الأربعاء، 5 يونيو 2013

( نلكح من طلع نخلتنه كل بستان )النخلة العاشقة-حامد كعيد الجبوري


( نلكح من طلع نخلتنه كل بستان )
النخلة العاشقة
حامد كعيد الجبوري
       الكثير يعتبر النخل سيد الشجر وهناك بيت شعر للجواهري الكبير بمقصورته العصماء بهذا الباب يقول فيه  ، ( على النخل ذي السعفات الطوال / على سيد الشجر المقتنى / على الرطب الغض إذ يجتلى / كوشي العروس وإذ يجتنى) ، وربما النخل الشجر الوحيد الذي يستفاد من كل جزء فيه ، بدءاً من الساق وصولا للجذع والسيقان والأوراق ، وحتى الجذر الذي بجوف الأرض له فوائد جمة يعدها المختصون بالزراعة ، ناهيك أن التمر من أغنى الفواكه بالفيتامينات التي تمد الجسم بما يحتاجه من طاقة وسعرات حرارية ، ( بيت لا تمر فيه جياع أهله ) هذا ما روّي عن الرسول الأعظم ( صلعم )  ، أضف لذلك أن الكحول تستخرج من التمر ، والكحول دخل الصناعات الطبية وغيرها  ، وكذلك مادة ( الدبس ) التي تعتبر من متطلبات بيوت الفقراء ، وكثير من صناعة الحلوى تنتج من مادة التمر ،   ونوى التمر مفيد كعلف لكثير من الحيوانات وفي مقدمتها الجمال لاحتوائه على الكثير من المواد ( البروتينية ) والدهون  ، وجذع النخلة يستخدم كسقوف لبيوت فقراء الناس ، وما أكثر الفقراء في العراق ،  و (( جريد )) النخل هكذا يسمى عند العامة ) أي السيقان ( الطرف ) بعد نزع الأوراق ((الخوص )) وهذه تسمية العامة أيضا ، ويستخدمه العمال المختصون بهذه الصنعة النادرة في كثير من الصناعات وهي ( الأسرة ، الكراسي ، أقفاص الطيور الأليفة والمهجنة ) ، وأما الأوراق ( الخوص ) فتستخدمه النسوة في كثير من الصناعات البدائية ومنها ، ( الزنبيل ) وهو السلة أو السلال الصغيرة لوضع ما يشترى من الأسواق فيها ، المروحة اليدوية ( مهفة ) ، مكنسة لتنظيف البيوت ، الحصر -  الحصران -/ وهي عبارة عن نسيج من الخوص يخاط بعض لبعض ويفرش في بيوت الفقراء للجلوس والمنام عليه أيضا ، وأما الآن فأصبح من الصناعات التراثية لانقراض هذه الصنعة ) .
الحج لبيت الله الحرام خمسينات القرن الماضي يختلف عن حج أيامنا هذه ، كانت الرحلة تستغرق أكثر من شهرين وقد تصل لثلاثة أشهر متتالية ، وقسم من الحجاج ينطلق لبيت المقدس أولا ومن ثم الذهاب للديار المقدسة والعودة عن طريق إيران بعد زيارة مشهد الإمام الرضا ( ع ) ،ومنهم من يذهب لإيران ثم الديار المقدسة ثم العودة من بيت المقدس ، وتهيأت الفرصة لوالدي الفلاح أن يحج بيت الله الحرام ، أنطلق موكبهم لبيت المقدس مرورا بالديار المقدسة وعودة عن طريق المحمرة ثم البصرة ثم الحلة ، جاءنا يحمل بين يديه لينة ( فسيل نخل ) ، قلت له وأنا الطفل الصغير الذي لم يدخل صفوف المدارس بعد ، ما هذا يا أبي  ؟ ، أين هديتي ( الصوغة ) ؟ ، ضحك بوجهي وقال لا تستعجل لنزرع هذه النخلة أولا ،  لا يزال بملابس سفره وأقاربي تحيط به للسلام عليه وتهنئته بسلامة العودة وهو مشغول أين يزرع نخلته ، أختار لها مكانا قريبا لبيتنا الطيني وهيأ تربتها بعد أن مزجه بشئ من السماد العضوي  وزرعها وأمرني بسقايتها وعاد ليرحب بضيوفه الأقارب والأصدقاء ، كان يرقبها ويحيطها بعنايته وسورها بسعف النخيل ليحميها من حيواناتنا المنزلية ، سألته ما هذه النخلة يا أبي ؟ ، أجابني بثقة تامة أني أكلت تمرا من أمها في المحمرة ولم أجد ألذ منه ، وسألتهم عن أسمه فقالوا أنه ( الشُكَر ) بضم الشين وفتح الكاف ، وأضاف أن هذه التمرة طرية وحلاوتها ليست من النوع الذي يحرق القلب ونسميه نحن أصحاب البساتين ( تمرة باردة ) ، قلت له في بستاننا نفس هذا الصنف ، قال لا فهو يختلف عنه وهو أي التمر قابل  للجني اليومي وقابل للتخزين السنوي بعد أن يوضع بما نسميه ( كيشه ) ، وهي عبارة عن حاوية تصنع من سعف النخل لحفظ التمر فيها ، شاء الله أن تكبر نخلتنا ( الأحوازية ) وأكلنا من تمرها ، وفعلا كان لذيذا أفضل من ناتج نخلتنا شبيهتها بالتسمية ، ولأن والدي رحمه الله خصها بعنايته فقد ضَخُم جذعها وكبرت سيقانها – الأطراف - واخضرت بشكل ملفت لنظر من يدخل بستاننا الصغيرة ، لم نحصل من تمرها إلا القليل لأن والدي كان يوزعه لأصدقائه المقربين ولأقاربنا ، ومؤكد أن النخلة سيكون لها فسائل كثيرة لذا أحتفظ ببستاننا أكثر من فسيل ووزع الباقي لمن يحب ، فوجئنا أن رأس النخلة بدأ يميل جهة الشرق وبدا ذلك واضحا بمرور أشهر السنة ، ذهب لدائرة الزراعة ولم يحصل منهم على جواب شاف ، قال أحد الفلاحين المعمرين أنها أصيبت بداء ( الجرنيبه ) - تسمية محلية تختلف من مدينة لأخرى - وهي حشرة تشبه الأرضة تنخر رأس النخلة وجذعها لتصل إلى اللب وهو الغذاء لتلك الحشرة ، عالجها بمبيدات كيميائية ولم يحصل على نتيجة ، قالوا له أحرق رأس النخلة بالنار ، وفعلا حرقها وماتت الأطراف فترة  واخضرت من جديد وبقي رأس النخلة مائلا أيضا ، أحتار في ذلك كثيرا وخاف أن يفقد نخلته النادرة ، ونصحته جارة لنا من أهالي الناصرية أتت مع أبنتها المعلمة التي عينت على ملاك تربية بابل واستأجرت دارا لنا قرب البستان  وقالت له أن نخلتك عاشقة ، أجابها بتعجب واضح نخلتنا عاشقة !!!؟ ، قالت هكذا يقال لمثل هذه الحالة في الناصرية ، وحرام عليك أن تلقحها من طلع ( الفحل ) الموجود ببستانكم وعليك أن تطلب لها طلعا من ( فحل ) البستان الذي مالت أليه ، وفعلا السنة القادمة أخذ لها لقاحا من البستان التي مالت نخلتنا نحوه ، وأنتجت تمرها دون أن يعود رأسها للاعتدال مجددا ، لم يكترث لذلك وقال ربما السنة القادمة ، ومرت السنين ونخلته كما هي ، وتذكرت شطر بيت أستثمره الشاعر الشعبي الراحل ( كاظم الركابي ) بقصيدته ( مناجل ) بهذا المضمون الذي يقول فيه ( ونلكح من طلع نخلتنه كل بستان ) ، دلالة على الفكر ألأممي الذي أراد أن يسود الدنيا ، ولكن جهود والدي كلها باءت بالفشل وأستسلم لأمره معللا نفسه أنه طالما لم يتغير الناتج ولم تقل كميته عن السنين الماضية لذا أذعن لمصير نخلته وقبل بواقعها المر .
    كبرنا ورحل والدي وأستملك بستاننا لتوسعة مركز مدينة الحلة الفيحاء ، وبنينا دارا كبيرة بنفس مكان بستاننا التي أصبحت جزءا كبيرا من حي يسمى ( الخسروية ) ، وزرعت بحديقة دارنا نخلة نادرة جلبتها من محافظة البصرة  ( برحي ) ، وهي  أفضل من نخلتنا التي مرضت وقصت من قبل بلدية الحلة ، وتمتاز نخلة ( البرحي ) بميزات تشبه نوعية ( الشكر ) وتتفوق عليها  ، والنخلة التي رعيتها  تعملقت ، وكبر جذعها وأطرافها بشكل ملفت للنظر و يسمونها الفلاحون ( طاغية ) ،  و( للبرحي ) ميزات كثيرة تختلف عن بقية النخيل ، منها أن ( العثق / العثك  ) يكبر بأكثر من ضعف عن بقية النخيل ، و( للعثق ) زند – ساق أخضر يوصل الغذاء لحبيبات التمر متصلا بقلب النخلة - أطول بكثير عن أخواتها النخيل ، وأطرافها أكبر وأضخم من بقية النخيل ،  شاءت الظروف أن يميل قلب نخلتي كما مال قلب أو رأس نخلة والدي ، حزنت كثيرا لذلك وليس بيدي حيلة لأن والدي لم يترك سبيلا إلا وسلكه ، وأصبح الحصول على فلاح يقوم بتلقيحها وتنظيفها مهمة ليست بالسهلة ، وخاصة أنا سمنت وكبرت وليس بمقدوري تسلقها  وعنايتها ، وأنا أتابع حالتها خطر ببالي شئ بخصوصها ، لاحظت أن النخلة مالت تجاه الشمال ولاحظت كثرة ( العثوق ) تجاه الشمال أيضا ، بمعنى أن ثقل ( العثوق ) تسحب قلب النخلة تجاه الوزن الأكبر ، تناسيت وزني وعمري وتسلقتها وصعدت لقلبها وبيدي السكين الخاص بقص ( العثوق ) واجتثثتها مع قسم كبير من الأطراف ، وأتبعت عملي  هذا العام التالي فلاحظت أن رأس النخلة ( قلبها ) بدأ يعتدل شيئا فشيئا  وعادت لما كانت عليه ، هرعت لقبر والدي في النجف الأشرف ووقفت قبالة قبره وقرأت سورة الفاتحة وقت له لقد وجدت علاج نخلتك العاشقة يا أبي .



ليست هناك تعليقات: