السبت، 14 فبراير 2015

نصب الحرية لجواد سليم . ملحمة شعب وذاكرة حضارية - القسم الثالث-عادل كامل



عادل كامل

نصب الحرية لجواد سليم . ملحمة شعب وذاكرة حضارية - القسم الثالث[5] تمرين في الرؤية ـ في الحرية
نصب من غير قاعدة، مقارنة بتقاليد إقامة النصب والتماثيل، القديمة منها أو المعاصرة، مما سيشكل مفارقة مع نظام عمل دفن البذرة ـ وانبعاثها، أولا ً، ومع ما هو راسخ، ومتعارف عليه، ثانيا ً، فهل كان لا شعور جواد سليم موازيا ً لدينامية النصب: الحرية، كي يقيّد جداريته ويكبلها بثقلها ـ وهي مكونة من بوابة مستطيلة بخمسين مترا ً طولا ً، وبعرض ثمانية أمتار، وبسمك متر واحد، ومرتفعة عن الأرض بخمسة أمتار ـ أم تاركا ً لا شعور العلامة، النصب برمته، لا يسمح للمشاهد إلا ان يرفع رأسه ـ بعد قرون من الرداءة تمتد إلى ما قبل احتلال بغداد 1258 ـ غالبا ً، إلى ما فوق الأفق ـ الأرض، للقراءة، والمشاهدة..؟ وسيسمح لنا الاستقصاء للإجابة، بمعرفة أراء (الملايين) التي اضطرت ـ وهي تدّرب على الحرية عبر لا شعورها ـ النظر إلى الأعلى، عن قرب، أو عن بعد، كي يعيد النصب، معالجة اعقد إشكالية درسها حكماء بابل، بالاستناد إلى فلاسفة سومر، حول جوهر (العدالة)،(1) ولماذا لم تجد، في الغالب، تطبيقات تناسبها، وهل خطر ببال جواد سليم، وقد أكد ذات مرة انه تعلم كيف ينسى الذي تعلمه،(2)، انه صاغ طريقة في الرؤية تقول ان الحرية ـ كالعدالة ـ تشترط ان لا تجعل من الإنسان (معاقبا ً) أو ان يكون محض ضحية، جاعلا ً من النظر إلى ما فوق (التراب) دافعا ًعفويا ً، من غير قيود، للتسامي ـ ولكن ليس على حساب الإنسان، بل بتحرره من القيود التي وجد نفسه مكبلا ً بها ـ كي لا يمتد زمن كمون (البذرة) طويلا ً، والى ما لانهاية، حيث النظر إلى أعلى، يماثل عمل البذور التي تمد جذورها عميقا ً في الأرض، كي تعانق براعمها الشمس. 

ليس هذا محض تأويل يسمح بالعثور على تسويغ لدحض موت: الفن ـ وموت الفنان ـ بحسب هيجل وصولا ً إلى رولان بارت ـ وإنما ممارسة عملية طالما وجدها جواد سليم لديه، منهجا ً ينقله من العشوائية ـ بالتجريب ـ إلى أسس الفن، في أقدم أزمنته، وفي أكثرها حداثة، حيث تشتغل المشفرات بإنتاج تدشينات تكاد تتقاطع مع مقولة سقراط: لا جديد تحت الشمس، إذ ْ، مع كل قراءة، يولد المتلقي ـ كي تأخذ الدورة قانونها ـ ليتكّون الجديد، بدحض قديمه، مثلما من الصعب ان يتم سلب (أحلام) العقول التي ولدت (حرة)، بحسب أممية قوانين العدالة، وكليتها.
فأسلوب النظر، كتمرين في الرؤية، منح النصب قدرة إقامة علاقة مع الآخر، حيث الأجيال، تمر، وفي الواقع، يمر النصب، معها، كي يتجاوز معنى انه محض (لافتة) نحو العلامة اللاشعورية، التي أقامت جذورها عميقا ً في الذاكرة، كي يكون انبثاقها، مماثلا ً، لعمل البذرة: من الأرض نحو الشمس. وهو جوهر مفهوم الخصب، في حضارة وادي الرافدين، بحسب أساطير تموز وعشتار.

وما دام اللاشعور ـ بل والتحرر من قيود الوعي نحو تحرير مناطقه السحيقة أو النائية ـ سيغدو درسا ً في التذوق، وبحسابات بسيطة، سيغدو النصب ـ بكتلته الضخمة المرتفعة فوق الأرض، المكونة من الاسمنت والحديد والبرونز ـ خارج عمل الجاذبية! فالأطنان المعلقة في الهواء، وجدت رابطا ً خفيا ً شبيها ً بعلاقة الساق ما بين أعالي الشجرة وجذورها، إلا ان هذه (الساق) هي الأخرى، تعمل عمل النسغ، وشبيهة بعمل القوى غير المباشرة للديمومة.
فهل ثمة لغز ما، استبدل قوانين الجاذبة، بمنطقها، بقانون آخر لم يشعرنا بما دونه النصب (الملحمة)، من أزمنة ثقيلة، توازي، رمزيا ً، ثقل شخوص البرونز، وحجارة قاعدتيه أيضا ً. وهي تخاطب خيال المتلقي، وذاكرته، وقد ارتفعت من الأسفل، نحو الأمل ..؟

ومع ان وعي جواد سليم حافظ على ديناميته الواقعية، كاعترافه بان الفن العراقي، كالشعب، ارتبط بالأرض ..، لم يبلغ الكمال ولم يعرف الانحطاط..." متابعا ً " مبتغاه الدائم الحرية في التعبير إذ ْ حتى في فن آشور الرسمي فان الفنان الحقيقي ينطق خلال مأساة الحيوان الجريح" (3) ، إلا ان لا وعيه، ورهافته، وتجريبيته، شكلت دافعا ً للعثور على إجابة صاغها ما يكل أنجلو ـ وأكدها بيكاسو ـ بأنه يجد، أو يكتشف، ولا يصنع، أو يستحدث، أو يخترع، حيث بذل جواد جهدا ً، حد الموت ـ وكقدر طالما عرفّه يونغ وكأنه مدوّن عبر تتابعه المستقبلي وليس ارتدادا ً نحو مقدماته حسب ـ كي يصنع، ويستحدث، وينتج (اكتشافه)، وكي يمنح استحداثه مفهوم الاثاري وهو يعثر على الأثر ـ الكنز.
معادلة لا تنغلق بحدود التوازن بين المقدمات والنهايات، وبين الذاكرة والمخيال، وبين اللا جديد والجديد، أو بين التراث والمعاصرة، أو ان الحي من الميت، والميت من الحي ..الخ، فحسب، بل تضعنا في المفهوم الأكثر تعقيدا ً للعلامة ـ كماركة خاصة بنوع يحدد هوية السلعة ـ بصفتها، كما قال ماركس، كم مشبعة بالميتافيزيقا. على ان (الميتافيزيقا)، بهذا المعنى، ليس محض تصوّرات أو أقنعة تم عزلها عن عللها، ودوافعها، ومكوناتها، وإنما للذهاب ـ عند ماركس وعند جواد سليم ـ نحو حركة حلزونية، لا ترتد، بل تتقدم، حاملة معها مشفراتها، بالكتابة أو بالفن نحو ما هو ابعد منهما، ألا وهو ديمومة ان الانشغال بالحرية، حتى عندما لا يقود إلى ذروتها، لا يقارن بمن لم يجعل منها نبراسا ً للانعتاق، والتحرر.
وفي أحاديثي الطويلة مع الفنان إسماعيل فتاح، عبر نصف القرن الماضي، لم أجد مقولة دقيقة ـ وإن بدت شعرية ـ كالتي منحت فتاح، هو الآخر، نظاما ً مستمدا ً من القانون الذي سمح لجلجامش ـ علامة لديموزي ـ، ان لا يُدفن، ويجتاز طبقات الظلمة، إلا بالعمل، حيث ان النحت العراقي الحديث، لم ـ ولن ـ يمر إلا من تحت نصب الحرية، مثلما خرجت الرواية الروسية، من معطف غوغول.
1 ـ حول الفقر في وادي الرافدين، يستشهد بلند الحيدري بالنص السومري التالي" اذا ما مات رجل فقير لا تحاول إعادته إلى الحياة فهو اذا امتلك الخبز عدم الملح وإذا امتلك الملح عدم الخبز، فإذا كان لديه اللحم لم يكن لديه البهار وإذا كان لديه البهار عدم اللحم... الثراء صعب المنال، ولكن الفقر معنا ليس للفقير سلطة" بلند الحيدري [لمحة عن العامل في الفن العراقي] مجلة الرواق، وزارة الثقافة والفنون ـ بغداد 1978 ص4 وما بعدها. وفي الأصل هناك محاورة حملت عنوان (العادل المعاقب) تفصح عن تعقيدات للمشكلة الطبقية.
2 ـ جواد سليم ونصب الحرية ـ مصدر سابق ص 72
3 ـ جواد سليم. دليل المعرض السنوي السابع للرسم، المعهد الثقافي البريطاني ـ 1958

[6] الرؤية ـ والتحولات
لو لم يتم تفكيك الإمبراطورية العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، كنهاية دورة، والبدء بدورة أخرى، وبعد حروب أدت إلى تراجعها، وتخليها عن الأجزاء التي استولت عليها، لكان العراق، ومعه باقي الأقاليم، غير مهيأ لتحولات وتصادمات، ستجري بين تقاليد بدت راسخة، وثابتة، وأخرى عملت على بناء تصورات، وعادات، وأخلاقيات مغايرة. انه ليس صراعا ً بين (القديم) وبين (المعاصر) إلا بصفته يحيلنا إلى صراع: أدوات ـ وما تنتجه هذه الأدوات من أفكار، ومُثل، وتحولات. فالأشكال المستحدثة (كالأنظمة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية) ما هي إلا علاقة هذه الأشكال بمحركاتها ـ ومكوناتها العميقة.
فلم تجر ثورات علمية، أو معرفية، ولم تحدث تراكمات ثقافية خلال قرون طويلة تعاقبت الحكومات فيها، عدا الانتفاضات، وأحداث التمرد المتفرقة، التي حصلت، في الغالب، بتراكم الظلم، حد الجور، وقد قمعت، في الغالب، بقسوة.
على ان بعض اعقد نزعات الإنسان نحو (الانعتاق)، لم تدمر، حتى بالقضاء على محركاتها، ورموزها. لا لأن بنية الوجود قائمة على ملغزات ـ إن كانت مادية تاريخية أو محض تصورات مثالية وخيالية ـ بمعزل عن تلبية أساسيات الحياة: الغذاء، والصحة، والتعليم، مع قليل من الرفاهية!

ويبدو ان استقرار العراق، النسبي، بعد تشكل أول حكومة (1921)، وصولا ً إلى الحدث الأبرز، في العام (1958) مهد لظهور هذا الشعور بان الإنسان لا يولد في الظلام، ويدّب في ممراته الحالكة، كي يدفن فيه، كما كان ألجواهري يكرر الحكمة الصينية القديمة: يولد الإنسان في الحزن، ويعيش فيه، ثم لا قبر له غير ان يدفن في الحزن! وإنما كانت ثمة (ومضات) و (هواجس) و (إرادات) ـ بفعل لقاء الحضارات وتصادماتها أيضا ً ـ أدت إلى أساليب تدشن للمرة الأولى، بالرغم من امتداد جذورها عميقا ً في التاريخ ـ وفي الذاكرة، ومنها العناية بالثقافة، والمعرفة، والفنون ..
ولهذه الأسباب، ومنذ نهاية عشرينيات القرن الماضي، ظهرت مؤشرات بناء جيل ـ في الحقول كافة ـ سيشكل نواة جيل حمل اسم: الرواد؛ في الطب، الحقوق، التاريخ، إلى جانب الثقافة، في المسرح، والرسم، والموسيقا، والنحت، والسينما، والرواية، وفي حقول العلوم الاجتماعية، والفكرية..الخ
ومع ظهور موارد جاءت مثل هبة، من غير جهد يذكر، وهو (البترول) فان ثمة تحولات ستفرض أنساقها باستحداث عادات كان من الصعب ان تحدث، في العصور الماضية، ومنذ ألف عام.
فظهر هذا الجيل، وظهرت كوكبة من الأسماء، لم تتكون، من غير مفهوم (التحديث) والعمل المضني من اجل (الحرية) والسلم المجتمعي، والدخول في العصر.
لكن هذا لم يجر فوق خشبة المسرح، للترفيه، بل بكفاح مرير، وعنيد، فوق ارض وادي الرافدين، والعراق الحديث. كفاح لم يتشكل إلا بتضافر الأدوات الحديثة في إعادة بناء حاضر البلاد، ومستقبلها.
الأسماء التي مازالت جهودها جديرة بالاستذكار، ستمنح هؤلاء (الرواد) قدرات في استعادة أزمنتها الرائدة، في: الكتابة، والتعليم، والزراعة، والصناعة، وفي المخترعات، والمعرفة، والملاحم، وفي الفنون والثقافة، مثلما في العدالة والشرائع، كي تتكامل معادلة الحياة بين العمل والرفاهية، وبين الكد والسعادة، وبين الحاضر وما بعده.
ومسيرة جواد سليم، منذ نشأته، أولى هذه الموضوعات، ترابطها، بما كان قد شكل حكمة في حضارات وادي الرافدين: العمل ـ العدالة. على انهما ـ في فترات تقصر أو تطول ـ يغيبان، أو يتعثران، أو يتراجعان، فتسود الفوضى، وترتد الحياة إلى الحقب المظلمة. 

كان جواد سليم، في الأصل، يمتلك موهبة خاصة، حد الاستثناء، بالعثور على حلول لهذه المعضلات ـ على صعيد الفن ـ متقدما ً على أقرانه، (1) ولكن المهمة لم تكن بحاجة إلى حياة واحدة، فكيف اذا به يتعرض للإجهاد، بين فترة وأخرى، حتى كانت ثمة همسات تتحدث عن رحيله، قبل انجاز نصب الحرية..؟
ولكن جواد سليم مكث يعمل ضمن حدود أكثر الموضوعات حساسية: الموت ـ الحياة، بموازاة: الظلم ـ العدالة، كي يستعيد أسئلة جلجامش، أو عبقرية كاتب الملحمة، حيث لم يترك موضوع الموت ـ الغياب، إلا ديمومة للحياة ذاتها.
فجواد سليم، منذ جداريته (البنّاء) حلم ان يروي قصة الشعب، بتنوعه، وبأزمنته، وما عاناه من فترات قاحلة، امتدت إلى قرون، كي يبني، خارج نطاق المحترف، وبعيدا ً عن مفاهيم النحت المتعارف عليها، وبعيدا ً عن تلبية ذائقة النخبة الاجتماعية، صرحا ً استمد أسسه من الذات الجمعية للشعب، وبخطاب امتلك أدواته الحديثة.
فالغياب، وإن هو لا يقهر، إلا ان معالجته بالحضور، سيغدو معادلا ً للحقيقة ذاتها التي قامت عليها الثورات، في مجالات الحياة المختلفة، مما دفع بالخطاب الفني إلى ذروته: دينامية العبور من عصر إلى آخر، حيث (الحرية) تعيد إنتاج من يمنحها تطبيقاتها العملية.
ففي النصب الملحمي، إذا ً، يتصاعد (الحدث) عبر رموزه المختارة، بعناية، وعبر حركته الدرامية، كي لا يتوقف عند علامة أخيرة، بل بحركة دائرية، استمدها جواد سليم، بوعي أو بالحفر في ذاكرته السحيقة، من مفهوم الدورة، كأقصى حكمة استنبطها حكماء سومر: ان الحرية لا تأتي من العدم، بل لا يصنعها إلا الإنسان، بالعمل. وهو درس آخر استقاه جواد من محاورة الراعي والفلاح ـ وهي قصة ستشكل منحى مغايرا لها في التنصيصات القادمة ـ حيث سيكمل ما أنتجه الراعي ـ الجوال ـ وما أنتجه المزارع ـ المستقر في الأرض ـ لفك اعقد تناقض حاصل بما تنتجه وسائل الإنتاج، وتؤدي إليه من صراع جوهره الملكية ـ بمعنى التراكم ـ، ومصيرها عبر صراع الطبقات. ففي النصب، ثمة نزعة إنسانية، تتخذ من العلاقات حوارا ً، بتوتراته، لن يقود إلى الدمار، بل ليشكل بنراما جمالية، تحافظ على قانون ان الحرية، لا تنبني إلا برؤية كائنات حرة، ولا تتقاطع، بالتصادم، أو بالتدمير. فجواد سليم كتب، في العام 1944، إشارة تؤكد هذا المنحى: " إنني كثيرا ً ما امثل دور النحات بالمؤلف الموسيقي. فالمؤلف الموسيقي تتعلق درجة إنتاجه بكثرة سامعيه: فكلما كثروا كثر إنتاجه واخذ شكلا ً أرقى وأنفس، وكلما قلوا صغرت انتاجاته وقلت قيمتها..." لأن هذه المقارنة ستقود إلى " سعة رسالتها مع النصب الموضوع في احد الميادين والذي يعطي فكرة نبيلة عالية لكل سائر"
فالنصب، في ذهن جواد، تمثل خلاصة تفكير دائم بالحرية، في مواجهة القهر ـ والموت، إن كان شخصيا ً أو قد يمتد ليشمل مساحة اكبر من المكونات. فالفن ليس تحديا ً للغياب، أو ترويضا ً له، بل هو الطريق ذاته مهما كان وعرا ً، وشاقا ً، وهو الذي يسمح للبذرة ان تحفر جذورها في أعتى الصخور صلابة، كي تورق، مادامت الشمس لا تكمن خرجها فحسب، وإنما لأنها تكمن في أعماقها أيضا ً.

* صدر الكتاب عن دار الأديب ـ عمان ـ 2014
1 ـ لعل إعجاب الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا ً له مبرراته، وليس محض هوى، أو لأسباب أخرى. وهذا ما كان يغيض الفنان خالد الرحال، فيقول: لماذا لن يولد فنان كجواد إلا بعد قرون..، بالرغم من الاحترام العميق الذي طالما أعرب عنه تجاه عبقرية جواد سليم.
2 ـ نصب الحرية ، مصدر سابق ص 63

الجمعة، 13 فبراير 2015

إهي عفطة عنز إهي زهكة روح-د.غالب المسعودي

إهي عفطة عنز
إهي زهكة روح
د.غالب المسعودي
إهي...... إهي عفطة عنز.....إهي
 زهكَة روح
سجينة ضلع
 وبالضلع
جنهة تنوح
  تجي وتروح
او ما تتلايم
 كلي جروح
منثور الملح فوكيَ
أفزن من مشية القاري
يلوبح ظهرية....!
هو مو بس ملح........!
الملح الماتبزة الكَاع
جنة جفية عرس
اليشمهة يلوع
والمشتهي
 يذب دموع
والماشي
يكَول
 طين خاوة
 يمشطون الشعر
 بيه ..................!
وأنا أدري ألشعر وية الشعر
 ما يتخاوون............
شأرتجي من الكَاع
غير الملح
أنا حبيتج
جنج ملح للكاع
أو وعي للكاع
 أو صدك للكاع
جا لمن خلصن إسنيني
ترحين او تجافيني
أنا حبيتج
لمن يشتكي  الموت من إلموت
إشكد ضام أسرار
بكَد بكثرهن ضام إعطور
 وفوكَ هاي وذيج
أنا احلم بألسؤال
سؤالي
يجفل ألخاطر
 جنة
برد كانون
أهو....والَكَيض متخاوين.........!
إو فوكَ هذا او ذاك
 انا احلم يبووووو............ أشبية............؟
جا ما شفتي....................!
بدلة ألزفة
كحلج
 وألعيون دموع
جا ما شفتي البعد
و ألعشكَ
إش............ سوة.......؟
ياكل إعظامي
وشوي............... شوي
يتهوة .................
وشوفي شوفي..........
 شوفي
شوفي.............................!
 إرموشج الزعلانة
إشكَد
عالت...................
 مو انت اللي كلتي
إش رببك............ الله علية.............؟
مو انت اللي كلتي
ذبني بشط الحلة
او لا تقرة الفاتحة علية
ليش من النهر عطشان
تكوللي شسوي ..العطلة خلصت
تخلين الذيب يتنمرد علية.........!
ألدهرأليوم..............
صوب تفكتة

اعلى كَلبي
 وكَال أرمي.................؟
 كَتلة مو انت الموت.............!
إرمي............
هد تفكَتة
 إو مات جدامي..................
شرد لبعيد................
هو يدري
المايخاف من الموت
عاشك
يتمنى للروح  تطلع.........
 إو ما تجي وتروح
أوتبقى تنوح
إهي غفطة عنز..............
لو شركَت لو غربت
الميت ما تميتة
جروح ...............

الاثنين، 9 فبراير 2015

قصة قصيرة ما بعد الشفافية- عادل كامل


 قصة قصيرة

ما بعد الشفافية


عادل كامل
ـ  لم نترك مكانا ً لم تصله ..
     وتابع الغراب قراءة الرسالة، مرة ثانية، بصوت متوتر:
ـ أجسادنا...، فقد اعددنا ما يكفي للمهمة.
أجاب الهدهد:
ـ كانت لدينا معلومات مؤكدة عن تسلل عدد كبير من الفئران الانتحارية، وقد برمجت برمجة متقنة، وبمشاركة فصائل من الجرذان، والصراصير، والخنافس، وأبو جعل، وغيرها من المخلوقات الوضيعة.
تساءل الببغاء:
ـ إذا كان القضاء عليهم لا ينهي الفتنة، ولا يقلل الخسائر، فلماذا لم نمنحهم حقوقهم المشروعة، بدل هذه المناورات التي قد لا تقود إلى الحسم، والسلام...؟
  خاطب الثعلب الغراب:
ـ لطفا ً أكمل..
تابع الغراب:
ـ وقد تضمنت مخططاتهم نسف الأسوار، وهدم الأقفاص، وتخريب الأجنحة، والمغارات، بغية إطلاق سراح الجميع.
صاح  الثعلب:
ـ هذا بمثابة إعلان حرب!
أجابت المستشارة:
ـ كما قال خبير المعلومات، السيد الهدد، فان المؤامرة ستذهب ابعد من إثارة الفتنة، وابعد من إشعال الحرب، وابعد من الهدم، والقتل، والتخريب...، فالمؤامرة تستهدف محونا من الوجود!
   ارتبك الثعلب قليلا ً، وأجاب بغضب:
ـ أغلق فمك...، فاليأس خيانة، والخوف تخاذل، والتردد جريمة! فكيف وأنت تبث كل ما يحبط العزائم، ويبث روح الهزيمة؟
قال الغراب:
ـ سيدي، لقد تم هدم الجناح الغربي، وما جاوره، ففرت الحمير، والبغال، والجاموس، والإبل، والماعز، وحتى التماسيح تضررت من موجة التفجيرات، والأعمال التخريبية...، ومن القتل العشوائي، واستبدال النظام بالعشوائية!
أجاب الثعلب بصوت بدت عليه الحيرة، والتردد، والأسى:
ـ هل نتخلى عن مجدنا، وحديقتنا...، للجرذان، والضفادع، والفئران...؟
ـ سيدي، إنهم يزحفون، بمساندة الأفاعي، وبمشاركة فصائل من الضباع، والذئاب، وبنات أوى، ومجاميع من القطط المتوحشة، والكلاب السائبة.
قالت الببغاء:
ـ هذا ليس إعلان حرب، بل هو الخراب.
فسأل الثعلب الهدهد:
ـ أين كنت...؟
أجاب الهدهد:
ـ أخبرناكم بأدق المعلومات، ومنها التي لم تقع، والتي مازالت تدور في العقول! فماذا كانت أجراءتكم، سوى التراخي، وعدم التصديق، والشك، وهي التي مهدت للتمرد الذي تحول إلى عصيان، والأخير أصبح ثورة!
صرخ الثعلب مرددا ً:
ـ ثورة، ثورة،  لا أريد ان اسمع هذه الكلمة,
متابعا ً أضاف:
ـ أيها الأسد، وأنت أيها النمر، وأنت أيها الفيل ...، لنعقد جلسة طارئة واتخاذ ما يلزم.
ضحك الحمار:
ـ سيدي، انظر...؛ الفئران ارتدت أحزمة ناسفة، والجرذان تحولت إلى ألغام موقوتة، والضباع جاءت بالعربات المفخخة، وفصائل أخرى عزمت على نسف الحديقة ومحو علاماتها، من اجل استبدالكم او قتلكم!
تمتم الثعلب مع نفسه بصوت مسموع:
ـ أنا لا اعرف من اجل من يموتون، الحمقى، لم يفطنوا حتى للمناورة!
أجابت الغزال:
ـ من اجل الكرامة.
وأضاف الثور:
ـ والحرية.
وقال الكبش:
ـ والرفاهية!
سأل الثعلب مساعده باستغراب:
ـ من منع عنهم الكرامة والحرية والرفاهية...؟
   لم يجب عليه احد من الحضور. فتساءل مرة ثانية:
ـ من حرمهم من الهواء والماء والضوء والأمن والرخاء ....اخبروني...؟
   لم يتفوه احد بكلمة. فصرخ الثعلب في وجه الأسد:
ـ أيها الخائن!
جرجروه عنوة حتى توارى. قال الثعلب:
ـ أعطوهم الرفاهية، ثم وزعوا الكرامة، وانثروا لهم الحرية!
صاح التمساح:
ـ أيها الزعيم، لم يتركوا حجرا ً فوق حجر، ولا بيتا، ولا مؤسسة، ولا مغارة، ولا جناحا ً، ولا قفصا ً...، إلا وأشعلوا النيران فيها، ونسفوها، وخربوها شر تخريب، بعد نهبها، وسرقتها! وما نحن الآن سوى زمرة أشباح ضالة  كأنها جذوع خاوية محشوة بالهواء!
   دوى انفجار، تبعه آخر، فقال الثعلب بصوت عال ٍ:
ـ أيها البواسل، أيها الفرسان، أيها الأبطال....، إلى الحرب!
ضحك البغل يخاطب الماعز:
ـ مع من يتكلم زعيمنا الخالد...؟
   ودوى انفجار ثالث، ورابع، ثم انهالت القذائف فوق الساحة الكبرى، بعد ان اخترقت الجرذان الممرات المحصنة، حيث بدأت تدوي انفجارات في الأجنحة، والإسطبلات، والمغارات، والزرائب، وقد تم احتلال مركز الحديقة، بعد ان خربت التماثيل، ومزقت الصور، ونسفت شاشة الحديقة، وبعد اقتلاع الأشجار، وتخريب المرافق الأخرى.
     في الملجأ المحصن، قال الثعلب لمساعديه، بصوت مرح، رزين:
ـ محض سحابة، هواء في شبك، زوبعة في فنجان...، فما ان تنتهي هذه اللعاب، وما ان تخمد حرب الجميع ضد الجميع، حتى يبدأ عصر الأنوار: عصر المصالحة!
دخل قائد الحمايات مضطربا ً وقال:
ـ، سيدي..، امسكوا بالقائد، ومزقوه شر ممزق، وسحلوه، ومسحوه بتراب الأرض، وهو صار ممحوا ً محوا ً...، والقصة بدأت هكذا ـ سيدي الكبير دام زمنك إلى ابد الآبدين ـ أراد السيد القائد ان يتباهى بمجد حديقتنا، وقوانينها، وقوتها التي لا تقهر، إلا ان الموجات الانتحارية راحت تزحف من الجهات كافة، من الحفر، ومن الشقوق، وتخرج من الأنهار، ومن الآبار، ومن المستنقعات، وتهبط من السماء، تتساقط مثل اسماك تنفجر حال ملامستها الأرض....، فلم يبق شيئا ً في حديقتنا إلا وتحول إلى رماد، وركام، وأنقاض، وغبار!
   ابتسم المدير، وسأل الأسد الذي لا يعرف كيف دخل:
ـ ماذا تفعل هنا..؟
ـ سيدي...، طالما أخبرتك ان الحرب لا تجري فوق الأرض..، بل داخل العقول!
كاد المدير ان يفطس من الضحك، حتى لم يقدر على الوقوف، فسقط أرضا ً، ثم لوّح بأصابعه ساخرا ً:
ـ إن كانت الحرب تجري فوق الأرض، او في العقول، فالبركان انفجر، والأرض زلزلت، والطوفان وقع...، مادمنا نحتمي داخل هذه الملاجئ المحصنة، فليس علينا إلا ان تكتمل دورة الغضب....
ساد صمت، بدده الخنزير بسؤال:
ـ إذا تحولت حديقتنا إلى رماد، وغبار، فعلى من تحكم، أيها الزعيم الخالد؟
نهض المدير، واقترب منه:
ـ وهل صدقت، في يوم من الأيام، ان حديقة كانت هناك...؟!
ـ آ ...، طالما قلت ذلك لنفسي!
أومأ المدير لحمايته باستبعاده. فصرخ:
ـ انتظر ...سيدي الأبدي، دعني أكمل، فانا قصدت شيئا ً آخر غير الذي دار ببالك!
قال المدير:
ـ انتبه، أتعلب علينا، أم أصبحت تجديد المناورة، والتمويه؟
ـ أنا لا العب، ولا أناور، ولا أموه...، فانأ لا ارقص، ولا اعوي، ولا اشتكي...، فانا طالما استنتجت ان زعامتك شبيهة بالجواهر الخالصة، ولا علاقة لها بما حدث، وما فعله الرعاء، وما ارتكبه القطيع من شناعات، وخساسات، ونذلات، وسفك دماء، والآن ...، بعد ان تخمد النار، لن يعد للثعابين، ولا الفئران، ولا الأرانب، ولا العقارب، ولا القمل، ولا الكلاب من وجود، ولا حضور، ولا حتى بقايا أطياف! ذلك لأن زمنك الذي انتظرناه طويلا ً، يكون قد بدأ ...، فبعد ان تختفي هذه الزعانف، والزوائد، والدهماء، والرعاع، والفتات،  وبعد ان نجمع رمادها ونذره في الريح...، يبدأ زمنك الجميل، زمن نهاية الجور، والطغيان، فتسود المودة، ويعم الرخاء.
ـ آ ..، آسف...، يا لك من عقل!
فتابع الآخر:
ـ ثم سيولد الجنس الناعم، فانا، مع الدب، والسيدة الببغاء، ومع فصائل النمور الشفافة، فكرنا بعصر ما بعد الرماد، والحرائق، والفوضى. سيدي، فالحقول ستورق، والسماء توزع حلوها، والآبار تتدفق، مثل الينابيع، بالماء الزلال، الخالي من بقايا الجثث، والمواد المشعة، ومن بيوض الضفادع، وبقايا المياه الثقيلة، والضوء سيوزع من غير حساب، بدءا ً بزمن الرفاهية، ونهاية الظلمات!
ـ اقترب.
  اقترب الخنزير:
ـ لم يحن الأوان بعد....، أيها العقل العبقري، لأنني انتظر ان تكمل مهمتك.
ـ أمرك سيدي.
ـ لأن عليك ان تغذي الحرب، فلا تدع يوما ً يمضي من غير مذابح، فلا تدع أحدا لأحد، فالخراب لم يبلغ غايته بعد!
ـ أمرك سيدي.
   ثم استدرك الخنزير:
ـ لكن ماذا لو ...، لم نتمكن من إبادتهم...، ومن محوهم...، وماذا لو لم يبقوا لنا سوى هذا الجحر...؟
ـ آ ...!
ثم أضاف المدير:
ـ لا تجزع...، سنغادر إلى كوكب بعيد!
ـ حقا ً، هكذا نجونا...! فبعد ان انقرضت الماموثات، والديناصورات، والوحوش العملاقة، وهكذا ـ يا زعيمنا الخالد ـ سيبدأ عصرك الزاهي المجيد. فبعد ان أصبح العالم القديم غير صالح للأوهام، ومن غير تمويهات، ستكون وحدك الجدير بالزعامة، حيث الشعب الناعم، تأمره فلا يعصي، تنهاه فلا يعترض، تذّله فلا يعترض، تعاقبه فلا يستغيث، تجتثه فلا يعترض....، ليشّيد حديقة لا خراتيت فيها، لا رعاع ولا بنات أوى، لا قمل ولا خفافيش، لا عميان ولا مثلثات لا مكعبات ولا أوبئة ولا سرطانات، لا إشعاعات تهددنا بالموت اليومي، ولا طوفانات، لا براكين ولا أساطير ولا خرافات، آنذاك تهدم الحدود، وتردم الفجوات، وتمحى الحافات، فتعود الريح تنشد نشيدك الأبدي: لا أضداد ولا خلافات ولا مخالفات، لا عصيان ولا جنح ولا شطحات، لا شيخوخة ولا علل ولا هذيانات، يا مديرنا الكبير، فأنت قفل الباب، وأنت مفتاحها، يا مديرنا يا مديرنا، العدم عند أسوارك يأتيك بالهدايا، والشموس تهديك الأنوار، وبهائمك الناعمة تمجدك ليل نهار.
6/2/2015

كيف اختفى الأرشيف اليهودي ...؟ الكنوز العراقية من يعيدها ...؟-إحسان فتحي معماري ومتخصص في الحفاظ على التراث







   

 كيف اختفى الأرشيف اليهودي ...؟
 الكنوز العراقية من يعيدها ...؟



الأعزاء الأصدقاء والتراثيين العراقيين
تحية طيبة وبعد
فان الخبر المنشور مؤخرا يؤكد على عدم التزام الحكومة الأمريكية بالقوانين الدولية الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية للدولة المحتلة وأيضا على إخفاق الحكومة العراقية في الإصرار على ضرورة إرجاع كافة الآثار والمخطوطات   27) صندوق كبير يحتوي على ملايين الوثائق) التي استولت عليها القوات المحتلة في مبنى دائرة المخابرات العامة ونقلتها جوا - بعلم وموافقة "السلطات" العراقية آنذاك - بحجة حاجتها الملحة للترميم والإنقاذ الفوري بعد ان أصابتها الأضرار من مياه السرداب التي كانت فيه. وكانت الحكومة الأمريكية قد تعهدت بإرجاع جميع ما تم نقله خلال فترة زمنية قصيرة وبعد إكمال أعمال الصيانة ولكنها لم تفعل ذلك حتى هذه اللحظة. وكان من بين هذه الممتلكات العراقية البحتة الآلاف من الوثائق الخاصة بالطائفة اليهودية العراقية ومن بينها نسخة من التوراة مخطوطة على جلد الغزال يرجع عمرها إلى القرن السادس عشر، استلمتها) إسرائيل) مؤخرا واحتفل بها العنصري ليبرمان.
لقد نكثت الحكومة الأمريكية بوعدها وسلمت العديد من هذه الممتلكات العراقية إلى الحكومة الإسرائيلية بشكل علني وفاضح، مستغلة ضعف أو جهل المسؤولين العراقيين في هذا الخصوص. ان الإجراء الأمريكي هو عمل غير قانوني تماما ولا أخلاقي ويتناقض مع جميع الاتفاقات الدولية وهو مشين بكل المعايير لأنه يخلق سابقة خطيرة ويشرعن قرصنة و سرقة الآثار.
ان الحكومة العراقية بكافة مؤسساتها والبرلمان العراقي وكل منظمات المجتمع المدني مطالبون فورا بإعداد حملة عالمية لاسترداد كافة الممتلكات الثقافية الموجودة بعهدة الحكومة الأمريكية، بما في ذلك الآثار العراقية التي منحتها إلى إسرائيل، وبخلاف ذلك فعليها اتخاذ الخطوات القانونية اللازمة ضد الحكومة الأمريكية، ومنع الفعاليات الاثارية في العراق الجارية حاليا، ووقف أي نشاط ثقافي مع اي جهة أمريكية. ان سكوت الحكومة العراقية سيعني رضاها وهو أمر خطير سيسجله التاريخ ضدها.
نحن ننتظر، وكل عراقي الآن ينتظر ماذا ستفعله الحكومة العراقية؟
إحسان فتحي
معماري ومتخصص في الحفاظ على التراث

من أقوال المفكر عبد الله القصيمي‏-





من أقوال المفكر عبد الله القصيمي‏

 

نقدم لكم مقتبسات من أعظم فيلسوف عربي في العصر الحديث. حيث حكمته تصل الى درجات النبوئة بعمقها وبساطتها وقدرتها على قول ما لايقال، في بلد لا تسمح ان يقال اقل منه:

إذا كان الفساد لا يقتل فكيف يقتل النقد؟!
*
لو كان نبيٌّ مصابًا بالبَرَص، بُعِثَ إلى قوم من البُرْص، لكانت الإصابة بهذا الداء شرطًا من شروط الإيمان بالله!
*
إنهم يتصورون الله قيصرًا أو زعيمًا ضالاً، ينشرح صدرُه للنفاق وقصائد الامتداح، ويفقد بذلك وقارَه.*

إن المؤمنين بالله وبالأديان يصنعون ما قاله نهرو عن الهنود: "إنهم يعبدون البقر ولا يفعلون له ما يجب. ولو أنهم أعطوا البقر ما يريد ولم يعبدوها لكان احترامهم لها أفضل."
*
إن احتمالات ثورة المغامر ضد الحاكم الفاضل أقوى من احتمالات ثورته ضد الحاكم الشرير. إننا قد نجرؤ على اصطياد الحيوان الفاضل أكثر من جرأتنا على اصطياد الحيوان المفترس.
*
إن الدعاء والصلاة لله اتهام له. إنك، إذا دعوت الله، فقد طلبت منه أن يكون أو لا يكون. إنك تطلب منه حينئذٍ أن يغيِّر سلوكه ومنطقه وانفعالاته. إنك، إذا صليت لله، فقد رشوتَه لتؤثر في أخلاقه ليفعل لك طبق هواك. فالمؤمنون العابدون قوم يريدون أن يؤثروا في ذات الله، أن يصوغوا سلوكه.*

إن الذي لا يعلم بوجودي لا يُعَدُّ مسيئًا إليَّ. ولكن المسيء هو الذي يعلم بوجودي ويعلن اعترافه بي، ثم ينسب إليَّ الشرور والنقائص.
*
إن الشيخ الذي يملأ لسانه بالله وتسبيحاته، ويملأ تصوراته بالخوف منه ومن جحيمه، ثم يملأ أعضائه وشهواته بالكذب والخيانة والصغائر وعبادة الأقوياء، لهو أكفر من أيِّ زنديق في هذا العالم.
*
إن الإله، في كلِّ افتراضاته، هو سلوك، لا ذات فقط. فإذا لم يوجد سلوكُ إله فلن توجد ذات إله.
*
لقد وُجِدْنا، فأردنا وجودنا، ثم وضعنا له تفسيرًا عقليًّا وأدبيًّا.

*
إننا نحب حياتنا وأنفسنا بقدر ما نستطيع، لا بقدر ما نعرف. إننا لم نعرف شيئًا.
*
إنه لا يوجد منطق في أن نخلق المرض لكي نتعالج منه، أن نسقط في البئر لكي نناضل للخروج منها. وليست حياة الإنسان، في كلِّ أساليبها ومستوياتها، سوى سقوط في البئر ثم محاولة الخروج منها.
*
إن جميع ما يفعله البشر ليس إلا علاجًا لغلطة وجودهم.
*
إن الإنسان هو وحده الذي تحدث عن الآلهة ودعا إلى الإيمان بها.
*
لقد خلق الإلهُ الإنسانَ لكي يعبده ويطيعه. ولكنه كان يعلم قبل أن يفعل ذلك أنه لن يعبده ولن يطيعه. فهل كانت رغبته في عبادة الإنسان له غير ناضجة، أم كانت خطته لتحقيق رغبته غير كافية؟*

إن من أسوأ ما في المتديِّنين أنهم يتسامحون مع الفاسدين ولا يتسامحون مع المفكرين.
*
إن المطلوب عند المتديِّنين هو المحافظة على رجعية التفكير، لا على نظافة السلوك.*

إن افتراض أن العقائد القوية هي التي تصنع الأعمال الكبيرة غير صحيح. إن حوافز الإنسان، لا عقائده، هي التي تصوغ كلَّ نشاطاته.
*
الإنسان، قبل تديُّنه، وجد أن من الصعب عليه أن يكون ملتزمًا بضوابط الحياة المثلى، فتديَّن لأنه وجد أن من السهل أن يكون معتقِدًا.

*
أكثر الناس خروجا على التعاليم هم أقوى مَن وضعوا التعاليم. إن أفسق الحكام والمعلِّمين هم أقوى الناس دعوةً إلى الأديان والأخلاق.

لو كانت الفكرة تعني التقيُّد بها لما ابتكر الناس الأديان والمواعظ والأخلاق المكتوبة.
*
لو كان الإيمان مُلزِمًا لكان مستحيلاً أن يوجد في التاريخ كلِّه مؤمنٌ واحد.
*
الناس، في كلِّ العصور، هتَّافون على مستوى واحد من الحماس. هتفوا لجميع الحكام والزعماء والعقائد والنظم المتناقضة: هتفوا للإيمان بالله والإيمان بالأمجاد، للمَلَكية والجمهورية، للديمقراطية والدكتاتورية، للرأسمالية والشيوعية؛ هتفوا للعدل والظلم، للقاتل والمقتول.
*
إن الناس لا يؤمنون بالأفضل والأخلاق، بل بالأكثر صخبًا وتجاوبًا مع الأعصاب المتعبة.
*
أنت تتكلم، إذن أنت تحاول أن تقول غير ما تقول، أن تقول غير نفسك، غير الأشياء التي تتحدث عنها.
*
الناس لا يتحدثون عن الأشياء كما هي، بل كما يريدونها.
*

إنك حينما تَصْدُق أحيانًا إنما تريد أن تهرب من الصدق.
*

إن اللغة تعني دائمًا الفرار من معنى اللغة.
*
الناس لا يرحِّبون بالداعية ويتبعونه، ولا يؤمنون بالنبي ويرون معجزاته، احترامًا أو اقتناعًا أو رحمة، بل احتجاجًا وبحثًا عن صارخ متألِّم ليصرخوا وراءه، ليصرخ لهم وعنهم، ليصرخوا به.
*
إن آلهة الإنسان وعقائده ومُثُله وأخلاقه هي مجموعة أخطائه اللغوية.
*

إن الفرق بين الشيء ونقيضه يساوي الفرق بين رغبتنا فيه ورغبتنا عنه.
*
قتلي لعدوِّي عدل، وقتلُ عدوِّي لي ظلم. رأيي وديني صواب، ورأيُ المخالفين ودينُهم خطأ. هذا منطق كلِّ الأذكياء – وكلِّ الأغبياء.
*

إننا لا نعادي المخالفين لنا لأنهم ضد الفضيلة أو ضد الإيمان والحق، ولكن لأنهم ضدنا. إنهم مخطئون لأن إرادتهم ومصالحهم تُناقِض مصالحنا وإرادتنا.
*
إننا دائمًا نحن الوحدة القياسية للآلهة والمذاهب والناس وكلِّ الأشياء. إن كلَّ شيء يجب أن يُفسَّر بنا. حتى الآخرون الذين هم مثلنا، يجب أن يُفسَّروا بنا – وإلا فهم خونة ضالون.
*
إن الخلاف بين الشعوب والأفراد ليس على المذهب والتفكير، ولكن على الكينونة والإرادة.
*

إن ما يصنعه الإنسان هو أعظم من الإنسان. إن أفكاره ومُثُله وعقائده هي دائمًا، وفي التاريخ كلِّه، أطيب وأنظف وأذكى منه – مع أنه خالقها.

*
كم هو غير منطقي أن يكون المخلوق أعظم من الخالق، ثم لا يستطيع هذا المخلوق الكبير أن يغيِّر خالقه الصغير!


*
ما أعظم أن يصنع الإنسان نفسَه بالأسلوب الذي يصنع به حضارتَه وأدواتِها!
*

لقد كانت عبقرية الإنسان أن يخلق الأشياء على نموذج نقائصه، لا أن يخلق نفسه على نموذج نظرية مثالية ليصبح بلا نقائص، ليصبح شيئًا فوق نفسه.
*
ما أعظم الفرق وما أطول المسافة بين أخلاق البشر النظرية وأخلاقهم السلوكية والنفسية!
*

إن أشد الناس إيمانًا بالنظريات يتعايشون ويتلاءمون مع النظم المخالفة لنظرياتهم.

*
إن النظرية هي تحويل الواقع إلى صورة فكرية. ولا يمكن تحويل النظرية إلى صورة مادية.

*
إن البشر لا يصنعون انفعالاتهم؛ إذن هم لا يصنعون أخلاقهم، لأن الأخلاق ليست سوى انفعالات قد حوَّلناها إلى تعبيرات أخلاقية.
*
إن كلَّ تربية البشر الأخلاقية والاجتماعية الصالحة تعني تعليمهم نوعًا من السلوك، لا نوعًا من الشعور و الحب، لأن الشعور والحب لا يُعلَّمان.


إن الأخلاق، في كلِّ العصور، هي إتقان فنِّ التكلف والكذب والتزوير. حتى الإحسان للآخرين والإشفاق عليهم هو عطف على الذات، لا عليهم.
*
إن من أعطاك فرصة أن تعرض إشفاقك عليه هو من أحسن إليك.
*
إن الفرق بين الفاضل والرديء هو اختلافهما في تلاؤمهما مع الأشياء لاختلاف المستويات والظروف التي تواجههما والتي يعيشان فيها.
*
إن الفضيلة هي أن يتوافق الإنسان مع الطبيعة – لا أن يتجنبها أو يخافها أو يعجز عنها أو يحرِّمها أو يعبدها.
*
الرذيلة، في جميع أساليبها، هي أن يصطدم الإنسان بالطبيعة.
*
إن الحياة حركة، لا تشريع. إنها لا تُتَعلَّم، بل تخرق التعاليم. أما الإنسان فهو آلة وحافز.
*
إن الذين ينزعون إلى تقييد حياتهم بالمحرَّمات، تديُّنًا أو تغنِّيًا بالفضيلة، إنما يكشفون بذلك عما في أنفسهم من استعداد للهرب من الحياة.
*
الذين يحرِّمون على البشر سلوكًا أو شيئًا ما إنما يعنون أن يحرِّموا عليهم الذكاء والحرية والمقاومة.
*

إن التحريم يعني أنه يوجد شيء فوق البشر؛ إنه دائمًا دلالة أليمة على أن الإنسان محكوم من بعيد.
*
إنه لولا رجال أصحاء جاءوا يبشِّرون بالحياة ويصنعونها ويمارسوها، جاءوا يدعون إلى مجد الأرض ويشيدوا بمجد الشهوة والغريزة بسلوكهم ومنطقهم، لما استطاعت الإنسانية أن تعبُر الصحراء الرهيبة الفاصلة بين البداوة والحضارة.
*
الفضيلة قدرة، لا فكرة.
*
كيف يستوعب العقل البشري أن الآلهة تغضب على الذين يضحكون ويفرحون وترضى عمَّن يحزنون ويبكون؟!
*
أهل الأديان يريدون تحويل التاريخ كلِّه إلى مبكى بعد أن حوَّلوه إلى معبد. لقد ابتكروا خصاء الرجال ليفقدوهم كلَّ طموح إلى الحرية والتمرد والاستقلال والمقاومة، ليفقدوا حوافز المجد والغضب للكرامة عند فقدانهم الرغبة الجنسية.

*
إن الشهوات هي التي تغيِّر الأفكار وهي التي تخلقها. عواطفنا هي التي تحكم عواطفنا، وشهواتنا هي التي تحمينا من شهواتنا.
*
عندما نشعر بفقدان الحماس لشهواتنا تفقد عقولُنا كذلك نشاطَها.
*

إن الفضيلة ليست شيئًا غير الشهوة. إن محاولة الحصول على الفضائل بإضعاف الشهوات كمحاولة الحصول على الشيء بإعدامه، كمحاولة تقوية الرؤيا بفقء العين.
*
إن الله لم يخلق هذه الدنيا وهذا الكون إلا بحثًا عن السعادة لنفسه.
*

الاستقامة والأخلاق نوع من الفن، شهوة وقدرة وإرادة وموهبة وذكاء وظروف تتلقى ذلك وتتعامل معه، تلوِّنه بلا قداسة أو نبوَّة.

الأخلاق معركة ينتصر فيها أقوى الأسلحة الضاربة. والمعارك إنما تصنعها وتفصل فيها الشهوات. فالأخلاق شهوات تلاءمت مع ظروفها.
*
إن الأخلاق عند الإنسان وحكمَه على الأخلاق يتبدلان بتبدل وضعه الاجتماعي أو حالته النفسية أو صحته. إن أيَّ اختلال في إحدى غدده أو كبده يغير شعوره وتصوره وتفكيره واستجاباته الأخلاقية. إن الضعفاء يتصورون الأخلاق على غير ما يتصورها الأقوياء.
*
إن الذين لا يجيدون الابتسام قد ينتهون إلى تشريع البكاء والدعوة إليه كعبادة.
*
إن صفات آلهة الإنسان موجودة في ذات الإنسان، لا في ذات الآلهة.
*
إننا لا نستطيع أن نخرج من عبودية شهوة أو أن نردَّ طغيان شهوة إلا بشهوة أقوى.
*
ما أكثر المؤمنين الذين يرتكبون جميع ما يستطيعون من معاصٍ، معتمدين على التوبة في آخر المطاف، أو معتمدين على سعة المغفرة.
*
إن أية عقيدة لها تأثير على سلوكنا بقدر ما تستجيب لشهواتنا.
*
أقوى الناس اشتهاءً للدنيا هم مَن أبدعوا أقوى الأوصاف وأكثرها تعريةً وفضحًا لشهوات الآخرة. لقد جاءوا بأبذأ الأساليب في التشويق إلى اللذات المنتظرة هناك. والذين كانوا شعراء في وصفهم لنساء الآخرة كانوا حتمًا شهوانيين جدًّا في أشواقهم نحو نساء الدنيا. لقد اشتهوا ما هنا فوصفوا كشعراء ما هنالك.
*
إن الشهوات هي الجياد الأصيلة التي رفعتْ جميعَ العظماء على صهواتها ليحتلوا أكبر أماكن التاريخ.
*

إن تسليح الأفراد بالشهوات القوية كتسليح الجيوش بالأسلحة القوية: ليس لأيٍّ منهما فضيلة أو معنى إلا بذلك.
*

إن كلَّ إنسان أو شعب يفقد الحماس تصاب مواهبُه كلُّها بالعجز.
*

إن أعظم شيء يتفوق به الإنسان على كلِّ ما في الوجود هو موهبة التحدي.
*
يا شعوبًا أنهكها البحث عن الفضيلة! جربي البحث عن الرذيلة – فقد تجدين بها ما تفتقدين من فضائل.
*

إن الله لا يريد أن نكون وحدنا مؤمنين، ويكون غيرُنا كافرين – يفعلون هم الشهوات والعبقرية المحرَّمة والإبداع والحياة، ونفعل نحن الفضائل للموت والطاعة والخوف؛ يفعلون هم الحضارة، ونفعل نحن المواعظ والأنبياء.
*
إن العلم والحياة لا يصنعان الأخلاق، وإنما يصنعان القوة. إن القوة دائمًا ضد الأخلاق؛ لهذا لا ينتظر ازدهارُ الأخلاق مستقبلاً، بل نمو القوة الإنسانية.
*
إذا اتبعتُ الحقَّ واحترمتُه فليس لأني فاضل، وإذا اتبعت الباطل فليس لأني شرير، ولكن لأني في الحالتين إنسان. إني أفعل ذاتي دائمًا.
*
نحن نسمي بطلاً كلَّ من لم يجد الفرصة لكي يكون نذلاً.
*

الذين يفعلون الصواب لا يفعلونه لأنهم يحترمون المنطق. كذلك الذين يفعلون الخطأ، لا يفعلونه لأنهم يحترمون المنطق. ليست الحضارة أو الأخلاق أو فقدها منطقًا أو فقدًا لمنطق. إنها قدرة أو فقد للقدرة. ليس أعظم الناس إبداعًا وحضارة وأخلاقًا هم أعظمهم منطقًا.

*
حينما نشتبك في مناقشات ومبارزات جدلية لا نستعمل في الحقيقة عقولنا، وإنما نستعمل أعصابنا وتوتراتنا – أيدينا من بعيد. إن من يقاتل بعقله إنما هو يقاتل بيديه اللتين أخفاهما وراء كلماته.

*
إنك، إذا استعملت منطقك ضد إنسان، فأنت تريد أن تقتله أو تسبَّه أو تهزمه، ولست تريد أن تعلِّمه. إنك حينذاك شاتم، لا معلِّم.

*
أنا أفكر لأني أحيا، ولا أحيا لأني أفكر. أفكارنا دائمًا تعبير عنا، ولسنا تعبيرًا عنها. كلُّ جهاز يصنع عملَه، ولا يصنعه عملُه.
*
الآلام قد تتحول إلى أفكار، لكن الأفكار لا تتحول إلى آلام. قد يصبح التشاؤم تفكيرًا، لكن لن يصبح التفكير تشاؤمًا. لو كانت الأفكار تصنع الناس لأمكن صنع أعظم الشعوب بإعطائها أعظم الأفكار. الشعوب العظيمة تبدع أفكارًا عظيمة، لكن الأفكار العظيمة لا تبدع شعوبًا عظيمة.
*
إن الأنبياء لم يُبعَثوا إلى الناس والوحي لم ينزل عليهم لأنهم أفضل من الكائنات الأخرى، بل لأنهم أجرأ وأقدر على الادِّعاء والكذب باسم الكائنات البعيدة الصامتة.*


إن أشد الفلاسفة احتقارًا للعالم ولما فيه من آلهة وعظماء وشهوات لا يقل، في استمساكه بالحياة وقبوله للهوان فيها، عن أبسط الناس وأقواهم إيمانًا بحكمة الكون وثقة بأربابه الذين صنعوه ووضعوا فيه جميع أسرارهم وذكائهم ورحمتهم.
*
إن الشيء، لكي يعيش وجودَه، لا يحتاج إلى مبرِّر، حتى ولا من نفسه. إن وجودَ الشيء مبرِّرُه.
*
إنه محتوم وجودٌ أول ليس له أول. والأول بلا أول ليس مأخوذًا من شيء، ولا يمكن أن يكون علميًّا أو أخلاقيًّا.
*
لا فرق بين صنع قلم وصنع كوكب يُطلَق ليسير بين المجموعات الكونية الهائلة، حيث إن كليهما خاضع لقوانين محتومة.
*
إن معنى الوحدة القانونية معنى كبير. إن معرفة قوانين إحدى وحدات هذا الكون والسيطرة عليها تعطي الفكرة نفسها عن سائر الوحدات الأخرى المماثلة.

*
إن جميع المفكرين المؤمنين يرون أن الفكرة التي يجدونها مبثوثة في هذا الوجود هي أعظم البراهين؛ هي وحدها البرهان الدال على وجود الخالق المفكر المدبر لخلقه بالفكر والمنطق الأزلي. إنهم يرون أن الكون وُجِدَ وانتظم وبقي بالفكرة، وبها يبقى. وهم بذلك يعتقدون أن الفكرة سابقة الوجود لأن الوجود قد كان بها، ولم تكن هي به. إذن محتوم أن الفكر أبو الوجود. فلا شيء إذن فوقه ولا شيء محرَّم عليه.

*
نحن لا نستطيع أن نفكر أو نضع قوانين منطقية من غير وجود مادي نأخذ منه منطقنا وأفكارنا ونعكسها عليه ونحسبها به. فالمنطق والتفكير هما حركة المادة، هما حساب هذه الحركة. بل لا وجود لمنطق ولا تفكير، وإنما توجد مادة لها خصائص. إن إحساسنا بهذه الخصائص المادية هو ما نسميه منطقًا أو فكرة أو قصدًا مدبِّرًا.

*
منطق الإنسان هو منطق الإرادة كما ينبغي. أما منطق الكون فهو منطق الشيء كما هو.

*
إن الإيمان بالله يلوِّث الله ويُسقِط الكون والإنسان. أما الإيمان بالكون والإنسان فإنه يُسقِط الله. وأما الإيمان بالله والكون والإنسان فإنه يحقِّر الإيمان والذكاء
*
إننا لا نجد حتى اليوم ذلك الذي جرؤ على الاستمساك برأيه أو موقفه إذا كان يعيش فيه احتمال موت أو عذاب.
*
إننا جميعًا أبطال – إذا كانت البطولة تعني في حسابنا الربح والشهرة.
(بل أبطال إذا أفنينا أعمارنا لرفعة دين الله وتطوير دنيانا على حسب أوامر دينه وكثير من أبطالنا ماتو في السجون والديون)
*
ليس البطل هو الذي يدخل معارك لا نهاية لها مع الخصوم، وليس من يخترع الخصوم اختراعًا. البطل هو الذي يكسب الحياة والحرية للإنسان. وإذا استطاع ذلك، بلا خصوم ولا خصومة، كان هذا هو النصر الذي تهتف له النجوم.

*
البطولة تصدر عن عقل متفوق آمن بأفكار متفوقة؛ وليس في الوجود كلِّه قوة أقوى من قوة الفكرة العظيمة.
*
إن قوة المواقف قد تكون مأخوذة من قوة الحياة، لا من قوة الأفكار؛ وقوة الأفكار مأخوذة من قوة الحياة وليس العكس.
*

الأمم الكبيرة بأفكارها تجيء كبيرة بأخلاقها. فلذة الألم في سبيل الفكرة الكبيرة أكبر من الألم نفسه.
شيء يتفوق على إرادة الحياة غير إرادة الفكر.
*إن المنتحر تحت فكرة – أو بلا فكرة – لأكثر نبلاً وشجاعةً من أيِّ شهيد في أية حرب.
*
شهيد الحرب هو إما تحت فكرة أو بلا فكرة وإن كان بلا فكرة فهو منتحر وإن كان بفكرة فهو شهيد*

نحن نفاخر أهل الأرض في أننا وحدنا الموحِّدون الذين يعبدون إلهًا واحدًا، كبيرًا جدًا، لا نُشرِك به أحدًا. ولكن ما أكثر الأصنام التي نعبد، ما أكثر أصنامنا!

*
ليس الذي يصلِّي للشمس أو الوثن أو الأحجار أو الحيوانات أعظم شِركًا من الذي يصلِّي فكره واعتقاده ونظامه لأحد الموتى البعيدين عنَّا جدًّا.*


لا توجد عقائد لو لم توجد عواطف؛ ولكن العواطف توجد بدون عقائد.


*
الدين، إن كان صِدقُه قد عُلِمَ بالعقل، فالعقل إذن صادق الحكم في رأي الدين، وله، إذن، أن يحكم عليه في كلِّ الأوقات، لأنه هو شاهده. ولو شككنا، مع هذا الافتراض، في العقل لكان هذا تشكيكًا في الدين نفسه على ما سبق.
*
إن الذي يعرف الله ووجوده بعقله يجب أن يعرف بعقله كلَّ شيء.

*
العقل لم يُستشَر في الأديان، وإنما أُخِذَتْ بالتلقين والتتابع. فالذين يولدون في أيِّ دين يكونون من أهله.
*


الناس يجدون أديانهم كما يجدون أوطانهم وأرضهم وبيوتهم وآباءهم؛ يجدونها فقط ولا يبحثون عنها أو يؤمنون بها أو يفهمونها أو يختارونها. *
الناس في زماننا يعتقدون، ثم لا يفكرون، أو يفكرون فيما يجعلهم لا يفكرون.
*
لو كانت الأديان خاضعة لحكم العقل لضاقت الخلافاتُ فيما بينها وتناقصتْ، أو لتداخلتْ وتوحَّدتْ كلُّها في دين واحد كالذي حدث في الموضوعات الصناعية والعلمية التي ابتكرها العقل؛ أو لوجدنا المؤمن يخرج من دين إلى دين بالسعة والسهولة التي ينتقل بها من فكر إلى فكر، من موضع إلى موضع.
*
الأديان لا تنتصر إلا في المعارك التي تتجنبها. فهي لا تحارب بالعقل ولا تحارب العقل، أي لا تدخل مع العقل في معارك حرة – ولهذا ظلت منتصرة!

*
إن السماء، لو أرسلت لنا كلَّ أنبيائها ينهوننا عن الإيمان ويحرِّمون علينا كلَّ عبادة، لعصينا كلَّ الأنبياء وبقينا نؤمن ونصلِّي ونتعبد. فالعبادة استفراغ روحي، وعملية جنسية تؤديها الروح لحسابها، لا لحساب الآلهة.
*
إن العقل الذي لا يتناقض هو العقل الذي قد مات. ولا يحتمل أن يثبت أيُّ إنسان حياته كلَّها على حكم واحد.
*
العقل يتغيَّر لأنه شيء قوي. فالشيء القوي لا يثبت على حال. والقوي أكثر تغيُّرًا من الضعيف وغير الشيء. غير الموجود هو الدائم الثبات، لأنه لاشيء.
*
تناقُض العقل ليس ضعفًا فيه، لكنه يعني أنه يعمل في عدة ميادين وينظر إلى كلِّ الجهات. والعقل هو الذي يدرك تناقض العقل. فالتناقض وإدراك التناقض أسلوبان عقليان. وهو يدرك سخف العقل وهزائمه. العقل، ناقدًا ومنقودًا، هو كلُّ المعرفة.
*
الخرافة تدعو إلى الدوام؛ والخرافة أكثر دوامًا من الحقيقة.

*
العقل عمل الوجود الحسي.
*
إذا حَكَمَ العقلُ فحكمُه أن يرى الحركة فقط ويفسِّرها.
*
الكونُ ومنطقُه هما الله ومنطقُه. ماذا لو طالب البشر حكَّامهم أن يحكموهم بمنطق الكون؟!
*
الآلهة لا تستجيب لمن يدعونها ويُصلُّون لها، إنما تفعل الواجب والحق. إذن لماذا تُدعى ويُصلَّى لها؟ وهل يُدعى النهر ويصلَّى له ليفعل ما هو فاعل؟!*

أيُّ خالق هذا الذي يجعل مخلوقَه محتاجًا للعذاب والتلوث والمعاناة والأحزان ليكون مخلوقًا سعيدًا؟!
*
إن الذي يصنع الشرَّ، وهو غير محتاج إليه ويستطيع أن لا يفعله، شرٌّ جدًّا من الذي يفعله وهو محتاج إليه وعاجز أن لا يفعله.
*
الذي تكون شريعتُه فرضَ المثالية، كيف تكون حكمتُه الخروجَ على المثالية؟!
*
كيف يعاقِبُ الإلهُ على فعل أشياء هو يفعلها – مع أن الناس يفعلونها بالشهوة والضرورة، وهو يفعلها بلا شهوة ولا ضرورة؟!
*
"إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك" – إذن كيف يغفر لمن ينكرُ وجودَه؟!
*
أليس الملحدون الذين يعيش على عبقريتهم المؤمنون أعظم فضيلة وتديُّنًا من المؤمنين الذين يعيشون دائمًا على ذكاء غيرهم وقوتهم؟

*
الفاسق في عرف الدين، مهما كان نوع فسقه، ليس شريرًا كالمفكر المخالف في تفكيره.
*
وهل عزاء الآلهة أن يذهب عصاتُها إلى مقابرها لكي يبلِّلوها بالدموع الكاذبة؟!

*
ضمير الحضارة يبحث في المستقبل عمَّن يستقيم بلا عقيدة، لا عمن يعتقد بلا استقامة.
*
جميع الكائنات المعروفة لنا – عدا الإنسان – تعيش بالحقيقة – والإنسان وحده تقتله الحقيقة؟!
*
الحديث الشريف ليس إلا نقلاً للمجتمعات إلى المقابر، أو نقلاً للمقابر إلى المجتمعات، لكي تعيش فيها مواهبَها وتتعلم منها الخوفَ من التغيير

*
ما حكم العقل والمنطق في حديث "الذين يفسرون القرآن بآرائهم إما أن يصيبوا أو يخطئوا؛ فإن أصابوا فقد أخطئوا، وإن أخطئوا فقد كفروا"؟
*

إن أيَّ دين وثنيٍّ لأقرب إلى التوافق مع الدين الإسلامي من الأحاديث بعضها مع بعض – بل من الأحاديث نفسها مع الإسلام.
*
إن السجود الفكري هو المشرِّع لكلِّ أنواع العبوديات الأخرى.
*

أيُّ إثم في أن يقول رجل صالح أنه سمع سحابتين تتحدثان بحماس وانفعال عن جمال الإسلام وأنه خير الأديان وأن أهله سيحكمون العالم؟!

*
أنت مؤمن بإعجازه، إذن هو مُعجِز. هو مُعجِز لأنك مؤمن بإعجازه، ولست مؤمنًا بإعجازه لأنه مُعجِز. ليس مُعجِزًا لأنه مُعجِز، بل لأنك مؤمن بذلك.
*
الحديث تشريع وإلزام – ومع هذا حرام كتابتُه! هل معقول الجمع بين كون الشيء واجبًا وبين كون كتابته حرامًا؟!

*
تحضَّر الإنسان خارج المحراب ولم يتحضَّر داخله.
*
الذين تغذوا بآثام الجاهلية كانوا أبطالاً في الإسلام أكثر ممَّن تغذوا بتقوى الإسلام.
*
التحريم، في جميع صوره، ليس إلا مقاومةً للحياة.
*
الغلطة الكبرى التي شاد عليها المحدِّثون أكثر أخطائهم هي اعتقادهم أن الرسول كان إلهًا.
*
هل يصدِّق خيالُ المؤمن أن الله يتنزَّل من عليائه ليكلِّف جبريل بالنزول إلى الأرض ليوحي إلى محمد بالأكل من ذلك الطعام، أو بلبس ذلك الثوب، أو بحب فلان ويكره فلان، أو الأكل على الأرض، والنوم على الجانب الأيمن، وشرب الماء أربع جرعات، أو بوضع الخاتم في اليد اليمنى، أو بركوب الحمار؟!
*
إذا كان ممكنًا أن يخاطبنا الله بواسطة ملاك فكيف لا يكون ممكنًا أن يخاطبنا بواسطة ذواتنا؟! كيف نسمع الله بواسطة الآخرين ولا نسمعه بواسطة أنفسنا؟!

*
الذمُّ لا يعني دائمًا إلا الامتداح. فإذا ذممنا قومًا أو مذهبًا فنحن في الحقيقة نريد امتداح قوم أو مذهب آخر – نمدح هذا بذمِّ ذاك.

*
الجماهير هي دائمًا الأوعية الهائلة لأضخم الخرافات والأكاذيب العالمية.
*

الجماهير دائمًا فراغ ينتظرون ملأه. إنهم دائمًا أتباعٌ يؤمنون بالنبي والرجال ويهتفون للبطل والمهرج.

*
إن خفقة حذاء الشرطي يصافح بها الأرض لهي أقوى من طلعة ألف نبيٍّ في أيديهم ألف كتاب مُنزَل.

هل الإيمان والعقائد أن تسلب إنسانًا بصره ثم تعاقبه إذا لم يرَ، وأن تعطي آخر بصرًا قويًّا ثم تكافئه لأن بصره قوي؟!
*
إن الذين تعيش أبصارهم في السماء سيرون الشموس والنجوم والمجرات الهائلة. أما الذين يعيشون في ظلام الكهوف، مستملئين تصوراتهم بالتهاويل والأشباح وجثث الموتى، فهي لهم.

من كتاب ايها العقل من رآك
http://www.youtube.com/watch?v=xm4JyjOxS7U

الترجمة والجمهور- أ.د. عناد غزوان

                                     
الترجمة والجمهور




        أ.د. عناد غزوان                          
      لا شك في أن أدب أية أمة من الأمم كالأدب العربي يتمركز طبيعياً في ثلاثة أبعاد أو آفاق معرفية هي : التجربة الأدبية نفسها ، ومؤلف ( أو مبدع ) التجربة الأدبية والحقبة الزمنية ( تاريخ العمل الإبداعي ) . ومن هنا برزت في الدرس النقدي المعاصر ثلاثة مناهج تتحدث عن التجربة الأدبية انطلاقا من المنهج النصي والمنهج الإبداعي أو التحليلي ـ الفني والمنهج التاريخي للنص سواء أكان تعاقبياً أم آنياً ، بيد أن  الحاجة المعرفية ـ الحضارية المعاصرة ، تتطلب مدخلاً أو منهجاً أعمق تحليلاً للنص من غيره من المناهج دونما إهمال لها بالقدر الذي يسمح لها بالدخول في دائرة النص داخلياً أو دائرة النص خارجياً بحثاً واستقراءً وشرحاً لأفكار النص أو دلالاته المختلفة التي تكون ذات أهمية وشأن كبيرين في ميدان الوعي النقدي الذي تؤلف الترجمة بمعناها الفني والعلمي جانباً مهماً من هذه الآفاق ، وعنصراً مهماً من عناصر الثقافة بمعناها الأوربي ومعناها الحضاري فالكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والرمزية والأسلوبية ومناهج البنيوية المختلفة كالسيميائية ( أو علم الإشارات والعلامات ) والتفكيكية ( أو التشريحية أو الدلائلية ) ونظرية الاستقبال والتلقي والتـأويل وغيرها ، كلها ظواهر ثقافية لا تعني أدبا بعينه بل تتحدد تاريخيا لتشمل آداب الأمم جميعاً،يكون للترجمة فيها دور بارز واثر فاعل في التقارب بينهما تحقيقاً لعالمية الأدب البشري ( وليس الأدب العالمي ) ومن ثم تقليصاً للفوارق الثقافية التي نلمس اليوم بعضاً منها فيما يسمى بصراع الحضارات أو صراع الثقافات ، والترجمة بوصفها نافذة علمية تطل على كل آداب العالم ، صارت ذات بعد ثقافي وحضاري ذي تماس مباشر بالجمهور ، جمهور المتلقين ولا سيما أولئك الذين لا يعرفون لغة النص المترجم معرفة نؤهلهم لتحديد مثل تلك الفروق والتعمق في فهم مستوياتها ودلالاتها . وللترجمة دور نشيط يجاوز الأدب وأجناسه المختلفة الى أثره في العلاقة القائمة بين الأدب بوصفه نشاطاً إبداعياً وبين الأنماط العقلية والمعرفية الأخرى فالانثرويولوجيا ( علم الإنسان ) والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها بوصفها أركان الفكر الإنساني . وفي ضوء ردم هذه الهوة بين هذه الميادين المعرفية وربطها بظاهرة ثقافية واحدة ، برزت أهمية الترجمة بوصفها معياراً نقدياً يحدد عمق هذه الثقافة أو سذاجة تلك ، فهناك ثقافة عميقة يحملها الكثيرون لأنها غير معروفة  وثقافة بسيطة ساذجة يعرفها الكثيرون من جهة وبوصف الترجمة نشاطاً علمياً وفنياً يجعل تلك الظاهرة الثقافية معروفة لدى جمهور المثقفين عموماً على وجه هذا الكوكب الذي صار كوكباً صغيراً جداً في ضوء التقدم التقني التكنولوجي السريع في مجال الحاسوب والانترنيت والمعلوماتية السريعة التطور من جهة أخرى . وهنا تجدر الإشارة الى اثر الترجمة في مفهوم العولمة المعاصرة Globalization  وما يتضمنه هذا المصطلح الحديد من أبعاد سياسية واقتصادية وفلسفية وثقافية ونفسية .
1 ـ 2 :
إن الثقافة التي لا تمتلك تراثاً بالمعنى العلمي الدقيق للتراث لا تقوى على الدخول في صراع الثقافات المشابهة لها ، وللترجمة في هذا ( الصراع الثقافي ) أهمية لا تخفى على المثقف المعاصر فضلاً عن أهميتها في الأدب المقارن والنقد المقارن من حيث البحث عن الجذور التاريخية للثقافة البشرية وتبيان الصلات التاريخية التي تربط بينها عن طريق التأثير والتأثر وتداخل الأجناس الأدبية ، ولا يتم ذلك إلا عن طريق الترجمة المؤثرة في جمهورها .
ولا يخفى ما لهذه الترجمة من جوانب سلبية وخطرة في بعض الأحيان تجدر الإشارة الى الوقوف عندها وقفة متأنية وذلك من خلال ما يمكن أن نصطلح عليه بالنقد الترجمي أو نقد الترجمة لتبيان المسؤولية الاجتماعية للمترجم وترجمته أمام جمهور لا يعرف لغة النص المترجم وأمام مترجم لا يفقه النص المترجم إذ يطلق العنان لنوازعه الشخصية التي لا تخلوا من الحقد الدقيق ضد هذه الثقافة أو تلك ولا تخلو من التحريف والتزييف والتشويه ومن هنا تبرز أهمية النقد الترجمي الحضارية والثقافية والعلمية في آن واحد ، إذ أن ها النمط الثقافي ـ الحضاري سلط الضوء الكثيف على كثير من النشاطات المعرفية باستثناء النصوص العلمية التطبيقية المحضة التي لا تقبل مثل هذا التحريف والتزييف كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة وغيرها مثلاً . ولكننا بوصفنا جمهوراً مثقفاً نقف بحذر شديد أمام النصوص الإنسانية كالأدب والتاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية والفكرية والدينية ، إذ إنها أنماط معرفية قد يثسرب إليها التحريف والتشويه المقصودان أو العفويان إذ تولد الأزمة وتتذبذب المسؤولية الاجتماعية للمترجم والترجمة ناهيك عن آثارها السلبية التي قد تؤول الى خطر جسيم يهدد ثقافتنا القومية والإنسانية على حد سواء .
1 ـ 3 :
فالفكر الأدبي المترجم على وجه الخصوص يواجه مسؤولية كبرى أمام جمهور مثقف أو جمهور متحمس للثقافة الأدبية فإعداد أسباب موهومة ومزعومة ومغلوطة يؤدي حتماً الى نتائج موهومة ومزعومة ومغلوطة تجعل الثقافة الأدبية العالمية عن فوهة بركان تؤجج ( الصراع الثقافي )  ليصبح أخيراً ( أزمة عالمية ) فالترجمة أولا والجمهور ثانياً يجب أن يكونا متلازمين في استقبال الأثر المترجم من حيث الأمانة والدقة والإنصاف العلمي الموضوعي .
لا شك في أن أية ثقافة في العالم هي كلُ وتكامل من تجارب شعوبها في عصور تاريخية متعاقبة ومترابطة وان هذا الكل الثقافي لا يخلوا في بعض الأحيان من وهن يصيب جزءً منه بيد إن المنطق المنصف للمترجم من خلال استجابة الجمهور عليه ألا يغلب الجزء الواهي على الكل المكين والأصيل وهذه هي المسؤولية الاجتماعية التي تقع على عاتق المترجم ولا يكتشفها إلا النقد الترجمي المقارن وبهذا الخصوص يقول الناقد الانكليزي المعروف ( مارثو آرنولد ) ما معناه بان على كل ناقد محاولة معرفة أدب عظيم أصيل واحد في الأقل فضلاً عن أدبه القومي ليكون ناقداً أدبياً موفقا وانسجاماً مع هذه النظرة الواقعية التي يراها هذا الناقد بأنه قانون النقد Law of Criticism  . يجب على المترجم أن يكون مثقفاً وأدبيا بلغته وآدابها وبلغة وآداب امة أخرى ليقدم لجمهوره تجربة ناضحة تستحق التقدير والثناء وإلا فان كثيرا من الترجمات التي تطالعنا بها دور النشر اليوم ليست بالمستوى العلمي المطلوب مقارنة بغيرها من الروائع القليلة التي يقدرها الجمهور.
قيل أن أي مثقف أو الجمهور المثقف عليه أن يتواصل مع الأدب الأجنبي الناضج بالنسبة له كأنه بداية أو مستهل أو عتبة لا بد من الوقوف عندها وقفة متأنية ولا يتم ذلك إلا عن طريق الترجمة التي ستؤهل هذا المثقف أو هذا الجمهور ليكون مثقفاً واقعيا حقيقيا وليقف على أصالة أدبه وفكره بالمقارنة من جهة أخرى  .
والترجمة بالنسبة لهذا القول تتخطى هذه العقبة أو العتبة لأنها تمهد السبيل دائماً الى اللقاء بين الأدبين المختلفين لغة وحساً بأنها نتاج أنساني يهم الجميع ولا يتم ذلك إلا عن طريق علاقة حميمة بين المترجم المسؤول والمثقف المسؤول أو الجميع المسؤول بوصفهما ينتميان الى ثقافة إنسانية واحدة وكلما استثمرت اللغة للتعبير عن حقائق الخيال سواء كان ذلك في الشعر أم في النثر ، فان العمل الأدبي سيتجذر ويتأصل أكثر متانة وقوة في الأشياء غير المترجمة .
التي تحتاج الترجمة الدقيقة والسليمة فعلاً وهذا أمر يهم الترجمة وجمهورها فالألفاظ في أي نص أدبي وثقافي ذوات معاني ودلالات لا يمكن تغييرها بسهولة وبساطة بل تحتاج الى تكامل عميق وإدراك مقترن بها من خلال " لغتها " التي هي عليه التوصيل أو الإيصال وليست مجرد وسيلة للتفاهم البسيط العام . لان ترجمة الصور الشعرية والأدبية هي من أصعب المهمات التي تواجه المترجم وعليه أن يجتهد كثيراً ليقدم تلك الصورة الى جمهوره ويتذوقها كما يتذوق جهد النص الأصلي صوره الشعرية والأدبية بالحماس نفسه وبالاستجابة نفسها " وهذه مهمة صعبة وتعد سمة رائعة من سمات الترجمة الناجحة في ضوء معيار النقد الترجمي .
وإذا قيل في العمل أو  الأثر المترجم بأنه لا يعدو أن يكون استنساخاً لصورة أو لوحة زيتية ولكن باللون الأسود والأبيض ، فان المترجم هو المسؤول أمام جمهوره أن يقدم هذه اللوحة الزيتية بألوانها الأصلية المختلفة أي بأصالتها وروحها الواقعية الى جمهوره وهي مهمة المترجم الناجح ، ولا ننسى الحقيقة القائلة بأنه مهما حاول المترجم أن يقدم قدرة الخيال وقوته في الصور الأدبية والشعرية سواء كانت في القصيدة الغنائية أم في المسرحية ام في الرواية ، فعليه أن يبرز المقومات والعناصر الجمالية لتلك الصور في ترجمته آخذاً بالحسبان استجابة جمهوره وهو الفيصل في تقدير القيمة الفنية والجمالية لأثره المترجم .


1 ـ 5 :
إن ترجمة النص الأدبي أو القصصي الشعري أو النثري يمكن أن تتم خطوة خطوة بالتعاقب معاً من خلال ترجمة جيدة وإلا فان هذا النظام السردي أو النمط القصصي سيفقد معناه في الترجمة غير الجيدة أو الضعيفة أما ترجمة الشعر فتلك مسألة معقدة ولا يمكن أن تحقق الاستجابة عند الجمهور بالقدر نفسه عند قارئ النص الأصلي والمترجم الناجح في هذا الميدان هو الذي يسعى الى أن يشعر جمهوره بأنه يقرأ شعراً عربياً مثلاً ولكن بأفكار وأساليب شاعر أو شعراء آخرين ...
أن أهم قانون في الترجمة هو الوضوح ولا شيء يمكن أن يكون نهائياً ، فإذا فقدت الترجمة عنصراً من عناصرها ( الوضوح والدقة والأمانة )فقدت قيمتها بوصفها بأنها فناً أدبياً ومن ثم فقدت تحقيق الاستجابة عند الجمهور فللترجمة حقوقها المشروعة للبقاء عنصراً مهما من عناصر اللقاء بين ثقافات العالم المعاصر ومنها ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة بكل ما تحمل من تراث أدبي وعلمي عميق الجذور وتاريخ غني بإنسانيته وشموليته .
1 ـ 6 :
إن الترجمة الأمينة الواضحة التي يرغب فيها الجمهور هي تلك الترجمة التي تجمع بين الترجمة العمودية التي تستند الى التفسير الذهني للغة النص المترجم التي تتغير بتغير الزمن ولا سيما دلالة الألفاظ واختلاف معانيها عبر أزمان أو تواريخ مختلفة ، والترجمة الأفقية التي تستند الى فهم الفرد للهجات المختلفة في لغة لهجات الطبقات الاجتماعية التي يتألف منها مجتمع اللغة تاريخيا ً ( آنياً ) أو تعاقبياً
إن قانون الترجمة يتطلب التعادلية والتكافؤ بين المترجم الدقيق في نصه المترجم وبين الجمهور الواعي في استجابة لذلك النص وهي معادلة ذات علاقة حميمة بين الترجمة والجمهور لغة ووزناً ومضموناً لا سيما في ترجمة الآثار الفلسفية والدينية والفكرية والثقافية في أي مجتمع بشري أو إنساني وهذه المعادلة بهذا المفهوم ترى أن الترجمة الفكرية والأدبية هي عمل إبداعي خلاق ذو أصول لغوية دقيقة تفتح أمام الأدب القومي آفاقاً معرفية جديدة وتزيد في ذخيرة التراث الفكري .
إن الترجمة في علاقاتها بالجمهور معنوناً  بأنواع الترجمة أو المحاكاة القائمة على اقتباس النص الأصلي والتعرف به أو الترجمة التفسيرية والترجمة التلخيصية بل هي معينة بان تقدم لجمهورها ما يحقق له الاطلاع المعرفي الأمين على الثقافات الأجنبية والاطلاع الفني والجمالي على الآداب الأجنبية ليتحصن حصانة ثقافية موثقة ضد الدعايات السياسية والفكرية والدينية المعاكسة التي قد تتسرب إليه عن طريق الترجمة على الرغم من وجود بعض أفراد الجمهور ممن يتقن لغة النص المترجم وهم في الأغلب الأعم قلة فالجمهور لا يطلب من المترجم أن يقدم له شيئاً مشابهاً للنص الأصلي حسب ، بل يطلب منه أن يكون هذا الشيء مقروءاً أيضا ، وهذا يعني أن ( الإبداع ) في النص المترجم يجب أن يقابل     ( الإبداع ) في النص الأصلي وتلك هي المسؤولية الاجتماعية والأدبية للمترجم أمام الجمهور .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في ذكراه/ فصول من كتاب نصب الحرية لجواد سليم ملحمة شعب وذاكرة حضارة*-عادل كامل







 في ذكراه/  فصول من كتاب

نصب الحرية لجواد سليم
ملحمة شعب وذاكرة حضارة*












 القسم الثاني




عادل كامل

[3] المركز ـ المحيط

   عندما نجري مقاربة ـ ومقارنة ـ تأويلية، بين قراءة البيت الشعري الكلاسي (العمودي) العربي، وبين النصب، فان الإجراء سيفضي إلى تنوع ـ واختلاف ـ بتعددية مستويات المتلقي في عملية التذوق، التأمل، والبحث. فالبيت الشعري الواحد ليس جزءا ً من الكل، بل استثناء ً، لأنه لا يمثل الكل إلا بصفته حاصل وحدة أجزائه، من غير تقاطع مع تقاليد آليات البناء. ففي كل جزء من أجزاء النصب ثمة استقلالية ـ في المعنى وفي المعالجة ـ تسهم برف النص ـ الرليف، نحو ذروته: دورة الحياة بمعنييها الواقعي والرمزي، وهو المثنوية القديمة قدم الأساطير الرافدينية: عالم ما تحت الأرض، وعالم الإلهة، وهو: الظلمات ـ النور. على ان النصب يعيدنا إلى الوراء، الماضي، والى المتراكمات اللاواعية للذاكرة، ومشفراتها، وفي الوقت نفسه، يضعنا إزاء حركة تتقدم إلى الأمام. فإذا كانت الأختام قد شكلت نواة النحت، والمعرفة، في الحضارة العراقية القديمة، فان التحويرات الأسلوبية، للفنان، يستحيل عزلها عن تيارات الحداثة، والابتكارات الأسلوبية المضافة. فالرؤية الأفقية، للنصب، تأتي وليدة عناصرها الأسطورية ـ الزراعية، ولكن بمعالجة لم تغب عنها المحركات الفكرية، والمعرفية. وفي هذا المدخل سيتحول النصب ـ بمجموع وحداته ـ إلى بيت في قصيدة، مع ان الأجزاء ستحافظ على علاقتها بالغناء المركز ـ المعنى: الحرية، أو الانعتاق، وهو تقليد له تقنياته في القصيدة العربية، منذ المعلقات وصولا ً إلى شوقي والجواهري.
    فالمشهد الأفقي يتيح للمتلقي أكثر من مدخل للقراءة. مما يذكرنا بذات الذهنية التي كتبت فيها أقدم النصوص الرافدينية، ومنها الفكرية، والدينية، والأدبية، كأسلوب يماثل عمل النسّاج بجمع وحداته والنظر إليها من زوايا متعددة اغناء ً لمفهوم: الجمع، التوليف، والتركيب.
   على ان المسافة التي دارت في ذهن جواد سليم ـ بين النصب والمشاهد أو المتأمل ـ تبقى شبيهة بأداء المغني أو الموسيقي الذي يدرك ان مهمته تكمن في إيصال الأصوات بالدرجة ذاتها للسامع أينما كان موقعه من المصدر ـ المركز.
   ويبدو ان المسافة التي شغلت ذهن جواد سليم ـ بين النصب والمشاهد ـ تماثل مهارات الشاعر (والموسيقي أو المطرب) في إسماع صوته الذي يراعي فيه البعيد كالقريب معا ً. فالنصب يشاهد عن بعد، بل من الفضاء، وبنصف دائرة تؤدي ـ بالحركة وبالإيحاء وبالمعنى ـ عمل الدائرة كاملة: كحركة من الخارج نحو المركز، ومن المركز إلى الأطراف.
   وأفقية النصب ـ امتداده ضمن نسق مركب ـ يقع في مركز بغداد، بجوار امتداد نهر دجلة. فالنهر ـ هو الآخر ـ جزء من كل ـ كلمة في جملة ـ ومقطع متصل بالحركة، إن كانت حركة في مجرى النهر، أو في تمثل العلامات الثقافية، وهو ما سيشكل المفهوم (الايكولوجي) للنصب، ولمعنى الهوية ـ الخصوصية ـ إزاء قطيعة مع الموروث أولا ً، ووجود غريب مع الحاضر، ثانيا ً، وصدمة إزاء مدينة خالية من المجسمات المعمارية، والنحتية، باستثناء الرموز الدينية، والمعمارية المتفرقة، وبنصبين من صنع نحاتين أجنبيين، واقصد بهما تمثال: الجنرال مود، والملك فيصل الأول، ثالثا ً.
    فأين سيقع نظر المشاهد، والفنان منشغل بتحقيق غايات يكاد الجمع بينها، بحد ذاته، سيشكل مغزى الوحدة في اختلافها، والاختلاف في وحدته. فالموروث لا يمكن استنساخه، مثلما يصعب تقليد المنجز الحديث، مما سيتيح للفنان معالجة التركيب، بالصهر، والصهر كي تكون الهوية متحققة، في معادل تتوازن فيه الروافد، مثلما يتوازن عمل اللاوعي بالمقاصد الواعية. فالحذف سيؤدي دور الإضافة، والمبتكر سينسج نسقه بالكثير من الاختزال، والتحوير، والترميز.
 


  فثمة مدينة تكتظ بالأزمنة، وتتجمع فيها الروايات، والأحداث، وجواد سليم عاصر، منذ طفولته المبكرة، سلسلة من التصادمات ما بين الوطني، والآخر، الوافد أو الأجنبي، فالغليانات، والانتفاضات، قبل ثورة العشرين، وبعد الوثبة، فضلا ً عن القرون المظلمة التي تراكمت، كي تجد، جدليا ً، مفهوم الانبثاق ـ الولادة، لردم فجوات تمتد إلى نهاية الإمبراطورية الأشورية، بإقامة نصب جداري تتمثل فيه الإرادة الشعبية (الوعي الجمعي)، إلى جانب الطلب أو التكليف الرسمي من لدن القيادة السياسية للحدث: 14 تموز 1958، في زمن كان جواد سليم قد تحولت (ذاته) من خصوصيتها، نحو الهوية الجمعية للشعب.
   فالنصب هنا بمثابة هذه الولادة ـ مستعينا ً بوعيه العميق للنسق الديموزي (التموزي) ـ: لا تدفن البذرة إلا لتورق ـ بزمن له خصوصيته، في عصر مشحون بالفوضى، والتمرد، والانقلابات، كي تجد هذه الروافد مناخها ـ مع المتلقي العام، الذي آذاه انتظار زمن الانعتاق، والتحرر ـ لكسر زمن الغياب، وإعلان الولادة ـ الثورة.
   لم يغب عن وعي جواد سليم، ولا وعيه، ان الإنسان ما هو إلا مزيج من: الطين، والماء، وهما، في الأصل، نواة بذرة الخلق، من غير إغفال ان الآلهة منحت من ذاتها (نفسا ً) له. فالأساطير سكنته حد ان الخروج منها تطلب ما دعاه جبرا إبراهيم جبرا: بالمعجزة. فليس لديه، كتفكير لم يتقاطع مع الأعراف العراقية القديمة، والمعاصرة التي درسها، وتأثر بأحداثها، إلا: الجسد. فهو ليس (عورة) وليس (معاقبا ً) ـ ولكنه يبقى يحمل جرثومة الذنب، وفي الوقت نفسه، خلاصة لملحمة جلجامش ـ: لا يدوّن تاريخه إلا بالعمل. فجواد سليم لم يتوقف عند مفهوم العدم (البابلي) بأصوله السومرية لمفهوم ان الحياة قبض ريح، بل ـ كأنه ـ يعيد كتابة ملحمة (جلجامش) بعيدا ً عن الميتافيزيقا، وقد استعان بالجسد، بصفته لم يخلق فائضا ً.



 
  انه لم يتخل عن ثقافته (الجمعية/ الشعبية)، بوعي له خصوصيته، ونسقه المستحدث، حيث الثقافة الجمعية ستجد تمثلاتها في: النبات، والحيوان، والإنسان، والفنان منشغل بتلبية طلب يرتقي إلى واقعية الحدث، جوهره ورمزيته معا ً، بمعناه السياسي/ التاريخي، وبمعناه الروحي، كحد فاصل بين نهاية العهد الملكي، وتدشين حياة لعلها تواكب ما يجري من تحديثات في العالم المعاصر، في العهد الجمهوري.
   فهل ثمة (مركز) ـ بمعنى بؤرة ـ وهو المفتاح، ليجري مقاربة عندما لم يجد، سوى (الجندي/ المقاتل) رمزا ً واقعيا ً يلخص الحدث كي يكمل مفهومه لدينامية البناء ـ: الواجهة ـ الرليف ـ النصب ألجداري، ليس للانغلاق عند مفهوم الحدث السياسي، بل امتداد من الأرض/ الماء/ الجسد ـ وهي المكونات التي شكلت مادة النصب ـ وتعبيريته، بمنح (النفس) ـ الطيف أو الروحي ـ هويته إزاء عصر بدأت الشركات عابرة القارات تتحكم بمساراته، وبإعادة بنائه بعولمة منحتها التصادمات مسارات مازالت قائمة حتى يومنا هذا. ذلك لأن (الجندي) ـ وجواد سليم أعانته حكمته، ورهافته، إلى جانب القدر أيضا ً، كي لا يضع بورتريه الزعيم عبد الكريم قاسم بدل الجندي، وإلا لكان عرضة للهدم بعد سنتين من إقامته، أسوة بقتل الزعيم، مع انقلاب 1963 ـ * فالنصب، غدا (مركزا ً)، بمعنى مفتاحا ً يدور في الباب ـ والباب اقتران بالمدن العراقية منذ أور حتى بغداد ـ لقراءة تاريخ شعب تجمعت فيه الأزمنة، بتنوعها، من المأساة إلى الانفراج،  ومن الكمون إلى الانبثاق، ومن الصفر إلى العدد، فالجندي ـ في الضمير ـ اكتسب شفرة (الخصب)، فهو، بحسب تحليلات الأستاذ شاكر حسن التوليدية للنصب ـ ليس رمزا ً للذكورة ـ رغم ما تبدو عليه بعض الأشكال من صلابة ـ بل إيحاء ً لا جنسانيا ً، بوحدة وتكامل عناصر البناء لمفهوم: كسر قضبان الموت/ السجن، ومنح الشمس ـ المؤنث باللغة العربية ـ مساحة للاتساع، والحركة.
   فالمفتاح غدا إيحاء ً مزدوجا ً لـ: الشمس، بؤرة النصب، مع الجندي، والمرأة حاملة الشعلة، بالامتداد الأفقي، للثقافة الشعبية، وهي تعيد حلقات نائية للختم الاسطواني، وللإناء ألنذري، والجداريات الخزفية البابلية، والرليفات الأشورية، دورة الحياة، بدءا ً بالشمس، والماء، والنبات، والطين،أي، بالإنسان مركزا ً وقد صاغت منه الأجزاء الوعي التركيبي. وقد كان خالد الرحال شديد الانبهار بمهارة جواد سليم البنائية ـ للنصب: الملحمة. فالمركز لا يتلاشى، أو يندمج، أو يؤدي دور البيت الشعري في القصيدة، أو مقطعا ً من النهر، حسب، بل المعمار ذاته، بالمفهوم الديالكتيكي للبناء، حيث الصلة تبقى قائمة بين العناصر: الشمس ـ المقاتل ـ والمرأة حاملة المشعل.
   وهنا يأتي المفهوم الدينامي للبناء في مواجهة ملاحظة تحدث بها احدهم عن (فجوات) أو (فراغات) أو عن عدم ترابط (الأجزاء) بمنح الحركة دورتها الكاملة ـ الشمس، وحركة الحصان في يمين النصب، وثبات العامل في أقصى يسار النصب، كي تكون قراءة النصب متجانسة، من الأجزاء إلى المركز، ومن المركز إلى المكونات التفصيلية للأجزاء، وهي تشّذب خطابها ـ كثقافة ـ ترتقي بالصراع نحو ذروته: الولادة، من غير إغفال ان النصب، ضمنا ً، أعاد تدوّين أقدم حكمة رافدينية: العمل، في مواجهة (الظلم)، إن كان قدرا ً مقدرا ً، أو من صنع الإنسان إزاء الإنسان.

* يذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا : " يجب ان نذكر ان الذي طلب إليه صنع النصب كان عبد الكريم قاسم، وهو أراده نصبا ً للثورة، بل أوحى انه يريد وضع صورته فيه. ورغم ما أعطى جواد سليم حرية في تمثيل ذلك، فقد كان عليه قبل كل شيء ان يمثل ثورة، أرادها الشعب، ولكن نفذها عسكري. وهكذا جاء القسم المركزي من النصب" جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد 1974 ص133.

   



[4] ذاكرة النصب
   وإن كانت تجارب نيازي مولوي بغدادي ـ وهو أقدم مؤلف، ونسّاج، وذهنية مركبة، دشن مقدمات للفن الحديث في العراق ـ خارج دائرة الاهتمام، والأضواء، إلا أنها كانت وليدة تحولات سمحت للفنان ان يرتقي بالحرفة نحو الفن، وبالفن نحو المجتمع المعرفي، وبالذاكرة (الموروث) نحو العصر، فقد جمع ـ كما يذكر  الأستاذ شاكر حسن ـ بين الرسم والخط والزخرفة، لا من خلال " المجال التقني كفنون تشكيلية مستقلة بكيانها عن بعضها البعض بل من خلال رؤيته الفنية التي حاول ان يسبغها عليها جميعا ً. وقد اقتضت هذه، بشموليتها، ان يؤلف ما بين حسه اللغوي والتشكيلي والحرفي في ان واحد، بحيث يستطيع بعد ذلك ان يطور كل فن على حدة بكل غنى مثلما يتوصل أيضا ً إلى نتائج رائدة في مجال الفن المعاصر تسبق عصرها بنحو قرن من الزمان" (1)
     لكن هذه الريادة ـ مكانا ً وزمنا ً ـ وجدت، لدى جواد سليم، نموذجها.
   فإذا لم تتعرض تجربة نيازي مولوي للأضواء، كي تجد من يرى فيها غير الذي رآه شاكر حسن، وغير الذي أنجزه بمنح (النسق) وثبات جعلت من الذات علامة مجتمعية ـ حضارية، وجعلت من الفن لغة ردم ـ وحفر، رسمت حدا ً فاصلا ً بين ظلمات قرون خيمّت على العراق، وبين آفاق منحت البذرة اشتغالاتها، فان النظام التموزي الرافديني ـ دفن البذرة عبر مفهوم التضحية حد سفك الدم ـ سيعيد اشتغالاته. وهو ذاته سيشكل نظاما ً لجواد سليم خلال حياته الزاخرة بالتدشينات.
     فقد تعرض جواد سليم ليس للنقد حد (التجريح) (2)، بنزعته نحو التحديث، بل بتهم تذكرنا بمن تعرض للانتهاك، والموت. فنجد من يزعم ان جواد سليم، لم ينصص، ولم يتأثر، ولم يستفد، ولم يتغذ على تجارب سابقة، بل وضع (الحافر على الحافر)، بالرجوع إلى مشاهدة متحف الشعوب، باللوفر، في فرنسا.(3)
    وللآسف لم ترسلني أية جهة رسمية، أو شبه رسمية، بزيارة واحدة منذ بدأت الكتابة، في العام 1968، حتى هذا اليوم (2013) (4) كي ازور هذا الجناح، وأتحقق من هذا الرأي.
   بيد ان نصب الحرية، بعد نصف قرن، اشتغل، كما في عدد من مصغراته التي أنجزها قبل سنوات من إقامة النصب، ذات صلة بالنسق ذاته للأساليب الرافدينية ـ وللموروث الشرقي، والإسلامي، والعربي ـ في عصر (الحداثات) الأوربية: الفن بصفته مرآة، وبصفته مزاوجة بين الأزمنة، والأساليب، والذي يلخص مفهوم: التناص ـ التنصيص، بصياغة تتحقق فيها الهوية ـ المدرسة ـ عبر التجريب، وليس عبر الانغلاق أو التكرار، أو محاكاة التيارات المعاصرة.




   لا مناص ان جواد سليم عاش زمن نشوء (دولة) مستقلة؛ بمعنى عاش تدشينات وتحولات شملت الحياة العراقية برمتها، وفي مقدمتها ليس استعادة زمن مضى، وتوارى، ودفن، واستبداله، حد القطيعة، بعالم آخر. فجواد سليم، بتأثيرات النشأة، كان يراقب هذه التحولات، وتعقيداتها. وليس انتحار عبد المحسن السعدون، رئيس وزراء العراق، بحدث عابر، بل نموذج رسخ مدى الصعوبات التي ستواجهها (الهوية) ـ بماضيها وبمستقبلها ـ في المجالات كافة، ومنها، الفن. وتشخيصات جواد حول (المدرسة) صريحة تماما ً، فيذكر ـ على سبيل المثال ـ: ان الفن " لا يتبلور ويأخذ قالبه أو مستواه في خلال عشرين سنة أو نصف قرن.." متابعا ً " ومع هذا فالفنان هنا في بغداد يواصل العمل ـ وهذا هو المهم والذي يحمد عليه ـ مما يجعل لنا وطيد الأمل بحدوث النهضة الفنية "، ولكن ثمة محركات كانت تشتغل في أعماق الفنان، يلخصها الأستاذ عباس الصراف بجلاء: "ان موضوعات جواد في الرسم والنحت مدارها الدراما الإنسانية تتمثل قي ذلك الإنسان الطعين المصلوب باسم غصب الآلهة تارة وباسم الديانات السماوية تارة أخرى وباسم العنصرية والطبقية والإقليمية تارة ثالثة" (5) ولجواد سليم إشارات نقدية تحدث بها بعد عام 1958، فذكر " ان القائلين بان الفن العراقي سيبدأ حياته بعد الثورة، هم الذين فشلوا في ان يحققوا أي عمل فني جيد قبل الثورة، ذلك لأن الفن العراقي، طرق ـ في حدود الظروف التي أحاطت به ـ أكثر من موضوع إنساني، بل تناول كثيرا ً من جوانب الحياة في وطننا، وهذا ما يحملنا على القول بان الفن في العهد الجمهوري، لن يكون إلا امتدادا ً للماضي، ولكنه امتداد انفجاري ـ إذا راعينا دقة التعبير ـ لأننا نرقب فيه تفجر جميع الطاقات الفنية المبدعة" (6)







  فإذا كان الأسلوب ـ بمعنى الهوية ـ يأتي بعد الموت، بحسب تصوّر بيكاسو، فان جواد سليم، برهافته، راح يشذّب، ويعّدل، ليمنحه معادله مع الخلاصات: الهوية ـ أي ان يجد مأواها في الأزمنة القديمة، وفي ذات الوقت، ألا يكون نسخة مستعارة من هنري مور، أو بيكاسو، أو جايكوميتي، أو خوان ميرو، أو كاندنسكي، أو تابيس، أو أي فنان من فناني عصر الحداثة. لقد قلب السياق، وسمح للأسلوب ان يتشكل عبر روافد مكونات الهوية ـ وأدق تفاصيلها ـ على صعيد الأشكال، والأسلوب. خاصة انه، في نصب الحرية، استعار، واستعاد، دور الفنان ـ ودور الفن ـ في وادي الرافدين؛ ذلك الارتقاء من (الأنا) نحو عملها المنسق مع الضمير الجمعي، من غير محو لها، ومن غير قطيعة معها أيضا ً. فهو بصدد انجاز (علامة) ليست خاصة بالحدث، 14 تموز 1958، المحدد بمكانه وزمنه إلا وهو يزيح ظلمات قرون تعود بنا إلى الواجهات (اللافتات/ الجداريات) في عصور: الأشوريين، البابليين، والسومريين. وكلماته حول معنى كون الفن مرآة اجتماعية، تضمن التعبير عن هذا الهاجس، وفي الوقت نفسه، فان الأسلوب تضمن خزينه العميق، النائي، واللاواعي، لجذور تخيلها عبر منجزه الفني وهو يخاطب المستقبل، ولا يكتفي بالحاضر، ومحدوديته. (7) فالفنان لم يعد حلقة بين مجهولين، بل حاضرا ً لم يجعل من الفن جسرا ً للعبور ـ أو الدعاية ـ ، بل، على العكس، تدشينا ً لاتجاه تميز، واختلف، عن مفاهيم موت الفن، وعن مفهوم موت الفنان/ المؤلف، كي يتضمن رسالة استبدلت مفهوم (الوثن) و (السلعة) بالإنسان ككائن مثقل بالانتهاكات، نحو: انعتاقه ـ وكرامته.  وقد يكون مصغّر (السجين السياسي المجهول) ـ 1953 ـ نموذجا ً لسلسلة من الأفكار التي شغلت ذهن الفنان، لكن تجاربه الأقدم، والأخرى  التي نفذها قبل الشروع بتصميم نصب الحرية، تفصح عن المنحى التجريبي القائم على استبعاد أية أحادية في المنهج، واستثمار نسق (الصيرورة) بالمدى الذي يسمح للفن ألا يكون معالجة فنية خالصة، أو حرفية، أو ذاتية، إلا كمحرك للمعنى الأبعد: الانعتاق ـ بالحفاظ على واقعيته، وتعبيريته، ورمزيته في الأخير.
    ففي نصب (البنّاء) ـ 1944 ـ 1945 ـ والفنان في عنفوان شابه ـ يمسك بالحل النموذجي، والوحيد، لحكمة ملحمة جلجامش: الصيرورة، أي ليس لدى الإنسان إلا ان يصنع تاريخه، كي يحقق حريته فيه، لا ان يتخيله، ويتأمله حسب. فالعمل، وهو الذي تأسست عليه أقدم حضارات وادي الرافدين، بعلاماته الهندسية، وبالاستناد إلى العدد، الحساب، والكتابة، والجهد البشري الخلاق، سيشكل المفتاح بمعناه المشفر في نصب الحرية.،





   ففي نموذج (البنّاء) جذور واقعية استقاها الفنان من تأمله لأحد أسطوات بغداد، الاسطة طه، وشيد بها المعنى، بتأثيرات لم يغب النحت المصري القديم عنها، ولكنها، في الوقت نفسه، سمحت للبنّاء ان يكون (مركزا ً) للرليف بالتوازن مع فريق العمل، والتفاصيل الأخرى. انه نموذج سيتكرر في نصب الحرية، حيث (الكل) لا يمكن عزله عن أجزائه، ومكوناته، مهما كانت مستقلة، مثلما تؤدي الأجزاء دورها في الكل، كي يأخذ سياقه في الصيرورة: في المعنى ـ وفي الأسلوب/ الهوية.(8)
    وفي نموذج (ثور وفلاحة) ـ 1955 ـ تتداخل الرموز العراقية، كجدل (مترابط) بين المرأة والثور، عبر الرموز المستقاة من الواقع: المثلثات، والأهلة، وسعف النخيل، وهي التي سيعيد صياغتها، بتشذيب بالغ الحكمة، والمهارة، في نصب الحرية.  ونموذج (الإنسان والأرض) ـ 1955 ـ هو الآخر، منح (الأمومة) العلاقة الديالكتيكية ذاتها بين الإنسان والأرض، بمعالجة أسلوبية ذات صلة بتجاربه الأخرى، في الرسم، والنحت، والخزف، مثلما لا يمكن عزلها عن نصب الحرية. وهذا ما ظهر بجلاء في جداريته (النفط) ـ 1956 ـ  كدراسة ملحمية زاخرة بالمشاهد، فإذا استثنينا عملية التنقيب عن النفط، كعلامة خاصة بالنص الفني، فثمة رأس معزول، منفصل، ومستقل، داخل دائرة، ظهر أسفلها  كساعة، حيث احتل الرأس نصفها الأعلى، فيما شق النصف الأسفل، عقرب الساعة الكبير المتجه من العين إلى الشعلة المتوهجة، مثلما لم يهمل الفنان مشاهد الثيران، والماء، والوحدات الهندسية المستقاة من النحت العراقي القديم، إلى جانب الشخصية المركزية، وكأنها تصوّر حمورابي، لا يتلقى الشريعة، من الآلهة آشور، بل بما سيمثله اكتشاف النفط، في العراق، من نعمة ومن نقمة على حد سواء. فالجهد التكويني، كما لم يظهر، في الفن العراقي الحديث، كما ظهر في هذا النموذج، قبل ان يعيد صياغته ـ مع تجاربه الأخرى في الرسم وفي النحت ـ في ملحمة الحرية. فالتركيب يغدو معالجة حديثة للملحمة ذاتها: الإنسان وقدره، بعد تعديل المنحى الأسطوري، للرؤية، بعلامات مستمدة من الحفر في معطيات الموروث، والتاريخ: كفاح الإنسان، وقد كف ان يكون (قدرا ً)، باختيار رموز الخصب ، والعمل، وهي دلالات لا يمكن عزلها عن مفهوم الانعتاق ـ والتحرر، في نصب الحرية.


 * صدر الكتاب عن دار الأديب ـ عمان ـ 2014
1 ـ شاكر حسن [فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الأول. دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد ـ 1983 ص46

2 ـ فيذكر جواد في كلمة له ـ " لقد نعتنا شاعر طيب القلب بأننا أعداء الشعب، وبأننا يجب ان نحارب من كل عراقي مخلص لوطنه. نحن أعداء الشعب، في حين ان غذاء الشعب مسامرات الجيب ومجلة الاثنين والأفلام المصرية والملاهي النتنة، هذا هو غذاء الشعب!" جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد ـ 1974 ص46
3 ـ هذا ما قاله لي الأستاذ إسماعيل الشيخلي، كرد فعل لإعجابي بجواد سليم، ودوره الكبير في التشكيل العراقي، في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
4 ـ الإيفاد الوحيد الذي حصلت عليه يرجع إلى عام 1979، حيث أرسلت إلى سورية، في عمل صحفي، من لدن رئيس التحرير، حسن العلوي، وكنت مازال اعمل على المكافأة الشهرية. والزيارة الثانية كانت بدعوة من الشاعرة أمل الجبوري، رئيسة ديوان الشرق ـ الغرب، إلى برلين، عام 2005.
5 ـ عباس الصراف [ جواد سليم ـ من رسالة دكتوراه في النقد الفني] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص91
6 ـ نوري الراوي [ تأملات في الفن العراقي الحديث] مديرية الفنون والثقافة الشعبية بوزارة الإرشاد ـ بغداد 1962 ص38
7 ـ فالحاضر، يقول جواد سليم " الزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها عليك بصورة عجيبة: (هذا كلش موزين. لازم تسوي فد شي تفتهمه الناس) هؤلاء يريدوننا ان نرسم تفاحة، ونكتب تحتها "تفاحة" (ئي هاي تفاحة، تماما ً تفاحة)، أو منظر الغروب على دجلة وتحنها "الغروب" ..." جواد سليم ونصب الحرية. مصدر سابق ص46
8 ـ يدوّن جواد سليم، في يومياته، ملاحظات ذات أهمية خاصة، حول رؤيته، في هذا المنجز الفني، فيكتب: " استقرت في راسي فكرة إنشاء هذا الموضوع منذ عدة سنوات. وقد استوحيت الشكل عند رؤيتي اسطة طه، البناء الوحيد في العراق في عمل الزخارف، وهو يعمل بكل دقة وهدوء في زقاق القصر العباسي....، وإذا أردت ان اشرح ما حفرته على هذا الحجر فسوف لا يتعدى الشيء الشكلي الحاصل ولذا أفضل السكوت، ولكن يجب ان اذكر هنا أني بلا شك قد استعنت، زيادة على نفسي والطبيعة والاتجاهات الحديثة، بعدة اتجاهات فنية ـ مصرية، وآشورية، وغوطية، وهذا شيء طبيعي. وكان في الإخراج اتجاهان: احدهما هو ما بدأت فيه عملي للإنشاء، وكان نوعا ً من الابتدائية الخشنة النقية الخطوط الهائجة العواطف، والثاني اتجاه كلاسيكي مثقف" جواد سليم ونصب الحرية. مصدر سابق ص32




الخميس، 5 فبراير 2015

قرار بلدية هامبورغ مدينة بلا سيارات!-د.إحسان فتحي/ جمعية المعماريين العراقيين





قرار بلدية هامبورغ
مدينة بلا سيارات!



      وددت هذا اليوم ان أتطرق لمسألة جريئة وغاية في الأهمية الا وهو قرار بلدية هامبورغ الألمانية بالتخلص كليا من السيارة داخل المدينة خلال 20 سنة!  بمعنى آخر ستصبح المدينة (او كل وسطها) خال تماما من السيارات ومخصص كليا للمشاة والدراجات الهوائية!هل تستطيع اي بلدية عربية اتخاذ ولو ربع مثل هذا القرار؟ان مدننا العربية تعاني بشكل رهيب من التلوث وهيمنة السيارة المطلقة على حساب الانسان وفي كثير منها لايوجد حتى رصيف للمشي ولا مظلات ولا مصطبات للاستراحة ولا حتى مرافق صحية على اساس ان الحمامات العامة هي نوع من الترف!  ان اغلبها هي مدن "فاشلة" اذا قسناها من هذا المنظور الانساني الهام. حتى المدن "المبهرة" مثل دبي وابوظبي والدوحة وغيرها، هي مدن "لا انسانية" بهذا المعنى، وبيئتها العمرانية مفتعلة الى حد كبير.



 انا انتظر منذ فترة، بفارغ الصبر، تجربة مدينة (مصدر) القريبة من ابو ظبي والتي يفترض ان تكون مدينة انسانية خالية تماما من التلوث ( صفر كاربون) كما يقال. وهذه المدينة التى صممها المعمار البريطاني، نورمان فوستر، هي تجربة رائدة وستكون عظيمة ان كتب لها النجاح، ذلك ان هناك جوانب كثيرة منها يشوبها الغموض، ولا تعرف بالضبط كلفة مبانيها وبنيتها التحتية، ولا كلفة مشاريع توليد الطاقة فيها، ولا حتى من سيسكن فيها لكي تقيم جدواها الاقتصادية ولا تكون خاضعة للاعلام السياسي. اتمنى لها النجاح طبعا ، لان ذلك (قد) يحفز البلديات العربية الخائبة النائمة الى اتخاذ ولو قرار جرئ واحد كالحفاظ على مبانيها التراثية مثلا؟ او الاهتمام بالأرصفة؟

مبروك عليكم يا أهل هامبورغ !
د.إحسان فتحي/ جمعية المعماريين العراقيين