الخميس، 21 فبراير 2013

خذوا النفط واعطونا الكتاب-احمد الصراف



 خذوا النفط واعطونا الكتاب-احمد الصراف
كتب توماس فريدمان في «النيويورك تايمز» (3/10)، أنه عندما يسأل عن أفضل بلد لديه، عدا وطنه، فإنه يجيب: تايوان! فتايوان بلد خال من أي موارد طبيعية وأرضه صخرية ويقع في بحر تتلاطمه العواصف من كل جهة، وبحاجة لاستيراد كل شيء حتى الرمل ومع هذا يمتلك رابع أفضل احتياطي مالي في العالم، لأنه اختار الحفر في عقول أبنائه بحثاً عن الإبداع بدلاً من الحفر في الأرض بحثاً عن المعادن، فالبشر هم طاقته الوحيدة غير الناضبة والقابلة للتجديد.
ويقول إنه وجد إجابة لتفوق تايوان في دراسة لمنظمة OECD الإقليمية عن علاقة مخرجات التعليم في 65 دولة في مرحلة الثانوية، مقارنة بما تحققه كل منها من دخل من مصادرها الطبيعية، وأن هناك علاقة سلبية بين الثراء المتحقق من الموارد الطبيعية، كالنفط، وبين مخرجات التعليم وما يحصل عليه الطلبة من معرفة ومهارات، وأن الظاهرة عالمية. وبيّنت الدراسة أن طلبة سنغافورة وفنلندا وكوريا وهونغ كونغ واليابان حققوا أفضل النتائج بالرغم من خلو دولهم من الموارد الطبيعية، بينما حقق طلبة ثانويات قطر وكازاخستان والسعودية والكويت وسوريا والجزائر والبحرين وإيران أسوأ النتائج، وحقق طلبة لبنان والأردن وتركيا، الأقل في مواردهم الطبيعية، نتائج أفضل. وأن طلبة دول مثل البرازيل والمكسيك والأرجنتين، الغنية بالموارد الطبيعية، حققوا نتائج متواضعة في الوقت الذي حقق فيه طلبة كندا وأستراليا والنرويج، الذين تتمتع دولهم بغنى الموارد نفسه، نتائج جيدة، لأن هذه الدول حافظت على ثرواتها بطريقة سليمة، وأعادت إحياءها، واستغلت العوائد بطرق سليمة، وابتعدت عن استهلاك ما حققته من ثروات في الرواتب والمنح، كما يفعل البعض بجنون واضح.
ويقول فريدمان إنه يمكن قياس تقدم دولة ما في القرن الـ 21 من خلال ما تنفقه على «خلق» المدرس الناجح، وتربية الأبناء وزرع الجدية فيهم والاهتمام بمقرراتهم، وليس بما تمتلكه من ذهب وألماس ونفط، فمستوى مخرجات التعليم هو الذي سيحدد قوة أمم المستقبل وثراءها وليس الدخل من الموارد الطبيعية، ولو نظرنا إلى جنسية غالبية الشركات المدرجة في سوق ناسداك، بخلاف الاقتصادات الكبرى، لوجدنا أن جميعها فقيرة في مواردها الطبيعية، فالمعرفة والمهارات هما عملة المستقبل. ( وأعتقد أن سبب تميز اقتصاد دبي وشعب البحرين عن بقية «المشايخ والممالك» يعود لفقرهما النفطي)!
ويختم فريدمان مقاله بأن من المفيد أن يكون لدى دولة ما نفط وغاز وألماس، ولكنها تصبح بلا جدوى إن لم تستغل بطريقة سليمة، خصوصاً أن هذه الموارد تضعف أي مجتمع في المدى البعيد، إن لم يتم الاهتمام بالتعليم والإيمان التام بالثقافة، فالذي يحرك الإنسان ليس الذي يأتي إليه طوعاً، بل ما يدفعه ليحضره بنفسه.
وقد ذكّرني مقال فريدمان بمسابقات مزاين الإبل، واختيار أفضل تيس وأجمل نعجة، وهذا ربما لا بأس به كتسلية، ولكننا نصبح دولة بائسة عندما نعطي التيس أهمية أكبر من التعليم! كما ذكّرني المقال بما سبق أن ذكرته في محاضرة للأستاذ إبراهيم البليهي من أننا،، لا يمكن أن تقوم لنا قائمة والنفط موجود، وأن الحاجة هي التي ستجعلنا ننهض! ولكني اكتشفت أخيراً أننا في خضم شراهتنا للصرف، وإهمالنا التعليم، وجمعية معلمينا خير مثال، فإن النفط سينضب بأسرع ما كنت أتصور، وبالتالي لا حاجة لحرق آباره! وتساؤلي قبل الأخير هو: لماذا يهتم البعض كل هذا الاهتمام بتوفير أفضل التعليم لأبنائه، ولو على حساب راحته، وتفشل الحكومة في توفير الأمر ذاته لأبنائها، على الرغم من أن مواردها وقدراتها أعظم بكثير

الثلاثاء، 19 فبراير 2013

تجارب صادق الصائغ الشاعر رساما ً [قراءة في نصوصه التشكيلية]



تجارب
صادق الصائغ

الشاعر رساما ً
[قراءة في نصوصه التشكيلية]



عادل كامل*
  [1]
   لو طلب مني ان أدوّن شيئا ً عن أدوات مكتشفة بجوار هياكل عظمية لكائنات بشرية عثر عليها مؤخرا ً عند حافات الصحراء، في اليمن، والتي يرجع زمنها إلى أكثر من مليون عام، لكانت عبارة بيكاسو ـ: "الأسلوب يأتي بعد الموت" دالة على ان الأثر، وحده، يستدعي الحفر...، ولكن عندما شرعت أدوّن إشارات حول تجربة ونصوص صادق الصائغ ـ الفنية/ الجمالية، شعرت ان علي ّالابتعاد مسافات لا كي أراها، بعد جمعها، وترتيبها، بل كي أعيد قراءة عبارة بيكاسو، وافهم أنها لم تفقد ديناميتها، لأن النص، إن غدا بذرة، فانه لامناص بانتظار ان يجد من يشاركه حياته، وليس موته حسب.




   فهل سقت مثالا ً يستدعي الإيضاح..؟ إذا ً، وأنا تركت الصائغ يتحدث إلي ّ في مجالات متعددة، تمتد إلى أربعة عقود، كي استعيد فيها حياة تزامنت داخلها سلاسل وقائع استحالت إلى ممرات بين الرغبة بصناعة نصوص تمتلك حياتها، وبين زمن راح يقهرها ـ ويطمرها، كي لا تنطق إلا بكتمانات دخلت بيت التاريخ، وليس على الآخر، إلا ان يعمل عمل الجرّاح، لكن ليس بأدوات ما قبل الزمن، بل بمحنة عالم لا نعرف أهو الذي يقترب من نهايته، أم ان ما لا يحصى من التراكمات ستقود إلى مثل هذه الخاتمة.
  وللإيضاح، قال صادق الصائغ لي: لديك بصرك! لأنه مازال يستعيد قراءة حوار لي مع فائق حسن، يستدعي قراءة بأدوات ما بعد (الحداثة)، وليس باليات عمل رجال الصيد، في البرية! فالبصر ـ هنا ـ لا يعمل عمل الآلة، بل عمل الومضات. على ان (الحدس) مهما تمتع بالسحر، والمهارات، لا يقول شيئا ً من غير الأثر/ النص، وهو النص في مواجهة مصيره، وهو مصير البذرة بانتظار ان تحفر في أعتى الصخور، كي تورق، مما يجعل القراءة تستدعي من يدير المفتاح في الظلمات كي يخرج ـ أو يدخل ـ مكانا ً يجهل ما اذا كان جحيما ًاستحال فردوسا ً، أو جنة خرّبت حتى استحالت إلى أنقاض ـ وغبار.
  فصادق الصائغ هو مثال لمدينة مثل، بغداد، وجد، مثلما وجدت، أنهما لا يعرفان أهما خارجان من الزمن، أم داخلان فيه.
     ذلك لأن البذرة غير مشفرة بملايين علامات الخلق فحسب، بل ببرمجة تعّرف (الحتمية) بصفتها تعمل بقيود تحررت من حتميتها، لأن عمل الحرية هو الآخر مقيد بالحرية في عمل المدى الأبعد للحتميات. وهذا مثال يخرجنا من (الآني) إلى امتداداته، ومن اللاحافات إلى النص، لأن الأخير ليس مصادفة محض، بل تكّون بها، كقانون صانع لمساحاته غير المدشسنة.
    وبمعنى ما تمهيدا ً للأسلوب في التذوق، وللذائقة عامة، فان صادق الصائغ شبيه بأسلافه من سكان وادي الرافدين، يغلق الباب، مع النوافذ، كي يشكل، يبني، يكّون نصوصه المتنوعة، القائمة على وحدة المتضادات، ويركبها، في عصر تصادمات الفلسفات، والثقافات، بأدوات ـ وإرادات ـ تمحو بعضها البعض الآخر، وبشعارات، وعلامات، هي الأخرى، أسيرة زمنها، وحدودها، كي تنتج جمرا ً يحدق في رماده، أو كعنقاء شبيهة بجان دارك، استحال رمادها أداة للانعتاق، والتوقد.
   يغلق الباب، كي ندخل بشرعية هدمها، وإلا فان مهمات المبصر، ليست إلا تتويجا ً للظلمة وهي تحدق في مرور العميان، وكأن سيزيف لم يذهب ابعد من (مجرشة) الملا عبود الكرخي: غبار! مما منح الآخر، كل ما كّون توقدات الصائغ، للمغامرة، بتنوع عناصرها، لا لكتابة التاريخ (تاريخ النص وقد استحال أثرا ً، أو الأثر بانتظار من يعيد إليه الحياة. أي تاريخ الذات، وهي تتشبث بالعثور على دروب داخل أكوان لا حافات لها إلا عبر محنة ما اذا كان المعنى ذهب ابعد من مداه، أم ان المدى أسهم بصياغة بعض ٍ من معانيه)، أو محوه (وإلا ما معنى المحو من غير نفيه، ونقيضه..؟)، بل للامساك بهذا الذي يتكّون ابعد منهما.
   أهو هذا الذي د ُفن ـ وتوارى ـ ولم يخلف إلا سلاسل متفرقة من الأطلال انتشرت من أعالي الفرات، مرورا ص بالأرض التي غمرها الطوفان بالكامل، حتى تخوم البحر، لكن حتى هذا الذي لم يعد يشغل البصر، ويلفت الانتباه، تطلب نبشه أدوات لم يمتلكها إلا عدد من الذين سكنتهم لوعة الغياب، وأحزان عصر يعمل عمل الزمن: ليس لها من ابتداء، وليس لمداها خاتمة، كي تشكل ومضات الحلم حرية لا مناص ان اختيارها سبيه بمدى هذه المساحة وقد تشبعت بتاريخ الأرض، ومخلوقاتها:
[ يا رياح السنين ْ
لا مسيني
لا مسي حطب الجسد المستكين ْ
لا مسي قلبه ُ
فهو لم ينس شيئا ً
انه زهرة الاتقاد الحزين]
   إنها كتابة حررت مشاعره وسمحت لها ان تستعيد حقبا ً شبيهة بمراثي سومر ومراثي أكد: تأمل كل ما هو في طريقه إلى الزوال.
  إلا أنها ليست انطولوجيا خالصة، مثلما لم تتخل عن أساه العميق، بعد ان وجد مصيره طرفا ًفي الاشتباك، فالمحنة تنبثق، وتمتد، لتغادر منفاها، إنما تحت غبار عواصف نسج من ومضاتها نصوصا ًاشتبكت فيها الأزمنة، وتداخلت، كي تأخذ الدورة مداها ابعد من الانطفاء، وابعد من الاتقاد؛ لأن لغز الموت، سيخلو من المعنى، من غير قهره، إلا كي ينبثق كوجود لن يكتمل إلا عبر موجودات وجدت إنها أسيرة التاريخ، مثلما وجدت ان التاريخ أسيرها.
[2]
     ليست الحركة، كتتابع، تصح ان تشكل مدخلا ً لتعريف الزمن، فثمة (المحو)، يمتلك آلياته في استحداث الحلقات المضافة: الدحض وكل ما ينتمي إلى (التحديث)/ الفعل، والى الحداثة ـ كمفهوم.
   ولم يكن انشغال صادق الصائغ، في حقبة تبلور مشروعات (التحديث) ـ في العمارة أو الآداب أو الفنون أو الأفكار وفي مختلف العلوم ..الخ ـ حصيلة قلب المعادلة: الجهل بالمعرفة ـ لقرون مظلمة ترجع إلى ما قبل انهيار الدولة العباسية ـ بل بـ: المعرفة بما غدا أقسى من الجهل، ذلك لأن العالم بأسره غدا يتجمع كقرى رغم الانقسامات، والتصادمات، التي شكلت مقاربة أكدت فيها سيادة العلوم ـ والمنهاهج العلمية، وليس التصوّرات حسب.
    الصائغ، كواحد من جيل كونته المتناقضات الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، عالميا ً ووطنيا ً، تنبه أو انشغل بمنطق ان المعرفة لا تتقاطع مع مبادئ نشوء جذور الوعي بالتحديث،  لأنها ـ وإن كانت وافدة ـ امتلكت استجابة لمخيالها المتحقق في العلامات السحيقة للعلوم/ الأفكار، والفنون.
    لم يكن إحساسه بالأزمنة، وزرا ً، أو معوقا ً، بل منهجا ً للانعتاق. فالحرية ليست كلمة خاصة بلغة من اللغات أو بمعتقد من المعتقدات، لأنها، في الأصل، شكلت أقدم رأس مال مزدوج للأبجديات والثروات.
      بهذا المعنى نبهت رهافته للتوقف عند الأسئلة، بحثا ً عن إجابات تستند إلى العلل، والى منطق عصر تصنعه تصادماته، وتداخلاته، مكملا ً تسلسله في التاريخ.
   ثمة، إذا ً، الوعي بـ (المنهج) بعد ان منحته الفجوات ـ وهي في الحضارة ودلالاتها ـ مدرجا ً لاستكمال كل ما كان يحلم ان يشكل حياة مغايرة للعيش تحت الصفر ـ أو الحياة البرية التي لا ينتج فيها البشر إلا ديمومة احتضارهم ـ ، هذا منحه اختيارا ً شكل بذرة مفهوم: التمرد. على انه وجد وسطا ً سمح ـ لأساتذته وله ـ بالعثور على أدوات تنتج علاماتها. ولا تحصى الأسماء في الطب/القانون/ الموسيقا/ المعمار/ التشكيل، الآداب..الخ ـ التي وجدها مجاورة له، ومناخا ً تتكون فيه علاماته في التحديث بالدرجة الأولى.
  ولم يكن اختياره لدراسة اللغة الانكليزية، إلى جانب تطوير مهاراته في فنون الخط، الرسم، والكتابة، والتصميم، إلا منسجما ً مع مكونات جيل تلقى معارفه في عواصم الحداثة، فراح يركب، ويلصق، تارة، ويصهر، ويوازن بين برامج الحداثة ومخفيات الذاكرة العراقية ـ الشرقية، تارة أخرى.
    ثم يسافر، في العام 1961 لإكمال دراسته العليا إلى جيكوسلوفاكيا، كي يعود إلى بغداد، في العام 1967، مكتظا ً بتجارب معرفية، وبمشاهدات مباشرة، وبخبرة شخصية رسخت رؤيته: تدشين ما لم يدشن، كي يأخذ مجاله في التطبيق.
   على ان إعادة قراءة هذه السنوات، وما أنتجته من تيارات وأسماء، شكل تعريف (الريادة) بديناميتها، وليس بزمنها حسب. فكانت رهافة الصائغ تكتوي بالصراع في مظاهره غير الخداعة، مثلما كان منشغلا ً بنسق ان (الأسلوب) هو، لا يأتي إلا بالعبور من (المتحف/ الأثر)، نحو مساحات تتطلب الصياغة. فالهوية لم تكتشف، كمفهوم، بسبب التصادمات، وعنفها، وإنما لأنها، عند الرواد، ومن أعقبهم، لم تحقق تميز (العلامة) بمعزل عن لغز الإنسان في انشغالاته النائية. فالضرورة ليست وحدها تحقق دال الحياة الفلسفي، وليست هي الانشغال الأخير للبقاء ـ بأي معنى من معانيه البيولوجية أو الرمزية ـ والمستند إلى الثالوث الكلاسي: "القوة/ الثروات/المعرفة) فحسب، بل ثمة (الانعتاق) الذي أصبحت الحرية علامة له، لتسهم بصياغة تدشينات ستمنح الفنان مغامرته كاملة.
    على ان إعادة قراءة الماضي ـ المدوّن/ والصوتي ـ أصبح برنامجا ً يوميا ً لدى ّصائغ الصائغ، لا لتأمله، أو تحليله، أو تفكيكه، أو التعبير عن مخفياته، دحضا ً أو قبولا ً، أو استشرافا ً، بل غدا كابوسا ً، وانعتاقا ً معا ً.
    فالشاب الخمسيني، بعد عقد، انشغل بفك أقدم فلسفات الشرق ـ وفي مقدمتها السومرية ـ التي لم تهمل لغز الاغتراب، إن كان يكمن في مواجهة المحدود للمطلق، أو ما يترتب على النظام الهرمي، ومفهوم الحكم، وإشكالية العدالة والقهر، ومفاهيم الصراع، الموت والدورات، والندب والولادة ..الخ ـ ولكن بأدوات ومخيال تيارات وجدها الصائغ تكّون هذا الذي لا يأتي، بعد الموت، بل الذي يؤسس للحياة، بصفتها ممتدة.
  فنصوصه ـ وهي خلاصات أجناس فنية بصرية وسمعية ـ تعّرف (الهوية) لا بصفتها (علامة) في سوق خاضع لبرامجه في(الإنتاج/ الاستهلاك/ الاندثار)، بل الهوية بصفتها مظهرا ً غير خدّاع للماهية، بمعنى: للإنسان.
   لأنها، عملياً ستشكل عنصرا ً في رؤيته ـ ومنهجه، إزاء ما آلت إليه إشارة (هيغل) بموت الفن، في فلسفة الحق، لتشمل موت: الفلسفة، وموت الإنسان، وتحوله إلى: رقم، آلة، وشيء يدخل في العدد ـ الإحصاء، مكونا ً عالم: الربح ـ والخسارات.
  فالهوية تتحدد بصيرورتها استنادا ً لتوازنات تذهب ابعد من حدودها الشكلانية، ولكن، ليس بمعزل عنها.
[3]
   مع ان الجيل الذي تلقى صادق الصائغ معارفه منه، وتدرب، كان قد درس في أوربا، إلا ان السنوات التي كان عليه ان يحدد اختياراته فيها ـ في زمن بلغت الحداثة ذروتها في عواصمها الكبرى ـ كانت تشهد تيارات مغايرة أسهمت بسلسلة من التصادمات، والتحولات الاجتماعية، والثقافية، امتدت من الصين إلى فرنسا، ومن أمريكا اللاتينية إلى بلدان آسيا، وأفريقيا.
    فالاستقرار العام الذي امتد لسنوات طويلة، راح يتصدع إبان الموجة الثالثة، ودخول الحاسوب فيها أداة لهدم الحواجز، وتأسيس إنسانية متعددة الاتجاهات، وهي فترة الستينيات التي عاشها الصائغ بين بغداد وبراغ (1961 ـ 1967)، وقد شهدت نهايات كلاسيكيات الرأسمالية ـ والاشتراكية معا ً، ضمن تدشينات تجريبية، وغير مستقرة، وواضحة المعالم، لتحول العالم إلى مجموعات من الأسواق ـ القرى، تحكمها قوى مازالت مجهولة على صعيد الرأي العام، أو على صعيد غالبية العاملين في الحقول الثقافية ـ الفنية.
      فالعقد الستيني، في بلد كالعراق، مثقل بما أنتجه اللا تاريخ، علميا ً ومعرفيا ً واجتماعيا ً واقتصاديا ً وثقافيا ً ..الخ ـ لم يكن بمنأى من الاحتكاك، وموجات التصادم. ولقد شهد الصائغ هذه التصادمات، والمتغيرات، في أوربا، قبل ان يجد مصيره في بغداد، إزاء أسئلة تتطلب وعيا ً ـ وتتطلب جهدا ً مضافا ً يخص كل ما سيكّون: الهوية ـ كأسلوب تقني وفكري وجمالي..
    وإعادة قراءة خارطة الستينيات في العراق ـ وتحديدا ً في بغداد ـ ليس لاكتشاف اثر ما كان يحدث في العالم من تحولات، بل الاستجابة لها، سياسيا ً واجتماعيا ً، وعلى صعيد التيارات الأدبية والفنية.
   وللأسف ـ لا بدافع الأسى ـ أرى ان غالبية الأسماء التي ظهرت خلال هذا العقد، على خلاف العلامات التي ظهرت خلال خمسينيات العقد الماضي واربعينياته ـ وجدت أنها تتمثل مظاهره، في الغالب، كي تأتي السبعينيات ببرامج أسهمت بحصر (الثقافة) في حدود (النخب)، والمجموعات المتناثرة، والمختلفة، بعيدا ً عن قدرتها ـ بشروط التاريخ ـ في الامتداد والتأثير.
      فلم ينتم صادق الصائغ إلى جماعة بذاتها، لا في التشكيل، ولا في الشعر، عدا التزامه بما اختاره من قبل.
   فالتيارات الوجودية، والماركسية، والقومية، وجدت كأنها عملت على هدم بعضها للبعض الآخر، وليس لمثل مفهوم ان (الصيرورة) ستؤدي إلى سلاسل من الاضطرابات تعيد للأحادية دورها، وهيمنتها، رغم ظهور تيارات أوربية مضادة، حاولت المزاوجة بين الرأسمالية ـ والاشتراكية.
  مكث الصائغ يمارس تعددية اختياراته للعثور على المشترك بينها: بين البصريات، والسمعيات، وبين المحركات وأشكالها، وبين الأفكار وتطبيقاتها، وبين التاريخي والمعاصر..الخ، مسبوقة بالسؤال الدائم: ما المعنى ...، أي: ما المعنى إزاء تعددية التطبيقات، والإجابات، محاولة لمنح الهوية معادلها الذاتي ـ الموضوعي، في عالم تشتغل فيه ماكنة هدم حدود القارات، وموروثاتها، وفق حرية الاتصال، والنقد (المال)، ودور تقدم الأسلحة عابرة القارات، والصواريخ بعيدة المدى، وأثرها المدمر ـ وغير الشفاف أو التحرري ـ في الشعوب..الخ
    إنها ليست انشغالات فائضة، أو زائفة، لأن معظم الإجابات ـ بعد نصف قرن ـ برهنت أنها لم تجر إلا على السطح، شبيهة بالأسواق لا بضائع فيها إلا من جنسيات مختلفة، ومختلطة، وقد طردت، في الأصل، كل ما ينتمي إلى الإرث الوطني. وعندما اكتسح عام (2003) معظم العلامات الثقافية ـ الفنية، لقرن من الزمن، بات الحاضر لا يمتلك إلا فراغات شغلتها عشوائيات البدائل.
   فما ورثه الصائغ من الخمسينيات، لم يُنسف، لأن ذاكرته عملت عمل المخيال، مثلما الأخير، لم يتشتت، بعيدا ً عن عمل اعقد الآليات خفاء ً، التي كونتها الأيديولوجيات، بنتائجها السلبية، أو بجهود عملت على منح المنجز (المعرفي) وطنه غير المفقود، أو المستلب.  
    فالهوية ـ هويته الايكولوجية الشاملة ـ وليس المعرفية حسب، ستجد سكنها في النصوص البصرية، مثلما في قصائده. لكن (الهوية) ليست علامة في سوق، اتسع حتى غدا ساحة اقتتال، ومحو، بل إجابة لن تأتي بعد الموت، بل في الحياة وهي تقاوم عوامل قهرها ـ زوالها.
   كانت هموم الصائغ ـ كما أراها ـ أكثر اتساعا ً من الإحاطة بها، لا لخلل يخص الذات، أو يخص مساحة الاشتباك وتداخلها، بل كـ (صيرورة) تدميرية/ مولدة، كانت تعمل بقوانين تدشن أنساقها للمرة الأولى فوق الأرض، وفي القلب البشري.
   وقد وجد بعض زملاء الصائغ ـ ومن عملوا معه ـ اختياراتهم الأحادية، في التفسير، وفي التأويل، حد قلب الماهية إلى إعلانات للتغيير، أو للتحولات، وشعارات واكبت النزعة (الإعلانية)، لحروب البضائع، أو عصبيات، هي الأخرى، ولدتها ردود الأفعال، إلا ان صادق الصائغ، المتعدد المهارات، وفي محاولة للتمسك بعالمه الداخلي، لم يدع أحلامه ـ حتى لو كانت تصوّرات طوباوية رغم استنادها إلى المناهج الواقعية الحديثة ـ تُستلب منه.  فعمله ـ المكّون للأسلوب أو الهوية بالمعنى الأدق ـ سكن المأوى وهو يتعرض إلى هزات ستبلغ نتائجها في التفكيك ـ والهدم.
  وخلاصة لتاريخ تضمن هذه الفصول، يثبت، عبر النصوص، انه عاش محنة انه كلما توغل فيها، تشبث بهذا الملغز المشترك بين الجمر ـ والرماد؛ بين إنسان ينتمي إلى الحلم، وآخر وجد انه يعمل على مقاومة ان يحصد الفراغات.
[4]
    اذا كانت بعض أقدم العلامات وليدة توليفات ـ وتركيب ـ وتداخل، وضمنا ً حصيلة ايكولوجيا شاملة، فان مبدأ (التحديث) فيها، لم يهدم أو يقوض أنظمتها البنائية، فالانتقال من الضرورة أو الحتميات إلى الحرية، لم يترك الأخيرة تعمل خارج أنساقها البنائية، ووحدة النافع بالجميل، والمهذب بتطبيقاته العملية.
    ولأن ذاكرة الصائغ تصدعت بحداثات لا تحصى، في العلوم والفلسفات والفنون، فإنها ـ الذاكرة ـ ستواجه إشكاليات (الابتكار) بحذر من يعمل على إعطاء معنى مضاف للهوية ـ وللأسلوب، وهو ينتقل من عصور: البرية ـ وما قبل اكتشاف النار، ومن الحضارة الصوتية، إلى عالم تطحنه قواه المتصارعة بآليات تخلو من الرحمة.
   فعندما عاد إلى بغداد(1967)، لم يتخل عن ممارسة خبراته في المجالات التي تدرب عليها: الخط/ الشعر/ التصميم/ والكتابة، ولكن للحفاظ على بناء وحدة النص، وليس للحفاظ على أي جزء من هذه الأجزاء ـ وبمعزل عن الآخر.
   فذاكرته عملت عمل من راح يعيد للخيال مداه في فهم علامات الماضي، إلى جانب التيارات ذات المنحى الراديكالي ـ والاشتراكي، معا ً. فلم ينتم إلى جماعة فنية، بل انشغل بالعثور على روابط للأجناس الفنية لا تسمح للنص إلا ان ينبني على امتلاك حضورها بوحدة هذه الأجزاء ـ والروافد.
   انه نسق سمح للتحديث ـ في تجاربه ـ ان يمتد إلى أقدم العلامات التي تأسست على وحدة العناصر، واندماجها، وتحولاتها، كي لا تذوب الهوية، أو تتحول إلى وثن.
    فالفنون في الحضارات القديمة استحدثت المنهج ذاته: وحدة الأصوات بالبصريات والملامس، والحواس الأخرى، من غير إهمال لدور البناء فيها. ومع نهايات القرن 19 كانت تيارات الحداثة قد استعادت مفهوم التركيب باستخدام المستحدثات: الطباعة، ومظاهر الحياة اليومية، والتلصيق، بما يسمح لها ان تشكل دمجا ً للفنون، لا يختلف إلا في الأشكال المستحدثة، وليس في النظام البنائي للخطاب الجمالي.

     لقد اندمجت حروف الطباعة في التكوينات التشكيلية، ودخلت الموسيقا، والشعر، في بناء نصوص مضادة لتقاليد الكلاسية الجديدة، ولموروثات الواقعية، والرومانتيكية، ليس انتهاء ً بالتجريد ـ بتنوع اتجاهاته ـ ومقاصده، حسب، بل نحو تيارات مضادة لهذه الأساليب، والاتجاهات أيضا ً.
  على ان تداخل الفنون قديم سابق على تجارب براك وبيكاسو باستخدامهما والتلصيق، بحكم ظهور الصحافة وأثرها البصري كفن له مميزات الحداثة، فمنذ كان (الحز) ـ الخط أو الحفر ـ يستمد شيئا ً ما من الأصوات، راحت عناصر الأعمال الشبيهة بالفن تستعيد وحدتها من الخبرة البصرية والسمعية والملمسية ..الخ، كأقدم مفهوم للتراكم (الكم) وتحولاته، والانتقال من النافع نحو محاولات لتقصي المعاني المستعصية مما منح السحر ألتشبيهي وظيفة تماثل وظائف الملصق الحديث، لا من اجل الفن، بل للتأثير الوظيفي المحدد.
   ولم ينفصل استخدام الحرف عن مفهوم التصميم باستخدام مختلف الخامات عبر الحضارات الأولى: في وادي الرافدين، والنيل، والشرق القديم عامة، ومنها الصينية والهندية.
    ولم تكن مديحة عمر، أو جميل حمودي، وبعدهما شاكر حسن، إلا مرحلة سبقهم فيها نيازي مولوي كأول فنان حديث في التشكيل العراقي*.  على ان مفهوم البعد الواحد، رمزيا ً، قصد به شاكر حسن، بالدرجة الأولى ـ انسجاما ً مع بيانه التأملي ـ  التحرر من قيود المفاهيم المادية، والعودة إلى : الفناء، والخطاب الصوفي.
     ما اثر هذا في تجارب صادق الصائغ، ولماذا يصبح عضوا ً فعالا ً في معرض البعد الواحد، مثلا ً..؟
    إن تجاربه المبكرة في الخط ـ والتصميم الصحفي ـ ترجع إلى خمسينيات القرن الماضي، في جريدة البلاد البغدادية، حيث قدم أولى تجاربه لتصاميم الصفحات الأولى، من ثم في مجلة (ألف باء)، محققا ً جدلية النافع ـ الجميل، إنما، ليس على صعيد منح النص توجهات الملصق الدعائي، بل جزءا ً من منح التصميم الصحفي تطلعاته في التحديث. فقد منح المعاني حروفها المبتكرة كجزء من أبجدية تمثلت فيها (هويته/ شخصيته)، بمعنى رؤيته الفكرية ـ التقنية،/ ضمن النص (البصري)، وفي حدود الحوار مع التطورات الحاصلة في وسائل الطباعة.  فعمله كمصمم منحه قدرات استخدام خزينه العاطفي ـ والجمالي، للخروج من التقاليد الحرفية في استخدام الأبجديات الكلاسية للخط، فالتحديث ـ هنا ـ ليس دحضا ً، أو تعديلا ً، بل استثمارا ً لوحدة العناصر: الرسم/ الخط/ التصميم/ الكلمات/ والمعاني الرمزية/ الجمالية، بتركيب يؤدي إلى تشكيلات حديثة ـ أو مستحدثة. فلم يكن يجد في البعد الواحد، سطحا ً، أو منهجا ً متعاليا ً للعروج إلى الفناء، كما قال شاكر حسن، بعد عودته من باريس، بل مفهوما ً تجريبيا ً يمارس فيه البحث باستخدام التقنيات الفنية في الإخراج والمونتاج، وليس توجها ً نحو تفكيك النص الفني، للتعبير عن حقبة نهايات الحرب الباردة، والدخول في عصر: حرية السوق، وليس الحريات التي تبنتها الاشتراكية ـ بمختلف أساليبها وأنساقها ـ وإذا كنا اليوم نرى عن بعد، فان الممارسات الفنية طالما كانت تجري داخلها أعتى العواصف، شبيهة بالقدرات التي يمارسها اللاوعي، عبر: الإشارات/ الرموز/ العلامات، حيث لم تكن ظاهرة استلهام الحرف في النص التشكيلي إلا استجابة لتيارات ما بعد الحداثة، إنما، على خلاف الأستاذ شاكر حسن، كان صادق الصائغ ـ في عمله البصري ـ إزاء انشغالات تخص ملايين المتلقين، عبر دور الصحافة اليومية، بصفتها روح التاريخ، كما قال هيغل. فالروح، هنا، لا تخص اللامرئي، أو اللا بعد ـ لأن البعد الواحد ذاته يتكون من سطوح، وأزمنة، وخامات لها وجودها الملموس، والذري ..الخ ـ بل هي جزء من الخطاب ذاته العملي ـ برمزيته ـ وواقعيته الحديثة، تحديدا ً. فالصائغ لم ينشغل بما هو منفصل عن الخبرة المكانية، للسنوات التي ستمهد لظهور (النموذج) الواحد، الذي أسهم بردات في الوعي، وليس مواكبة للمشكلات المستحدثة، في عصر حرية السوق، وتصدع الأنظمة الاشتراكية.
[5]
    اذا كانت ثمة ذاكرة ـ وتذكر ـ فإنها ليست ضعيفة، بل غائبة، كما ان ذاكرة النخب الثقافية، بعد تشتتها، عبر المنافي، أو داخل المنفى الوطني، لم تعد تمتلك ما تدلي به. وما يحدث هنا، وهناك، من انساق صوتية، كحوارات في المراجعة، والتقييم، فإنها، هي الأخرى، لا تجد موقعها في البناء النقدي، وتاريخه، وأثره المعرفي ـ الإبداعي في نهاية المطاف.
    يكتب الأستاذ نجيب المانع في مقدمة لديوان [نشيد الكركدن]، ممثلا ً العذاب البشري بالصورة التالية:
ـ " كم من الخيال تحتاج كي تسمع في اللحمة المشوية الموضوعة على المائدة  حشرجة الخروف عندما ذبح"! كي يلفت نظرنا إلى تجربة صادق الصائغ:
" يساعدنا هذا الشعر للوصول إلى تلك الجزيرة النائية من الخيال حيث تُدَجّن الغرابة"
[ تقدمت عكس الريح، عبرت بك المدن الموصدة
عبرت الحرائق جبت البحار، رحلت مع النازحين،
بكيت على حائط الحمزة
وكنت ورائي ورائي
لقد كنت يا وطني]
  يقول نجيب المانع:
    " لغة متمردة عن المواصفات، مقاتلة للأصوليات: لغة متعالية على الأخلاق ولكنها ليست لا أخلاقية ذلك أنها تستشهد على مذبح حب دام ٍ مسحوق مطرود، والحب المستميت يرفع رأسه بأخلاقية وليدة، تتركنا وراءها، نسمعها وهي تبتعد عنا في طريق فناء الذات فيما يكبرها والوطن يكبرها كما يكبرنا وذات الشاعر تحترق فيه مدعية بكبرياء مجنونة إنها تحرقه، ذات الشاعر الصخابة متفانية في ان تلحق، لا بنا نحن، لا بالمومياءات، نحن الذين نقول ما نعرف لكي نعرف ما نقول، نأخذ خطواتنا من بنك الخطوات وفي مشية تراجع رصيدنا فيه، لا، إن هذه الذات المتفانية فيما يكبرها تريد ان تركض وراء الوطن الراكض أمامها بخطوات فاجعة في عدم الاكتراث"
   فالإشكالية ـ هنا ـ ليست عدم الاكتراث، بمعزل عن عالم راح يترك أثره في صوت الشاعر، بل يضغنا إزاء رماد لا يخفي إلا جمرات مخبأة، في الأثر ـ النص. كان عقد السبعينيات، هو الآخر، مساحة للاشتباكات، منها التي رصدت، ومنها التي كانت تنتظر عقودا ً قادمة. فالموضوع لدى الشاعر، ليس الانتهاك، أو الخسائر، بل الرماد. وهو يذكرنا بقصيدة مالك بن الريب؛ ان حياته لن تمتد أكثر من ساعات يفعل السم فعلها، كي يلقى خاتمته، لكن المصير هذا، لم يغب عن التحولات التي جرفت، في طوفانها، العلامات والأرواح، ضمن دورات التاريخ ـ وتاريخ الدورات. إنما ثمة رهافة ـ وليست هي محض مهارة ـ سمحت للصائغ ان يراقب مصيره، في هذا الطوفان، الذي لم يعد خاصا ً بأرض، أو شعب. فهل ثمة وظيفة ما لـ (الرهافة/ التحسس) والعالم غدا ساحة حرب سلع، لا مساحة حوارات، ساحة تصادمات يمحو بعضها البعض الآخر، ابعد مما ذهب إليه مالتوس، أو لامارك، أو سبنسر، أو دارون، لأن العويل، إن تحول إلى (إعلان)، غدا فيه الإنسان عاشقا ً للموت، وليس لموته حسب، كي لا تولد إلا حياة مشفرة بعوامل مضافة للتصادم ـ والمحو.
   وما دام الصائغ، في الشعر وليس في النص التشكيلي، لم يصمت، فان إعادة القراءة، لن تماثل عمل المنقب في البحث عن المخلفات (الآثار)، بل تواصل عمل الجيولوجي وهو يعيد تفكيك حفنة من المتحجرات، أو من الرماد، هي بقايا حياة.
   فهل موت الفن، بعد موت الإنسان، مشفر ببرمجة ابعد من تحول اصلب الخامات إلى أثير ـ وليس إلى رماد ـ، كي تكون ثمة جدوى من (الديمومة)، إن كانت عمياء، أو خارج حدود البصر ـ او اشتغالات البصيرة..؟
[للصحراء
نصف مجنزرة خرساء
تتقدم في صخرة الموتى
للشهداء ْ
دبابات ورمال سوداء ْ]
أو ...
[ستأتي القصيدة
بلا معطف ٍ
من بلاد بعيدة
وإذ تستقر الأراجيح في الجانبين
ستشحن أشلاءنا
ترحل]
أو ...
[قيل لي ما الذي تشتهي في الجنون
فقلت حزينا
ـ اشتهي وطني
فهو مستوحد في البراري
يعيش كجدول
ويقتاتُ في مرتقاه الحشائش]
   فالنسق ـ هنا ـ لا يماثل وظيفة تؤدي دور (الإعلان) في السوق، إن كانت حرة او مقيدة، ولا تماثل الدعوات للهدم، ممجدة الغد، عبر تقديم النذور، وليس تفكيك البرنامج ذاته الذي سيتوارى تحت الركام ـ أو يستحيل جزءا ً من نظام  تصادم ذرات الأثير، بل الإقامة في ما يحدث، وهو يعمل كـ (مجرشة) الملا عبود الكرخي، لا تخلو من عصيان. الصائغ لا يمتلك إلا ظل مصيره رآه مقيدا ً بماض ٍ لا ماض ٍ له، وبمصير يجرجره خارج حافاته. وإن سيقال ان الميتافيزيقا ـ أي كل وجود خارج مدى الأدوات/ الكلمات وباقي العناصر ـ لها مرارتها، لكن الشاعر، كاختيار، وجد انه يشكل مساره (أسلوبه/لغزه/ هويته) داخل الوجود ـ الواقع، مأوى يتدثر بالكلمات، كي يمضي حالما ً، وليس محتفلا ً بأوسمة العبور ـ والنصر.
[لا بأس َ أن ...
إسـْ ...
... تيقظت ميتا ً،]
أو ...
[يوما ً ما
ستنام بأردية بيضاء
وستنهض أنت ْ
لتغطينا
لتخاطبنا نحن القتلى
لتخاطب مملكة الفقراء ْ
يوما ً ما ...
يوما ً...]
أو ...
[هذا أنا خال ٍ من الأحداق ْ
خال ٍ من الفصول والأوراق ْ
خال ٍ من الفهارس
خال ٍ من النوارس ْ]
أو ...
[ونأتي إلى الموت آنا ً
ويأتي إلينا
ويسبقنا ]
   من ذا، إذا ً، يعيد قراءة الأصوات، بعد ان استحالت إلى رماد، لا يدرك ان المعنى لم يحافظ إلا على لا معناه، الملغز، المكتوم داخل الكتمان، والنائي إزاء نظام اللا متوقع، وتكوم المصادفات، كي ينتظم العويل، ليجد سكنه في ألوان الحروف، وأبجديتها، في المقدس الزائل، وفي المندثر وقد صاغ ما هو أقسى من الموت كي يختار الصانع فن اختراع مهارته قيودا ً للانعتاق ـ والديمومة.؟
[6]
    وإن كان المدى ـ امتداد المسافة إلى أقصاها ـ بين (البذرة) وبين (الومضة)، يماثل المقارنة بين المدرك للاستحالة، وبين موقف الاستحالة في الإدراك، إلا ان هذه الوحدات ـ الأجزاء ـ ليست خارج الإطار الكلي لها.
    نصوص صادق الصائغ، في التشكيل، وفي الشعر، منحها نظام نشوء البذرة بنيتها، ورمزيتها، معا ً. مع أنها ستحافظ على لغز ـ ومشفرات ـ كيان الومضات في تحولاتها. فالبذرة تمتلك أسلافا ً، أي ماضيا ً، لتجد أنها مقيدة ـ بحرية ـ الامتداد، أو مداه. فالتحول يأتي مغايرا ً للتكرار، أو للارتداد. الصائغ الذي زامل، وراقب، ودرس، وعاش حقبة الريادة، في خمسينيات القرن الماضي، منحته هذا الولع بان هوية الكائن، تُصنع، ولا تمنح، فهي ليست هبة، إلا بصفتها منتجا ً متضمنا ً لغزه.
   فثمة صدمات مبكرة ستمنحه استجابة لها، صدمات لها المعنى ذاته الذي قصده المتنبي: تكسرت النصال على النصال..الخ، حتى اكتسبت مناعة مثلها المتنبي بـ: الدرع. إلا أنها مناعة مؤقتة، لأن الصدمات ـ النصال ـ المتتالية، ستشكل امتدادا ً لنظام البذرة ـ في الوجود، وهو ذاته، نظام (الومضة) في لا حافات الكون.
    لكن هذا غدا سؤالا ً جماليا ً، عندما لم تسحقه صدمات الحياة اليومية، اجتماعيا ً واقتصاديا ً وثقافيا ً، فقد وجد في (الفن) مأواه: بيتا ً ليس بمنأى عن العواصف، والزلازل، وليس بجوارها، كي يتمتع برؤية تحولات العالم، بل ـ وبدافع الرهافة، مع الوعي المبكر للتوزيع المجحف للظلم أو للعدالة ـ جزءا ً من النسيج وهو قيد: الاشتغال، والتحقق.
    ثمة واقعية أبدا ً لا يمكن استبعادها، علمت صادق الصائغ ان الإبداع، لن يعمل إلا كما تعمل (البذرة)، بنظامها في التحدي والاستجابة والامتداد، لا لإنتاج ذاتها، أو الحفاظ عليه طبق الأصل للنموذج السابق، الأبدي، بل للعمل بصيرورة توازنات تجعل عملها، شبيها ً بعمل (الحرية) ملغزا ً بالانعتاق ، وغير متماثل إلا بما مازال يمتلك آليات عمل المجهول.
   فالمغامرة الإبداعية ليست لعبة نرد، كي تصمم، أو ترسم، أو تكتب شعرا ً، أو تتحول إلى ممارسة فن الكتابة في مجال الحقول الحديثة، بل ستكتسب شرعيتها في دحض شرعية كونتها أنظمة الاحتضار، والموت.
    وسيكون من الصعب ـ وليس من المستحيل ـ قراءة نصوصه باستبعاد هذا الإدراك، المعلن أحيانا ً، والمخفي غالبا ً، قراءة تمنح الآخر ـ أنا/ ومن يأتي بعدي ـ هذا التسلسل غير العشوائي لمفهوم الصدمات ـ والبذور تشهد أنها تغادر قيودها ـ ومدافنها.
   وسيساعدنا ولعه الاستثنائي، بالتفاصيل، والنوادر، وغير المتوقع، في بناء (المعنى) مع/ وضد، استخداماته المألوفة، أو التي أصبحت جزءا ً من العادات: السمعية، أو البصرية. فاسم (الجلالة)، ليس محض معنى، يستند إلى القاموس، أو الإيحاء، أو الرمز، للحماية، بل يماثل عمل كل سر يواصل كتمان كل ما غدا ظاهرا ً، بل وبالغ الجلاء. فالإعلان، عمليا ً، ليس إشارة إلى ـ وليس علامة تامة المعنى ـ وليس رمزا ً اختزلت فيه المدلولات،  بل شيئا ً آخر: شيئا ً ـ وهو من المرئيات بحكم حضوره ـ مضادا ً لمكونات الأشياء، وعناصرها، فالاسم ليس غاية في ذاته، أو من اجله، إلا لأنه راح يتكون بدوافع الانعتاق. هذا الانشغال بين يد ـ وبصر ـ وكيان الصانع برمته ـ ومنجزه، علاقة ولادة بما فيها من نفي ـ وموت؛ ولادة لها فعل النسّاج، وشروطه، أي (العمل) كتحرر لا من العمل، بل كهوية تتحقق داخلها المغامرة كوجود لها.
    لقد نسج كبار الخطاطين الكلاسيين، اسم الجلالة، لا بعامل المهارات الأعظم، وباليات القواعد، والسنن، وإنما لأن التصدعات لم تبلغ ذروتها، كي تتطلب تحولات في التقانة، والمعالجة، والأشكال، والخامات، لكن الصائغ، في هذه المعالجة، لم يستند إلى عادة تكاد تدحض، ألا وهي ان الزائل راح وحده يضع مواصفات اللامحدود، بل منح المعالجة البصرية معادلها الداخلي، لسياق مبني على الرهافة ـ والخبرة، خارج الثوابت. فليس القصد، عنده ـ كما أرى ـ جماليا ً في الأقل ـ دحض الثابت، بل صياغته كتحول ولدّته التصدعات ـ والمتغيرات، وهو عمل (البذرة) اللاواعي بعد ان استحالت إلى ذات عارفة، وجمالية.
   فعندما كان الأستاذ العظيم هاشم محمد البغدادي يعتقد بأنني سأكون (خطاطا ً) مميزا ً استنادا ً إلى رشاقة أصابعي التي رآها شبيهة بطراوة أغصان الرمان، أو الليمون، كنت أحدثه عن اثر زحف الموجة الثالثة، ما بعد الصناعية في العالم، على معظم شعوب الأرض، فمنحني درجة العبور في الصف، لكنه عندما تأمل معرضي لفن الكرافيك ـ وقد افتتحه الفنان فائق حسن ـ في نهاية العام، كاد يلتهمني بنظراته الحادة، وقال لي: لماذا لم تخبرني بموهبتك في الرسم! كي يمنحني، في السنة التالية، درجة الجيد جدا ً، رغم عدم اتقاني لفن الخط النبيل.
   صادق الصائغ، في هذا المنحى، لا يستعرض ولا يتلاعب بقواعد الخط، لا كمساومة مع المطلق، ولا كمحاباة مع الزائلين، وإنما ثمة انشغالات شبيهة بمن وجد انه لا يمتلك إلا منفاه، السابق على وجوده، والملحق به، فما كان لديه سوى ان يكون جسرا ً للإقامة، وليس للاستهلاك. ثمة صدمة لا شعورية كامنة في لحظة اكتشاف ان الهوية ـ والأسلوب جزء منها، (وهما لا ينفصلان عن الطريق/ الدرب) لا تفنى، بأي ثمن، مثلما أنها ليست هبة، وإنما ـ كما في رؤيا صادق الصائغ ـ صيرورة شبيهة بما يحدث في الشمس: أي في (الرأس)، كلاهما يخبئآن أسرار توهجهما.
      على ان الانتقال إلى العالم ألحروفي، لا يماثل تجارب نمط توخى الروحي ـ الرمزي، أسوة بالمخترعات الوافدة، بل شبيهة بالثروات التي لا جهد يوازي إنتاجها في مجال دراسة المعايير الاجتماعية، والأخلاقية، بل راح يعيد قراءة الموروث بصفته ومضات لم تفقد إشعاعها، وإنما، معالجتها كعنصر في البنية التركيبية، لا كتلصيق، كولاج، أو كإيحاء رمزي، بل كمعالجة تستند إلى الخبرة المستحدثة، في عالم قيد التشكل. فالاستخدام المنوع للحروف، داخل التكوين، لم ينتج (إعلانا ً) أو ملصقا ً، أو ما يدل على انتسابه إلى الآلة، والمستحدث في عالم الصحافة، بل كبذرة تواءمت فيها انساق الموروثات، والايكولوجيا الشاملة، إلى جانب مخيال الفنان. لكنها ليست بذرة أنتجتها أزمنة البرية، وعواملها، بل هي جزء من مدنية قيد التدشين، تارة في إعادة قراءة أزمنتها، وتارة كإضافة توازي تحولاتها. فتنوع الحروف دال على الخيرة العملية، التي تطلبت تدريبات، لم تقيد الصائغ إلا بما بتوازنات سمحت لمخياله ان لا يحلق بأكثر  مما ان ذاكرته قد تتعرض للمحو. انه ليس السياق العام لجدلية( الموروث ـ المعاصرة) التي كثيرا ً ما أغلقت الدرب، لكنها الجدلية التي لم تسمح للفنان التحدث عن المناطق (المقدسة/ الأبدية) إلا بصفتها مخبأة في جدلية الامتداد، وفي ما لم يدشن بعد.
   بالإمكان ـ هنا ـ تذكر أربعة أو خمسة نصوص لفائق حسن، لم يستخدم الحرف فيها ضمن تجريداته ـ التعبيرية، بالوعي، بل ترك أصابعه تلامس مشفرات عمل البذرة ـ الومضة، لمنح الجسور لغزها في الإقامة، حتى لو كانت بين عالمين مجهولين. فثمة ما يشبه المسمار ـ الحرف السومري ـ تراه عنصرا ً يكمل رهافته اللونية، كي تكون الحصيلة: تراكمات انتظمت في وحدة ـ نص ـ من غير محو ما يمتلكه الأثر من وقار أو أسى.
    الصائغ، هو الآخر، المحمل بموروثات لا شعورية لأرض كاد العقم ينتزع أوهام خصبها ـ سمح للمسمار، الخط ـ وهي مناطق التماس، وليس المناطق المختلطة، أو المتداخلة ـ أن يمنحها طاقة بنائية، أكثر مما لو كانت مشروعا ً بنائيا ً. فالرهافة مشفرة بدوافع لأصابعه ان تلامس كل ما كتمت خاماته من أحلام الماضي، ثم كي لا يكون المستحدث، (نغلا ً)، أي مهجنّا ً، لإنتاج حلقة غير قابلة للامتداد. فالجدلية ستنتج ـ بمفهوم التحديث ـ علاماتها، وـ هي ـ بما تمتلك من خصائص التحول، وليس الاستنساخ، أو التمويه.
    ثمة اختزال لا في النصوص الشعرية، أو التشكيلية، سمح له بالحذف، وفي تقصي ما سيمثل الأبجدية بموازاة عصر تزدحم فيه (العلامات) حد أنها تماثل ممالك من:النمل/ الأسماك/ الطيور/ الجماهير ..الخ، استدعت، لا للتمييز، أو كعلامة للترويج، لخصائص الكائن، فحسب، بل بصفته اقل انصياعا ً للوعي الجمعي، وأكثر توقا ً لصناعة كل ما يراه  وقد تحول إلى ظلال ـ وغبار. 
   فالصيرورة منحت حواسه عقلانية البنّاء القديم ـ في المعابد والأهرامات والزقورات ..الخ ـ كمفازات برهنت ان مقاومتها للاندثار تضمنت لغز ما نبقى منها في الديمومة.
     فالحروف، والمسافات، وباقي عناصر النص التشكيلي، عملت بالأسلوب الممتد من جداريات سومر، إلى حروفيات بول كلي، لم يغب الإنسان ـ الممحو ـ إلا عبر  حضوره المحور بعمليات الاختزال، والحذف، بعيدا ً عن تحديد المعاني ـ والمقاصد. فالجسد الغائب، بين الحروف، شبيه بكلمات يصعب تحديد معانيها إلا بمن يستنطقها. فالمسافات اللونية المتجاورة، المترابطة بحدود ذهنية بنائية ـ معمارية ـ وفكرية، لا تخفي انها ستعمل طليقة، لمنح اللاوعي/ واللاشعور، دورهما في الذهاب وراء القصد، إن كان فكريا ً أو جماليا ً. فالأثر يحافظ على إخفاء ذات المخفيات التي نعيد قراءتها في مخلفات المقابر/ والمعابد/ والقصور: إنها لا تحكي إلا كل ما سيمتد مخفيا ً، وكأن (المعري) لم يغب عن عالم الشاعر، وهو يتأمل مدافن نصوصه، وقد أورقت، علاماتها بما أخفته من أصوات، وعطور، وما لا يحصى من الحروف الصامتة.
    على ان تنوع ممارسات الصائغ ـ من الشعر إلى الخط، ومن الرسم إلى التصميم، فضلا ً عن الكتابات الفنية، والأدبية ـ بحد ذاتها، تفصح انها ليست متقاطعة، مع انها أحيانا ً لا تبدو كذلك كما في الشعر (الحديث)، فلكل منهما حقله المستقل، فالأول مداه المخيال، والثاني قائم على الضوابط والأصول. لكن هذا المنحى ليس بلا مقدمات، كونتها المرحلة، وتأثرت بتياراتها الحديثة.
    وقبل ان يكون الشعر رسما ً، كانت بعض تيارات (الحداثة) تزدحم بما هو ابعد من التجريب الممنهج، والمنسق، فالمدارس التي ظهرت خلال النصف الأول من القرن العشرين ـ في أوربا ـ تحكي دور (الذات/ الأنا) بمقاومتها للاندماج. فإذا كانت الواقعية، والطبيعية، والمدارس التقليدية لم تصمد إزاء مد الانطباعية، والتعبيرية، والمستقبلية، والرمزية، والوحشية، والتكعيبية، والبنائية، فان جهدا ً جبارا ً بذل كي لا تتآكل الأنا إزاء عصر بزوغ الاكتساح الجماهيري، إن كان اشتراكيا ً، أو فاشيا ً، أو نازيا ً، أو معولما ً، أو مختلطا ً، عبر أساليب قائمة على أبعاد معرفية وتكنيكية، وجمالية.
     ولأن صادق الصائغ، في الأصل، لم تنقصه (الرهافة)، فما كان عليه إلا ان يتشبع بالدهشة، كي يحفر في لغزها، ويستثمرها في اختياراته للجنس الفني.
    وبمعنى ما فان التعددية لا تتقاطع مع الذات، إلا في المظهر، لأنها، في الأساس وليدة عصر كونته المستحدثات التقنية، وما بعدها، إنما ثمة الانشغال التأملي، ليس الانطولوجي (الوجودي) كتيار برز في مواجهة الماركسية، بل التأمل بصفته يخص   الكينونة ـ وعناصرها.
    فالشعر رسما ً غدا رحلة من العالم الداخلي باتجاه بنماء البنى البصرية. أي الانتقال من التوهج الداخلي إلى خطابه. فالشعر لم يعد هذا السخام الرمادي المسّود والمتأكسد المنحدر من قرون الاحتضار والظلمات، يستنسخ مرتدا ً بالحاضر إلى مدافنه، في ظواهره الصوتية ـ البرية، بل غدا اشتباكا ً مقاوما ً للتماثل، وعصر النمل ـ بحسب مخاوف دستويفسكي ـ فكانت حداثة الشعر الأوربي، مع بودلير، وفرلين، وجوته، وبو، وصولا ً إلى ازرباوند واليوت. انها مظاهر لرهافات أنتجت مشاهد مرسومة بتنوع الخبرات والدوافع الملغزة، إزاء زحف التقدم التقني، عبر دمار الحربين العالميتين، وقمع الأصوات المناهضة لحقبة انقسام العالم إلى معسكرات كبرى ...، لتمتد تأثيراتها، مع توسع الأسواق، والنفوذ، والرأسمال، نحو البلدان الأشد عزلة، وغير القادرة لا على إنتاج تاريخها، وإنما على إنتاج برامج لمصيرها. صادق الصائغ، سيتلقى صدمات السحري في تيارات عصره، لكن بحذر، لأجل ان لا يأتي الأسلوب بعد الموت، بل ليشكل هوية (الكائن)، بما يمتلك من جينات أصبحت قيد الاستيقاظ، وداخل مجتمع قيد الإفاقة.
    فالشعري لم يصبح نصوصا ً للمراثي أو للأعياد، للمدح أو للشتم، للتحريض أو للتنكيل، بل شعرا ً يمنح الذات مكانتها في مخيال البدائل، فكانت اللغة تستدرج رحلتها في الأسفار الداخلية، عبر الصور. فهي رحلة من الداخل العاج بالغليان نحو الفضاءات التي سيجد الشاعر فيها انه مقيد بحدوده: صوره؛ بمعنى: بهجته، وغناه اللامحدود.
   على ان الرسم شعرا ً، ليس قائما ً على رحلة الانتقال من المزدحم بالعثرات، والمحرمات، والخرائب، نحو جمالية الحالة الشعرية، الداخلية، بمعزل عن التوازن/ المعادل، بينهما حسب، بل توكيدا ً لأقدم خواص ملغزة سمحت لعوامل الديمومة وهي كلما حدقت في علل زوالها، تشفر ديمومتها بخطاب تجد الذات فيه مأواها، لكن ليس للكمون، بل للانعتاق.
   ثمة، في هذا المنحى، إعادة بناء علاقة مضمرة بين الصورة ـ ومحركاتها، لتتمثل المعاني بعناصر كتابية/ حروفية، كما في نصوص عصر المغارات البصرية، إنما في عصر لم يعد للفنون إلا ان تواجه موتها: موتها وهي تتحول إلى جزء من عالم قائم على تراكمات/ تحولات، للنوع البشري، أولا ً، وانحسار دور (الفن) وهو يتحول إلى سلعة، لمواجهة (الأنا) بتهديدات الوعي الجمعي، ثانيا ً.  فالتهديدات لم تجتز صرامة البرمجة البكر لصالح الديمومة، حيث الشعر كونه صوره، والصوّر، اختزلت معانيها، لمنح الدوافع مداها الأبعد.
   إن صادق الصائغ، يدفع بالتجربة إلى وحدتها، ولا يقطّعها. فرهافته راحت تجمع ثراء مواجهته لتحولات العالم ـ وصدماته. فعندما بدأ بالتكوين التشكيلي ـ وحتى على صعيد الرسم وتقاليده ـ سيغدو شبيها ً بالبيت ـ المأوى ـ فراح يشكل تركيبا ً لعناصر الديمومة، في تركيبها البنائي، تجاورا ً مع تيارات الحداثة، وما بعدها. وهنا يدخل الحرف عنصرا ً أساسيا ً، وليس تجميليا ً، أو ليؤدي دور الإعلان. انه شبيه بالرقم الطينية ذات الأبعاد المتعددة، في سومر وأكد، لا تحمل مغزى (التوقيع) أو هوية (الشخص) بمعزل عن خصائصه، وغاياته، ومكانته. فالرقم  انجاز تجمعت فيها فنون ذات انساق متعددة: الأصوات/ الحروف/ الأبعاد الثلاثية للمجسم، إلى جوار تضمن النص ايكولوجيا عصره..الخ، فهو يتقاطع مع مفهوم الملصق، أو وظائف العلامات السلعية، لأنه لا يشير إلى ـ بل يتمثل الذات في صيرورتها، كداخل أو كعلاقات إنسانية متعددة الأبعاد. وبالمعنى هذا تفترق تجربة معالجة الحرف عند الصائغ عن تيار استلهام الحرف في التشكيل العراقي، الذي صاغه الأستاذ شاكر حسن، تحت عنوان: البعد الواحد.
    لا لأن الصائغ، ديالكتيكيا ً، بني تجربته، بما فيها من قصدية، وإدراكا ً لدور الفن اجتماعيا ُ/ ثقافيا ً، بل لمنح الفن حضوره بما يمتلكه من مخفيات ـ وملغزات.
   فالتشكيل، والتصميم، والوعي بتعددية أساليب الحداثة، وتياراتها، سمحت له ان يمتلك (الحرف) مغزاه المعرفي ـ الجمالي، كمخيال ود  لو اخذ مسافته في المجتمع المعرفي ـ والشعبي. ولكن الصائغ غير مكترث للصعوبات التي واجهته، والتي واجهت كل تجربة مماثلة، لتتجاوز سنوات تجربته بدءا ً من خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا في العام 2012. فلم تكن مهمته، أو رغبته، للتباهي بما أنجز، بل للعمل بمنح أحلامه مداها الذي لا يتعرض للأذى. ثم انه لم يكن يجهل أي إجحاف أصاب الفئة النادرة التي جذبتها الانشغالات (الجمالية)، فليس المهم حصد (النياشين)، حتى لو كانت اعتبارية، أو رمزية، بل الاكتفاء بكفاف يعيد لديه المبدأ الأول: الدهشة، وحمايتها من التلف. وسنرى الصائغ، يصوّر ذلك بخلاصات شذبت حد تحولها إلى ضرب من الموسيقا: طائر في الأفق، أو ورود تحدق في المجهول، أو قطة (بزونة) عانقها صاحبها كي لا تذهب ابعد من مداها، أو مداه، وتغيب!
بغداد
12/ 12/2012

مصادر
* عضو رابطة نقاد الفن [ الايكا]
1 ـ صادق الصائغ [نشيد الكركدن] بغداد ـ 1978 مقدمة كتبها الأستاذ نجيب المانع.
2 ـ  جمال العتابي [كلمات متقاربة المدى]  منشورات دار الثقافة والنشر الكردية/ وزارة الثقافة ـ بغداد ـ 2012 ـ
3 ـ  حاوره: محمد مظلوم/ ملحق جريدة الثورة ـ دمشق ـ   25/8/1996
4 ـ شاكر حسن آل سعيد [ الفن يستلهم الحرف] وزارة الإعلام ـ السلسلة الفنية ـ بغداد 1971
5 ـ الفن يستلهم الحرف ـ المطبوع الثاني ـ المتحف الوطني للفن الحديث ـ بغداد 1973
* شاكر حسن [ فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الاول/ وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد ـ 1983 ص45