الأربعاء، 8 مايو 2013

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل





قصص قصيرة جدا ً



عادل كامل
[1] صخور

    ضرب حجا ً بحجر، كي يستنجد بأحد ما، وقد أصبح وحيدا ً في الصحراء، بعد ان نجح في اجتياز الحدود، ونقاط المراقبة، ليسأل نفسه، ما اذا كان يمتلك قدرة للإصغاء، وتمييز ما تمثله الأصوات، في فضاء يحاصره من الجهات كافة، وهل باستطاعته ان يعرف ما اذا كان وحيدا ً حقا ً، مثل الصخور التي رآها متجاورة، متراكمة، ومتفرقة، أم انه مازال يأمل بالعثور على شريك له في العراء..
   وأعاد الإصغاء إلى الصوت، لحجرين، لهما صوت حاد، ناعم، كاد يرى ذبذباته تتلاشى أمامه: أتراها تأن، أم تشكو، أم تستغيث، أم لا معنى لتصوّراتي...؟ ودار بخلده انه لم يعد يميز ما اذا كان هو يفكر في الأصوات أم ان الأصوات بعثت فيه الأفكار...؟
   وكف عن التفكير، مرسلا ً نظرة امتدت مع الأفق: صخور سوداء، رمادية، وأخرى زرقاء وخضراء داكنة، منتشرة، ومتراكمة، ومتفرقة، ومتجاورة...، كأنها بقايا بركان قديم، أو أسوار مدينة غادرها زمنها، هامسا ً مع نفسه، من غير صوت: إنها ليست وحيدة...، فأنا هو الوحيد. ورفع صوته، قليلا ً، وخاطب نفسه: كلا، إنها ليست وحيدة، ولا أنا وحيد. ذلك لأنه، عندما خيم ظلام الليل، وقد ترك جسده بين الصخور، أحس بألفة طالما  افتقدها، فتذكر انه، في قريته، حلم ان يجد صخرة ما لا تتركه يذهب ابعد من حدودها: حدودي، وأنا لم اعد وحيدا ً أبدا.

[2]  رماد
   وراح العالم يفكك حفنة الرماد إلى أجزاء بالغة الصغر، حتى شعر انه فقد كيانه واخذ يحّوم بين فراغات وفجوات أجزاء الذرات. فدوّن ملاحظة في دفتره انه لا يراها إلا أكثر ترابطا ً، وتماسكا ً، وانه لا يجدها تقع خارج حدود وعيه لها: فثمة جسور لا مرئية بيننا لا تدعها تبتعد عني إلا وأنا معها نمتد داخل حدوها الشاسعة.
  ودوّن: إلا ان هناك ومضات واضاءات وتصادمات وتداخلات لا تكف تبث أصواتا ً خفيضة لها ألوان لا تحصى كأنها ..
   وتوقف عن الكتابة وهو يستنشق رائحة عطر نباتات رأى ذراتها تشغل المساحة ذاتها لذرات حفنة الرماد التي انشغل بتفكيكها في ذلك الصباح. فتتبع امتداداتها واتساعها وانصهارها حتى لم يعد يميز الألوان عن الأصوات ولا عن ملامسها وهي ترفرف بمحاذاة حافات جسده.
   فعاد إلى حفنة الرماد، فراها قد غابت، لكنها تركت بقعة رمادية شاهدتها تمتد مندمجة بظلال أصابعه وهي تغادر حدود الورقة، كف عن النظر، وقد أدرك انه غدا مراقبا ً، فترك بصره بتوحد بالأصوات، وبصره يتوارى ممتزجا ً بصمت الأصوات وهي تلامس حافات رغباته النائية.
[3] مرآة
  لمح بهدوء انه مازال يرى ما لا يحصى من الذرات أمامه خارج إطار المرآة وداخلها أيضا ً وهو لا يعرف ما اذا كان يحاور نفسه أم ان أحدا ً ما كان يحاوره، عندما، بالهدوء ذاته، فتح فمه وقال انه لا يرى سوى طائرا ً وقع في الفخ، وهو يراه يموت انتحارا ً بدل الاستسلام لشبكة الصياد. ابتعد عن المرآة كي يجد جسده أكثر التصاقا ً بها، تارة، ويراها تقترب منه وتسكنه تارة أخرى فيفقد المسافة بينهما: لكنك لم تكن طائرا ً، ولم تعش في البرية، ولم تقع في الفخ.  تاركا المرآة تفقد حدودها فيما كان جسده يتناثر ذرات ناعمة رآها تغادر الإطار، لتتكون، وتتلاشى، داخل إطار المرآة، مرة ثانية. إنما لمح ومضة لا صوت لها تسحبه فيرحل معها كي يرى الفراغات اتسعت وهو لا يمتلك إلا ان يبقى ضمن حدود المرآة: آ ...ه، ها أنا أدراك أيها الطائر انك تذهب ابعد مني وأنا أدرك تماما ً استحالة مغادرة هذه المرآة. إنما وجد أصابعه تتخلى عنه وهي تمتد مع الومضات حيث شاهد صمته يرسم لونا ً شبيها ً بطائر يحدق في عينيه، وقد وجد انه لا يمتلك إلا ان يتتبع اقترابه منه حتى لم يعد يكترث ما اذا كان ما رآه محض حلم سكنه، أم انه كان وحده يخفي رغباته بعيدا ً عن المرآة..؟
[3] متاهة
    وجدت نفسي لا امتلك إلا ان أؤدي ما طلب مني، مع أنني كنت امتلك قدرة وضع حدود أو مسافات بين تخوم أحلامي وشرودي، من ناحية، وبين الوهم وأعراض اختلاط عمل حواسي، من ناحية ثانية. طلبوا مني ان اصعد إلى الأسفل، وانزل إلى الأعلى، فعلت ذلك بإرادة من يجهل أأنا اخرج من الظلمات ان ارجع إليها، فمشيت خلف طابور، ثم رأيت طابورا ً يمشي خلف خطاي، لم أتعجب أو اندهش، فلم يكن لدي ّ الزمن كي اعرف ما اذا كانوا يراقبونني أم أنا هو من كان يراقبهم، قالوا المربع دائرة، والهرم  فراغ قاعدته في القمة، ومنحوني الرماد كي استخرج منه النار، والماء كي انسج منه أبوابا ً، ولم تكن لدي ّ قدرة الاعتراض على استبدال أصابعي بأجنحة، وراسي بصندوق، فلم أميز الظل عن النور، ولا الغائب عن الحاضر، بعد ان زخرفوا جسدي بأشكال كنت أتعقب حركاتها، ثم أخيرا ً لم أجد شيئا ً اعترض عليه، فأمروني ان امشي فوق حبل، لا وجود له، فبلغت نهايته، ليطلبوا مني ان ارجع، فرجعت، فأدركت ان القصة لا بداية لها، مثلما أنني أصبحت اجهل ما اذا كانت ثمة خاتمة لها. فوضعت نقطة لكنني لم استطع ان أغادر الكلام.
[4] مسافة
    عندما لم تعد تصلني رسائلها المكتوبة بخط يدها، وكادت ذكراها تأخذ طريها إلى الغياب، لم اعد منشغلا ً بإقامة علاقة تفضي إلى المصير نفسه. إلا أنني ...، وجدنها، مصادفة، عبر شاشة الحاسوب، تحدق فيّ. فاستعدت ـ من غير شعور ـ تعرجات كلماتها المتلاصقة، وخطها الناعم، والفراغات المشغولة بإضافات وتعديلات واعتراضات برسومات طالما استمدتها من عصور موغلة في القدم...، إنما عندما وجدتها تبادلني الابتسامة الأولى التي جرجرتني إليها، لم تكن لدي ّ قدرة وضع مسافة بين ومضات فتاة بلغت خاتمة العمر عنها وهي تهرول في الغابة. فلم  تكن لدي قدرة محو المشهد، إنما، تركته يستكمل فاتحته، ويأخذني معه، مرة أخرى، إلى الغياب.
[5] رصاصة
 مازلت أتخيّل الرصاصة الكامنة في السلاح المصوب باتجاه جبيني، وأنا أصغي إلى صوت الرجل الملثم:
ـ هل هو أنت عادل كامل..؟
قلت له وأنا أتحسس الرصاصة تخترق جمجمتي وتستقر في موضعها المحدد لها، في مركز الذاكرة:
ـ وكيف عرفت، وأنا نفسي اجهل من أكون ..؟
ـ هويتك لدي ّ، أم لديك ما تريد ان تبوح به ..؟
     تساءلت، مع نفسي، كم ثانية علي ّ ان أتحملها كي لا أراه، وكي لا يراني، وربما كأن شيئا ً ما لم يحدث.  أفقت، بعد ان لمحت مرور الرصاصة باتجاه آخر. فكم ثانية استغرقتها الرصاصة للعبور من سلاحه كي تستقر في رأس رجل لم يرفع بصره عني، وأنا أيضا ً مازلت أحدق فيه.
[6] حضور!
    لم يكن بحاجة ليرى ان أمامه أكثر من لغم، وبجواره، من اليسار، كتلة بشرية لا يعرف إن كانت لشاب يافع، أو لفتاة في ريعان الصبا، وعلى اليمين منه، شاحنة أو عربة أو دراجة مفخخة يجهل لحظة انفجارها، ولم يكن بحاجة ليرى ان كائنا ً ما مجهولا ً يحمل كاتما ً يتتبع خطاه، من الخلف ...، فهل باستطاعته ان يتقدم، أم عليه ان يتراجع، أم يتجه إلى اليسار، أم إلى اليمين، لأن السماء ذاتها، رآها رمادية، وملونة بالدخان والغبار، والأرض، تحت قدميه، زرعت بالعبوات. آنذاك أدرك انه لا يمتلك حلا ً كي يؤكد انه اجتاز الجهات كلها حيث لم تعد ثمة مشكلة، مادام ـ هو ـ يمتلك حضورا ً ما لغيابه، عدا انه كان واحدا ً من الحشد. فقرأ قصيدة الملا عبود الكرخي(المجرشة)، مع نفسه، وترك جسده يذهب إلى المجهول.
[7] اضطراب
    أأنا هو الذي أغيب عن العالم، أم ان العالم هو الذي يغيب عني..؟ كذلك دار بخلده، بشرود، وهو  يراقب ان فجوة ما آخذة بالاتساع، تارة، وتتقلص حد الصفر، تارة ثانية.
    كان لا يعرف كيف أصبح محاصرا ً بجدران تسوّرها جدران أخرى، إنما لم يستبعد فكرة ان الجدران كانت سابقة على وجوده، وستبقى قائمة بعد غيابه.  وعاد يسأل نفسه من غير إرادة: أهو يبتعد عني أم أنا ابتعد عنه..؟ كي يجد الفجوة تتسع حتى فقدت حدودها، ثم يراها تتقلص حتى تغدو بلا حافات. وعندما حاول استعادة الأسباب التي منحته الاستجابة للحياة، وجدها غائبة، بلا ملامح، ولا علامات لها، كي يدرك انه لا يمتلك الأسباب المغايرة لها، كي يستجيب لرحلة الغياب. آنذاك لم يجد ما يستعين به كي يبرهن انه يمتلك إرادة نفي الإثبات، وليس لديه قدرة إثبات النفي، إنما لم يكن يمتلك قدرة الاختيار، مثلما لم تكن الأوامر، بشأنه، أكثر من ذرات لم ينشغل ما اذا كانت تقترب منه لتلامسه أم أنها تمتد وتبتعد كي يرى انه لم يعد منشغلا ً بها، مثلما لم يعد منشغلا ً ما  اذا كان العالم فائضا ً عنه، أم هو الذي أصبح فائضا ً عن الموجودات.
[8] الدكتاتور
   قال مساعد الجنرال يخاطب آمره:
ـ ليس مهمتنا إسقاط الدكتاتور، سيدي!
ـ ما المهم اذا ً..؟
ـ المهم ان نتعرف على الأسباب التي صنعت الدكتاتور.
ـ وماذا أيضا ً..؟
ـ كي لا نستبدل الدكتاتور بآخر!
    آنذاك أمر الجنرال حرسه الخاص بزج مساعده في السجن، لكن المساعد، قبل ان يتوارى إلى الأبد، قال:
ـ لم اقصد انك ستكون الدكتاتور الجديد، بل قصدت انك لن تقدر ان تحافظ على الدكتاتورية إلى الأبد!
[9] متاهة
    لا استطيع ان احدد ملامحه، ولا هيأته، ولا أي اثر له عدا انه طلب مني ان امشي خلفه. لم اعترض. لأنني كنت لا امتلك قدرة اتخاذ أي قرار آخر. فتح نفقا ً فدخلت. لا أتذكر كم مضى علي ّ من الزمن، إنما، وأنا أعيد حساب الأيام والأسابيع والأشهر والسنين، لم اعد لمرور الزمن، فلا أنا في حلم، ولا أنا في كابوس، ولا أنا امتلك قدرة تمييز ما اذا كنت حيا ً أو ميتا ً، أو تحديدا ً ما اذا كنت داخل مدينتي أو خارجها، إنما مكثت أتتبع ظله، تارة، وأنا استدل باستنشاق ما يتركه من رائحة تارة أخرى، عبر الممرات، وأنا اجتاز الأنفاق، من سراديب إلى مغارات، كي أجد أنني لم اعد امتلك إلا ان أتجاهل ما كان يدور في راسي، ولكن الذي لم أبح به كان وحده قد سمح لي بالحفاظ على عدم إثارة غضبه، أو دفعه إلى اتخاذ أي قرار قد يكون حاسما ً.  ثم اعترف لي أخيرا ً بأنه لا يمتلك شيئا ً ما يقوله، فلم يعتذر، لا لأنني لم أطالبه بالاعتذار، بل لأنه لم يخطر ببالي ذلك، سمح لي ان أجد نفسي وحيدا ً، عند بوابة، كي ابتعد عنه. فانا تحررت منه بشروطه إنما يخيّل إلي ّ أنني لم استجب لها تماما ً، فمشيت، ووجدت نفسي استنشق الهواء، وارى أشجارا ً، ومنازل، وأنا أصغي لأصوات طيور، وللمرة الأولى وجدت أنني امشي فوق الرمال، وأصابعي تقودني إلى مساحة بلا أفق.
   فجأة وجدت من يمسك بي، لم استطع ان أرى ملامحه، ولا هيأته، ولا أي اثر باستطاعتي ان أميزه، وقال لي:
ـ تصالحت معه..؟
ـ مع من؟
ـ مع الموت!
   لم أجد الكلمات المناسبة للحديث عن حياة أصبحت بلا هيأة، ولا اثر دال عليها، لكنني فتحت فمي:
ـ لا! لم أتصالح معه، ولا هو، سيدي، تصالح معي!
   آنذاك تركني ابتعد عبر درب لم يشغلني ما اذا كانت له نهاية، أو حافات، مثلما لم أكن معنيا ً ما اذا كان يتتبع خطاي. كان الوقت آنذاك بلا لون، ولا صوت، وليس ثمة ما يدل عليه، وأنا أيضا ً لم أكن مهتما ً ما اذا كنت امشي فوق طريق ممحو، أو أنني سأستعيد ما حدث لي في ذات يوم، لأنني كنت، مرة ثانية، لا امتلك قدرة تحديد ما حدث لي، وأنا أجد من يتتبع خطاي، حيث لم اعد معنيا ً بما جرى لي في ذلك اليوم.
[10] اختيار
   ـ لماذا تخليت حتى عن رغبتك في تنفس الهواء..؟
     لم يجد كلمة للرد، أو التوضيح، فمكث يحدق في عينيه، من غير شرود، أو فزع، أو لامبالاة. كان يرى كيف ينسحب الهواء، ويغيب، كالزمن، لم يعد يرفرف، كي يحدق في الفراغ، وقد غدا بلا لون، ولا كثافة، ولا امتداد.
ـ انه الاختيار الوحيد الذي جاء بعد استحالة ان تكون لدي ّ اختيارات أو ...
   ووجد انه، بهدوء، يغيب، في اللحظات التي رآها تتوارى، من غير اثر، أو طلب مساعدة، أو استغاثة، كي لا يبوح بالسر الذي تخلى عن كتمانه طوال حياته، تام الحضور، ولا ينتظر تأويلا ً أو دحضا ً بعد الآن.
[11] مساواة
ـ أراك تبتسم، مرحا ً، يا صديقي العنيد، بعد ان اعتقدت انك لن تعود إلى أيام مرحك الأولى؟
     تمتم بفم رخو تاركا ً كلماته تخرج مبعثرة:
ـ صديقنا المطرب ...، الذي غادرنا، قال أنني ابن زانية، وقال أنني عملت جاسوسا ً، وأنني استنجدت بالموت..!
ـ عجيب، وماذا قلت له؟
ـ سألته، من أخبرك، فقال: أمي!
   ابتسم الآخر، ثم أغلق فمه برهة، كي ينفجر  ضاحكا ً:
ـ وكأنه تجاهل انه ولد لأم عقيم!
ـ وكيف عرفت، يا صديقي..؟
ـ أمي أخبرتني، قبل ان ترحل إلى العالم الآخر، وقالت لي، أنهما، أمه وأمي، لم تتركا مخصيا ً لم تنجبان منه وضيعا ً، يشهر بالناس، ووضيعا ً ، مثلي، راح يدافع عن وضاعته! لا لأننا ولدنا في القاع، بل لأن القاع أنجبنا فسمح له ان يهرب ليشهر بنا، ونحن تشبثنا بالقاع كي ندافع عن وضاعتنا!
ـ مساواة!
  وغرق في الصمت، لبرهة، ليجد انه راح يحدث نفسه، بصوت خفيض:
ـ أكيد ان أمي أدركت لا جدوى الاعتراف، فولدها، لم يعد لديه ما يخسره، كي يحزن عليه، حيث المطلوب، في الأصل، إدامة هذا الذي غدا بلا خاتمة، وقد اتسعت مساحته، وأصبحت بلا حافات!
ـ حقا ً لا ديمومة إلا للذي لا يدوم!
[12] اعتراف
    ـ انهض.
    أنا لا اعرف منذ متى لم أصغ إلى مثل هذا الأمر. نهضت. قالوا: تقدم. تقدمت. فانا لم امش خطوة اثر خطوة منذ زمان بعيد، ثم وضعوني أمام جمهور غفير من الناس. قالوا لي: تحدث. حقا ً أنا لا أتذكر منذ متى لم يعد لدي ّ فم أغلقه، فكيف سأتكلم.  رفعت أصابعي بحثا ًعن شفتي ّ، وعندما عثرت على فمي، لم أر أمامي إلا وجوها ً دائرية، ومثلثة، ومستطيلة، ومربعة، وأخرى غير منتظمة، لا علامات تميزها، فسمعت من يخاطبني ـ وأنا في شرود ـ: تكلم.
    لا أتذكر ماذا قلت، لأنني لا أتذكر منذ متى لم أتكلم، ومنذ متى صمت، ولكن الزمن امتد حتى لم يعد لدي ّ زمن آخر اصمت فيه، أو أتكلم.
    فجأة عجت القاعة بالتصفيق. فقالوا لي:
ـ انهض!
   نهضت، ثم سمعت من يقول:
ـ الآن عد إلى مأواك.
     لم ارفع راسي كي أرى ما كان يحدث لجاري، الذي لم أره يفتح فمه منذ زمن بعيد، فأصغيت إلى صوت كان يذهب ابعد مني، فكنت، منذ تلك اللحظة، أتتبع محوه، كي لا يراني احد، وللحق كي لا أرى أحدا ً أيضا ً. وأنا اردد من غير كلمات في نفسي: يا ليتني كنت ذرة رمل في أي جحيم عدا هذا الذي مازال يستنطقني وأنا اجهل هل غادرته، أم أنا مازلت أتشبث به؟
[13] ديمومة
   ـ تعال قل لي، كيف نجد حلا ً لهذه المعضلة.. متابعا ً:
ـ  فانا لا اعتقد ان إمبراطور كوكبنا، ينتظر منا الطاعة، حد محونا، بل هم أتباعه يقولون ذلك، فانا لا اعتقد أننا، في ما نبذله طوال حياتنا من كد وشقاء في هذه الدنيا، له المعنى ذاته الذي، في نهاية المطاف، ينتهي بالفراغ، والموت! فالأول يخلو من المنطق، مثل الآخر الذي هو ضده تماما ً. 
   ابتسم زميله الذي طالما شاطره العزلة، والابتعاد عن الصحب، وسأله:
ـ هل كنت تريد ان تقول ان المعضلة التي لا سبيل إلى حلها، ليست معضلة؟
ـ تماما ً...،ولكن اخبرني ما هي ...؟
ـ لو أخبرتك، فعلي ّ ان أجد حلا ً لمعضلتك، كي أجد الخاتمة، التي بلغت النهاية ذاتها التي بلغها الجميع!
ـ تقصد إننا لا نمتلك إلا استكمال هذا الذي، كلما تقدمنا فيه، غدا لا ينتظر إلا الزيادة، كما لا يقبل إلا المزيد منها. وأضاف:
ـ فضع صمتك حيث للكلام المعنى الذي يمنح التأويل عبوره من المجهول إلى ما هو ابعد منه. فأنت مثل ذرة بين عدد لا نهائي من الذرات، جميعها تسكن ذرة إنما خارج أدوات الحساب!
ـ حقا ً، الآن، صرت أدرك لماذا إمبراطور كوكبنا لن يدعنا نتنفس إلا كي ندرك لو أننا تخلينا عنه، فإننا سنضطر إلى السير في الدرب ذاته الذي يقود إليه أيضا ً. فاختر، يا زميلي، ان لا تختار، كالنار التي عليك ان تطفئها بالنار، وكالمسافة التي عليك ان تسلكها كي تجد من يسلكها بعدك كي لا تكون ثمة نهاية لهذا الحوار!
[14] وصية
   قبل ان يذهب إلى النوم قرأ وصية جده:
ـ " لم اقرأ ذلك في كتاب، أو نقلا ً عن احد، أو كنت اطلعت عليه صحيفة، بل شاهدته، وجاورته، وغطست فيه، ألا وهو ختاما ً هذا الذي لم يعد يرد بخاطري، وأنا أرى تتمات تلك المقدمات الشبيهة باللعنات، كأنها القدر، إزاء اختيار طالما حلمت ان أراه، لكن لا الظلمات لها نهاية، ولا النور باستطاعته سبر أغوار قدراتي على تحمل ما  لا يحتمل، الأمر الذي صنع مني واحدا ً شبيها ً بهؤلاء الذين تراهم، عبر الأزمنة، إن خالفتهم دفنوك، وإن تجنبتهم لم تجد شيئا ً ما تعمله, وها أنت تراني يا حفيدي كيف مارست البرمجة ذاتها التي سمحت لي بالوصول إلى هذه الخاتمة: الذهاب إلى النوم...! بعد عقود، لم اسمع فيها كلمة واحدة إلا ورأيت الريح تمحوها، ولم أر فعلا ً يدوم أكثر من زمن زواله. ولو قمت بقراءة كلماتي قراءة لقراءتك ستكتشف أنني لم أكن إلا واحدا ً من ذلك النمل، الرمل، إن غادر مساره هلك، إن سلكه فلا غبار عليه، كي تدرك إنها لعبة إن لم تجد لعبها فكأنك لم تدخلها، وأخيرا ً، لا اختيار تقدر ان تختاره إلا الذي لا تستطيع أبدا ً ان تختار سواه!."
ترك تكملة قراءة ما في الوصية، وقال مع نفسه:
ـ ليس لديّ سوى ان اذهب وحيدا ً إلى النوم، فان لم افعل فانا لن اقدر على تحديه مهما مكثت مستيقظا ً. ولكن يا جدي هل استمتعت بالظلمات وأنت تتوهج في سبر أغوارها؟
[15] ضريح
    لم يبق لديه من الأثاث، أو الأدوات، أو ما له قيمة لسد نفقات النقل، وشراء مساحة من الأرض، يتوجب دفع ثمنها، للحفار، ولصاحب المقبرة. لقد حسبها بعشرة أضعاف راتبه التقاعدي، مما جعله يبحث عن مبالغ تسد نفقات النقل، والحفر، وشراء شاخص يحمل اسمه، لكنه كتم ومضة ساخرة تخيل فيها انه، في ذات يوم، حلم ان يكون ضريحه كهرم خوفو، أو كتاج محل، أو كتمثال الحرية! لولا انه لمح حلا ً ما دعاه للاسترخاء: النار. إنما سرعان ما صدم بهواجس الميتافيزيقا، فأعاد حساباته، مرة أخرى.
    لا قيمة للأدوات الخشبية، أو المعدنية، أو غيرهما، وهذا ما يجعله ينتظر ستة أشهر أخرى، ولكن قد لا يؤجل الموت حضوره، وقد شم، منذ أيام، الرائحة ذات الأصوات الرنانة، عبر أحلام كانت تمحو أثارها بنفسها وتتداخل دامجة اضطرابها بالبصريات والمجسمات المتعددة الأبعاد. لكن انتظار جمع الرواتب أحبط لديه فكرة الانتظار،مما اضطر ليسأل نفسه: ربما هناك من يشتري ...، وسكت. ثم سأل نفسه بشرود: ربما يعاقبني الله! فقال بعد برهة:  كي أساعد إنسانا ً آخر بحاجة إلى قلب أو شريان أو غدة ...! إنما كتم الجواب لأنه قال انه لو كان يمتلك أعضاء لم تبلغ نهايتها لكان عاش حتى يستطيع جمع مبلغ الدفن.
   فكر ان يذهب ويبحث عن مكان بجوار ضفاف النهر، هناك، ما أن يرى انه لا يقدر على التنفس، حتى يدع الماء يجرفه.لا..لا..لا...، ورفع صوته: كم مرة كدت افعلها لولا البرد. إنما لم يفعلها لا في الصيف، ولا عندما كان منشغلا ً بمراقبة فصل في الربيع. 
    وطرد فكرة ان يحفر، داخل غرفته، حفرة بحجم سريره، ويرقد فيها، لأنها تتقاطع مع القوانين، والأعراف! فماذا يفعل ..؟ شرد ذهنه: لمن..؟ ولم يجب. مد يده متلمسا ً حافات رأسه، ووجهه، وتركها تلامس عنقه...، ثم أضاف، وهو يشم أصوات معادن يتناثر صداها:
ـ انهض!
     لكنه استعاد، في لحظة، قبل ان يستعد للنهوض، انه باع الغرفة التي يسكنها، والتي تعود ملكيتها له، ووقع العقد، شرط ان لا يتلف صديقه، الكتب التي كان اقتناها قبل عقود، وما دوّنه، والخاتم الذي طلب منه ان لا يسرق، بل ان يدفن معه...، لأن ذلك كان بمثابة وفاء لوصية قديمة، حيث أصبح المبلغ لا يكفي كأجور للنقل، والحفر، والشاخص حسب، بل كأجور عن إعلان لنشر خبر وفاته، لكن ـ وقد نهض بلا مبالاة ـ تذكر ان صديقه قد يسرق المبلغ، بعد جمعه، فماذا يفعل آنذاك، وهو الذي لم يقدر ان يطالب حتى بعدم سرقة أحلامه في الحياة، فألغى الصفقة، لا بدافع الشك الذي زعزع آخر أمل له في الوجود، إنما كان قد وعد جاره، بعد الموت ـ وبوثيقة تنص على تنازله عن ممتلكاته ـ  ان تكون بمثابة امتنان لصداقة ما لا غبار عليها.
   إنما، عند الفجر، كان يرى طيفا ًيغادر جسده، يرفرف، ويغادر جدران الغرفة، ليرى انه غدا يمتد، ويتسع، خارج حدود وعيه، وبعيدا ً عن الهواجس التي كادت ان تعيده إلى الحياة!

     

السبت، 4 مايو 2013

ثلاث قصص قصيرة-د. بلقيس الدوسكي



ثلاث قصص قصيرة


د. بلقيس الدوسكي

سعادة

    هي طبيبة ماهرة في مجال تخصصها لكنها لا تكتفي بمطالعة المجلات الطبية وما يستجد في علم الطب، بل كانت تعد الدراسات والمقترحات والمواضيع العلمية، ومن اهتماماتها الأساسية اقتناء الكتب والإصدارات الثقافية والعلمية والأدبية والفنية وغيرها.
    تقضي أوقات فراغها اما بالمطالعة وأما بالعزف على آلة الكمان التي أجادت العزف عليها بمعظم الأنغام، فهي تعتقد ان للموسيقا تأثيرها المباشر على شفاء المرضى، وهي مسألة قديمة.
    وكان زوجها المهندس يأنس لعزفها ولمهارتها في طب العيون معا ً. وفي إحدى الليالي سألها:
ـ ماذا ترين في عيني؟
ـ أرى أشياء كثيرة.

ـ مثلا ً؟
ـ أرى الأفق الأزرق المليء بصور المحبة والحنان.
ـ وماذا بعد؟
ـ أرى صورة تجمع الحبيبين.
ـ من هما ..؟
ـ أنت وأنا.
ـ إنها أحلى الصور قاطبة.
ـ فهل ترى الصورة نفسها في عيني؟
ـ  وهل للموسيقا علاقة بالورد..؟
ـ نعم، وقد ثبت بعد الدراسات العلمية ذلك، فالورد يستجيب للموسيقا وله لغته القريبة من لغة الموسيقا وهي لغة هامسة غير مسموعة!
      كان زوجها يفتح معها موضوعا ً في كل مرة بعد ان تغلق عيادتها وتأتي إلى البيت مع انه لا يقل عنها ثقافة، ولكن ...، كل واحد منهما يستفيد من ثقافة الآخر في شتى المواضيع والاهتمامات. وفي ذات مرة سألته:
ـ لقد اقترحت علي ّ أكثر من سؤال، وأنا أحب ان أسألك.
ـ اسألي يا حبيبتي.
ـ بما انك يا عزيزي مهندس ناجح، فما أجمل التصاميم التي تفضلها؟
ـ التصاميم المتطورة، والمعاصرة، شريطة ان تحافظ على تاريخنا وحضارتنا، فضلا ً عن الجمالية التي تواكب إيقاع العصر.
ـ وما هي الجمالية التي تعتمدها؟
ـ استوحيها من الجمال الكامن في عينيك، ومن اهتمامك بعيني، وعيون الآخرين! 
ـ خاطرة حلوة، أكثر مما هي إجابة!
    وتناولت كمانها وعزفت له مقطوعة موسيقية عنوانها (حديث العيون) فاهتز لها طربا ً وداهمه النعاس، لكنها استطاعت ان توقضه بمعزوفة صاخبة بعض الشيء، فقال لها:
ـ الموسيقا العذبة، أما ان يغفو الإنسان على أنغامها وأما ان توقضه، فتوقض معه مشاعره الجميلة.
ـ حبيبي، أنا على موعد غدا ً لمعالجة عيون شابة جميلة، فدعنا ندخل إلى غرفتنا ونأخذ قسطا ً من النوم بدعوة من نداء قلبينا!
ـ وهل هذه الشابة أكثر جمالا ً منك..؟
ـ الجمال يا حبيبي، ليس جمال الوجه، وإنما هو جمال الروح، والقلب، وعذوبة الكلام، وصدق المشاعر.
ـ الذي أتمناه ان تكتبي القصيدة التي نظمها قلبي على شاشة عيوني عندما أنام، فهي أجمل ما تقرأين في الأحلام.
ـ متى تعلمت الشعر يا حبيبي؟
ـ من خصلات شعرك، ومن رموش عينيك، ومن الدفء الذي أحسه وأنا بجانبك.
ـ إذا ً، فانا أتمنى لك ان تكتب قصيدتنا.
ـ إنها قصيدتنا التي ندوّنها من غير كلمات، إنما نراها تنبثق بأجمل الألحان وأكثرها دفئا أيضا ً.


حكاية لك ِ ولي أيضا ً!



  استأنفت رحلتها مع هدوء أعصابها بعد ان كانت في ذروة غضبها وتذمرها مما عانته من أذى، ثم سلكت طريقا ً آخر غير الطريق الذي تعثرت فيه خطاها وأعطت لكل خطوة نقاطا ً من الضوء الأخضر وهي مصرة على اجتياز أي حاجز يعترض طريقها الجديد.
    وضعت الأمس وعذابها وراء ظهرها وأضرمت نار غضبها على  ذكرياته وصوره، ولم يبق منه أي اثر في سجل حياتها، لكنها حملت معها التجارب والعبر وحسبت لكل خطوة ألف حساب.
     نست الأشياء كلها عدا صديقاتها الحميمات اللواتي وقفن معها في أيام الشدائد، واشتاقت لزيارتهن بعد فراق طويل:
ـ أهلا ً يا صديقتي الحبيبة.
ـ لقد أوحشني غيابي عنك ِ، وهزني الشوق إليك ِ.
ـ ولكن لِم َ كل هذا الغياب الطويل الذي أقلقني؟
ـ لقد أرغمتني الأيام على هذا الغياب المر.
ـ وما هي أخبارك يا عزيزتي..؟
ـ بالنسبة لأخبار الأمس فقد طواها النسيان، وأما أخباري الجديدة فمازالت في الغيب، لأنني فتحت صفحة جديدة مازالت بيضاء.
ـ أسأل الله ان تمتلئ بأسعد وأحلى السطور والبشائر.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ وماذا عن ..
ـ لا تكملي...، اعرف عمن تسالين، فالذي تسأليني عنه يا صديقتي قد حرق كل عهوده في لحظة واحدة غير متوقعة!
ـ ماذا فعل..؟
ـ فعل ما لم يكن بالحسبان أبدا ً، الأمر الذي جعلني أعيد النظر في حساباتي كلها، وأغيّر أسلوبي في التفكير وأتجاوز حدود ثقتي القديمة.
ـ لكنني يا عزيزتي أريد ان اعرف ماذا فعل هذا الرجل..؟
ـ الحديث عن خيانة هذا الرجل يستغرق وقتا ً طويلا ً.
ـ إذا ً، هي خيانة؟
ـ نعم، لكنها خيانة يندى لها الجبين ويرفضها أي إنسان يمتلك قليلا ً من النبل.
ـ لقد بدأت أتحمس كثيرا ً لمعرفة هذه الخيانة.
ـ ستعرفين التفاصيل كاملة عندما ينتهي الجزء الثاني منها!
ـ لكن دعيني اسمع الجديد في حياتك ِ.
ـ أنا يا عزيزتي، وبصراحة، لا اعرف لماذا يرفض أبي كل من يتقدم لخطوبتي، ولا استطيع ان اسأله عن السبب الذي لم يعلن عنه لحد الآن وتجهله حتى أمي، أمي التي اختلت به مرات عديدة لتعرف سر رفضه لكنه ظل مصرا ً على عدم الإفصاح عنه، وها أنا كما ترين قد أوشكت ان أتجاوز مرحلة الشباب، وتلك هي مشكلتي، إن لم اقل مصيبتي!
ـ أنا وأنت يا عزيزتي نعيش المعاناة نفسها، ولكن، ان بعض الشر أهون...، وأن مصيبتي كأنها من نسج الخيال أو الأساطير. وبعد أيام سأزورك مرة ثانية واروي لك الحكاية كلها.
ـ أهلا ً بك ِ ومع السلامة.
     وظلت هدى تتابع الأحداث وما سينجم عنها لكن حدسها كان يشعرها بان النهاية سيكون الخاسر فيها هو نفسه الرجل الذي داس على ضميره وخانها، وبعد ان انتهت فصول مسرحيته كلها، ذهبت إلى صديقتها وأخبرتها:
ـ الآن يا عزيزتي، سأقول لك ِ ماذا فعل هذا الرجل.
ـ نعم.
ـ اتفقنا أنا وإياه على موعد محدد للذهاب إلى المحكمة الشرعية لكتابة العقد، وفي اليوم المحدد ذهبت إلى المحكمة لكنني صدمت بالمفاجأة، فقد رايته هو وامرأة  أخرى جاء بها ليعقد معها عقد الزواج، فلم أتمالك أعصابي، فثرت عليه وأمطرته بوابل من اللعنات، وحين سمعت تلك المرأة ما قلته له، وعرفت بأنه خائن ومخادع، تركته وهربت وخرجت على أثرها، وبقي هو وحجه مشدوها ويدور في أروقة الشوارع بعد ان أفلس منها، ومني!
ـ يا له من رجل لعين.
ـ لهذا غيرت مساري في الحياة.
ت لك ِ الحق كله، يا صديقتي.
ـ إنها، إذا ً حكاية لك، ولي أيضا ً!


الحقيقة وظلها

      لا يريد ان يتعرف على أي إنسان من أبناء المنطقة ولا يريد حتى ان يسلم على أي واحد منهم عندما يذهب صباحا ً أو عند عودته مساء ً من العمل. وأحيانا ً لا يخرج من البيت طيلة النهار، أو خلال ساعات الليل.
    ولكن في المقهى القريب من بيته، دار الحوار التالي، فسأل احد رواد المقهى صاحبه:
ـ ماذا حدث للأخ عبد المنعم، لقد كان يسلم علينا ويجلس معنا في المقهى، وكنا نستفيد من حكاياته الجميلة، والنادرة، ولكنه فجأة انقطع عنا؟
ـ ربما يعاني من حالة معينة.
ـ لنفترض ذلك، لكن لماذا حين يمر من أمامنا يدير وجهه جانبا ً ولا يسلم علينا؟
ـ ربما سمع شيئا ً ما من رواد المقهى ..
ـ ولكن رواد المقهى يحترمونه ويحبونه.
ـ إذا ً، لابد ان هناك من سبب آخر!
ـ لقد أصبح وكأنه لا يعرفنا أبدا ً، أتراه أصبح متكبرا ً، بشكل مفاجئ، والله اكبر من المتكبرين جميعا ً.
ـ لا نستطيع ان نتهمه بالتكبر، قبل ان نعرف السبب.
ـ السبب واضح ولا يحتاج إلى نقاش.
ـ سأبعث زوجتي إلى بيت السيد عبد المنعم لتستفسر من زوجته عن أسباب انقطاعه عن الحضور إلى المقهى.
    وأرسل زوجته لتقابل زوجة السيد عبد المنعم:
ـ أهلا ً وسهلا ً، زارتنا البركة.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ اطلبي يا جارتي العزيزة.
ـ  بصراحة أرسلني زوجي لاستفسر منك عن سبب انقطاع زوجك الطيب عن الذهاب إلى المقهى، والكل متشوقون إليه.
ـ زوجي يا عزيزتي، رجل حساس ولا يستسيغ النفاق، والطعن، والتشهير بالآخرين، وربما سمع شيئا ًمن هذا ..
ـ الم ْ يخبرك بماذا سمع؟
ـ لا أبدا ًفهو لا يبوح لي بالأمور الخاصة به.
ـ قولي له ما قلته لك، لطفا ً.
     عادت زوجة محمود وأخبرت زوجها بما سمعته من زوجة السيد عبد المنعم:
ـ إذا ً، سأقابله بنفسي مساء هذا اليوم، ولابد ان افهم منه الأسباب التي جعلته يقاطعنا، ويمتنع من الحضور إلى المقهى.
   في المساء ذهب محمود لمقابلة السيد عبد المنعم. فرحب به، فقال محمود:
ـ يا أستاذ عبد المنعم، زرتك في هذا المساء، نيابة عن رواد المقهى.
ـ أهلا ً بك، وبهم.
ـ شكرا ً. إنهم جميعا ً يريدون ان يعرفوا سبب انقطاعك عن المقهى خلال هذه الفترة.
ـ سأعود إليها عندما أتأكد بأنها أصبحت نظيفة!
ـ ولكن صاحب المقهى يحب النظافة، وهو يقوم بتنظيفها ليل نهار.
ـ أنا لا اقصد أرضية المقهى، يا أخي، ومحتوياتها ..
ـ إذا ً ماذا قصدت يا أستاذ؟
ـ  أقصد تنظيف الألسنة من شوائب الوشاية والإساءة والوشايات والنميمة التي تحدث فيها، وهذا ما كنت اسمعه فاكتم غيضي.
ـ معك الحق في هذا الجانب، ولكن لماذا تمر ولا تسلم علينا..؟
ـ لأنكم لم تحاولوا قطع دابر هذه الإساءات، بل تصغون إليها ولم تردوا عليها. وربما انتم وأنا، لوثت سمعتنا هذه الألسن في غيابنا. فحسبتكم من المشجعين لها، ولهذا قررت مقاطعة الجميع.
ـ ومعك الحق في هذا الجانب أيضا ً، ولكن يا صديقنا أستاذ عبد المنعم ليست الألسن كلها مصابة بهذا الوباء.
ـ كما تقول، لكن للوباء عدوى!
ـ سنقضي على الوباء، ونمنع أنواع الوشايات والإساءات في المقهى.
ـ لا شيء أفضل من الأحاديث النبيلة، والمفيدة، والجميلة التي تشد القلوب إلى بعضها، وآخر ما أقوله، لعن الله من يلعن الآخرين! لكنه تدارك وقال معتذرا ً:
ـ العفو والاعتذار والغفران أساس المعاملة، وليس مواجهة الإساءة بمثلها!




قراءة في مجموعة حامد الراوي "هوامش كحل" عادل كامل



قراءة في مجموعة حامد الراوي "هوامش كحل"
الإقامة في السفر


عادل كامل
[1]
    إن كانت قصائد حامد الراوي كتبت لتقاوم صدمة الغياب، أو لتمتد بديمومتها، فالشعر لم يترك إلا أثره وهو يحول الأصوات إلى علامات:
[يتسللون من التراب ليسجدوا   
ويغادرون إلى التراب ليولدوا]
   كأنها ترجعنا ـ العلامات ـ إلى عصور ما قبل الكتابة؛ تلك التي تركت أصواتها تسكن رسومات الجدران، وفي المجسمات، وفي ما دفن في الرماد. إنها (الرهافة) أو أقدم جذر لتعريف الصدمة، إزاء عالم لا تمتلك فيه الأشياء، ولا النبات، ولا الإنسان، إلا ان تمد جسورها من اللازمن إلى التتابع، والتأمل، والعراك، كي تجد أنها كوّنت نظامها في الاندثار.
    فما ـ هو ـ الشعر..؟ أهو اختزال مسافة الصدمات، أم مراقبتها، أم ـ هو ـ الذي يعيد صياغة النهايات بمقدماتها..؟
   ألا تبدو أسطورة (سيزيف) المعاقب، برفع الصخرة من القاع إلى القمة، مرة بعد أخرى، وحتى نهاية الدورة، قد ردمت الفجوة مع من اصدر القرار، وان دوره لم يعد   تنفيذا ً، للأمر، بل مساحة له، وانبثاقا ً لوجود غير قابل للإدراك، أو التعرف، وهو الشبيه بما قاله إبليس لآدم، بعد ان سأل الأخير الأول: لماذا أغويتني، فقال: وأنا من أغواني، بحسب الغزالي في واحدة من استجاباته للعبور من الكلام إلى الصمت!
     إن الراوي، هنا، لا يروي، بل وجد كيانه يدوّن امتداده بين السابق على الحضور، والملحق بالغياب: انه يعيد نسج الثيمة ذاتها التي بلورها السومري وهو يبحث في مفهوم: (حياة)، في (إنانا)، بما يتضمنه من عناصر الجدل، وإشارة إلى أقدم إشكالية ستبقى كلما بلغت نهايتها، تجد  تدشينا ً يعيد نسج نظام: الميت من الحي، كما الأخير، لم يخرج إلا من الموت.
     لكن هذا كله اشتغل عليه المعري، لا بصفته شاعرا ً، أو فيلسوفا ً، بل لأنه أبصر في تاريخ الحضور وهو يتلمس انحداره، كالدورات، نحو ما هو ابعد من: اللغة، ودوافعها، ومضامينها، ورمزيتها، ومشفراتها، كي ندرك ان حامد الراوي، هو الآخر، حمل لوعة أسلافه أو سابقيه، في التأمل الانطولوجي، بعيدا ً عن مشاعر الأسى والأسف، هذا النسق بين الانفتاح والانغلاق. فالإنسان، في لمحة موجزة للزمن، تضمن شهادة المعاقب، بلا ذنب، ولكن، بحسب سومر أيضا ً، المذنب بالولادة.
    على ان فصل (المعنى) أو استحالة تحديده، عن اللغة، يبقى قائما ً، مادامت الأخيرة، أحيانا ً، ليست سوى حجابا ً، كالحياة برمتها ما ان تتوارى حتى تستعيد معناها، بعد الموت، وجودا ً لا تمتلك اللغة شيئا ً تقوله عنها.
    فهل الشعر ـ كالحياة ـ آلية للعبور، إنما، لهذا الذي يصعب حتى استبصاره بعد التدشين، أم هو السفر من غير خاتمة، لكن، الذي غدا إقامة، حتى بصفتها تضمنت نفيها..؟
    فالشعر، في هذا السياق، ينحاز إلى (الاستجابة) إن كانت غواية، أو قيدا ً تضمن حريته، أو  إنعتاقا ً مقيدا ً، إن لم يكن ـ هو ـ علامة لها، ولغزها، كالعدم ممتدا ً، الذي كان خاتمة لنهاية عصر بابل، قبل دخول العدد على الصفر. فثمة تلقائية اكتملت فيها مباديء النظام، إنما، للتدشينات افتتاحات لم تكتمل، وحتى إن بدت تامة الزمن.
   فليست الكلمات، هي التي، في البدء، بل محركاتها، وهي التي لم تترك إلا مقاومة لمحوها، بعد ان أصبحت امتدادا ً للغياب. وكأن الحضور ذاته، لم يخف هذا الذي اشتبك بعناد مع عوامل محوه، واندثاره.
[2]  
    لا يكتشف جواد الحطاب، في مقدمته لقصائد حامد الراوي، بل يستنتج ان الشاعر (مراوغ بامتياز)، بالتوقف عند:
1 ـ اصطياده الشعر، بكمين الشعري، كامتداد أو كتعبير عن مفهوم الصيد.
2 ـ وما اذا كانت تجربته تنتمي إلى النسق العمودي، أم القائم على التفعيلة الحرة، أو النثر...، كي يستنتج ان التجربة في انسجامها مع الذات لتمثل مركز الشعر.
3 ـ ان الشاعر لم ينس المحرك الأزلي لشيطان الشعر (المرأة) فقدم لنا ـ يقول الحطاب ـ: نفسه عاشقا ً في زمن تخشبت العواطف فيه وأضاعت سحر رومنسيتها..ليقودنا إلى "عالمه الأليف كلما: أضاع الطريق إلى موته"
4 ـ ولا يغفل الحطاب ان جمهور الشاعر هم: العشاق والمجانين!
     كي يختتم إشاراته، بمقدمتها: أظنني قلت لكم ـ في البدء ـ انه شاعر مراوغ.
    فـ: (المراوغة)، لا تخص الشعر، بل الشاعر. بمعنى ان الحطاب بدأ من الشاعر ـ نحو الشعر، كي يسمح لنا ـ ولمن يتعقبنا ـ البدء من الشعر ـ نحو الشاعر، للانشغال بإشكالية مازالت كلما تعرضت للتفكيك، تمتد في المجهول: ما الشعر؟
   إن الكلام، مهما بلغ ذروته، في التجريد، كما في الإشارات عند المتصوفة، أو عبر المشفرات، في الأنظمة المنغلقة، بل حتى لدى الوعاظ أو الكهنة ..الخ، لن يوجه إلى: لا احد. واللا احد، كماهية، هو الذات، لأنها هي جزء من نظامها، وليس علة في ذاتها، أو تامة، أو من غير علة.
    فالشعر ـ كذروة في الكتابة، هو هذا الذي يتناثر في المرآة، أو الذي يقع خلفها، وهو السابق عليها والملحق بها أيضا ً. هو التاريخي ضد التاريخ، وهو، في الأخير، مساحة للتدشين:
[نطأطئ أعمارنا واقفين
ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت]
ماذا غير ان نعيد قراءة آلاف الآثار التي تركها إنسان المغارات ـ من الرماد إلى المدافن ـ  تحكي المحنة ذاتها؛ لأن قانون الصيد، في دورته، يسمح للضحية ان لا تكون فائضة. ولعل انشغالات جلجامش ـ الباحث عن ديمومة إمبراطوريته/ والمجد الذي اغتصبه أو كوّنه ـ عند أسوار أوروك، استنتج ذلك: لا ديمومة للمحكوم بالفناء. فأي دليل هو هذا الذي يمتلك نفي الدال في هذا التساؤل الانطولوجي، حتى اذا لم يكن جلجامش قد أدرك ان الخاتمة كانت جزءا ً من مقدماتها..؟
     ان حامد الراوي ينصص، يدفن ويوّلد، بنسق القانون ذاته. فهو يمنح المعقول بعده الآخر، ليس الشك، بل اليقين وقد تعرض للدحض. فالواقعي ظل، والأخير، لا ينفصل عن المحنة؛ محنة اكتشاف اللامرئي، كي يدوّن ـ باختيار ما لم يختره ـ في محنة الاختيار: لا لأنها محنة مرور، أو استغاثة، بل محنة إقامة محكومة بمكوناتها: تاريخها اللغوي، وتاريخها الايكولوجي:
[عبثا ً تخون لكي تخون
عبثا ً تداهن أو تهادن
ان ذاكرة الخيول
تمتد من معنى الصهيل
إلى
الصهيل]
   فالدورة تحافظ على لغزها، ليس خارج اللغة ـ كإحالات ـ وليس داخل اللغة ـ كتعبير ـ، بل كتأمل شارد توخى الإفاقة، أو الاستعانة بها، لمغادرتها. مرة أخرى، لا مراوغة، ليس لأن الشعري انتقل من المعنى إلى الصوت، ومن الصوت، الكلمة، الى المعنى، بل لأن الشعري بلغ مداه.
[مر العشاق على المعنى، واختلفوا فيه
كل يبحث عن معناه
لكني أعني
لا أعني إلا
أني
يحلو لي]
    فالمرور ليس غواية، أو مراوغة. فقد كان مدني صالح يرى ان حسن التخلص يماثل المعنى لكن من غير إفراط: انه ما قصده اليوت في الأرض الخراب: الجفاف وقد غدا غيابه تام الحضور. فأين يكمن المعنى، عندما تأخذ الأصوات طريقها إلى الغياب..؟ لا اعتراض يجد معادله في الاستجابة، لأنهما ـ معا ً ـ يدحضان الإرادة. لكن الكلمات ذاتها ـ في الشعر ـ تراوغ، تبتعد كي تظهر، وتتوارى كي تقترب. لكنها ليس محنة شعر، وشاعرية، وشعرية، بل حفريات في الأصل: الورطة. الأمر الذي لم يسمح للمراوغة إلا ان تتكتر، أو تقشر، أو تستبعد، كي:
[يتناسلون من الهواء
ويسقطون
على الخواء
ويرحلون]

    فالفناء شبيه بوجود لا مرئي؛ توارى، كي تغدو الحياة حدا ً بين لا وجودين، إنما، ليس ثمة عدم، لا بالمعنى المثالي ولا بقوانين الحركة، أو الزمن، فالجسور لا تمتد إلا في إقامتها،كما يقيم العاشق في عشقه، مستبعدا ً لحظة الإفاقة، وكما كانت رابعة العدوية قد عززت مبدأ العشق، بالتخلي عن ذاتها، كي تكسبها، فان ما لا يعّرف، لا يظهر إلا وقد أصبح خارج مداه، لأن الوجود ـ بأي معنى من معانيه ـ لم يتشكل بقوة حضوره، أو بلغز غيابه، وإنما استدعى هذا التأمل: تدشين التقدم ـ أو التراجع ـ في المجهول.
[3]
   لم تكن تحذيرات جورج ارول، بعد الحرب العالمية الثانية، حول تراجع دور اللغة، إلا تشخيصا ً لعصر كان (هيغل) قد لفت النظر إليه، بموت الفن، وتفكك عالم المثل، وتخليه عن ملغزاته، لصالح: التاريخ القائم على التراكمات، والاندثار.  انه عالمنا الذي يتقدم في المجهول، إن كان يحدث في أعلى الهرم، أو في القاع. فهي النتيجة ذاتها التي دونتها ملحمة جلجامش: اعمل بالحدود التي تمتلكها. ولم تكن حكمة الملحمة عمياء عندما طلبت من جلجامش ان يكون التاريخ هو ما يصنعه الإنسان، بحدود انجازه.
   حامد الراوي، في قصائده، يجعل المغادرة، وما ينحدر، ويمر، ويعبر، إقامة.  إنها اللحظة ذاتها التي صاغت دوافع من صاغ علامات في مواجهة زوالها: انطولوجيا محكومة بعللها، ولكنها لن تصبح خالصة، لأن (الخالص) لا معنى له خارج: الكلمات ـ الفن.
[أقيم ـ وحولي شتاتي
عزاء يليق بأيامنا، لا تموتي
ولا توغلي في النعاس الخجول
قفي عند باب الذهول
وقولي: سلام على الآفلين]
    لكن الشعر، إن فسر، غدا عددا ً في المعادلة، لأن ثمة ما هو أعمق من الخسارة، سكن الصفر، أي العدم ممتدا ً، يجد انبثاقه، حتى في عصر موت الإنسان. انه سكن غيابه عبر الاستثناء، حضور تجمعت فيه الغيابات، إنما الغواية تبقى عنيدة:
[ وأنا في حضرة خمس زنابق غامضة اللون
ان افتح بابا ً شرقيا ً
واطل على روحي
وارتب راسي
اعني شعري
قافية قافية لأنام]
    لأن المعنى لا يتوارى، بل ـ هو ـ في الأصل ـ غواية لغز:
[ مع من تقف
مع من تسير
وإذا دعاك السيف
هل تنسى ذراعك في السرير
أو سوف تحشر
عمرك المحموم
في حجر]
   فالمعنى سكن عبوره، لأن كل لحظة (قنص) ما هي إلا بحكم الغياب. فالشعر لا ينتهي عند خاتمة، كما في النثر، بل يستعيد مقدماته/ تدشيناته البكر التي لا تموت. انه الإثم بلا معاقبة، وهو ـ إذا ً ـ طهرها: سكن الأزمنة في اللازمن. فالشعري فناء أكوان لم تنشأ بعد. رثاء بلا سواد. تاريخ تراكمت أسفاره من غير حوادث، ومن غير صفحات. اهو لوعة خالصة...؟ لا ـ هو ـ في هذا النسق: المشي خلف ظل غدا ومضات، وصار يمتلك فضاء الأثير. فالشعري ـ عند الراوي ـ يكف عن الخسارة، بعد ان كف عن الربح، فثمة:
[هنا مرتقى الروح لا تلتفت إذ ْ تموت
وكن هادئا ً... ربما ... فالبيوت
 تضيء قناديل أطفالها مرتين
 ونم هانئا ً فوق ثغر السكوت
وكرر قنوتك
كرر نعوتك
حاول ... وحاول
ولا تلتفت إذ ْ تموت]
    الشاعر لا يتحدث عن تاريخ، وعصر، وكائنات فحسب، بل عن جذر، وعن أصول لهذا كله كامنة في ما هو أعمق من: اللغز. إنما اللغز يتم التوغل فيه، مثل سفر اكتمل بغياب الدرب، وبغياب المسافر، إنما لحظة التوهج شبيهة بمن ذهب ابعد من الزمن، كي يستيقظ الشك، براءة تقاوم عادات الأعراف.
   وها هو الشعر يحافظ على نظامه: الكلمات، بعد ان توخى الاستحالات:
[أضعنا الطريق إلى موتنا،
والتفتنا إليك
وكنا على بعد ذاكرة من غيابك
نحاول ان نستعين عليك بأنسابنا
كل عرق عناق
مرائين كنا، ولكننا أوفياء
وكنا نقشر أصواتنا، كي يظل الغناء
نقيا ً كما تشتهي
يا عراق]
فالتاريخي أصبح موقفا ً، وقضية، إنما، كي تمتلك  البذرة عنادها، وتصير هي نفسها تتابعا ً. فالزمن يمتلك ازدواجيته: الزمن المنحدر من اللاحافات، نحو، وفق منطقنا، نحو اللاحافات، إنما الشعري يغدو لمحو: قنص ـ وصيد ـ وخسائر، وهي التي تضمنت كل ما سكن (الكلمات)، من مشفرات، تحيلنا إلى ما قبلها ـ والى ـ ما بعدها. فالمحنة محنة ذات إزاء إشكالية لا حضور لها، عدا وجودها كأثير توارثت فيه ومضاته.
كي يذكرنا الشاعر ـ ضد الشعر ـ وضد الشعري، ولكن ليس من غيرهما:
[ نطأطئ أعمارنا واقفين
ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت
لنسقط من كوة في الكلام المعمى
ونحسبنا صاعدين
هنا مرتقى الروح، لا تلتفت، فالبلاد
ترتب أطفالها الميتين
وترزمهم واحدا ً واحدا ً بالوصايا
وتدمغهم واحدا ً واحدا ً بالدعاء
نشير إلى نجمة في الخواء
ونطفئها قانتين]
   فالكلمات لا تنتقل من المخفي إلى الظاهر، ولا من السطح إلى القاع، لأنها لا تؤدي دور الراصد للمرور، بل للإقامة ذاتها وقد أصبحت هي الكلمات.
فـ:
[ هل من دليل على موتنا
كي نموت]
    سؤال يستعيد لغز الصفر، الصفر المتحرك، المتضمن عدده، كاليقين بصفته قاصة أسرار، وشكوك، وليس مرورا ًمن غير الحفر في ما سكن الكلمات، وصاغ نظامها في التعبير. لأن صمت الكلمات ـ في الشعري ـ يكتم المرور وقد تجمد كعلامة يعيد (الآخر) صياغتها وهو يستأنف لحظة التأمل، وليس لحظة الغياب.
    فإذا كان علماء الفيزياء، يجهلون ما هو سابق على الزمن، فان الشعراء، لعوامل تكوينية خاصة بالرهافة، والمراقبة، يتابعون حركة الزمن: ليس من أين أتى، أو إلى أين يتجه، وإنما الظلال التي توجت مصادر الإضاءة، وسكنتها.
   لأن التدوّين، عند الشاعر، يبصر:
[على حجر، يظل لنا سجود
وتهتريء الخطى وبها نعود
ونهدأ ـ قيل ـ نهدأ، ثم نغلي
فيورق فوق ثغر الجمر عود
ويومئ للبعيد رماد كف
ونحن على أصابعها شهود]
   فالشعري يغدو كلمات مضادة للكلمة، كما السلعة محكومة باندثارها، لكنهما يتجددان، كما العشق، ابعد من الكلمات، ومن الأشياء، والعشاق، للمعنى ذاته وهو يدشن لغز (إنانا)، متوجة بالإقامة في العبور، بعد ان بعثر الزمن تاريخه وغدا ابعد من براءته، وآثامه، فما هو اشد إيلاما ً من الموت، ليس الموت، بل الرحمة! وهنا تسمح لنا ومضات حامد الراوي ان نتوسع في تخطي حدود الظلمات، حتى لو كانت قد تضمنت مرورها، وحتى لو كانت الخاتمة قد تأسست بمثل هذا العبور.

(يا خشوف العله المجريه وأبنكم فزّز الدوريه )-الشاعر الشيخ ( حسن العذاري )-حامد كعيد الجبوري


                          (يا خشوف العله المجريه وأبنكم فزّز الدوريه )
الشاعر الشيخ ( حسن العذاري )
حامد كعيد الجبوري
   لم أستفد كثيرا من التجارب التي سبقتني لأني لم أأرشف كما يفعل غيري مع ما يحيط بهم من تدوين كل شاردة وواردة ، ومرة دعاني الصديق  أ د ( صباح نوري المرزوك ) أن لا أترك شيئا دون أن أسجل له ملاحظاتي الشخصية كما يفعل هو ، أو كما يسجل الشاعر صلاح اللبان والباحث كاظم السيد علي ، وحين أردت الكتابة  عن الشاعر الكبير الشيخ ( حسن العذاري ) اضطررت الرجوع لديوانه الذي أصدره قريب الشاعر الأستاذ ( محمد حمزه العذاري ) ومما سمعته وأحفظه بذاكرتي مما تحدث به الراحل الشاعر  سليم العزاوي  عن المترجم له .
       غنى الراحل الكبير ( ناظم الغزالي ) أغنيته المعروفة ( يا خشوف ) ولم يذكر حينها  مؤلف هذا النص ، ومن أجل الأمانة الثقافية نقول أن هذا النص هو للشاعر المرحوم الشيخ حسن العذاري وكما أثبت ذلك في ديوانه الذي أصدره قريبه الباحث ( محمد حمزه العذاري )  ، وحسن العذاري من ناحية ( محاويل الإمام ) وهي ناحية زراعية يخترقها من الجنوب  نهر يسمونه ( المجرية ) والنهر متفرع من شط الحلة ، لذا كتب قصيدته الشيخ حسن العذاري قائلا ( يا خشوف العله المجرية / أبنكم فزز الدورية / وأبنكم صابني ورماني / وسهام لحظه بالحشه مرميه )  ، غيّر فيها الراحل ناظم الغزالي مفردة ( المجرية ) الى ( الفختية ) وهي طائر الفاختة المعروف ، وللشيخ حسن العذاري قصيدة جميلة لا تزل الذائقة الشعبية ترددها في مناسبات الأفراح وهي ( يهواي دمشي بهونك / خافن تغث الكامه / ليما تصد بعيونك / خليت نعلة نامه / وينه اليدور وينه ويجسب ألي الراحه / ولفي تره نياشينه وجنات إله وضاحه  ) والقصيدة كما أصطلح عليها العروضيون الشعبيون  من وزن ( المثمن الهجيني ) .  
     ولد شاعرنا في مدينة الحلة عام 1889 م ، ،وتلقى الشيخ ( حسن العذاري ) من والده بعض المفاهيم التربوية والدينية ، ثم لازم الشيخ ( علي العذاري ) الصغير وأخذ عنه الكتابة والقراءة وحفظ القرآن الكريم ، ثم تتلمذ على يد مشايخ آل العذاري وأخذ عنهم الحديث وعلوم تفسير  القرآن واللغة في النجف الأشرف ، وقد بلورت النجف الأشرف المواقف الوطنية لشاعرنا الشيخ حسن العذاري فقد تصدى مع أقرانه للحكم العثماني أبان ثورة النجف الكبرى عام 1914 م ، ولأنه من الحلة الفيحاء فقد ألتحق بصفوف الثوار عام 1915 م وقاتل مع أبناء مدينته في ما يسمى ب ( دكة عاكف ) ، وللشاعر الشيخ ( حسن العذاري ) وهو بعنفوان شبابه  مواقف وأشعار لا تنسى أثناء ثورة العشرين ، ( كلنه نموت دون الوطن ودنه / ولو جدم علينه الحتم ودنه / كلمن وصل حدنه وكرب ودنه / (للمظلم خله يودونه ) ) ، والمظلم إشارة للقبر ، وله لثورة العشرين أيضا ( أحنه أوي التفك والدان ولمات / ولا نركن الحكم الجور والدان / عدنه يحتي المظيوم والمات / ( يتشرب من حد ماضينه )) ، ونلاحظ أيضا أن بناء هذا المقطع والذي قبله مبني على وزن الأبوذية ( الهزج ) ، ولكنه يختمه ببحر الخبب وهي ( الهوسة ) ، وكان مثل هذا البناء الشعري مستساغا يوم ذاك ، وسبب انتقال الشيخ العذاري الى النجف الأشرف هو وفاة والده وهو بعمر سبع سنين فأخذته أمه الى أخواله من ( آل المطيري   ) في النجف الأشرف ، وتتحدث أخت الشاعر حسن العذاري وهي الشاعرة  (الملاية صفية ) موصفة حياة أسرتها بتلك المرحلة فتقول ( وين أهل الرحم وين أهل المروه / متدرون الدهر بمرارتي أشسوه / بعدني أرضع حليب أمي وجار وياي / يتيمه أمحيره والهظم فت أحشاي / بالحلة عشت ما بين هاي وهاي / وتدرون اليتيم أشلون يتلوه ) .
تزوج الشيخ ( حسن العذاري ) وهو في سن الأربعين أو بعد الأربعين قليلا من امرأة تسكن قرية الإمام ومن عائلة ( الكوام ) لمرقد الإمام ( أبو محمد الحسن الأسمر ) ويذكر أنه غادر الى بغداد لمدة ثلاثة سنين ولم نعرف سببا لذلك ، ومن الطرف التي تناقلها أقاربه أن زوجته طلبت منه أن يجلب لها من السوق ( بامية وطماطم ) ولم تكن تعرف بذهابه الى بغداد ، وبعد ثلاثة سنين عاد لداره جالبا معه ما طلبته زوجته منه ، وفي العام 1935 م تزوج شاعرنا ثانية بزوجة أرملة من أهالي الحلة ومن عشائر ( الجبور ) وأنجب منها بنتين ، ورغم قلة ما في اليد فقد كان شاعرنا رحمه الله قنوعا صابرا أبيا ولم يتكسب بشعره طارقا أبواب الميسورين والتجار وأهل المناصب الحكومية وهو شاعر الفصحى والشعبي ويقول بهذا الباب ( ينكل بي دهري ولم يدر أنني / صبور وأهوال الزمان تهون ) ، ويقول أيضا ( وأكل كسيرة من خبز أهلي أحب ألي من أكل الرغيف ) ، لقد أطلع الشيخ ( حسن العذاري ) على الحضارات الشرقية وتعلم اللغة الفارسية من أخيه وأخته وضمن قصائده بمفردات أو بيتا كاملا من اللغة الفارسية ( هندونه سي أبيا نجر / وكت شام وكت ظهر / دكعد يبو خدود الحمر / من الغزال عيونه ) ، ولأن شاعرنا كتب الفصحى والعامية فقد أبدع بشعر ( الملمع ) ، ( يا رشئا عذب قلبي فهل / فد يوم قز القرط تنطيني / وسهمك الفتاك في مهجتي / جنك تريد أتحش مصاريني )  ، وشاعرنا طرق كل أغراض الشعر من مدح ورثاء ووجدان وهجاء واجتماعيات وأخوا نيات ومساجلات مع مجايليه من الشعراء ، وفي حفل زواج صديقه الشاعر ( صاحب عبيد الحلي ) يقول بأحد مقاطعها ( عادت ليالي الونسه / ورد الفرح عالعاده / كلبي أنطلق من حبسه / وصدرت بعفو الراده / والجنس عاد الجنسه / كلمن عرف معتاده ) ،   وله هذا الأبوذية التي يقفلها ب( هوسة ) مفتخرا ومعتزا بقوميته وبعروبته ( الدخيل أنجان بينه أنضام وأنساب / صحيحين الحسب بالكتب وأنساب / كلمن عال بينه أنشتم وأنساب / ( مكسور أنرده الديوانه ) )  ، وكتب شاعرنا ( حسن العذاري ) الكثير من مراثي ومدائح آل البيت الأطهار عليهم السلام رددتها حناجر المنشدون لآل البيت ( ع ) ، ومن جميل ( أبوذياته ) وهو يذكر خصال النساء و يقول ( أشو طارش موده مايه منجن / واليعرف مكرجن مايه منجن / أنتن ريع كلبي مايه منجن / لو ساعه تجن ما هيه سويه ) ، وله من بديع ( موالاته ) قائلا ( سهمك رماني ومضه وبحشاش جبدي مرك / وحنت لحالي الكفر لاجن دليلك مرك / كل اللمحني بجه وأشتمر عني ومرك / ياليت كل المركني لاوجه أبيته / وأعمه يظل لايمي بيدي وجبيته / أني لوني أيحصل عندي وجبيته / آنه أعله زيجي ولك لو زاد عندي مرك ) ، وأخيرا توقف قلب هذا الشاعر الكبير الشيخ حسن العذاري عام 1952 م في مدينة الحلة ودفن في النجف الأشرف .