الخميس، 4 ديسمبر 2014

تشكيل سهى ألجميلي الجنيني مرئيا ً-عادل كامل




تشكيل


سهى ألجميلي
الجنيني مرئيا ً





عادل كامل
    اذا كان من الصعب، حتى بعد تحول الرموز إلى علامات تعمل كأشياء، أو كوحدات ضمن بنية محددة الأهداف، فان شيئا ً ما سابق على (الصورة) لا يمكن عزله عن الزمن: التتابع بنظام الحركة ومحركاتها.
     وليست الفنون التي غادرت تقاليد الرسم، قبل قرن، ومنها الشعبية، والأدائية، والمضادة لكل خبرة أو عرف، بإمكانها ان تلغي العلاقة بين ما يجذب البصر، وبين   تعددية التأويل للنص الواحد.
   والرسامة سهى ألجميلي، وهي تمارس منهجا ً تخلت فيه عن التشخيص، تترك للمصادفات ان تعمل وفق دوافعها المخبأة، أو التي سمحت لها ان تظهر بتحرر من القيود. فالتأويل يغدو مساحة مشغولة بالعلامات البصرية، كعلامات مستمدة من الطبيعة، ومن المدن تارة، ومن الجسد تارة ثانية، ولكن تبقى ثمة علامات محورة شبيهة بالتي تحدث في الأحلام، أو اللا متوقع وهو يأخذ موقعه في العملية البنائية.
   إنها أحيانا ً تبدو تحفر في الجدران، أو خلف القشور، وتذهب حيث ترصد ما يحدث للأشكال من تصادمات، وتداخلات، وتحولات، حتى تغدو بعض نصوصها استقصاء ً للعالم الجنيني ـ التكويني، لخلايا ما قبل اتخاذها نوعا ً أو شكلا ً محددا ً. فثمة مشتركات لهذه الأشكال تلقي الضوء على عالم يمتلك مخفياته، على انه سرعان ما يغدو مساحة تحررت من انغلاقها، لتبدو ـ كأشكال ـ انبثاقا ً، أو صرخة، أو انفجارا ً، بما تمتلكه من اتساع للبؤرة، كشبكة من الاتصالات شبيهة بما يحدث لنجم فقد هيأته.



     فهل ثمة نزعة مزدوجة بين أصول ترجع إلى انساق رسامي المغارات بالأساليب المتحررة من الأصول، أم أنها تهدم جدران العزل لتكوين عالما ً مشحونا ً بالتصادمات، والمخاوف، والكوابيس..؟
   إنها تسمح لنصوصها ان تدمج عالم ما قبل اللغة بعالم ما بعدها، فهي تستبدل الأصوات بالمرئيات، محاولة لاستبدال البصر بالسمع، والأخير بالتذوق، والشم بما تمثله الملامس من رهافة، فالحواس سابقة على العمل الوظيفي المحدد للدماغ، إنما الأخير يحافظ على رصد اتساع شبكة العلاقات، إن كانت بصرية أو مستمدة من الحواس الأخرى، حيث تحافظ على نزعة (تدميرية) في عمليات البناء، أو ترصد فعل التدمير وما يخلفه من أصداء.
    فالطبيعة شبيهة بذرات منحت لا وعيها ـ ولا شعورها ـ حالة انعتاق، إنما بمنح المخيال ضوابط حواسها في رصد مشاهد لا يمكن عزلها عن عالم الحروب، والفوضى، وفقدان الأمل. على ان انحيازها للرسم، كعمل مجتمعي له أعرافه في ثقافتنا المعاصرة، ليفند النزعة (التدميرية) ويحولها إلى وثائق ـ وشهادات. فنزعتها اللا شكلانية تحرر الأشكال، وتدفع بها إلى أقاصيها: كتل وذرات وأجزاء لا يمكن عزلها عما لم تستطع ان تحوله إلى كلمات، أو تخفيه داخلها، كي يكف التعبير عن سياقه الذاتي ـ الموضوعي، وقد تداخلت عناصره عبر التركيب، بحركة تبدأ من الصفر، تارة، أو تتقلص حيث النص يجتاز عتبته نحو الآخر، المتلقي، تارة أخرى.
    فالجسر ـ الممر ـ والمعاني برمتها، لا تمتد إلا بصفتها إقامة، إنما كاجتياز من القاع نحو السطح، ومن الأخير باتجاه الأثر، علامة لعالم نجهل هل يرتد، أم يذهب حيث يعيد تدشين دورة من دوراته.
* سهى ألجميلي [رؤى متخفية]  معرض شخصي. قاعة أكد ـ بغداد 2012 قدم لها: مؤيد البصام.
*سيرة:
ـ ولدت في بغداد عام 1963.
ـ بكالوريوس علوم كيمياء/ كلية العلوم، جامعة بغداد 1990.
ـ بكالوريوس فنون جميلة ـ كلية الفنون الجميلة، بغداد 1994.
المعرض الشخصي الأول ـ قاعة الرواق 1991.
كما شاركت في المعارض الجماعية داخل العراق وخارجه.


وكالمسافة بين الأصوات والكتابة، باحثون ينتصرون لشكسبير ويؤكدون بالأدلة القاطعة أنه كاتب مسرحياته- عبدالاله مجيد


   وكالمسافة بين الأصوات والكتابة،
باحثون ينتصرون لشكسبير ويؤكدون بالأدلة القاطعة أنه كاتب مسرحياته





 عبدالاله مجيد

  اتفق 22 من أبرز الباحثين المتخصصين بدراسة حياة شكسبير وأعماله في العالم على إصدار كتاب مشترك يقدمون فيه ما يقولون إنه أدلة قاطعة على أن الشاعر الانكليزي هو حقًا كاتب مسرحياته وقصائده.
وكانت أسماء 77 شخصًا طُرحت منذ خمسينات القرن التاسع عشر على أن اصحابها هم مؤلفو مسرحيات شكسبير، الأوسع تداولاً بينها أسماء الفيلسوف فرانسيس بيكون وادوارد دي فير لورد اوكسفورد السابع عشر والشاعر والمسرحي والمترجم كريستوفر مارلو، والأشد غرابة بينها اسم الملكة اليزابيث الأولى.
ويرى هؤلاء الباحثون أن الحملة المعادية لشكسبير تصاعدت في الآونة الأخيرة وأن القشرة التي قصمت ظهر البعير كانت اعتماد التحقق من هوية كاتب مسرحيات شكسبير مادة للدراسات العليا على شهادة الماجستير.
ويضم فريق الباحثين ثلاثة خبراء مرموقين اختصاصهم بيكون ولورد اوكسفورد ومارلو. ويشرح الباحثون الثلاثة في سلسلة مقالات لماذا ان شكسبير وحده كاتب مسرحياته وقصائده.
وسيصدر الكتاب عن مطبعة جامعة كامبردج بعنوان "شكسبير فوق الشبهات: برهان، محاجة، سجال" في 18 نيسان (ابريل) قبل ايام على الاحتفال بذكرى ميلاد شكسبير في مدينته ستراتفورد على نهر ايفون يومي 20 و21 نيسان (ابريل).
وشارك في تحرير الكتاب الذي يقول مؤلفوه إنه بحث اكاديمي لكنّه ليس عصيًا على فهم القارئ الاعتيادي، بول ادموندسن وستانلي ويلز وهما باحثان معروفان ومحترمان في الأوساط الأكاديمية البريطانية.
وقال ادموندسون لصحيفة الاوبزرفر إن الأكاديميين المختصين بحياة شكسبير وأعماله كانوا حتى الآن يضعون رؤوسهم في الرمل على أمل أن الشكوك التي تُثار حول شكسبير سخيفة بما فيه الكفاية بحيث أنها ستتبدد بعد حين.
ولكنهم شعروا اخيرًا بالقلق إزاء انتشار الطعون بكون شكسبير كاتب مسرحياته في بعض الجامعات البريطانية والاميركية مثل جامعة برونل في لندن وجامعة كونكورديا في ولاية اوريغون الاميركية.
واضاف ادموندسن أن جامعة برونل تمنح شهادة ماجستير موضوعها مؤلف اعمال شكسبير بحيث يمكن للطالب أن يكتب رسالة يتناول فيها الأسباب التي تتيح له أن ينسب مسرحيات شكسبير الى لورد اكسفورد مثلاً. وقال ادموندسن "إن هذا جنود خالص".
وانحدر السجال الأكاديمي الى تهجمات شخصية. وصُدم ادموندسن الاستاذ المتخصص بأعمال شكسبير في جامعة برمنغهام البريطانية حين وقع مؤخرًا على بحث اميركي يقارنه بالمزارع الذي يصف مخلوقًا في مراعيه بالقول "إنه نصف رجل ونصف دب والنصف الآخر كان خنزيرًا"، ثم يغمز كاتب البحث الاميركي من قناة ادموندسن قائلاً "كيفما يروي القصة فانها لا تستقيم مع المنطق".
ومن بين المشككين بشكسبير، على اساس أن هناك هوة بين حياة الكاتب ومضامين عمله، ممثلون معروفون مثل السر ديريك جاكوبي ومارك رايلانس ومايكل يورك. وأدلت هوليوود بدلوها في استفزاز محبي الشاعر الانكليزي بفيلم "انونيموس" الذي يصور شكسبير مهرجًا يتلعثم في الكلام ولورد اكسفورد هو الكاتب السري لأعماله.
وقال ادموندسن عن الكتاب الجديد وما يحويه من أدلة تؤكد أن شكسبير هو كاتب اعماله "إن هذه هي المرة الاولى التي ينخرط فيها مثل هذا العدد الكبير من الباحثين في السجال بين دفتي كتاب واحد".    
 _________________________________________________________________________-

مشروع العرض الأخير للفنان علي النجار-(لا شيء لا أحد.. يورانيوم منضب)






مشروع العرض الأخير للفنان علي النجار




    
(لا شيء لا أحد.. يورانيوم منضب) 
على قاعات المركز الثقافي العراقي في ستوكهولم (16ـ3 الى 5ـ4)
في افتتاح المعرض نوه الفنان علي النجار بكلمة مختصرة الى طبيعة اشتغالات أعماله, مع إشارة موجزة لمصادرها. نقتطف منها ما يلي:
ما أود أن قوله عن عرضي هذا, بأنه عرض يتعدى الفعل الوثائقي الى الفعل الفني المتشعب المصادر والوسائل التعبيرية. صحيح آن العمل الوثائقي يكثف المشهد أو يقدمه كما هو. لكنني وعبر كل نتاجي الفني لا أقدم وثائق بقدر ما أحاول أن أحاور الذات والأخر الإنساني والبيئي, بإرثه أحياننا, وأحيانا بحاضره. 
بعض أعمال هذا العرض انبنت على مظهرية وميض وإشعاعات انفجارات القنابل والصواريخ التي ضربت عموم بغداد ونورت سمائها في منتصف الليلة الأولى من زمن حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) والتي شاهدتها أيضا في الأيام التالية. وأعمال أخرى اشتغلتها على بعض الصور الوثائقية لأطفال اليورانيوم. ليست تلك الصور الأكثر بشاعة. فانا أخاف عليكم من ارق صدمتها. أنا بطبعي اكره البشاعة. هذا العرض بشكل عام يحاور افتراضا أجواء الحدث بفيزيائية ملونة خراب البيئة وانصهار مخلوقاتها وعناصرها. وآنا مجرد شاهد على هذا الحدث. لكنني لست شاهد محايد, بما أنني أيضا تعرضت لمخاطره.
........

 رافق العرض نص مدون, كوثيقة مرافقة تكشف حجم الأضرار التي لحقت بالعراق نتيجة لما تعرض له من القصف بقذائف اليورانيوم ما بين الأعوام(1919 وحتى 2003), نص الوثيقة: 
(ليس بالإمكان وبكل الأحوال تصديق ادعاءات من اطلق قذائف اليورانيوم المنضب Depleted Uranium Munitions في الحروب الحديئة, وباية ذريعة. ان" ليس لها" تأثير على البيئة والانسان. بعد ما كشفه العلم من ماسي اضرارها الرهيبة. ولنا مثل في ما حدث للعراق. كونه الاكثر تضررا من يوغوسلافيا وشمال افريقا وافغانستان.

 العراق الآن من أكثر مناطق العالم تلوّثا بالإشعاعات والمواد الضارة ، اذ تقدر التقارير العسكرية كمية ذخائر اليورانيوم المنضب التي استخدمت على العراق خلال حربي عام 1991 و 2003 ما بين 2000 و 2000 طناً مترياً باقل تقدير. علما ان 800 طن من اليورانيوم المنضب يعادل في ذريته 83 قنبلة ذرية مثل التي القيت على مدينة ناغازاكي، وقد بلغت كمية الأشعاع- وفقاً لحسابات قائد عسكري حوالي 250 قنبلة نووية.
اثر اشعاع اليورانيوم المنضب والترسبات الناجمة عنه تبقى فاعلة ومؤثرة لاربعة مليارات سنة مقبلة، وتعمل ببطء على تدمير المستقبل الجيني للشعب العراقي والشعوب المجاورة بشكل لا يمكن وقفه او الحد منه.
 الإمراض المتسببة من جراء الحرب وأسلحة اليورانيوم المستخدمة: الأمراض الخبيثة، وفي مقدمتها سرطانات: الدم، الرئة، الغدد اللمفاوية، الثدي،المعدة، الدماغ، العظام،الخ. وتلف الكليتين، والكبد، وجهاز المناعة. والتشوهات الولادية الرهيبة. والولادات الميتة. والأجهاضات ( الأسقاطات) المتكررة (أكثر من مرتين). والعقم، حتى وسط الأسر التي أنجبت قبل الحرب.وعلل عصبية- عضلية غير قابلة للعلاج. وأعراض "صدمة ما بعد الحرب"، حيث يعاني اليوم قرابة الثلثين ممن كانوا أطفالاً، وأكثر من نصف مجموع العراقيين، من أمراض نفسية وعصبية مزمنة. وامراض غريبة اخرى.

 الخطر الاشعاعي لليورانيوم المنضبDU اصبح يطوق البيئة بعناصرها المادية مثل الهواء والماء والتربة. وان بقيت خشيتنا من ثقب الأزون لا تزال تؤرقنا. فان نفايات قذائف اليورانيوم الحربية احدثت ثقوبا في كوكبنا لا تقل خطورة عن ذلك. .
.........
 المعلومات مأخوذة من الباحث في اضرار اليورانيوم المنضب الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي.
وبالامكان الاطلاع على الكثير من الوثائق المكتوبة والمصورة وافلام الفيديو الموجودة على شبكة البحث العالمية على الانترنيت (كوكل).
.......
اشتغل العرض على العناوين التالية:
1ـ رياح اليورانيوم.
2ـ الشاهد.
3ـ لا شيء لا أحد.
4ـ اطلاقات.
5ـ أضرار جينية.
نفذت الأعمال بمواد مختلفة وبحجوم مختلفة, مع عمل تنصيبي.


قصة قصيرة بعد خروجنا من ( دجلة )-عدنان المبارك


قصة قصيرة
بعد خروجنا من ( دجلة )







عدنان المبارك


ثمة تنافر في طبائعنا. فنحن لا نعرف الحياة سوية من دون أن يجرح أحدنا الآخر. وليم غولدنغ



أنا الآن نزيل فندق ( دجلة ) للمرة الأولى. فالفندق الآخر المسمى ( دار السلام ) غادرته قبل ستة أيام. كان بالقرب من الأماكن التي أتردد عليها لقضاء أشغال رسمية في العاصمة. كان ضجيج الحافلات لايطاق في الصيف خاصة. أما الفندق الحالي فيقع في شارع جانبي وبعيد قليلا عن مزعجات مركز المدينة. يبدو الفندق وكأنه بيت كبير ذو طابقين. أجرته معتدلة ، وصاحبه يحرص على النظافة والهدوء. وكان قد دلّني عليه صديق قديم ألتقيته ، مصادفة ، في الشارع الرئيسي ، وها أنه يزورني كل ثاني مساء. صاحب الفندق وعدني قبل يومين بمصباح للمنضدة كي أستطيع القراءة والكتابة بصورة مريحة.
لا أعرف لم هذا الصداع الذي لا يخلو من الحدّة ويهاجمني حين أكون في العاصمة. قرأت قليلا ونقلت الكرسي الى النافذة كي أبحلق ، لغاية العشاء ، في الشارع والبيوت المقابلة. الشارع بدا مهجورا من المارة والحافلات. كثير من هذه البيوت مضاء. الستائر مسدلة على معظمها. أنتبهت الى نافذة كبيرة عارية من الستائر. أثاث الغرفة متواضع رغم كثرته. وراء طاولة جلس رجلان يقابل أحدهما الآخر. بدا لي أنهما أبكمان ، فحركات أيديهما لا تتوقف. كان المكان مضاء بصورة سيئة ولذلك لست موقنا من أنهما أبكمان. فكثرة الحركات لا تعني البكم عندنا. في كل الأحوال بدا الأمر وكأنهما في عراك دائم. أحد الرجلين بدين قصيرالقامة وعلى العكس من الآخر الذي كان نحيلا وطويلا. يشترك الاثنان في طريقة التصرف العصبي. البدين ينهض ويذرع المكان ذهابا وايابا ، وحين يعود الى كرسيه يتوقف عند كرسي النحيل ويرفع يديه وينزلهما كاشارة الى أقصى حالة من الغيظ. النحيل لايفعل هذا الشيء بل يكتفي بالوقوف وسبابته فوق رأس البدين ويحرّك يده الى أعلى أكثر من مرة. واضح أن غيظه هو أشد من غيظ الآخر. بعد كل نوبة من هذا النوع يجلس البدين ساكنا منكس الرأس .النحيل يبقى بدون حراك أيضا. لكنه ينظر ، وهكذا يخيّل اليّ ، الى الجدار وراء البدين . بدت الحال وكأنها جولات ملاكمة تتخللها فترات استراحة قصيرة .
ها أن الأثنين يستأنفان الشجار. وحصل هذا أربع مرات أثناء جلوسي أمام النافذة. البدين يلبس ( دشداشة ) ذات لون قهوائي فاتح ، أما النحيل فيرتدي بذلة من طراز قديم. في الغرفة فراشان جلس البدين على أحدهما الآن. ربما الفراش الآخر ليس للنحيل ، اي أنه قد يغادر المكان في الأخير. كانت فكرة مضحكة أن أقوم بالتأكد من أن الفراش ليس للنحيل خاصة أن شعوري الداخلي أوحى لي بما قلته عن هذا الفراش...
سمعت طرقا خفيفا على باب غرفتي. اللعنة ! تذكرت أني على موعد مع هذا الصديق. اسمه فؤاد ، وكنا قد اتفقنا على أن نتناول العشاء في مطعم على ساحل النهر امتدحه كثيرا. انها الساعة الثامنة ، ولايهم اذا تأخر العشاء ، فيوم غد هو الجمعة. وافق فؤاد على اقتراحي بشرب القهوة قبل خروجنا. انشغلت باعداد القهوة لبضع دقائق ، وأثناءها أخبرته بما حدث لغاية الآن بين البدين والنحيل. فؤاد ، وهو مخرج تلفزيوني ، أعجبه أني أصبحت ( بصّاصا لكن ليس مع سبق الاصرار ) ، وأخذ يتكلم عن فلم هتشكوك ( النافذة الخلفية ). ذكرّني بأننا كنا قد شاهدناه سوية قبل سنين. سألني اذا كانت لدي رغبة في مواصلة النظر في ما يحدث بين ذينك الاثنين أم يمكننا مغادرة الفندق. أظن أن فؤاد توّجه لا شعوريا صوب النافذة. التحقت به. لاشيء عدا أن البدين يرتدي الآن بذلة قديمة. أخبرت فؤاد بأنه أبدل لباسه مما قد يعني أن الاثنين سيتركان المكان.
كان فؤاد قد شرب قهوته ووافق على اقتراحي بالخروج وتعقب البدين والنحيل كي نعرف (جلية الأمر ). حين صرنا في الشارع لمحت الاثنين يسيران ببطء على الرصيف المقابل. كان الشارع سيء الانارة ، وهو شيء جيد اذا أردنا مواصلة التنصت. في الأخير صارت المسافة بيننا بضعة أمتار. أخذنا نسمع بوضوح كاف كلام البدين. كان صوته ثاقبا ويبطيء في كلامه. اكتشفنا أنه أب النحيل الذي هو الآن أكثر هدوء حين يستمع الى أبيه الذي لم يتوقف عن الكلام طوال السير على الرصيف شبه المظلم. عرفنا أيضا أن الأب يمارس التجارة. أما النحيل فهو ( منذ أكثر من عشر سنوات لا يزال كاتبا غير معروف ولولا ما ورثه من أمه ا لقضى الجوع عليه ). نبهه النحيل الى أنه يكرر مثل هذه المواضيع في كل لقاء ومن الأفضل أن يترك الكلام عن الأم التي لم تقصر معه أيضا. فلولاها لبقي من دون تجارة ومرتادا دائميا لمقهى ( أبو خزعل ). لاحظنا أن الأب سكت لبضع ثوان ثم انفجربعدها بكلام قريب من الهذيان ( شنو ؟! ومن من أسمع ... مثل هذا الكلام الواكع ! هيج صارت الأمور! ولد ما يعرف قدر نفسه و...و ...و ...يتعدى على أبوه . هيج صارت أحوال هالدنيا الكسيفة ! ... ) . جرّالنحيل ، بعنف ، كم سترة الأب وهدد ه بأنه سيتركه وحيدا في الشارع اذا استمر ب( العياط ). كان النحيل يصارع حنقا طاغيا حاول أن يكتمه بالنطق عبر صرير الأسنان. هدأ الأب فجأة وحتى أنه زاد من سرعة خطواته الا أنه تباطأ من جديد حين أدرك بأنه قد ترك وراءه الابن. حين استوى سيرهما أخذ الأبن يتكلم بصوت خافت أراده أن يكون بالغ الهدوء عن أن الأب لا يفهم مشاكله ، وعلى العكس منه ، فهو يفهم مشاكل الأب : تجارة سلّمها للص يسرقه يوميا ، ضغط الدم المرتفع ، الوحدة في مثل هذه الشقة الصغيرة التي ينعتها الأب ب( قن الدجاج ) ، الغيظ المتنامي في كل يوم ، من الابن الذي لا يريد السكن معه ، الخرف المبكر الذي أصاب أخته ( أم حفظي ) شبه الوحيدة بعد أن فقدت اثنين من أبنائها في الحرب الأخيرة ، وثالثا كان أحمق والتحق بميليشيا اختصاصها السرقات الكبيرة والاغتيالات ثم قتلته ميليشيا مناوئة ، مراجعات لطبيب الأسنان بسبب تسوّس الأسنان والالتهابات الدائمة للثة. اضاف النحيل الى تعداده لمشاكل الأب أخرى بينها أن للأب خيارين فقط : اما أن يسكنا معا واما الوحدة ، رغم أن هناك مخرجا آخر تكلم النحيل عنه باقتضاب بالغ ، لكني وفؤاد فهمنا أن المقصود رفض الأب زيجة جديدة سعى بعض الأقرباء الى عقدها. كان الأب يستمع بهدوء. أظن أن فؤاد فكر مثلي : هدوء الأب دافعه الخشية من أن يدير الابن ظهره له ويقطع الصلة. كف النحيل عن الكلام ، ولبضع دقائق ساد الصمت مما أرغمنا على الابتعاد عن الاثنين ببضعة أمتار كي لا ينتبها الى أننا وراءهما.
أخذنا نقترب من الشارع الرئيسي وضجيجه. بعد الصمت أخذ الأب يتكلم بالهدوء نفسه ، وقال بأنه صحيح تماما جهله بمشاكل الابن رغم أنه سعى دائما الى أن تكون رعايته لابنه أحسن فأحسن.
تبين لنا أن الاثنين ذاهبان الى ( أم حفظي ). اشترى النحيل برتقالا وعنقود عنب ثم واصلا السير باتجاه الجسر القديم. بدا فؤاد وكأن حمى فضوله قد ارتفعت كثيرا ، فقد اقترح ّ أن نواصل السير وراء الأب والابن ، فالنهاية قد تكون على الطريقة اليونانية القديمة كأن يقتل الابن الأب ثم يقوم بفقأ عينيه. وافقت على مضض ، و لأن معظم النهايات في هذه المدينة لا تزال أكبر من كل نهاية يونانية.
الضجيج الشرس حال دون تنصتنا لكامل حوارالاثنين ، لكن حين بدأنا السير على الجسرابتعدنا عنه. أردت أن أقول لفؤاد بأن المتعب في هذه الدراما الصغيرة أن الاثنين يسيران ببطء شديد ، ولا أنا معتاد عليه ولا أنت. وعندما اقتربنا من منتصف الجسر توقف الأب عن السير واتكأ على الحاجز. النحيف قال بما معناه أنه كان من الأفضل الذهاب الى الخالة بتاكسي، ف( الضغط العالي لايساعدك على المشي ). توقفنا نحن أيضا متظاهرين بالنظر في دجلة. واصل النحيل الكلام :
- أبويه . بقى أكثر من نص المسافة . ارتاح شوية وبعدين نشوف تاكسي.
وصلنا صوت الأب ، اللاهث قليلا :
- ابني ، لويش تبذير الفلوس على التاكسيات. ما بقى لبيت ( أم حفظي ) غير شمرة عصا.
هذه المرة وصلنا صوت الابن ، المتهدج بصورة واضحة :
- التوفير مو هنا لكن بغير مكان. ضغطك عالي وأنت ما تدير بال لهذا الموضوع من وكت الغدا. أربع لو خمس مرات تعاركت وياي.
سكت الأب قليلا ثم قال :
- اي صحيح العركة جانت عركتي ، وحضرتك جنت ملاك !
انتبهنا الى النحيل وقد نزل من الرصيف وهو يلوّح باثنتي يديه الى سيارة قادمة من جهة مركز المدينة ثم توقفت عند الرصيف أمام الاثنين. قاد النحيل الأب الى داخل السيارة التي ابتعدت عنا بسرعة ، وعجلاتها تطلق الأزيز المعروف.
كانت خيبة فؤاد هي الأكبر. وحين توجهنا الى المطعم حيث العشاء ، لم يترك فؤاد موضوع الأب والابن. قال بحماس :
- نعمان ! تراجيديا بصلبها ، ومن دون الحاجة الى قتل الأب وفقأ العينين...

لا أعرف كيف وجد صديقي في تعقبنا للاثنين مشروع تراجيديا مسرحية ، وبالنسبة له تلفزيونية. في الأخير نفض يده ببطء بما معناه أنه لن يتكلم أطول عن مغامرتنا في هذا المساء. أردت أن أذكره بكلمة لمارك توين : كل واحد هو قمر ويملك جانبه المظلم الذي لا يريه لأيّ أحد.
أما العشاء فكان لذيذا حقا ، ولزادت الجعة من لذته لكن اليوم هيهات في هذه المدينة التي تتظاهر بالتوبة مثل بغي صارت مهنتها كاسدة.

سعدي يوسف - نقد القرود، وقرود النقد!-د. ميثم الجنابي

سعدي يوسف - نقد القرود، وقرود النقد!

 

د. ميثم الجنابي
     
 
ليس في العبارات الحادة التي كتبها الشاعر العراقي والعربي الكبير سعدي يوسف، جديدا من حيث اللغة والعبارة والكلمات والتوجيه والتوجه. بمعنى أنها موجودة في قاموس اللغة العربية وقدرتها على "النحت" والتوليف، كما أنها موجودة في التداول العلني وغير العلني بين العراقيين (العرب) فيما يخص الأكراد و"كردستان". والشيء الوحيد الجديد فيها ضمن هذا السياق هو طباعة كلمة "قردستان" على "الورق"، التي أثارت ردود فعل مختلفة ومتناقضة، بين رافض لها وقابل، حانق ومتشفي، حزين وفرح، أي كل الأشكال المعقولة والمقبولة في حالات النزاع والخلاف. وإذا كانت حصة الرفض والحنق غالبة ومطلقة عند الأكراد، فان لها ما يفسرها سواء بمعايير الشعور القومي أو بمعايير المشاعر البشرية المميزة للأكراد في هذه المرحلة من تاريخ العراق السياسي.
وفيما لو تجاوزنا مظاهر هذه الحالة، بالدخول إلى صلب القضية، أو إلى البواعث الدفينة القائمة وراءها وأسبابها المتنوعة ومقدماتها الفعلية، فإننا سوف نقف أمام الإشكالية الجوهرية الحقيقة، ألا وهي إشكالية الوطن العراقي، والهوية العراقية، وفكرة الوطنية العراقية المختلفة والمتعارضة والمتناقضة بين العرب والأكراد في العراق، أي كل ما يؤدي إلى غاية هذا الاختلاف والتعارض والتناقض تجاه القضية القومية في العراق بشكل عام والعلاقة العربية - الكردية بشكل خاص.
لقد كان بإمكان الكثير قول هذه العبارة دون أن تثير ردود فعل. لاسيما وان المواقع الالكترونية تحتوي على ما هو أشنع منها عند العرب والأكراد تجاه احدهم الآخر. طبعا إن العرب اقل حساسية تجاه مختلف أنواع الشتيمة المبثوثة من جانب الأقليات القومية والدينية في مختلف المواقع الالكترونية، والتي يهبط اغلبها إلى مستوى يتسم بقلة الأدب والذوق، اللذين يعكسان بدورهما حالة الهوس الصغير المميز للصغار، وكذلك بسبب تشبعه بما يمكن دعوته بالبلادة التامة والغباء الغريب والجهل المعرفي والثقافي والتاريخي. وهي صفة الأقليات غير المندمجة، بالمعنى الثقافي، في كل مكان وتاريخ تجاه الأغلبية. والمقصود بذلك الأقلية التي تعيش بمعايير وقيم الانغلاق القومي أو العرقي أو الديني أو المذهبي أو الطائفي وغيره من الأشكال الأخرى. وسرّ ذلك يكمن في أن الأقلية كيان لم يكتمل. وهذه مفارقة ومأساة بقدر واحد تجعل من الهوس (القومي والديني وما شابه ذلك) "عقلا". بينما في الواقع هو مجرد نفس غضبية.
غير أن الأمر يختلف حالما تصدر هذه العبارة من شخصية بحجم ووزن سعدي يوسف. ويعود ذلك إلى سببين. الأول هو "طفح" المشاعر المعادية للأكراد في العراق، بحيث وصل إلى عقول وقلوب شخصياته المثقفة والمبدعة. والثاني هو صدورها من "الشيوعي الأخير" الذي تشبع في كل تجاربه الحياتية والشعرية بالفكرة الأممية، والتوجه الاجتماعي الديمقراطي، والنزعة والإنسانية، وعقيدة التسامح العقلاني. بعبارة أخرى، إن ما كتبه سعدي يوسف ليس شعرا ولا موقفا سياسيا، ولا نقدا قوميا، بل هو شيء اقرب ما يكون إلى ما دعته المتصوفة بالشطح. انه "شطح" المشاعر الصادقة لشاعر صدوق فيما يتعلق بفكرة النقد والبوح بما فيه كما هو.
لم يكن سعدي يوسف في يوم ما من الأيام مداحا للسلطة والأحزاب وما شابه ذلك، بل شاعر المشاعر الفردية الصادقة والمصقولة بفكرة الإنسان الحر، والمجتمع المدني، والانتماء الثقافي للكينونة العربية. وضمن هذا السياق لا معنى للهجوم عليه والمغلف بعبارات "الشوفينية" أو انعدام "الوطنية" و"الإنسانية" و"التسامح" وما شابه ذلك. فهناك فرق جوهري بين نقد القرود وقرود النقد.
بعبارة أخرى، إن نقد القرود لا ينبغي أن يكون حافرا لظهور قرود النقد، بمعنى أن نقد النزعة التقليدية والتقليد لا ينبغي أن يكون مبررا لظهور مقلدين أغبياء جدد لا يفقهون حقيقة النقد ومعناه ومغزاه وغاياته. وذلك لأن النقد اللاذع الذي كتبه سعدي يوسف لم يكن من حيث الجوهر موجها ضد الأكراد و"كردستان"، بقدر ما انه موجه ضد حالة العراق العربي، أي العراق التاريخي الثقافي الذي تمّثله ومّثله سعدي يوسف في إبداعه الشعري. تماما كما أجاب مرة أبو يزيد البسطامي عندما طرق الباب عليه رجل يستأذنه بالدخول، قائلا: "ادخل! ليس في الدار غير الله!". لقد فهمه الأغبياء على انه كفر والحاد، وذلك لأنهم فهموا من كلامه انه جعل من نفسه آلهة. بينما هو أراد القول، بأنه لا شيء في الدار غير الله، وان أبو يزيد لا يزيد عن كونه عدم الوجود المتسامي، الذي لا تفقهه قرود النقد المزيف.
فالنقد كما هو معلوم من النقد، أي من عض الدراهم من اجل معرفة ما إذا كانت ذهبا خالصا أم مزيف. لقد كان سعدي يوسف في مواقفه النقدية عضّاضا لدراهم العراق المزيفة، بينما عضه منتقدوه! وهذا فرق شاسع بين عض الأحباب وعض الكلاب. مع أن الأخيرة صادقة وفية، شأن الببغاء جميلة بترديدها للكلمات، والقرود في تقليدها البهلواني. وهي مقاربات إنسانية صرف، وذلك لأن حقيقة القرد ليست في التقليد، وحقيقة الببغاء ليست في الترديد، وحقيقة الكلاب ليست في النباح، كما أن حقيقة الإنسان ليست في البلادة والغباء بل في العقل والفكرة الإنسانية. ومن ثم لم يكن طفح المشاعر السياسية عند سعدي يوسف سوى شطح الفكرة الصادقة التي قالها قبله شاعر العراق والعرب الأكبر المتنبي:
وإنّما النّاسُ بالمُلُوكِ ومَــــا
تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُها عَجَـــمُ
لا أدَبٌ عِندَهُمْ ولا حَسَـبٌ
ولا عُهُودٌ لهُمْ ولا ذِمَـــــمُ
إنّي وإنْ لُمْتُ حاسدِيّ فَمَا
أنْكِرُ أنّي عُقُوبَةٌ لَهُـــــــمُ
إن مهمة الشاعر الكبير أن يكون عقوبة للحالة التي تجعل كل من لا أدب عنده ولا عهد ولا ذمة "ملكا"، كما هو الحال بالنسبة للبرازانية. وهي حالة غريبة ومثيرة بقدر واحد في العراق الحديث، بمعنى صعود نجم حثالة سياسية عائلية اتسم تاريخها الذاتي بالخيانة والغدر للمصالح العراقية الكبرى، مع أنها دخيلة عليه وعائشة على أرضه، ونكرة شبه تامة بالمعنى التاريخي والثقافي. أنها "قردية" بمعنى تقليدها (للدكتاتورية الصدامية) وتقليدية من حيث بنيتها العائلية والقبلية. وفي هذا يكمن سرّ خرابها وتخريبها للعراق، الذي أصبح "الرجوع" إليه بعد عام 2003 طريقا للخروج منه بغائم المادة 140، وقبلها بسرقة كل ما كان بالإمكان سرقته في مجرى الاحتلال الأمريكي للعراق. وأخير التواطؤ مع بقايا الصدامية ودواعش الغدر لاحتلال ما يمكن احتلاله وسرقته. وهذا هو ديدن من لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، أي كل ما وجد تمثيله في صورة القرود الثلاثة الشهيرة، أو القرد في صوره الثلاث. والحقيقة واحدة. بمعنى أن البرزانية وأمثالها في العراق من تشيع سياسي فاسد بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية، وتيارات سنية إرهابية ومتفسخة بمعايير الفكرة الوطنية والقومية، لا يمكنهم رؤية وسماع الحقيقة القائلة، بان وجودها مؤقت، وان كل ما سرقته سوف يجري استرجاعه، وأنها سوف لن تكون قادرة على الكلام عندما يصدر الحكم التاريخي بإعدام وجودها في العراق مرة واحدة والى الأبد.
 


الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

11 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل

  11 قصة قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] في المغارة
   ُسمح له بالدخول إلى المغارة، بعد سنوات طويلة من الانتظار، فسار متلمسا ً جدرانها بأصابع مرتجفة،  متوغلا ً بعيدا ً في العمق. كان الممر ضيقا ً، ضيقا ً جدا ً، ولا يتسع إلا لمرور شخص واحد، متوسط الحجم، وللذهاب فقط. فترك أصابعه تتلمس المنحنيات، وتساعده في التقدم ببطء شديد. أخيرا ً، وبعد ساعات، من الزحف، وصل إلى نهاية الممر: حفرة مضاءة بفتائل تتغذى على شحم الحوت، وشمع النحل، وزيت الأشجار...، لا احد هناك إلا رجل عجوز، كانوا يطلقون عليه بالأب الأعظم، كبير كهنة الغابة، وكاتم أسرار الحياة والموت. ما ان رآه حتى تردد، في التقدم، بل   كاد يتراجع، إنما أدرك انه كان فقد مثل هذا الحق، ومثل هذا القرار، الذي هو وحده اختاره وأصر عليه.
     تجمد برهة من الزمن ظنها امتدت العمر كله، عند عتبة الحفرة التي بلغ نهايتها بعد جهد كبير وشاق، قبل ان يزحف، نحو وسطها، الذي لم يتسع لأكثر من شخص واحد أيضا ً، ثم اقترب من الكاهن، الذي بدا له مثل تمثال نحت بعناية، وقد كف عن الحركة تماما ً. مد أصابعه وتركها تنبسط فوق صخرة وضعت أمام الكاهن الأعظم.
ـ ما الذي جاء بك .... إلى ّ، وما الذي تريد ان تعرفه، بعد ان عشت سنوات طويلة في الغابة ...؟
    للمرة الأولى في حياته وجد ان الكلمات لا معنى لها، كأنها اختراع فائض، وجدت للتمويه، ولأنه لم يجدها، فرح قليلا ً، ولكنه وجد انه ازداد توقا ً للاعتراف بأنه لا يمتلك إلا رغبة ان لا يقول شيئا ً ما أبدا ً. حتى كاد يقهقه لهذا الاستنتاج، لولا شعوره برهبة الظلام، وصمت الكاهن، وما ظهر له من نقوش ملغزة فوق الجدران. كان كل منهما قد قرأ ما دار بخلد الآخر. فنطق الكاهن:
ـ تستطيع ان تساعدني على الموت!
ـ ولكنني جئت أسألك لماذا ......، فانا لم آت كي أموت عندك!
قال الكاهن بصوت  رقيق:
ـ بعد ان أموت ...، ستعلم الناس الموت، من بعدي، كيف يموتون بهدوء!
     لا يعرف كيف تكّونت لديه رغبة بالكلام، وكيف عثر على الكلمات، فقال بصوت مرتجف، خفيض، رآه يتمايل مع ذبذبات خطوط زرقاء ممتزجة برائحة الدخان كانت تقترب منه:
ـ جئت أقول لك ....، إنني اغفر لك انك خلقت الإنسان، في هذه الغابة، وربما اغفر لك انك سترسلنا إلى الجحيم...!
     ليجد قوة ما تمنعه من متابعة النطق. عمليا ً بحث عن الكلمات، في رأسه، فلم يجدها.  ابتسم الكاهن، ولم ينطق بكلمة أيضا ً.  إلا ان الآخر لم يجد ان هناك ضرورة للشرح، أو الإيضاح، لقد اخبروه، منذ البدء، ان من يدخل المغارة لن يغادرها أبدا ً، فما فائدة البوح بوجود، غير الجحيم، كما قال الكاهن له، مساحات خضراء، وبلورية، وبيضاء، تمتد بعيدا ً خارج ظلمات المغارة.

[2] النار والنعيم
ـ الحرية التي تبحث عنها...، لا وجود لها، لأن كل من حصل عليها، فقدها، فما جدوى ان تبحث عنها ....؟
ـ اعترف لك...، يا سيدي، انك سمحت لنا بالحصول على ما ستأخذه، وما ستسترده منا، وأنا اغفر لك ذلك، بل واغفر لك انك ستعاقبنا، وتنكل بنا، وتمحونا من الوجود.....، اغفر لك انك بشرتنا بالجحيم، والنار، والعذاب الأبدي ...، اغفر لك ذلك كله....، ولكن اخبرني، يا سيدي، ما الذي فعلناه كي نستحق ، ونجازى بالنعيم، وبالحور، والغلمان، والعسل، ما الذي فعلناه كي تهبنا البساتين، والأنهار، والشموس، .....، فانا لا احتمل مثل هذا النعيم!

[3] ظلمات
     قال عالم الفيزياء الشاب لزميله عالم الفيزياء الكهل:
ـ   ها أنت ترى ان سرعة الضوء، هناك، في الأعماق، التي تسمى الكوزرات، تتراوح بين 8 إلى 12 مرة أسرع من ضوء شمسنا المعتمة!
ـ اعرف!
ـ ماذا تعرف ..؟
ـ ان ضوء شمسنا، هذا، مقارنة بسرعة الضوء هناك، محض جدار...، صلب، معتم، وحجاب ...، وإننا أمضينا حياتنا في الظلمات...!
ـ اخبرني، إذا ً....، ماذا كنا نعني بالنور، والأنوار، في كلماتنا، ولغاتنا....؟
أجاب عالم الفيزياء الكهل:
ـ أنا رأيت ما هو ابعد من تلك الكوزرات.....!
ابتسم العالم الشاب وخاطب نفسه بصوت مسموع:
ـ الآن أدركت سر عدم تشبثك بما كنا نبحث عنه!

[4] درس
     افتتح معلم الفلسفة درسه الصباحي بالحديث عن وباء الايبولا:
ـ  انه وباء سريع العدوى وفتاك لا يرحم وهو درس آخر علينا ان نتعلم منه ...
وصمت. كانت آذان التلاميذ شاردة بانتظار ان يتكلم. لم ينطق، وهو يحدق في الوجود التي قرأ فيها ملامح الفزع، والخوف. فقال فجأة:
ـ انه مثل الموت....
 وصمت مرة ثانية، لدقيقة، ثم تابع قائلا ً:
ـ انتهى الدرس!
   غادر التلاميذ الصف، إلا طالبة واحدة اقتربت منه، وسألته:
ـ أستاذ..
منعها من المتابعة:
ـ لا معنى للكلمات، فالموت وحده يؤدي واجبه على أكمل وجه، فهو الوحيد الذي   يعرف ماذا يعمل...!
ـ أستاذ..
ـ ونحن، يا عزيزتي، لم نتعلم إلا ان نتتبع خطاه!

[5] قيود
     في الزنزانة الانفرادية، المظلمة تماما ً، والباردة جدا ً، والخالية من الهواء، لم يجد المحكوم عليه بالموت من يتكلم معه، عدا السلسلة الحديدية التي كانت تمنعه من الحركة:
ـ حتى أنت ِ، أيتها القيود، لا تتمتعين بالحرية!

[6] مرآة
نظر العجوز في المرآة:
ـ آ ....، سبق ان رأيتك!
لم تجب الصورة، فقال:
ـ حقا ً ها أنا اعرف أنني لا أشبه نفسي...، إذا ً....، هو يشبهني!
    قرب رأسه من المرآة ولمس سطحها:
ـ من منا ً أخيرا ً يشبه الآخر....، أم علي ّ أن أقول: لا احد يشبه احد...، مادامت المسافة بيننا غير قابلة للقياس...؟ آ .....، كنت اعرف أنني أضعت حياتي بالبحث عنها، والآن آن لي ان ادعها تغيب.
  ابعد وجهه عن المرآة قليلا ً، تاركا ً أصابعه تتلمس محياه:
ـ آن لي ان أتعرف عليك يا أيها الغريب ...!

[7] رهان
     ظل يردد مع نفسه، في الطريق لتلبية دعوة تلقاها من سيدة يعرفها منذ زمان بعيد: ما النصر إلا هزيمة مؤجلة! مثلما كنت تقول: ما المستقبل إلا ماض ٍ مؤجل!
ـ شكرا ً لأنك لبيت دعوتي.
كلاهما عند حافة السبعين من العمر، قالت:
ـ  كان ذلك قبل نصف قرن تماما ً...
   فقال لها بصوت مرتبك:
ـ كنت اردد: لا خسائر ولا مكاسب...، في الحياة، لولا إنها برهنت أخيرا ً إنها هكذا: مرارات تعقبها أخرى!
ـ كأنك ولدت قسرا ً؟
ـ لا!
وأضاف:
ـ بل عشت كأن الحياة ضرورة لا بد منها!
ـ لم تتغير...؟
وسألته حالا ً:
ـ قلت كأنها، كأنها...
تنهد بعمق، مستعيدا ً رائحة العطر ذاته الذي طالما أسره، عطرها الشبيه برذاذ ناعم امتزجت فيه نسمات الفجر...
ـ العطر ذاته..
فقالت وهي تحدق في الفضاء:
ـ كأننا في السنة الأولى، لم نكبر، ولم يمض الزمن، ولم ....، لكن أرجوك اخبرني...
صمتت برهة، وسألته:
ـ لماذا لم تتشبث بي، لماذا تركتني اذهب ....؟
ـ أنا أيضا ً أسأل نفسي: لماذا لم تتشبثي بي، لماذا تركتني اذهب ....؟
ـ آ .......، كلانا إذا ً لم يتغير!
ـ ها أنا ليس لدي إلا ان أؤكد: ان الهزيمة هي آخر جواب على إننا كسبنا النصر! وكسبنا رهان هذا الوجود!

[8] مصير
ـ قتل نفسه، وقتلنا..
ـ من..؟
ـ سقراط!
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد بالضبط: قتل نفسه، ولم يترك لنا إلا ان نموت معه أيضا ً!
ـ كأنك تريد ان تقول: ان عمله يشبه أعمال هؤلاء الفتيان الذين يفجرون أجسادهم وسط حشد من الأبرياء!
ـ تماما ً، لأن سقراط إنسان بريء!
ـ رغم انه قتل نفسه وقتلنا معه!
ـ نحن قدناه إلى ارتكاب الجريمة!
ـ لم اعد أفهمك...؟
ـ لأن الفتيان الذين يفجرون أجسادهم الغضة في حشد من الناس الأبرياء، يقتلون أنفسهم، ويقتلوننا معهم، مثل سقراط، لم يجد سوى ان يلبي نداء الموت.
ـ مع ذلك قلت انه إنسان بريء...؟
ـ لو كنا نمتلك ذرة واحدة من البراءة، لعرفنا كم اقترفنا ونقترف من الآثام، والمعاصي، والجرائم....، حتى سمحنا لسقراط باختيار الموت، كما لم نترك لهؤلاء الفتية إلا اختيار هذا المصير!

[9] اعتراف
   استدعاني صديق لم أره منذ سنوات بعيدة، فقلت إنها مناسبة لمعرفة لماذا توارى عنا وعاش حياته وحيدا ً، حتى ظننا انه هاجر، أو فارق الحياة.  كان لا يشكو من المرض، وإنما ـ قال لي ـ : الإنسان لا يعيش إلى الأبد! ابتسمت، وقلت: اعرف، بانتظار معرفة أسباب دعوته لي. لكنه، بعد قليل، نهض، واخرج من خزانة الكتب، دفترا ً، وقال لي:
ـ بعد ان أموت...، يحق لك ان تطلع على ... ما دوّنت فيه.
فقلت حالا ً:
ـ وماذا لو سبقتك في الرحيل، يا صديقي...؟
ـ المشكلة لن يكون لها وجود!
ـ ثمة مشكلة في الأمر...؟
ـ نعم.
 وسألني:
ـ هل تتذكر عندما كنا نعمل معا ً...؟
ـ نعم.
ـ وهل تتذكر، أنت وأنا، عندما طلبونا لمقابلة الرجل الأول في الدولة، مع عدد من الزملاء...؟
ـ نعم، كأن اللقاء جرى قبل لحظات!
ـ عندما غادرنا القصر، هل التقينا، أنا وأنت، بعد ذلك ..؟
ـ لا.
ـ أنا عندما عدت إلى البيت، لم استطع مقاومة رغبة جامحة بالنحيب، والعويل، بل بالعواء!  أنا الذي كنت ارسم خططا ً لاغتيال الرجل الأول في الدولة!
ـ اعرف، فانا كنت شريكك في رسم الخطط!
ـ لا أقول لك بأنني صدمت، بل أقول لك: أفقت!
   وانتظرت ان يكمل، فقال بعد لحظات صمت:
ـ لقد أدركت بجلاء كم كان الرجل بحاجة إلى ...، إلى...، حنان، أو قل إلى: رعاية، بل إلى: عناية!
ـ عناية، الجلاد....، الطاغية، المستبد بحاجة إلى ...من يرعاه، ويحبه!
ـ لأنني أدركت كم كان وحيدا ً، تائها ً، شاردا ً، معدما ً، حتى انه عندما كان يخاطبنا كان كمن يستدعي آخر للكلام نيابة عنه!
ـ والخراب الذي أحدثه، يا صديقي، هل هو مجد، وعمران...؟
ـ كان هو الحلقة الواهنة في السلسلة!
   كدت اصرخ: أمن اجل هذا طلبتني..؟  لكنه قال:
ـ لا أريد الاعتراف بان في كل منا يقبع جلاد، بل أقول ان في كل منا هناك ضحية تأمل ان لا تتعثر خطاها  وتغدو وحيدة، تائهة، معزولة، وشاردة تحدق في الظلمات!
ثم أضاف:
ـ بعد ذلك اليوم...، كان علي ّ ان لا أصبح طريدة! وفي الوقت نفسه، ان لا أصبح صيادا ً!
   عندما أصبحت وحيدا ً، في الشارع، تعثرت، وكدت أقع، واسقط في حفرة، فقد شاهدت حشدا ً من الصبية يحدقون في ّ، وهم يتهامسون، ولأنني ثقيل السمع، قررت ألا افتح فمي بكلمة، وأنا أتوارى عن الأنظار، وأغيب.

[10] ظل
    رأيته يمشي وحيدا ً ببطء، ببطء ملفت للنظر، وهو يلملم ظلاله من خلفه، واضعا ً ما جمعه في كيس، ثم يتابع سيره، ببطء، ببطء شديد. فدار بخلدي: هذا ما كنت ابحث عنه...، فانا كنت أفتش عن أكثر الناس بخلا ً! كي أكون عثرت على ابخل إنسان فوق سطح الأرض، مع إنني لم اترك كتابا ً في البخل، والبخلاء لم اطلع عليه، فضلا ًعن إنني مازالت اقشعر إلى حكاية  تلك التي ما ان كانت ترى ضيوفا ً إلا وأطفأت النار، ولكن بالقليل من بولها، بإقساط، وليس دفعة واحدة!
  التفت الرجل نحوي وقال، والابتسامة لم تفارق شفتيه، هامسا ً:
ـ لا تكن سيء الظن بي، أيها العابر، إلى هذا الحد، فانا عندما رأيتكم تهدرون الضوء، قلت لنفسي: ليس لديك ما تفقده، فاجمع ظلك، ولا تدعه يضيع!

[11] عتمة
سألت الزوجة زوجها أستاذ الكيمياء:
ـ ماذا تفعل في هذا الصباح الجميل...؟
ـ يا زوجتي العزيزة، ألا تشاهدين أنني استخراج  العتمة من أشعة الشمس..!
ـ وهل في الضوء ظلمات؟
ـ مثلما في أجسادنا شوائب، وربما في عقولنا اضطراب....!
فقالت بعد صمت وجيز:
ـ أي انك تبحث عن الضوء الخالص؟
   حدق في عينيها، وقال بحزن عميق:
ـ مثلما كنت منشغلا ً...، منذ سنوات بعيدة، بلغز هذا الذي مكثت تنبثق منه الومضات، تجديني لم افقد الأمل....!
11/11/2014