الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

الأعزاء المعماريون العراقيون والأصدقاء-د.إحسان فتحي





الأعزاء المعماريون العراقيون والأصدقاء



تحيات وسلامات،  فاستمرارا لفكرة (الأوائل) في عالم العمارة العراقية، والتي لاقت ترحيبا كبيرا، ادرجت لكم اوائل الذين حصلوا على الدكتوراة  من خارج وداخل العراق، بعد التأكد حتى من تاريخ الشهر الذي منحت به الشهادة، وكذلك صور اوائل الخريجات العراقيات ( ماعدا عطارد الصراف التي لم افلح حتى الان بالحصول على صورتها)، وكذلك الزميلة رائقة اللوس التي تعتبر أول من درس العمارة من العراقيات في اي جامعة عراقية. طبعا كان هناك عددا لابأس به من السيدات المعماريات الأجنبيات اللواتي درسن في قسم العمارة جامعة بغداد.

اما بالنسبة للدكتور محمد مكية (أطال الله عمره) فاعتقد أيضا بانه  اول من حصل على شهادة الدكتوراة من العرب وليس من المعماريين العراقيين فحسب، ولكنني لست متأكدا تماما من ذلك لان احدهم من مصر قد يكون قد سبقه الى ذلك، وسنعلم قريبا الحقيقة المؤكدة.

ويسرني ان أعلمكم بأن أول دكتوراه في العمارة حصل عليها الزميل فائز البيروتي في أيلول 1991، وبحثت بشكل مفصل ودقيق في تطور البيت البغدادي خلال القرن العشرين، وهي برأي تعتبر الآن احد المراجع الأساسية في تاريخ العمارة العراقية المعاصرة، ولان الباحث فائز بذل جهودا فوق الاعتيادية في بحثه الميداني وفي ظروف سياسية واقتصادية كانت غاية في الصعوبة

وللحديث صلة

د.إحسان فتحي

جمعية المعماريين العراقيين

رواية الكاتب العراقي فاضل العزاوي "آخر الملائكة"- ترجمة: رائد الباش فولكر كامينسكي



رواية الكاتب العراقي فاضل العزاوي "آخر الملائكة"
رواية تنبأت بظهور "داعش" وانكساره على صخرة العدالة



ترجمة: رائد الباش
فولكر كامينسكي

أثارت رواية "آخر الملائكة" -التي ألفها الكاتب فاضل العزاوي قبل 25 عاما من تاريخ نشر هذا المقال- ضجة كبيرة في سوق الكتب الألمانية. وجاء نشر ترجمتها الألمانية عام 2014 بمثابة تكريم متأخر لهذا الكاتب العراقي المعروف عالميا. وبينما كانت هذه الرواية غير معروفة في ألمانيا لفترة طويلة، حققت في المقابل نجاحا كبيرا في المناطق الناطقة باللغتين العربية والإنكليزية. الناقد الأدبي الألماني فولكر كامينسكي يستعرض رواية "آخر الملائكة" لموقع قنطرة.
كان فاضل العزاوي يريد كتابة رواية حول العراق، حتى قبل مغادرته العراق في عام 1977. غير أنَّه لم يتمكّن إلاَّ في منفاه في برلين من تنسيق الأحداث المحيطة ببعض الأشخاص، الذين وصفهم -في حوار أجري معه- بأنَّهم كانوا من "أصدقائه ومعارفه الجيدين"، بحيث تكوّن من ذلك عالم روائي.
ومثلما أكّد في الدورة الأخيرة من المهرجان الدولي للأدب في برلين، لم يكن فاضل العزاوي يريد فقط كتابة مذكرات حول مسقط رأسه مدينة كركوك، بل كتابة عمل شامل حول "العالم العربي برمّته". وهكذا تبدو هذه الرواية من النظرة الأولى فقط مقتصرة على حقبة الخمسينيات في العراق. بيد أنَّها في الواقع تصوّر عالمًا رائعًا، تمتزج فيه مصائر غير عادية وقصص حقيقية ورؤى تنذر بنهاية العالم بصورة شيقة تخطف الأنفاس.
لا يمكن نقل مضمون هذه الرواية إلاَّ بصورة مقتضبة، نظرًا إلى كونها غنية بالشخصيات والأبطال: ومن بين أبطالها السائق حميد نايلون، الذي يفقد عمله لدى شركة النفط البريطانية العاملة هناك ويقرّر تأسيس نقابة مهنية ويضع خطط انقلاب ثورية موضع التنفيذ.
يرى الناقد الأدبي الألماني فولكر كامينسكي أنَّ رواية "آخر الملائكة" وعلى الرغم من الجانب المعتم فيها فهي أقرب ما تكون إلى كونها رواية مفعمة بالبهجة، يتم فيها استكشاف ما هو سلبي من خلال الدقة المفصّلة بكلّ التفاصيل وتحويله إلى سخرية غريبة.
ملائكة شيطانية باعتبارها مرآة للمجتمع
وكذلك يلعب برهان عبد الله دورًا كبيرًا، وهو صبي يبلغ عمره سبعة أعوام وله موهبة خارقة. وبرهان يتواصل مع ثلاثة ملائكة يظهرون في شكل رجال كبار في السنّ، يصبح لهم تأثير عليه وعلى حي جقور الذي يتصدّر الرواية - ولكن ليس فقط بالمعنى الجيد. ومع مرور الوقت يظهر أنَّ هذه الملائكة هي قوى ظلامية وشيطانية: وهي صور رمزية لتطوّر كلّ المجتمع العراقي، الذي يغرق مرارًا وتكرارًا بعد مراحل مؤقتة من الأمل في الفوضى والعنف.
من المثير للدهشة أنَّ هناك الكثير من الإشارات الواقعية إلى الوضع الراهن في العراق، والتي تظهر في رواية العزاوي، وكأنما قد توقّع هذا المؤلف من خلال نطرته إلى حقبة الخمسينيات سيناريوهات الحرب الأهلية القادمة. وعلى الرغم من انتقال بعض حلقات هذه الرواية إلى الخرافة وإلى -مثلما يرد في الرواية- "إلغاء الحدود بين الممكن والمستحيل"، فإنَّ السؤال الملح حول إيجاد حلّ سلمي للتعايش بين الأهالي -في هذا البلد المتعدّد الأعراق والمتعدّد الأديان- يحتل بالنسبة للمؤلف مكان الصدارة.
في هذه الرواية أيضًا لا يخلو مزيج العرب والتركمان والأكراد واليهود والمسيحيين من التوترات والعداوات والخلافات، ولكن مع ذلك فقد كانت تسود لدى الأهالي في فترة الملكية في الخمسينيات رغبة في التعايش السلمي. ويعود هذا أيضًا إلى التدخّل الشجاع من قبل بعض الأشخاص البارزين، الذين يتحمّلون المسؤولية بشجاعة عن المجتمع في اللحظات الحرجة.
يقوم خضر موسى، وهو تاجر أغنام، بتنظيم زيارة رسمية من تلقاء نفسه إلى الملك فيصل الثاني، من أجل تجنّب الوقوع في صراع وشيك مع المحتلين البريطانيين. تثبت طريقة وصف العزاوي لهذا العمل في تفاصيله موهبة الأسلوب الهزلي الكبيرة التي يتمتع بها هذا الكاتب. تبدو زيارة قصر الملك من أجل طلب المساعدة مجرّد محاولة غير مجدية، ولكن مع ذلك يتمكن وفد أهالي كركوك من الوصول إلى القصر ومن تقديم طلبهم إلى الملك الشاب - غير المؤهل سياسيًا.
وأمَّا كون مهمة السلام هذه قد أسفرت أخيرًا عن تجدّد العنف والاضطرابات الدموية أثناء النقاش مع الجيش، فهذا يبدو في منطق هذه الرواية أمرًا حتميًا تمامًا، حيث تحل محلّ كلّ فترة أمل بصورة منتظمة أعمال العنف، التي يعلق الراوي عليها بأسلوب هزلي ساخط.
بين التقليد والحداثة
وعلى الرغم من هذا الجانب المعتم في الرواية إلاَّ أنَّ "آخر الملائكة" أقرب ما تكون إلى كونها رواية مفعمة بالبهجة، يتم فيها استكشاف ما هو سلبي من خلال الدقة المفصّلة بكلّ التفاصيل وتحويله إلى سخرية غريبة. ويعود سبب ذلك من ناحية إلى أشخاص الرواية غير العاديين، الذين يؤمنون بقيام الأولياء من موتهم، ويتواصلون مع الملائكة ويحافظون على سيطرتهم على أنفسهم حتى في أثناء لقائهم مع الموت المجسّد -وهو رجل كهوف مسن وحميد يرتدي قبعة حمراء وقبقابين خشبيين.
ولكن مع ذلك يعود الفضل في سهولة أسلوب العزاوي قبل كلّ شيء إلى فنّه الروائي، الذي يستمده من الشعر التقليدي الشرقي مثل "حكايات ألف ليلة وليلة" ويستند إلى نصوص دينية مثل القرآن والعهد القديم والعهد الجديد، غير أنَّه على وجه الإجمال يحافظ على أسلوب النثر الموضوعي الحديث.
لقد أتاح هذا الدمج بين التقليد والحداثة المجال للكاتب فاضل العزاوي من أجل كتابة هذه الملحمة الشرقية -التي كان يخطط لكتابتها- وفي الوقت نفسه مكّنه أيضًا من تتبُّع أسئلة واقعية جدًا حول هموم الناس وعنائهم.
رحالة لا يعرف الهدوء
 عندما يعود برهان عبد الله في نهاية الرواية إلى كركوك، بعد أن تجوّل طيلة ستة وأربعين عامًا من دون انقطاع في أصقاع العالم، فعندئذ يمكن للمرء أن يجد في ذلك إشارة إلى صورة المؤلف الذاتية الطوباوية، على الرغم من أنَّ الكاتب فاضل العزاوي قد أخفق حتى يومنا هذا في العودة إلى العراق.
وذلك لأنَّ الوضع السياسي لا يسمح -حسب رأيه- بهذه العودة. ولكن على العكس مما توهم به الصور المعتمة في نهاية الرواية فإنَّ فاضل العزاوي يرى بصيصًا من الأمل لمستقبل يسوده السلام في العراق.
إنَّ رواية فاضل العزاوي هذه تعرض بأسلوب مثير وممتع للغاية الطرقات المنحرفة والمتعرّجة التي يضطر الناس في بعض الأحيان إلى اجتيازها من أجل المضي في طريقهم الخاص والنجاة بأنفسهم.

      قنطرة 2014



السبت، 6 ديسمبر 2014

10 قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل

10   قصص قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] أسف
بعد سنوات طويلة، شاهده، مصادفة، فقال له:
ـ اغفر لك ذنوبك مجتمعة، يا سيدي....، اغفر لك انك أمرت بسجني، كأعمى جرجر من الشارع، واغفر لك انك أمرت بتعذيبي، حيث لم يتركوا موضعا  سليما ً في جسدي، واغفر لك انك جعلتني لا أميز بين النهار والليل، ولا بين الأعلى والأسفل، ولا بين الباطل والحق، واغفر لك انك أمرتهم ان يحولني إلى دمية تتحرك بحسب توجيهاتك، ونزواتك، وأوامرك....، واغفر لك انك سرقت أحلامي، وحولتني إلى خشبة أو حصاة مرمية في قارعة الدرب....، لكنني لا استطيع ان اغفر لك انك أطلقت سراحي،  وقلت لي: آسفون...، ليس لأنك ستكمل برنامجك العنيد  وأنت قصدت ان أرى ما أحدثته في الآخرين، وفي الحياة، كي تزداد فخرا ً، ولذّة، وانتقاما ً،، بل لأنك قصدت إيهامي بأنك هو من منحني الحرية، وليس لأنني لم اعد بحاجة لها! اغفر لك انك قتلتني، ولكنني لا استطيع ان اغفر لك انك جعلتني، عندنا أراك، ازداد إعجابا ً بالكلاب، والجرذان، وحتى بالضباع! فانا للأسف اترك لك حريتك، كي تتذوق مرارتها، إنما، في نهاية المطاف: لا أنت هو من اخترع الإثم، ولا أنا كنت امتلك البراءة..!

[2] حفلة
     لم أكن استطيع التقدم، كي أرى ما كان يحدث في الحلبة، ولم أكن اقدر على التراجع، والتواري. كانت الأصوات مرتفعة، وصاخبة، مشبعة بالغبار،  وهي ممتزجة برائحة حجبت عني رؤية ما كان يحدث.
   الآخر الذي بجواري سألني:
ـ هل انتهت الحفلة ..؟
  إذا ً إنها حفلة! دار بخلدي، فسألته:
ـ هل بدأت..؟
   فأجابني هامسا ً:
ـ لا ترفع صوتك.
فقلت:
ـ أنت تكلمت بصوت مرتفع.
  عندما ساد الصمت لبرهة من الوقت، سمعنا احدهم يتكلم بصوت جهوري صاخب:
ـ هو ذا البعرور الذهبي يتناثر، كنجوم في عتمة الليل..
تبعه آخر يقول:
ـ بعرور خرافي لونه كبريق الفضية، ويشع مثل ماسات تتموج فوق سطح البحر...
ثم تلاه ثالث:
ـ مدور مربع مكعب آت ٍ ذاهب مثل ريح تنث رذاذا ً كحبات رمان، بعرور كبشي ...
وأعقبه رابع:
ـ بعرور ابلي مثل باقة ورود في حقل نسجت كمنديل عاشق متيم ...
فقال الواقف بجواري:
ـ أين هو خروفك..؟
ـ خروفي ..؟
فقال بأسى حد البكاء:
ـ الماعز الذي جئت به نفق في الطريق...
بعد برهة اضطررت ان اسأله:
ـ إنها حفلة بعرور إذا ً...؟
   حدق في عيني شزرا ً، وقال:
ـ أسرع!
   تقدمنا خطوة، نحو الحلبة، وكان الخطيب يقول:
ـ بعرور هذا التيس اسود مثل عقيق في جيد هيفاء عند النبع.
 تلاه آخر بصوت سحري:
ـ بعرور نعاجي كندى بستان عند الفجر، يتناثر يتجمع كقلادة ياقوت ...
   فسألت الواقف بجواري:
ـ بعيرك هرب منك...؟
ـ لا...، كان تيسا ً عنيدا ً..
ـ آ ...، للأسف، ليس لدي ما أتبارى به، وافتخر...، فانا لا امتلك لا حمارا ً، ولا بغلاً، ولا ثورا ً، ولا حتى نعجة!
ـ اسكت....، قل لهم انك جئت تشاركهم الاحتفال.
ـ بماذا ..؟
ـ بالدرر، والياقوت، والعقيق، ألا يكفي هذا أيها الغريب!

[3] ولادة
   قال يخاطب زميله الذي عثر على اسمه، بين الشواهد، مصادفة:
ـ الآن عرفت لماذا أغلقت فمك وذهبت..
     لم ينتظر سماع الرد، فقال متابعا ً:
ـ وعليك، الآن، ان تشكرني لأنني لم أمنعك من الموت...، فلو كنت معنا، حتى هذا اليوم، لأدركت، بعد فوات الأوان، إننا لم نكن نجهل لماذا نموت، بل لماذا ولدنا.

[4] الآخر
     عندما اجتاز حدود قريته، وجد نفسه طليقا ً، فتنفس الصعداء وقال يخاطب نفسه: ـ الآن عليك ان تبحث عن مكان لا يراك فيه هذا الذي لم يكف عن  الكلام.  فزار مدن وقصبات وعواصم لا تحصى ...، لم يمكث في واحدة منها، حتى وجد نفسه قد بلغ نهاية الأرض...، حيث رأى السماء بلون ابيض والأرض تمتد بلا حدود:
ـ آ .....، كأنني اجتزت الزمن، وأنا الآن وحيد بينهما....
  صمت، ونظره يتوغل على الأفق الذي امتد بلا حافات، ومصغيا ً إلى صوت كان يدور داخل رأسه:
ـ  كان عليك ان تتخلص مني وأنت في قريتك، فلا أنا أراك ولا أنت تراني، فلا أنا أؤذيك، ولا أنت تؤذيني!
   رفع رأسه ليرى السماء امتدت مع الأرض من غير لون. فقال لنفسه:
ـ لو لم أتكلم فهل كنت استطيع ان اكف عن الإصغاء؟ أيها البياض ماذا فعلت بي كي تتبع خطاي حتى وأنا افقد عقلي!
[5] كلمات
      ليس لأنني لا امتلك شيئا ً ما اخسره، تجدني لا اشعر بالأسف، أو لأنني كنت امتلك شيئا ً ما فقده، وغدا استرجاعه بحكم المستحيل، ولم اعد أتذكره، كي احن له، أو لاستعادته، وللأسف عليه، بل، يا صديقي، ليس لدي ّ ما أسف عليه تماما ً، في الأصل.
     فأنت تتذكر قصة السيدة المسنة، التي شعر بالأسف، ليس لموت الطائر الذي أحبته، واعتنت به، وعاش معها سنوات، بل لأن الصبية سرقوا ذلك القفص منها، القفص الذي كان هو كل ما تبقى لها في هذه الحياة.
   عندما قلت لك: في الأصل .....، فانا لم يسرقوا كتبي، ولم يغلقوا نافذتي، ولم يهدموا السقف علي ّ، ولم يسرقوا أحلامي، وغيرها من متاع هذه الدنيا، بل بعثروا ذاكرتي، وتركوها تتناثر مثل غبار لم يعد يسمح لك حتى بتنفس الهواء...، كي اكتشف كم أنا وحيد، بلا جسور مع العالم، ولا حتى مع نفسي....، فهل حقا ً لم اعد امتلك حتى هذا الأسف وأنا أموت كي أخبرك بعدم  قدرتي حتى على امتلاك مشاعر   الأسف، ولا مشاعر الخسران...؟!
[6] ديمومة
     مصادفة، رآه عند ساحل البحر، يراقب الزوارق، والطيور، شارد الذهن،  فاقترب منه، وجلس بمحاذاته، بهدوء، ومن غير ضجة، وتكلم بصوت خفيض:
ـ كم يبدو المشهد غريبا ً، يا سيدي، أنت لم تتخذ قرارا بإنهاء حياتي، قبل عقود، عندما كنت تمتلك القرار...، وأنا لم أبح لك بما كنت اعرف...، فلم تقدر على انتزاع كلمة واحدة مني، وأنا حافظت على الكتمان...، كم يبدو المشهد مسليا ً، وربما طريفا ً أيضا ً، حيث هربت أنت من الموت، بعدي، بسنوات، فلم يدم المجد لك، وأنا بدأت استعيد بعض خسائري ....، إنما المثير للغرابة، أو المفارقة، إننا، أنا وأنت، وجدنا بلدا ً يستقبلنا، من غير أسئلة أو اعتراضات تذكر. فالجلاد وضحيته يجلسان يتأملان البحر، والطيور، والزوارق.....، لكن الغرابة لا تكمن هنا، بل لأنني غفرت لك قسوتك، وإنزالك اشد الأذى في ّ، ولم أشهر بك، ولم أفكر حتى بالثأر، ولكنني لا استطيع ان اغفر لك انك سمحت لي بالبقاء حيا ً!

    لم يجب، بل نهض، بهدوء، مبتعدا ً، ولم يلتفت إلى المتكلم. ولكنه ترك خلفه أصداء كلمات متناثرة راح الآخر يجمعها:
ـ أذهب وأسأل الله، لماذا سمح لمن عصاه بالحياة! فمن أكون أنا كي تسألني لماذا لم أبقيتك تتنفس حتى يومنا هذا..؟
[7] أسئلة
ـ ها أنت في النعيم، فماذا تريد، كي تغلق فمك...؟
رفع رأسه قليلا ً تاركا ً فمه يتكلم:
ـ بل السؤال غدا أكثر تعقيدا ً، واستحالة ...، لأنني عندما أمضيت حياتي في الجحيم، كنت اعرف ماذا أريد، فلم افقد الأمل من مغادرته....، أما الآن، في هذا الفردوس، يا سيدي، فقد بدأت أسأل الأسئلة التي ليس لدي ّ أجوبة عليها! فهل تخبرني ـ لو تفضلت ـ أأنا وجدت للنعيم، أم النعيم وجد من اجلي....؟ ثم، يا سيدي، ماذا كنت فعلت كي تعاقبني بالجحيم، ثم...، ها أنت تتركني لا اعرف ماذا افعل في هذا الفردوس؟!

[8] جائزة
     قرأ الخبر للمرة الثالثة، كي يصدق:
ـ أنت ....، صاحب الرقم ......، فزت بالجائزة الكبرى!
    صدق الخبر، لان البطاقة تحمل الرقم نفسه، وبين يديه، وصدق انه، أخيرا ً، كسب الرهان. ولكنه، في الوقت نفسه، لم يقدر ان يكتم ألما ً عميقا ًكواه بوجود ما لا يحصى من الخاسرين.

[9] رسائل
     بعد ان انتظر إجابات على رسائل بعث بها إلى عدد من المعارف، والزملاء، ولم تصله الردود...، لم يجد سببا ً ما يدعوه إلى عدم الرد على الرسائل التي كانت تصله من أشخاص يكتبون له للمرة الأولى. آنذاك أدرك ان القوانين التي عرفها هي ذاتها لم تتغير، ولم يجر تعديلات تذكر عليها.....، وأدرك، في الوقت نفسه، انه غير مسؤول عن إخفاقاته باستحالة تغييرها، أو حتى تعديلها...، فبعد ان ذاق المرارات، واشد الهزائم سخرية، ووجدها لاذعة، ومزرية، أكد ـ لنفسه ـ انه لم يكن يجهل ان الضحية هي وحدها طالما أكملت دور جلادها، وان أعلى الهرم لا معنى له من غير قاعدة يجثوا عليها، إنما، دندن مع نفسه، بقليل من المرح، انه لن يسمح للأخير، إن كان وحيد زمنه، أو وحيد الأزمنة كلها، ان يزهو بنصر ستكون ذروته جنازة يتقدمها بنفسه بصمت لا تختلط فيه حتى النوادر!

[10] وصية
   مازال صوت جدتي يأتيني من البعيد، غير مكترث إن كان من السماء، أو من أعماق الأرض، فانا أصغي له مثلما اعرف ان أصابعي مازالت تتشبث ببقايا جسدي:
ـ " لا تؤذ الصخور، يا ولدي.....، فهي، مثل الإنسان، تتألم عند الولادة، وتحتفل في الأعياد، وتأن عند المصائب، وتكف عن الكلام عند الموت ..."
   فلم اترك حصاة، إن كانت تميزت بلونها، أو بشكلها، أو بملمسها، أو بما تمتلكه من إيحاء، إلا وجمعتها، ووضعتها في خزانة زجاجية بعيدا ً عن الغبار، أو عبث العابثين. وها أنا ـ بدل ان أدوّن وصيتي ـ تركت بصري يراقب ما كنت قد جمعته خلال سنوات حياتي:
ـ فانا سأذهب، كما الريح...، تعبر، تمر، وتغيب...، إنما الصخور ...
    لجم فمي صديق، بل وبخني، وقد مزق الورقة التي كتبت فيها ثنائي لواحدة من تلك الصخور. وصوته، هو الآخر، مازال يرن في رأسي:
ـ  أتخالف الجميع...، في مدح السيد الأمير، الماسك بجمرة الأقدار ...، كي تمجد حصاة!
    سمعت صوت جدتي، يأتيني مثل منديل رقيق يحجب عني الضوء:
ـ " لا تؤذ الصخور، يا ولدي.....، فهي، مثل الإنسان، تتألم عند الولادة، وتحتفل في الأعياد، وتأن عند المصائب، وتكف عن الكلام عند الموت ..."
 بغداد ـ 20/11/2014


الخميس، 4 ديسمبر 2014

مجموعة من اعمال عادل كامل- اخراج غالب المسعودي

ذاكرة القصيدة الشعبية-عادل كامل

ذاكرة القصيدة الشعبية


عادل كامل

نعم نصفق للقصيدة الشعبية ولكننا نخاف عليها من ...؟
ـ " بدءا ً، وقبل عصر التدوّين وبعده، كانت المسافة بين الأصوات ـ والكتابة، ظاهرة تعني، بشكل أو أخر، تقسيمات  اقتضتها عواملها. فبعد ان بدأت الحواس التخصص بوظائفها، المحددة، كانت الأصوات ـ من الفم إلى الرئة ـ لها السبق، والانتشار، في التداول بين المجموعات البشرية. ومع أننا لا نمتلك تصوّرا ً علميا ً دقيقا ً عن العالم إبان اكتسابه أبعاده، من العرض إلى الطول إلى العمق، والى باقي الأبعاد، وأيهما كان مباشرا ً في ظهور أدوات السمع أم أدوات البصر، فان  اثر تلك العوامل في نشوء الاختلافات ـ والتقسيمات فيما بعد ـ كان مرتبطا ً بالوظائف بما مميزها ومنحها خصائصها، إن كانت في التداول، أو في الانشغالات الأرقى، كالمهارة في الصياغات الفنية، أو الجمالية.
   وكالمسافة بين الأصوات والكتابة، حافظ الإرث الجمعي على اشمل تعامل تمثل فيه النوع، إلى جانب تلك العوامل التي أدت إلى ظهور (ألانا) على مستوى النصوص المدونة.

    نخاف على النص المدوّن من تأثيرات اللاوعي الجمعي، أم نكون على حذر اكبر من القطيعة، وذلك الانفصال البنيوي ـ الوظيفي، بينهما، أم سنراقب اثر احدهما على الآخر في الحفاظ على تلك الغايات الأبعد للموجودات ـ ولأدواتها، مادامت الأصوات/ والأبجديات، هي مظهر لا يمكن عزله عنها.
   فالخوف ـ بمعنى الانشغال ـ من الشعر (الجمعي) بالحفاظ على دوافعه البكر، لم يثمر، في عالم ما بعد التقنية(التكنولوجيا)، إلا ما يشبه الضوضاء إزاء الموروث المدوّن، المتصل بالمستحدثات، وحداثتها.  فالخوف لا يكمن في التأثير أو الخلط، بل بتجاوزه لمنح الشعر الجمعي/ الشعبي، لدى الشعوب ما قبل الصناعية، أهمية انتصار الأصوات على المنجز المدوّن. وإلا فان أعراف الشعر الجمعي لم تقهر، إن تنبهت إلى الموضوعات الأبعد، غير الحث على الاشتباك، والتصادم، بالرهافة، وقراءة محفزات التوتر، وموضوعات العنف.
المتلقي الذكي مع من في القصيدة الشعبية...؟
ـ " انه مع اكتشاف مخفياتها؛ أي رسالتها وفنها وما تخفيه من ديناميات. فالمتلقي لن يدشن ذكاءه إلا بالتحري عن تلك الملغزات التي منحت الموروث الجمعي، للشعوب، الصانع المجهول، بعد ان راح هذا الصوت الجمعي يجد تفرده عبر الأنا. ومرة بعد أخرى ثمة محفزات تستدعي المتلقي ان يذهب إلى المناطق النائية، في القراءة، وإعادة البحث عن مليارات الحيوات، وأصواتها، وأنفاسها، في كل ما يعد تدشينا ً يوازي نصوص النخبة، الأكثر تفردا ً، وربما، الأكثر عزلة. ."


* مسؤولية الشاعر أمام المتلقي، أم مسؤولية المتلقي أمام الشاعر...؟
ـ " الآن استعيد التجارب التي اكتسبت تاريخها المدوّن، في هذا الصنف، خلال القرن الماضي،  (مع وجود مسافة بين الخطاب العامي؛ أي الهجين أو المهجن، والموروث الشعبي الذي اكتسب قواعده، وانضباطاته)، استعيد (الهوية) الشعبية، بوصفها لا تحمل اسما ً، إلى جانب تجارب اقترنت بعواملها الاجتماعية/ السياسية، ودورها في منح الهوية ملامحها وشخصيتها.
 تجارب الملا عبود الكرخي، اللاذعة، ذات المنحى النقدي، مرورا ً بحقبة تالية، ظهر فيها مظفر النواب ـ الانطباعي في الأصل ـ وشاكر السماوي، وعريان السيد خلف، وأسماء لا تحصى عملت كجسر بين الشعر والآخر، فتارة كانوا هم الأكثر تأثيرا ً، وتارة يجد المتلقي ضالته في تلك التجارب.
   إنها علاقة شبيهة بما تعمله الجسور ـ بين الضفاف، فالشاعر يستنطق الجماعة، ويعبر عنها، كي تختار الجماعة شاعرها، حيث تمثلت (حداثة) الشعر في مجالات ابعد من التحريض، باستثمار التيارات العالمية، في المنحى البنائي لها، على مستوى الصياغة، وأساليبها تارة، وعلى ما أخفاه الشعر، السابق على الكتابة، ومنحه حضورا ً مستحدثا ً في عصر ما بعد الحداثة، والعولمة، تارة أخرى.."

إصدارات جديدة-الحضارة والتصميم


إصدارات جديدة

الحضارة والتصميم





   عن دار دجلة، في عمان وبغداد، صدر كتاب الباحث والأستاذ الأكاديمي، معتز عناد غزوان [الحضارة والتصميم] بعد سلسلة من الإصدارات في موضوعات التصميم، والمتابعات الفنية، والثقافية. تضمن الكتاب أربعة فصول، تناول في الأول: الرمز الحضاري في التصميم ألطباعي. وفي الفصل الثاني: الحضارة وتوكيد الخصوصية في تصميم السجاد العراقي. وفي الفصل الثالث: مكونات الحضارة في تصميم الشعار. وفي الرابع: الحضارة في التصميم الصناعي . وقد ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب انه عمل على تسليط الضوء على دور فن التصميم، من خلال دور الفنان المصمم  بوصفه فردا ً فعّالا ً في المجتمع المعاصر الذي غدت فيه التداخلات ما بين الحضارات فضلا ً عن ظهور العولمة المعاصرة وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة ولا سيما على فن التصميم بوصفه فن حساس يمس حياة المجتمع ويسهم في تطويره. فهو أداة فعالة ومهمة من أدوات الثقافة الناجحة المعاصرة، إن المصمم ألطباعي هو المسؤول عن توكيد الواقع المعاش مع الرمز الحضاري أو الموروث الشعبي والثقافي والإنساني، وقد تطرق الباحث في كتابه  إلى تلك الأمور ولا سيما ما يتعلق في تصميم المطبوع والكيفية التي يقوم بها المصمم من اجل توكيد دور الرمز الحضاري وإنسانية دلالته في التصميم، كما تطرق إلى التأثير والتأثر ما بين الواقع المعاصر والحضارة في تصميم السجاد بوصفه دلالة فنية واضحة تميز الشعوب، وإرساء قاعدة تصميمية لوضع الخصوصية والهوية ودورها في إثبات الانتماء القومي والحضاري والإسلامي وغيرها من المتعلقات التي يجب على المصمم مراعاتها في إنشاء تصميمه الخلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رمز المفكّر الملتزم والمرجع الأخلاقي في أفريقيا المضطربة رحيل النيجيري تشينوا أتشيبي، أبو الأدب الأفريقي الحديث- يوسف يلدا


رمز المفكّر الملتزم والمرجع الأخلاقي في أفريقيا المضطربة
رحيل النيجيري تشينوا أتشيبي، أبو الأدب الأفريقي الحديث



 يوسف يلدا

  كان مؤلّف رواية "الأشياء تتداعى" يعدّ من أوائل الكتّاب الذين عملوا من أجل نشر أدب قارة أفريقيا الحديث عالمياً. وسلّطت أعماله المبكرة الضوء على الإضطرابات الإجتماعية الناجمة عن الإستعمار في القارة السوداء. توفي الروائي والشاعر تشينوا أتشيبي، الذي يعدُّ من أكثر الأدباء تأثيراً في أفريقيا، يوم الجمعة عن عمر ناهز 82 عاماً.
 ولد  الكاتب الراحل والذي قالت عنه نادين غورديمر، الفائزة بجائزة نوبل للأدب أنه "أبو الأدب الأفريقي الحديث"، عام 1930 في إوجيدي، جنوب نيجيريا. وعندما كان أتشيبي يدرس التأريخ واللاهوت في جامعة إيبادان في بلده الخاضع حينذاك للإستعمار البريطاني، تخلّى عن إسمه ألبيرت ليستعيد إسمه التقليدي.
في ذلك الوقت، وفي ذات المؤسسة المرموقة، إنبثق جيل من الكتاب المبدعين، وتحولوا إلى روّاد الأدب الأفريقي المكتوب باللغة الإنكليزية: جون بيبر – كلارك، كول أوموتوسو، وول سونيكا، الحاصل على جائزة نوبل. وتبرز أيضاً أسماء أخرى أمثال آموس توتوآلا، وسيبريان إيكونسي، ضمن القائمة الطويلة التي تضمُّ الكتّاب الذين سجّلوا حضوراً أدبياً متميّزاً على مدى نصف قرن من الزمن في الأدب الأفريقي الحديث، من خلال إنشاء مدرسة أدبية لا يزال تأثيرهاً جليّاً على أعمال عدد من الكتاب، مثل بن أوكري، أو الكاتب الراسخ في الذاكرة كين سارو – ويوا، الذي شُنق في عام 1955 على يد الدكتاتور الجنرال ساني آباجا. ومن أبرز سمات نتاجات أؤلئك الكتّاب إستخدام اللغة الإنكليزية المفروضة من قبل الإستعمار لأهدافٍ خاصة بها، ليس بسبب من الكمالية الأكاديمية، بل لنقل القيم: عدم الرفض بالكتابة ب "لغة العدو"، والإستعانة بها من أجل التواصل وإضفاء طابع عالمي على مشاعرهم، وأشواقهم، وإحباطاتهم الأفريقية. وكذلك، عدم الإزدراء من تأسيس أدبٍ باللغة الإنكليزية البسيطة المتداولة بين عامة الناس، ولغة الضواحي وعمال موانئ لاغوس أو بورت – هاركورت. أن الرهان على هذه النقطة، بالإضافة إلى عظمتها، تسمح بإثارة الجدل المصطنع ربما، والذي كانوا يخططون له منذ أمدٍ طويل في الأدب الأفريقي: دور ما يسمى ب "اللغة المستوردة" في بناء الثقافات ما بعد الإستعمار، وعدم الجدوى المزعومة للأدب في المجتمعات ذات النسبة العالية من الأميين.
أن هذا القلق الذي كان يراود أتشيبي في خصوص التأكيد على الهوية، لم يكن مجرد قلق من الناحية الجمالية أو الإسلوبية. وقد تمثّل ذلك في روايته الأولى " الأشياء تتداعى"، المنشورة في عام 1958، على شكل ما يسمى ب"صراع الثقافات". حيث يثير المؤلف قضية مدى تأثير إختراق الحضارة الأوروبية على الأفارقة، وعواقب نشر العنف والفوضى الأخلاقية، ذات المعايير والتقاليد المختلفة،على مجتمعٍ ما.
وقد يعود إنتشار هذه الرواية التي ترجمت إلى أكثر من 50 لغة، وبيع منها نحو 10 مليون نسخة، إلى إقتراح أتشيبي الذي جاء بين ثناياها. وفي ذلك الوقت، كان من السهل جداً أن  يقع المرء ضحية إغراء نزعة الإنتقام، ورفض لما وراء الحدود، وضراوة القمع الإستعماري الذي كان يشهد نهايته. إذ لم يكن بحاجة إلى ميريدين أو مؤيدين له. مع ذلك، أن ما جاء خلف سطور رواية "الأشياء تتداعى"، كان أكثر عقلانية وإنسانية، بالنظر لكون الحقائق التأريخية جاءت كما هي، ولا يمكن تغييرها أو التلاعب بها، والرد ليس في الإستسلام، ولا في الرثاء الدائم للأشياء، وليس أيضاً في الإنتقام، بل في البحث عن الصيغ التي يمكن من خلالها إستعادة التنفس. وتوصّل أتشيبي منذ نصف قرنٍ من الزمان، إلى ما يبدو للآخرين اليوم  أنه إكتشاف حديث، ونقصد بذلك ضرورة الحوار بين الثقافات، والتفاعل الدائم، وتفوّق بعض الحضارات على الأخرى.
وكثيراً ما يحدث أن يلقي عمل إستثنائي بظلاله على بقية نتاجات المؤلف. وقد إشتهر الروائي والشاعر والناقد الأدبي تشينوا أتشيبي عبر روايته "الأشياء تتداعى"، رغم أنه أصدر أكثر من 20 كتاباً، من بين أبرزها "سهم الرب" 1964، و"رجل من الشعب" 1966، و"فيتات في حرب" 1971، و"عيد الميلاد في بيافرا وقصائد أخرى" 1973.
وفي جميع مؤلفاته، نرى أتشيبي وقد أصابه القلق جرّاء المشاكل التي تحيق بإفريقيا، ويشهد على ما يمر به بلده، تاركاً أثراً عميقاً خلال مسيرة حياته. كان دائماً، ذلك الإنسان الرصين، الذي لا يلفت إليه الأنظار. ولم يوظّف أتشيبي معرفته الواسعة ولا قيمه، أبداً، في خدمة التعسّف. وعلى الرغم من الإغراءات العديدة والتهديدات التي كان يتلقاها، رفض التعاون مع الديكتاتوريات التي عانت منها نيجيريا منذ إعلان إستقلالها. ورفض أيضاً الأوسمة والإمتيازات التي كانت تعرض عليه ليظلّ وفياً لذاته. لذلك، يعدُّ أتشيبي رمزاً للدور المفروض أن يؤديه المفكر في بلداننا المضطربة، والمرجع الأخلاقي الذي علينا العودة إليه كلما خانتنا ضمائرنا. وقد إنعكست هذه الصورة في روايته المعنونة "كثبان السافانا" 1987، صورة تمثّل فشل المفكرين والسياسيين الأفارقة.
 والنشاط السياسي الوحيد الذي مارسه أتشيبي تجلّى في مشاركته في الجهاز الثقافي الخاص لجمهورية بافاريا السابقة، أثناء الحرب الأهلية في نيجيريا (1967 – 1970)، تلك التجربة التي رواها في كتابه الأخير "كان هناك بلد: تأريخ بيافرا الشخصي (2012).
وفي رأي نادين غورديمير، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب، أن تشينوا أتشيبي الذي لم يمت في بلده، بل في الولايات المتحدة، حيث كان يقيم منذ العام 1990، بعد أن وقع له حادث مروري إضطره لأن يستعين بكرسي متحرك، يعتبر أبو الأدب الأفريقي الحديث، وهو فعلاً يستحق بكل جدارة أن يطلق عليه هذا اللقب.
         




كتب- اسرار كتابات كازانوفا وتقديمه بلا تزييف أو رتوش

كتب
  اسرار كتابات كازانوفا وتقديمه بلا تزييف أو رتوش




ظلت مغامرات كازانوفا الجنسية الكاملة مطمورة نحو قرنا ونصف القرن، اولا بسبب الطهرانية الالمانية التي حجبتها اولا ثم الترجمات التي عبثت بالنص الأصلي. وكان جياكومو كازانوفا أمضى سنواته الأخيرة في كتابة مذكراته بعد نفيه الى غابات بوهيميا بعيدا عن المدن والنساء اللواتي عشقهن وتركهن. فان البندقية التي نشأ فيها اصبحت بعيدة المنال وباريس التي أحبها كانت منهمكة بالثورة. وقال كازانوفا في مقدمة مذكراته "ان الكتابة هي العلاج الذي خطر ببالي لانقاذي من الجنون والموت كمدا". وصدرت مذكرات كازانوفا "قصة حياتي" بعد عشرين عاما على وفاته في سنة 1798. وتكفلت المذكرات بألا يكون النسيان مصير هذا الرجل الذي اصبح اسمه رديفا لمعاشرة النساء. ولكن الطهرانية الالمانية والخفة في نقل كتاباته تآمرتا لطمس هذه المذكرات وتشويهها.
ويهدف كتاب جديد سيصدر عن دار لافون الفرنسية في اواخر نيسان/ابريل الى هتك الاستار عن كتابات كازانوفا وتقديمه بلا تزييف أو رتوش. ويستند الكتاب الى المخطوطة الأصلية ذات الـ 3682 صفحة التي ابتاعتها المكتبة الوطنية الفرنسية عام 2010 مقابل نحو 7.5 مليون يورو من مانح مجهول الهوية. وقال الاستاذ في جامعة نيس الفرنسية جان كريستوف ايغالين المختص بحياة كازانوفا والذي شارك في إعداد الكتاب انه يكشف عن زير النساء سيئ الصيت بوصفه "شخصية أعقد من الكليشهة التي لُصقت به". واضاف ايغالين ان كازانوفا كان غاوي نساء ولكنه كان ضحية اغوائهن ايضا. وانه أحب النساء اللواتي كانت له علاقة غرامية معهن "ولم يكن ذلك الشخص المسطح الذي يستدرج النساء الى الفراش ثم يتركهن بل كانت له علاقات عميقة بالنساء".  ونقلت صحيفة الاوبزرفر عن البروفيسور الفرنسي "ان كازانوفا كثيرا ما يُماهى عند القارئ مع فن إعادة الاختراع. فهو كان قادرا على تغيير اسمه وتغيير بلده واعادة اختراع نفسه بطبيعة مغايرة. وان هذه الفكرة المتمثلة في رفض الامتثال لمصير واحد فكرة تخاطب عالمنا الحديث".
في عام 1821، بعد 23 عاما على وفاة كازانوفا، أقدم ابن اخيه على بيع مخطوطة "قصة حياتي" الى محرر الماني مهتم بالكتاب الايطاليين في القرن الثامن عشر. ولكن المحرر فريدريش ارنولد بروكهاوس قرر ان العمل غير صالح للنشر بسبب لااخلاقيته وحقيقة ان النص الفرنسي كان مطعَّما بالايطالية ايضا. ولم يُنشر النص إلا بعد تنظيفه من شوائبه الايطالية وحذف المقاطع التي تُعد مكشوفة على نحو صارخ. وظل هذا النص طيلة 140 عاما هو النسخة الوحيدة المتاحة من مذكرات كازانوفا فيما بقي الأصل حبيس خزانة في المانيا.  ولكن هذه النسخة على علاتها استهوت كتابا فرنسيين مثل الروائي ستاندال والشاعر والمسرحي الفريد دي موسيه. وقال البروفيسور ايغالين ان القرن التاسع عشر الذي اكتُشف فيه كازانوفا عمليا كان فترة صعود البورجوازية "وبالنسبة لكتاب قرأوه مثل ستاندال وموسيه كان يمثل منظومة اخلاقية وعصرا اخلاقيا أقل تزمتا وتقييدا من عصرهم".  وكادت المخطوطة الأصلية لمذكرات كازانوفا تُفقد الى الأبد حين تعرض مكتب بروكهاوس الى اصابة مباشرة بقنابل الحلفاء في عام 1943. ويُقال ان تشرتشل سأل عن مصير المخطوطة. وبما يشبه المعجزة نجت المخطوطة سالمة ونُقلت على جناح السرعة الى خزانة أمينة في احد المصارف.
وفي عام 1960 نُشر الأصل كاملا بالفرنسية ثم بالانكليزية في عام 1966. ولكن البروفيسور ايغالين قال ان النسخة الفرنسية نُشرت بعجالة وكانت فيها اخطاء وعيوب كثيرة. واضاف ان الطبعة الجديدة أدق "وليس فيها اكتشاف مفاجئ سيغير صورتنا عن كازانوفا". ويروي كازانوفا في النسخة الجديدة تفاصيل زيارة قام بها الى ماخور في باريس عام 1750 ويصف نساء الماخور، ومظهرهن وطريقة دفع حق اتعابهن. وقال البروفيسور ايغالين ان كازانوفا يتحدث بأدق التفاصيل عما حدث... "وهناك اختلافات كبيرة بين المخطوطة الأصلية وما نُشر عام 1960". ويضم الكتاب الذي سيصدر في 25 نيسان/ابريل عن دار لافون بين دفتيه النسختين جنبا الى جنب لتسليط الضوء على الاختلافات بينهما.
ويستهل كازانوفا مذكراته بالقول "أبداء بأن أُعلن لقارئي أني في كل ما فعلته طيلة حياتي، صالحا أو طالحا، واثق من اني كسبت ما نلته من استحقاق أو ملامة، ونتيجة لذلك اعتبر نفسي حرا. الانسان حر لكنه لا يكون حرا إلا إذا اعتقد انه حر... والنظام الوحيد االذي اعتمدته.... هو ان ادع نفسي تمضي الى حيث تأخذها الريح".  


سيجارة سارتر- نذير الماجد

سيجارة سارتر


 نذير الماجد

    تلح المذاهب الوجودية على إحالة العالم برمته إلى مغامرة، أو مواجهة دائمة مع استعصاء شرس لأشياء منفلتة، السعادة والنصر استحقاق مستحيل، من هنا كان القلق مقولة تؤثث الوجود في الفلسفات الوجودية، إن القلق بما هو ثيمة مركزية في كل نص وجودي، ينعكس على فعل القراءة ذاته فتبدو عملية عسيرة كما لو أنها انغماس في لزوجة لا متناهية وغموض متأصل، يبدو المتلقي من خلالها جسورا في أي محاولة للتأويل والفهم، فمعاشرة النص الوجودي هي بحد ذاتها مغامرة، لا تقل عن التهورات الناجمة عن تحقيق الوجود.
هكذا بدا لي "الكينونة والعدم" هذا العمل المضني الذي كتبه جان بول سارتر، فما إن أنهيته حتى تنفست الصعداء وشعرت كما لو أني أحرزت فتحا عسكريا، أجهدني العمل لعوامل لا تقتصر على الأسلوب بل تشمل المضمون ذاته، فالنص الذي قارب الألف صفحة من الحجم الكبير معبأ بمضامين تتطلب مخيلة مرهفة، يبدو النص ميتا إن لم ينفخ باندفاعات الخيال المتأجج، الخيال هو الروح والنص هو الجسد، أما الصورة الفنية فدلالة لا تكتمل إلا في ذهن المتلقي الذي يفترض فيه إعدادا ثقافيا مسبقا، اللغة كما في كل نص فلسفي لا تخل من جفاف وفخامة وتقعر، وسارتر لم تسعفه أدبيته في التخفيف من العبء الفلسفي إلا قليلا، تلتحم اللغة بالفلسفة ذاتها في كل عمل وجودي، فإذا كانت اللغة مع هايدغر المنبع الذي نهل منه صاحبنا سارتر هي بيت الوجود، فهي ذاتها عبقرية لسانية أو فلسفة لا تدرك إلا في سياق اللغة، وسارتر يمنح ذاته حرية في الاسترسال التلقائي لكل ما يعن له، فهو يكتب كما يفكر، واللغة لديه، كما هي الفلسفة، تحقيق متواصل، الذات تتخارج واللغة تتداخل، هناك تحقيق وقفز إلى الخارج وهنا كشف واستبطان جواني، لا يمكن فصل الوجودية عن اللغة، فالرحلة للفوز بالوجود طريق شاق ووعر، والطريق هنا كما هو عند هايدغر وكيركيغارد ليس سوى حشد أو جيش من الكلمات.

مع النص الوجودي تنتفي القواعد المسبقة، كل القواعد تتشكل في معايشة اللغة ذاتها، هل نجد أنفسنا مع نص سوريالي يستخدم تقنية الكتابة الآلية؟ سارتر هاجم السوريالية في كتابه الشهير "ما الأدب" لكن الأداة السوريالية هنا ماثلة في النص وقد صار منجزا، فالعمل الذي يتكون من فقرات منهكة للمتلقي بسبب طولها الذي يصل أحيانا إلى ثلاث أو أربع صفحات لا يخل من فيوضات الذات الغارقة في اكتشاف "النقطة السوريالية". الكتابة الوجودية انعكاس لفيض ذاتي، لكنها تميز ذاتها بشروط الموقف، فهنا الخطاب نسقي لأن الفلسفة شمولية.

 إذا كان تحقيق الوجود موقف فإن اللغة التزام، وعلى ذلك راح سارتر يعيد تأسيس الأدب الملتزم كمفهوم ناجز في كل فكر يساري، الأدب عند سارتر انعكاس لوعي ممزق، بل هو ذاته وعي منشطر، لا ننس أنه مارس اشتغاله الفلسفي في أحيان كثيرة على أرض أدبية: الغثيان، الجدار، الأبواب المغلقة، طرق الحرية، إنها أعمال تختلط فيها الفلسفة بالأدب، ومع الوعي الممزق أو المنشطر على ذاته يتحطم الجنس الأدبي في تدشين مبكر لفتوحات ما بعد الحداثة. صار النص، كما الوجود، سابق على الهوية، والهوية في تدشين مستمر أو مستحيل، الهوية تضيق على النص لأن الوجود يسبق الهوية، وهي الفكرة الأساسية في كل فلسفة وجودية.
يؤكد باشلار بأن الحقيقة بنت النقاش والتناقض، والجدل يحيلها إلى غناء. ثمة حاجة إلى مخيلة مرهفة ليس فقط كأداة أدبية ولكن أيضا لتأويل كل نص يسعى لبسط مستحيل للحقيقة، والحقيقة جدل لأن الذات تخارج، إنها دخول أبدي في مجهول، أو إمساك بوجود دخاني. وعند سارتر يتخذ الوجود شكل مشروع، إنه حرية، والحرية ثقب في الوجود، إنه العدم الذي يحيط بالعالم وينخره من الداخل، العدم هو الدائرة والمركز، إنه قلب الكينونة، وهذا العدم منتج إنساني  لأن" الإنسان أساس عدمه الخاص" كما يقول مفكرنا، ففي مسعانا للحرية نلاحق العدم، إننا بذلك نمارس التعديم، أو الإحراق لكل المشاعر الناجمة عن الغثيان. لكن الإنسان يبدع إنسانيته، وكل سلوك إنساني يتخذ شكل تدمير لحاضر يموت لأنه يتلاشى أو يتبخر كدخان سيجارة.

ماذا يعني الغوص في تدخين سيجارة؟ إنه رمز لامتصاص، فالتدخين ليس مجرد احتراق لورق، بل هو أيضا تدمير متسامي، إنه لحظة الروح، أو الشيء حين يصبح شفافية خالصة، أو إلتصاق بوجود عنيد ومشاكس ومنفلت دائما، إنه مثال لتحقيق ديمومة مستحيلة، كل لذة زائلة تنفي ذاتها، والسعادة المرجوة هي في إلتذاذ دائم، لكن الديمومة رغبة استيهامية، الديمومة ليست أكثر من تعويض طفلي لنقص جاثم على الوجود، إنه العدم الذي يتخلل كل الوجود، لهذا كانت السيجارة مع سارتر تصوير فانتازي/ واقعي لهذا الهروب السرمدي، الإمساك بالسيجارة ونفث دخانها معاينة لذيذة لاحتراق العالم، تحوله إلى رماد، إذ يطغى حضور الذات فتتحول الأشياء إلى جمرة ملتهبة تسعر شعلة الروح: تتوقد وتنتشي وتصبح قنديلا، أو شعلة من نار، التدخين موقف وجودي والأنا هنا متصوفة أقرب إلى الملكوت، ولكن سارتر يحيل الإثبات والنفي معا إلى تألق وجودي.
وإذا كان سيوران يستعيد هذه المعاني الدخانية ليؤكد على أن التدخين نشوة روحية، نشوة توازي الخاصية الأدبية للتطهير الصوفي، فإن سارتر لم يكن وجوديا كما ينبغي حين امتنع عن التدخين، هكذا يبدو للوهلة الأولى، لكنه لا يستحضر السيجارة إلا كمثال توضيحي لوعي قصدي، الوعي الذي يخلق موضوعه، ومع أن سارتر يستعرض المثال في فقرة موجزة، إلا أنه يعترف بحجم المعاناة التي تكبدها وهو يحاول قمع الرغبة في التدخين، الرغبة هنا عائق أنطولوجي، ولأن الوجودية جهد معرفي يمنح الواقع الإنساني كل إمكانياته، فإن تحطيم اللذة الفانية محك وامتحان.

إن الرغبة، بوصفها نزوع إنساني للمطلق، تحمل اللذة ونقيضها، فهي مرتكز لكل قرار إنساني يسعى لكسر الاقتران السيكولوجي بين الذات والسيجارة التي هي عند سارتر رمز لتملك تدميري للعالم، التبغ هو العالم، والامتناع عن التدخين رمز لاستعادة القرار، والوجودية ليست سوى نص مفتوح لكل إمكان إنساني، الوجودية فلسفة اختيار مسئول، أي رفض الهروب أو رفض الرفض وهي استحواذ على العالم، إنها نقيض التدخين، وتأكيد لحرية الإنسان حتى ضد نفسه.