السبت، 23 يوليو 2011

الهوية الثقافية العربية في زمن العولمة-عماد رسن


الهوية الثقافية العربية في زمن العولمة
عماد رسن


منذ بداية تسعينيات القرن الماضي برزت، بشكل جلي ومطرد، ظاهرة العولمة بشكل لايمكن تجاهله أو حتى تجنبه بأي حال من الأحوال. من أبرز مظاهر هذه الظاهرة وأكثرها تطورا ً وتأثيرا ً، على حد قول عالم الإجتماع البريطاني (أنطوني جيدن) هي ظاهرة التواصل والإتصال بجميع أشكاله، على مستوى الأفراد والمجتمعات، وتقنية المعلومات، ووسائط النقل السريعة. فكانت النتيجة أن ارتبط كل ماهو محلي بما هو عالمي، لتنشأ شبكة جديدة من العلاقات تتخطى حدود الدولة، مما خلق نوع جديد من الوعي لدى الإنسان إطاره عالميا ً أكثر منه إطارا ً محليا ً.

فزاد إعتماد الأفراد على بعضهم البعض في علاقاتهم عالميا ً، وكذلك الدول أصبحت تعتمد على بعضها أكثر من ذي قبل في علاقات إقتصادية ونظم إجتماعية معقدة بمساعدة التكنلوجيا. يضيف (جيدن)، أن مفهوم الدولة أصبح أقل أهمية من قبل، وكذلك مفهوم الزمان والمكان في مواجهة الرأسمالية، والتكنلوجيا، والديمقراطية.
من هذا المنطلق أصبحت الهويات الثقافية، وفي مقدمتها الهوية الثقافية العربية، مهددة بالإنقراض أمام الثقافات الأخرى التي تتميز وتتسلح بعناصر بنيوية قوية مستمدة من عصر الحداثة وما بعد الحداثة، حيث تتوفر فيها قابلية الحركة والتغيير والتكيف من دون أن تفقد عناصرها الأساسية التي بنيت عليها.
إن ثقافتنا العربية التي تعطينا هويتنا قائمة على عناصر تقليدية تعتمد في بنيتها على علاقات ذات طابع تقليدي(traditional) لمجتمع بدوي أو ريفي وعلى الأكثر مجتمع ريفي ذكوري إلى حد كبير يعيش في المدينة. فنظمنا الإجتماعية قائمة على أساس قبلي عشائري وعلى الأقل مناطقي تستمد وتعتمد في بقائها على النظام الأبوي، وتجتر الماضي في كل أزماتها. فثقافتنا تعتمد في عناصرها الأساسية على موروث ماضوي ملتزم بالتقاليد والتي لايريد أن يغيرها، و يرتبط بالغيب والخرافة بشكل كبير.
أنا لاأريد أن أضع كل الدول العربية في سلة واحدة، فهذا خطأ كبير، ولكن هذا مايميز الثقافة العربية، في عناصرها العامة، في أغلب الدول العربية. فهناك توجد أيضا ً هويات مختلفة في كل الدول العربية، فمنها هويات وطنية ودينية وإثنية مختلفة، مهددة بالذوبان أمام الثقافة الغربية. فالهوية الثقافية الإثنية لمجموعة من البشر حسب (إركسون) هي تصور لمجموعة من الناس بإنهم ينتمون لبعضهم كشعب واحد، لهم تاريخ وتقاليد وخبرة مشتركة تجعها رموز ثقافية ثابتة ذات مرجعية ثابتة ومحددة. ولكن، هل توجد ثقافة عربية واحدة؟ بالتأكيد توجد هناك ثقافات متعددة مختلفة بشكل متمايز لكنها تعود في جذورها للثقافة العربية، ذات هوية محددة إلى حد ما. وكما يقول (ويل كمليكا) أن الثقافة تعطي للإنسان معنى الحياة والوجود، وتزوده بطريقة التفكير.
أما الثقافة الغربية فتعتمد على عنصر عقلاني (rational) ذات هدف محدد نشأ مع الثورة الصناعية في أوربا قبل ثلاثة قرون. لقد كيفت الثقافة الأوربية نفسها لتبقى بإندماجها مع الرأسمالية إقتصاديا ً والديمقراطية سياسيا ً، لتصل عصر ما بعد الحداثة والذي يقوم على أسس التغيير في كل شي، فلا يوجد شيء ثابت سوى أن كل شيء قابل للتغير. وعلى هذا الأساس إتجهت المجتمعات الأوربية نحو تعدد وتنوع الثقافات من خلال الإنفتاح الحضاري لتتجنب الإنقراض المحتم مع الإنغلاق. إن مفهوم الهوية في عصر مابعد الحداثة، والذي يمتطي ظاهرة العولمة، متغير ومتلون يستوطن كل أرض متكيفا ً مع ثقافتها المحلية. إن الثقافة الغربية تعتمد على المستقبل في إكتساب هويتها ولاتنظر للماضي كخزين تاريخي.
أعود لظاهرة العولة التي يعرفها (جيرارد ديلنتي) بأنها ملتقى لثقافات متعددة تقل بها أهمية المكان، ويعبر هذا اللقاء عن نفسه من خلال الصراع أو الإنصهار لينتج ثقافة جديدة أكثر عمومية وشمولية تنهار بها التفاصيل التي تضمنتها الثقافات المنصهرة، هذا في وجه العولمة السلبي. أما في وجه العولمة الإيجابي فالعولة تتجه نحو الإندماج والتجانس بين الثقافات. وعلى هذا الأساس ستواجه الثقافات التقليدية تحديا ً جديدا ً من خلال فرض قيم الثقافات الحديثة والتي تمر من خلال العموميات كحقوق الإنسان أو الحفاظ على البيئة.
بإختصار شديد، تقع علينا كعرب مسؤولية كبيرة، ليست ثقافية بقدر ماهي مسؤولية أخلاقية أمام أجيالنا القادمة في الحفاظ على هويتنا الثقافية العربية (بالطبع لاأقصد الهوية القومية العربية). وأفضل سبيل لذلك هو الإنفتاح وعدم التقوقع، فالإنفتاح يخلق فرص النفاذ والبقاء على قيد الحياة، أما التقوقع فيخنق ثقافتنا وينهيها كما إنتهت الكثير من الثقافات على مر العصور. إن مجتمع متعدد الثقافات قائم على إحترام حقوق الإنسان لهو السبيل الوحيد للحفاظ على ثقافتنا. والجميل في الأمر إن ديننا الإسلامي يحث على التواصل والإنفتاح على الآخر. يقول الله في القرآن الكريم (يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير).

imad_rasan@hotmail.com
الإثنين 30 أغسطس

الجمعة، 22 يوليو 2011

لا ننام والسلام -كاظم فنجان الحمامي

لا ننام والسلام


جريدة المستقبل العراقية في 20/7/2011

كاظم فنجان الحمامي

لسنا ممن يرون في النوم مضيعة للوقت, مثل العبقري الكبير (ليوناردو دافنشي), الذي كان يكتفي بالنوم عشرين دقيقة كل أربع ساعات, ولا مثل (نابليون بونابرت), الذي كان ينام أربع ساعات في اليوم وحسب, ولا من الذين يسهرون الليالي طلبا للمعالي, فنحن لا ننام والسلام.
ولسنا من الأقوام المستقرة, التي ترى في النوم محطة ليلية للاسترخاء, وفرصة لاستعادة طاقات البطاريات الحيوية في أجسامهم المتعبة, وإعادة شحنها معنوياً وبدنياً, كي يستيقظوا في الصباح الجميل, ويسعوا في مناكبها بعضلات قوية, وأرواح مفعمة بالنشاط, فنحن لا ننام والسلام.

ولسنا من أبناء مدينة (سالونيكا) اليونانية, المدينة التي لا تعرف النوم. ولا من أبناء (هونغ كونغ) الساهرة على أضواء القناديل, ولا من المدن الصاخبة التي لا ترقد بالليل, ولا تهدأ بالنهار كطوكيو, وبيروت, وباريس, والقاهرة, فنحن لا ننام والسلام.
ولسنا من النماذج البشرية الرقيقة, التي تخشى الكوابيس, وتنزعج من الأحلام المرعبة, ولا من الأقوام التي تخاف من العفاريت والجن, ولا من الأقوام التي يقلقها الأرق, فنحن لا ننام والسلام.
ولسنا من الجماعات التي تهوى السهر على ضوء القمر, ولا من رواد الملاهي الليلية, الذين ينامون النهار ويستيقظون حتى الصباح في الليالي الملاح, فنحن لا ننام والسلام.
ولسنا من الذين غادر الكرى جفونهم حزنا وكمدا على فراق الأحبة, فنحن نعيش خارج التغطية, غرباء في أوطاننا, تعساء في ديارنا منذ زمن بعيد, ونرزح خلف قضبان سجن كبير, ولا ننام بسلام.
ولسنا ممن يحرسون بيوتهم وممتلكاتهم في الليل, تحسبا لهجمات اللصوص والغزاة والحرامية, فنحن لا نملك من حطام الدنيا شيئا, ولصوصنا يسرقون في النهار, لكننا لا ننام والسلام.

ولسنا هنا بصدد الحديث عن رواية جديدة مكملة لرواية إحسان عبد القدوس (لا أنام), لكننا أردنا التلميح عن بعض فصول مأساتنا النابعة من واقعنا المر المعاش, بعد أن طار النعاس من عيوننا, وصرنا لا نعرف النوم بالليل ولا بالنهار, ولا ننام مثل بقية الكائنات من الجن والإنس في أقطار السماوات والأرض, ربما لأنهم يتفوقون علينا حضارياً في المعايير الكهربائية والأمبيرية والفولتية, وعندهم فائض كبير في الميغاواطات, فلا تتعجبوا ولا تندهشوا, فنحن لا نهجع ولا ننام, وانقطعت علاقتنا بالسرير والفراش, ونسينا شكل المخدة, وصارت عندنا مناعة ضد أقراص الفاليوم. .
أما إذا أردتم أن تعرفوا لماذا لا ننام ؟؟.

الأربعاء، 20 يوليو 2011

علي الوردي



علي الوردي


هو علي حسين محسن عبد الجليل الوردي ... ولد في بغداد ، حي الكاظمية في عام 1913 من عائلة متوسطة المستوى المعيشي، حيث عمل أبوه عطاراً في الكاظمية ، وقد شارك الوردي أباه في عمله هذا حينما ترك الدراسة التقليدية (الكتاتيب) التي كان قد التحق بها كعادة معظم أبناء جيل تلك المرحلة ولقلة المدارس النظامية ... وقد كان العراق وقتها جزءاً من السلطنة العثمانية وبعد إنهيار حكم السلطنة في العراق بعد دخول القوات البريطانية إليه إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ، فقد عاد الوردي إلى الدراسة ولكن هذه المرة من بابها الواسعة ، حيث دخل مدرسة نظامية وهجر دراسة الكتاتيب ...

يجد الوردي في إنهيار حكم الدولة العثمانية في العراق والمنطقة أفقا وفتحا جديدا أدخل معه الكثير من مدخلات الحضارة إلى العراق ومنها إنتشار هذا النوع من التعليم الحديث ، والذي لولاه لكان الوردي عطارا مثل أبيه كما ذكر ذلك في أكثر من مناسبة ...

عمل الوردي معلما لمدة سنتين بعدها بعد تخرجه من الدراسة الإعدادية ، سافر بعدها ليدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت ، ثم جامعة تكساس في أميركا حيث نال شهادة الماجستير في عام 1947 في علم الإجتماع ، ثم تحصل في عام 1950 على الدكتوراه من نفس الجامعة ونال تكريم حاكم الولاية شخصيا بعد أن تفوق بإمتياز ...

عاد إلى العراق بعد تخرجه وعمل بقسم علم الإجتماع في جامعة بغداد وكان من رواد القسم ورواد علم الإجتماع في العراق ... تدرج في وظيفة التدريس حتى منح لقب "أستاذ متمرس" في جامعة بغداد وهو لقب يمنح للمتفردين في تخصصاتهم وطول مدة خدمتهم ... تقاعد عن التدريس في عام 1972 ، وهو في أوج عطائه العلمي، وتفرغ للتأليف وإلقاء المحاضرات في بعض المؤسسات العلمية ومنها معهد البحوث والدراسات العربية الذي كان مقره في بغداد ...

كانت معظم طروحاته التي ملأت كتبه والتي يلقيها في محاضراته تزعج السلطة الحاكمة في بغداد ، الأمر الذي دعى بها إلى التضييق عليه تدريجيا وإبتداءا من سحب لقب أستاذ متمرس المشار إليه ووصولا إلى سحب معظم كتبه من المكتبات وحضرها على القراء بداعي ما أسموه "السلامة الفكرية" ، ومرورا بمحاولات تهميشه وإفقاره ماديا وهو ما آل إليه حاله حيث مات في شهر تموز عام 1995 ، بسبب المرض رغم العلاج الذي تلقاه في المستشفيات الأردنية وعلى نفقة السلطات الأردنية كما أشيع وقتها ، وقد أقيم له تشييع محتشم غاب عنه المسؤولون وجازف من حضره من المشيعين ...

إستفاد الوردي من طروحات إبن خلدون كثيرا وأعتبره منظر حقيقي ودارس متمعن للمجتمع العربي في تلك الفترة ، وكان إبن خلدون موضوع إطروحته للدكتوراه ...

من أشهر مؤلفاته :

وعاظ السلاطين
http://www.4shared.com/file/107405624/9ba0e2d0/__-__.html

مهزلة العقل البشري
http://www.4shared.com/file/107405666/11c246f8/_____.html


منطق إبن خلدون
http://www.4shared.com/file/107409314/fc90cc40/___-____.html


خوارق اللاشعور
http://www.4shared.com/file/107405800/a4656941/____.html


إسطورة الأدب الرفيع
http://www.4shared.com/file/107411194/cf199379/_2_______.html


شخصية الفرد العراقي
http://www.4shared.com/file/107410439/f530a2c0/___online.html

لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ... الجزء الأول
[url]http://www.4shared.com/file/107406254/c15d7325/_______.html
[/url]

لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ... الجزء الثاني
http://www.4shared.com/file/107406278/fadd5d8c/_______.html

لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ... الجزء الثالث
http://www.4shared.com/file/107406306/53e68c7b/_______.html

لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ... الجزء الرابع
http://www.4shared.com/file/107406402/51c45ee7/_______.html

لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ... الجزء الخامس
http://www.4shared.com/file/107409498/38b01ce6/______5.html

لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ... الجزء السادس
http://www.4shared.com/file/107406590/6fcaeeb5/______6.html

الاثنين، 18 يوليو 2011

الدخول في جَسَدِ الخريطة / سليمان دغش-التخطيط,غالب المسعودي


الدخول في جَسَدِ الخريطة / سليمان دغش
كَمْ وَرْدةٍ هَتفَتْ
وَكَمْ عَلَمٍ خَفَقْ
كَمْ غَيمَةٍ رَقَصَتْ ضَفائرُها
عَلى كَتِفِ الأُفُقْ..!
الكَهْرَباءُ تَوتَّرَتْ أَعصابُها
وَاللهُ في الأُفُقِ المُورَّدِ قَدْ نَطَقْ
قُمْ يا وَلَدْ
لمَلِمْ جِراحَكَ وَاتَّحدْ
لمْلِمْ شِهابَكَ وَانتَشِرْ
فَجْراً يُطِلُّ عَلى البَلدْ
هِيَ خُطوَةٌ أولى انْطَلِقْ
وَادْخُلْ إِلى جَسَدِ الخَريطَةِ
إِنَّ في جَسَدِ الخَريطَةِ
ما يُبَلُّ بِهِ الرَّمَقْ
اليَومَ تَعْتَرفُ العَواصِفُ أَنَّ للعُصفورِ حَقّاً
في ظِلالِ السِّنديانةِ
في أَنينِ رَبابةٍ سَكَبَتْ مدامِعَها عَلى وَرَقٍ
تَساقَطَ كُلَّما مَرَّ النَّسيمُ
عَلى الوَرَقْ
اليَومَ تَقْتَرِبُ المَسافَةُ
بَيْنَ روحِ البُرتُقالِ
وَبَيْنَ رائِحَةِ العَبَقْ
اليَومَ تَعْتَرفُ الرَّصاصَةُ أَنَّ للشُّهَداءِ
طَوق الياسَمينِ
وَأَنَّ نَيْرونَ احْتَرَقْ
النَّهرُ يَجْري صامِتاً
لا فَرقَ عِندَ النَّهرِ
بَيْنَ الضِّفتينْ
النَّهرُ يَحْملُ دَمْعَنا ودِماءَنا
وَالرّيحُ تَرفُضُ أَنْ يَتِمَّ زَواجُنا
كَفَراشَتَينْ
لي وَرْدةٌ في الحُلْمِ توشِكُ أَنْ تفيقَ
عَلى يَدَيَّ رَصاصةً
وَحَمامَتينْ
لي نَجْمةٌ في الصُّبحِ توشِكُ أَنْ تُسافرَ
في قِطار الضّوءِ نَحوَ مَحَطَّةٍ
وَمَحَطَّتينْ...
لي غَيْمَةٌ تَبكي وَتَسأَلُ :
أَيْنَ مِنديلُ الغَمامَةِ
أَينَ.. أَينْ ؟!
كَمْ وَرْدَةٍ هَتَفتْ
وَكَم عَلَمٍ خَفَقْ
وَالشَّمسُ قَد خلَعَتْ قَميصَ النَّومِ
فاشْتَعَلَ الغَسَقْ
يا أَيُّها الوَلدُ الشَّقيُّ
وأيُّها الوَلدُ الأَبيُّ
وَأَيُّّها الوَلدُ النَبيُّ
سَمَوْتَ بالإسْراءِ فاصْعَدْ سابعَ السَّمَواتِ
وَاقْرأْ..
سورَةَ الفَتحِ المُبينِ
وَسورَةَ البَلدِ الأَمينِ
وَسورةَ الوَطنِ الجَنينِ
وَقُلْ لجِبرائيلَ : هَبْني جانِحَيْن
وآيَتَيْنِ
لأَنْطَلِقْ
وَلأَحْتََرِقْ...
هَيَّأْتُ روحي لِلقَرارِ
وَلِلنَّهارِ
حَمَلتُ في اليُمنى الهِلالَ وَفي اليَسارِ
حَمَلتُ ناري
هَيَّأْتُ روحي للشُّتاءِ
فَللغَمامةِ أَنْ تَئِنَّ كَما تَشاءُ
عَلى هَديلي
هَيَّأْتُ روحي للرَّحيلِ مِنَ الرَّحيلِ
إِلى الرَّحيلِ
لَمْ يَبْقَ عِندي غَير خارِطَتي
وَلِلتَّوراةِ أَنْ تَمْحو كَما شاءَ الإلهُ
ظِلالَ مِرآتي القَديمةِ فَوْقَ مِئْذَنةِ الرَّسولِ
وَتُقيم هَيْكَلَها القَديمَ عَلى رُفاةِ عَنادِلي
وَعَلى حِجارَةِ مُسْتَحيلي
لا...
لا أُفرِّطُ بالخَريطَةِ فَهْيَ قَلبي
آهِ مِنْ قَلبٍ يُسافرُ كَالفَراشةِ
خارِجَ الجَسَدِ العَليلِ
ليَضُمَّ قِصْفةَ زَعْتَرٍ ثَكلى
عَلى كَتِفِ الجَليلِ
لا...
لا أُفرِّطُ بالخَريطَةِ كُلِِّها
يا رَبُّ قَلبي ها هُناكَ عَلى الرُّبا
وَأَنا هُنا
لأعُدَّ خَطْوي
كُلَّما قَلبي تَنفَّرَ أَو خَفَقْ
لا...
لَنْ أُفرِّطَ بالخَريطةِ
إِنَّ في جَسَدِ الخَريطَةِ
ما يُبَلُّ بهِ الرَّمَـــــــــــقْ...!!؟
( من ديوان : عاصفة على رماد الذاكرة

لاعلم مشروع غير علوم الشريعه,والعلوم الدنيويه مضيعة للوقت والمال



لاعلم مشروع غير علوم الشريعه
والعلوم الدنيويه مضيعة للوقت والمال

من الطبيعي ان تكون هناك انتقادات لآصحاب ألرأي تعبر عن وجهات نظرهم . وبدلا من تكريم وتشجيع من خدم الانسانية ورفدها بعلمه وفكره وجهده نرى العكس تماما وذالك باتهامهم بالالحاد والشعوذة والسحر. اما اتهام كبار العلماء والمفكرين والفلاسفة بالكفر والالحاد كذبا ونفاقا وحسدا فيبين مدى قصور الفكر السلفي المتجرد عن مواكبة الفكر الانساني في التقدم ومعارضة التطور الفكري والعلمي بل وحتى التصدي وقمع اي بحث يصب في خدمة الانسانية بتبريرات واجتهادات ساذجة بعيدة كل البعد عن المنطق والعقل والدين ولنرى جانبا من ذالك اتهام السلفية لكبار العلماء والمفكرين من السنة والشيعة على حد سواء
قالوا عن العالم الطبيب والفيلسوف - إبن سينا- و كان شيعيا
قال ابن تيمية:
"كان هو وأهل بيته واتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد" - الرد على المنطقيين ص141
قال ابن القيم:
"إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" - إغاثة اللهفان 2/374
قال ابن الصلاح:
"ابن سينا .. كان شيطاناً من شياطين الإنس" - فتاوى ابن الصـلاح 1/209
قال الكشميري:
"ابن سينا الملحد الزنديق القرمطي غدا مدى شرك الردى وشريطة الشيطان" - فيض الباري 1/166.

------------------------------------
في كتابه " حقيقة الحضارة الاسلامية"
قدم الشيخ " ناصر بن حمد الفهد "
تحليلا تراثيا حول موقف نخبة شيوخ الاسلام من كبار فلاسفة وعلماء الفترة المعروفة بالحضارة الاسلامية،
يفاجأنا بأن اغلب كبار المفكرين الذي كانوا سبب انتساب الفترة الاسلامية الى مقدمة الحضارة الانسانية على الخصوص، كانوا في حقيقتهم خارج الاسلام، هذا من وجهة نظر " نخبة علماء الدين الاسلامي تحديداً".
وبالتالي يفتحون الباب لاستنتاج خطير
ان انتاج الفلاسفة والعلماء لم يكن نتيجة المنهج الديني الجديد الذي اجتاح منطقة الحضارات القديمة وانما نتيجة استمرار التأثير الثقافي لمنهج الفلسفة القديم الذي ابدعته شعوب الحضارة السابقة ومع التمكن من ترسيخ وتوطيد الفكر الديني ، وهي العملية التي وصلت الى ذروتها في نهاية الخلافة العباسية، اختفت اخر تأثيرات الفلسفة القديمة المحفزة للابداع، وتمكن النهج الجديد من كبح حرية الفكر والرغبة في الاطلاع ، وأعاد المنطقة الى حظيرة الصحراء الفكرية.
_______________
قال الفهد في كتابه:
سوف أذكر في هذا الفصل قائمة بأشهر العلماء، الذين يهيج المعاصرون بمدحهم
وأذكر ما قاله أئمة الإسلام فيهم وفي عقائدهم، وقد تركت منهم أكثر مما ذكرت،
ابن المقفع - عبد الله بن المقفع- وكان شيعي
صاحب قصة كليلة ودمنة – اهم رواد الادب
كان مجوسياً فأسلم ، عرّب كثيراً من كتب الفلاسفة، وكان يتهم بالزندقة.
لذلك قال المهدي رحمه الله تعالى: (ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع) [27].
جابر إبن حيان- و كان شيعيا
أحد اهم علماء الكيمياء
قال الشيخ الإسلام – ابن تيمية:
(وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية؛ فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم والدين).
,لو أثبتنا وجوده، فإنما نثبت ساحراً من كبار السحرة في هذه الملّة، اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات، وهو أول من نقل كتب السحر والطلسمات - كما ذكره ابن خلدون
الخوارزمي - محمد بن موسى الخوارزمي- و كان شيعيا
اشتهر بعلم الجبر و المقابلة و الرياضيات
اختراع "الجبر والمقابلة"، للمساعدة في حل مسائل الإرث.
قال ابن تيمية؛ بأنه وإن كان عِلمه صحيحاً إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره.
الخوارزمي هذا كان من كبار المنجّمين في عصر المأمون والمعتصم الواثق
وكان بالإضافة إلى ذلك من كبار مَنْ ترجم كتب اليونان وغيرهم إلى العربية
الكندي - يعقوب بن اسحاق- وكان شيعي
من أوائل الفلاسفة الإسلاميين، منجّم ضال، متهم في دينه كإخوانه الفلاسفة، بلغ من ضلاله أنه حاول معارضة القرآن بكلامه
الرازي - محمد بن زكريا الطبيب - و كان شيعيا
من كبار الزنادقة الملاحدة، يقول بالقدماء الخمسة الموافق لمذهب الحرانيين الصابئة - وهي الرب والنفس والمادة والدهر والفضاء - وهو يفوق كفرالفلاسفة القائلين بقدم الأفلاك، وصنّف في مذهبه هذا ونصره، وزندقته مشهورة
الفارابي - محمد بن محمد بن طرخان- و كان شيعيا
من أكبر الفلاسفة، وأشدهم إلحاداً وإعراضاً، كان يفضّل الفيلسوف على النبي، ويقول بقدم العالم، ويكذّب الأنبياء، وله في ذلك مقالات في انكار البعث والسمعيات، وكان ابن سينا على إلحاده خير منه، نسأل الله السلامة والعافية
المجريطي - مسلمة بن أحمد - و كان شيعي
كبير السحرة في الأندلس، بارع في السيمياء والكيمياء، وسائر علوم الفلاسفة، نقل كتب السحر والطلاسم إلى العربية، وألف فيها "رتبة الحكيم" و "غاية الحكيم"، وهي في تعليم السحر والعياذ بالله، {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، نسأل الله السلامة
ابن سينا - الحسين بن عبد الله-و كان شيعيا أسماعيليا
إمام الملاحدة،، ضال مضل، كان هو وأبوه من دعاة الإسماعيلية، كافر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم بالآخر
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
أو ذلك المخدوع حامل راية الـ إلحاد ذاك خليفة الشيطان
أعني ابن سينا ذلك المحلول من أديان أهل الأرض ذا الكفرانِ
ابن الهيثم - محمد بن الحسن بن الهيثم- أشعري
من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، من أقران ابن سينا علماً وسفهاً وإلحاداً وضلالاً، كان في دولة العبيديين الزنادقة، كان كأمثاله من الفلاسفة يقول بقدم العالم وغيره من الكفريات
المعرّي - أبو العلاء أحمد بن عبد الله
المشهور بالزندقة على طريقة البراهمة الفلاسفة، وفي أشعاره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين.
ذكر ابن الجوزي:
أنه رأى له كتاباً سماه "الفصول والغايات في معارضة الصور والآيات"
ابن طفيل - محمد بن عبد الملك- و هو شيعي
من ملاحدة الفلاسفة والصوفية، له الرسالة المشهورة "حي ابن يقظان"، يقول بقدم العالم وغير ذلك من أقوال الملاحدة
ابن رشد الحفيد - محمد بن أحمد بن محمد
فيلسوف، ضال، ملحد، يقول بأن الأنبياء يخيلون للناس خلاف الواقع، ويقول بقدم العالم وينكر البعث، وقد انتصر للفلاسفة الملاحدة في "تهافت التهافت"، ويعتبر من باطنية الفلاسفة، والحادياته مشهورة
الطوسي - نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن-و كان شيعيا
نصير الكفر والشرك والإلحاد، فيلسوف، ملحد، ضال مضل، كان وزيراً لهولاكو وهو الذي أشار عليه بقتل الخليفة والمسلمين واستبقاء الفلاسفة والملحدين، حاول أن يجعل كتاب "الإشارات" لابن سينا بدلاً من القرآن، وفتح مدارس للتنجيم والفلسفة، وإلحاده عظيم
ابن البناء المراكشي- أحمد بن محمد وكان ميوله علوي
شيخ المغرب في الفلسفة والتنجيم والسحر والسيمياء
ابن بطوطة - محمد بن عبد الله -و كان شيعيا
الصوفي، القبوري، الخرافي، الكذّاب، كان جل اهتماماته في رحلته المشهورة؛ زيارة القبور والمبيت في الأضرحة، وذكر الخرافات التي يسمونها "كرامات" وزيارة مشاهد الشرك والوثنية، ودعائه أصحاب القبور وحضور السماعات ومجالس اللهو، وذكر الأحاديث الموضوعة في فضائل بعضالبقاع، وتقديسه للأشخاص، والافتراء على العلماء الأعلام، وغير ذلك
-----------------------------------------

الجاحظ - عمرو بن بحر- وكان عثماني الهوى
من أئمة المعتزلة، سيء المخبر، رديء الاعتقاد، تنسب إليه البدع والضلالات.
حكى الخطيب بسنده؛ أنه رمي بالزندقة، (كان كذاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس)
فتاوى الشيخ صالح الفوازان
عضو هيئة كبار العلماء و اللجنة الدائمة للافتاء
فضيلة الشيخ : ما رأيكم فيمن يثني على ابن سينا ويجعله من علماء المسلمين؟
ان كان جاهل فلا يدري عن حال ابن سينا عليه ان يسكت .و ان كان عالم بحال ابن سينا وكفرياته فيكون مقر له على ذلك فيكون حكمه مثل كحكم ابن سين. ومن يقولون انه منتسب للإسلام وهذا مفخرة للإسلام نقول لا الإسلام منه بريء والإسلام غني عنه نعم فالحاصل انه لايمدح ولايزكى نعم لانه باطني من الباطنية فيلسوف ملحد نعم
هل يصح تسمية المستوصفات باسمه ؟
في بلاد المسلمين لا . لأن هذا تعظيم لهذا الملحد
بينتم لنا حقيقة ابن سينا ، فما حقيقة الفارابي والرازي والكندي وابن رشد ؟
كلهم من هذا النوع! عندهم فلسفات وعندهم اشياء خصوص الفاربي اشد
هل يمكن مخاطبة وزارة المعارف بتغيير أسماء المدارس التي سميت باسمه؟
يجب مخاطبة المسئولين في رفع اسمه من المدارس هو والفارابي وهولاء الملاحدة
يجب رفع اسمائهم من المدارس!!
--
* إذا كانت المطرقة هي الأداة الوحيدة معك، فستعامل كل الأشياء وكأنها مسامير.

السبت، 16 يوليو 2011

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل-تخطيطات غالب المسعودي

قصص قصيرة جدا ً

عادل كامل
[1] بحث
ما الذي يفعله، وهو، منذ أيام، يحفر في الأرض...؟ قلت: ربما يصنع ملجأ، أو بئرا ً، أو يبحث عن كنز! بعد أيام ... عدت أراقب، فلم أجد الرجل، فذهبت إلى الأرض التي كان يحفر فيها. لقد دفن جسده فيها، لكن جارنا لم يمت بعد، بل قال لي: يا ولد...لماذا أزحت التراب عن رأسي، ماذا تريد، من أرسلك...؟
ـ لا أريد شيئا ً، لكن لماذا تركتننا وغادرت ..؟ لم يجب. فسألته:
ـ هل الحياة لم تعد محتملة؟ لم يجب أيضا ً. بل أومأ برأسه ان لا افتح فمي، وان أعيد التراب إلى موضعه، بهدوء.
منذ ذلك اليوم، وبعد قرون، كلما دفنت جسدي، أجد أنني ... انتظر ان أعود إلى الحفرة ذاتها!

[2] هذا ما حدث تماما ً

لم ْ استطع ان احدد ما اذا كانت بقع الضوء مستطيلة أو مربعة، أو محض مثلثات تراكمت أمامي. أنا لم افعل ذلك لأنني لا أميز أآنا هو الذي كنت امنعها من الاقتراب مني، أم هي التي قد ابتعدت عني، الأمر لم يعد مثيرا ً للفزع، فالخطوط تداخلت نهاياتها وتلاشت في العتمة، لأنني ما ان أفقت لم أر إلا مخلفات أعشاب لم تزل طرية، لها رائحة بذور، وقد جذبتني إليها، ثم لمحت أنني أنا الآخر لم يقاوم الذوبان. لا أحد قال لي ماذا حدث، ولا أنا كنت منشغلا ً ما اذا كانت الحرب قد وضعت أوزارها أم بدأت توا ً. خطوط لها حرارة رماد داكن، وأنا مازلت أقف عند النافذة، لصق سريري الخشبي، عندما توارت. كان ذلك هو الذي حدث، تماما ً، وقد غدا نائيا ً عني، بعد ان أخذني معه. منذ قرون لم أبح بكلمة، لأن فمي انشغل يتتبع رائحة الأعشاب، ويأمل ان يمسك بالبذور، بجوار المثلثات التي استطالت وتكورت حتى استحالت إلى بقع داكنة اللون. أنا قلت أنها لم تكن غير ذلك، مع أنها أصبحت شبيه بالمكعبات، وإنها أصبحت عديمة الشكل، تجاور أشكالا ً تمتد دائرية حول ظلها. منذ ذلك اليوم لم أبح بكلمة فقد كان فمي غادرني معها ولم يترك إلا بقعا ً عديمة اللون.

[3] قصاص
عندما أفقت من الموت، ورفعت راسي قليلا ً، شاهدت صبية يحفرون قبرا ً بجوار قبري. هل تكلمت ...؟ احدهم لمحني فاقترب مني، بهدوء، أعادني إلى الموت، لكني سمعته يخاطبني: لم يحن أوان القصاص منك!


[4] رصاصة
هل ينبغي علي ّ ان اعرف ماذا حدث بالضبط، أم ان الرصاصة التي اخترقت جمجمتي، واستقرت في القاع، لم تسمح لي إلا ان امسك بها، دون النظر إليها، وان أعيدها إلى الثقب الذي انطلقت منه. كانت رصاصة مدببة ليس لها رائحة محددة، فلما أبعدتها عني، رأيتها تعود لتبحث عن رأس إنسان آخر.


[5] زاوية
كان شبيها ً بالهرم، الذي طالما رسمته في درس الرسم، عدا انه يتكون من حبيبات بالغة الصغر شبيهة برؤوس موتى، عديمة الملامح. نظرت إليه من الأسفل إلى الأعلى، وبالعكس، فلم يكن شبيها بالهرم الذي كنت ارسمه في طفولتي، لأنني بعد ذلك اليوم لم أر ْ هرما ً، مثلما لم يخطر ببالي ان ابحث عن رأسي أيضا ً.

[6] الدورة لم تكتمل
أمر قائد المجموعة زمرته بإطلاق سراحي. وقال موجها كلامه لي: اذهب ...! أين يمكنني ان اذهب، وأنا بلا رأس..؟ قلت له: أعيدوا لي راسي، لكنه قال لي: سنعيده إليك في الوقت المناسب. فلم اعترض. لم اشكره. ولم اسأل أحدا ً ما اذا كانوا يعرفون ماذا حدث لنا، لأن احدهم التصق بجسدي، ثم ما ان لمسته، حتى وجدت آخر يقترب منا.
بعد قرون، في ذات صباح، وأنا أغادر البيت، تعثرت بشيء شبيه بصخرة! عندما لمسته ظننت ان خطأ ما حدث، فالرأس ـ هذا ـ لا يعود لي، فأعدته ـ بهدوء ـ إلى موضعه، لكن احدهم لكزني بعصاه، ووضعني في صندوق. آنذاك عرفت ان عملهم، معنا، لم ينته بعد.
وبعد قرون أخرى، لم يعد لي جسد، ولا رأس، ولا ... إلا هذا الشبيه بالذي يصعب رؤية مروره، فسألت ما تبقى مني: أتراه تركني وصرت أتتبع اثر خطاه، أم تركته ولم يتخل عن تتبع ما تبقى مني؟

[7] سكن
أخذونا، أنا وجاري، وعدد آخر من المارة، إلى الإمبراطور. كانت ليلة باردة جدا ً، وثمة عاصفة ترابية كانت تمنعنا من الرؤية. أنا لا أتذكر ماذا قال جلالته، لكن جاري الآخر الذي لم يأخذوه معنا، سألني، في اليوم التالي، ماذا قال لكم الإمبراطور...؟ قلت: قال لنا، نحن الذين نجونا من الموت، يحق لنا ان نبقى على قيد الحياة! ثم سألني جاري: وماذا قال أيضا ً..؟ لا استطيع ان أقول انه قال شيئا ً آخر. أبتسم، وقال لي: لم يجد سواكم كي يبقى في الذروة! لم اجب. لأن جاري لم يجد آخر يستجوبه، غيري. منذ ذلك اليوم وأنا أتدثر بغبار العاصفة، بعد ان وجد البرد سكنه في روحي.

[8] الحرية!
للمرة الثالثة، آن لهم ان يطلقوا سراحه، لكن آمر القلعة طلب منه ان يكتب تعهدا ً يؤكد فيه انه سيكون معهم. سحب أصابعه من الورقة وقال للآمر: ألا ترى ان سنوات السجن كافية! لا، قال الآخر، وأعاده إلى زنزانته.
في المرة السابعة، وجد السجين نفسه بانتظار مغادرة القلعة, تغير الآمر، الذي كرر السؤال نفسه: هل ستتعهد...؟ نظر السجين إليه وقال له: ألا ترى أنكم أخذتم أصابعي مني. أعادوه إلى زنزانته. في المرة التالية، وجد آمرا ً آخر، ولكن السؤال تغير. لم يبتسم السجين، فقد ترك رأسه في القلعة، وخرج طليقا ً. قرون وهو ينشد للحرية، ثم، في يوم من الأيام، وجد حشدا ً من الناس، من النساء والشيوخ والأطفال، بينهم أمراء القلعة، وأمراء سجون أخرى، يحدقون في عينيه، تحت أشعة الشمس، وفي الهواء الطلق، وهم يصغون إليه. كانت كلماته تتناثر مع موجات الريح، وتمتزج برذاذ عطر ورود المتنزه، فيما انشغل أمراء القلعة وباقي سجاني المدينة في حوارات لم يلتفت إليها، ولم تثر انتباهه. احدهم سمعه يقول: لا يمكن للحرية ان تحتجز خلف القضبان، أو داخل الجدران. وسمعه آخر يقول: ولا ان تقبع في تمثال!

[9] مع من ...؟


ـ مع من أنت ...؟
ـ معهم!
بعد سنوات، سمع السؤال نفسه:
ـ مع من أنت ...؟
ـ معكم!
آنذاك تركوه ينزف حد الموت. قرون وهو لا يعرف مع من كانوا، هؤلاء الذين، لم يكن معهم، وقرون أخرى مضت، لم يستطع ان يعرف مع من كان، إنما لم يستطع ان يجد من يكون معه!

[10] هو وهي أيضا ً

عرفها. كان لها صوت مبلل برائحة القداح، ولون امتزجت فيه عطور البراري النائية. قال:
ـ أنا لم اختر الدرب الذي سلكته.
ـ وأنا، يا حبيبي، لم يخترني الدرب الذي سلكته!
فكر انه مازال يجهل هل هو صمتها الذي مكث لا يقدر على محوه، أم فرحها المبلل برذاذ الفجر.. فكر أنها لم تدعه يفكر!
ـ اقسم لك َ، الدرب هو الذي أخذني .. وأنا لم اذهب معه...!
ـ أنا، يا حبيبتي، لم اختر دربي، ولم ادع الدرب يأخذني أيضا ً. فانا مازلت، في كل فجر، أرى الطرق تشتبك بالعابرين، وارى، في كل ليل، الومضات تمضي في طرقها ..! لا احد يمر بالدرب أكثر من مرة! ولا درب سلكته الأقدام ذاتها إلا مسح أثرها.
فكر في نفسه، إنها لم تكن إلا محض حكاية محاها الرجل، وتركها تغيب، لتمحوها الأنثى، وقد أعادت إليها حضورها. لكن المرأة قالت:
ـ أنا لا اقدر ان أمحو محوك.
ـ وأنا ... هو الآخر، لا اقدر ان أمحو هذا المحو!

[11] أوامر
قطعوا اليد التي كان يكتب بها. فدوّن بالأخرى. بتروها. عندما حاول ان يبصر، حجبوا عنه الضوء. ترك قلبه يومض، لمحوه، أوقفوا نبضات القلب. فلم يعد لديه إلا خلايا ذاكرته، ترفرف، لمحوها أيضا ً، نثروا رأسه وتركوه يذهب مع الريح. آنذاك لم يعد يعرف انطق أم ترك صمته يدوّن ان شيئا ً ما يقول لهم: حياة فيها انتم، غير جديرة إلا ان تذهب من غير آسف!
عندما، بعد قرون، حاولوا العثور عليه، لم يجدوه، كي يتم وضعه خلف القضبان، لكن قرار الاتهام، مكث معهم، بانتظار التنفيذ.

[12] لا احد
بعد مسافة لا يقدر مداها التي قطعها كي يصل إلى كوكب لم يجد فيه أحدا ً، قال في نفسه: لو عدت إلى كوكبي، يقينا ً، لن أجد أحدا ً في استقبالي، كي اخبره بالأمر. ثم خاطب نفسه: لن تجد من يشك فيك، ولن تجد من يصدقك أيضا ً. يا لها من لعبة فقدت سلاستها! كان ذلك محفزا ً آخر كي لا يموت، لكنه لم يقل قط، انه انتظر ان يجد شيئا ً آخر!
7/7/2011

الجمعة، 15 يوليو 2011

الفنان دافيد ولكر يطلق آخر اعماله في لندن-ترجمة د.غالب المسعودي



الفنان دافيد ولكر يطلق آخر اعماله في لندن
ترجمة د.غالب المسعودي
يعمل الفنان دافيد ولكر كرسام بورتريت محترف وهو يستعمل اصباغ السبري لانجاز الكثير من اعماله والتي مكنته من تطوير اسلوب خاص به وذلك برش اللون بطبقلت متعددة على خلفية اللوحة وهذا الاسلوب الفريد مكنه من تطوير قاعدته الخاصة التي تدعى لا فرشاة وهو بذلك يدفع العمل الفني الى تحديات ومغامرات لونية وفي اتجاهات متعددة معتمدا على موهبته وجهده المثابر واحيانا مشاكساته ليتلقى الكثير من الدعوات حول العالم لعرض اعماله المثيرة للدهشة,,,,اترككم مع بعض من اعماله وهي رسومات على الحائط.

ادونيس : رسالة مفتوحة إلى المعارضة حول التغيير في سوريا، وبخاصة تغيير الدستور


ادونيس : رسالة مفتوحة إلى المعارضة حول التغيير في سوريا، وبخاصة تغيير الدستور

الأربعاء, 13 يوليو 2011 19:18

لماذا لم ننجح نحن العرب، حتى اليوم في بناء مجتمع مدني، تكون فيه المواطنة أساس الانتماء، بديلاً من الدين (أو المذهب) ومن القبيلة (أو العشيرة والعائلة)؟ فالحق أن ما نطلق عليه اسم «مجتمع»، ليس إلا «تجمعات» من عناصر متناقضة تتعايش في مكان واحد، يُطلق عليه اسم «وطن». وليست السلطة هنا إلا «نظاماً» للغلبة والتسلط في حلف «يجمع» بين مصالح المتسلطين.
والصراع السياسي هنا، هو أيضاً، صراع لتغيير السلطة، وليس صراعاً لبناء مجتمع جديد. وهكذا كانت السلطة في المجتمعات العربية عنفاً مركباً في بنيتها ذاتها، وكانت ممارستها نوعاً من التأرجح بين العنف «الطبيعي»، والعنف الآخر المموّه، ثقافياً، والذي يسمى «التسامح».
من الحاكم؟ تلك هي المسألة الأولى، عند العرب. وهي ترتبط، على نحو عميق، بالمسألة الدينية. مسألة «تطبيق للإسلام» أو «لمبادئ الإسلام الصحيحة»، إشارة إلى أن هناك «إسلاماً» غير صحيح، أو «مبادئ إسلامية غير صحيحة». وهذه طامة دينية ـ سياسية كبرى نرزح في سلاسلها، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. واليوم نمارس التنويع الحديث على الأسئلة القديمة: هل الإسلام الصحيح هو كما يراه عليّ، أم كما يراه معاوية؟ هل هو في القول بأن «القرآن مخلوق»، أم «غير مخلوق»؟ هل هو في الإيمان بالجنة والنار، حرفياً أم رمزياً؟ هل هو في العقل أم في النقل؟ هل هو في المساواة الكاملة، حقوقاً وواجبات، بين الرجل والمرأة، أم هو على العكس، في أفضلية الرجل وأوليته؟ هل هو في التسنّن، أم في التشيّع؟... إلخ، إلخ.
ومنذ ما سميناه بـ«عصر النهضة» نمارس التنويع على هذه الأسئلة.
واندرجت في آلية هذا التنويع جميع «الثورات» العربية الحديثة، ومن ضمنها «ثورة» عبد الناصر. وتبيّن أنها كانت «ثورات» من أجل السلطة، لا من أجل «المجتمع». وقد وصل هذا «التنويع» إلى ذروته اليوم، بتسمية الأشياء، جرياً على عاداتنا وتقاليدنا، بغير أسمائها: نقول عن الدولة التي يوجهها الدين بأنها «مدنيّة»، ونسمي الصراع على السلطة «ثورة». ونقول عن عبودية المرأة إنها «حرية». وهكذا وهكذا.
والحق أن كثيرين من الكتّاب العرب المهمين مأخوذون بالتعجل: وهم لذلك يعزفون عن المناظرة إلى المهاترة. وتبعاً لذلك يسارعون فيضفون على الأحداث والأشياء رغباتهم وأحلامهم. ويسمونها بأسماء لا تنطبق عليها.
نحن مدعوون، إذاً، إن كنا نعمل حقاً على الذهاب إلى أبعد من تغيير السلطة والسياسة، إلى بناء مجتمع جديد، ـ مدعوون إلى معرفة أنفسنا، وتاريخنا. ولماذا، مثلاً لا يزال انتماؤنا دينياً، يحمل أربعة عشر قرناً أو أكثر من «التمردات» و«الانشقاقات» و«الأهوال» و«المذابح»؟ ولماذا، تبعاً لذلك، لا يزال انتماؤنا العميق قبلياً عشائرياً؟
نحن كذلك مدعوون إلى اكتشاف هذه البداهة وهذه البساطة:
ليس غريباً أن تكون جميع الأنظمة العربية، اليوم، دون استثناء، أنظمة طغيانية. إذ متى كانت لدينا أنظمة حرة وديموقراطية وعادلة، وتؤمن بالإنسان وحقوقه؟ وعلى هذا المستوى، يصح القول إن «الربيع العربي» ظاهرة يصح وصفها بأنها فريدة، وعظيمة. وبأن الذين قدّموا حياتهم من أجلها، قصداً أو عفواً، هم طليعة نضال ضروري مشرّف، بنّاء، وإنساني. لكن علينا في الوقت نفسه أن نتذكر أولئك الذين قدموا حياتهم أيضاً، بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، فرادى وجماعات، من أجل بناء مجتمعات عربية، حرة وديموقراطية. وعلينا تبعاً لذلك، وفي ضوء «الربيع العربي» نفسه، أن نتساءل، لماذا قامت الأنظمة العربية، منذ تلك الفترة، باسم الحرية والديموقراطية، لكنها لم تنتج إلا العبودية والطغيان، ولم تكن إلا هوساً بالسلطة وامتيازاتها، ولم يكن الإنسان الذي وقف إلى جانبها أو ضحّى من أجلها إلا مجرد سلّم، ومجرد أداة؟
كلا لا يتم تقدم المجتمع اعتماداً على ما مضى، أو انطلاقاً منه.
التقدم نوع من ولادة ثانية. فلا يمكن بناء الغد بما صار ماضياً، أو بما رفضه، أو وضعه موضع النقد والتساؤل مفكرون وكتاب كثيرون في الماضي، نُبذوا، او سفِّهوا، أو قُتلوا.
أن يكون الإنسان دائماً مع الحرية والعدالة وإلى جانب المضطهدين، المستضعفين، الفقراء، الضحايا، أمر لا يحتاج إلى وصايا وخطب واتهامات وبطولات. يحتاج إلى الوعي بأننا لا نستطيع أن نكون حقاً معهم إلا إذا كنا، بدئياً، نعمل على تخليصهم من الشروط التي تكمن وراء اضطهادهم وفقرهم واستضعافهم. وهي شروط كامنة في هذا الحاضر السياسي ـ الاقتصادي الذي ليس إلا ماضياً متواصلاً: تسييس الدين وتديين السياسة. فهذان هما نواة الحلف السلطوي الذي يحوّل «المجتمع» إلى شركة ترئسها السلطة، ويحوّل «الوطن» إلى «متجر» يقوده أهل السلطة وأتباعهم.
ولماذا إذاً، في ضوء هذا كله، لا نجهر قائلين: تكون الثورة قطيعة كاملة مع هذا الحاضر ـ الماضي المتواصل، في مختلف المجالات، وعلى جميع الصعد، أو لا تكون إلا تحركاً باسمها وإلا استمراراً قد يكون أشد ظلاماً من جميع أنواع الظلام التي «تفضل» بها علينا الصراع القديم على السلطة؟
ـ 2 ـ
استناداً إلى ما تقدم، أوجز الأطروحة التي أنطلق منها في ثلاث نقاط:
1 ـ المجتمع العربي ـ الإسلامي مؤسس، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، على الدين في ارتباطه الوثيق ببنيته القبلية ـ الإتنية، وبالسلطة والصراع التاريخي، العنفي، الدموي غالباً، حولها وعليها. وهو أمر لا يزال قائماً حتى الآن.
2 ـ كل تغيّر في أي ميدان لا يمكن التعويل عليه، إذا لم يكن صادراً عن إعادة نظر جذرية، وعلى نحو شامل، في هذا الأساس. هذا، إذا كانت الغاية من التغيير بناء مجتمع جديد، لا مجرد اختزال يتمثل، على الطريقة التقليدية السياسية في «الإطاحة بالنظام سريعاً وبأي ثمن».
3 ـ المعارضة، خصوصاً في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ العرب، إما أن تكون على مستوى التاريخ والمستقبل: عملاً لبناء مجتمع مدني إنساني جديد، وإما أن تندرج في سياق المعارضات التقليدية: الاكتفاء بتغيير النظام القائم، سياسياً.
وفي هذا تكون موجة قامت باسم التحرر، لكنها ظلت كغيرها من الموجات السابقة، بدءاً من الانقلابات العسكرية السورية المتوالية إلى الموجة الكبرى ـ عبد الناصر، تنويعاً آخر على تعطيل الحياة العربية، وتعطيل الحريات والحقوق التي قامت باسمها.
ـ 3 ـ
يقوم البيان الختامي لاجتماع المعارضة، الأول، في دمشق على شقين:
مبدئي، وعملي. المبدئي هو، كما جاء في البيان: «الانتقال إلى دولة ديموقراطية مدنية، تعددية، تضمن الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية، وحريات جميع المواطنين السوريين، كما تضمن العدالة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن العرق والدين والجنس».
والعملي هو: «إنهاء الخيار الأمني، والتحقيق في جرائم القتل (الموالية والمعارضة)، وضمان حرية التظاهر، وإطلاق سراح المعتقلين دون استثناء، وحرية الإعلام وموضوعيته، وإدانة التحريض الطائفي، وإعادة المهجرين إلى قراهم وبلدانهم، والتعويض عليهم، ورفض التدخل الأجنبي، والسماح للإعلام العربي والدولي بمتابعة ما يجري في سوريا بكل حرية».
ـ 4 ـ
ليس عندي إلا التأييد الكامل للجانب الثاني العملي، بمرتكزاته وتفاصيلها، مضيفاً إليها التحقيق أيضاً في جرائم التحريض الطائفي من أية جهة جاءت. فلئن كانت جرائم القتل العادي ـ المادي «عمياء»، فإن جرائم التحريض الطائفي «بصيرة»، وهي إذاً، أشد هولاً وفتكاً.
لكن بالمقابل، أود أن أناقش الجانب المبدئي، مع أنني نظرياً أوافق عليه كلياً. غير أن «النظري» هنا «تجريدي» ولا يعني شيئاً على المستوى العملي، إلا إذا كان مرتبطاً عضوياً بالأسس التي تتيح له أن يصبح عملياً، أو أن يتحقق في الحياة، وفي المؤسسة، وفي النظام. خصوصاً أن هذا الجانب المبدئي ينهض على كلام عام قيل كثيراً في الموجات التي أشرت إليها، غير أن التجربة أكدت أن قادة هذه الموجات، أنظمة وأفراداً، وفي طليعتها حزب البعث العربي نفسه في دمشق وبغداد، أفرغوا تلك المبادئ من معانيها، وامتهنوها. هكذا أصبح هؤلاء القادة، وهذه الأنظمة جزءاً من «الفساد» القديم.
الأخطر من ذلك: هذا الكلام المبدئي العام تحوّل في الثقافة السائدة إلى غطاء معقد وكثيف لتمويه الاستبداد في جذوره الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية.
النظام السوري، كمثل الأنظمة العربية، إنما هو نتيجة لأسباب وعوامل. مجرد تغييره، مع بقاء هذه الأسباب والعوامل، لن يعني في أفضل الحالات، أكثر من تغيير نظام سيئ بآخر أقل سوءاً. هل سيعني مثلاً تغيير الملك المغربي، اليوم، أو الأردني، أو السعودي، أكثر من ذلك ـ إن لم يكن أقل من ذلك ما دامت «إمارة المؤمنين» والملكية الوراثية، والملكية العائلية، باقية؟
والمهم إذاً هو تغيير الأسباب والعوامل. فهذه بالنسبة إلى النظام السوري قائمة على ثقافة قروسطية، يلعب فيها الدين، مقترناً بالعصبية المذهبية ـ القبلية، الدور الحاسم الأول. يستحيل في هذه الثقافة، مثلاً، التصور بأن يكون رئيس مصر قبطياً، مهما كان الأقباط عظماء، ومهما كان هو عظيماً بشخصه. أو أن يكون رئيس سوريا آشورياً أو كلدانياً أو سريانياً، أو مارونياً، أو أرثوذكسياً أو بروتستانتياً. لكن، بأي حق يستحيل هذا التصور؟ وكيف نقبل بهذه الاستحالة، إذا كنا حقاً «مجتمعاً مدنياً»، وبشراً متساوين؟
إن «أهل الذمة» في سوريا، وهم سكانها الأصليون، لا يزالون يدفعون الجزية، سلبياً: حرمانهم من أن يكون لهم الحق في رئاسة وطنهم الأصلي، (لا بوصفهم الأقلوي أو لانتمائهم الديني)، الذي لا تزال تهيمن عليه ثقافة الفتح والغلبة. فمنطق الفتح والغلبة والصراع الديني الذي ينتمي إلى تاريخ البدايات الإسلامية هو ما يستمر وهو الذي يحكم، لا منطق التآزر ووحدة الانتماء والمساواة في المواطنة، فضلاً عن منطق الكفاءات الفردية.
الخلاص من هذه الثقافة التي تصبح في الوضع الحالي لا إنسانية، والتأسيس للمواطنية وثقافتها الإنسانية، هو ما يجب أن يكون الهاجس الأول الموجّه في أفكار المعارضة وأعمالها. وهو ما لم يعمل له حزب البعث العربي، رغم ادعائه العلمانية، وتلك هي، في رأيي، خطيئته المميتة الأولى.
كيف يمكن إذاً أن تنشأ في سوريا «دولة ديموقراطية، مدنية، متعددة»، إذا كان مستحيلاً أن يُسنّ أي قانون أو تشريع لا يتفق مع «المفهوم الإسلامي الصحيح» وفقاً لعبارة الجامع الأزهر في وثيقته الأخيرة، أو «الرؤية الإسلامية الصحيحة»، وفقاً لما جاء فيها؟
ومن غير المفيد أن نسأل: ما هذا «المفهوم»؟ وما هذه «الرؤية»، وما معاييرهما، ومَن يقرّر ذلك، وباسم أي سلطة؟ وبموجب أي اجتهاد؟ من غير المفيد أن نسأل لأن الجواب جاهز: تلك هي الأكثرية، وتلك هي إرادتها، وذلك هو «مفهومها» وتلك هي «رؤيتها». لكن السؤال الآخر الذي لا يُطرح ولا يُجاب عنه، هو: لماذا تكون الأكثرية السياسية من الدين الأكثري عندما لا يتصل الأمر بالشؤون الدينية، بل بالأمور التي تهم الجميع بلا تمييز؟ ولماذا لا يُبنى الاختيار هنا على أساس الحاجات والمطالب الوطنية وليس على أساس الدين أو الانتماءات العقائدية الخاصة بكل دين؟
ومن أين لسوريا، إذاً، أن تكون مدنية وتعددية؟
والجواب أيضاً يجيء من وثيقة الأزهر: «تطبيق الشريعة الإسلامية هو ضمان للتعددية، وحرية الاعتقاد، وممارسة العبادات لأصحاب الديانات السماوية الأخرى الذين تكفل لهم الشريعة الإسلامية أيضاً الاحتكام إلى شريعتهم في ما يتعلق بشؤونهم وبالأخص في الأحوال الشخصية».
وهو جواب يُحل الشريعة الإسلامية محل الدولة، ويلغي بشكل قاطع «هوية» غير المسلمين بحيث يجعلهم، هم أيضاً، تابعين لهذه الشريعة.
الدولة، إن كانت مدنية، تكون هي نفسها الضمان. ولا يكون لأي دين كثُر أتباعه أو قلّوا، أي سلطان عليها، في أي ميدان. إن سلطة التشريع هي للمدينة، للمدنية، للإنسان المدني، وليست للدين. يجب أن تنتهي ثقافة القرون الوسطى التي كانت تعلّم أن الإنسان خُلق من أجل الدين. نعم يجب أن تنتهي. فالدين هو الذي خُلق من أجل الإنسان.
هكذا لا تعني عبارة «الدولة المدنية التعددية» شيئاً، إلا إذا عنت أن انتماء الإنسان، هو، أولاً، انتماء للأرض، للوطن، للمجتمع، وليس للدين أو القبيلة أو الطائفة أو العشيرة أو العرق، كما هو قائم، فعلياً، في سوريا.
وهكذا يكون للسوري غير المسلم الحقوق نفسها التي يتمتع بها السوري المسلم. المجتمع حقوق وواجبات وحريات، وليس كنائس وجوامع وخلوات. هذه للأفراد. ولكل فرد حقه الخاص فيها. وهو حق يجب أن يُحترم ويُصان. كذلك لكل فرد الحق في أن يرفضها أو «يعتزلها»، وفي أن لا يتديّن. فحق اللاتديّن يجب أن يُحترم ويُصان كحق التديّن. كذلك لا تعني الحرية والديموقراطية شيئاً إلا إذا عنت أولاً، هذا الانتماء. وها هو لبنان مثال حي.
لا أحد يقدر أن ينكر وجود الحرية في لبنان، السياسية والفكرية والاقتصادية والتنظيمية. أو ينكر فيه الممارسة الديموقراطية التي مهما قيل فيها تظل أفضل بكثير من الممارسات التي توصف بها الديموقراطية في البلدان العربية. لكن السؤال هو التالي: ماذا فعلت هذه الحرية وهذه الديموقراطية على الصعيد المدني ـ التعددي، بالمعنى الثقافي الحضاري والإنساني، في لبنان: لبنان ـ الدولة والمجتمع؟
ثم، أليس الدور النبذي ـ الإقصائي الذي يلعبه الانتماء الديني ـ الطائفي العامل الأساس في تعطيل الحرية والديموقراطية في لبنان؟
ـ 5 ـ
ليس النظام في سوريا مجرد شأن سياسي. إنه نظام مركّب سياسي ـ ثقافي، وديني ـ اجتماعي. له «تراثه» وله «أجهزته» الإيديولوجية، وله مؤسساته.
المعارضة التي تعمل على إسقاطه، سياسياً، يجب في الوقت نفسه، أن تعمل على الخلاص من مرتكزاته الثقافية والتاريخية التي تكمن وراء أسباب نشوئه. دون ذلك تكون المعارضة مجرد عمل سياسي يطرد حكاماً ليُحل مكانهم حكاماً آخرين. معارضة لا تهتم بالأسس، وإنما تهتم بالسلطة والهيمنة. وليس لها أي عمق أو بُعدٍ تغييري جذري: ليس هاجسها تغيير المجتمع، بل تغيير الحكم.
وفي مجتمع مركّب كالمجتمع السوري، متعدد الأديان والمذاهب، الإتنيات، ومتعدد الثقافات، لا تكون المعارضة التي تكتفي بإسقاط نظامه إلا تنويعاً آخر على هذا النظام نفسه، لأنها تتكوّن من الطينة ذاتها التي يتكوّن هو نفسه منها. وهي، على هذا المستوى، لا تعني أكثر من كونها صراعاً سياسياً على المصالح. ومن هنا نفهم غياب «الأقليات» عن جسم المعارضة، إلا شكلياً ورمزياً، تماماً كما هو الشأن بالنسبة إلى النظام. المسيحيون، تحديداً، بمختلف فئاتهم، وهم كنز بشري وثقافي فريد، لا مثيل له في العالم، غير «موجودين» في المعارضة، وغير «موجودين» في النظام ـ إلا بوصفهم «ديكوراً»، في بعض الأحيان. وهكذا يُنظر إليهم، موضوعياً، كأنهم «لاجئون أو تحت «الحماية» أو «الوصاية». و«إضاعة» النظام والمعارضة إياهم، تشعرهم أنهم هم أنفسهم «ضائعون». لا «وطن» لهم في وطنهم الأصلي الأول. يعبّر عن هذه المسألة حبيب أفرام رئيس الرابطة السريانية، بعمق صامت ضائع قلق وحزين («النهار»، 3 تموز 2011).
ولا نتحدث عن «الأقلّيّات» الأخرى داخل الإسلام، والتي تعدها الأكثرية الإسلامية، «غير مسلمة»، وهي إذاً، مرشحة لمصائر سوداء ـ استمراراً للسواد الكارثي في تاريخها.
لهذا أقول وأكرر: ليس النظام في سوريا مجرد شأن سياسي، أو مجرد أجهزة قمعية، يصلح كل شيء إذا تم القضاء عليه.
هكذا، أكرر أيضاً: تأخذ المعارضة في سوريا قيمتها وأهميتها، بقدر ما تقرن معارضتها السياسية بمعارضة ثقافية، بالمعنى الواسع الشامل، والجذري. وإذاً، لا بدّ لها، من أن تؤسس اعتراضاتها على الخلاص من الأسس الثقافية للنظام الذي تعارضه، وفي مقدمتها الفصل الكامل بين الدين والدولة، وبين القبيلة والمجتمع، على جميع الصعد، وفي مختلف المستويات.
ـ 6 ـ
أسوأ ما يشوّه المعارضة، هو أن تبدو كأنها منساقة، باسم تصفية حسابات معينة، مع نظام استبدادي يجب أن ينتهي، ـ منساقةً في تيار «أكثري»، تيار عقول ذكورية بطركية، لا تزال تؤمن أنها «الأب»، وأن المرأة لا عقل لها. عقول قدِر أصحابها تاريخياً ويقدرون الآن، استناداً إلى أسباب وعوامل كثيرة، أن يخلقوا نساء يقنعونهن حتى بالدفاع عن استحسان عبوديتهن، واختيارها، والبقاء فيها، وصيانتها. وهي ظاهرة لا وجود لها إلا في العالم الإسلامي: هذا العالم العظيم بإمكاناته وطاقاته وعبقرياته، لكن الصغير بأنظمته وخططه وسياساته. وفي مثل هذا المجتمع يستحيل أن تكون الحرية والديموقراطية إلا كلمات جوفاء وأقنعة.
وقبول المعارضة بهذا الانسياق يموّه جذور الطغيان، ويختزلها في السياسة ـ النظام. وهي نظرة جزئية، وغير كافية. بل تبدو المعارضة هنا، كأنها هي نفسها تعِدّ نفسها لكي تكون النظام اللاحق لخلافة النظام السابق.
هكذا لا يجوز أن تكون المعارضة السورية مجرّد تصفية لحسابات متنوّعة مع نظام مستبد، قلت, اكرر أنه يجب أن يتغيّر. المعارضة هي أولاً، العمل على إزالة العقبات التي تحول دون نشوء مجتمع ديموقراطي حر وعادل. والقضاء على النظام الاستبدادي جزء ضروري، لكنه لا يختزل المشكلة كلها.
لدينا أمثلة: ماذا أفادت إيران من القضاء على نظام الشاه الاستبدادي، باسم الليبرالية، وإحلال نظام آخر محله، استبدادي هو أيضاً، لكن باسم الدين؟
الاستبداد باسم الدين، أشد خطراً لأنه شامل: جسمي وروحي. ولعلنا أخطأنا جميعنا نحن الذين وقفنا إلى جانب الثورة الإيرانية ظناً منا أنها ستعمل من أجل الحريات حقاً. لكن، كان هذا الظن، في المحصّلة، إثماً.
وما يُقال عن إيران يُقال عن الأنظمة العربية كلها.
أكرر هنا للتوكيد، متسائلاً:
ما جدوى المعارضة السورية على سبيل المثال، إذا كان لا يحق للسوري، امرأة أو رجلاً، المسيحي أو الكردي أو الآشوري، أو الكلداني، أو غير السني أن يترشح لمنصب الرئاسة السورية؟ أو لا يُعترف بالحقوق اللغوية والثقافية لجميع من يندرجون تحت اسم الأقلية؟ ألن تكون المعارضة هي هنا كذلك عنصرية كمثل النظام الذي تثور عليه؟
ـ 7 ـ
هكذا تواجه المعارضة عملياً مهمة التأسيس للمواطنية، حيث يزول مفهوما «الأكثرية» و«الأقلية»، إلا بالمعنى السياسي الانتخابي. وهذا يعني النظر إلى سوريا بوصفها مجتمعاً واحداً تنصهر فيه جميع الانتماءات المذهبية والإتنية والثقافية، في «سلالة تاريخية» واحدة، في ما وراء الإتنيات والأديان.
وصولاً إلى هذه الغاية، ولأوضاع تاريخية واجتماعية معينة، ينبغي البدء بالتأسيس لمرحلة انتقالية يُنص فيها صراحة، بوثيقة تاريخية على حقوق الأقليات الإتنية واللغوية والمذهبية، وهي كثيرة في سوريا: إسلامياً، ومسيحياً، عرباً وأكراداً وشراكس وتركماناً... إلخ. ويجب الحرص بخاصة على حقوق الجماعات التي تمثل الجسر الحضاري بين حديث سوريا وقديمها: الصابئة، الكلدان، الآشوريين، السريان... إلخ.
هكذا تنهض المعارضة على مبادئ إعادة تأسيس المجتمع. وتقوم هذه الإعادة على الأسس التالية:
أ ـ احترام الدين في ذاته. غير أن الدين للفرد، وليس للمجتمع.
ب ـ حق اللاتديّن مصون كحق التديّن.
ج ـ المجتمع مدني، يتساوى فيه أفراده جميعاً، واجباتٍ وحقوقاً. ولا أولية في ذلك للدين، بل للعقل والحرية والكرامة البشرية وحقوق الإنسان.
د ـ الديموقراطية، حرية وسياسةً وعدالةً، نظراً وعملاً.
هـ ـ مدنية الثقافة، في معزل كامل عن التحليل والتحريم الدينيين.
و ـ لا فكر، لا إنسان إلا بالحرية الكاملة، دون أي قيد.
ز ـ مدنياً وإنسانياً، لا يجوز أن ينص الدستور على دين الدولة أو دين رئيسها.
ليست المسألة، إذاً، أن نصلح الدين، أو أن نعيد تأويله، بحيث يتلاءم مع الحياة الاجتماعية. المسألة هي أن نعيد الدين إلى طبيعته الفردية، بوصفه تجربة خاصة. تكون الحياة الاجتماعية مشتركة ومدنية، ويكون الدين شأناً فردياً خاصاً لا يُلزم إلا صاحبه. الدين للفرد، وحده، وليس للمجتمع بوصفه كلاًّ. لا يُفرض الدين وراثياً، أو سياسياً وإنما يكون اختياراً حراً بوصفه حقاً فردياً. ولا يفرض بالأكثرية العددية في المجتمع. ومن حق الفرد ألا يتديّن، وأن يختار الدين الذي يشاء، دون أي إكراه. الدين حرية فردية. والمجتمع حرية مدنية. لكن ليس للدولة أو المجتمع أن يدين إلا بالإنسان وحقوقه.
في القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين)، عشنا ما سميناه «نهضة». وكانت سِمتُها الأساسية: الإصلاح وبخاصة الديني. وسواء اتخذ هذا الإصلاح منحى اجتماعياً أو سياسياً أو دينياً، فقد أدى في النتيجة إلى تجزئة الفكر، وحتى إلى منعه. وصارت الحركة الفكرية العربية حشداً من المتوازيات، كل منها ينبذ الآخر. متوازيات لا تتلاقى. وكان الدين في هذا كله المعيار، والحكَم، والفصل.
والنتيجة أننا وصلنا إلى نتائج كارثية، على جميع المستويات. لقد انتهى عصر الإصلاح. ذلك أنه انطلق من إيمان كامل بالمسبّق الديني. والتغيّر يحتاج بدئياً إلى نقد هذا المسبّق والى نقد المسبّقات كلها، والى الخروج منها.
كل مساومة أو مسايرة للإيديولوجيا الدينية، بحجة أو بأخرى، ولو كانت التحرر من الخارج، إنما هي مساومة على مصير الإنسان في هذه المنطقة من العالم. فالعودة إلى الدين ـ سياسياً واجتماعياً هي، في أقل ما توصف به، في إطار الثقافة الإسلامية ـ المؤسسية، عودة إلى سلاسل أخرى وسجون أخرى.
الأصولية الدينية، إنما هي إخضاع للآخر أو استتباع، أو إلغاء. هي أمور لا تخرج من «المادة» وحدها، وإنما تخرج كذلك من «الروح». الكتاب هنا يصبح أخاً للقنبلة، وتصير الكلمة أختاً للرصاصة. على هذا المستوى، تحديداً، يمكن القول إن القتل لا يجيء من الرصاص وحده، وإنما قد يجيء كذلك من الكلمات.

الأربعاء، 13 يوليو 2011

أختام عراقية معاصرة-تجارب-عادل كامل







أختام عراقية معاصرة
تجارب


عادل كامل
[1] لغز الخامة

تستدرج الخامة ـ إن كانت بكرا ً أو مركبة ـ موضوعها، في الغالب، قبل أن ينشغل وعي (الصانع/ الحرفي/ الفنان) بانتقاء موضوعه. على أن هذا لا يعني أن الخامة (بمجموع عناصرها الطبيعية/ أو المصنعة/ والمستحدثة) تفكر!، أو لديها قدرة القرار، الاختيار، والحسم، إنما ستمتلك جسرا ً لا مرئيا ً مع لا وعي الفنان السحيق، أو الآني، المباشر، في تحويل (الفكرة) إلى علامات مشتركة بينها، وبين صانعها. فالخامة تجد مأواها في ما سينشده الصانع/ الفنان، بل تجدها تحرر زمنها، كي تقع اسر زمن آخر. ولعل دراسة أقدم الخامات المستحدثة، في الأعمال الشبيهة بالفن، من خرز، وأساور، وقلائد، وتماثيل، ومجسمات خالية من التشخيص، تحكي العلاقة التي تحول الخامة من وضعها البكر ـ الزاخر بما لا يحصى من تأثيرات العوامل الخارجية/ الزمنية/ والإنسانية ـ إلى وضع تغيب أو تدفن فيه حريتها ـ كما غابت أو دفنت سابقا ً ـ في الهيآت الجديدة، وفي الوقت نفسه، شخصية الصانع، ولا وعيه، وختمه في الأخير.
فالحزوز التي وضعها إنسان البرية/ المغارات، فوق العظام والصخور، لا يمكن تكرارها، أو استنساخها، مرة ثانية، إلا لوظائف مغايرة. فالحزوز الشبيهة بشخابيط طفل لم يبلغ سن الثانية بعد، تحكي، لا وعيه تماما ً، وهو وعيه الآخذ بمغادرة مخبأه ومناطقه الدفينة، النائية. فهي قد تبدو عشوائية، أو لا علاقة لها بما يخص وعيه، ولكنها، في سياقها ـ ومن منظورنا بعد زمن طويل ـ تحكي كم أسهم الأثر (العظم/الصخرة/ الخشبة)في ذلك الضرب من التعبير: حزوز شبيهة بالحروف، والأرقام، بما تمثله ـ في وجودها ـ من انتقالها من مادتها البكر، إلى علامة للتداول.
والحزوز الغائرة، المبعثرة، أو المنتظمة، فوق الصخور، لا تحكي ما نفذ فوق الخشب، أو الجلد، أو حتى خامات المعادن البكر، ففي كل خامة خصائصها الدالة عليها، أولا ً، والدال على عصرها، ثانيا ً، وعلى صانعها، ثالثا ً، وعلى ما تخفيه رابعا ً، وعلى ما هو مشترك بين دماغ الصانع، وعناصرها الدفينة، أخيرا ً.
فهل كانت تلك العلامات الدالة على المكان، والعصر، وعلى البيئة والإنسان (الايكولوجيا الشمولية)، وعلى بواكير الإحساس بالزمن، والفقدان، وتكون المخيال، والذاكرة، توثق بواكير الرهافة بما كانت تمثله من حيازة وتملك، فهي، في هذا السياق، ستصبح أول توقيع أبدعته الأصابع ـ في الانتقال من العشوائية إلى نظام الأثر ومكوناته البنيوية ـ وهي أول تدشين لمعالم مسار (طريق/ درب) سينتهي بموت الفن ـ وموت الإنسان بتحوله إلى مجموعة عناصر/ أشياء ـ لصياغة يصعب تحديد ما اذا كانت ستستعين بموضوعات غير التي جعلتها تنتمي إلى عصر الطين، مثلا ً، كي تجد انجذابها ـ كما وجدناه ـ مع بيئتنا، وعصرنا، أم أنها لم تكن ـ بتزامنها المتداخل/ المركب/ والمنصهر ـ إلا حلقة في مسار، بلا مقدمات، وأخيرا ً بلا خاتمة.

[2] العلامات ـ والمشفر
ما الذي يستدل عليه عالم الآثار، أو المشتغل بالمخلفات، والمتخصص بفك المشفرات، خاصة التي تتضمن ازدواجيات بين دراسة المقاصد المباشرة، وبين ما فيها من غايات غير مباشرة، وهو يدرس حزوزا ً فوق عظم لحيوان قتل ـ أو مات ـ قبل مليون سنة، وما الذي باستطاعته أن يعلنه عن فك خطوط ـ ليست منتظمة في أشكالها الخارجية ـ حزت فوق صخرة، أو حفرت فوق خشبة قاومت عوامل الزوال لقرون طويلة، أكثر من الاشتغال ذاته الذي ميز عددا ً من علماء وفناني، شعراء ومتخصصين في الإنسانيات المعاصرة: ذلك الحفر في فك الظواهر، والبحث عن محركاتها النائية، في نظام الإشارات ـ ومن ثم في العلامات بصفتها دالة بما تريد التعبير عنه.
لن استبعد تماما ً نسق الدوافع غير الواعية، والأخرى، المتصلة بالحركة الكلية لمجموع الأجزاء ـ مهما اتسعت أو تحولت إلى مصغرات لا مرئية ـ في فهم سياق: اللا متوقع ـ واللا قصدي، وهو مغاير للعبثي، أو لمفهوم العشوائية. فالا متوقع يمثل ـ في حالة دراسة أقدم العينات الشبيهة بالأختام، والشبيهة بالفن ـ متوقعا ً ضروريا ً لاستكمال ذاتيته الموضوعية، وهي موضوعيته، أخيرا ً، في هذه الذاتية.
ربما ـ بدراسة خطوط مشوشة، مكررة، متعاكسة، مائلة، متقطعة ـ يستدل الباحث قدرة عمل الدماغ في مغادرة مركزه، حيث المسافات، ما بين الأشياء، ستغدو امتدادا ً لأقدم مفهوم كون نزعة الانحياز ـ والتملك ـ والثروة البدئية. صحيح أن الجهد المبذول وحده لن يعرف (الرأسمال) ألبدئي، أو المبكر، بما حقق، ولكنه سيفصح ـ في هذا الاحتمال ـ عن أقدم نزعة للتراكم بما فيها من قصدية ـ ولا قصدية معا ً. فالحزوز، والرسومات، والمجسمات، والبصمات التي تركها إنسان الكهف فوق الجدران، ليست علامة دالة لعمل سحري فحسب، بل انها ـ بالدرجة نفسها ـ دالة على صانعها. فالصانع لم يوثق حدود ذلك الزمن السحيق، ولا تجمعاته، وتبلور نظام العثور على تجاوز العشوائية فحسب، بل اللا قصدية كممارسة خاصة بالختم ـ: الهوية/ التوقيع، بما يتضمنه من (أنا) بين المكونات الأخرى. فالأنا وجدت في وجود كونه الصراع ـ التنازع ـ والترقب. ولعل التوقيع ـ المنجز ضمن اللا قصد ـ لم يعلن عن قصديته الخاصة بالأنا فحسب، بل لتكامل رسم شبكة الاتصال الكلية للأجزاء كافة.
ان عالمنا ـ وفنانا ـ المعاصرين، وهما يعيدان قراءة ما لم يدوّن، لأجل التدوين المعرفي، يعلن عن امتداد اللا متوقع في ديمومته الراهنة. فالمعنى لم يعد محدودا ًبالنفع، أو بجماليته، بل ببناء أنظمة لا تحذف منها عمليات التصادم، والنفي، والإضافات في الأخير.
أتراني كنت أتقمص ومضات باثات قلب ذلك الفتى، وهو يحز، فوق الصخرة، ويحفر فوق الطين، نداءات ذهبت ابعد من الصوت، وابعد من قانون الاندثار، والموت.
ان مفهوم المشفر ـ العلامة لنظام لم تفك أسرار عمله ـ سيبقى يشفر نظامه باليات تجرجر، حقبة بعد حقبة، (المشتغل) نحو ديمومة طرفي المعادلة: الموت ـ انبعاث. فأنا قد لا اعتقد أني سأرجع إلى العناصر التي كونت جسدي، بالبديهية الواقعية ـ من غير قصد أو بقصد ـ اللا متوقع ان يدفع بأصابعي للحفر فوق خامات شبيهة بالعظام، وبالصخور، كي تمسك بمحركات العلامات المشفرة ذاتها. انه ضرب الدخول في مساحات تحاول الحفاظ على ما فيها من بدائيات ـ وخصائص لا مشاعية تماما ً. فألانا البكر ـ إن كانت جمعية، كما هي أنا النحلة أو النملة أو الجرثومة ـ أو كانت تعمل نحو عزلتها، ليس باستطاعتها مغادرة قوانين دوافعها المجاورة ـ أو البعيدة ـ عن مقاصد الأنا الجمعية، أو الفردية الخالصة. فالعلامات الشبيهة بالختم ـ التوقيع وصولا ً إلى خصائص الهوية وتميزها عبر أسسها البدئية في التعبير ـ تكون دافعا ً لغواية المغامرة، ومغادرة الانغلاق نحو حافات ترسم حدود الأنا ـ وهي علامات الختم ـ بمشفراته، القابلة للإفصاح عن المعنى، والأخرى، التي جرجرتنا إلى محاولات فك ما فيها من غائيات ـ لا غائية ـ متجاوزة حدود المعلن، نحو دراسة شبكة المقدمات بنهايتها، وهي شبكة النهايات بجذور مقدماتها.

[3] النائي ـ انشغالات مبكرة


سأنشغل ـ بدل قلب المعادلة إلى نفع ـ بما لا يمكن الإمساك به. ليس هو الماضي، ومتراكماته على صعيد المخلفات، وليس هو تقبل صدمات الحاضر، وليس هو الغد، إن كان بديلا ً عما أراه يأخذ طريقه إلى الاندثار فحسب، بل كيف تتجمع التصّورات في كيان لن يهدر لغز ما أنا عليه/ وفيه.
ففي كل لحظة اكتمال، وتدهور، تنبثق تأملات لا معنى لسترها بالتصورات، ولا معنى للحفاظ عليها بعيدا ً عن الهدم أيضا ً. ففي هذه الفجوة ـ لبن ماض ٍ يصعب على الوعي أن يضع له مقدمات/ وإزاء غد ٍ خارج حدود الحافات، تتكون رهافة شبيهة بالتي أنتجت آلاف الدمى، والأختام، رهافة قائمة على إيمان مزعزع، وشك لن يساوي بين العدم والوجود، لأنها ـ رهافة ـ تحول الصانع إلى علامة خارج ثوابتها. لان (الصانع) هنا وجها لوجه ـ أمام مرآة لا يرى فيها الا غيابه. ان الآخرين لن يلتفتوا الى هذا الأثر ـ المصّنع ـ بقدر ما سيرى هو نفسه بثقة ما عبر أثره. لكن (أنا) الصانع لن تكف عن مقاومة وضعها في فراغ مقيد. ولنأخذ مثال النمل أو النحل أو الطيور، فإنها صاغت مصيرها بنظامها الجمعي واكتفت بالمضي من غير وثبات. وحتى انقراضها ـ كانقراض آلاف أو ملاين الأنواع لم يعد مثيرا ً للأسى أو القلق ـ لأنها عملت ـ وتعمل ـ بمرآة كبرى خالية من التصدعات. إنها مرآة كلية، كالتي تجعل مشهد الملاين تهرول في مارثون محكوم بلعبة الجوائز. لكن صانع العلامات لن يركن إلى نموذجه إلا بصفته عملا ً مغايرا ً لعمل النحل، فاعقد الأعشاش، وكاتدرائيات النمل، والمعمار الهندسي الصارم البناء عند النحل، لا تساوي ـ ولن تقارن ـ بعمل لا متوقع ـ يبلغ حد اللا معقول وربما الفائض عن الحاجة المباشرة ـ تنجزه الأصابع. فليس لدى تلك الكتل الجمعية ما سيسمى بالعمل، لأنها لا تمتلك (أنا) شاردة أو خارج على سياق الدافع الجمعي.
هل حقا ً باستطاعتنا اكتشاف ذلك بمقارنة حزوز فوق عظم، بخلية نحل مذهلة البناء، دون أن نتقدم خطوة أخرى في تفكيك مفاهيم لغوية ـ فلسفية أو ذات جذر سحري ـ كالعدم، وكالوجود، من غير أن نزعزع الرأي الجمعي، ونحدث شخطا ً مائلا ً أو معوجا ً في مرآة الجماعة؟ نعم ـ لان ذاتية فنان مثل جايكوماتي، أو هنري روسو، أو فان كوخ ـ وكل منهم مغاير للآخر في التفكير وفي الأسلوب ـ ستعمل بنهج مغاير لقطيع يهرول باتجاه الماء، أو بالهرب من لهب بركان! ذلك لان ذاتية الفنان لا تكمن في نموه العقلي فحسب، بل في رهافة يصعب تقييدها بنظام المرآة الواحدة. هذا الفارق يجعل من كل شخط، وكل حز، وكل خرزة، وكل مجسم، وكل إشارة ..الخ علامة مغايرة لتكنولوجيا الدافع الجمعي. لا لأنها تعمل في الذروة فحسب، بل لأنها تتضمن سفرا ً إلى ماضيها، مثلما هي مشبعة بدوافع الهجرة إلى غد ٍ من غير نهايات. هذا الفارق يجعل الختم ـ الإشارة في تحولها إلى علامة/ والعشوائية بما فيها من مهارات البنّاء ـ نموذجا ً مغايرا ً يصعب استنساخه، بل وحتى شرحه. فالماضي السحري في فكر الصانع ـ وليس في آليات الحرفي ـ ليس دائريا ً، وليس له تمهيدات، فهو يلتقي بما هو آت ٍ، عندما لا يخضع الأخير إلى خاتمة. فكلاهما يجتمعان في دحض الثابت، بمعنى: في تدمير المعنى، عبر الثنائية، والجدل، خارج سياق النظام الجرثومي/ ألنملي/ النحلي، والبشري في الأخير!

[4] الامتداد ـ من اللا نافع إلى اللغز

فهل غير النافع ـ الذي تكّون في عصوره السحيقة ـ كتم وظيفة ما خالصة ـ تخص عمل الأصابع اللا متخصص ـ أم ذات صلة بتكّون المركز ـ الدماغ، أم أن (التغيير) في جذره، وفي نشأته، وساطة (علاقة) تكاملية بين ذات الصانع والبيئة (الايكولوجيا الشاملة)، كضرورة أدت عمل ألتوق، وغواية لا تخلو من مغامرة التوغل بعيدا ً عن الذات، وبعيدا ً عن انغلاقها، كي توسع من حدود سيطرتها على الأرض ـ والفضاء، وضمنا ً، لتلافي الصدمات، واحتوائها، وعدم تركها تعمل بعشوائية، أو على هواها؟ ثمة احتمال آخر يقلب التصّور، أن اللا نافع، تحديدا ً، ليس امتدادا ً، بل حماية للذات. ذلك لان خصائص الأثر (الشبيه بالختم، أو الدمية، أو الرسم، أو أية أداة لها سمات الحرز، والمجسمات، والنقوش) لم تتضمن جاذبية، بل دفاعا ً ذاتيا ًللحفاظ على مكونات الذات وعالمها الداخلي ـ المحمي ـ والمنغلق.
على ان وجودا ً منعزلا ً ـ بمعنى الوجود محاطا ً بفجوات ـ لن يسمح أن يجد توازنه في التفرد، وفي ظهور علامات استثنائية. ليس لاستحالة وجود عزلة فحسب، بل لان جذور اللغة ارتبطت بالحركة، بما كونتها من فعل ورد فعل. فإذا كان الجسم يظل ساكنا ً ما لم يحرك، فان الاحتمال الآخر، أي احتمال الانجذاب سيشكل دافعا ً للحركة أيضا ً. فالأثر ـ هنا ـ دال لمدلولات اجتازت الحركة نحو تراكمها. فالفعل سينتقل من المصادفة إلى التكرار، ومن التكرار إلى تشكل الهيأة: الحزوز والأشكال المنتظمة ـ الهندسية ـ بما توفره الخامات في تعاملها مع رهافة حساسية الأصابع. بمعنى ثمة علامة كونتها عواملها المشتركة: الانتقال من اللا تخصص ـ في عمل الحواس والأصابع تحديدا ً ـ إلى صياغة أشكال محددة، ومختارة، قد لا نجد معنى ما لها، في البدء، إنما ستشكل جزءا ً من عالم (تتجمع فيه الأجزاء) ـ لبلورة وجود النوع الواحد، وعناصره المتقاربة، كالثنائية في ديمومة النوع ـ بما يمثله من إعلان للوجود البيئي ـ مع ـ الذات. فهو (تزاوج) تضمن قدرا ً من الرهافة ـ والقصدية ـ مما سيشكل مقدمة لنظام البناء ـ نحو حدوده الجمالية ـ والروحية.
وليس صعبا ً أن يجد الباحث في قراءة كل اثر ـ في المجموعة الواحدة ـ كي يجدها مختلفة بين المجموعات المتجاورة، أو المتباعدة، ومن ثم وجود قراءات تلخص اختلاف المكان/ البيئة/ والعصور.
فهل صنع الصانع حزوزه كي يدشن ـ ويحتفل ـ بالانتقال من العشوائية/ واللا تخصص، نحو مكونات المجموعة بما تمتلك من حواس، وقدرة على العمل، وزمن استراحات أتاحت فراغاتها لردمها بالأعمال الشبيهة بالفن، والشبيهة بالسحر، أم وجود هذه العلامات سرعان ما سيشكل جزءا ً من ذاتية ذلك الذي وجد حياته تعادل ما أنجزه، وليس كعمل باقي الأنواع، مكثت تعمل خارج علاماتها المدونة، عدا آثار اضافر، ومخالب، أو ما شابه ذلك لن تقارن بدور الأصابع البشرية ـ مع وجود مجسات أرقى من مثيلاتها لدى الثدييات ـ في الانتقال من الصوت إلى الصورة، ومن العشوائية إلى ضرب من البناء المنتظم، ومن الشرود إلى التمركز، ومن التشتت إلى التمركز، ومن المتاهات إلى الوضوح، ومن الفزع والخوف إلى الطمأنينة، للإفصاح ـ على نحو غير مباشر ـ عن ممارسة عملية لبواكير التنمية، في حدود حياة قطعت شوطا ً متقدما ً عما عليه الأنواع الأخرى، كالنمل، والنحل، والطيور. إنها وثبة اقتران الدماغ برهافة ما امتلكت أدواتها: التحسس/ التذوق/ الشم/ الإصغاء، إلى جانب رهافة الأصابع الاستثنائية، ببناء علامات، مهما بدت فائضة، فإنها ـ أكثر فأكثر ـ تضمنت لغز حضورها.
[5] التراكم ـ من الحواس إلى الختم


كلاهما، الحواس والدماغ، لا يمكن فصلهما في التقدم، بأمل أن لا افقد الأمل، نحو مساحات غير مكتشفة. ما الحواس ...؟ إنها [1] الأصابع التي راحت تعيد تمثل العالم، وتستغرق في تأمل اشتباكاته، وومضاته، وتعيد صياغته بما يطرد ـ أو يهذب ـ أي درب يؤدي إلى انغلاقه. [2] فيما حاسة البصر لم تتكون بمعزل عن ما لا يحصى من الومضات (الضوء بصفته لغزا ً بدءا ً من الشمس إلى النار) فكلاهما لا يسهمان بوضع دفاعات معقولة ضد الخارج، بل ينشغلان برؤية البعيد، وما وراء السطح، وهو اكتشاف أبعاد (الروائح) [3] من العفن إلى عطر الورود، بالتفريق بينهما، وانتقاء ما يتكيف مع الجسد. [4] بينما عمل التذوق لن يسمح بمعرفة كم هي مذاقات الموجودات لا تحصى فحسب، بل اكتشاف ما يوازي تعقيدات عمل الدماغ. [5] أما الأصوات فإنها لن تبرهن على عملها بمعزل عن أجهزة الاستقبال، فكلاهما غاية لوسيلة، ووسائل لغاية، كي تظهر نزعة دراسة درجات الأصوات، من الصمت إلى الدوى، لبلوغ فلسفة الإصغاء ـ والكلام (الحوار/ الجدل).
فهل كانت ثمة أبعاد، غير العمق، بعد العرض والطول، كالزمن، وأبعاد تخص تراكيب أكثر تعقيدا ً كالإشعاعات اللا مرئية، والمديات، وتحولات الطاقة، وما سيشكل وسطا ً بين الأجزاء، وصولا ً إلى العلة المكتفية بذاتها، إلى: اللا علة، قياسا ً بمحدودية عمل الدماغ ـ وعمل أدواته.
في مخيالي ألبدئي الشارد، وفي سنوات مبكرة جدا ً، عشتها في مناطق زاخرة بالصخور، وأخرى مع الماء، وثالثة بين الرمال، كان للخامات، مع حواسي المتوثبة، والمتوقدة، أثره في تبلور ولعي بتحليل الانجذاب إلى (الختم) ـ بمعناه الشامل ـ وصياغته بما يعيد السكينة لذات عاشت صدمة الولادة ـ الخروج من العماء إلى الأصوات والمرارات والضروريات ـ إلى: الكد، وصدمات متلاحقة لم تنفك تزداد قسوة، وتعقيدا ً، كي تتحول إلى عناد في الإمساك ـ والتمسك ـ بالأمل، كالإمساك بالمستحيلات، أو بما لا وجود له إلا في حدود زمن اندثاره، وغيابه. لماذا (أنا) أفكر كي أدرك في نهاية المطاف، أني عملت للخسران؟ ساجد الجواب الرادع: هذه هي سنة الأمور، كي تلجم في ّ الأسئلة، وكي أجد موقعي في الجماعة: في شريعة يتحكم فيها نظام لا ينتج إلا ما لا يترك شيئا ً للبقاء. ففي الغابة، لا تنتهك الطرائد وتهلك وتغدو فريسة فحسب، بل الصياد، هو الآخر، مهما صاغ هرمية سلطته، فلن يذهب ابعد من مدفنه. فلماذا علي ّ أن أغلق أدوات الحفر...؟
في هذه اللحظة تبدو الصخور، وخامات أخرى، كالطين، والخشب...الخ ليست فائضة في وجودها بجواري، ولكنها لن تقيم علاقة معي إن لم امتد إليها، واعقد معها علاقة لن ادعها تتكامل إلا مع ذاتي بالمودة، وليس بالعدوان!
فهل كان دافعي هو ذاته لدى الإنسان الذي وجد نفسه في العراء، في الغابات الكثيفة، تحت الأمطار، مشردا ً، محاصرا ً بالأعداء، كي يحز، ويحفر، أو يخط، أثرا ً ما لتعبير ـ وصولا ً إلى مهيمنات السحر ـ ام ان الفراغ لدي ّ، كالذي توفر عنده، سمح للحواس أن تؤدي دورا ً قادها إلى وجود أقدم: علامة مقاربة للعملة. فما بذل فيها من جهد، وما في الخامات من ندرة، باختلاف خصائصها، وما تعنيه، وما فيها من مهارة..الخ فقد تحولت إلى مأوى له، شبيه بالكنز، دماغا ً آخر كونته عناصره، التي لا يمكن عزلها عن أولى أحاسيسه بالسيطرة، بعد كفاح مرير قاوم فيه عوامل انقراضه.
أم كان الموت ـ لطفل أو لرجل في الستين ـ سببا ً لصياغة لغة ما للحد من الصدمات ـ من صدمة الولادة إلى الموت ـ خارج متطلبات الآخرين، أم كان محض أداء محاكاتي لإشباع غريزة التملك، والهيمنة، ولفت النظر، وتدوينها ـ توثيقها ـ وحفظها ـ كما يحتفظ الذكر بالأنثى أو العكس لإدامة كل ما لا يمكن إلا رؤيته يتسرب وينحل، ويغادر، أم أن أقدم الدوافع، كأكثرها حداثة، ستبقى تحت مناطقها المخبأة بعناية، ولا تعمل إلا عبر قوانين الظاهر: حدود الحواس، وانشغالات الدماغ، ضمن الجماعة ، والكل الذي لا أجزاء فائضة في وجوده؟


[6] المدفن ـ ونقيضه


الختم، أو بالمعنى ذاته: الفن، ليس مدفنا ً، مع انه يؤدي دورا ً شبيها ً به، وإنما هو ترك الملغزات تعمل كعمل: الضوء، أو كعمل القلب، وكعمل يتقاطع مع الاندثار. ففي هذا السياق تبزغ فكرة أن (الملكية) تصنع من يغذي تراكماتها! ألا تبدو الرأسمالية ، أي تراكمات الجهد وصولا ً إلى ما بعدها، ولدت قبل أن يولد الرأسمالي الأول: صاحب الغابة أو صاحبتها/ المهمين أو المهيمنة/ الماكر أو الماكرة/ الرائي أو الرائية/ الجبار أو الجبارة/ المنقذ أو المنقذة ...الخ بصفته صاغ ثنائية: الصياد ـ الطريدة، وشيّد نظام من في المقدمة؟ أم هناك ـ على الضد ـ يوتيبيا تنزع نحو العدل؟
ذلك الصانع، وهو يترك أصابعه، كما افعل ـ تعمل كعمل الإلكترون بنظام لم تضبط وثباته، لكنه ـ يعمل ـ بعد ظهور نظرية الذرة ـ إلى عالم تكونه لا مرئياته.. راح يتراكم، بالمعني وبالرموز، من الصوت إلى الكتابة، وبالإشارات، وتنوعها، خلجاته، فوق الصخرة، أو فوق العظم، أو فوق سطوح الفخاريات. كان يمارس الدفن ـ بلا وعي منه تماما ً ـ ولا يتقاطع مع رغباته وضرورياته. فالقلق، كالثقة بالنفس، كلاهما يجتمعان في (الختم). فهو قبر تحت السيطرة. قبر بالجوار، بل هو يقع في مركز الذات ـ وفي إطار المجموعات البكر. يحفر الأشكال المستمدة من الغيوم، ومن الشهب، ومن لمعان أنياب الكائنات المفترسة، ومن خفايا الجسد، ومن ومضات رذاذ الماء، والأطياف، ومن شرر حدقات مخلوقات الليل، وما يخفيه الظلام .. انه يدوّنها، يجمعها، ويدفنها. فهو لن يتركها خارج سيطرته. لأن القبر ـ هنا ـ يؤدي دور القاصة، وكالرحم، كلاهما مأوى للمغادرة. وربما خطر بباله ان لغز عمل الرحم، كأقدم ماكنة للإنتاج، شبيهة بعملية الدفن. فما لن يدفن لن ينبعث. وربما خطر بباله ـ بعد أن بلغ حجم دماغه حجم دماغ اينشتاين ـ أن الموت ليس نهاية. بل دربا ً آخر للحياة. وربما حدس أو تعلم بالتجربة في ذلك الزمن السحيق أن البذور، إن لم يدفنها في الأرض، ويخفيها، لن تتكاثر، ولن يتضاعف عددها، الأمر الذي مهد له مشروع حفظ الجسد (التحنيط)، كي تعود إليه الروح أو النفس، أو أن يجد فردوسا ً في الأعالي. وربما أجرى مقارنة بين عمل الرحم ـ وعمل الأرض ـ فأدرك أن لم يخف البذرة في مكان آمن، لن تحافظ الحياة على ديمومتها ...؟

فهل كنت ـ بسبب هذا اللا وعي ـ وليس بسبب الإرادة العمياء التي تحدث عنها شوبنهاور، أحاول تلمس طريقي وأنا لا استطيع مغادرة حياة داخل سرداب ـ كما قال منعم فرات ـ إنما بسرداب خال ٍ من السلالم؟ أم ـ مع استحالة دحض مثاله ـ كنت أجد في (الختم) حماية رمزية أتوارى داخلها لأداء دوري في كلية الدورة، أم، في سياق آخر، لتفكيك الموت، وإعادة دراسته كأجزاء خاصة به، وليس كضد أو نقيضا ً للحياة، أي الموت، لان الأخير حركة سالبة، أو كدفاع غير ايجابي، في مواجهة حياة لا تساوي ـ عند الحكيم ـ أكثر من تركها تذهب، مثلما جاءت، كعمل مرور هذا اللامرئي بين الليل والنهار، وبين النهار والليل، وكعمل الدورات الشبيهة بالولادة ـ الشباب ـ الهرم، والموت. أم الختم ذاته يمتلك غواية ما أخرى شبيهة بما يفوق رغبات الانجذاب الجنسي، والضرورات الأولية للبقاء، ليجعل ذاتي مكبلة بحريات قيودها، كالذي اعتقد انه كتم داخل الأسرار سره، أو كالكاتم في الكتمان كتمانه: أدرك ـ في لا وعيه السحيق ـ انه لم يتكون فائضا ً، وان وجوده ليس زائدا ً، أو كمصادفة ما، وإنما حتميا ، بلذّة توق تبقى كامنة في خفايا ألتوق، وملغزاته، وان الختم، ليس إلا علامة أبدية لفناء لا وجود له، إلا عبر تحولات الأشكال، ومرور الزمن.