25 قصة قصيرة جدا ً
عادل كامل
[1] الراعي
سمع الراعي عواء الذئاب، وهو
يخاطب نفسه: خرافي جائعة أيضا ً، فماذا افعل ..؟ بعد صمت وجيز تمتم مع نفسه: ليس
لدي ّ إلا ان ابعد هذه الذئاب الجائعة، فانا نفسي أكاد أموت من الجوع!
[2] قرار
أيا ً كان القادم، دار بخلدها، في
السبعين أو في العشرين من العمر، فالأمر لا يعنيها كثيرا ً، وقد شرد سمعها لصوت الواعظ يتحدث عن نيران جهنم، ودرجات
العذاب، وعن النعيم للصالحين من الناس.
لم ْ يأت ْ احد، لا رجل في العشرين، ولا آخر في السبعين. على ان السيدة
الكبيرة طلبت منها ألا تفقد الأمل. وعللت ذلك بقولها:
ـ ان الطرق مزدحمة..
لكن الفتاة راحت تتخيل الأجساد تتراقص ألما ً بنيران جهنم، وفي الوقت نفسه
راحت تستنشق نسيما ً باردا ً يأتيها من الحقول، آخر ذكرى لها قبل ان تنجوا من
المذبحة، وقد فرت بجلدها، عبر الحقول، نحو المدينة.
نهضت، ووقفت أمام السيدة الكبيرة، وسألتها ببساطة:
ـ إلى أين يقودني هذا العمل ...؟
لم تجد الأخرى إجابة، فقالت:
ـ لا اعرف!
فقالت الفتاة لها:
ـ أنا اعرف. وتوارت.
[3] أصوات
حتى الأصوات لم يكد يسمعها، عدا
ان جسده أصبح لصق الجدار، ليس في الأعلى، وليس في الأسفل، بل عند الجدار حسب، مثل
ورقة تم لصقاها بقوة، إنما كان مازال يميز رائحة ألوان رمادية امتزجت بها بلورات
جافة، خشنة، وحادة اخترقت جلده، ولكنها لم تكن شبيهة بوخز الإبر، بل بضربات أداة
عمياء، و لها رائحة شواء، عندما فقد قدرته على مقاومة الجاذبية، فتخيّل انه يحوّم،
لكن الأصوات عادت تستدرجه إلى الإصغاء: لم يمت.
فرفع رأسه، بهدوء، إلى الأعلى. لم ير فضاء ً أو أثرا ً لأشعة الشمس، فقط
سمع دمدمات ولغط وهمهمات تؤكد انه لازال يتنفس، ولم يمت بعد. عندما آفاق، وحدق في الوجوه، ارتج جسده وهو يمد
أصابعه بحثا ً عن فجوة، للفرار، والهرب، فقد تخيّل انه لا يرى إلا جسدا ً آخر،
سيتناثر، أمامه، ويتوارى، مع ذرات الدخان، والتراب: فسفوريا ً، تحت سماء كانت
شديدة البياض.
[4] الشاعر
في قريتنا النائية، ولسنوات
طويلة، كان هناك فتى يمتلك جسدا ً نحيلا ً، ورأسا ً مدببا ً، صغيرا ً، عدا انه كان
يمتلك مؤخرة قيل إنها تزن بثقلها كافة الدواوين الشعرية التي أصدرها. كانت هي الأكبر،
بلا منازع، ومن غير ضرورة لإجراء تصويت، ما إذا كان هناك من ينافسه على ذلك. ومات
الشاعر. فقرر سكان قريتنا، بالإجماع، ومن غير اعتراض حتى من اشد الناقمين عليه، ان
يقام نصب تذكاري، لمؤخرته، في الأقل، يخلد ذكرى قريتنا، بين القرى النائية الأخرى.
وبعد سنين، وفي ذات يوم، بعد
ان اختفى الشعر، ولم يبق شعراء في قريتنا، سمع الناس، عند الفجر، أنينا ً، وعويلا
ً، وحشرجات صادرة من النصب. آنذاك، ولأسباب غامضة، انهال سكان قريتنا، بمعاولهم،
وفؤوسهم، وبالمتفجرات، والقاذفات، والعبوات، والأحزمة الناسفة، بل وبالحزين المخبأ للأسلحة المحظورة، تجاه النصب الحجري، فتم محوه تماما ً وزال من
الوجود. وقد قيل، ان عددا ً من سكان قريتنا، شاهدوا، بوضوح، وبما لا يقبل الشك، أو
الظن، ان الشاعر نفسه شاركهم العمل نفسه، وهو يتمتم بصوت حزين: اذهب من حيث أتيت!
[5] ظل
عندما شاهدت ظلي ينفصل عني،
أسرعت، فأسرع هو أيضا ً. وعندما توقفت، توارى. بدأت أتراجع، خطوة بعد خطوة، كي أرى
ظلي يخاطبني:
ـ أيها الأحمق، في الأخير، ستتضرع إلي ّ كي أخلصك من ظلك، بعد ان تكون قد فقدتني، وفقدت
نفسك.
أمسكت بالظل، وحفرت له حفرة، ودفنته
عميقا ً، معي. لكنني سمعت صوته يرن في راسي:
ـ حتى في الظلمات، هناك آخر...، لن يدعك من غير ظل.
[6] تنقيب
قرأ الاثاري كلمات النص المكتشف توا ً، لمساعده:
ـ " راهن الرب علي ّ، فربح الشيطان الرهان، وخسرته أنا. وعندما كنت
بين يديه، حدق الرب في ّ، وقال: لن تكسب إلا ما خسرته. فصرخت: عندما تخليت عني ربحت
خسائري، وأنا الآن معك، فما الذي علي ّ ان اخسره..؟" من ثم تابع يخاطب مساعده:
ـ ليس لدى الإنسان إلا محنته، مع
الشيطان وخسرها، ومع الرب ليخسرها أيضا ً.
فقال المساعد:
ـ ليس لدينا ما ندوّنه.
ـ تقصد ليس لدينا إلا ما نخسره، حقا ً،
آه لو عرفت غير ذلك..؟
ومد الاثاري أصابعه لاستخراج الأثر الآخر،، بعد برهة، وراح يتابع قراءاته.
[7] كابوس
عندما وجدت نفسي في كوكب يخلو من
النبات، والحيوان، والبشر، والحجارة، والذهب، وباقي المعادن، قلت مع نفسي:
أيعاقبني الرب، أم يباركني..؟ فجأة وجدت تلك العناصر تحاصرني من الجهات كلها،
صامتة، فقلت لها: علي ّ ان أعود إلى قريتي، فلا نبات، ولا ماء، ولا ناس فيها، عدا
الحجارة، وشواخص قبور لم تفلح الريح
بمحوها.فدوّنت اسمي فوق شاخص قبري وذهبت انتخب أميرا ً جديدا ً لقريتنا، وأنا
مازلت اكتم الحلم الذي لم أر فيه، إلا مساحات تعقبها أخرى إلى ما لانهاية خالية من
الحجارة، والبشر، والأصوات.
[8] سؤال
وأنا اجهل ما إذا كنت نائما ً
أو مستيقظا ً، أم كنت ميتا ً أو مازلت على قيد الحياة، هل أنا في الماضي السحيق،
أم في عالم بلا زمن، عندما وجدت نفسي في كوكب خال ٍ من النبات، ومن الحيوان، ومن
الناس، ومن الأشياء أيضا ً، وكأن الفراغ له أبعاد من الصعب ان احدد مداها،
واتجاهاتها، وعملها، فرفعت راسي، أم تركته يحدق نحو الأسفل، أو إلى اليسار أو إلى
اليمين، لا اعرف، فانا اجهل هل كنت أخاطب نفسي، أم أخاطب الذي لا وجود له:
ـ يا ربي، أأنت تعاقبني، أم تباركني..؟
[9] قبر
ـ هل أضعت شيئا ً ما تبحث عنه..؟ سمع جاره يسأله، وهو يشاهد من يلوّح للطائرات
المغيرة بأهداف محددة، في مدينته، انه لا يبحث إلا عن قبر.
ابتسم جاره، وتساءل:
ـ هل كنا خرجنا منه ..؟
فقال لجاره وهو يتوارى تحت الأرض:
ـ لا أريد ان احتفل بموتي، بعد الآن.
[10] أين ؟
سأله عابر سبيل:
ـ أين يذهب الإنسان بعد الموت ..؟
اقترب منه كثيرا ً، وسأله:
ـ من أنت ..؟
ـ أنا الرب!
فقال بمرح:
ـ آه ...،إذا ً فأنت لا تعرف أين يذهب الإنسان بعد الموت، مع انك تعرف من أين
جاء..؟
ـ نعم، أنا نفسي لا اعرف ذلك ..!
ـ ماذا تعرف إذا ً ..؟
ـ عندما تموت ستعرف ذلك.
ابتسم وقال:
ـ يا لها من معرفة أضاعت علينا ما كنا بصدد معرفته، وأضاعت علينا لا جدوى
ما سنعرفه أيضا ً!
آنذاك رق قلب الرب وناوله حقيبة.
فسأله:
ـ ماذا افعل بها..؟
ـ وضعت فيها حكمة الزمن.
ـ وماذا افعل بالزمن، وحكمته، وأنا لم اعد حيا ً..؟
فقال الرب:
ـ الم اقل لك، منذ البدء، انك لا تريد ان تعرف إلا ما لا جدوى من معرفته.
الم ْ أعطك كل ما كان عليك ان تحصل عليه، لكنك انشغلت بالذي لا يعنيك، فرحت تفكر
بطردي، من عملي، وها أنت لا تعرف ماذا تعمل، بعد ان أضعت حياتك بالبحث عني!
[11] درس
بعد ان نجا من الانفجار، لم يعد يشاهد سوى لونا ً رماديا ً، وهو يستنشق
غبارا ً ممتزجا ً برائحة لحم مشوي، ودخان جاف، ويرى أشلاء أجساد متناثرة، فدار
بباله، وهو يحرك رأسه، كي ينظر إلى الأعلى: هل هذا درس آخر، أم فاتحة عقاب جديد؟
[12]خاتمة
عندما استيقظ مذعورا ً، فشل في
تذكر إن كان شاهد الحلم حتى ذروته، أم في مرحلة من مراحله، إنما مازال يرى من
يأمره بصوت حاد: أخف ما ستراه، وما ستعرفه. هز رأسه بإرادة شاردة. " فقد وجدت
نفسي في غرفة موصدة ليس فيها إلا مجسما ً طلب مني ان اجلس أمامه واصغي له. لم
يتكلم. فانتظرت. ولم يتكلم، فلم افتح فمي. ثم أخيرا ً نطق بصوت خفيض: أنا هو من
يحكم هذا العالم، الأحياء منهم، والموتى، من سيولد ومن سيموت، أنا اشرف على الأرض
والسماء وما بينهما، امسك بالزمن حتى نهايته، فانا أخيرا قررت أمنحكم العدل، فقد
آن للشر ان يلغ نهايته" وأضاف، مصغيا ً له:
ـ " فلم تعد ثمة فجوات بين الفقراء والأغنياء، بين الضعفاء والأقوياء،
بين الأبرياء والأشرار، بين المتخلفين والأذكياء، بين العميان والمبصرين، فالكل
توحدهم مسرة الوجود .." لم يصبر، فسأله:
ـ " لكنك لم تخبرني .."
ـ " عن ماذا ..؟"
ـ "عن شقائنا "
ـ " قلت لك انتهى زمن الشقاء، مثل الأسى، ومثل المرض، بل آن لكم ألا
تموتوا بعد هذا اليوم!"
ـ " والحيوان..؟"
ـ " كالإنسان، والنبات، محكوم بمسراته، فلا ظلم، ولا غبن، ولا ضوضاء،
ولا إمراض، ولا خوف، ولا انتظار ..."
ـ " ولكن ما معنى هذا ..؟"
ـ " لن يخطر ببالك، مثل هذا السؤال. لأنك ستولد، وتعيش، ولن تجد لحظة
واحدة يخطر ببالك مثل هذا السؤال.."
ـ " فأنت وضعت خاتمة للشقاء، والأسى، والخوف، إذا ً..؟"
ـ " بالطبع"
ـ " وأنت سعيد لأنك منحتنا السعادة أخيرا ً..؟"
صمت الآخر برهة، وقال:
ـ " لم يدر بذهني هذا السؤال، ولكن ـ قل لي ـ كيف خطر ببالك هذا
الخاطر، وأنت لن تشقى بعد الآن ..؟"
ـ " الشر"!
ـ " آ ....فهمت، فأنت مازالت تعيش في الألفية الثالثة، آ ...، فهمت،
في أسيا، آ ...، في الوطن العربي، آ ...، في الصحراء، آ ...، وحيدا ..."
وطلب منه ان ينهض، ويبحث عن خلاصه. فوجد نفسه قدام ساحة تعج بالفصائل،
وبفرق الموت، وبالمجاميع الخاصة، والحرس، والجنود، والأشباح، وسمع من يأمره:
ـ " آن لشقائك ان ينتهي"!
[13] مكعبات
لا تقنط. كذلك همست القابلة في
أذن الزوج، وهي تضع أمامه مكعبات وكتل مازالت تتحرك، وتتقافز، استخرجتها من رحم
الزوجة. لم ينبس بكلمة، ولم يتذمر، فتابعت تخاطبه بالصوت الخفيض ذاته: انتظر، لأن
شيئا ً ما قد يحدث ويغير الموقف. لكن القابلة شاهد عددا ً آخر من المجسمات ذات
اللون البني والأسود والأحمر المتأكسد والأزرق المخضر تخرج وتدب من ثم راحت تبتعد
عنها هاربة. فطلبت القابلة من الزوج، بصوت
مرتبك: أمسك بها. فشرد ذهنه، وهو يرى الكتل الصغيرة تتوارى، مبتعدة عنه، وتختفي
تحت السرير، وانه لم يفلح حتى بالإمساك بواحدة منها. حدقت القابلة في عينيه،
وكررت: لا تقنط، مادامت السيدة تتمتع بصحة جيدة. إلا انه كاد يصرخ، فكتم صوته، لأن
احد المكعبات امسك بإذنه، وقال يخاطبه
بصوت مشوش: ماذا فعلت، يا أبي، بنا..؟ فقال الزوج للقابلة: المسكين يتألم.
فأجابت: حذار ان تؤذيه. آنذاك رفعت الزوجة رأسها، وقالت لزوجها: اقتله، وإلا
فسأقتل نفسي! فقال المكعب للأب: هل سمعت ماذا قالت شريكتك في الجريمة..؟
[14] حرب
عندما هربت من الحرب، وجدت نفسي
اشترك في حرب أخرى، وهكذا ...، كلما هربت من واحدة، أقع في ...، ومازلت، كلما هربت
من حرب، لا أجد الحرب التي حلمت ان أخوض غمارها، حتى وجدت الجميع، أخيرا ً،
تركوني، ولم أجد من يرغب ان اشترك معه في حربه، أو في أي حرب تذكر. آنذاك أدركت ان
حربي قد بدأت، ولكنها، في هذه المرة، استدعت مني ان افقد كل ما تبقى لي من رغبات، وإرادة،
فانا الآن أعلنت الحرب على نفسي، ولكن ليس باستطاعتي الاعتراف أنها الحرب التي
بلغت ذروتها.
[15] كلمات
لم يكن ليكترث لو كان سمع الصوت
من آخر، وليس من العبارة التي انتهت بكلمة طالما سمعها، وأعاد كتابتها، من غير
تمحيص. ومع ذلك راح يتساءل ما اذا كان الصوت دخل من الخارج إلى رأسه، أم صدر من
رأسه ورآه يتداخل بدوائر الدخان أمامه وهو يكتب عموده اليومي للجريدة التي يعمل
فيها منذ سنوات غير قصيرة. وتساءل أيضا ً ما اذا كانت أصابعه هي التي توقفت عن
العمل أم كان للكلمة أثرها وقد تركته شارد الذهن منشغلا ًهل حقا ً هناك: كرامة
للشعوب، وأيهما له أسبقية، الشعوب أم الكرامة، وهل يحق له ان يرسل عموده إلى
الجريدة من غير اعتراض.
ـ هل للشعوب إرادة، أم ان بعض الإرادات هي تصنع شعوبها..؟
اتسعت مساحة الصمت بينه وبين الورقة، فكان لا يرى، بعد لحظات، إلا الصوت
وقد غدا من غير حافات: ذرات رمادية تتصادم، وهذا ما آلت إليه الكلمات، أخيرا ً،
خالية من الصدى.
ولم يعترف بالهزيمة، كي يرى أصابعه تذوب، وتجف، وتتحول إلى ذرات. ولم يقاوم
...، فانا لا اعرف لماذا قلت: إنها إرادة الشعب. ودار بخلده، قبل ان يتلقى صدمات
اشد تأثيرا ً، انه طالما قال إنها إرادة أفراد، كهذه الذرات، تتصادم، في هذا
الفراغ، وليست إرادة شعب. اخرس! سمع الصوت محذرا ً، فاعتدل في جلسته، ولم يجب.
فالشعوب عمياء، وكان عليك ان لا توهم نفسك كي تصدق هذا الذي تراه في المرآة أو الذي تراه في هذه الذرات. فأنت تعرف ان هناك
إرادة، لكنك لم تجد إلا ما يقال، كي لا تصمت. فأنت تمتلك شيئا ً ما تفقده.
ضغط على نابض المحو، ليرى نظره
يمتد عبر فراغ البياض بعيدا ً عنه. فأنت غير قادر حتى على اختيار كلماتك. لا شعوب
ولا إرادة. آنذاك راح يستعيد صدى الكلمات، ومن غير حافات، ترك الفراغات تتكوم: لا
إرادة لدي ّ حتى للعثور على فراغات. تاركا ً المشهد يبلغ ذروته، دار بخلده، إنما رآه
يتبخر، وعندما بحث عن أصابعه، كي يدوّن، وجد رأسه يغيب.
[16] دورة
وهو يهرب بحثا ً عن كوكب لا
كائنات بشرية فيه، سمعته يدمدم، مع نفسه: الآن عرفت لماذا لم تتوقف أمي عن إنجاب
هذا العدد من الفصائل، والأطياف، والألوان، والفاسدين، والقتلة ...
* لماذا ..؟
ـ من أنت ..؟
ـ أنا ـ هي ـ التي لم تكف عن شتمها، والإساءة لها.
ـ إذا ً سأعود أسالك السؤال نفسه: لماذا هذا ... العدد الكبير من الأمراء،
والمخصيين، والزنادقة، والعلماء، والعقيمات، والوعاظ ، والمجذومين، والفقراء، و...؟
رفع رأسه بحثا ً عن المتكلم فلم
يجد أحدا ً. تسمر، فكر برهة، ثم عاد إدراجه إلى مدينته، ولم ينطق بكلمة، إلا عندما
ترك جسده يغطس تحت الماء: لا هي، ولا أنا، كان باستطاعته تلافي الأمر.
وعندما أدرك انه لم يمت، ومازال
على قيد الحياة، وسط حشد من الكائنات البشرية، همس في آذني: إذا ً أنت هو أبي..؟
لم اجب. فقال: إن لم تدعني ارحل، فأنت وحدك ستكون السبب كي أقتلك!
عندما أفقت وجدت ولدي يطلب مني:
أقتلني. فعلت. ولكنني ـ منذ ذلك الوقت ـ كنت أرى طيفه يلاحق ظلي، وأنا اعرف ان
الدورة لم تكتمل بعد.
[17] رحمة
عندما مات طاغيتنا الأكبر، لم
يبق احد لم يبك عليه، ونحن نشيعه إلى مثواه الأخير. احدهم همس في آذني: من أين لنا
بآخر يمنحنا الرحمة، ويرسلنا إلى الموت؟ فقلت له: انظر. رفع رأسه ـ وأنا ادفن راسي
في التراب ـ ليرى البلاد وقد انقسمت إلى شيع احدها لم يترك للآخر إلا ان يستعيد
ذكرى طاغيتنا الأكبر، الذي كان يرسلنا إلى الموت، برحمة!
[18] وفاء
وجدت سيدة تبكي بحرقة ـ في فجر
كل يوم ـ عند قبر زوجها، فذهبت إليها، واستأذنتها الكلام، فأصغت إلي ّ، قلت: أنا
لم أر امرأة، في حياتي، لديها مثل هذا الوفاء!
رفعت رأسها، وهمست، ومازالت
دموعها ـ كما في الأفلام القديمة ـ تهطل من عينيها العسليتين، وقالت: لعلي افعل
هذا كي يندم، لأنه لم يرحمني طوال حياته، رحمه الله!
[19] رصاصة
ـ لماذا تخفي رأسك في الوحل..؟
ـ اخجل من الهواء!
ـ مت إذا ً.
ـ وهل كانت لدي إرادة في الحياة..؟
وسأل مجهول آخر رآه في الطريق:
ـ لم أرك تخفض رأسك لترى ما يحدث في الأرض..؟
ـ وهل لدي ّ رأس ..
ـ وما ـ هو ـ هذا الذي تضعه فوق بدنك الضخم ..؟
ـ هذا هو رصاصة تبحث عن مستقر لها!
عاد إلى زنزانته الصغيرة،
وأغلقها، بعد ان لم يعد لديه ما يخسره. فالحياة، قال، ما هي إلا هذا الذي يغيب.
[20] شفافية
مازالت كلمات جده ترن في آذنيه:
حذار ان تفقد عقلك! وهو يشاهد عبر الفضائية الأرضية، أعرابيا ًيهرول إلى شيخ
قبيلته ويقف بين يديه مذعورا ً، وحائرا ً. فسأله الشيخ: ما الذي جاء بك وأنت
ترتجف؟ فقال بصوت خائف: العاصفة اقتربت منا، كثيرا ً، ولن نسلم منها. ابتسم الشيخ وقال: اطمئن، لا تقلق أبدا ً! نهض
الشيخ وذهب إلى أبناء قبيلته وخاطبهم بصوت جهوري: هل لديكم حقوق مغتصبة، أو حريات
مستلبة، أو خدمات متعثرة، حسنا، لأنني سأكون معكم، ديمقراطيا ً، بل وشفافا ً،
بمناقشتها، وإعادة كامل حقوقكم إليكم.
مصغيا ً ـ وهو يرى ـ شيخ القبيلة
يلقي خطابه إلى شواخص مقبرة تمتد حيث حافات المدن الأخرى تداخلت للتسع إلى ما
لانهاية.
فقال يخاطب جده: آسف يا جدي،
لأن وصيتك التي سمعناها لا احد عمل بها إلا
وقادته إلى الصمت.
ولكنه شاهد الموتى ينهضون ويهتفون: عاشت الشفافية!
[21] نيرون
ـ أتعرف لماذا حرق نيرون روما، ودكها دكا ً، ولم يترك سوى الرماد ..؟
ـ بسبب جنونه.
ـ لا، انه فعل ذلك لأن نيرون كان هو ضميرها!
ـ ماذا تقول أيها الحكيم..؟
ـ لأن النخب في العالم، واقصد التي
ينتخبها الشعب، أما تكون خادمة له وأما ان يكون الشعب خادما ً لها. وهذا ليس لعبا
ً بالكلمات. فالطاغية هو الضمير المخفي لكل هؤلاء وقد وجدوا مصائرهم متجسدة في
الزعيم الأوحد. وأضاف:
ـ فان لم يحرق نيرون روما، فهناك ألف نيرون سيقوم بالعمل نفسه.
ـ لم افهم ..
ـ إن المدن التي لا اثر لها، هي وحدها يمكن ان تخبرك، كيف تتوارى الكثير من
المدن، وهي في طريقها إلى الغياب.
ـ مثل مدينتنا ..؟
ـ غريب! وهل لدينا مدينة كي تهدم..؟ فقال الآخر مضطربا ً:
ـ أصبحت لا اعرف هل امثل نفسي، أم امثل شعبي..؟
ـ لا فارق يذكر بين ان تكون أنت السبب، وبين ان تكون أنت النتيجة، فالدورة،
مثل المطحنة، عندما لا تجد ما تسحقه، تسحق نفسها، وتترك مصيرها للريح.
[22] اعتراف
لمحه يعبر، أمامه، مسرعا ً،
فتذكره، رغم مرور عقود طويلة من الزمن، فأسرع خلفه، ولكنه توارى تماما ً، من غير
اثر. تسمر يحق في وجوه المارة، ورفع رأسه
قليلا ً، ثم عاد يحدق في الأرض. فسأل نفسه: ما الذي كان يحدث لو كنت أخبرته
بنوايانا: محوكم من الوجود!
ـ آه .. ها أنت هنا ..؟ فقال له من
غير تفكير:
ـ ولكنكم كنتم أطلقتكم سراحي.
ـ هل كان علينا .....، محوك..؟ فقال بشرود:
ـ لأن الذي لم أخبركم به، ولم أبح به أبدا ً...، حتى هذه اللحظة، يقول نعم!
ـ لا تكترث، فها أنت ترى، كلانا، ليس لديه إلا ان يلقى حتفه، فإن كنا
محوناك أو تركناك، فالأمر، في نهاية المطاف، ليس له أكثر من هذه النهاية.
عندما فتش عن كيانه، ولم يجده، آنذاك لم يعد يجد ضرورة للتفتيش عن آخر.
[23] شرود
عندما أدركت انه غير مكترث لحركة
المارة إن كانوا عائدين من الموت أو ذاهبين إليه، ورايته يمد أصابع يديه كمن
يستجدي...، فكرت ان جاري، الذي اجهل ما اذا كان هو الذي تخلى عن الحياة، أم هي
التي تخلت عنه، أراد ان يبرهن انه لم يفقد عقله، مع انه طالما اخبرني ان الحديث عن
هذه القضايا محض إضاعة للوقت، فما شاننا
بهذا الذي تخلينا عنه، وليس هو الذي تخلى عنا. فكتمت لا مبالاتي وجلس
بجواره أراقب أصابعه النحيلة تستجدي شيئا ً ما. فقلت له:
ـ أنا اعرف انك لا تطلب شيئا ً ما من احد..
وأغلقت فمي. لأنني تذكرت الزمن
الذي طالما رايته فيه لا يرد طلبا ً لأحد، في الوقت نفسه لم أجده راغبا ً بأمر ما
من الأمور. ولكنني لم أره اشتكى أو رد مشتكي.
فقلت أخاطب نفسي بصوت مسموع:
ـ قد استطيع ان أقدم لك شيئا ً ما يا جاري العزيز ..؟
حدق في عيني، بلا مبالاة،
ولكنها ليست مؤذية، ولم ينطق بحرف. ولأنني اعرفه منذ زمن بعيد، بعيد جدا ً، واعرف إننا
ـ طوال هذه العقود ـ لم نختلف، وثمة مودة ما سمحت لنا بالحفاظ على علاقات حسن
الجوار، لم اتركه لشأنه، وهو مازال يمد أصابع يديه وكأنه يستجدي شيئا ًما. فسألته:
ـ أتطلب امرأ ما من الزمن ..؟
ـ لا.
نطقها من غير تردد. فقلت:
ـ إذا كنت لا تستجدي شيئا ً ما من الزمن، فما الذي تطلبه..؟
ـ لا اطلب شيئا ً، أنا أفكر ما الذي في هذا الزمن، وما الذي منحه هذه
الوثبات، وهذا الذي يمتد، من غير خاتمة له...
فتذكر انه طالما فكر كيف اكتسب
الزمن هذا التدفق، من الصفر إلى الامتداد، وكيف كان عليه الكون من غير زمن، وهل
حقا ً ثمة على هي علة نفسها، وهل ...؟
فجأة طلب مني ان أمد يدي ّ،
فعلت. آنذاك لم أكن أفكر في الزمن، وفي الأزمنة، وبمرور هذا الذي يأتي، وهذا الذي
يغادر، ويغيب، بل أحسست ان شيئا ً ما سكن الزمن، لم نراه، يأخذ أثره معه،
و..ينبثق.
قال بصوت مرح:
ـ عندما أصبحت لا امتلك ما أعطيه،
لم أجد قدرة لدي ّ على الاستجداء! ومن يرانا نمد أيدينا، يا جاري، لن تجد أحدا
ًيقترب منا، فالذاهبون إلى الموت، كالقادمين منه، غير منشغلين إلا بالمرور، أما
أنا، أيها العزيز، فانا أصبحت مثل هذا
الذي عليه ان يجد سكنا ً بعد ان لم يعد للزمن إلا ذروته: الموجودات من غير وجود،
والوجود من غير موجودات!
ـ فصرخت:
أمسكت به!
ـ إذا ً، ها أنت فقدتني!
ومنذ ذلك النهار، وأنا اسأل
نفسي: من فقد الآخر، لأنه لم يعد يراني، وفي الوقت نفسه، لم اعد أراه، إنما كان كل
منا يدرك انه بجوار الآخر.
[24] حوار
ـ اخبرنا، كيف كنت تمضي أزمنتك، مع
الجلادين، ومع الضحايا، بلا شقاء ومن غير عذاب ضمير..؟
صمت قليلا ً، وقال:
ـ لأنني كنت أجد في كل منهما، ما لم يجده احدهما في الآخر! ففي الضحية تجد
ان هناك جلادا ً مستترا ً، مخفيا ً، ولدى الجلاد ضحايا استطاع الإمساك بمصائرهم.
ـ ولم يعذبك هذا ..؟
ـ لأن ادوار كل منهما، كانت تجري، بانتظام، فما من جلاد لم يصبح ضحية، وما
من ضحية لم تزح جلادها وقد حولت الجميع إلى تراب!
ـ ولم تغتظ أو تشقى أو ...، تأسف ..؟
ـ بل أنا مازلت اجهل لماذا هذا التقسيم، بين صيادين، وطرائد، فلا الطريدة أخذت
بثأرها، بعد الافتراس، ولا الصياد خالجه الندم، مادام صيادا ً.
ـ وأنت ..؟
ـ كان كل منهما قد اخذ حصته مني وما ترك لي إلا فرصة متابعة استكمال المشهد!
ان استمع إلى أنين الجلاد تارة، عندما يختلي مع نفسه، والى زمجرة الضحايا
واستغاثتهم تارة أخرى، وأنا ـ بمعرفتي لهما ـ كنت جلادا ً ممتازا ً لنفسي، مرة،
وضحية للدرب الذي لم أجد سواه، مرة ثانية! فهل لديك لعبة لا خاتمة لها سوى الموت،
كي تغوينا بالخلاص..؟
[25] مراقبة
سأل المحقق الأكبر، الرجل الذي
كان يراقب الدنيا من ثقب صغير، فأجاب:
ـ لأنني كنت أراهم جميعا ً يحدقون في هذا الثقب، فماذا افعل..؟ لو تركته،
لكان علي ّ ان أكون معهم في البحث عن ثقب أشاركهم التحديق فيه، وأنا اعرف ان
الجميع، عبر القرون، لن يجدوا إلا هذا الثقب الذي قبعت خلفه أراقبهم، وأنا، يا سيدي،
لم اغفل ان أراقب نفسي، كي لا اخسرها، وكي لا اخسرهم أيضا ً. وما أنت، يا كبير
المحققين، إلا هذا الذي كان يراقب الجميع، مثلما كانت أحداقنا كلها تتوجه إليك!
31/10/2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق