدسات(6). أما لدى الآشوريين فقد أضيف إلى صفات الربة عشتار صفة أخرى فأصبحت ربة الحرب واللذة والحب والخصب، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الشعب الآشوري المحاربة.
مع الفتوحات البابلية والآشورية رحلت عبادة الزهرة مع الرافديين إلى سورية، فأصبحت في بلاد كنعان باسم عنات، أو باللسان الكنعاني أنات بمعنى: الأنوثة. أما في فينيقيا شمالاً فقد بقي اسمها الآشوري إستار، ومن هناك عبرت البحر مع التجارة الفينيقية إلى اليونان لتصبح أثينا أو أفروديت، وإلى روما باسم فينوس.
ربما كان تمجيد عبادة الأنثى متزامناً منذ بدئه مع سيطرة المجتمعات المتريركية على الأرض، حيث لم يخضع البشر وحدهم لنزوات الربة بل الحيوان كذلك، حتى استطاعت أن تجبّ اختصاصات سواها من المعبودات لدى السومريين والأكاديين والآشوريين الأوائل. وقد تكون معرفة أهل جزيرة العرب بعلوم ممالك الرافدينوعباداتها قد أتت عن طريق الصابئة الذين وفدوا من العراق نحو الجزيرة، وقد وجد الباحثون مؤخراً أن صابئة الجزيرة العربية هم على مذهب الكلدانيين القدماء(7)، هذا ما يفسر لنا بشكل ما محاولات بعض الأنثروبولوجيين للتأكيد على أن الربة العزى هي الزهرة نفسها، ومنهم فلهاوزن، الذي يعتبر من أكثر المستشرقين المهتمين بعبادات أهل جزيرة العرب قبل الإسلام، وقبله المؤرخ الروماني القديم بروكبيوس. يورد فلهاوزن إنه قد جاء في كتابات اسحق الإنطاكي، في القرن الخامس الميلادي، أن العرب كانوا يعبدون آلهة تسمى (بلتيس)(8)، وهي الزهرة ذاتها أو العزى، حيث كان لها طوطم أو رمز تحمله العرب في حروبها، وهي خاصية تتفق مع خواص الزهرة عند أهل الرافدين. وتمثلت تلك العبادة أيضاً في ثالوث ربوبي أنثوي: اللات ومناة والعزى. وكان لقبائل عاد المندثرة، على سبيل المثال لا الحصر، أصنام يعبدونها تسمى: صداء وبغاء وصمود، ولربما ظهرت لنا معان واضحة لدلالة الأسماء:
لنا صنم يقال له صمود يقابله صداء والبغاء9.
ثالوث اللذة والخصب والعذرية:
هناك اختلافات ينبغي ألا يتم إغفالها بين طبيعة الخصوبة والولادة عند الأنثى/ الربة القديمة وبين المتعة الجنسية والعذرية. أي أن فكرة المتعة الجنسية، التي كانت المومسات المقدسات يهبنها، لم تكن بالضرورة مرتبطة بكون المومس أماً. ففي قيامة أدونيس (تموز) وفي مختلف مناطق الشرق كان على النساء ممارسة البغاء، كطقس خصوبة جماعي، ومن كانت تقبل من البابليات على سبيل المثال بحلق شعرها كانت تعفى من ممارسة البغاء الإلزامي، أي أنها كانت تقدم شعرها نيابة عن جسدها(10). أما الآشوريات فقد كان عليهن أن يذهبن إلى معبد عشتار ولو لمرة واحدة في حياتهن كي يضاجعن غريباً.
يورد أبو التاريخ هيرودوت، المؤرخ اليوناني الشهير، في أحد المقاطع: (وبين هؤلاء القوم (البابليين) عادة مخجلة خلاصتها أن من واجب كل امرأة في هذا البلد أن تذهب مرة في حياتها إلى معبد عشتاروت فتسلم نفسها هناك إلى رجل غريب (...) وعليها الذهاب مع أول رجل غريب يلقي إليها بقطعة الفضة، وعندما تضطجع معه تكون قد أدت واجبها نحو السيدة (عشتروت) فتعود إلى بيتها بحيث يغدو من المستحيل إغراؤها بالمال أو بغيره)(11). أما القطعة النقدية تلك فتبقى في المعبد كقربان للآلهة. إلا أن جان بوتيرو(12) يرى أن هيرودوت كان خاطئاً في كتابه: تواريخ، وبأنه ليس هناك أي أثر للعرف القائل بممارسة جميع نساء البلد للبغاء مرة على الأقل. لكن الميثولوجيا عملت على توثيق اغتصاب الملك جلجامش للنساء، والعذراوات منهن على وجه الخصوص، ويعتقد فراس السواح أن مدينة أور ربما تكون قد عرفت كبعض حضارات شرق المتوسط حق الليلة الاولى(13) وذلك قبل أن ينشغل جلجامش بوهم الخلود وبناء التحصينات والجيوش المقاتلة.
أما في مصر القديمة، وحتى أوائل العصر الميلادي، فقد كانت الفتيات الجميلات من الأسر النبيلة يلزمن وظائفهن تلك حتى يراهقن (ويقصد بها البغاء في المعابد)، وبعد المراهقة كن يتزوجن، وكانت تقام لهن طقوس الحداد كأنهن متن(14).
في السياق ذاته يوثّق ول ديورانت في موسوعته قصة الحضارة: (أن أفضل قربان كان يقدم للزهرة هو بكارة الأنثى. ولم تكن التضحية بالبكارة في الهياكل عملاً يتقرب به من الربة عشتروت فحسب بل كان فوق ذلك مشاركة لها في التهتك الذي يرجى منه أن يوحى إلى الأرض إيحاء قوياً لا تستطيع مقاومته، وأن يضمن تكاثر النبات والحيوان والإنسان)(15)
في محاولة لتفكيك الفكرة فقد كانت تمثّل قيمة أساسية هي عدم ملكية رجل واحد لجسد المرأة. الأمر ذاته يوصلنا إلى ممارسة كانت سائدة هي حق التفخذ، أو افتراع الليلة الأولى، وهي ضرورة فضّ بكارة العروس من قبل غريب قبل زوجها، ثم فيما بعد أضحت حق السيد المالك في التمتع بأي عروس ضمن ملكه في ليلة العرس. وربما كان ذلك مندرجاً ضمن فكرة أن المجتمع يريد إفهام الزوج بأن زوجته ليست ملكية له وحده، وأن البكارة، كما أورد ديورانت آنفاً، قربان رباني للآلهة الأنثى، على الرغم من أن تلك الممارسة استمرت بعد نهاية العصر المتريركي بزمن طويل حتى أن حق التفخذ ظل مبرراً في بعض الإقطاعيات والملكيات حتى نهايات القرن الثامن عشر(16)
رغم كل ما سبق فإن ترابط فكرة الأم والمومس كانت مطروحة، حتى أن هناك الكثير من ربات الخصب كن يعتبرن مومسات، وتمارس شعائر عباداتهن في المعابد على هذا الأساس. وفي الميثولوجيا الفرعونية تمثل الربة إيزيس، وهي ركن من أركان الثالوث الفرعوني المقدس (أوزيريس/ إيزيس/ حدد)، فكرة الأم والمومس معاً، فهي امرأة سماوية ترمز لكل ما هو نسوي، وكذلك هي عذراء أتت بابنها حدد دون زواج، وهي مومس فاتنة في النهاية(17). وفي الفكرة ذاتها يرى فراس السواح أن لقب الربة عشتار كان العذراء والعذرية جوهرها (على الرغم من أنها ترمز للجنس والحب والإخصاب فهذا الجوهر الذي لا يبدده لقاء عابر ولا حمل ولا ولادة، وتبقى عذريتها رغم إخصابها الأبدي الذي لا يمسه عرض زائل)(18)
وهي في صفتها الأرقى، إضافة إلى صفاتها السابقة، معلمة للمتعة الجنسية: (هي التي بنفختها البارعة، تخترق الدم والروح لتمارس على النسل تأثيرها الخفي. عبر السموات، وعبر الأرضين، وعبر البحر الأسمى، شقت طريقاً لا تتوقف عن إغراقه ببذور الحياة [...]، وبناء على أمرها، تعلّم العالم كيف يتوالد)(19). ويبدو متكرراً في الميثولوجيا السومرية والبابلية وغيرها من الميثولوجيات القديمة فكرة أن الربة الأنثى تعلّم فنون الحب والخصب للناس الفانين. ومن المعروف كيف بعثت الربة عشتار بمومس فاتنة ومجرّبة لتهذب وحشية أنكيدو في ملحمة جلجامش، حيث علّمته وظيفة المرأة وجعلته يقع في حبها(20)
لكن ربات اللذة في النهاية كن مرتبطات بشكل من الأشكال بالخصوبة الكونية، فأفروديت تعني البطن، واسم عشتار من ذات الكلمة Ush-tar بمعنى رحم Uterus. والجذر السامي Q.D.SH بمعنى مقدس، وهو على الأخص عبارة تعني الخصوبة، وبصورة خاصة أكثر الرحم L'Uterus قدس الأقداس من المرأة والمعبد الداخلي من الهيكل(21).
البغاء كوظيفة مقدسة:
الجزء الأساسي من عبادة ربات الحب واللذة والخصب كان البغاء المقدس، كما قلت آنفاً، حتى أن المعابد التي مورس فيها ارتبطت بالنذور وفاء لأرباب وربات الحب: آمون في قصر حريمه في طيبة، ومردوك وعشتار في بابل، ويهوه في أورشليم وغيرهم، كلهم جنوا المال من وراء ممارسة البغاء، فقد كان أشبه بوظيفه دينية منها بأي شيء آخر2(22)
بالنسبة لجيمس فريزر فإن الدالة الكبرى على كون البغاء وظيفة دينية أكثر منها وظيفة اجتماعية هو ممارسة النساء المتزوجات للبغاء المقدس، وذلك في هيليو بوليس (بعلبك) وفي بابل وبيبلوس. ويقول النبي حرزيا: (إن صبايا اليهود المتزوجات كن يزنين في الهياكل المشيّدة على قمم التلال، في ظلال أشجار السنديان والحور)، ولا يذكر أن العذارى يشتركن في حفلات الفجور هذه.(23) وفي أسفار التثنية، الأحبار، الملوك الأول نرى أن إسرائيل قد مارست طقوس الزنا المقدس: (تحت كل شجرة خضراء)(24). أما أجور البغايا المقدسات في فلسطين، كما غيرها من البلدان المحيطة، فقد كانت تقدم للإله كحقّ من حقوقه، إذ كان يفرض الجزية على النساء والرجال وعلى القطعان والحقول. حيث يخبرنا الكتاب العبراني إنه كان في الهيكل بغايا وبغاة مكرسين للطقوس الدينية ولخدمة يهوه، الذكور يسمون بالعبرانية (قادش) والإناث (قادشاه)، حيث تجلب المتع الجنسية التي يوفرونها للقادمين دخلا للقيام بواجبات الهيكل. وقودشيم أو قادوش قد تعني أيضاً لواطيين كانوا يقومون بالعمل ذاته. من المفسّر اليوم أن يتم ذم الموضوع في الكتاب العبراني، لكن من المفيد معرفة أن كلمة (قادش) العبرانية كانت تعني: المقدّس. أما حين ستبدأ الأنظمة الأمومية بالانحسار، في فترة زمنية لاحقة، فسيتم تحريم إدخال المال من البغاء إلى المعابد. ويرى جيمس فريزر(25) أن الرجال المقدسين في هيكل أورشليم أيام المملكة اليهودية عملوا على حظر إدخال أجور البغاء إلى بيت الله، ويبدو من الواضح أن الإجراء كان موجهاً ضد عادة متبعة.
يروي هيرودوت، في خدمة للفكرة ذاتها، أن الفرعون شيوبث دفع ابنته هونتسن إلى البغاء في أرض مصر القديمة، وذلك لكي تجمع له الأموال اللازمة لدفع أجور عمال الأهرام. وهونتسن التي فكرت أن تترك للأجيال القادمة إرثاً منها طلبت، إضافة إلى الثمن المطلوب من قبل والدها، أن يقدم كل رجل يعاشرها حجراً، وبواسطة تلك الحجارة المتزايدة شيّدت هرماً صغيراً وسط مجموعة الأهرامات الثلاثة(26). الهرم ذاك غير موجود الآن، لكن وجوده الفيزيائي ليس هو المهم بل الفكرة التي تؤدي إلى أن البغاء مورس من أجل الملكية أيضاً وليس كطقس للعبادة فحسب أو وفاء للذة المقدسة.
أما في الجزيرة العربية قبل الإسلام فكان يمكن لمجموعة من الرجال أن يتشاركوا في الزواج من امرأة، حيث تضع علماً على باب خيمتها للدلالة على رغبتها المقدسة، ويعاشرونها حتى تحبل وتلد، ثم تنتقي المرأة الزوج الذي تريده لتتزوجه، وينبغي عليه أن يخضع لرغبتها وانتقائها. لكن ثمة معلومة ربما عملت على إثارة بعض الأسئلة لدينا وهي أن جذر كلمة (قحبة) في اللغة العربية، والتي لا تعني اليوم سوى الفاجرة الفاسدة أو البغي، آت من سعل وبمصدرها سعال، وربما كان المعنى مرتبطاً بأنه كان على الرجل الجاهلي الراغب في معاشرة المرأة أن يسعل على باب خيمتها قبل الدخول للدلالة على حضوره، ثم حرّف معنى الكلمة من ضمن كثير من التحريفات المضادة للمرأة وطقوسها قبلاً.
الجزء الثاني
الهوامش:
1 - انظر كتاب الأسطورة والتراث، سيد القمني، المركز المصري لبحوث الحضارة، ط3 القاهرة 1999، ص25
2 - المرجع السابق، ص25
3 - انظر لغز عشتار، فراس السواح، دار الكندي للترجمة والنشر ط3 1988.
4 - انظر طقوس الجنس المقدس عند السومريين، س. كريمر، ت: نهاد خياطة، ط2 دار علاء الدين، دمشق 1993
5 - الأسطورة والتراث، مرجع مذكور، ص75، وكذلك انظر لغز عشتار، مرجع مذكور.
6 - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
7 - انظر في طريق الميثولوجيا عند العرب، محمود سليم الحوت، دار النهار، بيروت، ط2 1969، ص82
8 - الأسطورة والتراث، مرجع مذكور، ص85-86
9 - انظر الفلكلور والأساطير العربية، شوقي عبد الحكيم، دار ابن خلدون، بيروت 1978، ص 95
10 - لغز عشتار، مرجع مذكور.
11 - انظر تاريخ الله، جورجي كنعان، الندوة الكنعانية، دمشق، ط2 1990
12 - انظر بابل والكتاب المقدس، جان بوتيرو، محاورات مع: إيلين مونساكريه، ترجمة روز مخلوف، دار كنعان، دمشق 2000، ص212
13 - انظر ملحمة جلجامش، فراس السواح،
14 - انظر أدونيس أو تموز، جيمس فريزر، ت: جبرا ابراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2 1979، ص71
15 - انظر ول. ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران، الإدارة الثثقافية بالجامعة العربية، القاهرة ط3 1961 المجلد الأول.
16 - انظر العشق الجنسي والمقدس، فيليب كامبي، ت: عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق 1992، ص31
17 - المرجع السابق، ص 22، وكذلك انظر أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة، د. سيد محمود القمني، دار الفكر، القاهرة، ط1 1988
18 - انظر مغامرة العقل الأولى، فراس السواح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1 1976 والطبعة اللاحقة الصادرة عن دار الكلمة، بيروت 1980، ص247
19 - العشق الجنسي والمقدس، مرجع مذكور، ص22
20 - أسطورة جلجامش، مرجع مذكور.
21 - العشق الجنسي والمقدس، مرجع مذكور، ص120
22 - المرجع السابق، ص35
23 - أدونيس أو تموز، مرجع مذكور، ص22
24 - من سفر التثنية.
25 - أدونيس وتمور، مرجع مذكور، ص 60 وص 70- 71
26 - المرجع السابق، ص 39
الجمعة، 20 فبراير 2015
في ذكراه/ فصول من كتاب نصب الحرية لجواد سليم ملحمة شعب وذاكرة حضارة*-عادل كامل
في ذكراه/ فصول من كتاب
نصب الحرية لجواد سليم
ملحمة شعب وذاكرة حضارة*
عادل كامل
القسم الرابع
[7]الجذور ـ والتواصل
هل يخبيء نصب الحرية، بعد أكثر من نصف قرن (1961)، من إقامته، أسئلة تبحث عن إجابات، أم انه سيقترح إجابات تستدعي أسئلة جديرة بالمناقشة ..؟ هل هو خلاصة حياة فنان، أم مقدمة لمصير سيمتد بعده ..؟ وهل النصب، بأجزائه، وتكويناته، مرآة للشعب، وأصبح (الثائر/ الجندي) مفتاحا ً له، أم انه رؤية جدلية تعبر نحو ما لم يدشن بعد ..؟ هل شيّد النصب بدافع الضرورة، بمعنى الحتمية، أم كان اختيارا ً استمد شرعيته في الحضور بواقعية الرؤية، بخزينها العميق، ومنهجيتها الجدلية، كي يرتقي إلى الأسطورة: إرادة تتضمن ديناميتها، ولا تتطلب المزيد من الشرح، ومن التأويل ..؟
لا مناص كان العراق (الحديث) بانتظار علامة دالة نهاية عهد، والدخول في عهد آخر؛ علامة ستبقى، بعد الحدث ـ 14 تموز عام 1958 ـ مثلما ترتقي العلامة لأداء دورها التوليدي للعلامات ـ الأحداث، ذلك لأن النصب لا يرتد إلى الماضي، كي يقص حكاية ما من الحكايات، بل يتضمنها، بالدافع ذاته الذي شغل (جلجامش)، لا بحثا ً عن الخلود، وما هو ابعد من الحياة، بل في مواجهة الغياب، والبحث عن حياة لم تتحقق بعد، فالملحمة ـ إن كانت تضمنت نسق الأسطورة أو واقعيتها في الحاضر ـ لا تكف عن إنتاج مصيرها لدى الآخرين، الجمهور، عامة الناس، وقد أصبحت نصا ً فنيا ً مفتوحا ً، معدا ً للقراءة، على مدار الساعة. إذا ً فإننا إزاء وظيفة معرفية تؤديها (الملحمة/ النصب ألجداري) بالدرجة الأولى، في الأداء، وفي بلاغته. ذلك لأن الفن ـ في حضارة وادي الرافدين ـ كالزراعة، العلم، الحكمة، التعليم، والثقافة ـ هو جزء من البناء المجتمعي بمعناه البنيوي للتربية ـ وللجمال ـ معا ً، ولا يمكن استبعاده، أو عزله عن أقدم ديمقراطية تأسست في بلاد سومر،(1) ومنحت الشعب؛ من المرأة إلى الشيخ، ومن الطفل إلى المعلم، ومن الشجرة إلى المعادن، حق المحاورة، ونبذ الأحادية، حتى ان اعقد الأسئلة الانطولوجية، الخاصة بمعنى الحياة والموت، تمت مناقشتها وفق المنطق، القائم على التجريب، والبراهين، والأدلة، وعلى الوضوح أساسا ً.
فالفن الرافديني ـ وكلمات اندريه مالرو توضح مدى إعجابه به حتى انه تساءل ماذا سيقول رواد الحداثة الأوربية وهم يشاهدونه ـ (2)هو فن الشعب، في رصد ادق تفاصيل حياته اليومية، مانحا ً الفن موقعه، مع الكتابة، وباقي المخترعات المستحدثة، قدرة على: التجدد ـ عبر البناء ـ وليس عبر الإعادة، والتكرار. ولهذا كانت كموضوعات الفنان ـ وطرقه في التنفيذ ـ قد أسست أقدم علاقة ديالكتيكية بين الفرد والنظام برمته، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبين التصوّرات، والأعراف. فحتى في اعقد المعضلات كانت البلاغة تستقي نظامها من الوعي الجمعي، يؤدي الفنان فيه كماله في بلوغ الذروة: حرية التعبير.
وقد لا يكون عمل جواد سليم في المتحف العراق الآثار، إلا محفزا ً له ـ مع انه شكل خبرة بصرية وصورية ذات اثر في أسلوبه ـ للتشبث بالحقيقي، كجوهر، وهو (العدالة) التي تمثلها الخطاب الفني. ذلك لأن دراسات الفنان للفن، نشأت وتبلورت عبر سياق التيارات الأوربية، مما شغله، كعراقي، ألا يفقد (هويته)، فهو حريص بالعثور على ذلك (الغائب/ الكامن) عبر مراحل الزمن، والذي لا يعلن عن حضوره إلا بما دعاه احد النقاد السوفيت، بالواقعية في شموليتها، وليس على صعيد الأسلوب حسب.
ولعل الباحث يجد لدى جواد سليم، تجارب متفرقة تنقصها هذه الواقعية؛ تجارب تفاعلت مع التيارات العالمية ـ حد المطابقة أو الحافر على الحافر بحسب الجاحظ ـ إلا ان جواد سليم، في وعيه العميق، كان يدرك ان مسؤوليته تتطلب العبور من (التأثر) إلى ما يصنعه هو. فالفن، هنا، صناعة، ليس بصفته مستحدثا ً، وإنما لأن (الحديث) هو حلقة لا مرئية في جسد الملحمة، وتاريخها.
ولم يكن لدى جواد سليم ـ وقد درس عميقا ً جدلية المخيال لدى معاصريه الأوربيين ـ إلا بالحفر في العناصر ذاتها التي أنتجت علاماتها، عبر العصور، مكانا ً وزمنا ً، وبايكولوجية قائمة على أنظمتها الهندسية، ومشفراتها، كي يستمد من (الختم) كل ما سيبقى مولدا ً للدهشة: في استقصاء التكوين، وعناصره، وفي ما هو ابعد من الوظيفة ـ وموضوعاتها.
فعندما لم يجد الفنان متحفا ً مكتشفا ً إلا توا ً، عبر التنقيبات الحديثة، في حضارات وادي الرافدين، لم تصبح (حداثات) أوربا إلا محفزا ً له كي يخرج من صخبها، ومتاهاتها، ويتقمص دور النحات العراقي، كبنّاء، في رؤيته الفنية، والجمالية.
فنحن إذا ً ـ في ساحة التحرير، وبغداد أدركت إنها استعادت قلبها ـ إزاء (ختم) دوّن فيه الفنان خطابها المعاصر، وليس الحديث حسب.
فإذا كان الختم القديم لم تتجاوز مساحته إلا بضعة سنتمترات، فان ختم نصب الحرية، لن يستطيل ويمتد إلى خمسين مترا ً فحسب، بل سيشغل مساحة المخيال لدى الملايين وهي تحلم ان الحرية ليست إلا إرادة عمل؛ إرادة بناء ـ كتنمية بشرية بالمعنى اليوم ـ وان النصب، لم يستمد ديناميته، إلا منها.
وليس محض مصادفة ان ينجز الفنان، عددا ً من العلامات المهمة: كشعار الجمهورية، والعلم، وعددا ً من التصاميم الأخرى للنقل، والنفط، والطب مثلا ً، لأنها، في هذا السياق، تمثلت الواقعية منهجا ً لها لإنتاج العلامات، التي شكلت، في الأخير، خصوصية الفن؛ هويته، ورسالته.
____________________________________________-
* الكتاب صدر عن مؤسسة الأديب/ عمان ـ 2014
1 ـ يكتب عالم الآثار س. ن. كريمر: " كانت الجمعية التأسيسية الأولى في تاريخ البشر قد اجتمعت في سومر في الآلف الثالث قبل الميلاد، وهي لا تختلف عن مثيلاتها في وقتنا الحاضر، كما تقول الوثيقة، حيث إنها تتألف من مجلسين: احدهما مجلس الشيوخ، والآخر هو مجلس الشعب من المحاربين أو حملة السلاح.." كأقدم أو أول حكم ديمقراطي في العالم. انظر: س. ن، كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الاصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. الموسوعة الصغيرة ـ العدد(77) وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 ص 21
2 ـ يقول الكاتب والروائي الفرنسي اندريه مالرو، في مقدمته لكتاب [سومر ـ فنونها وحضارتها] ـ الصادر عام 1960ـ: " لو ان ديلاكروا اطلع، قبل مائة سنة بقليل، على الأعمال المصورة في هذا الكتاب ـ يقصد بلاد سومر ـ، لما استطاع ان يتبينها لأنها كانت خارج نطاق تصوره.." ويشخص: "كانت الوظيفة الثابتة لهذا الفن من أور إلى لكش واحدة من أسمى الوظائف التي يستطيع الفن ان يؤديها. إنها وظيفة النظام المقدس على المنظور، كما إنها كانت صفة تنسيق كوني. وكان هذان معا ً يواجهان هيبة الناس ويحررانها من فوضى المظاهر. فقد كان غرض هذا الفن ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي تساعد الناس على الدخول في صلات وثيقة حميمة مع آلهتهم، وهكذا يتضح ان هذا كان هو الغرض الذي لم يدركه الفنان مثلما لم يدرك القديس قدسيته) . أندري بارو [ سومر ـ فنونها وحَضارتها ] ترجمة:د. عيسى سلمان وسليم طه التكريتي. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1979 ـ المقدمة.
[8] قراءات ـ مقاربة مع النصب
سيبدو إجراء ً لا يخلو من التعسف لو أعدنا قراءة النصب، بدافع إجراء مقاربة بينه وبين المتلقي، وكأن دور (الكتابة) يتوقف عند حدود لا تتجاوز الوساطة، أو كما قال جواد سليم، بتندر، وهو يواجه صعوبات مع المشاهد (العادي) الذي لا يذهب ابعد من سطح العمل، إن كان منظرا ً للغروب، أو محض حياة جامدة. كالقول: لقد وضع الفنان الجندي كي يحطم قضبان السجن، ليذكرنا، بقول جواد عندما يرى المشاهد صورة لتفاحة فيخبره أو يكتب تحتها شرحا ً يقول: هذه تفاحة، أي ليست حصانا ً!
فإذا كان الفنان نفسه قد شعر بالمسافة بين عمل الفنان، والمتلقي، وأثرها في الرؤية الفنية، فإنها، بشكل أو آخر، ستؤثر في الفنان، في نفسيته، أو في أسلوبه.
ومازلت أتذكر، شخصيا ً، ما قاله احد المارة وهو يشاهد الجزء الأول، حاملة الشعلة، في ساحة التحرير، إنها تشبه (ضفدعا ً)! أو كائنا ً خرافيا ً، ولا تصوّر الثورة.
هذه الهمسة، وسواها، لم تغب عن آذان جواد سليم، لتعجل ـ ربما ـ مع النوبة القلبية، برحيله.
إذا ً ستكون أية محاولة في: الشرح، القراءة، الانطباع، التأمل، المقاربة، أو التأويل إسهاما ً للإضاءة، للخارج، وللحفر في الداخل، معا ً، بردم ـ الفجوات ـ ما بين النصب ـ النص الملحمي ـ وكل من تتجدد لديه رغبة التواصل، وديناميتها.
ومثل هذه التعددية في القراءات، هي الأخرى، لا تتحدث عن نص مركب، بطابعه الملحمي، وما خبأ في النصب ـ وأنا سأستخدم (دفن) في سياق قراءتي له ـ من بذور، وأفكار، فحسب، بل كي تنبت، لدى المتلقي، عند كل قراءة، مغزى ديمومة النصب، في مواجهة تحديات الزمن، وتحولات الذائقة، كعلاقة جدلية، وجمالية، بين الفنان والآخر.
فإذا كان النصب، كما يبدو للوهلة الأولى، نصا ً غير قابل للحذف ـ أو الإضافة، فان مهمات المتلقي ستشكل امتدادا ً لكل ما خبأه النصب، من رموز، ومعان، وحالات، وإشارات، وهواجس، هي في الغالب، عبر العلامات، والمعالجات التكنيكية، والتقنية عامة، تتضمن مشفراتها، اللاواعية، عبر مفهوم دينامية الفن عبر الأزمنة، والمتغيرات الحضارية.
فالتجدد، والتجديد، لن يضع فجوات بين النص الفني وعمليات القراءة ـ بتنوعها ـ بل يضاعفها، لكن ليس لصالح القطيعة ـ كالتي حصلت بين آخر الجداريات الكبرى في بابل وأشور، قبل ألفين وخمسمائة عام، وبين الشروع بإقامة النصب، عام 1959، قبل افتتاحه بعام ونصف ـ وإنما من اجل المفهوم ذاته لمغادرة (ديموزي) عالم الظلمات، السفلي، بأعياد الربيع، وهو تأويل لن يتقاطع مع سياق آليات الولادة ـ الثورة، بعد الكمون، أو الدفن.
وكي تكون لهذه القراءة، هنا، إسهاما ً شبيها ً بتسليط الضوء، من جهة، واستذكارا ً للقراءات السابقة، من جهة ثانية، وإعادة حفر في مكونات النصب ومخفياته، من جهة ثالثة، أجد لا مناص من عدم إغفال ذلك.
فيذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، ان جوادا ً، بعد تكليفه بتصميم النصب، وفي غمرة نشوته، وجد: " ان الأنظار تتجه إليه ليجسد الحلم الذي راوده لسنين طوال. لم يكن هناك أي تردد: لقد طلب إليه المسؤولون، بعد الثورة بأشهر قلائل، ان يصمم نصبا ً للثورة لكي يقام في ساحة التحرير ـ اكبر ساحات بغداد ـ وأعطي مطلق الحرية في التعبير ـ والحرية بالضبط هي ما كان يخشى ألا تجود به الدولة، وهي التي أصر عليها قبل كل شيء. لقد وجد نفسه ذات صباح يجابه موضوعه الكبير: له ان يصوغه في الشكل الذي يريد، بمطلق الحرية، وتنفق على تنفيذه الدولة" (1)
وإذ راح يفكر بالتفاصيل، ازدحمت في ذهنه مواضيعه الأثيرة لديه، والتي ستجعل منها دراما، أو ملحمة، تنطق بلسانه، كما تنطق بلسان الشعب. ويضيف الأستاذ جبرا " وفي الوقت نفسه، كان عليه ان يبلور في شكل نهائي وحاسم نظرياته المتنامية حول الأسلوب العربي، العراقي، المعاصر, وهكذا كان عليه ان يوفق بين حاجة الدولة وحاجته، بين مطامح الجمهور ومطامحه، بين حسه ألزماني وحسه المكاني، بين فهمه للتاريخ وفهمه للمستقبل" (2)
ولكن جواد سليم لم يقدم للمسؤولين في بغداد ـ وهو في فلورنسا ـ أي تخطيط او مصغر للنصب، فيما عدا مصغر عريض الخطوط للقسم الأوسط منه، الذي يصور قفزة الجندي، و (الحرية) حاملة المشعل ...، وهكذا كانت الثقة مطلقة بما سيصنع من نحت. ويذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا (لا بد من القول ان رفعة الجادرجي، صديقه واحد المعجبين بفنه، كان له الدور الأهم في ذلك كله، إذ ْ كان احد كبار المسؤولين عن إقامة النصب" (3)
وسينجز الفنان ملحمته، في سنة ونصف، وهي مدة قصيرة جدا ً، فضلا ً عن الصعوبات التي عاناها الفنان، في انجاز النصب، بعد ان ضاع الجزء الأوسط منه ـ المفكر السياسي، الجندي، الحرية ـ ولذا فانه أعاد صنع هذا الجزء من جديد في استديو محمد غني حكمت بروما، أما الأجزاء الأخرى من المصغر فقد نحتها فيما بعد في فلورنسا.
مرض جواد سليم، ومكث ثلاثة أشهر في المصح، ثم عاد ليواصل عمله، ويتم انجازه ، ويأتي إلى بغداد، ليدخل المستشفى، مرة ثانية، وأخيرة، لتفجع بغداد برحيله، وكان في الـ 42 من عمره، بتاريخ(23 كانون الثاني 1961)، وسيزاح الستار عن نصب الحرية في: 16 تموز من العام نفسه.
1 ـ جواد سليم ونصب الحرية، مصدر سابق ص 75
2 ـ المصدر نفسه، ص 75
3 ـ المصدر نفسه، ص 78
عراق الحلم - آمال الزهاوي
عراق الحلم
آمال الزهاوي
مهما طوفتُ بعيداً
ورحلتُ .. وجئتُ
بعدتُ .. قربتُ
لكني اعرف اني اتدفؤ فيك
بلحافك عند البردْ
فانام قريرةَ عينٍ
في القرب او البعدْ
اعرف انك جوري الورد
مااسعدني حين تنام بقلبي
جمبدة الوعد
وانا اتدفؤ من الق الجوري ّ
بظل السعد ْ
اتنسم ُ من عطره في القربِ او البعدْ
فما ابهاني
وما اسماني حين انامُ على نهرين ِ حبيبينِ يموتانِ من العشق
ويقتربانِ هنا في بغداد ويختصمانِ .. ويبتعدان
ويسيران مليّاً
يلتقيان معاً
ويعطي هذان الاثنان وليداً رباني
يحبو في وجلٍ
برؤى طفلٍ فتان
يزهو من خلل الوصل
فما ازهاني
هل يوجد في الكون
مكانٌ كمكاني ؟
بغداد 7/3/2008
آمال الزهاوي
مهما طوفتُ بعيداً
ورحلتُ .. وجئتُ
بعدتُ .. قربتُ
لكني اعرف اني اتدفؤ فيك
بلحافك عند البردْ
فانام قريرةَ عينٍ
في القرب او البعدْ
اعرف انك جوري الورد
مااسعدني حين تنام بقلبي
جمبدة الوعد
وانا اتدفؤ من الق الجوري ّ
بظل السعد ْ
اتنسم ُ من عطره في القربِ او البعدْ
فما ابهاني
وما اسماني حين انامُ على نهرين ِ حبيبينِ يموتانِ من العشق
ويقتربانِ هنا في بغداد ويختصمانِ .. ويبتعدان
ويسيران مليّاً
يلتقيان معاً
ويعطي هذان الاثنان وليداً رباني
يحبو في وجلٍ
برؤى طفلٍ فتان
يزهو من خلل الوصل
فما ازهاني
هل يوجد في الكون
مكانٌ كمكاني ؟
بغداد 7/3/2008
رحيل الشاعرة العراقية آمال الزهاوي - كانت تعيش شبه عزلة لظروفها الصحية اخر حوار صحفي مع الشاعرة الراحلة آمال الزهاوي عبد الجبار العتابي
كانت تعيش شبه عزلة لظروفها الصحية
اخر حوار صحفي مع الشاعرة الراحلة آمال الزهاوي
عبد الجبار العتابي
رحيل الشاعرة العراقية آمال الزهاوي
بغداد: اجرت (ايلاف) حوارا مع الشاعرة العراقية آمال الزهاوي قبل رحيلها بوقت قصير،هو الحوار الأخير لها قبل ان تتدهور حالتها الصحية، كان عبر (الفيس بوك) لانها كانت ترفض استقبال احد للظرف الصحي الذي تعاني منه.
بهدوء.. ودون ادنى ضجيج،وبعد صراع طويل مع الأمراض والأوجاع والانزواء، رحلت يوم الاربعاء الحادي عشر من شباط / فبراير 2015 الشاعرة العراقية الكبيرة السيدة آمال الزهاوي عن عمر 69 عاما في احد مستشفيات بغداد، رحلت بهدوء مثلما عاشت سنواتها بهدوء وبعيدا عن الاضواء،منغمسة بالقراءة وكتابة الشعر فيما اتاح لها الانترنت فرصة في التفرج على العالم بعد ان احاطت نفسها بما يشبه العزلة،وعبر الانترنت كانت فرصة الحوار معها بعد ان كانت حالتها الصحية الصعبة تحول دون فرصة الحوار وجها لوجه، ويبدو انها لا تريد ان تثلم كبرياءها خاصة انها بشلل نصفي ومقعدة.
امال الزهاوي تعد من اشهر الاسماء التي تصدرت المشهد الشعري في العراق بعد الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة، وظلت تتوهج بالشعر وتعيش متعته وتواصل حياتها فيه على الرغم من الظروف الصحية الصعبة التي تحمد الله عليها.
وعنها بعد اللقاء كتبت عنها هذه المقدمة للحوار:
على الرغم من ان وضعها الصحي متعب وسنواتها الاخيرة مثقلة بالعذابات بعد ان داهمتها الجلطة التي منحتها (كرسيا متحركا) و (يدا) مثقلة و (لسانا) لا يقوى على النطق الا قليلا، الا ان الشاعرة آمال الزهاوي لا زالت تنبض بالشعر وليست غائبة عن المشهد الا برضاها لانها لا تتواجد في كل الامكنة كعادتها،منعزلة قليلا لكنها منشغلة بشعرها الذي اصبح عالمها السري والسحري والذي تجد فيه متعتها ولها فيه مآرب اخرى تعبر فيها عما يختلج في نفسها فتنشره دون تردد، فهي واحدة من الشاعرات العراقيات اللواتي تركن بصمة واضحة على الشعرية العراقية، شاعرة مميزة مسيرتها الشعرية والحياتية بالكثير من المميزات التي يحفظها لها الكثيرون، وتؤكد انها منذ انطلاقتها وصدور اول مجموعة شعرية لها عن دار العودة في بيروت عام 1969 ترفض ان يقدم لها شاعر او كاتب مجاميعها الشعرية.. وما اعتادت ايضا ان تقوم بعملية التعريف والتحليل لنتاجاتها، لانها تترك للاخرين حرية البوح والتحليل والقراءة لكتاباتها، هنا حاولنا اخراجها من عزلتها الاعلامية وحاورناها.
اين انت الان؟،الا ترين انك غائبة عن الاضواء،ما سر اعتكافك؟
- انا في العراق، لا.. لست بغائبة عن الاضواء انا هكذا لا اتواجد كثيرا منذ بداياتي.
- كم ديوان شعري اصدرت؟ واي منها تشعرين انها الانضج بالنسبة لك؟
. 12 ديوانا صدرت وكلها بالنسبة لي ناضجة لكن الاقرب لي هو ديوان الشتات-
- لك ديوان يحمل عنوان (فيوضات) ماذا تقصدين به وهل ثمة اسرار وراءه التسمية؟
- الفيوضات هي تجليات روحية وفيها نفس صوفي.
- ما ابرز المراحل في مسيرتك الشعرية ولماذا؟
- كل مرحلة هي بارزة في وقتها لكن الان اشعر بالنضوج الشعري اكثر وبالعمق الفكري فمثلا البدايات كان فيها عذوبة ونفس عاطفي اكثر والان الطعمق الفكري والحس الوطني هو الطاغي في شعري الان
- ما المواضيع التي تتناولينها في قصائدك / وهل اختلفت بين مرحلة واخرى؟
- تناولت مواضيع مختلفة ومتشعبة وكثيرة تدخل فيها الاساطير والرؤى والاقنعة والروحانيات ومواضيع عديدة كلها لها طابع فكري فلسفي.
- استوقفني عنوان لمجموعة شعرية لك (آبار النقمة) الا ترين انه ليس شعريا وصادما؟
- لان واقع العراق صادم وهويتنا والاحتلال وماحدث بعده من تناقضات وهو ادق عنوان لهذه المرحلة التي احد اسبابها ابار النفط ومافيها من نقمة، اليس هذا العنوان اكثر العناوين دقة واستجابة لهذا الحدث الصادم؟
- اينك من قصيدة النثر، ما رايك بها؟
- ان الموسيقى شيء مهم في الشعر وانا اعتبره من ضروراته والموسيقى عندي سهلة استطيع ان اكتب بموسيقى شعرية واستطيع التعبير بدقة عن الافكار التي تدور في راسي فلماذا افقد شعري موسيقاه؟ ان الكثير من الذين يكتبون قصيدة النثر ليست لديهم القدرة الموسيقية في التعبير عن افكارهم ولكن هناك بعض الاسماء التي تعبر بقصيدة النثر بشكل جميل وفيه صور شعرية مدهشة زلغة مكثفة معبرة ومطواعه وهذا هو المطلوب في قصيدة النثر.
- اي الاشكال الشعرية تمنحك حرية البوح؟
القصيدة هي التي تفرض شكلها واستطيع من خلال هذا الشكل الذي اختارته لي الفكرة حرية البوح.-
- هل وراء اهتمام بالاسطورة سر ما؟ هل انتهى لديك هذا الهاجس؟
- في البداية كنت استخدم الاسطورة بكثرة وكنت احس بها وكانت تاتيني بشكل طبيعي حتى اصير جزءا منها حيث كنت اتمثلها، كنت احب الاساطير ومنها الاغريقية والاساطير العراقية القديمة والان هو لم ينتهي تماما موجود لكن بشكل ا فمثلا استخدمت كلكامش في قصيدتين احداهما قديمة في قصيدة العائدون من بحار الموت والثانية في قصدة من رحلات كلكامش وكل منها تعبر عن جانب من الاسطورة.
- ما الذي تجدينه في الشعر ولا تجدينه في الرواية او القصة مثلا؟
- الشعر هو تنزيل مكثف كانه ياتي من السماء اما القصة فهي لقطة من الحياة اما الرواية صورة مجسمة عنها.
- اصبحت قصيدة النثر هي الغالبة... برأيك لماذا؟
- ان كنت تقصد انها الاكثر رواجا، فذلك لانها بسيطة وسهلة.
- هل تعتقدين ان الشعر العمودي والشعر الحر ما عادا يناسبان عصرنا الحالي ولماذا؟
- لا ابدا شعر التفعيلة هو اكثر شاعرية من جميع الاشكال حيث لاتفقد القصيدة موسيقاها وابداعها والشعر العمودي في بعض الاحيان يكون معبرا عن حالات معينه فلكل لون جاذبيته.
- هل تجدين ان الاصوات النسوية الشعرية تطورت او تغيرت ام مازالت في الظل؟
- تطورت الاصوات النسائية بشكل كبير ولدينا شاعرات لا يقل مستواهن عن ا لشعراء الرجال فمثلا الشاعرة بشرى البستاني قد تقدمت كثيرا في مستواها الشعري ووجدت عندها قصائد جميلة ومدهشة.
نبذة تعريفية:
هي الشاعرة العراقية آمال عبد القادر بن صالح بن محمد فيضي البابان الخالدي ولقب الزهاوي حملته الأسرة أخيرا نسبة إلى زهاو التي كانت إمارة مستقلة، وهي اليوم من أعمال إيران، ولدت في بغداد سنة 1946، تخرجت من كلية الآداب قسم اللغة العربية، عملت بالصحافة والتدريس. بدأت بنظم الشعر العمودي إلاّ أنّها تحوّلت إلى الشعر الحرّ، وقد تأثّرت بكلمات جبران خليل جبران، وجبرا إبراهيم جبرا، جدّها الشيخ محمد فيضي مفتي بغداد، والذي كان شاعراً ومحمد فيضي هو ابن الملاّ أحمد بابان مفتي بغداد كان أجداده البابان من أمراء السليمانية، توفّي بعد عام 1279هـ، وعمّها الشاعر جميل صدقي الزهاوي، والشاعر إبراهيم أدهم الزهاوي.
أنشأت مع زوجها (عداي نجم) في حقبة الثمانينات؛ شركة للطباعة تضم دار للنشر باسم شركة عشتار حيث ساهمت بطبع الأعمال الأدبية للشعراء الشباب؛ فكانت ( مطبعتها ) أوّل من نشر للمبدعين من الشعراء؛ تحت عنوان (منشورات آمال الزهاوي) وهو حلم لم يتحقق للشباب لولاها، رحمها الله.
قصائد-آمال الزهاوي
قصائد
معادلة
آمال الزهاوي
لا يمكن أن يُعَرفَ هذا الإنسان
بجمع الحالات
لا يعرف هذا الإنسان بإحدى الحالات
لا يعرف هذا الإنسان بواحدة ٍ .. أو أخرى
بل انه يرقى
من كل تنامي الحالات
...
أُصـص
كم غالوا الالق الورديّ
وكم حرصوا
تظهر في قلبي الأصص
توغل في زيف الفرحة
من حولي القصص
تنظر لي في جللٍ فرصُ
.. .
أباطيل
باطل ٌ .. باطلٌ
كل شيءٍ هنا باطلٌ
ثم قبض الرياح
المباح الذي لا يتاح
والحرام الذي يستباح
البيوت .. الشوارع باطلة ٌ
البقايا .. الزوايا .. الخفايا
الظلال ُ التي نسجت نفسها
مثل سجادة ٍ تشغل السوح
والشجرُ اليابسُ المتشنّج
حيث الوريقات فوق الغصون
التي يبستْ كلها
والنخيل وقاماتها الباسقات
والرماحُ التي لا تصيب الهدف
والتماعٌ يئج ّ به هدفٌ لايتاح
والذين يمرون عبر الرصيف
وفوق الظهور همومٌ ، ترتدي ثقلها
في الصباح
والقوانين ُ آه القوانين
التي فصّلوها عليك
فكانت على القالب الذي فيه أنت
مهيأة ٌ .. والقراطيسُ آه القراطيسُ
قد رُتّبتْ
قبل أن ينجلي الامر
عند ارتفاع الستارة ِ
في موعد الافتتاح
..
بصيرة
فإذا ما جاء العسس
والتف على أفقي الحرس
تصعد من تحتي الفرسُ
وأنادي :
في مدّ الصوت : أيا فرس ُ
يتراءى لي شيء كالقلب
فاقرعه
يحنو في الحال الجرسُ
...
مناقير
ماذا نقول لكم
يمدُّ طائركم في ارضنا شجناً
القى علينا وبالاً
صار ممتحنا
والليل صار سنا
وهبَّ محتقنا
ابدتْ لنا دمعة الأحلام نابضة
الظل والوسَنا
وزقزقت حولنا كل القلوب التي ستحمل الكفنا
وحومت فوقنا كلّ الغيوم التي
تستعذب المَزنا
للله مرجعها
تبكي بحرقتها .. كي توقد الوطنا
يستدرجون به وجدانهم هاهنا
تسعى جميعاً لمد البرق اعيننا
تصير في واحدٍ معلوم
انت أنا
توقّدتْ دفقة الماسات في قلبه
وحوّمت عندها الاحلام والتمعت ْ
كماء بحر هفا يستقبل السفنا
او صار كالبيت مفتوحاً لها سكنا
لكنها عكسه تدير فعلتها
القت علينا جموح النار والفتنا
اعطت له مالنا سراً ومامعنا
فاختلطت بيننا واستنفرت محنا
يالوعة رفرفت
تلقي لنا المفتاح في يدنا
هبّ الصراع بنا
حتى بدا علنا
تبدي النهارات احلاماً بها صخبتْ
في غير موضعها
القت حبالا من الأشواك نافرة
ينهدُ طائركم حزنا على وهنٍ
وجاء رابعنا
وجاء سابعنا يستنفر المدنا
...
أصفار الشمال
ونحن أصفار الشمال هاهنا
لم نطلق العقل إلى آخره
بما تودّ الذاكرة
وما تنص الدائرة
وما رأى أوله اوّلها
تقول هذه الرؤى
كيف التصور استوى
وهي التي قد أطلقت ما عندها
لأفة ٍ لاينتهي سؤالها
حتى وان قلنا لها لاتقربي
ماذا يساوي في الزوايا .. عندنا
تحطّمت في ليلة العنف
كوى أحلامنا
...
توحد
اسهرُ في الليل حزينه
اطفو
في صخب الاصوات
فيبلغني قبل الانصات
كي لا يسمعني
أحد ٌ
في طيّ مدينه
...
شعر عراق 2006 عراق 2007- آمال الزهاوي
شعر
عراق 2006
عراق 2007
آمال الزهاوي
أي ُ عراقٍ أنت ؟
ولأي مدى في العنفِ تحولت ْ
وبأي الأشكال تجسدتْ
تتلظّى في أردية الفتنةِ غيظاً
بعضك يضرب بعضاً
لتعاني ما عانيت
عصفٌ .. عصفٌ يتوالى
لمّا صليتُ على سجادةِ عمري
في ظلِ بلادي
وبها قلقي وسهادي
أمسكتُ على قلقٍ كل مناديل ودادي
وعلى فيضِ شراييني .. وبلهفةِ أوردتي
انكشفت أحلام فؤادي
وتفرست بأقمار الرؤيا
وهنا في فوهةِ أحزاني
الدامية الآن رأيتْ
والصورة تتحرك من تحتي
ويحاصرني البرد ُ .. ولا زَيتْ
خارطتي تتوهج في العصفِ
فلا صفحات الماء صَبت ْ
في ألق الهور ِ
ولا أشجار الجوز تلملمُ غيبتَها
الصورة تتوهج من حولي
في البعدِ المتكثّفِ
حين يهاتفني الصوتُ
فيطلقُ في الصمتِ نشيد َ الإنشادِ
ويدوّي في أقصى الأبعادِ
ويحاصرني الواقعُ
نصلٌ يتوجّع في الأكباد
وطيوف الهمِ ترفُّ على الأعواد ِ
في كل نهار ٍ
أتوهج بالحب الضاري
حيث يشعُ سنا
كل منار في بغداد
ولماذا ترتبكُ الأشياء بنا ؟
تتناثر أوردة عبر ظلال
يتمددُ في أرجاء حديقتنا
كالتنّين المتربصّ هذا الفمْ
تتفجّر قنبلة من دمْ
أتساءل كيف يعاودني الهمْْ
وأنا من دائرة البذلِ أتيت
في لوعة آلامي عانيت ْ
من جذوة أيامي أعطيت
ليتكَ ترسل قرصَ الشمسِ
على كل الناس .. وليتْ
علّ أكفا فرقها البعد تلاقت
واشتبكت ْ
في منظرِ صفوٍ أخاذ
أي عراق ٍ أنت ؟
أي عراق ٍ صرت
اتملّى وجهك َ وأدوس سهولك
أعلو كل شموخِ جبالك
أبصر فيك وهاداً
لا أعرفها
هل أني أفهمك الآن ؟
أم اجهل كل تضاريسك ؟
واراك بقلبي تدمع
كشهاب ينفض لؤلؤهُ
في هذا الكون
أجساد دون رؤوس ٍ
ورؤوسٌ تبحث عن أجساد
هذي صورتك الدامية الأبعاد
أيد تتطاير .. ودماءٌ تتفجّر
أشلاء تتبعثر .. أقدام تطفرُ
ووجوه تطمسُ كلّ ملامحها النيران
وخارطةٌ من خلجات النفس
ترسمها بالأحمر فرشاة النحس
من يقرؤها ؟
فوق القار السائح تبصر أحلاما
تتهاوى في لحظات
وانطبعت أجداث
بسجلّ الدنيا
يا قطّارة حزني لا تنفلتي
وأمامك حشد الباكين
يجمعهم عرس الدمْ
باللون القاني
ولدائرة الآلام
سطور كتبت بمداد ِ
من يصنع هذا المشهَد ، ينزله ؟
للشارع فوق القار
ولماذا ؟
أنت الموؤدةُ والمظلومةُ
ذا تاريخك يشهّدْ
من يمسك أفئدة النفس
لكي لا تبرد
في قلب الحدث الأسود
وأمام شراك السيارات الملغومة
عبر عيون الأشهاد
يا صائد أرواح الناس .. ويا قنّاص الأجساد
للصبر أنين والصبح حزين
والوقتُ يشدُّ بأوتادِ
الأرواح ستصعد .. والأجساد هوت
تتخبّط في برك حمراء بلا ميعادِ
ضُمْ سهامك .. لا تطلقها للرائح والغادي
وانزع من نفسك سهم الصياد
يا من ترحل عبر مدى مجهول
فيه القاتل والمقتول
وضحايا تعبر في صف حداد ِ
من منكم
يصعدُ نحو نبيّ الحكمة والوحي ؟
من منكم يسطع في لون القمر الفضي
يظلله الله
في مزرعة القدر المكتوم
لمّا يتناسلُ فيها الموتُ كثيفا كالمعتاد
ويصير على استعدادِ
أشجار باسقة ٌ يثقلها الرمّان المتفجرُ
وثمارٌ تطلقها أشجان تتصاعد فيها الروح
تتداخل في الألق المفتوح
فمن منا يرضى ؟
ليدور حوالينا الظل المسفوح
ويطوف علينا ما سيكون
فماذا نفعل في الحين ؟
والبلوى إثْر البلوى تتواتر تحت مرامي العين
قل لي من أنت ؟
وكيف تكوّنت ؟
هل أنت عراقٌ .. وعريق ؟
أم أنت عراك ؟
واديمك يحمل ُ الاف القتلى المجهولين
فنطوف على دائرة اللغز .. ونسأل ُ
من اين يجيءُ الجند الموتورون ؟
كيف يتناسل فينا الشهداء المغدورون
وها هي تفلتهم من بين يديها رغبات الامريكان
ينسابون الينا من كل مكان
يا من زرعوا فينا كل الأضداد
كيف يكون الهم
وجبال الموج أنهدت فينا
وتناقضت الدنيا
لما استلقى الأصبع فوق الأزرار
ليهُب بردهات الأمل المتمدّد ِ في الوادي
دفق ضباب
هل تقدر أن تمسكه ظلفات الباب
والأرض ... وأحراش الأرض يحوّلها
الظمأ الناريُ
إلى بعض يباب
يا جزر النار .. غزتنا
في هذا العصر الحيتان
وأمام الملأ الأعظم .. وعيون الأشهاد
دربكة هزّت اوتار العالم
وحناجر تهتف في الاصفاد
من اين يجيء الينا فيض الامداد ؟
وانت بداخل استار الخوف تدين
وتداري نجمتك الثكلى
الذابلة الاطراف سنين
فمن يطلع فيك الغيظ
ويضيء ببرقك افئدةً لاتخبو
وتمطر فيك شجون
وتطير بجناحين من الوهم
بعيداً لليوم الوقادِ
..
عراق 2006
عراق 2007
آمال الزهاوي
أي ُ عراقٍ أنت ؟
ولأي مدى في العنفِ تحولت ْ
وبأي الأشكال تجسدتْ
تتلظّى في أردية الفتنةِ غيظاً
بعضك يضرب بعضاً
لتعاني ما عانيت
عصفٌ .. عصفٌ يتوالى
لمّا صليتُ على سجادةِ عمري
في ظلِ بلادي
وبها قلقي وسهادي
أمسكتُ على قلقٍ كل مناديل ودادي
وعلى فيضِ شراييني .. وبلهفةِ أوردتي
انكشفت أحلام فؤادي
وتفرست بأقمار الرؤيا
وهنا في فوهةِ أحزاني
الدامية الآن رأيتْ
والصورة تتحرك من تحتي
ويحاصرني البرد ُ .. ولا زَيتْ
خارطتي تتوهج في العصفِ
فلا صفحات الماء صَبت ْ
في ألق الهور ِ
ولا أشجار الجوز تلملمُ غيبتَها
الصورة تتوهج من حولي
في البعدِ المتكثّفِ
حين يهاتفني الصوتُ
فيطلقُ في الصمتِ نشيد َ الإنشادِ
ويدوّي في أقصى الأبعادِ
ويحاصرني الواقعُ
نصلٌ يتوجّع في الأكباد
وطيوف الهمِ ترفُّ على الأعواد ِ
في كل نهار ٍ
أتوهج بالحب الضاري
حيث يشعُ سنا
كل منار في بغداد
ولماذا ترتبكُ الأشياء بنا ؟
تتناثر أوردة عبر ظلال
يتمددُ في أرجاء حديقتنا
كالتنّين المتربصّ هذا الفمْ
تتفجّر قنبلة من دمْ
أتساءل كيف يعاودني الهمْْ
وأنا من دائرة البذلِ أتيت
في لوعة آلامي عانيت ْ
من جذوة أيامي أعطيت
ليتكَ ترسل قرصَ الشمسِ
على كل الناس .. وليتْ
علّ أكفا فرقها البعد تلاقت
واشتبكت ْ
في منظرِ صفوٍ أخاذ
أي عراق ٍ أنت ؟
أي عراق ٍ صرت
اتملّى وجهك َ وأدوس سهولك
أعلو كل شموخِ جبالك
أبصر فيك وهاداً
لا أعرفها
هل أني أفهمك الآن ؟
أم اجهل كل تضاريسك ؟
واراك بقلبي تدمع
كشهاب ينفض لؤلؤهُ
في هذا الكون
أجساد دون رؤوس ٍ
ورؤوسٌ تبحث عن أجساد
هذي صورتك الدامية الأبعاد
أيد تتطاير .. ودماءٌ تتفجّر
أشلاء تتبعثر .. أقدام تطفرُ
ووجوه تطمسُ كلّ ملامحها النيران
وخارطةٌ من خلجات النفس
ترسمها بالأحمر فرشاة النحس
من يقرؤها ؟
فوق القار السائح تبصر أحلاما
تتهاوى في لحظات
وانطبعت أجداث
بسجلّ الدنيا
يا قطّارة حزني لا تنفلتي
وأمامك حشد الباكين
يجمعهم عرس الدمْ
باللون القاني
ولدائرة الآلام
سطور كتبت بمداد ِ
من يصنع هذا المشهَد ، ينزله ؟
للشارع فوق القار
ولماذا ؟
أنت الموؤدةُ والمظلومةُ
ذا تاريخك يشهّدْ
من يمسك أفئدة النفس
لكي لا تبرد
في قلب الحدث الأسود
وأمام شراك السيارات الملغومة
عبر عيون الأشهاد
يا صائد أرواح الناس .. ويا قنّاص الأجساد
للصبر أنين والصبح حزين
والوقتُ يشدُّ بأوتادِ
الأرواح ستصعد .. والأجساد هوت
تتخبّط في برك حمراء بلا ميعادِ
ضُمْ سهامك .. لا تطلقها للرائح والغادي
وانزع من نفسك سهم الصياد
يا من ترحل عبر مدى مجهول
فيه القاتل والمقتول
وضحايا تعبر في صف حداد ِ
من منكم
يصعدُ نحو نبيّ الحكمة والوحي ؟
من منكم يسطع في لون القمر الفضي
يظلله الله
في مزرعة القدر المكتوم
لمّا يتناسلُ فيها الموتُ كثيفا كالمعتاد
ويصير على استعدادِ
أشجار باسقة ٌ يثقلها الرمّان المتفجرُ
وثمارٌ تطلقها أشجان تتصاعد فيها الروح
تتداخل في الألق المفتوح
فمن منا يرضى ؟
ليدور حوالينا الظل المسفوح
ويطوف علينا ما سيكون
فماذا نفعل في الحين ؟
والبلوى إثْر البلوى تتواتر تحت مرامي العين
قل لي من أنت ؟
وكيف تكوّنت ؟
هل أنت عراقٌ .. وعريق ؟
أم أنت عراك ؟
واديمك يحمل ُ الاف القتلى المجهولين
فنطوف على دائرة اللغز .. ونسأل ُ
من اين يجيءُ الجند الموتورون ؟
كيف يتناسل فينا الشهداء المغدورون
وها هي تفلتهم من بين يديها رغبات الامريكان
ينسابون الينا من كل مكان
يا من زرعوا فينا كل الأضداد
كيف يكون الهم
وجبال الموج أنهدت فينا
وتناقضت الدنيا
لما استلقى الأصبع فوق الأزرار
ليهُب بردهات الأمل المتمدّد ِ في الوادي
دفق ضباب
هل تقدر أن تمسكه ظلفات الباب
والأرض ... وأحراش الأرض يحوّلها
الظمأ الناريُ
إلى بعض يباب
يا جزر النار .. غزتنا
في هذا العصر الحيتان
وأمام الملأ الأعظم .. وعيون الأشهاد
دربكة هزّت اوتار العالم
وحناجر تهتف في الاصفاد
من اين يجيء الينا فيض الامداد ؟
وانت بداخل استار الخوف تدين
وتداري نجمتك الثكلى
الذابلة الاطراف سنين
فمن يطلع فيك الغيظ
ويضيء ببرقك افئدةً لاتخبو
وتمطر فيك شجون
وتطير بجناحين من الوهم
بعيداً لليوم الوقادِ
..
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)