أسوأ ديمقراطية وأعدل دكتاتورية
كاظم فنجان الحمامي
ليس في عنوان الموضوع ما يدعو للغرابة, فنحن نعيش في عصر التناقضات الكبرى, ونتأرجح بين زمنين متنافرين, بين زمن الانفتاح الإيجابي نحو التواد والتسامح, وبين زمن الانغلاق السلبي نحو التناحر الطائفي والتعصب القبلي, بين النعرات المبطنة التي تحض على العنف والاقتتال, وبين التصريحات المعلنة التي تدعو للوئام والاعتراف بالآخر. فكيف تستقر حياتنا ونهنأ بالعيش الرغيد في ظل هذه الأجواء القلقة التي اجتمع فيها النقيضان في أطار سياسي واحد ؟, وأي زمن هذا الذي يتجاور فيه الصقيع والسعير, والليل والهجير في بوتقة واحدة ؟.
وهكذا تفرق الناس في طول البلاد وعرضها, بين من يتغنى تحت ظلال أسوأ ديمقراطية, وبين من يتباكى على أطلال أعدل دكتاتورية, متجاهلين أن أسوأ ديمقراطية في الدنيا أفضل ملايين المرات من أعدل دكتاتورية(1), بينما يسود اليوم في فكر عامة الناس مفهوم خطير ينطوي على مغامرة غير محسوبة العواقب, تدعو إلى السعي الحثيث نحو إيجاد دكتاتور (عادل), أو طاغية (صالح), يتولى قيادة عملية التنمية في العراق, في الوقت الذي يتعين فيه قيام دعاة الديمقراطية العمل على إبراز الحقيقة المقابلة, وهي أن الديمقراطية تعد المسار الضروري لبلوغ التنمية المستدامة, وأنه لا بديل عن المضي قدماً في إصلاح أنظمة المؤسسات, والقضاء على الفساد المستشري في أروقتها, واختيار الرجل المناسب للمكان المناسب.
أن تصاعد الاهتمام في البحث عن الحكام الأقوياء, ومنحهم السلطات الاستثنائية غير المحدودة, بدلاً عن الاعتماد على التشكيلات الديمقراطية, ربما جاء نتيجة الانجازات الهائلة التي حققتها ماليزيا واندونيسيا وفيتنام وسنغافورة, بالمقارنة مع الركود الاقتصادي في أوربا وأمريكا. فبرز رئيس الوزراء الماليزي الدكتور مهاتير محمد(2), الذي أمضى أطول فترات الحكم في قارة آسيا, لتتحول على يده البلاد من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة, فانخفضت في زمنه معدلات الفقر من (52%) عام 1970, إلى (5%) عام 2002, وأرتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من (1247) دولار في عام 1970 إلى (8862) دولار في عام 2002. فأرسى قواعد النهضة العلمية والعمرانية والزراعية والاقتصادية بالحسم, وضبط الأمن, والقضاء على الفساد الإداري, ومحاربة المحسوبيات والمنسوبيات, ونبذ المعايير العرقية والقبلية والطائفية القائمة على المحاصصة الغبية, فوَّفر بيئة استثمارية صالحة تشجع على النمو.
وربما تأثر الناس في العراق بما حققته سنغافورة في كبح جماح الفساد, حتى قضت عليه قضاءً مبرماً, فقفزت لتتبوأ مركز الصدارة وتقف في مقدمة الأقطار المتميزة بخدماتها المينائية, وتسهيلاتها التجارية والجمركية لخطوط الشحن البحري, فلعبت دور الوسيط القاري بين خطوط النقل عبر البحار والمحيطات.
من هنا تعالت صيحات المطالبة بنبذ الديمقراطيات الهشة غير المنتجة, واستبدالها بدكتاتوريات قوية منتجة, متجاهلين دور التخطيط الديمقراطي الصحيح في النهوض بالبلاد نحو الأفضل, فالتخطيط في لغة المنطق الاقتصادي يعد من أقوى القواعد الوطنية الصادقة, وتجاهل الناس أن الدكتاتوريات (العادلة) حملتها رياح الصدفة, ولم تكن في يوم من الأيام وليدة الانقلابات العسكرية ولا التجمعات العشائرية, ولطالما كانت حالات الإخفاق والفشل ملازمة لسلوك السلطات الدكتاتورية المتشددة, ناهيك عن تصاعد مؤشرات الظلم من أقبية السلطات الدكتاتورية.
أن فكرة الدكتاتوريات العادلة ماانفكت تراود عقول بعض رؤساء القبائل العراقية, التي كانت في يوم من الأيام من أدوات الأنظمة الشمولية القمعية, وربما تراود عقول بعض المنظمات الدينية, التي ترى في زعمائها الروحيين ما يؤهلهم للتفوق على الآخرين, ويساعدهم في العودة بعقارب الزمن إلى عصر التوريث المنوي.
ختاماً نقول أن الدكتاتور العادل شخصية خرافية تعيش في خيال العبيد والمشفرين عقلياً, وفزّاعة من فزّاعات الأنظمة الشمولية الظالمة, المتسلطة على رقاب الناس, وربما كان السياسي العربي الكبير أحمد أبو الطيب المتنبي أصدق في التعبير من الفيلسوف البريطاني برتراند راسل(3), عندما وصف استبداد السلطات الدكتاتوريات (العادلة), الممثلة هنا بشخصية سيف الدولة الحمداني, بهذا البيت الجميل(4):
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
(1) محمد أحمد عيسى الماغوط (1934 – 2006), شاعر وأديب سوري ساخر, وهو الذي قال هذه الكلمة قبل رحيله إلى الدار الآخرة.
(2) رابع رؤساء وزراء ماليزيا للمدة من 1981 إلى 2003.
(3) برتراند آرثر ويليام راسل: (1872 – 1970), فيلسوف وعالم منطق ورياضيات ومؤرخ وناقد اجتماعي, كان في حياته من أقوى المناهضين للحكومات الدكتاتورية الظالمة. وهو القائل: (الديمقراطية عملية تمكن الناس من اختيار الرجل الذي ينال اللوم).
(4) قصيدة رائعة يقول في مطلعها: واحرَّ قلباه ممن قلبه شبم, ومن بجسمي وحالي عنده سَقم, والتي يقول فيها أيضاً: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق