شيزوفرينيا
عربية
انفصامية الانسان العربي بين ماضيه وحاضره
وليد خالد أحمد حسن
يشكل
الماضي قيمة هامة في حياة الإنسان ، فهو المحرك الأساسي الذي يدفعه إلى الحاضر
ويأخذ بيده إلى المستقبل . لذلك ، تشكل العلاقة بين الماضي والمستقبل قضية هامة
برغم قدم طرحها ، حيث احتلت حيزاً بارزاً
ومتقدماً في مواجهة الاهتمامات والقضايا المحورية التي تتركز عليها وتدور حولها
أحاديث المثقفين العرب وكتاباتهم . حيث يتواصل البحث فيها والحوار حولها تحت
عناوين متنوعة ، كالأصالة والمعاصرة ، والقدم والحداثة ، والتقليد والتجديد ، وما
شابه ذلك من عناوين هي بمثابة تقاسيم على وتر واحد.
مع
أن هذه المسألة قد طرحت منذ عقود ، وكثر فيها الجدل والنقاش ، الأمر الذي افقدها
مقداراً من ألقها وجدتها وربما جديتها أيضاً . فأننا نجدها بين حين وآخر تقفز من جديد إلى موقعها البارز والمتقدم في
صالونات الأدب ومنابر الفكر العربيين ، فتتصدر محاور الاهتمام الفكرية في الساحات
العربية مشرقاً ومغرباً.
ولقد بات واضحاً ، أن
المناقشات الطويلة التي جرت بشأن هذه القضية قد أسفرت عن تبلور ثلاثة مواقف أساسية
تجاه الماضي تتراوح بين التعصب له والتعصب عليه مروراً بالنظرة الموضوعية أو
القريبة من الموضوعية ، وهي النظرة التي لاتضفي على الماضي طابع التقديس والتزكية
المطلقة ، لكنها في الوقت نفسه لاترشقه بسهام الرفض والاستعلاء وإنما هي تدعو إلى
دراسته وتقويمه للكشف عما فيه من جوانب الإيجاب والسلب ومعرفة ثوابته وتحولاته .
أما
العبء الواقع علينا في التعامل مع هذه المواقف ينحصر في ضرورة الوعي بخصائصها
وبإبعاد الصراع الإيديولوجي بينها . لأن علاقتنا بها ستتحول إلى علاقة تصديق غيبي
إذا تخلينا عن وعينا النقدي في التعامل معها . وهذا الأمر سيتطلب منا مستوى
متقدماً من الوعي يحمل في مضمونه أسئلة تتمحور حول الإشكاليات التي يضج بها واقعنا
العربي . وضمن هذا السياق العربي سنتجنب التسليم بكل ماجاء بها ، وسنجعل بالتالي
وعينا جدلياً قائماً على الحوار والفعل كي لاتكون ضحية من ضحايا الأفكار المدسوسة
التي تغلف بعضها .
ولنبدأ
أولاً من علاقة أية أمة في الحاضر بماضيها . هل الماضي يشكل ثقلاً على ظهر أية
حضارة أم العكس ؟ هل ماضي الأمة وعمق هذا الماضي يؤديان إلى إغناء الحاضر ؟ وهل
نحن العرب نتعامل مع الماضي باعتباره تعويضاً عن الحاضر ؟
لنتخذ
من هذه التساؤلات مبرراً عاماً لمناقشة نقطة في غاية الأهمية :- انفصامية الإنسان
العربي أو بمعنى آخر ، حيرة هذا الإنسان بين ماضيه وحاضره، مع محاولة أن نجمع
حولها بعض الظواهر الأساسية التي يعيش فيها الآن .
لنأخذ
أوربا على سبيل المثال ، والتقدم الذي شهدته ، وكيفية موازنتها بين التكنولوجيا
المعاصرة وماضيها وتقاليدها في كل أوجه حياتها اليومية ، على الرغم من ماضيها
وإنجازاته الرائعة على مدى أكثر من عشرة قرون وفي ميادين متعددة جداً . ومع ذلك ،
لاأعتقد أن الأوربي المعاصر يعيش في ماضيه ومعه أو تجمعه بماضيه العلاقة ذاتها
التي تجمع الإنسان العربي بماضيه .
إن
هذه المسالة طالما أثارت نقاشاً عميقاً بين مثقفينا ، وعليه ، فإن هذه النقطة تعد
أساسية ، ومنها نستطيع أن نعالج مشكلة موقفنا من الماضي ، مشكلة عدم مواجهتنا
للحاضر بشكل مباشر ورغبتنا الدائمة في التهرب من هذا الحاضر، في سبيل الاجترار
المستمر لأمجاد ماضيه ، حيث نتصور أنها ستعوضنا عن قصر الحاضر وفراغه .
إن
هذا الصراع الفكري الذي يمزق شخصية الإنسان العربي ويصيبها بالفصام والقلق
والاغتراب النفسي نتيجة لثنائية مصطنعه بين المثال والواقع ، وبين حياة الإنسان
الروحية وحياته المادية ، الأمر الذي يحملنا على القول :- إن الكثيرين من العرب هم
حالياً في واقع الأمر ، الصورة الجامدة السطحية للحضارة العربية الإسلامية التي
يحيونها من الخارج لا من الداخل ، كما أنهم الصورة الباهتة الشوهاء للحضارة
الغربية الحديثة التي يستهلكون قشورها دون جوهرها ، إنهم حيارى ، مبتوروا الجذور ،
فلاهم مع جوهر التراث الماضي ولاهم مع روح العصر ، وليسوا بقادرين على استشراف
آفاق المستقبل .
لذلك
نرى ، أن علاقة الإنسان العربي بماضيه علاقة غير طبيعية ، وهذه العلاقة تنحصر في
أن الماضي يريد أن يحل محل الحاضر في ذهن الإنسان العربي . وفي رأيي أن مختلف
التيارات التي تسيطر على الوطن العربي اليوم وتتحكم في توجهه ، أو بمعنى آخر ، بعض
فئاته خصوصاً الدعوات السلفية التي ظهرت لتقتلع كل شيء ، وابرز أسباب ظهورها بهذا
الشكل القوي هو فشل المشروع النهضوي الحضاري العربي ذي السمات القومية . وهذه
الدعوات لاتريد أن تحل هذه المشكلة حلاً حقيقياً ، بل ربما وجدت لها مصلحة أساسية
في بقاء هذه العلاقة التي قد نعتبرها علاقة مرضية بين الماضي والحاضر .
ولكن
، ألم نجد بين تجارب الشعوب ما نجح منها في الاستفادة من الماضي وتطويعه في سبيل
التقدم؟ أليس من الممكن أن يكون هناك مجال للاستفادة من تلك التجارب ؟
اعتقد
أن هناك علاقة وثيقة بين الماضي والحاضر والمستقبل ولايمكن بتر المراحل عن بعضها
بشكل قسري . وهناك فارق كبير بين من يدعو للعودة إلى الماضي والتقوقع فيه وبين من
يدعو إلى الاستفادة من ايجابيات الماضي وإلغاء سلبياته .
في
تصوري ، أن مسألة الموقف من الماضي تحكمها أو تحسمها قضية التطور الاقتصادي
والاجتماعي التي يمر بها المجتمع ، لأنه كلما كان المجتمع متخلفاً كان حنينه إلى
الماضي كبيراً خاصة إذا كان طريق التطور إمامه غير واضح المعالم .
أما
إذا اندفع المجتمع على طريق التقدم الاقتصادي والاجتماعي ، فاعتقد أن علاقة
الإنسان بماضيه وحضارته القديمة تصبح علاقة حميمية وجدلية . بمعنى انه يعتبر بهذا
الماضي دون أن يجعله متحكماً في حاضره وفي مسار مستقبله ، فيأخذ من هذا الماضي ما
يفيد الحاضر وربما ما يفيد المستقبل .
فمما
لاشك فيه ، أن الماضي يصبح عبئاً ثقيلاً على الشعوب إذا لم تعرف كيف تدمجه دمجاً
وثيقاً بالحاضر والمستقبل ، وإذا لم تحسن تجديده لتبقيه حياً متحركاً يملك
الديناميكية اللازمة للتفاعل مع العصر والتفاعل مع المستقبل . لكن لابد من الإجابة
على السؤال التالي :- لماذا هذا الحنين الخاص الذي يكنّه العرب لماضيهم ؟
لابد
أن نذكر ، بأن العودة إلى الماضي في مرحلة من مراحل حياتنا العربية اضطلعت بدور
الحفاظ على الذات العربية وعلى الهوية ، ولاسيما في مرحلة الاستعمار حيث مثلت
بسببه عاملاً ايجابياً متمثلاً في الحفاظ على الذات والحفاظ على الهوية وعدم
الذوبان في ثقافات الآخرين وفي ثقافة المستعمر بوجه خاص .
كان
هذا التصرف حذراً مفروضاً على العرب في مرحلة ما . غير أن هذه الظروف زالت وأصبح
العربي يواجه ظروفاً جديدة ، لكننا ما نزال إلى حد ما في الموقف نفسه فيما يتصل
بارتباطنا بالماضي والحنين إليه .
صحيح
أن الصيغ تغيرت ولكن هنالك غزواً ثقافياً وبالتالي هنالك حاجة إلى تأكيد هوية
ثقافية لأنها هي المحافظة في النهاية على كرامة الشعوب وذاتيتها ، وهي التي تحول
بينها وبين الذوبان ، لاسيما إننا أمام تقدم علمي وتكنولوجي يغزونا شئنا أم أبينا
، وهذا التقدم يحمل قيماً هي قيم المجتمع الذي أنتجها .
والتقدم
العلمي والتكنولوجي ليس حيادياً ، إذن لابد من هويتنا الذاتية ، وموضوع الهوية
مايزال مفتوحاً ، ولكن ينبغي أن يطرح بعبارات جديدة تتلخص في نظري في النقطة الآتية
:-
لايعني تأكيد الهوية العودة حرفياً إلى
شكل من إشكال الماضي وتفاصيله ولاسيما أن الماضي ممتد وواسع وهو مجموعة من المواضي
وليس ماضياً واحداً. ولكننا بحاجة إلى صيغة جديدة . ومعنى ذلك ، أن الحل لايكمن في
الرجوع إلى أي شكل حرفي من إشكال الماضي ، وان كان يكمن في أن نستمد كثيراً من
القيم والمبادئ والتجارب والخبرات التي علمنا إياها هذا الماضي ، وان ندرسها
ونحللها. والحل يكمن في أن ندرك حقيقة أساسية ، وهي أن الثقافة أو الهوية الثقافية
تتحقق عندما نبني ثقافتنا – واقصد الثقافة في المعنى الواسع للكلمة – بذاتها وبأيدينا
.
هذه
هي الثقافة الذاتية التي تحقق الهوية ، والثقافة التي تحقق الهوية ليست مجرد ثقافة
تعود إلى شكل من أشكال الماضي . الثقافة الذاتية التي تحقق هويتنا هي تلك التي
نبنيها بناءاً جديداً من عناصر جديدة ، ولابد أن تكون مركباً جديداً فيه من الماضي
وفيه من الحاضر والمستقبل ومن تجربة العصر . وهذه الصيغة التي نتبناها مشروعاً
لمستقبلنا ولحضارتنا ، هي هويتنا في نهاية الأمر .
أعتقد
أن مسألة الهوية مشكلة زائفة استدرجنا إليها احتجاجنا ضد الغرب لأنها لاتعني سوى
الوجود في مقابل الأخر ، فكان الأساس هو الأخر ، وكيف اثبت نفسي إزاءه . والواقع
إننا لسنا في حاجة إلى إثبات هويتنا أولاً لأننا نحملها دائماً .
إذن
، لابد أن تحدث ثورة ، وهذه الثورة مرتبطة بالتفكير ، وهذا يقودنا إلى نمط التفكير
العلمي ودور المثقف فيه وبالتالي التبعية المضروبة حول المثقف ونوعية العلم وما
تقدمه مؤسساته الأساسية .
إن
الإنسان كما هو معروف ، هو المركز الأساسي للتغيير الاجتماعي ، ومركز التغيير في
الإنسان هو المعرفة ، وهذه مرتبطة بالمعلومة وبالثورة العلمية، وبالتالي بمؤسسات
الأعلام . وهذه إلى حد كبير – في الوضع العربي الراهن – تدخل في إطار التبعية ، بحيث
لاتخرج عن الإطار المضروب حولها . وهذا يقودنا إلى ما يدور حول التفكير
الميتافيزيقي بالماضي والسلفية وغيره ، وبالتالي الاستمرار في إطار التبعية.
واذا
أردنا خلق تفكير علمي وكسر حاجز الصراعات والتناقضات والتعقيدات ... فإنني أعتقد
إننا نصطدم لامحالة مع السلطة . وهذا
يقودنا إلى السؤال :- مانوع العلاقة بين الثقافة والسلطة ؟ وإذا سرنا في اتجاه هذا
التفكير نستطيع الإجابة على السؤال :- إلى أي مدى يمكننا الاستفادة من تاريخنا ؟
إن المعرفة هي الاستفادة من تجارب
التاريخ ، وهذا يقودنا إلى قضية أساسية مرتبطة بالفكر العلمي والأعلام ، هي قضية
الديمقراطية بممارستها .
إن الثقافة بمعناها الواسع هي أنماط
السلوك المادي والمعنوي السائد في مجتمع من المجتمعات . وهي أهم محرك لحياة
المجتمع وأهم عامل من عوامل تقدمه ، وهي واحدة من مقومات التنمية الاقتصادية
والاجتماعية . لذلك ، ينبغي أن نعتني بالثقافة بهذا المعنى . ولعل هذا أجدى بكثير
من أن نتحدث عن الماضي وان نعتني بدراسة هذه القيم الثقافية ومغالبة ما يحتاج إلى
فعالية ، وعلى التأكيد على مايحتاج إلى تأكيد .
واضح من مجمل ماطرح ، إننا في أوقات
الأزمة السياسية والاقتصادية العاصفة وفي ظل التبعية للعالم الغربي المتقدم
اقتصادياً وتكنولوجياً ، نجد في العودة إلى الماضي نوعاً من الراحة النفسية ونوعاً
من محاولة إغلاق الإذن عما يدور والبحث عن نوع من التطمين الذاتي الخادع للنفس ،
ولكن هذا الخداع لاينكشف إلا بعد تضحيات جسيمة .
والسؤال المطروح الآن هو :- هل العلاقة
بين الماضي والحاضر علاقة توفيقية ؟ هل يمكننا أن نأخذ قليلاً من الماضي وقليلاً
من الحاضر ونمزجهما بنوع من التوليفية في محاولة للخروج من المأزق الحالي ؟ أم هل
سيظل الماضي يسحبنا في اتجاهات الرجعية السلبية ؟
والسؤال
ليس جديداً ، فقد طُرح في القرنين الثالث والرابع الهجريين بشكل واضح جداً ،
وأمامنا تجربة المعتزلة ماثلة . فالقضية المطروحة ليست بالجديدة ، وتاريخنا مليء
بمناقشات مشابهة .