الاثنين، 7 أبريل 2014

قصص قصيرة جداً-عادل كامل

قصص قصيرة جداً


عادل كامل


مقدمة:
قال الجنيد:
     " فقد حكي عن الجنيد انه رأى رجلا ً مصلوبا ً وقد قطعت يداه ورجلاه ولسانه. وعندما استفسر عن سبب ذلك قيل له كان ديدنه السرقة فقطعت يده في السرقة الأولى والأخرى في الثانية، فثابر على السرقة برجليه فقطعتا على التوالي، فاخذ يسرق بلسانه فقطع لسانه، واستمر بالسرقة إلى ان آل به القضاء إلى القتل! آنذاك اقترب منه وقّبله، فقيل له:
ـ تقبل جسد لص مصلوب؟ّ!
ـ إنما أفعل ذلك لثباته!"
وقال الجنيد أيضا ً: " الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة!"
وقال ألنفرّي: " كل جزيئة في الكون موقف"
وقال محي الدين بن عربي: "لا يؤاخذ الجاهل بجهل، فإن جهله له وجه في العلم" وقال أيضا ً:" لا يصح الترادف في العالم، لأن الترادف تكرار وليس في الوجود تكرار"
وقال أبو علي الدقاق: " الإرادة لوعة في الفؤاد، ولدغة في القلب، وغرام في الضمير، وانزعاج في الباطن، ونيران تتأجج في القلوب"



[7]  سعادة/1
 ـ لِم َ، حتى مع نفسك، لا تتكلم؟
ـ وما حاجتي للكلام، وأنا كلما تقدمت في المسافة، أراها تدعوني إليها.
[8] سعادة/2
ـ ما الهدف الذي تسعى إليه ؟
ـ لست أنا من يخبرك به. أنا، يا صديقي لم تعد الكلمات تصل  ذروتها، إلا واراها  تأخذني إلى البعيد. فأنا لم اعد ابحث عن السعادة كي أجدها، ولم اتركها كي تتوارى، فانا سعيد بأنني ذاهب إليها، مثلما هي معي أبدا ً..!
ـ لكن لا احد يعرف ذلك؟
ـ أذهب وأسأل السعادة: من أنت؟ أنا لا اعرف إجابتها، طبعا ً، أنا اعرف أنني غير آسف على ما مضى، ما دمت كلما توغلت في الدرب، أجده يدعوني إليه.
[9] سعادة/3
ـ أخبرني، هل عثرت على ما تريد ..؟
ـ تقصد، هل متُ..؟
ـ بل أراك غير مكترث حتى لموتك.
ـ لأنه وحده يمتلك الإجابة التي لم انشغل بها.
ـ بماذا انشغلت إذا ً ..؟
ـ لم انشغل بالحياة، كما تظن، أكثر من انشغالي بهذا الذي لم يدعني اكف عنه: فانا أينما ذهبت أجد أنني تقدمت خطوة، وكلما تقدمت خطوة، أرى إنها تكمل المسافة التي لا أنا ـ ولا أنت ـ باستطاعته ان يضع خاتمة لها.
[10] سعادة/4
ـ هل حقا ً الأقوى وحده المنتصر..؟
ـ لا..
ـ هل هو الخاسر..؟
ـ أنا لم اقل ذلك..
ـ من المنتصر، في نهاية المطاف، إذا ً..؟
ـ مادام الطريق ابعد من سالكيه، فلا خاسر، ولا منتصر، لأن الطريق هو، يا صديقي إن لم تره، رآك، وإن لم يحصل ذلك، فأنت تكون خسرتك حياتك، وخسرت خسائرك أيضا ً، وما نصرك إلا هو الجنازة التي عليك ان تمشي فيها.
[11] سعادة/ 5
ـ ألا يخفق قلبك لأحد ..؟
ـ ألا يكفي انه لم يتوقف عن الخفقان!
[12] ألوان
   لم يعثر على جدار له لون مختلف عن الآخر، فالسماء، هي الأخرى، رآها مثل الأزقة، والأشجار، والناس، لها اللون ذاته: ومضات تملأ الفضاء. فارتبك، ولم يصدق، فسأل احد المارة:
ـ هل حقا ً لا يوجد إلا هذا اللون المشع بهذه الومضات البلورية، في مدينتكم البيضاء..؟
   ابتسم الآخر، وسأله:
ـ من أين جئت..؟
ـ من بلاد الشمس.
ـ آ ...ه، ما أسعدك!
ـ عن أية سعادة تتحدث..؟
ـ عن السعادة التي تركتها وجئت تبحث عن سواها!
وأضاف الآخر:
ـ حدق جيدا ً...، لأنك سترى ما لا يحصى من الألوان، أمامك، وخلفك، وفوقك، وتحت بصرك، إن أحصيتها، فلا نهاية لعددها.
    لم يخبره انه أمضى سنوات طويلة في بلاد الشمس، حتى غدا، كلما نظر، لا يرى إلا الرمال، والتراب، والرماد، والآن ـ قال للآخر بصوت خفيض ـ: على أن أرى اللون الذي توجد فيه الألوان كافة، قبل ان افقد بصري، كي أعود ولا أرى إلا الرمال والتراب والرماد..!
[13] رحلة
      بانتظار الطائرة التي ستعيده إلى المدينة التي قدم منها، كان يتابع، بشرود، هبوط الطائرات، وإقلاعها، ليقول لنفسه: ليس لدي ّ ما آسف عليه، عدا إنها كانت رحلة وجيزة. 

الأحد، 6 أبريل 2014

الغضنفري يلتحق بقافلة رجال الشمس- د. سيّار الجميل


Today
at 10:53 PM


الغضنفري يلتحق
بقافلة رجال الشمس

د. سيّار الجميل


غادرنا دون رجعة
، اثر اغتيال غادر اثيم ، الصديق العزيز ابن الموصل الحدباء الاعلامي العراقي المتميز
الاستاذ واثق الغضنفري ، اذ استشهد مقتولا بالرصاص قرب جامعة الموصل عصر يوم 27 آذار
/ مارس 2014 ، ليلحق بقافلة الراحلين العراقيين الابرار الذين سبقوه الى دار الخلود
. لقد قتل غيلة وغدرا من دون أي ذنب اقترفه ، ولا أي جرم قام به سوى تميزّه كمثقف وكاتب
اعلامي هادئ صبور حليم متواضع ، خدم مدينته وبلاده على مدى سنوات وهو يعّرف بتراث اهله
العراقيين ومجتمعهم وقيمهم وشيمهم ، وقد نشر العديد من المقالات في الصحف .. وكان ملتصقا
ببيئته ومدينته ام الربيعين ، يتنّقل بين ازقتها ، ويعّرف العالم ببيوتاتها وتواريخها
ومعمارها واهلها القدماء ، اذ كان يقّدم برامجه الوثائقية والتسجيلية والميدانية من
كل من قناتي الموصلية وسما الموصل . ولقد اجاد كثيرا في نقل الصورة التعبيرية عن التراث
اذ كنت ولم ازل اعده من الاعلاميين العراقيين القلائل الذين امتازوا بالتصاقهم بمحلياتهم
وبيئاتهم ، فكان مثقفا عضويا له قوة

ارتباطه بمجتمعه
الذي نجح في توصيف جوانب حية من اصالته وقوة ابداعاته ومواريثه الخصبة .


يقول الاخ لقمان
الشيخ في مقال له بعنوان " قناة الموصلية الفضائية كادت أن تكون الضحية ..!!
" : " وبرامج أتابعها واسعد بها عن تاريخ وذكريات يسجلها ويقدمها السيد واثق
ممدوح الغضنفري الذي يتطرق إلى أحداث وعادات يمثلها المجتمع الموصلي , بلهجة مدينتنا
الذي هي طابع خاص بنا.. وكان ألمي وأسفي على فقدان كادر شاب , كان يصعد بنجاح وتفوق
في طريقة عرضه ولقاءه مع جمهور الموصل الذي أحبه واعتز بتفوقه , هو الشاب ( مازن البغدادي
) الذي اغتالته يد آثمة , لا سبب آو ذنب ارتكبه , سوى عداء الإرهاب لكل مظهر وعمل يغاير
سلوكه لتقدم و نجاح أي شكل " !


واثق ممدوح الغضنفري
ولد بالموصل عام 1962 ، وهو سليل اسرة موصلية قديمة معروفة ، ويقول المؤرخ ازهر العبيدي
في موسوعته عن عوائل الموصل قائلا عن اسرة الغضنفري : " الغضنفري : نسبة إلى لقب
" غضنفر " الذي أطلقه العثمانيون على أحد أجدادهم لشجاعته . ويقال انّه من
ألقاب جدّهم مالك الأشتر النخعي الذي يرجعون في أصلهم إليه . عرف أبناء هذه الأسرة
بشغلهم المناصب الإدارية المهمة منهم إبراهيم كمال احمد الوزير في العهد الملكي واللواء
ياسين حسن نائب قائد القوات العراقية في حرب فلسطين 1948 .. " وغيرهم من الرجال
المعروفين .


لقد نشأ الفقيد
في مدينة الموصل ودرس في مدارسها الابتدائية والثانوية ، وحصل على غرار اترابه في جامعة
الموصل على شهادة الباكالوريوس في الادب الإنكليزي عام 1983م ، ولم يكتف بها ، بل ثابر
لاحقا ، وحصل على شهادة الباكالوريوس في القانون عام 2000م. وعانى واثق على غرار ابناء
جيله من السنوات العجاف ، أي سنوات الحروب والحصار ، وقد عرف بين اصدقائه بأمانته ،
وصراحته ، وطيب روحه ، وسرعة بديهيته ، وحسن معشره ، وخفة ظله .. وقد عرف في السنوات
الاخيرة بتقديمه برامجه التلفزيونية الناجحة التي نالت اعجاب الناس ، اذ خصصها في التعريف
بتراث الموصل وتقديمه لها باللهجة الموصلية المحببة التي تمتاز يخصوصيتها ، وقد نجح
في ايصال رسالته باسلوب سهل المذاق وببساطة الالقاء ، وسحر المحتوى .. فضلا عن امانته
في نقل النصوص ، اذ كان يؤدي الامانات الى اهلها ، فان اخذ من كتاب يذكر صاحبه ، وان
ساعده مؤلف او مؤرخ او اديب او أي مثقف .. فهو لا ينسى ذكره ابدا على عكس غيره من الاعلاميين
الذين يستنسخون موادا وينسبونها الى انفسهم وهم يلقونها على الناس !


عرفت الفقيد منذ
سنين ، وكان دائم الصلة بي تلفونيا ، فعرفت فيه الوفاء والاخلاص والتواضع وكل الطيبة
.. وقد حدثني في المرة الاخيرة قبل قرابة اسبوعين وكان يكلمني تلفونيا بصحبة الاخ الاستاذ
محمد الجليلي ، وطلب مني تزويده ببعض المعلومات التاريخية عن الموصل ابان القرن الثامن
عشر على عهد انتصارها العظيم على جيوش نادرشاه الغازية اثر الحصار التاريخي الذي فرضته
عام 1743 ، وطلب تزويده بصور وبعض الخرائط القديمة للموصل على وجه السرعة كي يبدأ تصوير
برنامج من حلقات تحت اسم " رجال الشمس " يستعيد من خلاله ذكرى الايام الخالدة
للموصل في انتصارها على اجتياح جيوش نادرشاه العراق ، وكان ذلك البرنامج حلم واثق منذ
زمن طويل .. فأرسلتها له ، ولقد طلبت منه امانة ، وبشكل شخصي ، ان يحترس ، واوصيته
ان يأخذ حذره من الاثمين .. فأجابني – رحمه الله - " لنا الله ... " قلت
له : حرسك الله ، فشكرني وكانت اخر كلماته لي انه سيعمل على احياء روح البطولة في استعادته
ذكرى انتصار الموصل ضد نادرشاه ، وحثّني على اعادة اصدار طبعات اخرى من كتابي عن ذلك
الحصار الرهيب والذي كنت قد نشرته قبل خمس وعشرين سنة !


علينا ان نتساءل
: لماذا قتلوا واثق الغضنفري اذن ؟ ومن كان وراء تصفيته ؟ ومن ذا الذي له مصلحة ليس
في القضاء عليه حسب ، بل في استئصال كلّ مثقف جاد ، او اعلامي متميز ؟ ولماذا لحق واثق
بقافلة الراحلين من رجال الشمس ؟ ربما يقول البعض ، بأن حاله حال الاخرين من الضحايا
العراقيين الذين قضوا وتمت تصفيتهم منذ اكثر من عشر سنوات .. وربما يخاف البعض عن اعلان
موقفه خشية الحالة المأزومة التي يمر بها العراق . ولكن اغتيال واثق ما هو الا هدف
قصد الى تحقيقه اولئك الذين ارادوا كتم صوته الى الابد ومن اجل اغتيال الحلم الذي يحمله
واثق .. لا شيء آخر ، فهم يدركون ادراكا حقيقيا ، ان تأثير استعادة ذكرى رجال الشمس
وتداعياته سيكون كبيرا على كل العراقيين .. لقد رحل واثق قبل اوانه ، وقبل ان يحقق
حلمه ، ولا ادري ان كان قد بدأ بتسجيل اية حلقة من حلقات " رجال الشمس "
! ؟ اكثر من عشر سنوات والعراق يخسر خيرة ابنائه ورجاله ونسوته من دون أي علاج .. اكثر
من عشر سنوات ، ومشروع القتل والتهجير والاقصاء والاغتيالات والقمع يجري تحت مسمع ومشهد
حكومة عاجزة ، والبعض يتهمها بالضلوع او السكوت على ما يجري ..


ان قتل واثق بمثل
هذه الطريقة ضمن الطرق المتعددة المستخدمة في قتل العراقيين وراءها اسباب ربما سياسية
، لم يشعر بها الفقيد ، او طائفية لم يعر أي اهتمام لها ، وربما جهوية وتاريخية ، فلقد
ازداد خصوم اهل الموصل هذه الايام نظرا للدور البطولي الذي وقفته الموصل ضد الغزاة
على امتداد زمن طويل . ولقد عانى اهل الموصل كثيرا منذ الايام الاولى بعد الاحتلال
الامريكي ، وما زالوا يعانون من فقدان الامن ومن هيمنة العصابات ومن سوء تعامل افراد
الجيش مع الناس في الشوارع والاسواق وعلى الجسور وعند البوابات وفي المحال والمحلات
وفي الاحياء وكل المؤسسات .. وتعيش كل من المدينة واطرافها في كل المحافظة حالة يرثى
لها من الاهتراءات وكل الانقسامات .. ولم تلح في الافق اية بوادر استقرار . ولا أي
تقدم على مستوى الخدمات . ولقد عاشت الموصل على امتداد التاريخ الاسلامي ، وهي لا تعرف
أي معنى للطائفية ، ولكنها اقحمت في مجاله اثر عام 2003 من دون مبرر .


وأخيرا ، عتبنا
كبير جدا على وسائل الاعلام العراقية المختلفة والتي لم تهتم ابدا بالمصرع المأساوي
للشهيد واثق مقارنة باهتمامها بغيره .. وكأنه ليس زميلا اعلاميا عراقيا فقده العراق
بعد ان كان قد خدمه بكل حرص وامانة واخلاص ، ودفع حياته ثمنا لحرية شعبه ورقي ابنائه
ما هذا التصّرف ؟ ما هذه الازدواجية ؟ وهل هو مجرد اهمال ، ام انه تجاهل عن قصد ؟ اننا
اذ نؤبن الصديق الشهيد واثق الغضنفري ورحيله عنا ظلما وعدوانا .. فإننا نعلن عن تنديدنا
الصارخ بقتل هذا الرجل وقتل كل ابناء العراق ، ونطالب بالتحقيق في قتله والوصول الى
القتلة لمعرفة من يكونوا ومن يستتر من ورائهم للقضاء ليس على الغضنفري ، بل لإسكات
صوته ، ومحوه بإغلاق الابواب على رجال الشمس .. ولكن صوته سوف لن يموت ابدا ، وسيحمل
الراية غيره من رجال الشمس الذين ستلدهم ام الربيعين آجلا ام عاجلا .. رحم الله الفقيد
الشهيد ، واعان عائلته الكريمة واولاده الصغار ، واسكنه فسيح جنانه وانا لله وانا اليه
راجعون
]
--

قصص قصيرة جداً-عادل كامل

قصص قصيرة جداً


عادل كامل


مقدمة:
قال الجنيد:
     " فقد حكي عن الجنيد انه رأى رجلا ً مصلوبا ً وقد قطعت يداه ورجلاه ولسانه. وعندما استفسر عن سبب ذلك قيل له كان ديدنه السرقة فقطعت يده في السرقة الأولى والأخرى في الثانية، فثابر على السرقة برجليه فقطعتا على التوالي، فاخذ يسرق بلسانه فقطع لسانه، واستمر بالسرقة إلى ان آل به القضاء إلى القتل! آنذاك اقترب منه وقّبله، فقيل له:
ـ تقبل جسد لص مصلوب؟ّ!
ـ إنما أفعل ذلك لثباته!"
وقال الجنيد أيضا ً: " الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة!"
وقال ألنفرّي: " كل جزيئة في الكون موقف"
وقال محي الدين بن عربي: "لا يؤاخذ الجاهل بجهل، فإن جهله له وجه في العلم" وقال أيضا ً:" لا يصح الترادف في العالم، لأن الترادف تكرار وليس في الوجود تكرار"
وقال أبو علي الدقاق: " الإرادة لوعة في الفؤاد، ولدغة في القلب، وغرام في الضمير، وانزعاج في الباطن، ونيران تتأجج في القلوب"







 [1] وشاية
     انج بجلدك. ولكنه، بعد تخيَل ما سيحدث له، تسمر. صرخ الراعي: أمش. فعاد يستمع إلى صوت زميله في القطيع: إن غادرت أكلتك الذئاب، وإذا نجوت منها فستعيدك الكلاب إلينا، كي تنتظر موسم جز الصوف، من ثم الذهاب إلى المسلخ. إنج بجلدك. ليجد انه كلما تقدم مع القطيع، اقترب من النهاية.
   فقال الكاتب يخاطب ذاته: ما ـ هو ـ مصير هذه الكلمات. أجاب بلامبالاة: لا احد يسمعك، ولا احد يريد ان يصغي إليك، ومصير كلماتك كمصير خروفك، إن مكث، أو غادر، فقد وجد كي يهلك.
    رفع رأسه وشاهد ـ عبر الشاشة ـ المجازر البشرية: إن صمتوا تموت الكلمات في قلوبهم، وإن تكلموا، تسفك دمائهم في الشوارع. فترك أصابعه تدّون: عليك ان لا تدع المدية تعمل في قلبك، بل دعها تعمل في قلب الجزار.
   سمع الآخر يهمس في آذنه: ها أنت تحرض على العصيان، وتدعوا إلى العنف!
ـ أنا، أنا اصف ما رأيت، ولكن من أخبرك؟
ـ كلماتك أوشت بك.

[2] المدينة البيضاء
   عندما دخل إلى المدينة البيضاء، لم يجد القدرة على النطق، كانت نظراته شاردة، يبحث عن آخر يرشده. فاقترب احد المارة منه وسأله: هل تبحث عن مكان، أو عن احد ما ..؟
   لم يخبره انه فر من العاصفة التي ضربت مدينته، وحولت النهار إلى ليل، وانه لا يعرف ما الذي حل بها، ولم يجد الشجاعة كي يخبره كيف بدأت الريح باقتلاع الأشجار، وهدم المنازل، وكيف خربت المدينة، وتم احتلالها من الغرباء، واللصوص، والقتلة.
     أعاد رجل المدينة البيضاء السؤال عليه: هل ترغب بمساعدة..؟
  لم ينطق، لأنه كان يود ان يحذره من اقتراب العاصفة، وما ستحدثه في المدينة البيضاء، ابتسم الآخر، وقال: علمت، يا سيدي، ما دار بخلدك.
  مازالت الكلمات غائبة عنه، وعندما بحث عن فمه، لم يجده. كان البياض يمتد من الصفر إلى المطلق، ومن المطلق إلى الصفر، إنما أراد ان يخبر رجل المدينة البيضاء انه.....، يود ان يحدثه عما رأى، وشاهد، في مدينته، ويحذره من اقتراب العاصفة. فقال الآخر: قرأت ما دار بخاطرك، يا سيدي، فلا تأسف ان الحكمة لم تأت إلا بعد فوات الأوان، بل ـ ولا تأسف ـ حتى إن جاءت قبل أوانها، بل ولا تأسف حتى لو لم تأت أبدا ً، إنما دع عنك الأسف، وأنت تفكر كيف لا تدع العتمة تتسلل إلى البياض، بعد ان أدركت انك كلما تقدمت في المسافة ضاق الطريق، وكلما اشتد المصاب اقترب الفرج. رباه هذا ما كانوا يقولونه لنا. فقال الآخر: لا تموت المدن إلا عندما لا تجد من يحمل سرها، وإذا كان البياض بهرك، في مدنيتنا، وأعاد لك رشدك، فعد إلى مدينتك واخبر سكانها بما رأيت، لأن الثبات هو باب الحكمة، ولغزها.
[3] مساحات
   نظر إلى أصابعه، وهي تترك، فوق الورقة، بقعا ً شبيهة بكائنات مجهرية، ثم بدت له كسرب طيور، سود، تعبر من اليمين إلى اليسار، ومن حافة الورقة إلى الفضاء ...،فاستعاد، في لمحة، كيف كان يهرول، في ذات يوم، في حلقة دائرية، في مدرسة القرية، وكيف توارى المشهد، وغاب.
     رفع رأسه قليلا ً وشاهد أشعة الشمس تأتي من وراء الغيوم وتسقط فوق الورقة، ليرى الكلمات تحولت إلى كائنات بيضاء لها أجنحة وهي تحّوم في فضاء الغرفة ..
 عندما نظر إلى أصابعه، مرة ثانية، رآها تغيب، فكف عن الكتابة، ومن غير مقاومة، ترك جسده يرحل، غير آسف، انه لم يترك إلا مساحة بيضاء خالية من السواد.
[4] صوت
    وهو شارد الذهن يتأمل جدران المدينة البيضاء، وأزقتها، رفع بصره عاليا ً، والى الجهات كافة، مصغيا ً إلى صوت امرأة تستجدي. لم يجد لديه ما يلبي طلبها، آنذاك كاد البياض يتوارى، لولا  انه سمع الصوت مرة ثانية: أنا لم اطلب منك إلا ان ترى المشهد كاملا ً.
[5] حلم
  تذكر كلمات صديقه، وهو يصل إلى المدينة النائية، انه سوف لا يرى مدينة، ولن يرى أزقة، ولن يرى كائنات بشرية، بل سيستعيد ذكرى تمنحه كل ذلك الذي، في يوم ما، كان يحلم ألا يفقده، ويغيب.
   إنما ابرق إلى صديقه برسالة موجزة يخبره فيها انه لم يستعد حلمه القديم، بل ان الحلم هو الذي لا يعرف من منهما كان جعله يأخذه إلى البعيد.

[6] مودة
   عندما رفع رأسه قليلا ً، أصغى إلى أصوات خفيضة لها لون الفجر، لم ينشغل بالبحث عن الكلمات، وهو يشهد عقد قران ولده، بل دار بخلده، انه اجتاز مسافات طويلة كي لا يتحدث عن الأبواب التي أوصدها، ومكث أسيرها، بل ان يختتم حياته بمقدمات ظن انه لن يراها. كان لا يريد ان يتحدث عن ضوضاء مدينته وصخبها، لأنه وجد انه يمتلك قدرة استعادة مشاهد لا يعرف أهي قادمة من البعيد، أم أنها ذاهبة إليه. فقال لهما همسا ً، انه اذا لم ير سوى الجدران، في حياته، فهذا ليس المشهد، وانه لم يأت للحديث عن هذا، إنما ـ أضاف بمرح ـ كأن الغيوم وحدها تعرف كيف تعيد للأرض أسرارها. إنما علي ّ ان أقول: آن لكما سبر أغوار مسافاتها النائية. 

قصة قصيرة-لن أكون الرقم (9)- د.بلقيس الدوسكي




قصة قصيرة



لن أكون الرقم (9)





د.بلقيس الدوسكي
    جميع الرسائل التي وصلتني منه كانت محض ثرثرة دوّنت فوق الورق. ولم يتسرب منها سطر واحد إلى قلبي. كانت عبارات معدة سلفا ً تخلو من الترابط. بل كأنها هذيان إنسان محموم. ولكن السؤال ليس ها، بل ما علاقة هذه المرأة التي كانت تقوم بنقل الرسائل إلي ّ؟ هل هي أخته أم احد أقاربه..؟ على ان اسألها في المرة القادمة، كي انتهي من هذه الشكوك.
***
ـ لا اعرف يا عزيزتي لماذا لا تجيبي على رسائله؟
ـ لم اقرأ بعد.
ـ أكثر من عشر رسائل ولم تقرأي واحدة منها..؟ 
ـ سأقرأ ها عندما تسنح لي الفرصة، ولكن لدي ّ سؤال أود ان اعرف الرد عليه..
ـ تفضلي.
ـ ما هي علاقتك بهذا الرجل؟
ـ أنا إحدى صديقاته!
ـ واحدة منهن؟
ـ يبدو انه كثير الصديقات...؟ فهل أنت المسؤولة عن إيصال الرسائل إليهن..؟
ـ انه لا يثق بغيري!
ـ وما هو عملك تحديدا ً..؟
ـ لا عمل لدي ّ...، فانا تعرفت عليه عندما رقصت في إحدى حفلات أقاربي وكان هو من المدعوين، فأعجب بي، ثم توطدت علاقتي به.
ـ ولماذا لم يتزوجك..؟
ـ لقد جعلني محض صديقة.
ـ صديقة أم عشيقة...؟
ـ اترك الجواب لك ِ.
***
   مسكينة هذه المرأة، رقصتها البريئة أودت بها إلى هذا المصير، واعتقد إنها أصبحت عشيقة له، وجعل منها وسيلة لاصطياد الأخريات، وخاصة المراهقات منهن، ولكن أين راني وكيف عرف عنواني؟ ولماذا كل هذه الرسائل؟  هل يريد ان يضمني إلى عشيقاته؟ فالرجل لا يعرف انه يفكر في المستحيل، مما دفعني كي أقابله واعرف المزيد عنه.
***
ـ كنت أتوقع مجيئك في هذا اليوم.
ـ اعتذر عن سبب انقطاعي، واليك هذه الرسالة.
ـ أين هو...، وماذا يعمل؟
ـ انه صاحب معمل لخياطة الفساتين، ولديه امرأة مثقفة تشرف على تصميم الأزياء الحديثة.
ـ وهل هو متزوج؟
ـ من يملك هذا العدد من العشيقات كيف يتزوج...؟
ـ كلام جريء وصريح. شكرا ً يا عشيقته الحلوة!
ـ هذا هو قدري!
ـ حسنا ً، أريد ان أقابله، فماذا تقولين..؟
ـ تعالي معي، سيفرح كثيرا ً بهذا اللقاء.
ـ إذا ً، دعيني أهيأ نفسي.  
***
ـ أهلا أهلا ً، نورتي المكان، ما أسعدني بهذه الزيارة.
ـ شكرا ً.
ـ المعمل كله في خدمتك وتحت تصرفك.
ـ شكرا ً لهذا الكرم الجميل!
***
   يا لها من امرأة رائعة الجمال، ولكن كيف اقتنصها...؟ ربما سيطردنا جميعا ً ويحتفظ بها كأجمل عشيقة له في الدنيا. إنها تحفة ثمينة، نادرة، ولا نستطيع ان ننافسها من حيث الرشاقة والأناقة والجمال.
***
ـ بصراحة ...، منذ اليوم الذي رأيتك فيه والى الآن أنا لا أفكر إلا بك ِ!
ـ أين رأيتني..؟
ـ في محل احد أصدقائي الصاغة.
ـ وكيف عرفت عنواني...؟
ـ كنت أقود سيارتي خلف سيارتك، وعرفت العنوان.
ـ ولماذا تفكر في ّ..؟
ـ من باب الإعجاب.
ـ لكن رسائلك تنفي هذا تماما ً..
ـ إذا ...، ليكن الإعجاب حبا ً عنيفا ً.
ـ بصفتي صديقة أم بصفتي عشيقة..؟
ـ اترك لك ِالاختيار، رغم أنني أفضل العشق.
ـ لكن لديك عشيقات كثيرات..؟
ـ سأطردهن جميعا ً من أجلك.
ـ أرى إنهن ينظرن إلي ّ بإعجاب واستغراب.
ـ لأنك تحفة نادرة وآية من آيات الجمال، الأمر الذي يجعلهن ينظرن إليك بدافع الغيرة والحسد.
ـ مسكينات، لكل واحدة منهن ظروفها.
ـ كنت أتمنى ان تردي على رسائلي.
ـ بل جئت إليك برسائلك كلها!


***
أما أنا فلن أكون العشيقة رقم (9). فانا امرأة واعية ومتحررة من الطيش، والابتذال.  

الجمعة، 4 أبريل 2014

غالب المسعودي - الحاجة بربع

في الذكرى الكونية لرحيل جدنا الأكبر حمورابي-كاظم فنجان الحمامي

 Today at 9:43 AM
في الذكرى الكونية لرحيل جدنا الأكبر حمورابي



كاظم فنجان الحمامي

كلما راجعنا النصوص القانونية المنسية لمسلة جدنا الأكبر (حمورابي) نصاب بالذهول والدهشة, وبخاصة في هذه المرحلة التاريخية القلقة, التي نحس فيها بالحاجة إلى الاحتكام إلى العقل والمنطق, والتسلح بهما لتجاوز العقبات الكثيرة, التي تمخضت عن خلافاتنا الداخلية المتجددة, والتي ينبغي أن نبحث لها عن الحلول الناجعة في ظل الدساتير والقواعد والسنن والشرائع السماوية السمحاء.
بيد أن أصحاب العقول المتحجرة, والعاهات الدماغية المستديمة, والنفوس المريضة, عادوا في سلوكهم المنحرف إلى الوراء, فنبذ فريق منهم كتاب الله وراء ظهورهم, حتى استقرت بوصلتهم على شرائع الغاب, بما عُرف عنها من جشع ولؤم وشراهة وأنانية ورعونة ووحشية, فالغاية عندهم تبرر الوسيلة, والسمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة, والبقاء للأقوى والأشرس والأعنف والأكثر فتكا وقسوة.
لقد أصبح العمل السياسي يجري على قدم وساق بقاعدة (انصر أخاك ظالما أو مظلوما), وربما سنكون بأفضل الأحوال لو عدنا إلى تطبيقات الأعراف والشرائع القديمة, التي ورثناها عن أجدادنا البابليين والسومريين والأكديين والكلدانيين والآشوريين, الذين أناروا الطريق للناس منذ انبثاق فجر السلالات البشرية في ربوع الميزوبوتاميا, فلو أخذنا شريعة جدنا الأكبر (حمورابي), التي ظهرت إلى الوجود في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد, لوجدنا أنها تضمنت أحكاما عادلة ومنصفة, واستحقت أن تكون انصع المحطات الإنسانية المعنية بحقوق البشر عبر العصور القديمة وحتى يومنا هذا, وهي التي وضعت الأسس الأولى لمبادئ الحرية والمساواة بين أبناء الشعب من دون استثناء, وأنزلت اشد العقوبات بمن سرق قوت غيره ولم يعترف بسرقته, أو أكل طعام غيره ولم يعترف بذلك, أو استخدم القوة المفرطة, واغتصبت يده ما ليس له, أو نظر نظرة رضا إلى مواطن الشر والظلم, أو بدل الوزن الكبير بالوزن الصغير, وتخطى حدود الأعراف والنظم, ونقض العهود والمواثيق.
تقول إحدى المواد التشريعية في مسلة (حمورابي): ((إذا حكم قاض في قضية, وأصدر حكمه, وكتبه, وتبين فيما بعد أن حكمه كان خاطئاً, وأنه هو المتسبب في ذلك الخطأ, فإنه يدفع ضعف الغرامة, التي فرضها في حكمه بمقدار (12) مرة, ويحرم من ممارسة عمله كقاض)), وربما ستصابون مثلي بالدهشة إذا علمتم أن قوانين (حمورابي) حققت قبل أربعة آلاف سنة تقدما هائلا في تحديد مسئولية الدولة عن الأضرار, التي تصيب مواطنيها, فقد نصت المادة (23) على أن: ((من وقع ضحية السرقة في حالة عدم ضبط الجاني, ولم يستطع استرداد المسروقات, يعوض من قبل أهل المدينة والحاكم, الذي وقعت السرقة على أرضه)),
ولعمري أن هذا النص وحده يعد انجازاً رائعاً ينطوي على قدر كبير من العدالة الاجتماعية, وجاء في نص المادة (250) الحكم التالي: ((إذا نطح ثور رجلاً ما وأماته, فان هذا الحادث لا يستوجب التعويض)), بمعنى أن: (جناية العجماء جِبار), وتقول المادة (195): ((إذا ضرب ولد والده فعليهم أن يقطعوا يد الولد العاق لوالده)). بينما تناولت المواد (197) إلى (200) مواضيع القصاص والمساواة بين الناس, فالعين بالعين (عند حمورابي) والسن بالسن. .
إذا كانت نصوص شريعة (حمورابي) الوثنية البالية العتيقة, الضاربة في عمق التاريخ القديم, أول من أكدت على حقوق الناس, وأول من أرست قواعد العدل والحرية والمساواة, ووفرت الحياة الكريمة لأبناء الرافدين ليدوم عزهم وقوتهم وانتصاراتهم, ووفرت لهم الأمن والأمان والاستقرار, وكانت هي الأطر التشريعية التي صانت صورة المجد والشموخ والرقي في بابل, وسومر, ولكش, ولارسا, وأور, وكيش, وأكد, وكارخينا, والوركاء, وهي التي أضاءت الوجه الحضاري في ربوع الميزوبوتاميا لقرون وقرون على مدى العصور الذهبية التليدة, وإذا كانت هذه هي سنن وشرائع أجدادنا عام 2011 قبل الميلاد, فما الذي يمنعنا من إنزال القصاص العادل بالفاسدين والمخربين والمجرمين والمزورين والمحتالين والغشاشين والمرتشين, من الذين طغوا في البلاد, وأكثروا فيها الفساد, عام 2011 بعد الميلاد ؟. . .

الخميس، 3 أبريل 2014

نص ولوحة(النص للشاعر الشهيد ملا علي واللوحة لغالب المسعودي)



لا تقولو ..
انه نادم من رهبە الموت
.. ایا رفاقي .. حتی لو ما زلتم قدائیین
... فساکون في طلیعتکم..انا اشعر بالحریه
.. امام الموت الذی یسبق اقدامنا...
و وجهي یبتسم من ضحکە الوقوف
 علی عود المشنقه
... هذا الموت الذی یخاف منی ساناچیه ..
اتحداە
 .
. دعوە یاتی الي و یاخذ شکلي....
الشاعر الشهيد ملا علي

الاثنين، 31 مارس 2014

عباس علي العلي - العراق المستقبل وحدة أم خيار التفكيك ج1

بوخة المدراء وفوحة اللبلبي-كاظم فنجان الحمامي

Mar 30 at 10:20 PM
بوخة المدراء وفوحة اللبلبي


كاظم فنجان الحمامي

بداية لابد من تعريف بعض المفردات العراقية الدارجة حتى لا تختلط معانيها المتداخلة مع اللهجات العربية الشائعة, فالبوخة: وأصلها عربي فصيح. قالوا: باخت النار: سكنت وفترت, وقالوا: باخ الرجل وسقم: أعيا ومرض, وباخ النار: أخمدها وأطفئها. بيد أنها في لهجتنا العراقية تعني البخار الخفيف المتسرب من القدور الموضوعة على مواقد الطهي, وغالبا ما نستعيرها للتعبير عن الكذب الصريح, أو للتعبير عن المبالغة المكشوفة, يقولون: فلان يبوّخ, وتعني يكذب, ويبالغ في كلامه.
من المفارقات العجيبة أن كلمة (بوخة) لها معنى آخر في اللهجة الليبية, فهي عندهم نوع من أنواع الخمور المحلية الرخيصة, وتصنع من نقيع الفواكه, ثم يضاف إليها الميثانول, وجاء في لهجتهم: فلان يبوّخ أو مبوّخ, بمعنى: مخمور ويفتري ويثرثر من شدة السكر, ولا علاقة لهذه الكلمة بالسياسي الليبي المتذبذب (سليمان بوخة), وهذا هو اسمه الحقيقي.
أما (الفوحة) فهي في الفصحى مشتقة من (فوح), وتعني انتشار الرائحة. قولهم: فاح يفوح فهو فائح. فاحت القدور: غلت وتطايرت منها الفقاعات من شدة الغليان, وفاح الجرح: نزف, وفاحت رائحة فلان: انتشرت أخباره السيئة.
والفوح في العراق: يعني عصارة الرز المغلي, أو الحساء الناتج من الرز المسلوق, ويعد من أفضل الأغذية التي يتناولها الأطفال في القرى والأرياف والبوادي.
أما اللبلبي: فهو الحمص المسلوق, ويسمونه في الخليج (نِخِّي), ويعد من الأطباق الشهية في موسم الشتاء. تتصاعد أبخرة اللبلبي الفواحة في الصباح الباكر, فتتعالى أصوات الباعة في أزقة الأحياء الشعبية, وهم يرددون نداءاتهم الموروثة: (لبلبي يا لبلوب, يداوي كل القلوب), (اللبلبي يدبي دبي, حار وكواني اللبلبي). وهو من البقوليات, لكنه يختلف عنها عند بلوغه درجة الغليان, إذ تفوح منه الفقاعات المتبخرة لبضعة دقائق فقط, ثم تختفي وتتلاشي على الرغم من استمرار بقاء القدور فوق النار.
من هنا جاء المثل العراقي (فوحة لبلبي) للتعبير عن المشاريع السطحية الكاذبة, ولتشخيص الفعاليات الاجتماعية الزائفة, أو لتصوير خيبة الأمل المتمخضة عن المواقف السياسية الزئبقية. يقولون: أن تصريحات فلان مثل فوحة اللبلبي, وكلامه فوحة لبلبي, أي أن وعوده مجرد سحابة صيفية عابرة سرعان ما تختفي في كبد السماء.
تصاعدت هذه الأيام بوخات المسؤولين وفوحاتهم باقتراب العد التنازلي لموعد الانتخابات البرلمانية, وتغير سلوك مدراء بعض الدوائر الخدمية بزاوية منفرجة, غادروا فيها مكاتبهم الوثيرة, وخلعوا بدلاتهم الأنيقة, وأزالوا من وجوههم ملامح التجهم والتبختر والتعالي, وتجلببوا بجلباب الورع والتقوى, ثم تصنعوا التواضع, وراحوا يتنقلون بين المراجعين بحثاً عن الطلبات المتأخرة, من دون أن يبخلوا عليهم بإظهار الابتسامات الودودة, وترديد العبارات المنمقة, وإطلاق الكلمات الدافئة, متظاهرين فجأة بخدمة الناس.
ربما يقول قائل منكم: أنها صحوة موت, أو أنها حالة طارئة من حالة عودة الوعي إلى ضمائر بعض المدراء, الذين أرهقونا بتعاملهم السيئ, وتسببوا في تأخيرنا وتعطيل مصالحنا. ترى ما الذي يمنعهم من التعامل معنا بلطف في السنوات الماضية ؟, ولماذا تحسنت طباعهم فجأة هذه الأيام ؟.
هل هي مجرد بوخة طارئة من بوخات مدراء الصدفة سرعان ما تنكشف بعد زوال مفعول عقاقير البحث عن الأصوات الانتخابية ؟, أم أنها عبارة عن فوحة متطايرة من فوحات اللبلبي سرعان ما تنقشع وتزول بعد زوال حمى الانتخابات ؟.
والله يستر من الجايات