الأربعاء، 13 فبراير 2013

قصة قصيرة-ألآثاري- عادل كامل



قصة قصيرة
ألآثاري











عادل كامل



- إلى بهنام أبو الصوف.


قال ألآثاري، لنفسه، بعد عمل أستمر عدة أشهر، أنه لم، ولن يفقد الأمل.
لكن مساعده قال:
- أنك تتحدث عن آثار مهمة.هنا ،وسط الصحراء...
قاطعه الآثاري:
- لن أفقد الأمل..
- لكننا سنخترق الأرض ..
- أجل..أن فكرتي مازالت سليمة..
- لكننا لم نعثر على شيء مهم..
في تلك الساعات، هبت عاصفة رملية، حجبت ضوء الشمس. كان الجميع في خيامهم، وهناك، والآثاري يعمل وحيداً..يتأمل تراب الأرض..ويفكر في مشروعه: ماذا لو لم نعثر على أي شيء؟ ودار بخلده، أيضاً، أنه طالما أنجز أفكاره، بصواب..وطالما تأكد من جدوى أستثمار الافكار القديمة..قال ذلك، عندما شعر بالأعياء..فنز جسده عرقاً ساخناً..لكنه لم يفقد الأمل. قال أنه طالما أحس بمرارة الخيبة..لكن الخيبات أثمرت، قال أيضاً، أشياء ثمينة لا تحص.
ولوى رأسه بأتجاه الأرض ..تأمل الرمال..بدافع أغفال الأفكار الحزينة التي داهمته..إلا أنه سرعان ما عاد يتساءل: ما جدوى البحث عن حياة تعود إلى آلاف السنين؟ ما جدوى التحدث مع بشر تحولوا إلى متحجرات؟ إلا أنه سرعان ما أغرى نفسه بلذة الجواب..أن عمله يكمن في البحث المتعب..وفي أكتشاف أصوات تعود إلى أزمنة بعيدة، فالمعنى لا يقع خارجه، مثلما الطريق بمسافته.
- ماذا..أفعل..الآن؟ لا شيء. أيها الآثاري العجوز.
وراح يخاطب نفسه، بصوت مسموع:
- أمضينا ستة أشهر في العمل حتى الآن..ولم نكتشف تلك الحضارة الأولى..أعرق الحضارات..للأسف..إنها تحولت إلى رمال.
فقاطعه مساعده الدكتور أحمد:
- يخيّل إلي ّ أنك تبحث عن لا شيء..
- أرجوك..أن بحثنا ما زال في البدء..نعم..في البدء. فالنهاية وحدها لا وجود لها.
وعاد يحاور نفسه، وهو يتفحص التراب، في عمق الأرض:
- لابد أن أستمع إلى الأصوات..وأقول لكم جميعاً: كانت هنا، حضارة.
أن السؤال الذي أثاره الباحث، قبل بدء التنقيبات في الصحراء، كان يتعلق، كما جاء ذلك في الكتاب الرسمي للآثار العامة، بأن الحضارة بدأت في الصحراء. لكن الصحراء بلا حدود، وشاسعة تماماً، ألا أنه أختار الموضع، وقل للجميع: هنا بدأت الحضارة. ألا أن قوله: هنا بدأت الحضارة وعلينا أن نبحث عنها..لفت انتباه الجميع. ماذا يمكن أن تكتشف أيها الآثاري؟ قال في ذلك اليوم: اللغة..الأولى.
قال مساعده:
- أننا نبحث عن لا شيء..أليس كذلك؟
قال الآثاري بكبرياء:
- كلا..أننا نبحث عن الأشياء كلها.
- في هذه الرمال..؟
- نعم..أنت تعرف..يا أحمد..أن الرمال تخفي الأسرار..فماذا نفعل؟
- نخترقها..أليس كذلك؟
- عظيم ..
قاطعه المساعد:
- لكنك تبحث عن اللاشيء..في هذه الصحراء الشاسعة..الممتدة بلا حدود.
- أبداً..أنت تعرف علم الآثار..أنا لا أبحث عن الخزف أو العظام..أو بقايا رماد الحرائق القديمة..أنا لا أبحث عن الأوهام..فأنا قلت: هنا بدأت الحضارة..وهنا كانت اللغة..
وصمت..دخن..وفكر بأن فريق البعثة الآثارية في الصحراء، والعاصفة مازالت تقذف برمالها فوقهم..بأن الجميع متعبين ولا جدوى من البحث في الصحراء عن حضارة..أولى تعود إلى آلاف السنين..إلا أنه أعترف، سراً، وهو في عمق الأرض، بأنه لم يفشل قط في حياته. فهو قد أكتشف حضارات قديمة، ذات أهمية بالغة..كما أكتشف عناصر علمية وثقافية لا تثمن..لكنه الآن شعر بالأسى..
- يا صديقي لنترك هذه المهمة الشاقة..
أجاب الآثاري:
- ألا ترى أننا بلغنا نهايتها..؟
- هذا ما قلته في الشهر الأول..
كان الآثاري، الذي أمضى زهاء نصف قرن في عمله التنقيبي، لا يبحث عن نتائج يسيرة، أو عابرة..بل كان يكرر، طوال حياته، أن علم الآثار لم يبدأ بعد..كذلك دار بخلده، وهو يتفحص التراب الرطب، الذي سحقه بأصابعه الطويلة القوية، أن علم الآثار ليس إلا كذبة..
- ماذا قلت لنفسي؟ كلا..أن هذا العلم في تقدم..مثل علم الفضاء والطب الذري.
- أنك تتحدث مع نفسك..
- أعرف..
وكاد يعترف، بدافع حبه الصوفي لعمله، بأنه مازال يبحث عن نسمه..وينقب عنها..بين أطلال تعود إلى أزمنة موغلة..لكنه قال:
- أتركني.
- هنا..في هذا الموقع..في جوف الأرض؟
وتساءل مساعده حالا:
- ألا تخاف أن تبقى وحيداً؟
لم يجب. كان يود أن يعرف الخوف..وكان يود أن يعرف معناه..أنما قال..بهدوء:
- أتركني..أرجوك..
خرج بعض العمال من الموقع، من داخل جوف الأرض..وخرج الدكتور أحمد..وصار وحيداً في موقعع العمل، بعمق خيالي، كما قال لنفسه..حسناً..وتساءل: ماذا أريد؟ ولم يجب..إنما أمسك بالمعول وراح يحفر..
- ماذا تفعل؟
تساءل رجل عجوز، لم يغادر الموضوع بعد، فقال له الآثاري:
- أتركني.
وأصبح وحيداً..قال فجأة:
- الآن أعرف ماذا ينبغي أن أعمل..
راح يحفر، مثل عماله، وراح يدرس الأشياء الجديدة..
فجأة..داخل البئر..وفي لحظة أرتج جسده فيها، سمع صوتاً غامضاً. تماسك، مثلما يفعل عند أكتشاف كبير. لكن الصوت أختفى. قال أنه يعاني من الأعياء..ولولا ذلك العناد مع النفس، الذي أتسم به، لغادر حفرة التنقيب، التي تشبه البئر. كان تارة يفكر بإعضاء البعثة والعاصفة الرملية..ويفكر تارة أخرى بمواصلة العمل..فأختار الحفر..كان يضرب الأرض الرطبة الطينية، التي لا تشير إلى أمر مهم..بكل قواه..بكل ما تبقى لديه من قوة الجسد، وأصرار الروح المبهم. سأكتشف..ودار بخلده، أنه يخشى سوء اختيار مكان التنقيب. بلا تفكير، وأصل ضرب الأرض، في جدار الحفرة..غير مكترث لقواه التي بدأت تتلاشى، ولصعوبة تحريك أصابعه..كان ثمة أمل ما يشده، ويجدد ما تبقى من قواه، كان وحيداً، مثلما كان يعمل وحيداً، خلال حياته في الوديان والصحارى والجبال..بلا تعب أو أوهام..
في صمت تام، وبعد أن ترك العمل، حدق في حركة غريبة بجدار الحفرة، تجمد..وكاد يستغيث..لولا أن المفاجأة جمدته تماماً.
راح يحدق في رؤوس أطفل وقد خرجت من الجانب الآخر..عدة رؤوس..صغيرة..وهي تحدق فيه صامته.
لم يتكلم..بالأحرى حسب الأمر محض حلم..أو تصوره مجرد وهم ولا علاقة له بعمله بتاتاً. إنما سأله أحدهم:
- ماذا تفعل هنا؟
أدرك، عملياً، أنه لا يستطيع الرد..ولا يستطيع التكلم. شل لسانه، وتجمد جسده. فعاد الصوت:
- سألتك ماذا تفعل، هنا، في أرضنا؟
دار بخاطره، أن الأمر حقيقة..فقال، بكملات مبهمة:
- لا..أعر..ف..بالضبط..ماذا..أريد.. لكن الطفل صرخ:
- أنك تنقب عنا.
ثم أضاف طفل آخر:
- أنك تبحث عنا..
- وصرخ ثالث:
- أنك تنوي أن تضعنا في المتحف.
نظر إلى الوجوه، الحائرة، وقد أدرك أن خطأ ما حصل..فقال، بعد أن هدأ من غضبه الداخلي، ومن خوفه:
- كنت أبحث عن حضارة قديمة..ضحك الجميع، بصوت واحد، وقال أولهم:
- هل أنقرضت حضارتكم؟
- لا ..
- إذن ما شأنك بحضارة تعود إلى مليون سنة مضت؟
وآضاف الثاني:
- ثم أننا لم نشن الحرب ضدكم..
ثم قال الثالث:
- ألا تتركوننا سعداء نعيش بعيداً عنكم..هل تعرف معنى السعادة؟
كاد يعترف بأن سعادته تكمن في أكتشاف الآثار القديمة..تلك السعادة التي تتضاعف كلما كان الأكتشاف أكثر أهمية، وقيمة آثارية. ومعنى إنساني..وكاد يعترف بأن سعادته الآن تكمن في أكتشافه حفنة أطفال مطمورين تحت رمال الصحراء منذ مليون ستة خلت.. لكنه أنتظر..
قال الأول يسأله:
- لا أعتقد أنك تكن أي تقديس لنفسك..إليس كذلك ؟
أجاب بذهول:
- لا أعرف.
قال الثاني يسأله أيضاً:
- بل أنك لا تكن أي تقديس لنفسك..أليس كذلك ؟
- ربما ..
وقال الثالث متسائلاً، بصوت أعلى:
- إذن ماذا تريد منا ..؟
وتابع بسرعة:
- لِم َ لا تبحث عن سعادت فوق الأرض؟ ثم أننا، صراحة، لم نفكر لحظة واحدة بالبحث عنكم.
وأضاف الطفل الأول:
- لابد أنكم تبحثون في السماوات أيضاً؟
أجاب الآثاري حالاً:
- أجل..نبحث في كل مكان..
- نعم .
بعد هذا الحديث الوجيز..سمع الآثاري صوت مساعده يناديه..وسمع أصوات عماله..إلا أنه، بلا وعي، قذف بجسده العملاق في الكوة التي يطل منها الأطفال، وأختفى معهم، رغم ما أبدوه من معارضة وأمتعاض.
ولما وصل المساعد، والعمال، والجميع، إلى قاع الحفرة، لم يعثروا على الآثاري..الأمر الذي دفع بالدكتور أحمد إلى القول:
- مهمتنا بدأت الآن.
وعلى الرغم من أن الرمال غطت كل شيء، في الخارج، إلا أن مساعد الآثاري، لم يفقد الأمل، في العثور على العالم الكبير، صديقه الآثاري..وكان ذلك هدفه الوحيد.

1986
 

ليست هناك تعليقات: