الخميس، 22 مايو 2014

دور القيم الثقافية في اقتحام الواقع وتثوير الذات الإنسانية-وليد خالد أحمد حسن

دور القيم الثقافية في اقتحام الواقع وتثوير الذات الإنسانية

وليد خالد أحمد حسن

          تخلق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكذلك البنى الثقافية السائدة في فترة تاريخية معينة نمطاً معيناً من الحياة ، بقيمه الخلقية والروحية، يدفع الإنسان مهما كان انحداره الطبقي إلى ربط أحلامه وطموحاته بالنمط والمثل الحياتي السائد . وفي مجتمع كمجتمعنا نرى نمط الحياة السائد يدفع مصائر العديد من أفراد المجتمع ولاسيما أولئك المنحدرين من طبقات اجتماعية وسطى ودنيا ، إلى التشبث إلى نمط الحياة المدني / المتحضر السائد مما يبعدهم عن التفكير الموضوعي في واقع حياتهم نفسها وعن تطويرها ومن ثم تغييرها .
          وبما أنهم لايختارون الظروف ولا العصر الذي يعيشون فيه ، فان إعادة خلق الإنسان وغرس القيم الروحية الثقافية الأصيلة فيه ، وإعادة تربيته تولد لديه الوعي الكامل بتلك الظروف ، ويمكنه بذلك استنباط طرائق التغيير في تنامي قدراته وإغناء ذاته .
          ولكن الغالبية العظمى من فئات مجتمعنا محرومة من غائية عملها ، ولاتملك سوى قوة العمل الوسيلة الوحيدة للوجود مما يخلق نمطاً اجتماعياً متخلفاً للسلوك ومعايشة الواقع تغيب فيه كل رابطة أساسية بين الإنسان وذاته ويتقوقع داخل نفسه في عزلة تامة عن محيطه ، ويزيد من غربته ذلك السيل العارم من الأعلام الثقافي الذي يشيع البلبلة والغثاثة والسطحية والجهل المركب ، مقدماً حصيلة من المعاني والوسائل الاحتيالية ، تصرف الفرد عن الإتيان بأية فعالية إنسانية حقيقية تساهم بدورها في خلق القيم الثقافية الأصيلة والتي تعمل على تغيير أسلوب ومستوى حياة هذه الفئات وبخاصة الشعبية منها تغييراً عميقاً .
          إن القيم الثقافية الأصيلة التي نعنيها هنا ، هي الحضور الشامل للقيم الإنسانية التي تحتضن في جوهرها إنجازات الإنسانية على مر العصور . أنها تختصر ثمرات جهود الإنسانية بصراعاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها ، وتقدمها من ثم خبرة ثرة للفرد وللمجتمع من اجل المستقبل .
          فليست هناك ثقافة تخص هذا المجتمع أو ذاك فقط ، وليست هناك ثقافة دخيلة أو ثقافة مستوردة ، إنما تتواصل الثقافات في حركتها فيما بينها مؤثرة ومتأثرة ، حاملة إنجازات وبصمات هذه الثقافة القومية أو تلك . وتتفاعل الثقافات القومية وتسند العناصر التحديثية / التقدمية في كل منها ، العناصر التحديثية / التقدمية في الأخرى ، وتتضافر في صراعها ضد عناصر التخلف ، ولا يتبقى في عملية التطور الاجتماعية بشكل عام سوى ما يستجيب لحاجة المجتمع في حركته الدائمة إلى إمام وما ينسجم وتطلعاته ضمن خصائصه القومية العامة والمتأثرة بخصائص القوميات المختلفة المتآخية في البلد الواحد ، وفي إطار تراث الأمة الحضاري ولغتها وتاريخها وظروفها الموضوعية .
 وبما أن الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية معقدة تخلقها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية ، فإنها تعمل بدورها على خلق القوانين العامة للتطور مؤثرة في أحدى تلك المراحل على تطور العملية الاجتماعية / الاقتصادية نفسها ، والتي تتأخر في بعض الظروف التاريخية الخاصة لأسباب خارجية وداخلية معينة عن العملية الثقافية ، والتي تتأثر بدورها إذا وجدت نفسها عرضة لتحديدات اجتماعية وتاريخية خاصة .. ولذلك فأن الطابع التحرري التحديثي التقدمي لحالة ما والتقليدي الرجعي مثلاً يبقى شيئاً موضوعياً لايتوقف عن وعيه أو الوعي به .
          والقضية هي دائماً معرفة ما إذا كان هذا الاندفاع إلى إمام أو التخلف أو الجمود أمر يجري على أساسه قبوله أو رفضه . كما أن الإجابة على تساؤل كهذا تقرره المواقع الطبقية للمتلقى وللمعطى على حد سواء ، وكذلك فأن ما يعتبره المثقف الواعي المسؤول متجاوزاً في نظره لايمكن أن يكون بالضرورة متجاوزاً في نظر المتلقى أو في نظر أوسع قطاعات المجتمع . وبعبارة أخرى فأن المثقف الواعي يجب أن يعي أن ما يبدو بدهياً بالنسبة له ، ليس بالضرورة بدهياً لقطاعات كبيرة من المجتمع . ومن هنا تنبع مسؤولية المثقفين التاريخية في نوعية المجتمع بنشر الفكر التحرري التحديثي التقدمي والخبرات العالمية الراقية إلى جانب التعرض النقدي للظاهرات المتخلفة وللجمود المعرفي ، والكشف المتواتر لعمليات التشويه المتواصلة للقيم الثقافية والخلقية ، ولعمليات التفريغ المدروسه لمحتوى الثقافة عامة والتي تكون فكر الإنسان وعالمه الداخلي . أما طبيعة الثقافة ودورها في تطوير المجتمع واغناء عالم الفرد الداخلي ، فيقررها نمو القوى المنتجة واتساع الصراعات الطبقية والسياسية والقومية ، كذلك يحددها عمقها ومداها الحقيقي وانحيازها التام لمصالح أوسع فئات المجتمع ، بل وانحيازها التام للعقل . فالعقل وهو يرفض حالة اللاتوازن والتخلف إنما يبحث عن قيم جديدة يخلفها المجتمع بكفاحه ونضاله في سبيل ثقافة شعبية قومية حقيقية تقف عائقاً وسداً أمام جميع إشكال الثقافة المصنعة والتي تحاول حرفها عن أهدافها الحقيقية .
          ونرى المثقفين عموماً وفي مختلف البلدان ، وهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة الوظيفية أو العاملة يجدون أنفسهم – إلى جانب وعيهم التام بالتناقضات – يشكلون أطارا للنظم القائمة والتي لا مجال لمناقشة غاياتها ومعناها ، ومن هنا تبرز أهمية تلك اللحظة في حياة المثقف عندما يعي مسؤوليته التاريخية تجاه مجتمعه ، وعندما يعرف انه يجب أن يساهم في بناء مجتمع جديد خالقاً بإنجازاته العديدة في مجالات الأدب والفن والسياسة وجميع ميادين البناء الفوقي ، علاقات جديدة بين المجتمع والعلم والثقافة والفن ، يعمل آنذاك بوعي على نشر ثقافة عامة تساعد على تطوير الفكر النقدي لدى المجتمع ، لأنه يعي تماماً تلك الظروف الحياتية الصعبة التي تلف حياة الأوساط الكادحة وغالبية قطاعات المجتمع العامل والتي تعيق بدورها مسيرة التطور وأتساع مديات الثقافة ، ومن ثم تعمل على إسقاط الأثر الفكري الناضج لأية دراسات أو قرارات أو معلومات عامة أو أية ثقافات تقدم إليه في اطر التطور الهائل لوسائل الأعلام ، أي تطور ( حوامل ) الثقافة العصرية .
          ولما كانت ( حوامل ) الثقافة العصرية من إذاعة وتلفزيون وفضائيات .. لها ذلك التأثير الواسع الانتشار بإملاء كل ما يراد قوله على السامع أو المشاهد وهو في عقر داره ، ولما كانت تذيع السيء والرديء إلى جانب الجيد ، وتنشر مآثر الثقافة الكلاسيكية إلى جانب الهزل الرخيص ، فأن المردود الثقافي يكون سلبياً وتختلط فيه القيم في فوضى عجيبة . ومن ثم يصبح كل ما يقدم خدعه لاتعمل على تطوير الذات الإنسانية بل بالعكس ، تعمل على ضياعها وتدفع المتلقى إلى الهروب من الواقع إلى عالم من الأوهام إلى جانب تشتيت وعيه . تضاف إلى ذلك آلية الحياة الجافة التي يعيشها فيزداد ضياعاً وتنهار قيمة ومأثوراته .
          لقد أصبح الفرد في مجتمعنا العراقي عموماً مزدوج الذات ومخلوقاً أنانياً في وجوده غير المباشر وفي وجوده كمواطن بل وأصبح فرداً لاحضور له . فقد أصبح بعض المثقفين يتصرفون بلباقة أكثر وأصبحوا يصفقون لكل شيء ويمدحون كل مايحيطهم في استماتة للحفاظ على وجودهم ، وأصبح كل واحد منهم يحاول أن يحتل مكانه في الحياة دون أن يتغلب عليها وليأت بعده الطوفان .
          ومواجهة مثل هذا الواقع تتطلب تربية وعي ثقافي يعمل على تغييره ويتداخل في وجدان أفراد مجتمعنا الطيبين الذين عاشوا قروناً في ظلام التخلف وما زالوا يرزحون تحت عبء عمليات التجهيل المستترة والواضحة تحت جميع الشعارات . وفي سبيل خلق ذلك الوعي الثقافي ونشر الثقافة الحقيقية الأصيلة بينهم ، من الضروري المشاركة الفعالة من قبل جميع المثقفين والأدباء والفنانين والعلماء إلى جانب السلطة في صنع الوضع الثقافي الجديد مبتعدين عن الارتجالية والعشوائية والتخبط حتى نتمكن جميعاً من اقتحام الواقع وامتلاك القدرة على تغييره .
          إن القدرة على تشخيص ومواجهة ذلك الانفصام الحاد بين الثقافة والمجتمع لن تجد لها طريقاً إلا في جو من الديمقراطية . ففي ظل الديمقراطية ينتعش الفكر الذي يعمل في خدمة تقدم المجتمع ، وفي غيابها ينتعش الفكر الرجعي المتخلف الذي يعمل على تكبيل المعرفة والوعي والعمل على الإبقاء على التخلف والجهل والأمية – الأبجدية والمعرفية – لدى اغلب أفراد مجتمعنا فيسهل كبح جماحها وترويضها والاستفادة منها للدفاع عن مصالح فئوية وطبقية معروفة . وفي غياب الديمقراطية تتكرس أفكار وثقافات مشوهة تعمل على تحطيم البناء الاجتماعي والثقافي العام مما يعمل على انتشار التحلل في القيم الثقافية وظهور المصلحية والنفعية .. ولسنا في حاجة إلى ضرب العديد من الأمثلة . وهكذا يتراجع الفكر ويتراجع معه الخوف المقيم والرعب الدائم على المستقبل .. وسيظل الفرد مكبل الفكر مغلول النشاط خوفاً من فقدان الربح وفقدان الآمان الحياتي . فالأمان الحياتي في عراقنا اليوم يأتي في مقدمة الأهداف أو يكون الشعار لدى المواطن – إذا مت ضمآناً فلانزل القطر . فالشجاعة والبطولة والجرأة والحماس الثقافي والفني والإبداعي تهرب جميعاً أمام الرعب الدائم من المجهول . من مجهول استطاع النظام البعثي أن يزرعه داخل النفس العراقية ذاتها .
          ففي غياب الحوار الديمقراطي الحر :-
          - تتحلل القيم الثقافية ويتم الإجهاز الفوقي على المبدأ والشكل .. والخاسر الوحيد هنا هو الذي ظل محروماً قروناً حتى من حق اختيار الحياة .
- ترن أصداء الصوت الواحد في جنبات الحياة الثقافية ، ينحسر الفكر العراقي ويصبح عاجزاً عن احتلاب الإنجازات الثقافية ويؤدي بنا إلى الوصول إلى مرحلة وجود من يفكر عنا ولنا . وتصبح القرارات العلوية هي دستور الفكر والثقافة .
- تتحول الثقافة إلى بوق دعاية وأشباه المثقفين إلى مبررين وشراح ...
          وفي ظل الحوار الديمقراطي الحر يمكن القيام بعمل تربوي وتثقيفي أصيل يساعد على سحب الإنسان من مواقع مصالحه الأنانية الخاصة ليساهم بدوره في إنماء وإثراء الحياة العامة وفي العمل على تغيير ظروفه الموضوعية التي لم يكن له يد في إيجادها .
          وأدوات العمل التربوي والتثقيفي تبدأ من المدرسة والجامعة ومكان العمل بعد ذلك ، ثم يأتي دور وسائل الأعلام المسموعة والمرئية والمقروءة . وللأدب والفن دور نبيل في تكوين عقيدة الإنسان ومفاهيمه الأخلاقية وثقافته الروحية ومن اجل عودته الكاملة وبوعي تام إلى ذاته وإنسانيته مستوعباً كل ثروة التطور الذي تم الوصول إليه على مسار التاريخ الإنساني كله .
          فكيف إذن نخلق أولئك الذين يمكنهم أن يعوضوا كل ما فاتهم من تطور في قرون طويلة ؟ وكيف نهيئ الظروف الموضوعية لذلك ؟
          من بديهيات المعرفة ، أن الظروف التاريخية لاتوجد خارج الممارسة الاجتماعية .. وتغيير النفس في النشاط الاجتماعي والممارسة الإبداعية .. فذلك النشاط يتفق وتحويل الظروف .. ونتيجة لتغيير الظروف تأتي عملية تغيير الذات المنغلقة الأنانية اللاأبالية .
          وكل ذلك يأتي نتيجة لتطوير نمو وتائر المستوى الثقافي العام للمجتمع خالقاً المناخ الصحي والتربة الصالحة لتطوير الفن والعلم والأدب ومساعداً على شحذ يقظه المجتمع وتوجيهه نحو الثقافة والوعي بتحديات التخلف والقهر والقدرة على تجاوزهما .
          وكيف يتم لنا ذلك ؟ بتسريع عمليات صراع الثقافتين في الثقافة القومية الواحدة لصالح الثقافة التحديثية التقدمية التي تستجيب لطموحات أوسع فئات المجتمع ولاسيما الشعبية منها .
          من المعلوم انه توجد ثقافات في كل ثقافة قومية واحدة . ثقافة تحررية تحديثية تقدمية نقدية تبدو عناصرها في النتاج الفني والأدبي والإبداعي الذي يعبر عن طموحات اغلب فئات المجتمع والنقيض لها الثقافة السائدة المتوارثة – التقليدية الرجعية – من عصور التخلف والتي تبدو عناصرها في صراع ضار مع عناصر الثقافة التحديثية التقدمية مدافعة ومحافظة عن مصالح الفئات الحاكمة السائدة في المجتمعات المتخلفة ذات المصلحة في إيقاف كل تطور .
          وتتصارع عناصر هاتين الثقافتين على مر العصور وتساعد الظروف الموضوعية والتاريخية على تغليب عناصر هذه الثقافة أو تلك في هذا المجتمع أو ذاك . ويلعب الأدب والفن الطليعيان دورهما في المساهمة الموضوعية في مسار الصراع الاجتماعي بالدخول في الإيقاع العام للتغييرات الاجتماعية حتى في حدود المجتمع البرجوازي حيث يقدران على الاندماج بحرية وبوعي مع حركة اغلب أفراد المجتمع المتقدمة بالفعل ...
          إن وتائر التغير السريع وتعقد وتشابك الظرف التاريخي تقف عائقاً كبيراً في وجه صراع الثقافتين مرجحة كفة التخلف والجمود الثقافي العام حيث أن الإرهاب الفكري المقنع وفكر الفئات السائدة في المجتمعات المتخلفة المسندة بالإمكانيات الهائلة والحماية التامة يعمل على حرمان الثقافة العامة من دورها التثقيفي والتربوي وتتحول إلى بوق دعاية ، مؤدية إلى انفصام مريع بين المجتمع والثقافة ، الأمر الذي يسقط الواجهة الثقافية الرسمية في دائرة الوهم مهيئة بذلك المناخ الملائم لتكريس أفكار وثقافات تحطم البناء الثقافي وتضرب المنجزات القليلة التي استطاع الفكر الثقافي الديمقراطي أن يغني بها تراثنا على تعاقب الأزمنة .. وفي ظل هكذا مناخ تكف الثقافة عن التعبير الحقيقي عن الواقع ويغلف الزيف أحلامنا ويحيطنا بأوهام عريضة براقة عن نجاحات لاوجود لها وعن إبداعات ليست إلا فقاعات ما تلبث أن تجرفها الحقيقة البشعة عن التخلف الحضاري المقيم والفرق الشاسع بين الحلم والحقيقة والواقع .
          إن حسم صراع الثقافتين لصالح الفكر المتخلف التقليدي الرجعي يحدد الثقافة بكونها مجرد ثقافة الأعلام ويحول الكثير من المثقفين إلى آلات دعائية تبيع نتاجها كسلعة تجارية ، كما يحول شريحة كبيرة من المتلقين إلى مجرد جهاز سلبي .
          فما أسوأ الزمن الرديء القادر فقط على التغني بمآثر الأزمنة الماضية فقط. وتباً للتشويه المتواتر الذي يحرمنا من خلق المقاييس الخلقية والثقافية التي نسلح بها مجتمعنا في مواجهة ذلك الزيف المقنع وذلك التخلف الذي يشوه حياته وحاضره .
          وما أسوأ الغرس السيئ من بعض نتاج الأدب والفن في مجتمعنا عن أساطير عن السعادة والنجاح ، وعن أصنام تعيش في دعة ولذة ونجاح .. وما أكثر ما يعرض لنا من أمثلة زائفة كاذبة عن التمجيد المنهجي للعنف واستغلال الغرائز .. وحتى إذا ما أثيرت بعض الآثار الثقافية من ماضينا العريق وبالشكل الذي تعرض فيه ليست سوى بريق تنحصر فائدته في شل التفكير الصحيح وإبعاد الناس عن استلهام دروسها وتأثرها وتجاربها الحقيقية ولاتساعدهم في مسيرة التقدم بل إنها تقف مناهضة للثقافة الحقيقية ...
          إن صراع الثقافتين هذا لم يصب الرجعية وأقطاب التخلف والتحجر بسوء بل بالعكس كانت الخسارة من نصيب المجتمع والجيل الحاضر ، الذي لم يعد يسمع إلا أصداء الصوت الواحد في غلالة من الإرهاب الفكري المقنع ، وزيادة مفردات المحرمات في الأدب والفن والثقافة والسياسة ... والحصاد المر بالنتيجة هو ذلك الخواء الثقافي الذي نزع عنا شخصيتنا وعوض خواء حياتنا وخلوها من المضمون بأوهام وخيالات وشعارات براقة ... ونتساءل بعد ذلك ، لماذا لاتزدهر الثقافة العراقية ؟ ولماذا قصور الفكر العراقي المعاصر ؟
          إن الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية تظهر وتتطور بتوفر الظروف الموضوعية الكفيلة بتسريع وتائر نموها وتطورها . وكلنا جميعاً وبدون استثناء مهما اختلفت مواقعنا ومسؤولياتنا مدعوون جميعاً لمجابهة الخلل بجرأة والمشاركة في وضع منهاج للثقافة يأتي رداً على جميع الانكسارات والاحباطات التي أماتت حماسنا وأفقدتنا الثقة في نفوسنا وجعلت من سلوكنا رفضاً قاطعاً مطلقاً للحقائق قبل الأوهام .
          إن مؤسساتنا الإعلامية والثقافية واتحاداتنا الأدبية والفنية مدعوة إلى إعادة النظر جذرياً في جميع صيغ عملها مهتدية بتخطيط ديمقراطي سليم ينبع من الاحتياجات الفعلية لمجتمعنا العراقي العريض .
         


حامد كعيد الجبوري - عرض كتاب ( مائة يوم ويوم في بغداد )

الأربعاء، 21 مايو 2014

الفن الاستشراقي في مرحلة التجليات الأخيرة- *أوراس زيباوي


الفن الاستشراقي في مرحلة التجليات الأخيرة


*أوراس زيباوي
مرة أخرى يعود الفن الاستشراقي الى الواجهة مع المعرض المقام في «متحف الفنون الجميلة» في مدينة بوردو الفرنسية تحت عنوان «استشراقيات». يضم المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات التي تؤرخ للفن الاستشرافي منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين. كل اللوحات هي من مجموعة «متحف بوردو»، وتبيّن كيف أنّ الفن الاستشراقي لم يشكل في الواقع تياراً فنياً محدداً، بل هو تعبير عن حساسية جديدة نشأت في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية بسبب التحولات الكبرى التي شهدتها الأزمنة الحديثة وطاولت مجمل مظاهر الحياة والثقافة.
هناك أولاً الحركة الاستعمارية وتمدد القوى الغربية في الشرق كما الحال مع احتلال فرنسا للجزائر عام 1830. أما الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال بونابرت عام 1798 فقد أعادت مصر الى واجهة الحدث العالمي ومهدت لاكتشاف الحضارة الفرعونية التي ما زال الفرنسيون الى اليوم مفتونين بها. هناك أيضاً العلاقات الثقافية والتجارية بين الشرق والغرب على رغم الحروب الصليبية وتمدد الإمبراطورية العثمانية. فالشرق هو أرض الديانات السماوية وهو أيضاً مهد الحضارات الأولى، وقد استوحى المبدعون على مر العصور من علومه وفنونه وآدابه. وفي القرن الثامن عشر، ترجم أنطوان غالان حكايات «ألف ليلة وليلة» التي لاقت رواجاً كبيراً ودفعت بالكثيرين الى السفر الى الدول العربية والإسلامية.
يكشف المعرض أيضاً جانباً آخر يتمثّل بأنّ فنانين كثيرين تمكنوا من السفر الى الشرق تبعاً لارتباطهم بالبعثات الديبلوماسية والعسكرية التي تعاظم دورها في القرن التاسع عشر، ومن أشهر أولئك الفنانين أوجين دولاكروا الذي شكلت رحلته عام 1832 الى المغرب محطة مهمة في مسيرته الإبداعية. لقد رافق البعثة الرسمية الفرنسية التي عيّنها الملك لويس فيليب للقاء حاكم المغرب مولاي عبدالرحمن. وفي المغرب تمرّد دولاكروا على القاعدة الكلاسيكية في الفنّ التي تفصل بين الرسم واللون، وصار اللون معه هو الرسم. وكان هذا الفنان من أبرز ممثلي التيار الرومنطيقي في الفن الفرنسي، وكان مأخوذاً بمناخات الشرق وما تولده لديه من دهشة وجماليات جديدة. صحيح أنه تناول في لوحاته ورسومه التخطيطية التي أنجزها في المغرب المواضيعَ التي تطالعنا في الكثير من اللوحات الاستشرافية، كمشاهد الفرسان وهم يمتطون أحصنتهم ومجالس النساء والمناظر الطبيعية المتوسطية والعمارة المحلية، غير أنه كان مجدداً في تقنيته وفي تناوله لهذه المواضيع وطريقة التعاطي معها، وكذلك لفهمه العلاقة بين اللون والرسم، مما مهّد للتيار الانطباعي.
وإضافة إلى دولاكروا، تطالعنا في المعرض أعمال فنانين آخرين ينتمون إلى المدرسة الرومنطيقية. وتمثل السنوات الممتدة بين عامي 1850 و1860 العصر الذهبي للفن الاستشراقي، وفيها برزت مواهب كلاسيكية وأكاديمية، ومنها الفنان جان ليون جروم الذي حظي بشهرة كبيرة في حياته، وقد زار مصر وفلسطين والجزائر وتركيا، وكان يعدّ في هذه الدول رسومه التخطيطية ثم يقوم بتنفيذها وتلوينها في محترفه في باريس.
لا يغطي المعرض القرن التاسع عشر فقط، بل يتجاوزه إلى القرن العشرين، تحديداً المرحلة الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الأولى وعام 1960. وهنا لا بد من الإشارة الى الدور الذي لعبه المبنى المعروف باسم «دار عبداللطيف» في الجزائر العاصمة، وهو قصر صغير جعله الفرنسيون منذ مطلع القرن العشرين مقراً لإقامة الفنانين الفرنسيين الذين يرغبون العمل في الجزائر. وهذا ما يذكّر أيضاً بالدور الذي لعبته «فيلا ميديسيس» في روما والتي ما زالت الى اليوم تستقبل المبدعين الفرنسيين. في عام 1967، صنفت «دار عبداللط يف» كأحد الصروح التاريخية المهمة، وهي اليوم تابعة لوزارة الثقافة الجزائرية. ويملك «متحف الفنون الجميلة» في بوردو مجموعة من اللوحات والرسوم التي أنجزها فنانون أقاموا في «دار عبداللطيف» ومنهم ليون كوفي الذي استقر في الجزائر حيث حاز عام 1907 جائزة «دار عبداللطيف».
تغيب عن المعرض أعمال هنري ماتيس الذي زار المغرب عام 1912، ثم عام 1913، وقد أحدث اكتشافه لهذا البلد تحولاً كبيراً في مسيرته الفنية، لكن تحضر في المقابل أعمال فنانين آخرين مميزين منهم ألبير ماركي المولود في مدينة بوردو. وكان ماركي صديقاً لماتيس وعاشقاً للسفر، وزار المغرب وتونس وكذلك الجزائر التي صارت وطنه الثاني. وكان يقضي فيها برفقة زوجته، سنوياً ولأكثر من ربع قرن، فصل الشتاء. وترك عدداً كبيراً من الرسوم واللوحات التي نفذها في الجزائر واختزل فيها الطبيعة المتوسطية بأبهى تجلياتها. إلى جانب أعمال ماركي، تحضر أعمال راوول دوفي الذي كان الشرق، بطبيعته وفنونه، مصدر إلهام له.
يختصر هذا المعرض مرحلة تاريخية كاملة واكبت حركة الاستشراق الأوروبي عندما كانت في أوجها. ومن الجوانب المهمة في هذا المعرض أيضاً أنه يقدم أحياناً صورة عن عوالم وصروح اندثرت في الشرق، وهذا هو الجانب التوثيقي فيه، إضافة الى الجانب الجمالي.
_________
*الحياة

الاثنين، 19 مايو 2014

حقائق عن تواضع قادة الغرب- كاظم فنجان الحمامي

حقائق عن تواضع قادة الغرب


كاظم فنجان الحمامي

الحديث عن تواضع قادة الغرب لا نهاية له، وربما يطول بنا بقدر ما تتحفنا به الوقائع اليومية المذهلة، فيبهرنا تواضعهم الجم في سلوكهم وملبسهم ومأكلهم وبساطتهم، ما يمنحهم التفوق على غيرهم نحو الارتقاء في مكانتهم العالمية، بعدما اتخذوا من التواضع جسراً لتحقيق العدالة الإنسانية، فقمة التواضع أن يضع الزعيم نفسه عند من هم دونه،  وأن أرفع الزعماء قدراً من لا يتعالى على شعبه، وأكبرهم فضلاً من لا يرى فضله عليهم.
يعد الرئيس (خوسيه موخيكا) أفقر رؤساء الغرب الأمريكي, لأنه يتقاضي مرتباً شهرياً لا يزيد على (12500) دولار. لكنه يتبرع بنحو (90%) منه، ويحتفظ بأقل من (1250) دولارا فقط. يعيش (موخيكا) مع زوجته (لوسيا) في كوخ ريفي صغير. أما سيارته الرئاسية فهي عربة قديمة من طراز (فولكس ووكن) المحدبة الرخيصة، التي لا يزيد سعرها على (1945) دولار، وهو النوع الذي اختفى من شوارع العراق، ولم يعد له وجود، فهي عندنا أرخص من (الستوتة).
وضرب لنا وزير المالية البريطاني (جورج أوزبورن) مثلاً رائعاً في التواضع، عندما أستقل (من دون قصد) مقصورة الدرجة الأولى في القطار المنطلق من مدينته، وكانت معه تذكرة الدرجة الثانية، فأجبره مفتش القطار بالانتقال إلى عربات الدرجة الثانية، أو الامتثال لقانون خطوط السكك الحديدية بدفع رسوم الغرامة، مقابل السماح له بالبقاء في مقعده. قال له الوزير أن القانون يجيز له بالتمتع بتسهيلات عطلة نهاية الأسبوع، التي تسمح لركاب الدرجة الثانية بالجلوس في مقاعد الدرجة الأولى، فرد عليه المفتش: نعم هذا صحيح لكن العطلة لم تبدأ إلا بعد منتصف ليلة الغد, والساعة الآن تشير إلى الرابعة عصراً، فاعتذر منه الوزير, ودفع له الغرامة المقررة. لم يتردد المفتش في تطبيق القانون، ولم يجامل الوزير، ولم يخشى بطشه.
وفي بريطانيا أيضاً استقالت وزير الرياضة (ماريا ميلر)، التي اتهمتها الصحافة بالتبذير والإسراف وسوء الإنفاق، وكل القصة وما فيها أنها أنفقت مبلغ أقل من ستة آلاف جنيه من حسابها الخاص. بمعنى أنها لم تسرق المال العام, ولم تتهرب من دفع الضرائب، لكنها امتثلت للرأي العام، وتقدمت باستقالتها إلى رئيس الوزراء (دافيد كاميرون)، الذي قبلها وكلف بريطانياً مسلماً بالحلول مكانها في الوزارة, هو (ساجد جاويد).
ولا مجال للمقارن بين موكب الزعيم الهولندي (مارك روتتي) المؤلف من دراجة هوائية واحدة، وبين مواكبنا الخرافية المؤلفة من مجاميع كبيرة من السيارات المدرعة والعربات المصفحة والدراجات النارية، تحلق فوقها أحياناً أسراب من طائرات الهليكوبتر، وربما الطائرات المقاتلة.
وفي بريطانيا اكتشف رئيس وزراؤها (ديفيد كاميرون) إن دراجته الهوائية أسهل له وانفع وأسرع في التنقل، ولا تكلفه شيئاً، فحذا حذو نظيره الهولندي، وتجول بدراجته في ضواحي مدينته. يمارس (كاميرون) حياته الطبيعية بلا حراس, ولا رجال أمن, ولا بودي غارد, ولا يتبعه الانتهازيون والوصوليون, ولا تسمع أهازيجهم الولائية المستنسخة: (بالروح بالدم نفديك يا كاميرون)، فالناس هناك يتعاملون معه مثلما يتعاملون مع بعضهم البعض، من دون حواجز ولا موانع ولا فوارق وظيفية أو طبقية.
هؤلاء كلهم من خارج مجتمعاتنا. لا يدينون بديننا الذي أوصانا بالبساطة والتواضع، ولا ينتمون إلى قوميتنا العربية، التي زرعت في قلوبنا حسن التعامل مع الناس. لكنهم تمسكوا بالثوابت الإنسانية النبيلة، واختاروا البساطة سلماً مهذباً للوصول إلى قلوب الجماهير، فاكتسبوا حب الناس بالرفق والتعامل المرن، ونالوا حب الله وحب العباد بالابتسامة الرقيقة والكلمة الطيبة.
أمام هذه النماذج من الزعماء الذين يتوزّعون على أكثر من بلد غربي، تمرّ مشاهد وأسماء زعماءٍ لا ينفكّون يتمسّكون  بالسلطة، وكأنّها إرثٌ أزلي لهم. يورّثونه لأبنائهم. ينقلونه من جيل إلى  جيل. يعملون بلا كلل ولا ملل لزيادة ثرواتهم، التي تتّخذ من المادة وأشكالها عناوين عريضة تميّزهم عن غيرهم من الفقراء والمسحوقين.

الأحد، 18 مايو 2014

تخطيطات قديمة للفنان غالب المسعو cut

النمور فێ الیوم العاشر-زکریا تامر



النمور فێ الیوم العاشر


زکریا تامر
رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص ، ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف، وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: "إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد. انظروا الآن إلى هذا النمر. إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير، ويصبح وديعاً ولطيفا ومطيعا كطفل صغير، فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين لا يملكه، وتعلموا".

فبادر الرجال إلى القول أنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض، فابتسم المروض مبتهجاً، ثم خاطب النمر متسائلاً بلهجة ساخرة: " كيف حال ضيفنا العزيز؟".
قال النمر:"احضر لي ما آكله فقد حان وقت طعامي".
فقال المروض بدهشة مصطنعة: "أتأمرني وأنت سجيني؟ يا لك من نمر مضحك! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا اصدار الأوامر".
قال النمر: لا أحد يأمر النمور".
قال المروض: "ولكنك الآن لست نمراً. أنت في الغابات نمر، أما وقد صرت في القفص فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء".
قال النمر بنزق: "لن أكون عبداً لأحد".
قال المروض: "انت مرغم على إطاعتي لأني أنا الذي أملك الطعام".
قال النمر: "لا أريد طعامك".
قال المروض: "إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه".
وأضاف مخاطباً تلاميذه: "سترون كيف سيتبدل فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة".
وجاع النمر، وتذكر بأسى أيام كان ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه..
وفي اليوم الثاني، أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: "ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم. قل انك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم".
ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: "افعل ما أقول ولا تكن أحمق. اعترف بأنك جائع فتشبع فورا".
قال النمر: "أنا جائع".
فضحك المروض وقال لتلاميذه: "ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه".
وأصدر أوامراه، فظفر النمر بلحم كثير.
وفي اليوم الثالث، قال المروض للنمر: "إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، نفذ ما سأطلب منك".
قال النمر: "لن أطيعك".
قال المروض: "لا تكن متسرعاً فطلبي بسيط جدا. أنت الآن تحوص في قفصك، وحين أقول لك : قف، فعليك أن تقف".
قال النمر لنفسه: "انه فعلا طلب تافه ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع".
وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: "قف".
فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح : "أحسنت".
فسر النمر ، وأكل بنهم بينما كان المروض يقول لتلاميذه "سيصبح بعد أيام نمرا من ورق".
وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: "أنا جائع فاطلب مني أن أقف".
فقال المروض لتلاميذه: "ها هو قد بدا يحب أوامري"
ثم تابع موجها كلامه إلى النمر: "لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط".
فكظم النمر غيظه، وقال لنفسه: "سأتسلى إذا قلدت مواء القطط".
وقلد مواء القطط فعبس المروض، وقال باستنكار: "تقليدك فاشل. هل تعد الزمجرة مواء".
فقلد النمر ثانية مواء القطط، وكلن المروض ظل متجهم الوجه، وقال بازدراؤ: "اسكت اسكت. تقليدك ما زال فاشلا، سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغدا سأمتحنك . فإذا نجحت أكلت ، أما إذا لم تنجح فلن تأكل".
وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين. ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.
وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: "هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج".
قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: "عظيم أنت.. تموء كقط في شباط".
ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.
وفي اليوم السادس، ما ان اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط. ولكن المروض ظل واجما مقطب الجبين، فقال النمر "ها أنا قد قلدت مواء القطط".
قال المروض: "قلد نهيق الحمار".
قال النمر باستياء: "أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك".
فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.
وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعاً، وقال للنمر: "ألا تريد أن تأكل؟"
قال النمر: "أريد أن آكل".
قال المروض: "اللحم الذي تأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام".
فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: "نهيقك ليس ناجحاً، ولكنني سأعطيك قطعة من اللحم اشفاقاً عليك".
وفي اليوم الثامن، قال المروض للنمر: "سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق اعجاباً".
قال النمر: "سأصفق".
فابتدأ المروض القاء خطبته، فقال: "أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالايمان سننتصر".
قال النمر: "لم أفهم ما قلت".
قال المروض: "عليك أن تعجب بكل ما أقول وأن تصفق اعجاباً به".
قال النمر: "سامحني. أنا جاهل أمي، وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي".
وصفق النمر، فقال المروض: "أنا لا أحب النفاق والمنافقين، ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك".
وفي اليوم التاسع، جاء المروض حاملاً حزمة من الحشاش وألقى بها للنمر وقال: "كل".
قال النمر: "ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم".
قال المروض: "منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش".
ولما اشتد جوع النمر، حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويدا رويدا.
وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.

قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل

قصص قصيرة جدا ً





عادل كامل




[1] سر
سأل التمثال النحات، بعد ان أنجزه:
ـ لماذا ألصقتني وأضعت ملامحي وحولتني إلى اثر...؟
أجاب النحات بصوت هاديء:
ـ ليس لدي ّ مأوى أتوارى فيه سواك!
فقال التمثال:
ـ فضحت سرك!
ـ بل أنا هو من أخفى سرك! فمنذ الآن لا أنا ابحث عنك، ولا أنت تبحث عني، فكل منا لن يرى الآخر بعد اليوم!



[2] استغاثة
ـ استغث...!
ـ كي تعيد ما سلب مني، وما خسرته...، لتمد بعمري، كي أر ما لم أره من ....؟
ـ بل كي أمنحك الضوء...!
ـ جميل، جميل حقا ً، كي أرى ان الظلمات، وحدها بلا حدود، وكي أدرك، مرة أخرى، أنني لا اقدر على عمل شيء!
[3] خوف
ـ لماذا لم تعد تخاف مني...؟
ـ من أنت؟
ـ الم تعرفني..؟
ـ وهل أنا مضطر للخوف من ..، من...، من اسمه لا يقترن بالكلمات، ولا بالمسافات، ولا بالأنوار ...؟!
ـ أحسنت؟
ـ على م َ هذا الإحسان...، وأنت تراني لم اعد أخاف حتى من الذين دمروا حياتي ...، فهل تطلب ان أخاف من الذي ليس هو بالنور، ولا بالمسافة، ولا بالكلمة التي تذهب مع الريح!
[4] سؤال
  سألت المرأة زوجها الكاتب:
ـ اخبرني، انك قبل نصف قرن، وعدتني باختيار مهنة غير محنة الكتابة...، التي لم تكسب منها إلا المرارات، والشتائم، والخسائر...، ولكنك لم تفعل...؟
ـ في الواقع، كان اختياري لها، مثل اختياري لك ِ!
ـ لكنك طالما اعترفت لي ان عصر الكتابة في طريقه إلى الزوال؟
ـ كما هو عصر الرجال!
ـ تقصد .. زماننا؟
ـ وهل لديك قدرة على عزل لا حافات الظلمات عن هذا القليل من الضوء؟

[5] رجاء
    ذهب إلى (الموت) وطلب منه:
ـ أرجوك، اعتقد انك تأخرت كثيرا ً...
ابتسم الموت وسأله باستغراب:
ـ ما شأني أنا..؟
فقال بصوت خفيض مرتجف:
ـ لم يستجب الرب لطلبي، وأنا ارجوه ان يأخذني!
قال الموت:
ـ إن لم يستجب الخالق لطلبك، فهل استطيع ان أحقق لك ما لم يحققه؟
ـ ولكني، كما تعلم، وفي يوم ما من الأيام، سأموت!
ـ غريب أمرك، فما الداعي إلى هذا الاستعجال..؟
ـ كي اكف عن رؤيتك، فلا أجد أحدا ً يفزعني!
ـ يا شيطان، فهمت الآن سر طلبك مني!
ـ ماذا فهمت؟
ـ ان تسلبني سلطتي!
[6] عبوة ناسفة
    عندما اكتشف وجود عبوة ناسفة زرعت بجوار نافذة غرفته، أبى ان يخبر أحدا ً بها، ولا حتى السلطات الأمنية، بل انتظر غروب الشمس، كي يذهب إلى المكان الذي طالما كان بؤرة للقاء المسلحين، واخبرهم بأنه قد يكون غير مرغوب به...، أو انه ارتكب خطأ ما، فانا ـ قال لهم ـ ليس لدي ّ ما اعترض عليه، وبإمكانكم إجراء الحساب معي بعيدا ً عن الآخرين، في ظلمات هذا الليل.
ابتسم كبيرهم وسأله:
ـ ولكن قل لنا لماذا لم تخبر السلطات ...؟
أجاب من غير تردد:
ـ بل لم اخبر حتى الله!

[7] انتخابات
ـ هل أدليت بصوتك؟
ـ نعم.
ـ من انتخبت؟
ـ الله!
ـ غريب، هل تنتخب من لا علاقة له بهذا الأمر.
ـ وأنت من انتخبت؟
ـ الشيطان!
ـ غريب...؟
ـ ما الغريب وهو المسؤول عنها!
8/5/2014

السبت، 17 مايو 2014

محمد قريش .. نصوص تلقائية متروكة إلى الآخر !!-

محمد قريش ..
نصوص تلقائية متروكة إلى الآخر !!






  د.شوقي الموسوي
     مابين القراءة والفهم في حدود المشهد التشكيلي المُعاصر في العراق مابعد الحرب ، تواجدت أبجديات الثقافة البصرية المحتفلة بالتأويل والتدليل والتحليل والتركيب والتي اهتمت بانتاج الاسئلة النبيلة من خلال اقتراح تكوينات بصرية ذات منحى تجريبي ، من قبل الفنان المعاصر في العراق بشكل عام وفناني المهجر بشكل خاص ... قبل أيام أشتبكت الذائقة البصرية مع نتاجات الفنان التشكيلي العراقي محمد قريش المغترب في هولندا  والذي قدم معرضه الشخصي على أروقة صالون أكد للفنون ببغداد وبواقع 30 عملاً فنيا وبمختلف الاحجام والتقنيات ...حيث قدم الفنان تجربته الفنية ذات النزعة التجريدية الخالصة والمتوشحة بتقنيات طباعية عالية الحساسية والتعبير..احتفلت تكويناته بالتلقائية الانية وايضاً بالاثر وجمالياته بفعل عمليات التحزيز والتسطيح والترميز والاختزال والتجريد على أرضياته الطلائية ذات العجينة الكثيفة ، فاقترح خطوط وأشكال غير منتظمة وخربشات تقترب من الذاتية الآنية بعيداً عن سلطة العقل لاجل الامساك بالاطياف .هذه التجربة تعد مكملة  لتجارب الفنان السابقة لما لها من منهجية تجريدية خالصة في البحث والتنقيب عن ماورائية المرئي وكوامن وطاقات الاثر ومايحويه من جماليات تقنية تسمح لذهن التلقي من ان تسيح فوق الواقع  في عوالم الصمت الجميل عوالم ملؤها السلام والاحلام .الفنان محمد قريش القادم من عزلته الاوربية من هولندا جاء الى وطنه يستنشق بعضاً من الذكريات من ألوان وملامح لامكنة أختفت بفعل الاحتلال وأزمنة جديدة تفتح الحوار مع الماضي فتنتج نصوصاً تشتغل على فعل التناص والتفوق على الواقع لاتلتزم بالمعنى الموضوعي بقدر احتفالها بالذاتية والفردانية الخالصة واحتوائها على الافكار والجماليات المتراكمة في ذهن التلقي ليترك الفنان  مسالة تأويل مشاهده التصويرية الى الآخر ليصير المتلقي مشاركاً في العملية الابداعية بعد ان كان مستهلكاً في الامس .  



فن الحاضر و اشكالية التحول من الخلق الى ( الانتاج )- علي النجار


فن الحاضر و اشكالية التحول من الخلق الى ( الانتاج )
 
علي النجار
 




سعت ما بعد الحداثة ومنذ بوادر ظهور اختلافاتها الأولى في العقد الستيني من القرن الماضي إلى القضاء على اسطورة الطليعة (الأفان - كاردزم) الحداثية, من خلال تجاوز أطروحاتها الفلسفية والأسلوبية الجمالية، سعيا لإلغاء التمركز على الأنا بجذره الأوربي. لكن لم يكن للإلغاء من معنى, بقدر كونه تفكيكيا وتجاوزا للمنجزات الحداثية الأولى. فالدادائية الجديدة هي الوليد الشرعي لدادا عام(1917). لكن ان كانت الدادائية الأولى عدمية, بسبب من الإحباطات النفسية التي افرزها الهوس التكنولوجي الميكنني, و تداعياته الاقتصادية التي تسربت من تحت خطوط الرفاهية الزائفة الطافية على السطح في نهاية القرن التاسع عشر. فان بشائر وتداعيات الحرب في العقد الثاني من القرن العشرين قضت على سلوكيات الرفاهية لصالح الشك وعدم اليقين. الدادائية وصمت كل معايير الثقافة والفنون السابقة بالدجل والرياء. لكن ثورتها العبثية أطلقت العنان لحرية الأداء والتصور الحداثي بدون شروط وخارج كل الأطر, وكانت الشرارة التي حصدت ما قبلها, لتوقظ ما بعدها .
الدادائية الجديدة, حالها حال العديد من اتجاهات ما بعد الحداثة الفنية, هي الأخرى من نتائج عدم اليقين التكنولوجي. أو نقيضه, اليقين المفرط. وكإيهام عصري تقني يتجاوز افتراضيته. فان كانت الدادائية الأولى تلصق أجزاء اللا فكرة عشوائيا. فان جديدها يبعثر الأفكار في فضاء افتراضي أوسع وأعم.
ما بعد الحادثة هجرت علم النفس الحديث, في بعض من أطروحاتها, وبالذات شق التداعيات الحلمية لفرويد و يونغ. من اجل أحلام أخرى خضعت لمنطقها الخاص المحدد, كفن عرقي(فن السود) أو جنسي(النسوية والمتحولين جنسيا والمثليين) وليتحول المسكوت عنه إلى العلن, ضمن الفوضى الخلاقة بشقيها: المعلن عنه, والمتستر به. وغير بعيد عن سلوكيات اقتصاد السوق العولمي التي تجاوزت(المقدس و المدنس), وأباحت الجسد مجرد مؤدي(بروفانس), وليس مستعرضا. وكان الفعل( هابنس) ومنذ بداياتها الأولى حضورا فنيا اجتماعيا. كما النص(كونسبت) والفيديو - ارت, والإنشاءات المختلفة(انستليشن). وضمن غلبة التصور الإيهامي(ألمفاهيمي) على الواقعي. فان كانت الآلة في الزمن الحداثي الأول ( التاسع عشر) تروس صلبة تدور وتطحن البشر حتى كارثة الحرب الكونية الأولى.فان التقنية باتت اقتصاديات ناعمة غير مرئية تمر عبر شبكات الأثير. وبات العمل الفني أثيرا هو الآخر في بعض من عروضه وتقنياته.
دشن مانيه في لوحته ( فطورعلى العشب) حداثة نهاية القرن التاسع عشر وحرر العمل الفني من مضمونه المقنن ضمن مرجعيته التاريخية, أو مدلولاته الواقعية. منذ ذلك الوقت والفنانون حريصون على إقصاء المرجعيات أو مراوغتها. ما عدى فناني الشرق الأوسط ونظرائهم اللاتينيين والشرق أقصى. إذا تجاوزنا الفن المؤدلج الذي بقي في إسار مرجعية سابقة. اعتقد أن مانيه في عمله هذا هو الذي مهد لعصر الصورة الحديثة المكتفية بذاتها.



عصر الصورة السينمية التي أخذتها السريالية لريادة خفاء العالم لا وضوحه. كما في(الكلب الأندلسي) ليونيل ودالي. وكما في صور( مان راي) و عشيقة بيكاسو( دورا مار) وغيرهم, واحدث منهم. فان كان الغموض الحداثي بعض من نتاج السريالية. فان ما بعد الحداثة هي الأخرى صنعت أساطيرها الواضحة والغامضة, على الضفة الأخرى من ممارسات الفكر البشري. وحيث الآلة التقنية الرقمية. أو مواد العمل نفسه, هي التي تمارس دورها الإبداعي. وما الفنان إلا مجرد روبوت, في حالات كثيرة, تابع لتنفيذ اقتراحاتها. لقد باتت التقنية المختبرية في العديد من نتاجات الفنانين هي الحكم على جودة النتاج. وبات التخصص التقني مطلوبا في تنفيذ المشاريع الفنية, سواء الفردية او الجماعية. لقد انتهى الدور الريادي للفنان الصانع المتفرد, ضمن مشاعة الاشتغالات الفنية. وبات الفنان صاحب البصمة المتميزة, سلعة نادرة. لقد حققت ما بعد الحداثة ديمقراطية اشتغالاتها. وبات الفنان الأكثر انتشارا والأعلى سعرا هو هدفها النهائي. ونجحت في تحويل الفنان من خالق ( كما الزمن الحداثي ) الى مجرد منتج غالبا ما لا يختلف عن غيره إلا في بعض التفاصيل وفي القدرة على تسويق عمله. او قدرة السوق الفني على تسويقه.

* الوهم الافتراضي الأول: الاكتشاف الأول للأطباق الطائرة في تكساس الأمريكية في عام(1947), أي بعد الحرب الكونية الثانية وكوارثها التقليدية والذرية! اكتشاف ملحق أو الحق ليخدم ويغطي على نتائج الحرب, حسب ما اعتقد.



* الوهم الافتراضي الثاني: اكتشاف(زكريا ستيثسن) بان(الأنانوكي) آلالهة السومرية, هبطوا من السماء, ثم غادروا الأرض عام(1700) قبل الميلاد بعد أن تركوا كتاباتهم وعلومهم المتقدمة حضاريا إرثا للبشرية, وبعد أن تزوجوا من نساء العراق وخلفوا, وهم العمالقة !
ان كان الافتراض الأول, كان مجرد تلفيق لخدمة أغراض سياسية, كما اثبتته الوقائع المتأخرة. فان الافتراض الثاني هو الأخر اعتقده تلفيقا لإلغاء الصفة التاريخية الحضارية لسكان جنوب العراق القدماء, وربما لنفس الأسباب. فلحد الآن لم يكتشف من آثار العراق الا القليل حسب رأي علماء الآثار, ولعلنا نجد في المطمور منه حلا لهذا اللغز. المهم أن افتراضات الكائنات الفضائية استولت على مساحة واسعة من الثقافة الفنية الصورية لزمننا المعاصر. بالتزامن والتقنية الروبوتية. وبتوقعات حصول كارثة كونية, أو محاولات لتلافيها. محاولة صناعة هذه الأوهام العلمية والتنبؤية. هي بعض من انجازات ما بعد الحداثة في شق عدم اليقين الفلسفي, ومن ضمنه تجاوز معطيات التاريخ.
منذ بداية الستينات والسؤال المعرفي الفني يؤرق فناني العراق والمنطقة العربية. وكانت الحلول في جاهزية التزاوج مابين الأصالة ( المنجز الفني التاريخي ) والحداثة. وكان حضور الوعي التاريخي طاغيا في أعمالهم الأولى سواء التشخيصية أو الحروفية الشكلية. فهل كانت حلولهم الفنية هذه صائبة بالنسبة إلى زمنهم. اعتقد بما أن الحداثة العالمية وصلت للمنطقة متأخرا نسبيا. ولكي لا يطفو الفنان العراقي أو العربي في فضاء عائم. فكان النسب التاريخي حافز لهم لتأصيل النتاج الفني, ضمن هوس التأصيل, ولو ببعض من الملامح. من خلال معالجة المفردات التاريخية والمحلية بأسلوب حداثي لا يلغي انتمائه للحداثة العالمية. ولا يفقد السمات المحلية في نفس الوقت. وفي النحت كانت أعمال ( جواد سليم ) و ( إسماعيل فتاح الترك ) خير مثال لذلك. بل باتت تشكل إيقونة فن النحت العراقي الحديث.
توفي جواد سليم في عام(1961). وتوفي إسماعيل في عام(2004). جواد لم يشهد الحرب. وإسماعيل شاهد ثلاثة حروب. لم تخل منحوتاتهم من ملامح أثرية رغم حداثتها. وان كانت رسوم جواد تنتمي للعقود الأولى من القرن العشرين. فان رسوم إسماعيل كانت تعبيرية محدثة, مثلما بعض منحوتاته الصغيرة أو الفخارية.



من جيل النحاتين العراقيين الجديد, الثمانيني ( أحمد البحراني ) الذي تتلمذ وتأثر بأستاذه النحات التجريدي ( عبد الرحيم الوكيل ) الذي كان متأثرا بدوره بمدرسة النحت الانكليزية الحديثة. أحمد أعلن اختلافه بمنحوتات لا تشخيصية ( تكوينات شكليه استدارية ) من الحديد, بصياغات متعددة. لكن, وبما انه من جيل الحرب ( كما أطلق على جيل الفنانين العراقيين في زمن حرب الثمان سنوات. العراقية الإيرانية. وشاهد على الحرب الأخيرة (تحرير أو احتلال العراق ) عام(2003 ). وما تبعها من تعرض العراق لموجات الإرهاب والفساد الإداري المستمر. وبتأثير من كل ذلك ارتبط مفهوم الحرب والإرهاب( المتداول ) في ذهنه. وكان من نتائجه انجاز مشروعه النحتي( ماذا لو ) الذي شارك في معرض بازل ميامي العام الماضي.
ماذا لو :
نفذ النحات السويدي(كارل فردريك روترسوارد(1)عمله النحتي البندقية المعقودة, متأثرا بحادثة اغتيال صديقه عضو البيتلز(جون لينون) كإدانة للاغتيال, والحرب متمثلة بأسلحتها, مشروع اغتيال جماعي. ثم تحول عمله إلى إيقونة للسلام, نصب في أكثر من مدينة عالمية. عالج( روترسوارد ) واقعة واضحة المعالم. أحمد البحراني لم يكن كذلك. لقد اخترعت تلفيقات كثيرة لإسقاط النظام الدكتاتوري العراقي.



لكن بالمقابل لم يكن التغيير إلا إعادة لصياغة دكتاتوريات لطوائف متعددة. وضاعت الحقيقة أو الوضوح, ضمن مساحة تعدد التبريرات واختلاط التصورات المصالح والمفاهيم. ولم تبق غير حقيقة واحدة, هي استمرار الحرب او الحروب الداخلية. أو حسب مصطلح ما بعد الحداثة الجديد: الإرهاب.
بيكاسو, الأم تيريز, مندلسون مانديلا, رونالد, غاندي, مايكل جاكسون. شارلي شابلن. سبعة شخصيات ايقونية حداثية وما بعد حداثية, بعضهم ترك بصمة على القرن العشرين. في مجالات متعددة, أو مستويات تتراوح مابين ذروة الإبداع, وما بين الأداء الشعبي. لكن يبقى قاسمهم المشترك هو مجال الإبداع الإنساني السلمي. أحمد استل هذه الشخصيات من محيطها من اجل ان يعالج قضية الحرب, وليس السلم. صنع منها جنودا محتضنين أسلحتهم. فالعالم بات في نظره مجرد غابة والوجود أو المجد للسلاح فقط, ليس للدماغ. هذا ما استخلصه من درس حروب العراق. وإذا كانت هذه الشخوص المختارة من الضفة الأخرى تنكبت السلاح. فماذا بقي للإنسانية كي تمارس وظيفتها.
في عرض بينالي مدينة كوتنبرغ السويدية( خيارات السياسة وتحديات المعارضة) في عام(2007) الذي تناول موضوعة الحرب والإرهاب. وفي مساهمة لفنان روسي, عرض خمسة تماثيل برونزية ذهبية لأطفال عراة بخوذ حربية حاملين أدوات موسيقية في وضع استعداد هجومي. كان هدف الفنان تهجين الفعل الحربي, شخوص وأدوات هي ابعد ما تكون عن فعل الحرب. أحمد كرر هذا الفعل المفهومي, لكن بأدوات الحرب نفسها. فهل من الممكن تصور الأم تيريزمحاربة. أو غاندي أو مانديلا و بيكاسو وغاندي,وحتى مايكل جاكسون بمظهره المبهرج, لكن ربما نتصور رونالدو محاربا. رغم كونه يحارب بطريقته الخاصة في ساحات كرة القدم. لكنه بالتأكيد لا يفضل أن يترك استثمار قدميه. الوحيد الذي فعلها هو الفنان حينما قلدهم أسلحة الحرب, و صاغهم حركات استعراضية, لكنها ليست هجومية على اية حال. هو اكتفى بتقليدهم السلاح لينسخهم شخوصا جديدة, مغايرة لشخصياتهم الحقيقة. فهل الحرب إلا استنساخا لبيادق قابلة للإبادة ليس إلا..
سعى الفنان في عمله هذا لأحداث فعل الصدمة, وهو فعل من أفعال ما بعد الحداثة. كما تعارض وارث النحت العراقي الحداثي. وبصياغة واقعية شعبية ( بوب ), تذكرني بالمنحوتات الصينية الواقعية الاشتراكية. وكان الفنان صائبا في اختياره فريق عمل صيني في التنفيذ. ومنحوتاته هذه اقرب لأشكال المنحوتات الشعبية. لكن بصيغة سياسية افتراضية. والافتراض هنا أيضا هو الأخر من أفعال ما بعد الحداثة, كونه يحمل صفة اغترابه.

يبدو أن بوادر جيل فني عراقي جديد تتشكل رؤاه ضمن مفهوم الفوضى الخلاقة التي من تداعياتها فقدان الكثير من مفردات السلوك الاجتماعي السابق لأزمنة الحرب والحصار. مثلما هو حاصل في مفردات اللغة الشعبية الجديدة التي تسللت للخطاب الشعبي, والتي هي من مبتكرات ضرورات السلوك المستجد ضمن ظروف غير إنسانية يسودها الشك وانتهاز الفرص وانعدام الضوابط الخلقية. اختلاط المفاهيم ضمن هذه الفوضى, أدى إلى النتائج التي عالجها مشروع النحت هذا.







النقائض وحدها كما يرى الفنان هي التي تسود. فماذا لو تسنم كل من شخوصه المختارة سلاحا حقيقيا وانضم لجوقة الحرب. ربما كانوا في صف المحررين, وربما تحولوا لصف الإرهابيين. اليس نحن من نخلق الإرهاب وننميه. ومن ثم نسعى للقضاء عليه, أو على آثاره. فمن يحزر من منا هو المشروع الإرهابي القادم. ما دام الإرهاب مصطلحا ما بعد حداثيا متداولا عالميا. فلنتصور هؤلاء المختارين إرهابيين. فهل تصح معادلة العيش بسلام واردة. أم بات اليأس ينخر نفوسنا. الم تطلق ما بعد الحداثة العولمية السياسية وأجهزتها الثقافية رصاصتها الأخيرة على ما تبقى من مفاهيم الحداثة الإنسانية. بعد أن فككت منظومتها الفكرية والفنية, وعبثت بها على هواها. فان كان الفنان طليعيا في العصر الحداثي. فانه تحول الآن إلى مجرد فرد مؤدي ضمن ملايين الأفراد. وبات متشيئا ضمن أشياء أخرى لا تعد. لكن درس الحداثة لم ينقطع كليا, بقدر كونه تفكك لمفاصل عدة, أحيانا جرى بعثرتها. وأحيانا أخرى إعادتها بطرق وأساليب جديدة, ضمن جدة الأشياء الأخرى. ويحق لنا ان نطلق على المعاصرة حداثة متأخرة. فلكل زمن حداثة وتحديث. والعصر كلمة زئبقية لا ثبات لها.

20ـ03ـ2014

هامش :
1- Swedish sculptor Carl Fredrik Reutersward in 1980: "knotted gun "