الثلاثاء، 5 فبراير 2013

قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل-اللوحات د.صفاء السعدون





قصص قصيرة جدا ً






عادل كامل
[1] ظلال
    وهو يتقدم، شاهد ظله ينسحب، وكلما تراجع كان يراه يرتد. فتراجع، ليشاهد ظله يمتد، ليرى، وهو يتوقف، ظله يتقلص ويتوارى. فكر ان يتقدم ويتراجع في اللحظة ذاتها التي ذهب فيها إلى اليسار والى اليمين، ليرى ظله يرسم أشكالا ً لا علاقة لها بمصدر الضوء، ولا بالحركة، ولا بجسده.  
    فقال مع نفسه، لا أخطاء تحدث خارجي، مثلما ـ أضاف ـ لست متوهما ً. وعندما كف عن الحركة، شاهد ظله يترك بعدا ً رابعا ً، وهو يقوده للنظر إلى الأعلى، والى الأسفل، كي يرى الأشكال ازدادت صلابة، ولها ملامس تداخلت بعضها مع البعض الآخر، مدركا ً، في لمحة، انه أخيرا ً لم يعد يمتلك قدرة ضبط الأسباب بنتائجها. ذلك لأنه لم يقدر إلا ان يفكر بالفرار، إنما، كلما ابتعد، وجد انه يدخل في مساحة بلا حافات، وانه بعد ان راح يتأمل الظلال ويصغي لأصوات شبيهة بالرنين، ويستنشق روائح غريبة، لم يجد شيئا ً ما يغويه للانجذاب، ولا للمراقبة.

[2] تأمل
   " لا أستطيع ان أعرف ماذا يريد الإنسان ..." دار بخلده، وهو يستنشق عطر ورود ذات درجات لونية متعددة، مصغيا ً إلى رفيف ومضات جذورها يلامس محياه
، فأحس بدوار لذيذ منعه من تكرار السؤال ذاته الذي طالما شغله خلال سنوات حياته الأخيرة.
   لكن السؤال انبثق داخل رأسه: تُرى ماذا تريد هذه الورود ان ....؟" لأنه ترك أصابعه تغوص في تراب الأرض التي كانت، قبل عقدين، مدفنا ً، قبل ان يبني بيته فوقها. فقال لنفسه: الآن استطيع ان أموت هاديء البال، والقلب، والضمير لو ...، لو كف بصري عن تتبع هذه الومضات، والأصوات، واستنشاق هذه العطور" ثم راح يردد بصوت مكتوم: ولكن ماذا افعل والموتى ينهضون...؟

[3] ورود
ـ " لا اعرف اهو هذا الذي لا وجود له صنعني، أم أنا هو من صنعه ...؟" وراح يتفحص محياها بعد انتظار سنوات طويلة، وجعلها تصغي إليه:
ـ " اهو  الذي شغلني، أم أنا هو من انشغل به ...؟" فأصغي إلى صوت شارد:
ـ " ماذا قبلت ..؟"
   لم يجد الكلمات المناسبة كي يخبرها، بضرورة ان تغيب، وتتوارى، كذلك لم يعثر على كلمات يخبرها بالبقاء حاضرة أمامه، بعد هذه السنوات من الغياب.
  ذلك لأنه عندما وجد فمه مغلقا ً بفمها لم يستطع ان يجد كلمة تسكنها المسافات، والأزمنة. فعندما آفاق، فجرا ً، راح، ككل يوم، يرى فضة الفجر، ترفرف، كي ينتظر هذا الذي طالما انتظره، ولم يأت، إنما، عاد يتساءل: أيهما كانت له الأسبقية، في الغياب، وفي هذا الحضور المستحيل. ثم رجع إلى غرفته، زاحفا ً نحو سريره بصعوبة، ممسكا ً بقليل من تراب الأرض، وبوردة تركها تستقر إلى جانب ورود لا تحصى تركها تتراكم، بمحاذاة السرير.

[4] متى تموت؟
   وأخيرا ً، اعترف لنفسه، انه يستطيع ان يقرأ بالضبط ذلك التاريخ الفاصل بين الحياة وما بعدها، إنما فقط عليه ان يترك الجهاز يعمل مع من يرغب التعرف على  تاريخ موته.
   رفع رأسه، وشاهد الغيوم، عبر النافذة، ذاهبة في الاتجاه الآخر، وسره ان الألوان ليست باعثة على الملل، وثمة سرب طيور، يتجه من الجنوب إلى الشمال، يمر، يتبعه سرب آخر.
    إنما أنا لم اقتن الجهاز لمعرفة متى أموت! ودار بخلده، ولا لمعرفة متى يموت أي إنسان آخر. أنا كنت قلت مادامت حياتي سلبت مني منذ زمان بعيد، فهل يصح ان يكون لموتي معنى ...؟ وأضاف، وهو يعطل عمل الجهاز، ان أحدا ً ما من الآخرين لم تكن لا ولادته، ولا موته، تعنيه، فهل لولادتي، أو موتي  قيمة تذكر عندهم ، فما أهمية ان أعيد قراءة تواريخ وأرقام لا تعني أحدا ً عدا الله، في نهاية الأمر.    
   لكنه أعاد تشغيل الجهاز، وضغط على النابض الذي يحدد النتيجة، فسمع الجهاز يخاطبه:
ـ هذا الجهاز لم يصنع للذين لم يولدوا بعد!
   هز رأسه، وتساءل: أنا كنت اعرف ذلك، فما الغرابة في الأمر..؟ فخاطبه الجهاز بصوت رزين: ذلك لأنك، يا سيدي، تعيش حياة ما بعد الموت منذ زمان بعيد!

[5] اتبعني


ـ اتبعني.
   في الطابور، وأنا أقف خلفه، سألته:
ـ إلى أين؟  حدق في عيني شزرا ً:
ـ لو كنت أعرف، فهل كنت سأدعك تمشي خلفي!


[6] خلود

    بعد ان حصل على المرآة التي يستطيع ان يرى فيها أحداث ماضيه، في أدق تفاصيلها، ويستطيع ان يرى فيها كل ما سيقع له في المستقبل، سأل نفسه: ولكن ما دور المرآة إزاء ما لا يحصى من العوامل التي شكلت مسارات، ومنعرجات، هذه الحياة..؟
سمع المرآة تخاطبه بصوت خفيض:
ـإذا كنت تريد ان تمضي حياتك وكأنك لم تعشها، فعليك ان تبحث عن مرآة أخرى ترى فيها كل ما لم يحصل لك، وكل ما هو بحكم المستحيل الذي جعلك على قيد الحياة حتى هذه اللحظة، أيها العجوز المسكين!
    بحركة لا إرادية حطم المرآة، لكنه، في الحال، بعد ان جمع شظاياها، سمعها تخاطبه بصوت جاف، وعنيد: أنا أيضا ً مثلك لا امتلك إلا ان أحدق في هذا المصير!

[7] سؤال
   " وأنت تكتب، حاول ان تمسك بهذا الذي يمتد، وينتشر، خارج مدى كلماتك، فلماذا تكتب، وأنت لا تمحو، إلا محوك ...؟"
   ابتسم الكاتب، بعد ان ترك القلم يسوّد الورقة بخطوط تشابكت فيها المنحنيات بالدوائر، والنقاط بالشخابيط، والمستقيمات بالرموز: صفحة رمادية راحت تزداد سودا ً.
ـ " هو ذا كل ما باستطاعتك ان تفعله ..." 
وترك أصابعه تسوّد ما تبقى من الفراغات في الورقة، حتى رآها بيضاء.
ـ " والآن هل تقدر ان تقول أنها ليست إلا ورقة، استبدلت لونها، من البياض إلى السواد، ومن السواد إلى البياض، مثلما انك لم تختر إلا ان ترى كلماتك تغادرك، وتفقد لونها..؟"

[8] تراب

   مد البرفسيور رأسه عبر فتحة في النافذة، ونظر إلى الحديقة: لا أحد. ذلك لأنه لم يغادر البيت، منذ سنوات، بعد ان ألف عزلته، وتركها تسكنه.
   لكنه استعاد، في لمحة، حياته برمتها وهو يتخطى عتبة الباب، فجرا ً، يتأمل رذاذ المطر يتمايل بلوريا ً أمامه، ولم يستطع منع رغبة جامحة لم يشعر بعدها، إلا وهو يردد، مع نفسه: لماذا تركتهم يغادرون.. ولم يتمكن من لفظ آخر الكلمات التي خطرت بباله: لماذا أنا وحيد كهذا ...
  ولم تكن أصابعه تتشبث إلا بالدغل، وهي تغوص عميقا ً في تراب الأرض.

[9] طيف
    وجدها تبادله ابتسامة شبيهة بحلم مكث ينتظر ان يبلغ ذروته، وهي تخاطبه:
ـ قلت لك تعال معي.
   كان الوقت مبكرا ً، قال لها، ثم أضاف:
ـ والآن، بلغ الوقت نهايته.
   وعاد يراها، عبر الرذاذ المطر، مثل طيف، فلم يطلبها، ولم يدعوها للاقتراب، ولكنه لم يقدر ان يمنع نفسه من الذهاب معها، حيث توارت في الفضاء.

[10] مراقبة

    من ثقب في الجدار، انشغلت بمراقبة جاري، وهو رجل في الثلاثين من العمر،  كيف كان يطلق النار، رصاصة رصاصة، باتجاه مجموعة بشرية كدست بعضها فوق البعض، ولم أميز ما اذا كانوا رجالا ً أو أطفالا ً أو من النساء، فقد كان الظلام يمنعني من الرؤية بالوضوح الكافي. كان يطلق رصاصة، رصاصة، وهو يتقدم خطوة إلى الأمام، من الكتلة البشرية، المتراصة، كأنهما بدت لي مثل تل من الحجارة، تارة، ثم يتراجع إلى الخلف ، تارة أخرى، حتى التصق بالجدار، الذي أقف خلفه، فلم اعد أرى شيئا ً، إنما ـ في تلك اللحظة ـ تذكرت جاري، عندما كان، في طفولته، مولعا ً بصيد الطيور، وقتل العصافير.
[11] ظلال
    ....، لا تتوقف عن الكتابة، هل تعبت أنت أيضا ً؟ ولكن الكاتب لم يتوقف عن الكتابة، كي يحفر في الورقة، أثرا ً رآه يمتد، من غير ظل، عدا أصداء كانت تجرجر أصابعه إلى العمل: لقد نضب الحبر، ودار بخلده، إنما راح يتتبع أصداء أصوات راح يراقبها ترسم شقوقا ً في الورقة، حتى وجد ان أصابعه أصبحت حمراء، إنما لم يعد يتذكر متى آفاق لا يمسك بالقلم، ولا بالورقة، عدا أصداء ظلال احتمى بها من البرد.

[12] السر
    لا تنظر إلى الخلف... وخاطب من كان يمشي أمامه: فانا لا اعرف من أين جاءوا. فقال له:
ـ وأنا الآن أدركت السر!
ـ وما السر..؟
ـ لو بحت به إليك، فستبحث عن آخر تتبع خطاه.
   فقلت في نفسي؛ لا هو، ولا من يمشي خلفي، يعرفان أنني، منذ البدء، لو بحت به لبتروا رأسي.

[13] القصة 13
ـ كم بلغت ثروتك...؟
ـ نصف خزينة البلاد.
ـ وأنت ..؟
ـ النصف الآخر...!
[14] طوفان
   بعد ان غمرت مياه الطوفان الأرض كلها، ولم تعد ثمة يابسة، أو علامات تذكر، وهدأت الأمواج، وامتد سطح الماء مع الأفق، إلى ما لانهاية،  لم يعد رأسي يفكر ما اذا كنت أنا هو السبب..، أو أنني الوحيد الذي قدر له النجاة، إنما، في تلك اللحظات، لم اعد مكترثا ً بمصيري!

[15] انتظار

    وهو لا يعرف ما الذي يريده، فكر ان يتوجه بالسؤال إلى جاره:
ـ ما الذي تفعله ...؟ أجاب الآخر:
ـ أنتظر ...! فخاطبه:
ـ أتسمح لي أن اجلس بجوارك، وأعيد سؤالي: قل لي ما الذي تنتظره ..؟ فأجاب الآخر غاضبا ً:
ـ ومن قال لك أنا اغرف ...!
فقال الآخر، وهو يشاهد مجموعة من الناس تقترب منهما:
ـ هل اسمح لهم بالجلوس معنا ...؟
ـ سأسمح لك ان تدعوهم للجلوس شرط ان لا تخبرهم!
ـ ولكن، لا أنت، ولا أنا نعرف ماذا ننتظر ...!
فقال بصوت هاديء:
ـ ليس المهم، يا جاري، ورفيق حياتي، ان تعرف ...، المهم انك أصبحت تعرف، مثلي، انك لا تعرف شيئا ً!
[16] اعتراف
   برفق خاطب جاره القديم، وهو يرقد في مثواه الأخير:
ـ كنت تستطيع ان تقوم بأعمال لا تليق بك، يا صديقي ..؟ فقال له قبل ان يغلق الباب:
ـ لو لم تخاطبني بالصديق، لقلت لك: أن أعمالي ليست كما تصوّرتها، لا قياسا ً بما ذهب مع الريح، بل بما تراه أمامك ممتدا ً، ومزدهرا ً، كي أقول لك، يا صديقي: أنني لم أقم بما هو أردأ منها، وهذا وحده سمح لي ان أعاقب نفسي، بدل ان أعاقب الآخرين. ولا أقول لك ان الأعمال الرديئة هي التي اختارت رجلا ً رديئا ً، مثلي، بل لم تكن هناك حسنات إلا وقمت بها، ولكن لا احد رآها، عدا أنها، يا صديقي، سمحت لنا ان نجد مثل هذا المأوى، نحتمي به من الذئاب، ومن الظلمات.

[17] صخرة
   من ثقب في الحائط الفاصل بين دارينا، ليلا ً، رايته يمشي، من الباب الخلفي، ويجلس قدام صخرة طالما كنت اجهل أسباب وجودها في حديقة داره، مصغيا ً إلى صوته، وهو يخاطبها:
ـ أنا اعرف، مرة بعد أخرى، لا جدوى ان أقول شيئا ً...، فأنت ِ، وحدك ِ ...، لست بحاجة لمعرفة ما اعرفه، مثلما انك ِ، وحدك ِ، لن تكترثي لجهلي بما اجهله. وأنا لا اعرف ماذا كنت سأفعل، في حياتي، لولاك، أيتها الصخرة!




 [18] اعتراف آخر
   ....، لم اخبر أحدا ً إنني سمعت الصخرة تخاطبني: أنت حاولت ان تستنطق صمتي، وأنا، بدوري، حاولت ان أفهمك، لكن بلا جدوى. فلا أنت أدركت ما أريد ان اعرف، ولا أنا حاولت تجاهل ما تريد ان تقول...! لكنني أود ان أخبرك، قبل ان تذهب، وتتوارى، ان شيئا ً ما كان بيننا، لا أنا تخليت عنه، ولا أنت أهملته، فهل استطيع ان أخبرك، أخيرا ً، أن ما شغلني لم أعلن عنه، وانك لم تنشغل إلا بما لا لم يكن يعنيني أبدا ً ...!
2012

ليست هناك تعليقات: