10 قصص قصيرة جدا ً
عادل
كامل
[1] أسف
بعد سنوات طويلة، شاهده، مصادفة، فقال له:
ـ اغفر لك ذنوبك مجتمعة، يا سيدي....، اغفر لك انك أمرت بسجني، كأعمى جرجر
من الشارع، واغفر لك انك أمرت بتعذيبي، حيث لم يتركوا موضعا سليما ً في جسدي، واغفر لك انك جعلتني لا أميز
بين النهار والليل، ولا بين الأعلى والأسفل، ولا بين الباطل والحق، واغفر لك انك
أمرتهم ان يحولني إلى دمية تتحرك بحسب توجيهاتك، ونزواتك، وأوامرك....، واغفر لك
انك سرقت أحلامي، وحولتني إلى خشبة أو حصاة مرمية في قارعة الدرب....، لكنني لا
استطيع ان اغفر لك انك أطلقت سراحي، وقلت
لي: آسفون...، ليس لأنك ستكمل برنامجك العنيد وأنت قصدت ان أرى ما أحدثته في الآخرين، وفي
الحياة، كي تزداد فخرا ً، ولذّة، وانتقاما ً،، بل لأنك قصدت إيهامي بأنك هو من
منحني الحرية، وليس لأنني لم اعد بحاجة لها! اغفر لك انك قتلتني، ولكنني لا استطيع
ان اغفر لك انك جعلتني، عندنا أراك، ازداد إعجابا ً بالكلاب، والجرذان، وحتى
بالضباع! فانا للأسف اترك لك حريتك، كي تتذوق مرارتها، إنما، في نهاية المطاف: لا
أنت هو من اخترع الإثم، ولا أنا كنت امتلك البراءة..!
[2] حفلة
لم أكن استطيع التقدم، كي أرى
ما كان يحدث في الحلبة، ولم أكن اقدر على التراجع، والتواري. كانت الأصوات مرتفعة،
وصاخبة، مشبعة بالغبار، وهي ممتزجة برائحة
حجبت عني رؤية ما كان يحدث.
الآخر الذي بجواري سألني:
ـ هل انتهت الحفلة ..؟
إذا ً إنها حفلة! دار بخلدي،
فسألته:
ـ هل بدأت..؟
فأجابني هامسا ً:
ـ لا ترفع صوتك.
فقلت:
ـ أنت تكلمت بصوت مرتفع.
عندما ساد الصمت لبرهة من الوقت،
سمعنا احدهم يتكلم بصوت جهوري صاخب:
ـ هو ذا البعرور الذهبي يتناثر، كنجوم في عتمة الليل..
تبعه آخر يقول:
ـ بعرور خرافي لونه كبريق الفضية، ويشع مثل ماسات تتموج فوق سطح البحر...
ثم تلاه ثالث:
ـ مدور مربع مكعب آت ٍ ذاهب مثل ريح تنث رذاذا ً كحبات رمان، بعرور كبشي
...
وأعقبه رابع:
ـ بعرور ابلي مثل باقة ورود في حقل نسجت كمنديل عاشق متيم ...
فقال الواقف بجواري:
ـ أين هو خروفك..؟
ـ خروفي ..؟
فقال بأسى حد البكاء:
ـ الماعز الذي جئت به نفق في الطريق...
بعد برهة اضطررت ان اسأله:
ـ إنها حفلة بعرور إذا ً...؟
حدق في عيني شزرا ً، وقال:
ـ أسرع!
تقدمنا خطوة، نحو الحلبة، وكان
الخطيب يقول:
ـ بعرور هذا التيس اسود مثل عقيق في جيد هيفاء عند النبع.
تلاه آخر بصوت سحري:
ـ بعرور نعاجي كندى بستان عند الفجر، يتناثر يتجمع كقلادة ياقوت ...
فسألت الواقف بجواري:
ـ بعيرك هرب منك...؟
ـ لا...، كان تيسا ً عنيدا ً..
ـ آ ...، للأسف، ليس لدي ما أتبارى به، وافتخر...، فانا لا امتلك لا حمارا
ً، ولا بغلاً، ولا ثورا ً، ولا حتى نعجة!
ـ اسكت....، قل لهم انك جئت تشاركهم الاحتفال.
ـ بماذا ..؟
ـ بالدرر، والياقوت، والعقيق، ألا يكفي هذا أيها الغريب!
[3] ولادة
قال يخاطب زميله الذي عثر على
اسمه، بين الشواهد، مصادفة:
ـ الآن عرفت لماذا أغلقت فمك وذهبت..
لم ينتظر سماع الرد، فقال
متابعا ً:
ـ وعليك، الآن، ان تشكرني لأنني لم أمنعك من الموت...، فلو كنت معنا، حتى
هذا اليوم، لأدركت، بعد فوات الأوان، إننا لم نكن نجهل لماذا نموت، بل لماذا
ولدنا.
[4] الآخر
عندما اجتاز حدود قريته، وجد
نفسه طليقا ً، فتنفس الصعداء وقال يخاطب نفسه: ـ الآن عليك ان تبحث عن مكان لا
يراك فيه هذا الذي لم يكف عن الكلام. فزار مدن وقصبات وعواصم لا تحصى ...، لم يمكث في
واحدة منها، حتى وجد نفسه قد بلغ نهاية الأرض...، حيث رأى السماء بلون ابيض والأرض
تمتد بلا حدود:
ـ آ .....، كأنني اجتزت الزمن، وأنا الآن وحيد بينهما....
صمت، ونظره يتوغل على الأفق الذي
امتد بلا حافات، ومصغيا ً إلى صوت كان يدور داخل رأسه:
ـ كان عليك ان تتخلص مني وأنت في
قريتك، فلا أنا أراك ولا أنت تراني، فلا أنا أؤذيك، ولا أنت تؤذيني!
رفع رأسه ليرى السماء امتدت مع
الأرض من غير لون. فقال لنفسه:
ـ لو لم أتكلم فهل كنت استطيع ان اكف عن الإصغاء؟ أيها البياض ماذا فعلت بي
كي تتبع خطاي حتى وأنا افقد عقلي!
[5] كلمات
ليس لأنني لا امتلك
شيئا ً ما اخسره، تجدني لا اشعر بالأسف، أو لأنني كنت امتلك شيئا ً ما فقده، وغدا
استرجاعه بحكم المستحيل، ولم اعد أتذكره، كي احن له، أو لاستعادته، وللأسف عليه،
بل، يا صديقي، ليس لدي ّ ما أسف عليه تماما ً، في الأصل.
فأنت تتذكر قصة السيدة المسنة،
التي شعر بالأسف، ليس لموت الطائر الذي أحبته، واعتنت به، وعاش معها سنوات، بل لأن
الصبية سرقوا ذلك القفص منها، القفص الذي كان هو كل ما تبقى لها في هذه الحياة.
عندما قلت لك: في الأصل .....،
فانا لم يسرقوا كتبي، ولم يغلقوا نافذتي، ولم يهدموا السقف علي ّ، ولم يسرقوا أحلامي،
وغيرها من متاع هذه الدنيا، بل بعثروا ذاكرتي، وتركوها تتناثر مثل غبار لم يعد يسمح
لك حتى بتنفس الهواء...، كي اكتشف كم أنا وحيد، بلا جسور مع العالم، ولا حتى مع
نفسي....، فهل حقا ً لم اعد امتلك حتى هذا الأسف وأنا أموت كي أخبرك بعدم قدرتي حتى على امتلاك مشاعر الأسف، ولا مشاعر الخسران...؟!
[6] ديمومة
مصادفة، رآه عند ساحل البحر،
يراقب الزوارق، والطيور، شارد الذهن، فاقترب
منه، وجلس بمحاذاته، بهدوء، ومن غير ضجة، وتكلم بصوت خفيض:
ـ كم يبدو المشهد غريبا ً، يا سيدي، أنت لم تتخذ قرارا بإنهاء حياتي، قبل
عقود، عندما كنت تمتلك القرار...، وأنا لم أبح لك بما كنت اعرف...، فلم تقدر على
انتزاع كلمة واحدة مني، وأنا حافظت على الكتمان...، كم يبدو المشهد مسليا ً، وربما
طريفا ً أيضا ً، حيث هربت أنت من الموت، بعدي، بسنوات، فلم يدم المجد لك، وأنا
بدأت استعيد بعض خسائري ....، إنما المثير للغرابة، أو المفارقة، إننا، أنا وأنت،
وجدنا بلدا ً يستقبلنا، من غير أسئلة أو اعتراضات تذكر. فالجلاد وضحيته يجلسان
يتأملان البحر، والطيور، والزوارق.....، لكن الغرابة لا تكمن هنا، بل لأنني غفرت
لك قسوتك، وإنزالك اشد الأذى في ّ، ولم أشهر بك، ولم أفكر حتى بالثأر، ولكنني لا
استطيع ان اغفر لك انك سمحت لي بالبقاء حيا ً!
لم يجب، بل نهض، بهدوء، مبتعدا
ً، ولم يلتفت إلى المتكلم. ولكنه ترك خلفه أصداء كلمات متناثرة راح الآخر يجمعها:
ـ أذهب وأسأل الله، لماذا سمح لمن عصاه بالحياة! فمن أكون أنا كي تسألني
لماذا لم أبقيتك تتنفس حتى يومنا هذا..؟
[7] أسئلة
ـ ها أنت في النعيم، فماذا تريد، كي تغلق فمك...؟
رفع رأسه قليلا ً تاركا ً فمه يتكلم:
ـ بل السؤال غدا أكثر تعقيدا ً، واستحالة ...، لأنني عندما أمضيت حياتي في
الجحيم، كنت اعرف ماذا أريد، فلم افقد الأمل من مغادرته....، أما الآن، في هذا
الفردوس، يا سيدي، فقد بدأت أسأل الأسئلة التي ليس لدي ّ أجوبة عليها! فهل تخبرني
ـ لو تفضلت ـ أأنا وجدت للنعيم، أم النعيم وجد من اجلي....؟ ثم، يا سيدي، ماذا كنت
فعلت كي تعاقبني بالجحيم، ثم...، ها أنت تتركني لا اعرف ماذا افعل في هذا
الفردوس؟!
[8] جائزة
قرأ الخبر للمرة الثالثة، كي
يصدق:
ـ أنت ....، صاحب الرقم ......، فزت بالجائزة الكبرى!
صدق الخبر، لان البطاقة تحمل
الرقم نفسه، وبين يديه، وصدق انه، أخيرا ً، كسب الرهان. ولكنه، في الوقت نفسه، لم
يقدر ان يكتم ألما ً عميقا ًكواه بوجود ما لا يحصى من الخاسرين.
[9] رسائل
بعد ان انتظر إجابات على رسائل
بعث بها إلى عدد من المعارف، والزملاء، ولم تصله الردود...، لم يجد سببا ً ما
يدعوه إلى عدم الرد على الرسائل التي كانت تصله من أشخاص يكتبون له للمرة الأولى. آنذاك
أدرك ان القوانين التي عرفها هي ذاتها لم تتغير، ولم يجر تعديلات تذكر عليها.....،
وأدرك، في الوقت نفسه، انه غير مسؤول عن إخفاقاته باستحالة تغييرها، أو حتى
تعديلها...، فبعد ان ذاق المرارات، واشد الهزائم سخرية، ووجدها لاذعة، ومزرية، أكد
ـ لنفسه ـ انه لم يكن يجهل ان الضحية هي وحدها طالما أكملت دور جلادها، وان أعلى
الهرم لا معنى له من غير قاعدة يجثوا عليها، إنما، دندن مع نفسه، بقليل من المرح،
انه لن يسمح للأخير، إن كان وحيد زمنه، أو وحيد الأزمنة كلها، ان يزهو بنصر ستكون
ذروته جنازة يتقدمها بنفسه بصمت لا تختلط فيه حتى النوادر!
[10] وصية
مازال صوت جدتي يأتيني من
البعيد، غير مكترث إن كان من السماء، أو من أعماق الأرض، فانا أصغي له مثلما اعرف
ان أصابعي مازالت تتشبث ببقايا جسدي:
ـ " لا تؤذ الصخور، يا ولدي.....، فهي، مثل الإنسان، تتألم عند
الولادة، وتحتفل في الأعياد، وتأن عند المصائب، وتكف عن الكلام عند الموت
..."
فلم اترك حصاة، إن كانت تميزت
بلونها، أو بشكلها، أو بملمسها، أو بما تمتلكه من إيحاء، إلا وجمعتها، ووضعتها في
خزانة زجاجية بعيدا ً عن الغبار، أو عبث العابثين. وها أنا ـ بدل ان أدوّن وصيتي ـ
تركت بصري يراقب ما كنت قد جمعته خلال سنوات حياتي:
ـ فانا سأذهب، كما الريح...، تعبر، تمر، وتغيب...، إنما الصخور ...
لجم فمي صديق، بل وبخني، وقد
مزق الورقة التي كتبت فيها ثنائي لواحدة من تلك الصخور. وصوته، هو الآخر، مازال
يرن في رأسي:
ـ أتخالف الجميع...، في مدح السيد
الأمير، الماسك بجمرة الأقدار ...، كي تمجد حصاة!
سمعت صوت جدتي، يأتيني مثل
منديل رقيق يحجب عني الضوء:
ـ " لا تؤذ الصخور، يا ولدي.....، فهي، مثل الإنسان، تتألم عند
الولادة، وتحتفل في الأعياد، وتأن عند المصائب، وتكف عن الكلام عند الموت
..."
بغداد ـ 20/11/2014