قصة قصيرة
البغل
عادل كامل
ـ لا احد خارج مغطسه، ورطته، أيها الولد العزيز...، في هذا الإسطبل...!
تابع الحصان الهرم يتحدث إلى البغل ـ ابنه ـ ، عندما كانت درجات الحرارة قد بلغت درجة الانجماد:
ـ فأنت ترى بجلاء ما آلت إليه الأمور، أمورنا جميعا ً، بلا استثناء، فهي عامة، تؤيد نظرية: مادمنا لا نمتلك إلا الدفاع عن هذا الذي سنفقده، ألا يتحتم علينا ألا ناسف على ما سنخسره! "كأنه أراد الاعتراف: مادمنا ندافع عن كل ما لا يستحق إلا الدفن، والإهمال، فلماذا ندعه يغيب..؟ " فكر البغل مع نفسه.
تابع الحصان، وهو يحك جسده بالجدار:
ـ فإذا كنت محكوما ً بوجودي في هذا الإسطبل، فلم الهرب منه، مادمت أينما ذهبت فالنتائج لا تختلف...، مادامت مقدماتها سبقت نهاياتها بزمن بعيد؟
ثم تمتم الحصان مع نفسه، بصوت مسموع: فانا لم ارتكب الذنب لأنني كنت لا امتلك قدرة عدم ارتكابه، وأنا ـ هنا ـ لا أدافع عن ذنبي طلبا ً للغفران، لأن الأخير لا معنى له لولا انه وجد قبل ارتكاب الذنب! ألا ترى إننا كلما تقدمنا في النبش لا نكسب إلا الذهاب بعيدا ً في هذا المغطس...؟
هز البغل رأسه ضاحكا ً:
ـ أسرفت، يا أبتاه، بشرح القضية التي فقدت وضوحها، وربما مصداقيتها...، فانا مأزقي يتلخص بما ارتكبته أنت من ذنب، أو إثم...، فلا أنا أصبحت مهرا ً، مثلما وعدت أمي، ولم أصبح حمارا ً، كي لا أشقى! فأنت وضعتني بين منزلتين الأولى تخلت عني، والثانية لا استطيع الانتماء لها. ولعلك تتذكر زمان الفتنة التي سادت، وعصفت بحديقتنا، وكيف كنت لا اعرف كيف اخلص نفسي من الخيول المتوحشة، وهي تذبح كل من لا يشبهها، وكيف كانت الحمير تغتال من يقترب منها. وإذا كنت خرجت سالما ً من المحنة، فلا يعني هذا إنني استرددت حقا ً ما من حقوقي، ذلك لأن موقعي لم يعد تائها ً بين فصلين، من الفصائل، بل راح الشك يفند حتى يقين وجودي، كمخلوق، يتمتع ببعض مواصفات الجرذان، أو ألسعالي، أو الخنافس!
اعترض الأب:
ـ بالعكس...، فأنت حصلت على امتياز نادر، لم يحض به احد من قبل...، وإلا ...، من غيري ...، منحك درجة أعلى من حمار مهمته حمل الأثقال، وجر العربات، أو بانتظار ان يصبح طعاما ً للضواري!
صاح البغل، وهو يرتجف:
ـ هكذا تبرر وجودي كوجود من لا اب ولا ام له! اسمه: النغل! فولا اغتصابك لها، في ليلة حالكة الظلام، او تحت الشمس، لكان رأسي الان اقل اضطرابا ً...!
ابتعد البغل قليلا ً متمتا ً بصوت مشوش:
ـ ألا ترى انك مازالت تدربني ـ كما فعلت منذ زمان بعيد ـ كي لا افتح فمي، وكي لا احتج، ولا أتذمر، ولا ....، مع انك لم تطلب مني ذلك مباشرة، ولكن دفاعك عن ذنبك يدل انك تحرص ان تدع فعلتك تذهب ابعد من وجودها المحض، نحو وجودي أنا: الضائع النسب، نحو: وجود مركب لا امتلك قدرة على فك لغزه!
ضحك الحصان ساخرا ً:
ـ وأنا من دربني كي اعمل على تدريبك....، من أغواني كي تكون إلا ثمرة غواية...؟
ـ هكذا يتم خلط النهايات بالتباسات مقدماتها، كي تكون النتائج بمنأى عن المس! بل حتى لا مجال لمناقشتها، فأنت لم ترتكب الذنب، وإنما هو الذي جرجرك لتنسج منه هذا الثوب!
فقال الحصان بصوت حزين:
ـ أنا لم اخف عليك محنتي، وهي محنتك، لأنك لو أخبرتني بمخلوق واحد غير مبتلى بمحنة، فسأعترف لك إنني فعلت فعلتي وأنا بتمام العقل، ولن أتنصل عن العقاب، لأن الأخير سيكون ظلها!
وأضاف بارتباك:
ـ فانا لا اقدر ان أرى الضوء من غير الظلمات!
وسأله:
ـ هل ثمة براءة غير مسبوقة بشوائبها؟
ـ هكذا نضطر للقبول بالأمر الواقع، إن كان إثما ً أو تسلية! فالعدالة وحدها لا معنى لها خارج الإسطبل؟
ثم سأل البغل الحصان:
ـ أعطني حسنة واحدة للخطيئة؟
ـ آ ......
صمت الحصان طويلا ً، ليقول بصوت ساخر:
ـ لو كانت الخطيئة بلا فائدة ما، فمن السهل تفنيد الفضيلة أيضا، ليس لأنهما مركبان من العناصر ذاتها، ولذات الدوافع، بل لأنه لا يوجد ما يدحضهما!
ـ ألا ترى كيف أصبح المغطس...، حديقة، والذنوب تسليات.... ، فانا أود ان أخبرك، مادامت البراءة تعني عدم الفعل، فلا براءة هناك!
ـ أتجدف، يا ولدي، لتحملني وزر هذا الذنب...، لأنك لا تتهمني بالذنب، بل تلمح للذي ارسلني!
ـ لا يصدقك احدا، بل انت نفسك لا تستطيع ان تلفق مثل هذا الاتهام، ليس لانني تدربت علة معرفة حدودي، بل لأن الحدود ذاتها لا تسمح لي بالذهاب ابعد منها.
نظر الى الاقفاص، والزرائب، والحظائر، واضاف:
ـ لو لم يكن شعور سكان هذه الحديقة، حقيقيا ً بالذنب، والاسى، والجور، لكانوا غير مضطرين للنوح، وكأنهم في مأتم، من غير مشاعر متاصلة بالذنب...، لانهم، مثلي، ثمرة اغتصاب!
ـ تجلد..، يا ولد...، فانا نفسي امضي الليل انوح على النهار، وامضي النهار انوح على رحيل الليل، فهل اذنبت حبا ً بالذنب، لو لم يجرجرني الذنب اليه ...، ام كنت امتلك قدرة عدم ارتكاب الذنب ولم افعل؟
غضب البغل، ورفع صوته:
ـ كأنك ملاك! وكأن امي خلقت وحدها للغواية!
ـ لا...، الا يكفي انك ولدت بانف اعد لتحمل استنشاق الروث...؟ كي اخبرك: نادرون هؤلاء الذين يحملون انفسهم اوزار اعمالهم، كما فعلت،واعترفت لك...، ولكن دع حكمتك لا تحرف النتائج عن اسبابها، والاسباب عن نهاياتها.
ـ لكنط طالما قلت: ما من ذرة الا وهي موقعها، ولا موقع بمعزل عن ذراته!
ـ لا تذكرني بما هو اقسى، فهناك ما لم تره، وتيلط عليه الضوء: هناك الاخ الذي ذبح اخاه، والبنت التي افترست امهخا، الابن الذي اغتصب امه، بعد قتل الاب...، هناك البراعم لا تتجدد الا بعد ازاحة اوراق الشجرة...
كاد البغل ان يفطس من الضحك:
ـ وانت تعرف انني ولدت لا مخصيا ً ولا عقيما ً، كما خلق انكي، الاله، في حديقتنا، فخلق الام التي لم تترك مخصيا ً الا وانجبت منه طاغية صار ضحية، وضحية عاد ليكون قدوة للانذال، والسفاحين...، فانت تعرف انني تتبعت خطاك حتى نهايتها! فرحت ارقبك وانت تصول في ساحات الوغى، وفي ساحات السباق، حتى انتهى بك الامر الى جر العربات، ومنها عربات الموتى...، لتتجاهل انك اتيت بي لا انا بالذكر ولا انا بالانثى...، مع ذلك كنت اغويت امي بانك ستنجب لها مهرا ً...، الا تبا ً للبغل الذي وجد نفسه يبكي لانه لم يصر حمارا ً ولم يصر مهرا ً...!
ـ ماذا افعل لك كي تغفر لي ، وانت تتجاوز حدودك؟
ـ عل عصيتك؟
ـ شكواك هذه...، ذاتها معصية، وهي ذنب لا اكبر منه! لكنك رحت تنوح لتسمع السماء وتخبرها بما يعذبك!
قال البغل:
ـ دعني اروي لك ما حدث لي: لقد رأيتهم يهرولون، فهرولت خلفهم، ورايتهم ينوحون فنحت معهم، وعندما رايتهم يتناسلون رأيت العقم شاخصا ً أينما وليت وجهي...، فلا احد يتذكرني، لا ولد ولا بنت، سيزرع وردة فوق قبري!
ـ ها أنت أصبحت مثل المرأة التي تقطع البصل وتنوح عليه...!
أجاب البغل:
ـ كأنك تبحث عن شرعية مقبولة تغويني للقبول بها بعد عمل المرأة الشرعي في تقطيع البصل!
ـ يا ولدي...، لا مسافة بينهما، لا في مقدماتها، ولا في نهاياتها، وأنت مازالت تتجمد بردا ً في هذا الشتاء تارة، أو ستفطس في جحيم الصيف، تارة أخرى!
ـ لا أقول انك أجدت خلط الأوراق، أو أجدت التمويه، واستخدمت سلطتك بما حصلت عليه من امتيازات، لا تحصى، ولا أريد التقليل من مكانتك، ومهارتك، وما قمت به، على مر العصور...، فأنت لا تقارن بحيوان عقيم، لا مع اليسار ضد اليمين، ولا مع اليمين ضد اليسار، لا مع الأبيض ضد الأسود، ولا مع الأسود ضد البراءة!، ولكنك تختلف عني،، فأنت لم تصبح مثل ولدك، ولد مسلوب إرادة الأب، وولد مسلوب إرادة الحمل، فانا لم امثل إلا قدوة هذا الخليط، بل ذروته، فانا حاصل نزوة أساساها العبث، واللهو، والعدوان، واللامبالاة، والاغتصاب! فماذا تطلب من حيوان ولد أعمى كي يتحدث عن الأنوار...، والمباهج، والجنات...، وإن اغلق فمه، يعاب بالجحيم، وبنيران جهنم، بعد حياة اوراقها صفحات ممحوات الا من هذا الخليط، ومن هذا الجور؟
متمتما ً بشرود، وهو يحك جسده بالجدار:
ـ فاين يكمن الخلل...؟ هل يكمن في ادماته، كالاصرار على العدوان، والاصرار على ارتكابه بشرعية بالغة الغش، كالعثور على مبررات تسوغه، وتمنحه شرعيته، حد القداسة، او كي يبرمج ليغدو قانونا ً، ودستورا ً كأنه نزل من السماء...؟ فيصير العدون نصرا ً، وتصير السرقة فطنة، والقتل بطولة، والسلب غنيمة، والتزوير ذكاء ً، وكتم الانفاس عدالة، والاغتصاب فخرا ً...؟
ـ أنا اسمعك، رغم البرد، ورغم انتظار ما سيحصل لنا داخل هذه الحديقة، فقد تتحول اجسادنا الى قطع لحم طازقة تتمتع بها افواه تلك المفترسات الخاملة!
ـ هكذا يلد الليل ولده! وهكذا علينا ان نمضي حياتنا بانتظار هذا الوليد، حتى لو لم يكن الا هذا البغل!
تمتم الحصان بصوت وقور:
ـ يا ولدي، ان تولد من غير ذنب، وتعيش بلا خطيئة، كأنك لم تولد، ولم تعش، ولم تمت!
لم يقاوم البغل قهقهات كادت توقعه ارضا ً:
ـ ليس لدي ّ رأس يقدر على سبر اغوار هذه الكلمات. فما أنا سوى حلقة في السلسلة التي مقدماتها مسبوقة بمقدمات، ونهايتها متصلة بمالا نهاية له. لكن عندما اشقى لمعرفة هل: ولدت، هل عشت، هل مت...، اجد ان غيابي وجد قبل ولادتي، وقبري ليس سوى الباب الذي ساخرج منه، لكنني مع ذلك لا اجد عدالة تامة بين اسد يتلهى بلحم غزال، او تمساح يبتلع بقرة، وبانسان يطلق النار على اطفال، وبين شمس تضيء دروب السفاحين، ومطر يغرق القرى، وبانسان يعاقب نفسه لانه بلا ذنب! فانا لا امتلك قدرة معرفة ما حدث وما يحدث كي اعرف ما الذي سيحدث عندما ينتهي اجل هذا الظلام، وهذا البرد، وما هو اكثر استحالة على الفهم ان لا احد، كما قلت، ولد من غير خطيئة، وعنف، واغتصاب، ولا احد عاش من غير ارتكاب الذنوب، ومع ذلك تراه يمشي متبخترا ً، مزهوا ً، كالطاووس، وكأن الاثم واجب، والخطيئة سلوى، والسرقة نبل، والخسة عفة، والدناءة فضيلة، والمثل وساخة ونجس من عمل الاشرار، والذنوب ورود!
صمت الحصان طويلا ً، ثم تمتم:
ـ ولانك لا تمتلك الاسباب التي ادت الى نتائجها، فلا احد باستطاعته البت بما سنفعله، ولماذا فعلناه، حتى اسرفنا في الزهد، وتطهرنا من المبوقات!
وطلب منه ان يصغي جيدا ً، فقرب رأسه، قال الحصان متابعا ً:
ـ ولأنك من غير ذنب، فلن تحصل على الغفران!
وذكره بأول كلام الليل:
ـ فماذا لو امتنعت أمك من ارتكاب الزنا! لو لم تغلبها الغواية، ولا مبالاة النتيجة؟
بغيض أجاب الابن:
ـ وهل تهرب أتان مسكينة من حصان جامح كانت شهرته ملأت الدنيا...! حصان شارك في ساحات الوغى، باسلا ً، مغوارا ً، من ثم حصل على أوسمة النصر، في الجري ...، قبل ان ينحدر مصيره لجر العربات، وحمل الأثقال، والى مشرد، وأخيرا ً إلى مخلوق معد للذبح! فهل تطلب من حمارة في أوج توهجها، الاعتراض، والامتناع، والتعفف؟
ـ ها أنت أزحت صفحة من صفحات المستور..، مع ان المخفي يتستر بما لا يحصى منها!
اعترض البغل:
ـ لا جدوى من النبش في هذه الألواح...، دعنا لا نزيد الطين بله...، فانا الآن اغطس في وحل الإسطبل، بجوار الزرائب، فوق الأوساخ، فلا أنت تستطيع ان تحشرني معكم، ولا أمي يسعدها ان تفتخر ببغل! فهل لديك كلمات تخفف عنا وطأت إثم الاغتصاب؟
ـ آ ....، يا مسكين، أين ذهبت...؟
ثم تابع الحصان العجوز:
ـ عدت إلى المشكلة التي عفى عليها الدهر: من كسر الجرة! بعد ان اندمجت أنظمة الحدائق في حديقة واحدة! وبعد ولى العالم العتيق، واندثر! وقد أصبحنا طلقاء، نتنعم بالحرية، حتى لو دفعنا حياتنا ً ثمنا ً متأخرا ً لها!
ـ حسنا ً، لنقل: هذا صحيح...، ولكن اخبرني ـ أرجوك ـ إلى أي الفصائل انتمي...، ومن ذا الذي يمنحني ورقة العبور...، كي لا أتعثر، أكثر مما تعثرت، في الدرب...؟
ـ ها أنت، يا ولدي، كلما اقتربنا من العثور على منفذ، تعيدنا إلى الحفرة، لنغطس فيها.
ـ مع انك هرمت، ولا احد يحفل بما أنجزته، ولا بتاريخك، لا في ساحات الوغى، ولا في ساحات السباقات، إلا انك ستموت وتدفن كحصان، حتى لو افترستك ضواري هذه الحديقة!
ـ وأمك، مثلي، ستحظى بالمصير نفسه.
ـ أنا أتحدث عن نفسي...، فلا أنا استطيع الانضمام إلى جماعة جر العربات، ولا إلى فريق السيرك، ولا إلى حمل الأثقال، فانا قد لا أصلح حتى طعاما ً للكلاب الجائعة!
قرب الحصان رأسه من البغل، هامسا ً:
ـ لا تثقل رأسك بالأحزان، فأنت أفضل مني، لأنك لا تمتلك نزعة العدوان، حتى لو كانت محض غواية، ولا تمتلك جموحي، ولا ما كان يشغلنا من نبالة الاصالة، ولغزها!
ـ إذا ً فانا لن اجني على احد، كما جنيت علي ّ...، أليس هذا هو قصدك؟
ـ دعنا من القصد...، فأنت خاتمة عهد، ونهاية عصر!
ـ أبتاه...! ها أنا أرى حياتي وتغيب! كأن شيئا ً لم يحدث...، ومع ذلك تطلب مني ان لا أثقل رأسي بالإحزان..؟ فأي عقاب أعقاب به بسبب ذنب لم ارتكبه، ولم أفكر بارتكابه...، وزيادة في الشقاء، فانا كلما فكرت بالخلاص منه، أجد الأبواب موصدة. أمي تخلت عني خشية الفضيحة، وأنت غير مستعد لتبني ولد عقيم!
لم يجد الحصان ردا ً، إلا بعد مرور وقت غير قصير:
ـ انظر ...، الذئاب تلد ذئابا ً، مثل النمور، والتماسيح، مثل الضفادع، ومثل القمل لا يلد إلا قملا ً...، ففي حديقتنا، قبل الطوفان وبعده، لم يحصل ان ولد القرد تمساحا ً، ولا الثور غزالا ً، ولا الغراب بلبلا ً...!
اعترض الابن:
ـ كنت اعتقد انك عثر على حل ...
ـ بل وجدته!
ـ هات ما لديك أيها العجوز...، فالبرد يجمدنا.
فسأله:
ـ هل أنا هو من اختار ان يولد حصانا ً...؟
ـ لا.
ـ وهل اختارت أمك ان تكون أتانا ً..؟
ـ لا.
ـ فما هو ذنبك كي تثقل ضميرك بذنب لم تقترفه...؟
ـ أبتاه ...، هذه هي المشكلة.
ـ وهل ثمة مشكلة؟
ـ هل حقا ً ان المشكلة التي لا حل لها ليست مشكلة...، كالذي يعاقب لأنه لم يرتكب ذنبا ً...؟ ومع ذلك تقول لي: لكل سؤال جواب...، وقد أغفلت: ان الجواب استحال إلى إشكالية!
ـ آ ......، فهمت، لكن....
ثم أضاف بعد لحظة صمت:
ـ أذهب واسألها: من منا المذنب...، كي ينال العقاب؟
قال البغل:
ـ فكرت بالأمر ...، وسألتها، فأرشدتني للقائك! وها أنت تنصحني ان أجد الجواب لديها ....؟ إذا ً....، في نهاية المطاف، لا أنت ارتكبت الإثم، ولا هي آثمة، أما أنا، فعلي أن احفر قبري، وادفن إثمكما فيه!
لم يتكلم الحصان، فما دار بخلده، لم يعلنه: ومن قال لك أنت تقدر ان تختار حفرتك...؟
تساءل البغل بأسى عميق:
ـ ولكن اخبرني لماذا لم أجد من يشاركني هذا الهم، وهذا الأسى، ويخفف عني مصيبة لا يد لي فيها، فلا أنا ولدت مهرا ً كي أموت حصانا ً، ولا ولدت كرا ً كي أموت حمارا ً...؟
ـ الم أخبرك، منذ البدء: لا احد يولد خارج مغطسه!
متابعا ً أضاف:
ـ لكنك، في الأخير، أفضل مني، أيها الابن، لأنك لا تقدر ان تعتدي على احد، رغم إنهم جميعا ً يعتدون عليك!
ـ وماذا عن الأوزار التي حملتها طوال حياتي...؟
ـ لقد ذهبت...، مثل مرور الريح، والفصول، والبشر...، الكل لا يترك حتى أثرا ً لمروره..! فلم التشبث بالهم، والأحزان...؟
ـ إذا ً...، اخبرني، ما الخلاصة التي لا مناص من تعلمها، بعد ان قادتك إلى هذا الإسطبل...؟
ـ لو كنت اعرفها...، لكان لدي ّ ولد لا ينشغل بمثل هذه الأسئلة!
حدق الحصان شزرا ً في عيني البغل، وسأله:
ـ اخبرني، ما الذي حفزك لتسألني أسئلة ستذهب مع الريح، مع عذابنا، ووجودنا...؟
ـ بالأحرى كنت انبش في الأسرار التي كتمتها..؟
ـ لا أسرار هناك ...، أبدا ً! عدا الأسرار التي لا أنا، بالإمكان مسها...؛ فهي بلا قفل مع إنها منحتك مفاتيحها ـ مثل الأنثى تشغلك بغوايتها غير مبصر إنها كتمت كل الذي بدا لك انشغالا ً ـ وهي مثل هذه الأرض، تارة تصير معسكرا ، وتارة تصير معتقلا ً، هي ارض حرب وهي متنزه للعشاق، هي أصبحت إطلالا ً لقصور، وهي أصبحت حفرة عميقة الأغوار ...، وكم مرة بدت مثل ارض مهجورة جرداء، ومرات تحولت إلى مأوى للخنازير...، عارية إلا من الرمال...، هي مرآة لا ترى فيها إلا ما تراه يأخذ مساره مع غروب الشمس، لا المرأة احتفظت بالأثر، ولا الأثر ترك أثرا ً...، مع الدورات، التي لا حافات لها...، فهل جئت تبحث عن إجابة تعيد لضميرك بعض ما فقده من السكينة...، أم لأن البرد ذكرك بالحنين إلى ذكرى غابت وطواها النسيان...؟
ـ كل ما قلته، والليل يوشك ان يضع أوزاره، ليلد فجره...، كالعاقر وحدها تعرف كيف تؤدي دور هذه الأرض...!
وناداه:
ـ اقترب.
اقترب منه:
ـ انظر...، والليل يتوارى، ما الذي تعلمته من الظلمات سوى انتظار هذا الذي تراه يشع فضة، وبعد لحظات، ذهبا ً، بما لا يحصى من أطياف الأثير ...و ...، فأين هو المغطس، وأين هي المحنة، وأين هو الذنب...، وأنا لم أبح لك بأكثر من حكاية، مهما استطالت، فلن تمتد ابعد من مسافة محوها!
ـ هكذا اخذ النهار موقع الليل...، وهكذا بدت حديقتنا ـ بذئابها، بكلابها، بثعالبها، بأرانبها، وبوحوشها المروضة، بقردتها وثعابينها وخنازيرها، بإبلها وجاموسها وماعزها...، وبكل حي آخر تم أسره، وبكل من سلبت إرادته، وروض، ودجّن، أو استبدل، أو صار مخلوقا ً آخر...، فالجميع أصبح عائلة توحدها هذه الأقفاص، لكن لا احد يعرف ما الذي يجري، فيها، لا أنت تعرف شيئا ً عن جارك، ولا جارك يعرف شيئا ً عنك...
قاطعه بصوت رقيق:
ـ أكنت تصدق إننا سننجو من البرد...، وإننا مازلنا على قيد الحياة...؟
ـ لا...، أبدا ً، فانا كنت احسب إنني جئت أودعك، بعد ان بلغ زمنك نهايته!
ـ الشمس تفند ذلك...، أليس كذلك؟
أجاب البغل:
ـ حقا ً حتى البرد، لن يدم أكثر من زمن اندثاره، لأنك قلبت الذنب إلى عمل، والاغتصاب إلى فعل، والعدوان إلى حكاية، والدناءة إلى بطولة، وأخس النذالات إلى مجد!
ـ أنا لم افعل ذلك، من غير وجودك، فأنت هو الفجر أراه يبزغ من أغوار الظلمات!
ـ كأنك تدعوني لاستنشاق عطر الوردة التي خرجت من الدمن..؟
ـ بل وادعوك ان تحدق في وجهي: هل هذا هو وجه طاغية يمكن ان يرتكب ذنبا ً، بدم بارد، حبا ً بالذنب...،أم أنا حصان وجد مصيره يتدحرج قدامه وهو يجهل، مثلك، هل سيمتد العمر به نهار آخر...، قبل ان يدور مفتاحنا في قفل الظلمات؟!
20/1/2015