أختام عراقية معاصرة
عادل كامل/ الختم الاخير
[1] المسافة ـ لا مناص ـ تذهب ابعد من نهاياتها
وأنا لا أكاد أجد تعبيرا ً مباشرا ً اختتم فيه انشغالي في هذه التجربة، قلت لنفسي: هذا يكفي! لأن الأفكار التي تشغلني، اما أنها لا علاقة لها بالفن، واما ان الفن ليس بحاجة إليها. ليس لأن حدود العالم القديم، لم تعد مناسبة لعصر لم يعد للفنان فيه قدرة امتلاك براءته، وسلامه الروحي، بل لأن البراءة ذاتها، وسلامة الروح، كلاهما كالأرض، الجميع خارج مدى الرؤية/ والرؤيا، وربما خارج الحلم. وإلا ما معنى ان أتساءل: إذا كنت رأيت ما يكفي من البشر، ومن الممتلكات الرمزية، كلاهما يأخذان طريقهما إلى المناطق النائية، المجهولة، وأنا لا امتلك إلا ان أدرك ان أشعة الشمس، بما حملته لتكون بذور الخلق البكر، هي ذاتها، سترعى عمليات الدفن والاندثار، وتختتم احتفالها بجنازة كونتها تراكمات التاريخ! إنها لوعة، لا مغزى للأسف عليها، في نهاية المطاف.
مع ذلك أرى أنني اقترب من تلمس بعض الدوافع، فأجد أنني حررت أصابعي ـ قليلا ً ـ كي اختار أكثرها عبودية. لقد استعدت كلمة لاندريه جيد، عبر فيها عن نهاية العالم القديم ـ نهاية أوروبا في الأقل ـ ان على الإنسان، في الأقل، ان يمتلك حريته في اختيار عبوديته!* لأن تحول جنسنا البشري، إلى خلية نحل، أو إلى كاتدرائية نمل، لن يحقق ذلك الاختيار الذي لا يضطرنا إلى الآسف، أو للشعور فيه. لأن هوية الذات، العليا، لا وجود لها في أي نوع، عدا في هذا الذي مازال يغذي مصيره: الانقراض! فانا كلما ازددت تحررا ً وشغفا ً في تتبع مسارات الحرية، أدرك أنني اتجه نحو غيمة أو نحو عاصفة أو نحو حقبة جليدية! لأن الحرية، في
الأصل، ليست وعيا ً تجريديا ً منفصلا ً عن مكونات الوجود، بل هي هذا الوعي بأدق الأجزاء المكونة لقريتنا الصغرى: الأرض. على ان الوعي بالحرية لن يصطدم، بل ينغلق، طالما ان العالم يمشي بعناد نحو نهايته: التلوث/ زيادة السكان/ استهلاك الموارد بلا رحمة/ والعنف المتزايد، والمنظم ...الخ فأي معنى للحرية غير ان اختار هذا الذي لا استطيع دحضه، أو عدم رؤيته في الأقل. انه موتي أراه ـ مقارنة بدوافع الحلم ـ يبلغ ذروته. فما دلالة ان يكون الفن استغاثة، أو سلعة، أو حتى لغزا ً، عدا ... انه الحرية التي تسمح لي ان اختار اختيارا ً وحيدا ً لا علاقة له بها، وربما لا علاقة له بالفن أيضا ً!:
• يأتي المعنى في رواية اندريه جيد [مدرسة الزوجات]
[2] ليس بعيدا ً عن الحافات
لا يتضمن الشعور بالأسف، أرباحا ً تذكر، عندما يتتبع (الفنان/ الكاتب) تكملة مسيرة بدأت بعوامل لم تعد تمنحه شجاعة فقدان بلوغ ذروتها: انه ـ بدل ان يزحف أو يمشي خلف من سبقه ـ يثب، بلذّة مغادرة التراب، في استحالة استبدال الدورات! وقد لا يجد الآخر، في هذا التعبير ـ وما دونته منذ أنجذب بصري إلى مشهد بزوغ الشمس، ورؤية الغابات، وتأمل ومضات النجوم النائية ـ إلا ما سأراه في خاتمة حياتي. فانا، بعيدا ً عن تكرار الثيمة ـ امشي نحو اليوم التالي، كما وجدت مصيري يتجه نحو المج
هول، بكتمان الشعور بالخسران أو الآسف على اختيار أهملته واخترت الدرب الوحيد الذي كان علي ان لا اختاره. لقد لمحت بخبرة إنسان لم يعزل مصيره عن كائنات الأرض، وضمنا ً، شركائي في السفينة، كيف يغرق العالم. بل كيف يتهاوى، كي لا يكون الدفاع عن النفس، أكثر من مضيعة للوقت، ما دام تتبع سنوات الخراب قد كّون المصائر، وأحكم خيوطه في نسجها. فثمة من رأى، في الزمن وفي المكان ذاته الذي بلغنا قاعه، فغادر، كي لا يأسف، بل وراح يشهر بنا، كي يجني ثمار تصوراته وأوهامه عن مشاركاتنا مصائرنا، وكأنه امسك بلغز الفراغ! ويا لها من فكاهة حد التسلية مع أنها كالتمثيل في جثمان لا احد. لكن المسافة لها حافات، وعلى دارسي الأفكار، والمخلفات، ان يعيدوا القراءة، لا ان يتوقفوا عند السطوح، والأقنعة.
بهذا الانشغال جرجرني ما يشبه الحنين إلى سنوات الأطياف، الشروع بكتابة رواية تتحدث عن رفقاء شاهدوا سفينة في طريقها إلى القاع.
فجأة تجد شريكا ً لك غادر الجحيم، كي يشهر بك، من غير وثائق، أو حدود الشرف الدنيا، لأنك لم تصمت، ولم تتحول إلى تمثال، ولم تترك السفينة تذهب إلى المجهول إلا وأنت معها، تجد انك تضامنت مع دفاعاتك في استنشاق الموت، وليس في العثور على ملاذ يسمح له ان يراك تغوص، فيما تراه يهرج، مستمتعا ً بديمقراطيات لا تميز بين من دفعك إلى الهاوية، وبين من أغلق عليك الجحيم.
في هذه الفصول لمحت عددا ً من الذين قالوا: لتغرق السفينة..! لا، بل كانوا يعملون على إغراقها، وفي الأخير
، يحتفلون بموتنا.
ومع أنني عشت بحكم القوانين السائدة، وأنظمتها، كنت امتلك قدرات، غير التي أهملتها، في الدفاع، إلا أنني لم أجد لذّة ما، أو شرفا ً ـ أي معنى من معاني المعايير الأخلاقية ـ حتى اذكر أسماء لا علاقة لها بأعوام التراب، والعواصف، وال
ومع أنني عشت بحكم القوانين السائدة، وأنظمتها، كنت امتلك قدرات، غير التي أهملتها، في الدفاع، إلا أنني لم أجد لذّة ما، أو شرفا ً ـ أي معنى من معاني المعايير الأخلاقية ـ حتى اذكر أسماء لا علاقة لها بأعوام التراب، والعواصف، وال
غرق. لأنها، بيسر، ستكرر تاريخ ألف عام لم نتقدم فيها خطوة واحدة لمغادرة هذا العفن. فرؤية العالم يمضي نحو مصيره ـ وهي إشارة لمؤلف كتاب [الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية] دوّن، في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه، العبارة التالية:
ي يأخذني إليه، وكأنني أنا هو من طلبه! فهل باستطاعتي ان أجد علاقة ما مباشرة أو غير مباشرة
ناد لم اختر ملاذا ً ـ كعدد من زملائي ـ في باريس وروما أو في لندن، ومكثت امشي في جنازتي بعيدا ً عن أناشيد الموت...؟ أم كان لعملي في الصحافة، وأنا أكرسه للآخرين ـ من غير آسف ـ غواية من سيربح ألذ ّ الخسارات: أن أكمل أقسى ما في الدورة، من غير نصر، ولكن من غير هزيمة: لغز الماء الذي كّون غواية التقدم في المجهول!بصري وسمعي وذاكرتي بأصوات الطائرات وهي تفكك ما تبقى من قبري العنيد: بغداد.
وكمن أستيقظ توا ً، تركت الغيوم تتسلل إلى ذاكرتي، وأنا أتحرر من استعادة غياب حضر لبرهة، وغاب، كي لا امنح المشهد رمزيته، بل ادعه يعيد لي طفولة أمضيتها مشبعة بالأمطار، وليس باليباب، والغبار، والخراب.
في الطريق وجدت جاري يمشي معي، مسرعا ً، فطلبت منه ان يحتفل بالمطر، وان لا يسرع ...فقال ان آذان المغرب قد حان، وعليه ان يذهب إلى المسجد، ليصلي. فقلت له أنني سأرافقه حتى باب المسجد، كي احصل على نصف الأجر! حدق في ّ وقال: لست بحاجة إلى النصف الآخر!
تركت الليل، مع المطر، من غير ذاكرة، يجتمعان في راسي، وأنا أتابع مباراة ريال مدريد (مساء 26/10/2011) لا في تنفيذ ما يسمى بالخطة لأجل الفوز، بل لمنح المباراة ما تسعى إليه الموسيقا. كانت سماء مدريد تحتفل بأمطار غزيرة تعيد للمباراة لهو البراءة!
هل كانت لي حبيبة تخليت عنها لأنها لم تكن تحب المطر...، أم لأنني كنت أريد ان أرى عالما ً آخر، لا يدوّنه الموتى، كي يجرجروننا معهم إلى المدافن...؟ هل ثمة آسف على الآسف لأن البراري والمستنقعات والهضاب زحفت علينا بوحوشها وأنا بع
[6] الذي لا يمس لِم َ لم ْ يدم السحر، إلا عبر تمويهات لا تخلو من مقاربة مع مشروعات العلم...؟ لم ْ يدم لا لأن الساحر، منذ البدء، عمل كي يمسك بالمستحيل: بهذا الذي لا وجود له إلا هناك، خارج مدى الأصابع، والفعل فحسب، بل لأنه سيحدد هذا الذي (هناك) إلى ما يشبه الحقيقة. فالتصوّرات عن العالم السفلي، في مصر أو في وادي الرافدين، تحكي كأن الراوي كان قد لامسه، وعزله عن الوهم. لكن هذا النظام السحري، هو الآخر، غير قابل للدفن، حتى بعد ان تم الإجهاز عليه، مرات ومرات، وحتى عندما تم تفكيكه إلى أجزاء، والى أجزاء متناثرة يستحيل إعادتها إلى أصلها. أنا ـ هو الآخر ـ انجذبت إلى سؤال: أين يذهب الإنسان بعد الموت ..؟ ولكنني لم اشتغل في السحر، كي أوهم نفسي بوهم من الأوهام. فانا رحت أتتبع أجزاء أجزاء مكونات البذور الأولى: حد تخيل لا مرئياتها، وعملها، مع دراسة العوامل الخارجة، النائية، والمحيطية ...الخ التي تعمل كعمل العقل الآلي، باستثناء ان الأخير لا يمتلك قدرة ان يتخيل، وان تكون له حياة قابلة للنمو، في كليتها. مع ذلك هناك افتراضات ر تحصى، حصلت، للأنواع، وللعناصر...، ثم ان كل موجود، لا يمتلك وجودا ً بمعزل عن الموجودات الأخرى، كي يغدو المشهد مركبا ً، عبر تحولاته، إلى ما لانهاية!
الساحر، الذي غدا عالما ً، وانتقل من البحث عن المستحيلات للامساك بالممكنات، لم يلغ السحري، في تتبع هذا الذي كان (هنا) والذي سيكون (هناك)، بل لأنه لا يمتلك قدرة إلغاء شرط (المخفي) أو (المستتر) في لغز حضوره المحاصر بالذي غاب، قبل الحضور، وفي الذي سيغيب، بعد الحضور، فضلا ً عن بديهية ولدتها عمليات البحث برهنت ان الفجوة ستبقى قائمة، وإنها ستتسع، بينهما، الأمر الذي افقده شرعية السحر، في نهاية المطاف.
ولكن كيف استطيع العثور على قناعة لن تغيب عنها الحقيقة، حتى بنسبة واحد إلى ألف، تجعل عملي ـ ووجودي ـ ليس فائضا ً، ولا يتم الاعتداء عليه، بنسبة 999 إلى واحد!
حتى السيد عمانوئيل كانت، الذي لم ْيعش حياة تحت خط الاستلاب، والقهر، والتعرض للانتهاك، بذل جهدا ً جبارا ًكي يكتب دراسة يحول فيها الميتافيزيقي إلى علم!
أنا أشاركه الواحد بالإلف، لا أكثر، والذي يستند إلى ما قاله سقراط: أنا اعرف انني لا اعرف! على ان السيد كانت، كالساحر القديم، والكيمائي المعاصر، سيتحدث عن ذلك الذي لا تدركه اليد ـ ولا الحواس، ولا العقول.
قطعا ً لا تكفي مناهجنا، وأدواتنا برمتها: الاقتصادية/ النفسية/ ولا المستقبلية،في العثور على علاقة (تامة) بين السلوك ـ وضمنا ً أدواته/ اللغة ـ وبين المكونات، ومحركاتها. فالصياد لا يفكر بصفته طريدة، مع ان عقل الطريدة، لم يلغ كيف سيمارس دوره كصياد، الأول، المنشغل بإصدار الأوامر، والآخر، المسؤول عن التنفيذ، بمعنى ان الفجوة ستبقى ملحقة بمكوناتها، وبمستح
[ ونحن نسير إلى مستقبلنا تماما ً كما سرنا نحو الحرب، معصوبي الأعين لا نرى ...] كتب جوزيف سومبيتر كتابه عام 1942، قبل نهاية الحرب، وقبل الدخول في جحيم الحرب الباردة، موضحا ً انه لم يكن انهزاميا ً، بل كان يتحدث عن عالم يغرق. وكانت مهمته، كأوروبي مثقل بالحضارة والحداثة، ان لا يحتفل بالغرق.
فمن كان منا، قبل أربعين عاما ً، لم ير ما ستؤول إليه النتائج، عندما كنا نستكمل دورة النزول إلى الظلمات السحيقة، وعواصف الموت تهب بأشكال حسبها البعض ـ كهذا الذي جلس في نعيم أوروبا مشهرا ً بالغرقى ـ ستحمل سفينتنا إلى سواحل النهار!
كم تقترب الكتابة من عمل أصابع النحات، وهما ينسجان بيتا ً، لكنه، ليس واهيا ً، حتى لو كانت روح العناكب قد اندفعت بغواية المشي نحو المستحيل، دون ان يخطر ببالها انه محض (ماض ٍ) انطوى على نهايته، وليس الشعور بالآسف، قبل ان يكون للوعي هذا الاتساع، إلا مدخلا ً لا خيارات أخرى له، أكثر من التوحد في المأوى، وليس بجواره، أو بعيدا ً عنه.
فمن كان منا، قبل أربعين عاما ً، لم ير ما ستؤول إليه النتائج، عندما كنا نستكمل دورة النزول إلى الظلمات السحيقة، وعواصف الموت تهب بأشكال حسبها البعض ـ كهذا الذي جلس في نعيم أوروبا مشهرا ً بالغرقى ـ ستحمل سفينتنا إلى سواحل النهار!
كم تقترب الكتابة من عمل أصابع النحات، وهما ينسجان بيتا ً، لكنه، ليس واهيا ً، حتى لو كانت روح العناكب قد اندفعت بغواية المشي نحو المستحيل، دون ان يخطر ببالها انه محض (ماض ٍ) انطوى على نهايته، وليس الشعور بالآسف، قبل ان يكون للوعي هذا الاتساع، إلا مدخلا ً لا خيارات أخرى له، أكثر من التوحد في المأوى، وليس بجواره، أو بعيدا ً عنه.
[3] ومضات وومضات
استعير عبارة جوزيف شومبيتر ـ التي دوّنها عام 1942، لتوضح لي، ان محاولة برمجة (العقل) لا تحدث داخليا ًمن غير ومضات لها أثرها لا في المعنى، بل في الصياغة أيضا ً، يقول ـ مع تذكر ان الحرب باشرت عملها بعيدا ً عن العشوائية: " ولم نكن قط أحوج إلى الغموض الصريح للحقائق الكريهة منا في هذه الأيام التي تبدو فيها وقد ألفنا التهرب من الواقع إلى الحد الذي بات فيه هذا التهرب نظاما ً فكريا ً لنا" هذه العبارة شكلت إجابتي عن سؤال لزميل كان يعد برنامجا ً لفضائية البغدادية، عندما سألني (جميل رماح) ـ وهو أستاذ في كلية الفنون الجميلة ـ عن الأسباب التي أدت إلى غموض بعض كتاباتي! أتذكر أنني لفت النظر الى الاستحا
استعير عبارة جوزيف شومبيتر ـ التي دوّنها عام 1942، لتوضح لي، ان محاولة برمجة (العقل) لا تحدث داخليا ًمن غير ومضات لها أثرها لا في المعنى، بل في الصياغة أيضا ً، يقول ـ مع تذكر ان الحرب باشرت عملها بعيدا ً عن العشوائية: " ولم نكن قط أحوج إلى الغموض الصريح للحقائق الكريهة منا في هذه الأيام التي تبدو فيها وقد ألفنا التهرب من الواقع إلى الحد الذي بات فيه هذا التهرب نظاما ً فكريا ً لنا" هذه العبارة شكلت إجابتي عن سؤال لزميل كان يعد برنامجا ً لفضائية البغدادية، عندما سألني (جميل رماح) ـ وهو أستاذ في كلية الفنون الجميلة ـ عن الأسباب التي أدت إلى غموض بعض كتاباتي! أتذكر أنني لفت النظر الى الاستحا
لات التي واجهتنا ـ خلال عقود ـ للحفاظ على هذا القليل الكامن في الفن ـ وفي الإنسان ـ الذي لم يعد يمتلك إلا حرية ان يختار اشد الاختيارات استحالة: ان يرى النهايات تامة وهو يبصر مقدماتها لا تجد دحضا ً، فالمشهد هو ذاته الشبيه بمن يذهب طوعا ً او كرها ً أعمى أو اشد عماء ً للقبول بترك الأمور تتابع دحرجتها نحو نهاياتها. فعبارة جوزيف شومبيتر ليست واضحة وضوح غياب النهار فحسب، بل تسمح لي ان احفر في المناطق المجهولة كي اعثر على هذا الذي يجعلني أحاور موتي بنشوة إنسان لم يتخل عن ومضاته السرية: لأنني، في الغالب، لم اعد أجد من اخبره عن هذا الذ
ي يأخذني إليه، وكأنني أنا هو من طلبه! فهل باستطاعتي ان أجد علاقة ما مباشرة أو غير مباشرة
عن زحف الرمال وعواصف الصحراء وهي تدفننا تحت أثقال جناتها، وجحيمها؛ وهي التي جعلت من سكني بالقرب من دجلة غاية لبرابرة اشد فتكا ً من ذئاب حاصرتها رمال الصحراء! كيف ابرر له عن إصراري الراسخ بالحفاظ على ما أراه قد توحد بيني وبين هذا الذي أراه فقد حتى نهايته..؟ كان صديقي جميل رماح وهو يأخذني عبر الحوار لتأمل بغداد: من متنزه الزوراء إلى كلية الفنون الجميلة، كي أكون شاهداً على سنوات ذقنا فيها آثار محونا، فيما مازالت أحلامنا عصية على المحو!
[4] المفتاح والقفل: لغز الماء
منذ متى ....، لم تتلبد السماء بالغيوم، لا الرمادية ولا البيض، ومنذ متى لم تنخفض درجات الحرارة إلى الثلاثين مئوي، ومنذ متى لم أر شيئا ً شبيها ً بالموسيقا يعلن عن تدشينات تجرجر القلب إليها....!
منذ 41 عاما ً، في يوم كهذا اليوم، تلبدت السماء بالغيوم، كتل رمادية عميقة الزرقة ومشبعة بحافات من الفضة تترك شيئا ً ما شبيها ً بالمطر وهو يعلن عن عرسه!
كانت هناك زميلة لي، يتذكرها عدد من زملائي في الكلية، بعد ان كان أثرها قد وجد مأوى آخر لمحوه، ترى المشهد ذاته: الأرض تجرجر السماء إليها ...! لا، قات: أنا لا أحب المطر! كررت كلمتها في راسي: أنا لا أحب المطر..! حسنا ً، وكان الشتاء غاب عن بغداد طوال هذه العقود، كي استعيد تلك العبارة: أنا لا أحب المطر! لم يكن حبا ً، ولم يكن شيئا ً شبيها ً بالحب، إنما كان محاولة للامساك بهذا دوّن خاتمته قبل الابتداء. لأنني أدركت في ذلك الجزء من الصوت أنني سأبقى احلم بسماء تأتي بالغيوم، وليس ان افقد
[4] المفتاح والقفل: لغز الماء
منذ متى ....، لم تتلبد السماء بالغيوم، لا الرمادية ولا البيض، ومنذ متى لم تنخفض درجات الحرارة إلى الثلاثين مئوي، ومنذ متى لم أر شيئا ً شبيها ً بالموسيقا يعلن عن تدشينات تجرجر القلب إليها....!
منذ 41 عاما ً، في يوم كهذا اليوم، تلبدت السماء بالغيوم، كتل رمادية عميقة الزرقة ومشبعة بحافات من الفضة تترك شيئا ً ما شبيها ً بالمطر وهو يعلن عن عرسه!
كانت هناك زميلة لي، يتذكرها عدد من زملائي في الكلية، بعد ان كان أثرها قد وجد مأوى آخر لمحوه، ترى المشهد ذاته: الأرض تجرجر السماء إليها ...! لا، قات: أنا لا أحب المطر! كررت كلمتها في راسي: أنا لا أحب المطر..! حسنا ً، وكان الشتاء غاب عن بغداد طوال هذه العقود، كي استعيد تلك العبارة: أنا لا أحب المطر! لم يكن حبا ً، ولم يكن شيئا ً شبيها ً بالحب، إنما كان محاولة للامساك بهذا دوّن خاتمته قبل الابتداء. لأنني أدركت في ذلك الجزء من الصوت أنني سأبقى احلم بسماء تأتي بالغيوم، وليس ان افقد
ناد لم اختر ملاذا ً ـ كعدد من زملائي ـ في باريس وروما أو في لندن، ومكثت امشي في جنازتي بعيدا ً عن أناشيد الموت...؟ أم كان لعملي في الصحافة، وأنا أكرسه للآخرين ـ من غير آسف ـ غواية من سيربح ألذ ّ الخسارات: أن أكمل أقسى ما في الدورة، من غير نصر، ولكن من غير هزيمة: لغز الماء الذي كّون غواية التقدم في المجهول!بصري وسمعي وذاكرتي بأصوات الطائرات وهي تفكك ما تبقى من قبري العنيد: بغداد.
وكمن أستيقظ توا ً، تركت الغيوم تتسلل إلى ذاكرتي، وأنا أتحرر من استعادة غياب حضر لبرهة، وغاب، كي لا امنح المشهد رمزيته، بل ادعه يعيد لي طفولة أمضيتها مشبعة بالأمطار، وليس باليباب، والغبار، والخراب.
في الطريق وجدت جاري يمشي معي، مسرعا ً، فطلبت منه ان يحتفل بالمطر، وان لا يسرع ...فقال ان آذان المغرب قد حان، وعليه ان يذهب إلى المسجد، ليصلي. فقلت له أنني سأرافقه حتى باب المسجد، كي احصل على نصف الأجر! حدق في ّ وقال: لست بحاجة إلى النصف الآخر!
تركت الليل، مع المطر، من غير ذاكرة، يجتمعان في راسي، وأنا أتابع مباراة ريال مدريد (مساء 26/10/2011) لا في تنفيذ ما يسمى بالخطة لأجل الفوز، بل لمنح المباراة ما تسعى إليه الموسيقا. كانت سماء مدريد تحتفل بأمطار غزيرة تعيد للمباراة لهو البراءة!
هل كانت لي حبيبة تخليت عنها لأنها لم تكن تحب المطر...، أم لأنني كنت أريد ان أرى عالما ً آخر، لا يدوّنه الموتى، كي يجرجروننا معهم إلى المدافن...؟ هل ثمة آسف على الآسف لأن البراري والمستنقعات والهضاب زحفت علينا بوحوشها وأنا بع
ليس فجأة، بعد عشرين عاما ً، تأتي فتاة شبيهة بطير تخلى عن سربه، لتأخذني ـ وأنا لا اعرف من
منا الأعمى الدرب أم أنا ـ معها إلى دجلة. كانت تقول: اتبعني ...! كي أقول لنفسي: وهل تستطيع عصيان هذا عطر هذا الصوت البري المزدحم بألوان الجحيم، الصوت الغجري المبني فوق فم يعلن عن كتمان نشوة فتاة أمسكت بالأبدية! لا ....، فامشي خلفها ـ وبشرود رويت الحكاية لعلاء حسين بشير بحضور زوجتي التي قالت لعلاء: انه يحلم ـ وماذا لو لم تكن الحياة برمتها محض حلم يستعيد حلما ً لم يدم الا بحدود محوه، ماذا كانت ستكون ...؟
ها أنا وسط دجلة، في عام 1991، والسماء تزدحم فيها غيوم الله وأعمدة دخان الهدايا التي كانت تنزل علينا من حاملات الطائرات، أو تحدث بسبب سقوط الصواريخ، كنت ـ غجريتي ـ قد طلبت من صاحب الزورق الصغير ان يسكت المحرك! فكانت أمواج النهر، ترتفع عاليا ً، ملونة بألوان الفسفور، والأعشاب، والوحل، حتى كادت تقلب زورقنا. كانت غجريتي الشبيهة بحبية لا وجود لها إلا معي قد تركت شعرها الأسود يتموج منحدرا ً مع الريح وممتزجا ً بالرذاذ البارد....، لنسمع أصوات انفجارات ونرى أعمدة دخان ترتفع ممتزجة بالغيوم...، إنها الحرب...، لكنها كانت ـ مثلي ـ ترغب ان تدخل مملكة الماء، بحثا ً عن براءة ربما الفن وحده يستطيع الاحتفاء بها!
وبعد عقد، تقريا ً، جاءني صوتها من المجهول: لماذا لم نغرق معا ً..؟ كم كنت أود ان اخبرها أنني كنت اتخذت القرار ذاته، قبل عشرين عاما ً، وأنني ـ ربما ـ سأختاره مرة بعد أخرى، طالما لا يمتلك الحلم إلا مشفراته في مواجهة المستحيلات، لكنني قلت لها: المنتصرون وحدهم يمشون في جنازاتهم! كان مثلا ً صينيا ً قديما ً، لكنها أعادت السؤال علي ّ: لماذا لم نغرق معا ً ...؟ فلم اجب، إلا بشرود من لا يعرف اخرج من العدم أم انه يمشي إليه بثبات: أنني سأبقى أتتبع من لم يكف عن طلبي: لغز الماء، ولغز الشمس!
غريب ان امتلك قناعة أنني تحولت إلى قطرات ماء، وقد شاهدتها، وهي تتكون، قبل ان تعلن عن عيدها! ما الحب ـ قلت لها ـ إن لم يكن مدينة مثل بغداد، لم تهزمها الرمال، ولم يهزمها مواتها، ولم تهزمها آلاف القذائف التي تساقطت علينا، لو لم تكن هي
ها أنا وسط دجلة، في عام 1991، والسماء تزدحم فيها غيوم الله وأعمدة دخان الهدايا التي كانت تنزل علينا من حاملات الطائرات، أو تحدث بسبب سقوط الصواريخ، كنت ـ غجريتي ـ قد طلبت من صاحب الزورق الصغير ان يسكت المحرك! فكانت أمواج النهر، ترتفع عاليا ً، ملونة بألوان الفسفور، والأعشاب، والوحل، حتى كادت تقلب زورقنا. كانت غجريتي الشبيهة بحبية لا وجود لها إلا معي قد تركت شعرها الأسود يتموج منحدرا ً مع الريح وممتزجا ً بالرذاذ البارد....، لنسمع أصوات انفجارات ونرى أعمدة دخان ترتفع ممتزجة بالغيوم...، إنها الحرب...، لكنها كانت ـ مثلي ـ ترغب ان تدخل مملكة الماء، بحثا ً عن براءة ربما الفن وحده يستطيع الاحتفاء بها!
وبعد عقد، تقريا ً، جاءني صوتها من المجهول: لماذا لم نغرق معا ً..؟ كم كنت أود ان اخبرها أنني كنت اتخذت القرار ذاته، قبل عشرين عاما ً، وأنني ـ ربما ـ سأختاره مرة بعد أخرى، طالما لا يمتلك الحلم إلا مشفراته في مواجهة المستحيلات، لكنني قلت لها: المنتصرون وحدهم يمشون في جنازاتهم! كان مثلا ً صينيا ً قديما ً، لكنها أعادت السؤال علي ّ: لماذا لم نغرق معا ً ...؟ فلم اجب، إلا بشرود من لا يعرف اخرج من العدم أم انه يمشي إليه بثبات: أنني سأبقى أتتبع من لم يكف عن طلبي: لغز الماء، ولغز الشمس!
غريب ان امتلك قناعة أنني تحولت إلى قطرات ماء، وقد شاهدتها، وهي تتكون، قبل ان تعلن عن عيدها! ما الحب ـ قلت لها ـ إن لم يكن مدينة مثل بغداد، لم تهزمها الرمال، ولم يهزمها مواتها، ولم تهزمها آلاف القذائف التي تساقطت علينا، لو لم تكن هي
مفتاح الماء، وقفله! حقا ً إنها مدينة المنصور، والرشيد، والمأمون! المدينة التي قال التي لم يعترض عليها
شيخي الجنيد، لأنه قال: أين هي...؟ إنها المفتاح وقد دار في القفل.
[5] مقتطفات من رسالة إلى عدنان المبارك
كتبت إلى صديقي القاص والروائي عدنان المبارك:
[ كأن المطر الذي دشن شتاء بغداد، خلال ساعات نهار يوم 26/10/2011، لا علاقة له بدورة الطبيعة، أو بأساطير الخلق، بل لا يمكن عزله عن غواية الارتواء بأكثر الحريات استحالة: البراءة! فالمطر لا يمتلك إلا الومضات التي سمحت للظلمات بالامتداد، من عصر إلى آخر، كي يبقى القفل بعيدا ً عن عمل المفتاح، وبعيدا ً عما نبض في خلايانا النائية. ألا ترى ان ما ذهبت إليه أصابع أسلافنا الأولى، المعدة لمواجهة الضواري، والمجهول، هي التي جرجرت الجسد/ الرأس، للذهاب ابعد من البحث عن ملاذ، أو حافة للاستراحة، أو مأوى..؟ وقد أصبحت تأخذنا معها حيث لا نريد، لكننا لا نمتلك إلا الاستجابة! هل هذه هي الوعود أم أقنعتها، لا نجد في خاتمتها إلا ما أضعناه في المقدمات. فالسماء مازالت تمطر يبابا ً، وحصى، وأدغالا ً، وكأن الذي تكّون ـ عند السواحل ـ يأبى الموت.
ما هذا الذي لا يسمى، ولا ظل له، وقد ترك آثاره، وعندما نجده، نكتشف إننا أضعناه، فيعود يطلبنا، وما ان نراه، يكون الدرب إليه قد غاب. انه ليس المطر، ولا هو البرد، ولا هو هذه البغداد التي في ذات يوم زارها رامبو ولمس ماء (دجلتها) كما كتبت ايتل عدنان في إهدائها لديوانها لي [خمس حواس] قبل عقود بخط يدها الذي مازال يرتجف بالرهافات، كهذا المطر يطلب من اليد المشي خلف من طلبها من غير شكوك، وبعيدا ً عن حسابات الدورات، وغبار الهزائم.
إنها نشوة ميت وجد ألكاس فأرتوي حتى راح يحفر استيقاظه محوا ً، كآخر ما تريد النهايات ان تصل إليه: ذروة المسافة، الصفر، أو الشرود إلى البذور الأولى]
26/10/2011
[5] مقتطفات من رسالة إلى عدنان المبارك
كتبت إلى صديقي القاص والروائي عدنان المبارك:
[ كأن المطر الذي دشن شتاء بغداد، خلال ساعات نهار يوم 26/10/2011، لا علاقة له بدورة الطبيعة، أو بأساطير الخلق، بل لا يمكن عزله عن غواية الارتواء بأكثر الحريات استحالة: البراءة! فالمطر لا يمتلك إلا الومضات التي سمحت للظلمات بالامتداد، من عصر إلى آخر، كي يبقى القفل بعيدا ً عن عمل المفتاح، وبعيدا ً عما نبض في خلايانا النائية. ألا ترى ان ما ذهبت إليه أصابع أسلافنا الأولى، المعدة لمواجهة الضواري، والمجهول، هي التي جرجرت الجسد/ الرأس، للذهاب ابعد من البحث عن ملاذ، أو حافة للاستراحة، أو مأوى..؟ وقد أصبحت تأخذنا معها حيث لا نريد، لكننا لا نمتلك إلا الاستجابة! هل هذه هي الوعود أم أقنعتها، لا نجد في خاتمتها إلا ما أضعناه في المقدمات. فالسماء مازالت تمطر يبابا ً، وحصى، وأدغالا ً، وكأن الذي تكّون ـ عند السواحل ـ يأبى الموت.
ما هذا الذي لا يسمى، ولا ظل له، وقد ترك آثاره، وعندما نجده، نكتشف إننا أضعناه، فيعود يطلبنا، وما ان نراه، يكون الدرب إليه قد غاب. انه ليس المطر، ولا هو البرد، ولا هو هذه البغداد التي في ذات يوم زارها رامبو ولمس ماء (دجلتها) كما كتبت ايتل عدنان في إهدائها لديوانها لي [خمس حواس] قبل عقود بخط يدها الذي مازال يرتجف بالرهافات، كهذا المطر يطلب من اليد المشي خلف من طلبها من غير شكوك، وبعيدا ً عن حسابات الدورات، وغبار الهزائم.
إنها نشوة ميت وجد ألكاس فأرتوي حتى راح يحفر استيقاظه محوا ً، كآخر ما تريد النهايات ان تصل إليه: ذروة المسافة، الصفر، أو الشرود إلى البذور الأولى]
26/10/2011
[6] الذي لا يمس لِم َ لم ْ يدم السحر، إلا عبر تمويهات لا تخلو من مقاربة مع مشروعات العلم...؟ لم ْ يدم لا لأن الساحر، منذ البدء، عمل كي يمسك بالمستحيل: بهذا الذي لا وجود له إلا هناك، خارج مدى الأصابع، والفعل فحسب، بل لأنه سيحدد هذا الذي (هناك) إلى ما يشبه الحقيقة. فالتصوّرات عن العالم السفلي، في مصر أو في وادي الرافدين، تحكي كأن الراوي كان قد لامسه، وعزله عن الوهم. لكن هذا النظام السحري، هو الآخر، غير قابل للدفن، حتى بعد ان تم الإجهاز عليه، مرات ومرات، وحتى عندما تم تفكيكه إلى أجزاء، والى أجزاء متناثرة يستحيل إعادتها إلى أصلها. أنا ـ هو الآخر ـ انجذبت إلى سؤال: أين يذهب الإنسان بعد الموت ..؟ ولكنني لم اشتغل في السحر، كي أوهم نفسي بوهم من الأوهام. فانا رحت أتتبع أجزاء أجزاء مكونات البذور الأولى: حد تخيل لا مرئياتها، وعملها، مع دراسة العوامل الخارجة، النائية، والمحيطية ...الخ التي تعمل كعمل العقل الآلي، باستثناء ان الأخير لا يمتلك قدرة ان يتخيل، وان تكون له حياة قابلة للنمو، في كليتها. مع ذلك هناك افتراضات ر تحصى، حصلت، للأنواع، وللعناصر...، ثم ان كل موجود، لا يمتلك وجودا ً بمعزل عن الموجودات الأخرى، كي يغدو المشهد مركبا ً، عبر تحولاته، إلى ما لانهاية!
الساحر، الذي غدا عالما ً، وانتقل من البحث عن المستحيلات للامساك بالممكنات، لم يلغ السحري، في تتبع هذا الذي كان (هنا) والذي سيكون (هناك)، بل لأنه لا يمتلك قدرة إلغاء شرط (المخفي) أو (المستتر) في لغز حضوره المحاصر بالذي غاب، قبل الحضور، وفي الذي سيغيب، بعد الحضور، فضلا ً عن بديهية ولدتها عمليات البحث برهنت ان الفجوة ستبقى قائمة، وإنها ستتسع، بينهما، الأمر الذي افقده شرعية السحر، في نهاية المطاف.
ولكن كيف استطيع العثور على قناعة لن تغيب عنها الحقيقة، حتى بنسبة واحد إلى ألف، تجعل عملي ـ ووجودي ـ ليس فائضا ً، ولا يتم الاعتداء عليه، بنسبة 999 إلى واحد!
حتى السيد عمانوئيل كانت، الذي لم ْيعش حياة تحت خط الاستلاب، والقهر، والتعرض للانتهاك، بذل جهدا ً جبارا ًكي يكتب دراسة يحول فيها الميتافيزيقي إلى علم!
أنا أشاركه الواحد بالإلف، لا أكثر، والذي يستند إلى ما قاله سقراط: أنا اعرف انني لا اعرف! على ان السيد كانت، كالساحر القديم، والكيمائي المعاصر، سيتحدث عن ذلك الذي لا تدركه اليد ـ ولا الحواس، ولا العقول.
قطعا ً لا تكفي مناهجنا، وأدواتنا برمتها: الاقتصادية/ النفسية/ ولا المستقبلية،في العثور على علاقة (تامة) بين السلوك ـ وضمنا ً أدواته/ اللغة ـ وبين المكونات، ومحركاتها. فالصياد لا يفكر بصفته طريدة، مع ان عقل الطريدة، لم يلغ كيف سيمارس دوره كصياد، الأول، المنشغل بإصدار الأوامر، والآخر، المسؤول عن التنفيذ، بمعنى ان الفجوة ستبقى ملحقة بمكوناتها، وبمستح
دثاتها. فثمة مشترك بين موجودات حافظت على خصائصها، وأخرى، حورتها، ولكن هل باستطاعة الصياد ان يستبدل غرائزه، وهل باستطاعة الضحية ان تأتي بمعجزة...؟
هذا النسق العتيق من التأملات، إزاء عصور تحولت فيها (المستحيلات) إلى ممكنات، وجد السحر طريقه للحفاظ على الفجوات، بدءا ً بالأكثر استبصارا ً ، إلى الأكثر مكرا ً. فالإعلان المعاصر، في عمله، يحافظ على شكل من أشكال تحويل التراب إلى ذهب: كيمياء الإغراء، وصولا ً إلى مفهوم الذي لا يمس!
[7] من السحري إلى عالم الأشياء
فهل بإمكاني استبعاد السحري، كآليات عمل، عن أقدم النصوص الشبيهة بالفن، مرورا ً بتحولها إلى علامات (سحرية خاصة/ مقدسة)، وليس انتهاء ً بوجودها كسلع، من غير القيام بإجراء مستحيل، في دحض المستحيلات التي هيمنت على الوجود البشري ودفعته إلى عالم الأشياء، أي إلى موت العالم القديم، والقضاء على ما تبقى منه...؟
كثير من الكائنات ـ وربما جميعها ـ حافظت على برمجتها في التنوع، من ملك الغابة إلى الفيروس. فهي مخلوقات لم تبرهن ـ بما هي عليه ـ إنها امتلكت منجزا ً نفعيا ً، عدا أنها، في ديمومتها، امتلكت مهارات فائقة الدقة ترتقي إلى فن جمع المعلومات، وتحليلها، تتفوق، أحيانا ً، على انضج العقول الاستخبارية، وأشدها مكرا ً. والأمثلة ليست استثنائية، في استحداث مهارات تضاف إلى الملكات الطبيعية، بعملها المشفر، كالذئب الذي يحدد اختياره للطريدة بدءا ً من فحص آثار أقدامها، وما اذا كانت تعاني مرضا ً كي تحدد نوعه، إلى مراقبة ما تتركه من براز، وآثار فمها في النباتات التي تتغذى عليها بما تتركه من دلالة تخص عمرها، وصحتها، وقوتها!
في فاتحة الألفية الثالثة، قد بلغ عدد سكان العالم سبعة مليارات إنسان، يعاني، بحسب الإحصاء المعلن، مليار إنسان حياة تحت خط الفقر! وان ثلث السكان يعانون من نقص في الخدمات! لكن المليارات السبعة، لا تعيش، كأنها خاضعة لخطة موحدة و
[7] من السحري إلى عالم الأشياء
فهل بإمكاني استبعاد السحري، كآليات عمل، عن أقدم النصوص الشبيهة بالفن، مرورا ً بتحولها إلى علامات (سحرية خاصة/ مقدسة)، وليس انتهاء ً بوجودها كسلع، من غير القيام بإجراء مستحيل، في دحض المستحيلات التي هيمنت على الوجود البشري ودفعته إلى عالم الأشياء، أي إلى موت العالم القديم، والقضاء على ما تبقى منه...؟
كثير من الكائنات ـ وربما جميعها ـ حافظت على برمجتها في التنوع، من ملك الغابة إلى الفيروس. فهي مخلوقات لم تبرهن ـ بما هي عليه ـ إنها امتلكت منجزا ً نفعيا ً، عدا أنها، في ديمومتها، امتلكت مهارات فائقة الدقة ترتقي إلى فن جمع المعلومات، وتحليلها، تتفوق، أحيانا ً، على انضج العقول الاستخبارية، وأشدها مكرا ً. والأمثلة ليست استثنائية، في استحداث مهارات تضاف إلى الملكات الطبيعية، بعملها المشفر، كالذئب الذي يحدد اختياره للطريدة بدءا ً من فحص آثار أقدامها، وما اذا كانت تعاني مرضا ً كي تحدد نوعه، إلى مراقبة ما تتركه من براز، وآثار فمها في النباتات التي تتغذى عليها بما تتركه من دلالة تخص عمرها، وصحتها، وقوتها!
في فاتحة الألفية الثالثة، قد بلغ عدد سكان العالم سبعة مليارات إنسان، يعاني، بحسب الإحصاء المعلن، مليار إنسان حياة تحت خط الفقر! وان ثلث السكان يعانون من نقص في الخدمات! لكن المليارات السبعة، لا تعيش، كأنها خاضعة لخطة موحدة و
ضمن عدالة لها أسسها المشتركة.
فعندما تكون الغاية، من غير غاية، هي الديمومة، فان البشر يزحفون، في السلم، كما في الحرب، علة بطونهم، وهو أول شرط لن يسمح بازدهار (الفراغ): التأمل. فان وجود سبعة مليارات إنسان عن عدمه، لن يترك حقيقة بإمكانها ألا تمس، وتفكك، وتدحض، مما سيعيد التفكير البشري، وفي أكثر الدول احتراما للحقوق، إلى العصور الأولى!
بمعنى عندما تغدو (الحركة) من اجل (الحركة) فان مفهوم الغاية تبرر الوسيلة، يصبح أمرا ً لا ينتظر مزيدا ً من التشريعات. فلقرون كانت المفاهيم (الإنسانية) القائمة على العدالة/ الرحمة، تضمن للأشد فقرا ً/ وللمظلومين، والمستضعفين، قناعة راسخة للتعويض، لا بعملها، ومعالجة مآزقها، بل ان تجد تعويضا ً لها في العالم الآخر!
فهل باستطاعة الفن، بأي معنى من معانيه، ان يحافظ على وهم لا تناله يد الزمن ....؟
إن تلك المخربشات التي تم العثور عليها، إلى جانب الآثار المميزة، لدى الشعوب البدائية، أو في حقبة ما بعد الحداثة، والدخول في جحيم العولمة، كلها، من غير استثناء، خاضعة للقانون نفسه: ما قيمتها ان لم تقدر بثمن ...؟ لأن لغز السلعة، في الأصل ـ وهي إشارة لماركس ـ لا تخفي لغز وجودها، ونموها، وتحولاتها، فماذا عن (الفن)، بصفته علامة تتجاوز التصنيف السلعي، كحساب الجهد، والمهارة، والتضحيات ...الخ انه علامة لا تقدر بثمن، ليس متحفيا ً، بحسب المعيار الجمعي، أو المعرفي، الحرفي والجمالي، بل لأن البشر غير معنيين إلا بما يحقق التوازن مع ضروريات حياتهم اليومية. ففضائيات (خاصة) مكرسة لممارسات انتهاك الجسد، والإنسان، قد تحظي بإرباح مادية، لن تقارن بلحن يعالج عذابات الطفولة، أو مشكلات الاغتراب، أو حتى الحرمان من الهواء!
إنها منافسة تقود ـ مع استحالة استبعاد الاستثناءات ـ إلى اشتباكات تكشف عن مخفيات ما يجري في أسواق الفن، وما تؤدي إليه من انتهاكات، شبيهة بما تتركه الحروب، من خراب يؤكد ان ما يجري في الغابة، يجري في أكثر صالات المتاحف، وأسواق الفن، والصالونات، من آليات قائمة على المنافسة، وما تؤدي إليه من مفارقات: من أرباح قائمة على خسارات الآخر.
[8] الجرح ـ أو محو الذاكرة
لن تُنسى مشاهد عمليات تدمير، وعلى نحو منظم، وقد سمح للعشوائية ان تؤدي دور التستر على الأهداف، مراكز الفنون، والمتاحف، والمكتبات، والجامعات.
ولن الفت النظر إلى ما يرتقي إلى (الكارثة) بنهب أكثر من 15 ألف اثر من متحف الآثار...، فتلك تتطلب دراسة مستقلة. إنما سألفت النظر إلى نهب محتويات مراكز الفنون، وتدمير محتوياتها، وضمنا ً الوثائق، وكل ما تم العناية بجمعه على مدى قرن.
هل حصل مصادفة ان يجد الفنان تاريخه وقد رآه ينتهك، ويذل، حد المحو ...؟
الطريف إننا، في النهاية، لا نمتلك إلا ان نترك ما حدث لجيل آخر، أو لمنظمات دولية، تستطيع ان تعيد تحليل ا
بمعنى عندما تغدو (الحركة) من اجل (الحركة) فان مفهوم الغاية تبرر الوسيلة، يصبح أمرا ً لا ينتظر مزيدا ً من التشريعات. فلقرون كانت المفاهيم (الإنسانية) القائمة على العدالة/ الرحمة، تضمن للأشد فقرا ً/ وللمظلومين، والمستضعفين، قناعة راسخة للتعويض، لا بعملها، ومعالجة مآزقها، بل ان تجد تعويضا ً لها في العالم الآخر!
فهل باستطاعة الفن، بأي معنى من معانيه، ان يحافظ على وهم لا تناله يد الزمن ....؟
إن تلك المخربشات التي تم العثور عليها، إلى جانب الآثار المميزة، لدى الشعوب البدائية، أو في حقبة ما بعد الحداثة، والدخول في جحيم العولمة، كلها، من غير استثناء، خاضعة للقانون نفسه: ما قيمتها ان لم تقدر بثمن ...؟ لأن لغز السلعة، في الأصل ـ وهي إشارة لماركس ـ لا تخفي لغز وجودها، ونموها، وتحولاتها، فماذا عن (الفن)، بصفته علامة تتجاوز التصنيف السلعي، كحساب الجهد، والمهارة، والتضحيات ...الخ انه علامة لا تقدر بثمن، ليس متحفيا ً، بحسب المعيار الجمعي، أو المعرفي، الحرفي والجمالي، بل لأن البشر غير معنيين إلا بما يحقق التوازن مع ضروريات حياتهم اليومية. ففضائيات (خاصة) مكرسة لممارسات انتهاك الجسد، والإنسان، قد تحظي بإرباح مادية، لن تقارن بلحن يعالج عذابات الطفولة، أو مشكلات الاغتراب، أو حتى الحرمان من الهواء!
إنها منافسة تقود ـ مع استحالة استبعاد الاستثناءات ـ إلى اشتباكات تكشف عن مخفيات ما يجري في أسواق الفن، وما تؤدي إليه من انتهاكات، شبيهة بما تتركه الحروب، من خراب يؤكد ان ما يجري في الغابة، يجري في أكثر صالات المتاحف، وأسواق الفن، والصالونات، من آليات قائمة على المنافسة، وما تؤدي إليه من مفارقات: من أرباح قائمة على خسارات الآخر.
[8] الجرح ـ أو محو الذاكرة
لن تُنسى مشاهد عمليات تدمير، وعلى نحو منظم، وقد سمح للعشوائية ان تؤدي دور التستر على الأهداف، مراكز الفنون، والمتاحف، والمكتبات، والجامعات.
ولن الفت النظر إلى ما يرتقي إلى (الكارثة) بنهب أكثر من 15 ألف اثر من متحف الآثار...، فتلك تتطلب دراسة مستقلة. إنما سألفت النظر إلى نهب محتويات مراكز الفنون، وتدمير محتوياتها، وضمنا ً الوثائق، وكل ما تم العناية بجمعه على مدى قرن.
هل حصل مصادفة ان يجد الفنان تاريخه وقد رآه ينتهك، ويذل، حد المحو ...؟
الطريف إننا، في النهاية، لا نمتلك إلا ان نترك ما حدث لجيل آخر، أو لمنظمات دولية، تستطيع ان تعيد تحليل ا
لأسباب ونتائجها! لا لأن المشكلة، كما تبدو، عصية على الفهم، بل لأن المشهد برمته، مازال يحافظ على العوامل ذاتها التي أدت إلى ما حدث.
وإذا تركنا القصد المباشر، وهو (المحو) وإزالة الذاكرة، وتخريبها، فان تنفيذها جاء عبر ظهور زمر أدت عملها في نهب، وتدمير هذا التراث. فقد تحولت عمليات المتاجرة، خلال سنوات الفوضى، إلى فن!، بل، وسيمنح عدد من اللصوص أوسمة وفاء! لكن عمليات الفساد، في المؤسسات المختلفة، وازن، وجعل شعار: اذا عمت المصيبة خفت، الأمر الذي أدى إلى إهمال أي إجراء باستطاعته ان يعيد ما تبقى من كنوز المتحف، إلى كانت عليه.
هل كانت الستة أو السبعة آلاف علامة فنية(رسم/نحت/ خزف/ وباقي الأجناس) غير جديرة، إلا بالتدمير، لأنها أنتجت، وجمعت، في حقبة (الدكتاتورية)...! أم لأن (الديمقراطية) ستمنح الأجيال الجديدة، قدرة بناء ذاكرتها!
حتى اليوم، بإحصاء مبسط، لم تقتن، الجهات الرسمية، والمسؤولة، شيئا ً يذكر، مما ترك العملية الفنية غائبة، أما بهجرة الفنانين، وأما بتسرب الأعمال الفنية، وأما بتركها تعمل بشروطها الضيقة.
بمعنى يرجعنا إلى الأزمنة التي كان فيها الفن ـ قبل تراكم رؤوس الأموال ـ يكون حضوره بحضور الرهافات، والاهتمامات الروحية، والفنية، والجمالية، المشفرة بحدود ما يتضمنه الفن من أبعاد من لا مرئية، أو بصفته علامة لمجتمعات غير قائمة على: الكل يدمر الكل!
وعلى سبيل المثال، وهذا ما اعرفه تمام المعرفة، فان هناك عددا ً غير قليل من المشتغلين في الفن، عملوا لصوصا ً، كي يحصلوا على مكاسب لن تتحقق بعملهم في إنتاج أشياء تشبه الفن. فلماذا الجهد، والتجريب، والمعرفة، والتدريب، والآم البحث، والذهاب إلى الناطق النائية...، عندما يعوض العمل اللا شرعي، النظام الذي سمح لعبد القادر الرسام، أو فائق حسن، أو محمد عارف، أو صالح القرة غولي، أو محمد علي شاكر، أو رسول علوان، أو ليلى العطار....الخ لإنتاج علامات تتمتع بكثير من هذا الذي ينتمي إلى الفعل المتحضر، لا إلى فعل الزمر الإجرامية!
[9] لمحات مع شاكر حسن
ساجد مصيري، في لحظات تزعزع الثوابت ـ حتى التي كنت أراها محض قشور ـ يقودني للبحث عن ملاذ: فالحقيقة لا وجود لها إلا عبر هذا الذي: يُهدم، وينتهك، ويأخذ طريقه إلى الاندثار. فانا، في الأخير، لا أتشبث بالمعنى، حتى وأنا اهدمه، بل أتشبث بهذا الوعي الذي سمح لي ان أرى سلسلة الاشتباكات تؤدي عملها ضد الثوابت. فلم يعد للرموز، في العملية السحرية، وصولا ً إلى الواقعية، إلا ان تقلب النائي إلى مرئيات، والى دواء شبيه بالأفيون! فلم يعد علي ّ ان أوهم ذاتي فحسب، بل ان استقصي الوجود الذي لم اختبره،
هل كانت الستة أو السبعة آلاف علامة فنية(رسم/نحت/ خزف/ وباقي الأجناس) غير جديرة، إلا بالتدمير، لأنها أنتجت، وجمعت، في حقبة (الدكتاتورية)...! أم لأن (الديمقراطية) ستمنح الأجيال الجديدة، قدرة بناء ذاكرتها!
حتى اليوم، بإحصاء مبسط، لم تقتن، الجهات الرسمية، والمسؤولة، شيئا ً يذكر، مما ترك العملية الفنية غائبة، أما بهجرة الفنانين، وأما بتسرب الأعمال الفنية، وأما بتركها تعمل بشروطها الضيقة.
بمعنى يرجعنا إلى الأزمنة التي كان فيها الفن ـ قبل تراكم رؤوس الأموال ـ يكون حضوره بحضور الرهافات، والاهتمامات الروحية، والفنية، والجمالية، المشفرة بحدود ما يتضمنه الفن من أبعاد من لا مرئية، أو بصفته علامة لمجتمعات غير قائمة على: الكل يدمر الكل!
وعلى سبيل المثال، وهذا ما اعرفه تمام المعرفة، فان هناك عددا ً غير قليل من المشتغلين في الفن، عملوا لصوصا ً، كي يحصلوا على مكاسب لن تتحقق بعملهم في إنتاج أشياء تشبه الفن. فلماذا الجهد، والتجريب، والمعرفة، والتدريب، والآم البحث، والذهاب إلى الناطق النائية...، عندما يعوض العمل اللا شرعي، النظام الذي سمح لعبد القادر الرسام، أو فائق حسن، أو محمد عارف، أو صالح القرة غولي، أو محمد علي شاكر، أو رسول علوان، أو ليلى العطار....الخ لإنتاج علامات تتمتع بكثير من هذا الذي ينتمي إلى الفعل المتحضر، لا إلى فعل الزمر الإجرامية!
[9] لمحات مع شاكر حسن
ساجد مصيري، في لحظات تزعزع الثوابت ـ حتى التي كنت أراها محض قشور ـ يقودني للبحث عن ملاذ: فالحقيقة لا وجود لها إلا عبر هذا الذي: يُهدم، وينتهك، ويأخذ طريقه إلى الاندثار. فانا، في الأخير، لا أتشبث بالمعنى، حتى وأنا اهدمه، بل أتشبث بهذا الوعي الذي سمح لي ان أرى سلسلة الاشتباكات تؤدي عملها ضد الثوابت. فلم يعد للرموز، في العملية السحرية، وصولا ً إلى الواقعية، إلا ان تقلب النائي إلى مرئيات، والى دواء شبيه بالأفيون! فلم يعد علي ّ ان أوهم ذاتي فحسب، بل ان استقصي الوجود الذي لم اختبره،
وليس لدي ّ قدرة رفضه، أو قدرة خداع الآخرين فيه في نهاية المطاف! فليست الأشياء وحدها غير قابلة للحضور، بل أصبحت أرى غيابي تاما ً.
فاستعيد أقدم ذكرى عرفت فيها الأستاذ شاكر حسن آل سعيد، المنحدر من جيل الرواد إلينا، عندما وجدت انه ـ منذ عام 1970 ـ لا يمتلك قدرة ان يبني شيئا ً: لا على صعيد الأفكار، ولا على صعيد بنية النص الفني. كان يتحدث عن رحلاته في العالم النائي، وعن نظام مرتب بعناية تامة، ولكنني لم اصدم بقناعاته فحسب، بل أعلنت عن موقفي بوضوح تجاهها. فذكرته بأقدم محاورة سومرية تناولت هذا الإشكالية، حيث أعلنت ان الآلهة أعلى من ان تكون عالية، وان الإنسان، في محنته، لا يذهب ابعد من الوحل الذي خلق منه!
إنما مكثت أكن لشاكر حسن، اعترافا ً بما أبداه من بسالة في متابعة إنتاج كل ما كنت أراه يتوارى. كانت صداقتي له، في الظاهر، تعبر عن تقاطع، لكنها، في لغزها، كانت بديلا ً للخواء. فليس لدي ّ، في عالمي، مغريات أو حتى غوايات عدا ترك الزمن يستكمل دورته. إنما طالما أخبرته بالمحنة التي تعصف بالإنسان ـ منذ وجد ـ فكان لا يتذرع إلا بالنصوص التي تؤكد ذلك، إنما هناك الذي يصعب إدراكه، بوسائلنا، ولكن علينا ألا نفقد صلتنا به. فالموجودات، بوجودها، تتضمن غاية ما مازالت تستدرجنا إليها، وليس الموت إلا احد حدود الدورة.
أنا كنت لا احتمل مدى توفر أدوات المراقبة، في ما يحدث للجسد البشري، من تدمير. فمنذ فتنة عام 1959، في أعالي الفرات، حتى لحظة تحول بغداد إلى موقد من الجمر، لم تكن لدي ّ قدرة تبرير ذلك. هناك عنف تجاوز حدود الدفاع عن النفس، أو البحث عن مكاسب. فهناك إبادات. شاكر حسن، لأنه أكثر مثالية مني، استسلم لموته، وكأنه كان يردد: ليس لدي ّ قدرة الذهاب ابعد من الإيمان ...!
فلم يعد لدي ّ، في النهاية، إلا ان انشطر. لكنني سرعان ما اعترضت، وقلت: ربما الأصوات التي ازدحمت في راسي هي السبب وراء أي حسم، وهي التي حرّمت علي إلا لذّة أنني أعاقب، باستحالة التطابق، أو الرضا! فالإنسان لا يمتلك قدرة رؤية ظلاله، فوق المتحركات، بل كنت أراه مندمجا ً فيها! انه اثر لم يعد يخفي لغزه: الاندثار. إنما لماذا ترتقي بعض العلاقات ـ مع الآخر حتى لو كان طيرا ً أو شجرة أو صخرة ـ إلى سلوى، بعد ان أدركت استحالة ان ادفع بمصيري ابعد من هذا الخراب!
[10] هكذا هتفت كتائب أسبانا: يحيا الموت!
وليس محض مصادفة ان أعود إلى قراءات كتب لفتت نظري؛ في السيكولوجية، أو في الأساطير، كمثال شبي
إنما مكثت أكن لشاكر حسن، اعترافا ً بما أبداه من بسالة في متابعة إنتاج كل ما كنت أراه يتوارى. كانت صداقتي له، في الظاهر، تعبر عن تقاطع، لكنها، في لغزها، كانت بديلا ً للخواء. فليس لدي ّ، في عالمي، مغريات أو حتى غوايات عدا ترك الزمن يستكمل دورته. إنما طالما أخبرته بالمحنة التي تعصف بالإنسان ـ منذ وجد ـ فكان لا يتذرع إلا بالنصوص التي تؤكد ذلك، إنما هناك الذي يصعب إدراكه، بوسائلنا، ولكن علينا ألا نفقد صلتنا به. فالموجودات، بوجودها، تتضمن غاية ما مازالت تستدرجنا إليها، وليس الموت إلا احد حدود الدورة.
أنا كنت لا احتمل مدى توفر أدوات المراقبة، في ما يحدث للجسد البشري، من تدمير. فمنذ فتنة عام 1959، في أعالي الفرات، حتى لحظة تحول بغداد إلى موقد من الجمر، لم تكن لدي ّ قدرة تبرير ذلك. هناك عنف تجاوز حدود الدفاع عن النفس، أو البحث عن مكاسب. فهناك إبادات. شاكر حسن، لأنه أكثر مثالية مني، استسلم لموته، وكأنه كان يردد: ليس لدي ّ قدرة الذهاب ابعد من الإيمان ...!
فلم يعد لدي ّ، في النهاية، إلا ان انشطر. لكنني سرعان ما اعترضت، وقلت: ربما الأصوات التي ازدحمت في راسي هي السبب وراء أي حسم، وهي التي حرّمت علي إلا لذّة أنني أعاقب، باستحالة التطابق، أو الرضا! فالإنسان لا يمتلك قدرة رؤية ظلاله، فوق المتحركات، بل كنت أراه مندمجا ً فيها! انه اثر لم يعد يخفي لغزه: الاندثار. إنما لماذا ترتقي بعض العلاقات ـ مع الآخر حتى لو كان طيرا ً أو شجرة أو صخرة ـ إلى سلوى، بعد ان أدركت استحالة ان ادفع بمصيري ابعد من هذا الخراب!
[10] هكذا هتفت كتائب أسبانا: يحيا الموت!
وليس محض مصادفة ان أعود إلى قراءات كتب لفتت نظري؛ في السيكولوجية، أو في الأساطير، كمثال شبي
ه بعلاقتي بحفيدي (علي)؛ الذي ـ في اللاوعي السحيق ـ سمح لي بتذكر شقاء الإنسان، وتأمل مصيره ...! فهل ثمة سادية (معتدلة أو مقننة) كانت تمدني بقدرة تحمل هذه المعاقبة: إن الذهاب إلى الهزيمة، لن يحدث، إلا عبر وهم النصر!* فعلى من ينتصر هذا المخلوق، وهو محض (علامة) صنعتها متغيرات كان يشرف عليها عدد من صانعي المسلسلات المثيرة للقرف، والرعب: لصوص، وأشباح تدربت على انتزاع ابسط ما يتمتع به الحيوان: السكينة. أشباح لا لذّة لديها إلا في التدمير!
فأعيد قراءة عبارة ليونغ، وهو يفكك وهم القناات الهشة، ولكنه ـ مثلي ـ لن يغادر حدود اللغة: "كان لدي ّ إحساس أني قطعة من التاريخ، مقطع ينقصه ما يسبقه وما يليه. بدت لي حياتي وكأنها منتزعة من سلسلة طويلة من الأحداث، وظل العديد من الأسئلة دون إجابات" (1)
انها ليست بطولة، ولا فتحاً، ان يمجد الغريق خشبة لامست أصابعه الواهنة، كي ينجو من الغرق، ولكنني، في تلك اللحظات، لم يغب عني ان (الأرض) و (المجموعة الشمسية، والمجرة) ما هي إلا بذور بحجم لا مرئيات الأجزاء المكونة لوجود لست إلا من وجد حياته، وفق هذا النظام، يبحث عن قشة فيه لإدامة لحظات ـ وأبدية الغرق.
كان إيمان شاكر حسن، أستاذي وصديقي، شبيه بما تتمتع به الأشجار، والصخور، الأقرب إلى إيمان يونغ، باستحالة القبول بالصفر! بمعنى ان ما أراه ـ بحسب النص الديني ـ لا يحدث من غير أسباب، ودلالة، إنما علي ّ ان ابلغ لحظة المؤن: النرفانا، وهي لحظة فناء المتصوف، العاشق، ولكن فجأة اكتشف انها لا تختلف عن حال الشخص المصاب بـ (النكروفيليا): أي، الانجذاب العاطفي إلى كل ما هو ميت، ومتفسّخ، ومتعفّن، وسقيم، إنها الشغف بتحويل ما هو حي إلى شيء غير حي؛ وبالتدمير من اجل التدمير؛ والاهتمام ألحصري بما هو ميكانيكي خالص. وهي الشغف بتفكيك كل البنى الحية" (2) كما يحلل اريك فروم هذه النزعة لدي أكثر قادة الشعوب مرضا ً، في رسم مشهد الخراب، والموت. حيث هؤلاء الزعماء يشتغلون باجتثاث بعضهم للبعض الآخر بلذّات مرضية يذهب ضحيتها ملايين الأبرياء. أي ان هؤلاء الذين يختارون خلاصهم، لا يختارون إلا العماء عما يجري في معسكرات الموت، أو ما تحدثه أسلحة الدمار، والصواريخ عابرة القارات، وآثار الإشعاعات في المخلوقات كافة، وفي الطبيعة، فليس ثمة أي احترام لا للإنسان ولا للطبيعة (الايكولوجيا).(3)
يا له من موقف يتأسس على المفارقة: تنقذ حياتك كي تديم زمن تأمل مشاهدة ما يحدث للناس من حولك، ولملايين المخلوقات، والكائنات الحية! لذّة مزدوجة، لاواعية، تعيد تقسيم المخلوقات إلى: مفترسة، وأخرى لا تجد ملاذا ً للفرار من قسوة النوع البشري، وقد أهملت الوصايا، والمثل، تحت ذريعة: من ليس معنا فلا يستحق إلا ان يدفن حيا ً، أو ينكل به حد الموت. فهل ثمة معنى لكلمة السيد المسيح: أحب جارك كما تحب نفسك! في عالم لا يختلف عما يجري في أي اشتباك يقع بين النمل الأبيض وهو يهاجم خلايا النحل..؟ لقد تأملت المشهد بفضول (آلي/ تأملي/ فلسفي) لكن من ذا يدحض أنني لم أكن أتلذذ برؤية حياة تنتهك، تدمر، وتزول! كي أدرك، في الوقت نفسه، أنني انتهك، كما ينتهك جسد الغزال بين أنياب لبوة جائعة، أو بين فكي تمساح، لكن مصيري ينتهك من لدن النوع الذي وجدت نفسي عضوا ً فيه!
انها محنة أنني كلما لذت بدرب، لا أجد في خلاصي، حتى لو سكنت كوكبا ً خارج مجرتنا، إلا ما يفعله النمل وهو يقضم، ويسحق، ويقضم أجساد النحل، لذّة غواية كائنات وجدت نفسها مفترسة، ثم انها وجدت نفسها لا تستطيع ان تعدل دوافعها، وبنيتها، بعد ذلك، ولا ترى شيئا ً يذكر، فقد اختفت مملكة النمل، كما أتخيل غياب سكان أسيا، وأوروبا، والقارات كافة، من الوجود، وقد تحولنا جميعا ً، عشاق الموت، وعشاق الحدائق، اليمين واليسار، الأشد ثراء ً والأكثر فقرا ً، إلى جزئيات لا مرئية في المختبر الكوني! فاترك أصابعي تدثرني بالدخان والبرد، وأنا أراها تحدق في ّ!
* عندما كلفتي الشاعرة أمل الجبوري بمسؤولية البرنامج الثقافي لـ (ديوان شرق ـ غرب) في بغداد، عام 2005، كان هناك شابا ً يافعا ً، وأنيقا ً، يعمل معنا، اسمه: نصر. فقلت له: أنت النصر الوحيد الذي أكاد أراه من غير خسائر!
1 ـ كارل غوستاف يونغ [ذكريات، أحلام وتأملات] ترجمة: ناصرة السعدون. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد. 2001 ص285
2 ـ اريك فروم [تشريح التدميرية البشرية) الجزء الأول. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. وزارة الثقافة السورية. 2006 ـ ص 15. وقد عبر ف.ت.مارتنتي عن روح النكروفيليا اول مرة في شكل أدبي في عمله "البيان المستقبلي) عام 1909، والميل نفسه يمكن ان نراه في الكثير من الأعمال الفنية والأدبية التي تصوّر الافتتان الخاص بكل ما هو مضمحل، وغير حي، وتدميري، وميكانيكي. والشعار الذي رفعته "الكتائب" في أسبانيا عام 1934: (يحيا الموت) يهددّ بان يصبح المبدأ السري لمجتمع يشكّل فيه قهر الطبيعة بالآلة المعنى ألصميمي للتقدم، وحيث يصبح الشخص الحي ملحقا ً بالآلة ـ. المصدر نفسه ـ ص47 ـ 48
3 ـ يكرس الفنان علي النجار معرضه الجديد : ضد اليورانيوم، وما أحدثه من أذى بالغ في ملايين العراقيين خلال الغزو على العراق منذ 2003، بعد ان كان الفنان قد ذاق لوعته قبل عقدين.
[11] بذور وإشعاعات ـ ديمومة اللغز
إنما في بذور الشمس، القادمة من (فرن) يقع على بعد 8 دقائق ضوئية، وهي المسافة التي أصل إليها في جزء من مليار جزء من الثانية، أكون أنا في الفرن، منصهرا ً، وقد استحال وجودي إلى أثير، ثم أغادر نحو الفضاءات، كي استقر، مع إشعاعات أخرى، في الأرض!
ان احد عوامل تمهيدات ظهور بذور الخلق، إلى جانب العوامل التي لا تقل أهمية عن الشمس، صاغت، المسار الذي أقف عند نهايته. لقد كان للجاذبية، بمعنى الحركة الكلية للأجزاء، والغلاف الواقي من القوى التدميرية للإشعاعات المختلفة، وظهور الماء ...الخ أثره المباشر، في فرضيات أخذت تبتعد عن التاريخ الطويل لمعتقدات وجدت ان الآلهة هي ـ وصولا ً إلى الإله الواحد ـ مسؤولة عن الإنسان وأسباب وجوده.
ومع ان القطيعة مع هذه الفرضيات لم تعدل المحنة، ولم تلغ الأسئلة، إلا ان آليات عمل الوعي، ليس باستطاعتها اختراع فرضيات من العدم. لأن السبب الذي يتعذر الذهاب إليه سيبقى خارج نطاق الأدوات، وفي مقدمتها: اللغة، وباقي الوسائل.
ها أنا استعيد أقدم طقس نحو الشمس: ليس تبجيلها، أو تقديم النذور أو الأضاحي إليها، كلا، وليس التذمر أو الشكوى منها، إنما، مع العوامل التي تشترك في ديمومة هذا الوجود، احفر في المناطق التي ستبقى، كلما اقتربت من نهايتها، تذهب ابعد من أدواتي.
ان البذور التي ظهرت، قبل أربعة أو خمسة مليارات سنة، بعد ان انفصلت الشمس، واستقلت بكيانها، عن قلب المجموعة، أجدها مازالت تومض في ّ، فأعيد للضوء، وغيابه، وللحرارة وللبرودة، وللريح، وللإشعاعات اللا محدودة، المرئية واللا مرئية، وللجاذبية، والمديات، والأثير، والكوزرات، والثقوب البيض، بعد السود...الخ موقعها مع هذا (الوعي) وانعكاساته في الأدوات: الأختام.
الم نخرج من جحيم الشمس، بمعنى، الم ْ تطهر الشمس مكونات البذرة، كي يغدو الوعي المادي مفتاحا ً للباب الذي سيبقى ـ مع قفله ـ خارج قدراتي...؟ فأي وعي (مادي) هذا صنعت ملامحه وقد كشف عن فجواته..؟ فانا لم اختر، في نهاية المطاف، لا الشمس، ولا الظلمات، وأنا لم اختر ظلي، ولا الغاية التي ُيخّيل إلي ّ أنني أسعى إليها، فانا وجدت حضوري مكبلا ً بالغياب. ثم اكتشف ان هذا النسق من الوعي، لا يمكن فصله عن النظام الهرمي، ولا عن بزوغ مشهد الاشتباك العنيد الذي منح الأقوى مزيدا ً من قدرة تدمير الآخر، لديمومة فرضت شروطها واليات تحولاتها، انقراضها وانبثاقها، كي المح ان تصوراتي ما هي إلا نتيجة هذه العوامل. فانا أدرك ان بذور الخلق خرجت من الجحيم، من الفرن، وقذفت في الفضاء، كي تستحيل إلى تأملات. لكن الشمس برمتها ليست إلا بذرة، والمجرة، ما ان أراها عن مسافة مناسبة، ليست إلا حبة رمل، بين رمال ذات نسق شبيه بما يحدث عند تكون (ختم): بذرة حياة تتوحد عناصرها بما يحدث في أية برمجة للعقول الآلية ـ الكومبيوتر. على ان أكثر هذه العقول تقدما ً، عند بلوغه درجة التفكير الذاتي، وحفظ مكوناته، لن يقارن بما سأبقى منشغلا ً فيه.
فها أنا، كلما حفرت في المشهد، انغلق علي ّ الفضاء بأبديته! وكلما بلغت حدا ً من حدود الأخيرة، أجد المفتاح دار في القفل، ودحض هذه الاحتمالات، عدا: ديمومتها. وها أنا أرى الموجودات برمتها وقد قيدت إلى النظام الذي حاولت ان أجد فسحة ما لفهم حضوري فيه مبررا ً كي اخمد نيران الفرن! حقا ً، استطيع ان أفسر لماذا كان أسلافي قد صنعوا من الشمس، رمزا ً، مثلما، للظلمة، وتركوا ارثهم لنا، لا يدحض إلا بإضافات تماثله: فليست درجات حرارة الشمس، مقارنة بنجوم أخرى، سوى حقبة جليدية!
[12] المستقبل ممتدا ً/ منغلقا ً بماضيه
فهل ختم الماضي مستقبله، أم سيجرجر المستقبل ماضيه، كي يكمله، حد استحالة العثور على نهاية عدا ما يغذي ديمومة الاشتباك: فتارة ينتصر الماضي كي يأخذ موقعه في المقدمة، ليكمل دورته، على حساب الآخر، وتارة، بحسب الاشتباك، يطيح الأخير بالأول، ليغدوا منتصرا ً!
كأن نمو العالم لم يحدث قط، لا على حساب الموجودات، ولا على حساب الأشياء ذاتها، بل على حساب التطور. لأن نمو التقنيات تجد تصوّرا ً مفاده ان تقدم الماضي يغلق الطريق على تقدم المستقبل، وهذا يعني انه بالنسبة للتقدم في المستقبل لم يبق في جميع الأحوال سوى هامش ليس إلا جزءا ً، بل هو جزء صغير من مسيرة التقدم السابقة.* لكن هذا محض إحباط أو هزيمة ولدتها الحالات الاستثنائية للاضطراب، إن كان اقتصاديا ً أو لأن مسيرة الإنسان لم تثمر عدا المزيد من تدمير شروط الحياة ذاتها، ذلك لأن تخيل وجود بلا معنى ـ بالمعنى المطلق ـ لا يدحض الموقف ألدهري، أو ألعدمي فحسب، بل يشاطر المؤمن بالنتائج ذاتها: ديمومة الاشتباك! فالمؤمن بروح شجرة، أو صخرة، أو الذي بلغ الذروة في الصفاء، أو في الاتحاد، أو في السكر، أو في الفناء ...الخ جميعا ً لا يعبرون إلا عن حدودهم، فيما حدود المعنى ـ معنى الإله وليس الإله الكلمة ـ فهو، كما قال الحكيم السومري: ابعد من ان يكون بعيدا ً؛ أي ابعد من التصوّرات، ومن أدوات التعبير...الخ إنما، ـ ربما ـ للصمت مداه الذي طهر الضجات، وصهر مقدماته بالنهايات!
وهل لمخلوق سكن أيا ً من هذه الفرضيات (الاحتمالات) ان يدرك، في الأخير، انه لاذ بجحيمه، ولكنه، لرهافته، لم يحتمل ان يرى ما لم يدونه (دانتي) في جحيمه، قد أصبح نزهة مشفرة بترليونات الجينات العاملة على إدامة كل هذا الذي يراه يتضرع بالحفاظ على قليل من زمن العفن ـ زمن التراب ـ والشمس! هل لهذا المخلوق، في الأخير، إلا ان يحصي طرق العبث بالمصائر، وليس لديه إلا جسده ـ وما سكن هذا الجسد ـ يراه غير منفصل عن المكونات التي كونت حضوره، بالية لن تسمح للمصادفة إلا ان تأخذ موقعها في التتابع، حيث الصفر، وحده، غير قابل للإدراك! هل لهذا المخلوق ان يقول: مسؤوليتي، في الأخير، تقع خارج المحاسبة؟ لا لأن القسوة اقل جوراً من الرحمة، بل لأن الأخيرة لم ْ تترك غواية إلا ومنحتها للشقي ان يواصل السير نحو الخاتمة التي وحده أدرك ان مقدماتها ليست من صنعه، وان ما دونه، ليس إلا ممرا ً لم يغلقه، ولكنه، في أي احتمال من هذه الاحتمالات، لم يكن فائضا ً خارج هذا الاشتباك!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يقول دوبريه: " محتوى قانون حد النمو التقني ـ الاقتصادي إنما هو في واقعه ان تقدم الماضي يغلق الطريق على تقم المستقبل وذلك يعني انه بالنسبة للتقدم في المستقبل لم يبق في جميع الأحوال سوى هامش ليس إلا جزءا ً بل هو جزء صغير من مسيرة التقدم السابقة" انظر: [التنمية صفر] ريموند ريشنباخ/ سيلفن اورفر. ترجمة: سهام الشريف. وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق 1978 ص48
[13] فجوات
عندما تستحيل الحلول إلى مستحيلات، وفي مقدمتها: ان يكون الفنان، هو نفسه، متطابقا ً مع القناعات التي يستطيع ان يعدلها، يحذفها، يهدمها، ويشرع ببناء إضافات يستمدها من الخبرة البشرية، فانه سيتعثر حتى في اختيار شروط بناء هويته: توقيعه ككائن غير مزور، مشبوه، وغير مهدد بالطرد من الحياة برمتها. إنها الفجوة تتسع طالما إنها قائمة على الشك، وتعقيدات الاندماج في عالم تكونه غالبية مازالت تعيش في عصر ما قبل اكتشاف النار.
أنا لم استخدم كلمة (مقدس) بصفتها منزّلة، غير قابلة للدحض، وأبدية، بل ذكرتها أحيانا ً بصفها احد المعايير التي تجعل الحياة محتملة، كاحترام الوصايا، من عدم القتل إلى عدم السرقة، ومن عدم الغش إلى عدم التزوير، والتشهير، وكل سلوك يتنافى مع الرفعة، والجمال، وبهذا المعنى، في الأعماق، كانت لدي ّ صلابة منحت عزلتي مبرراتها، وعنادها أيضا ً.
وكي لا تذهب إشارتي من غير تدقيق، فما قبل اكتشاف النار، تعني: ما قبل اختراعها. فالنار ـ وهي ليست مقدسة بصفتها جزء من الشمس، أو لأن شمسنا جزء من المجرة ..الخ ـ لم تعد إلا أداة للانتقال من تحكم الطبيعة بمصائرنا إلى تحكمنا في صياغة هذه المصائر. هو ذا الفارق بين المكتشف والمخترع، فالأخير، يصنع اختراعه المتضمن عمل المكتشف، والمغامر، والباحث عن عدم تحوله إلى رقم أو إشارة. وهي مسافة الألف عام بين العصر الذهبي لبغداد، والعالم الذي ولدت فيه، وهي المسافة ذاتها بين هذا العالم وما رسخته أوروبا من معايير. لهذا واجهت مشروعات التحديث ـ وبدءا ً بحملة نابليون على مصر 1789، ومنذ أصبح الشرق غابة تصطاد أوروبا طرائدها فيه ـ عقبات يخيّل إلي إنها ستبقى غير قابلة للردم، إلا باكتمال دورة ما من دورات الاشتباك.
إنها المسافة أو الفجوة التي ستدفع بالصراع إلى ديمومة: الهوة العسكرية/ والخطاب المعرفي/ مع تراكمات رؤوس الأموال...، في معالجة مصائر مخلوقات لا تمتلك إلا ان تحدق مذعورة، مستسلمة تارة، ومتفجرة حد الانتحار تارة أخرى.
فهل باستطاعتي ان احدد، بهدوء، وآمان، ودقة، وصدق، من أكون ...؟ ومن هو (أنا) لا إزاء بنية الصراع ومساحته، أو إزاء واقع ما قبل النار، بل إزاء المجهول!
وأنا مادمت لم أجمد، ولم اخسر عمل أصابعي، وما تبقى من عقلي، فانا لا أدعو ـ مع نفسي ـ لترك الهزيمة تجد مأواها في عيني، وفي ضميري، وفي ما أدهشني وأنا اقدر كم هذا الشرق عنيد، وسيسهم، بعد اكتمال دورة (الحداثة وما بعدها ـ العولمة)، لأن هذا الإنسان وحده لا نجده وحيد البصر، ووحيد الدرب، فيما مازلت افكك كل قناعة بدت لي راسخة، تحت لهب ومضات أسهم بجعلها تقاوم التصالح مع الموت، أو مع الظلمات!
[14] عتمة وومضات
في حوار جرى بين اندريه مالرو وبين ماو، زعيم الصين العظيم، دار حول تجربتهما، وخبرتهما، وآمالهما، وخيبتهما، كي يعترفان، ببساطة، بالصعوبات التي واجهتهما حد أنهما شعرا بالخيبة في فهم قضايا كثيرة، في الحياة، ذكر ماو انه لم يفهم الشعب الصيني! وذكر انه بدأ حياته معلما ً، وكان يود لو لم يتخل عنها! ماو .. لم يفهم شعبه! ومالرو كان يتمنى لو عمل معلما ً أيضا ً! فهل باستطاعتي ان اجري حوارا ً مع كائنات لا تعمل إلا عمل الصياد إزاء الطرائد: تمزيق الآخر! أو تركه وليمة لمناسبات قادمة! إنني اشعر بما هو أعمق من الإحباط، أو الآثم، أو الشرود، وأنا أمحو ذكر أسماء لا تحصى لم تجرحني حسب، بل حفرت لمصيرها مدفنا ً بلا علامات، عدا ما لا يقارن إلا بما يصنعه المرضى، والشواذ.
قطعا ً هناك مئات من الذين ذاقوا هذا العقاب، وبأشكال مختلفة، من القبول بالسجن، أو النفي، أو الانتحار، أو الوقوف بصلابة أمام حبال الموت، وهم ومضات صاغت، في أعماقي، وهم وغواية المعنى الذي لا مسافة بينه وبين نقيضه، وأنا أتتبع أصابعي في مقاومة الوهن، أو في التحول إلى: صياد!
وها أنا أعيد قراءة آخر عبارات (يونغ) التي دونها في نهاية تجربته: " أحس بخيبة الأمل من الناس كما في نفسي. تعلمت أشياء عجيبة من الناس، وحققت أكثر مما كنت أتوقع من نفسي. ولا استطيع ان أعطي حكما ً نهائيا ً لأن ظاهرة الحياة نفسها، وظاهرة الإنسان، لهي من السعة بحيث اعجز أمامها. وكلما تقدم بي العمر قل فهمي وتبصري ومعرفتي بنفسي"!* معترفا ً، بعد بضعة اسطر "أني موجود على أساس شيء لا اعرفه" ليعادلها بالتكملة المنطقة " ورغم كل الشكوك، أحس بالصلابة التي يقف عليها كل الوجود ..." مدوّنا ً في الأخير: " وكلما زاد إحساسي بعدم اليقين، كبر لدي ّ الإحساس بالقرابة مع جميع الأشياء. ويبدو كما لو ان التقرب الذي عزلني عن العالم، قد انتقل إلى عالمي الداخلي، وكشف لي غربة غير متوقعة عن نفسي"!
ومن قرأ مراثي بلاد سومر، ومراثي أكد، وما دوّنه حكماء الأزمنة السحيقة في بابل، لا يجد جديدا ً قط في هذه الومضات. فالعدالة شغلت إنسان وادي الرافدين، في مواجهة التعسف، وفي محاولة للعثور على توازنات بين الأضداد.. فولدت أقدم الشرائع، ثم اكتملت في مسلة حمورابي العظيم.
ومن يعيد قراءة المعلقات، وآلاف النصوص التي دونها الحكماء العرب، في العصور الذهبية، أو في حتى في حقب الارتداد، والاضمحلال، يجد ما ذكره ماو، أو يونغ، أو اندريه مالرو، حاضرا ً في تتبع مسارات المحنة ذاتها، بما فيها من آليات تخص الوعي بمكوناته، حد ان المعري اظهر تعجبه لمن يطلب المزيد من اللا جدوى ـ اللا معنى، الذي سيشكل محفزا ً لديمومة كل هذا الذي، في لمحة، يحافظ على استحالة وجوده!
* كارل غوستاف يونغ [ذكريات، أحلام وتأملات] ترجمة: ناصرة السعدون. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 2001 ص 345 ويذكر أيضا ً: " أني موجود على أساس شيء لا اعرفه. ورغم كل الشكوك، أحس بالصلابة التي يقف عليها كل الوجود والاستمرارية لنمطي في الحياة"
[15] لغز الصفر ـ لغز الفراغ ـ لغز ديمومة الامتداد
لست مؤهلا ً للحديث عن آليات عمل الدماغ، ومدى قدرته على أداء دوره في حماية: النوع ـ وفي حماية الفرد، وقدراته في استحداث البدائل. ولست مؤهلا ً للدخول في جدل ما اذا كانت الإجابات، عبر اللغة ومشفراتها، وعبر باقي الدفاعات، والوسائل، تمتلك قدرة تحديد غائية (الحياة)، وتحديد دور (الوعي) في هذه الغائية، أم ان (الدماغ)،هو الآخر، لا يمتلك إلا ان يكون جزءا ً من كل، تستحيل تفكيك لغز نشأته ـ وعمله ـ وما يسعى إليه!
إنما أجد أنني عندما أفكر في ما املكه من (وعي)، امتلك مراقبا ً له، يعترض عليه، فيعمل كأنه يستحدث مسارات مستقلة، وربما مستحدثة تماما ً.
إنها ليست ازدواجية، كالتي عبر عنها دستويفسكي في المزدوج، ولا هي محاولة لرسم الخط الفاصل بين الرحمن والشيطان، في المثنويات، وفي تحديد الاختيار إزاءهما، ولا هي الصراع بين (الأنا) والآخر، من اجل ما يسمى بالجوهر ـ أو الكينونة، بل أكاد اصدق ان يدا ً ما خفية تحافظ على عملها في ديمومة هذا: الذي لا يدوم!
في أسى عميق استعيد تصوّرات الحكيم (ماني) إزاء ما يقذف فوق رؤوسنا من مزابل المواعظ ونفايات الفضائيات المستأجرة لمحو آخر ما تبقى في الإنسان من نبل، وكرامة، ـ استعيد بحزن تصوراته ـ وهو الذي زعم انه كتب عشرة كتب أملاها عليه الوحي ـ بديمومة (الشر/ الظلام)، عبر حمل المرأة للمفهوم ديمومة الصراع، وهو الصراع الذي لن يفضى إلى خاتمة فيها ما يعادلها مع مقدماتها: الاشتباك بين ظلام وضوء، بين معدم ومتخم، بين فاقد للمعرفة وآخر إلا عبر ديمومة التقسيمات الاجتماعية، من العصر البدائي إلى عصر ظهور الطبقات، ومن عصر البرية إلى عصر المدن، والأنفاق، والغرف، والزنزانات، ومن الغذاء العفوي إلى كيمياء الطعام المستحدث، بدءا ً بوسائل الإنتاج، وصولا ً إلى التصوّرات أو ما سيسمى بالمذاهب، والمعتقدات، والأيديولوجيات؛ أي من الرأس إلى القاعدة: أسى لا أجد عقارا ً له يوازي صفائي وأنا استغني عن الغوايات، واصعد حيث المسافات تتجمع في لغز الصفر، واكتم أو ادفن ما دفنته دفنا ً باحتفال شارد، ومن غير ضجيج.
على ان المسيرة الشاقة، المنهكة، والطويلة التي أفضت ببزوغ (الدماغ) سمحت للانسان ان يبحث عن قناعات لا تتقاطع مع مبدأ وجوده الملغز: الوجود وقد بلغ ذروته في دفع العلل إلى العلة المكتفية بذاتها، الأقرب إلى مقولة عمانوئيل كانت: الشيء في ذاته.
فالثالوث الواقعي للمسيرة البشرية ـ المنحدرة من الصراع الغامض للخلايا في الحفاظ على بقائها ـ صاغ رمزا ً لها تمثلت فيه المعطيات الواقعية: تراكم العمل، وما يؤديه الإنسان بفعل تزايد قدراته في استخدام القوة، والعنف، واستثمارها بطرق دبلوماسية، ماكرة أو متسمة بالمكر والذكاء، إلى جانب الجدل، والحوار، ودور وسائلهما في الحفاظ على الرموز، وقد بلغت ذروتها في: الشيء في ذاته ـ المشفر، والمقدس، في ديمومة الاشتباك، وليس بتعديله، أو دحضه.
فالرمز، للوهلة الأولى، لا يمكن عزله عن هذا الثالوث، لأن الواقعي لا يمكن ان يكون إلا نتيجة تصوّراته. على ان الأخيرة، كالمال ـ بصفته قيمة تجريدية خالصة ـ سيؤدي دورا ً معقدا ً في الحفاظ على صلاتها بالمحركات. هكذا سيعمل الثالوث ببناء الثابت، لأن النتيجة الحتمية للصراع، ستفضي لا إلى اختراع (المقدس) بل إلى حتمية أو ضرورة وجوده.
لكنني لست منشغلا ً كثيرا ً بعدالة نظام لا امتلك إلا ان أغض النظر عنه، فلماذا تتراكم الثروات لدى الصانع لخطابه على حساب صانعي تلك الثروات...؟ ولماذا يمتلك الصراع مقوماته على حساب تصنيفات غير عادلة للعدالة؟
ان هذا لا يجري في (دماغي) حسب، فانا لا أعاني من خلل رغبات متراكمة في هذا (الدماغ)، إنما تاريخ الحياة برمته لا يفضي إلى قناعة تسمح ـ بالحد الأدنى ـ للقبول أو التطابق. انه إرغام الوعي للانضواء تحت آليات يدرك الوعي إنها قهرية! فهل ثمة (عقدة) ما بالإمكان تفكيكها، وإعادتها إلى أصولها، تقود إلى منطق لا يتضمن نقيضه...؟
اريك فروم يلفت النظر، في حديثه عن المسافة بين الدوافع والتصوّرات إلى: " فمع ان تعاليم يسوع لا تزال جزءا ً من أيديولوجيتنا الأخلاقية، فالإنسان الذي يتصرف وفقا ً لها يعد عموما ً مغفلا ً أو "عصابيا ً" ومن ثم لا يزال الكثيرون من الناس يبررّون دوافعهم الكريمة بأنه تحرضّها المصلحة الذاتية" * على ان تعاليم يسوع، في الأخير، كالتعاليم الأخرى، تنتهي عند المركز: ديمومة ديالكتيك النهايات بمقدماتها، والتي منحت التصادمات شرعيتها، وأصولها، ورموزها، وكأنها ليست أبدية، ومطهّرة.
وها أنا أعود إلى: الصفر!
فانا لا امتلك إلا ان ـ بعيدا ً عما تعلن عنه الكلمات ـ اكتشف احد دوافع هذا (اللا مسمى) في تقنيات التدمير.
ثمة ما لا يحصى من الممرات جميعها ـ عدا استثناءات بندرة الشك بوجودها ـ تمتلك غواية ان يجرجر (الإنسان) إلى الهاوية: وحل الصراع وشراسته! بدءا ً بشروط الجسد، مرورا ً ببعض الغوايات، التسليات،، ولكن ليس انتهاء ً بالعقل ـ المنشغل بوضع ثوابت لهذا الذي يمسك بلغز الديمومة. فانا لا اخلط بين عمل الأعصاب وعمل النفس، وغير منشغل بأسبقية الوجود على الوعي أو الوعي بما يذهب إليه ...الخ فانا أجد حياتي، كنملة، تصير جسرا لعبور النمل، إنما لماذا لم اعد امتلك غوايات تسمح لي بتذوق حتى مرارات ـ أو حلاوات ـ لذّات لا أجدها تصلح ان تكون حتى عقابا ً!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* اريك فروم [تشريح التدميرية البشرية] الجزء الأول. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. منشورات وزارة الثقافة السورية. دمشق 2006 ـ ص148
[16] فواصل، فجوات ووحدة
فهل كنت أحاور (نفسي): أي هذا الذي يمثل ذاتي، أو الأنا الأعلى، والذي لا استطيع ان أتخلى عنه، بعد ان توارى الآخر، أم أنني لا امثل إلا ذلك التتابع لبرمجيات يصعب الفكاك منها، حتى عندما أقوم بتفكيكها، والتخلي عنها، ومغادرتها...؟
من هذا الذي استطيع محاورته، والإصغاء إليه، كي يسمح لي ان احجز أعضاء جسدي كاملة...، من غير آسف...؟ وهل عمل الفنان شبيه بعمل من تعلم كيف يخترع غوايات رمزية يؤديها لأجل الديمومة، أم مثل جنرال متقاعد لا عمل له إلا ان يحافظ على ماضيه ممتدا ً ...؟
هذا الذي هو من صنع الأصابع و(الدماغ)، هذا (الوعي) الذي راح يصغي إلى آخر يتتبع مسيرته، وخطاه، ويعّدلهما باتجاه نهايات مغايرة لاتجاهات لا علاقة لها بالرموز، وبالإشباع الرمزي، وليس لها علاقة بالرهافة، والجماليات ...، فما ـ هي ـ ماهيته، كي اعزلها عن أي عمل آخر شبيه به ..؟
أم كان لرسامي الكهوف، في عزلهم، داخل ممرات تقود إلى حفر نائية، داخل كهوفهم، مخفية، معزولة، مموهة، كي تنتج آثارهم ومشفراتهم السحرية الخالصة...؟ ماذا قلت: الخالصة..وأنا أدرك تماما ًاستحالة وجود هذا الخالص...، لا الجمال، ولا البراءة، ولا غيرهما..!
فهل كنت، بدافع الديمومة أؤدي عملا ً رآه الآخر ـ القابع في الرأس/ أو خارجه ـ يتجانس مع مكونات كياني، وأنني كنت، منذ انشغل بصري بفضة الفجر، وبومضات النجوم النائية، وإشعاعات الشمس، ومباهج رذاذ أمطار شحيحة، وما تركته مياه الينابيع، والجداول، والأنهار من انجذاب لا يقاوم، قد وجدت في الفن ولعا ً ـ كالذي وجده المتصوف أو العاشق أو المنشغل بأوهامه إن كانت مجردة، أو واقعية حد الاستحالة رحت أشيّد حمايتي، بعيدا ً عن حقبة تحول الفن إلى أشياء، معترفا ً ـ بشرود شبيه بمن قاتل كي يمسك بالريح ـ أنني اخترت عملا ً غير ضار بأحد، وإنما، على العكس، ان يكون نافعا ً..!
كم أبدو متطابقا ً كمركز ضم لاحافاته إليه، وكأن علي ّ ان أؤدي دور: البذرة! وهو دور دودة القز في صناعتها للحرير، بموتها، ذلك لأنه لا حرية لدي ّ عدا حرية ان لا أكون حراً، كي يكون الختم، أو أي نص له هذا التجانس، قفلا ً يسمح لي بالعبور حيث لا أرى إلا وأنا قد أخفيت آلاف المنبهات، عدا أنني عملت ألا اشعر بالآسف، حتى وأنا أعود اسكن بيت من طلبني، في عمق الزمن: هذا الذي لا أبعاد له/ ولا مساحات/ ولا أجزاء، ولا حركة، ولا ثقل، ولا تاريخ، ولا .....، وقد تركته يصغي إلى غياب صوتي: اتبعني!*
* لعلي قمت بتجربة مماثلة، عام 1992، بكتابة نص حمل عنوان (الأوثان) علي ّ ان أعود إليه، كي اجري مقارنة أدق بين (الكتابة) و (الفن) مع أنني ـ كلما عدت إليه ـ أكاد اكتشف ان (الآخر) ـ النائي والمجهول ـ هو الذي أنجز العمل.
[17] الأخير في المقدمة
ربما ما هو أفدح من الموت، هو: الرحمة! * وليس الغفران، مع ان الأخير، لا يقل غموضا ً في لغز الوعي بالوجود ـ وبالوجود خارج نطاق الإدراك.
هل قلت كلمة تنتظر التأويل، أي بانتظار الدحض، والتدمير! وليس التفسير، والشرح..؟ لأنهما؛ الرحمة كبديل للموت لا وجود لها خارج النظام ذاته، مثلما لا موت إلا بصفته حال من الأحوال!
هنا تختلط التصورات، والمفاهيم، والكلمات، باستحالة عزل حد عن نقيضه. فأنا (أدوّن) للأسباب ذاتها التي ساجد نفسي فيها ملحقا ً ـ مثلما كنت ـ بالكلام: الصمت. لكن الأخير ليس شيئا ً في ذاته، مهما اكتسب الجلال ـ والطهارة، والتقديس. فالوجود لن يعزل عن دورته، مكملا ً ماضيه نحو الماضي المؤجل، إنما لا يجد الوعي إلا هذه الدفاعات: تارة الاستنجاد بالموت، وتارة طلب الرحمة. وفي الحالتين، كلما امتد به الزمن، توغل توغلا ً في المتاهة.
الا تخفي الرحمة مداها في ديمومة انتظار العقاب، بعد ان كان الموت قد نقل الوعي الى حسابه الخاص، خارج مشهد الحضور والغياب، أم ان هذا كله لا يحكي الا شيئا ً شبيها ً بعمل المشفرات؛ إنما من المستحيل الذهاب ابعد من حدودها الدنيا...؟ ام سيقال، مثلما أضع مصيري برمته في المسار ذاته، ليس لدينا الا ان نحافظ ـ ونحسن ـ موقعنا في الوجود...؟ لكن عندما لا مجال للمزيد من التحايل، والغواية، والانجذاب، والاستماتة في إظهار الحكمة ...الخ فأي معنى يجدر بنا ان نغادره...؟
وكأن الحياة لعبة محكمة بتفنيد هذا الذي أحيانا ً يوهمنا انه يمتلك سرها: سر حياة لا موت فيها ولا رحمة! آنذاك لا امتلك إلا ان ادع (ومضات) هذا الوعي تجد مدفنا ً لها كي تطلب الرحمة، تاركة الموت يأخذ دوره كما هو قانون الحياة: لا عدم من وجود، ولا وجود من غير عدم! كي اكتشف، في نهاية المطاف، ان الفراغ ليس الا درجة في الكثافة، وليس كلها!
• ربما ما هو أفدح من العدم، هو: الوجود!، لكن الأخير، من غير عدم، هو هذا الذي يذهب ابعد من ماضيه، وابعد من تسلسله المنطقي، كي يأخذ هيأة الأسرار، والملغزات، وكي تنتعش الميتافيزيقا، لكن على حساب عمل الرحمة وهي غير مكترثة بتكرار معاقبة ضحاياها، بحسب تصوراتنا الأسطورية.
[18] الرهان ـ الزوال وما بعده
ها أنا في الذروة: أقصى ما تريد اللغة ان تكتمه: الوضوح! لأنهما يتضمنان الميت والذي سيموت، والمنبثق والذي لا يمكن دفنه. فالنهار سكن المطلق، فهو ولد ببذور شيخوخته، وبشفرة دحضها، مثلما الليل، ما هو إلا نهار معتم! فبعد أزمنة طويلة ما الذي تريد اللغة ان تدوّنه، وليس ما الذي يريد الإنسان ان يعلنه. اللغة ـ الفن، وهما ملحقان بأدوات الجسد ـ الدماغ، أكثر ـ أو اقل ـ مما قيل في أول استغاثة، وفي أول نشوة، وفي أول دفن، وفي أول عيد ميلاد...يبحثان عن الذي بدده الإنسان في هذا الذي سيبقى وجوده منتظرا ً، وكأن ما أنجز وحده لا يمتلك إلا غواية زواله، ونشوة انبثاقه من الموت!
أتراني فكرت طويلا ً ان حدود التفكير، كحدود "الفرد" وكحدود دورة الإنسان ـ من العشيرة إلى الجماهير، ومن صيادي الغابات إلى مدراء الشركات عابرة القارات، شملت هذه الثنائية، وان المستحدث، في لغزه، شبيه بعصيان إبليس! وإلا كيف تنبثق مياه الينابيع صافية كي تلقى مصيرها، بعد مسارات طويلة، في المستنقعات! من ثم، ترتفع المياه نقية كي تتساقط وفرا ً ومطرا ًفي أعالي قمم الجبال...؟
دورات، وعادات، وهجرات، واشتباكات كوّنت تنوع الدوافع، مع انها، في نهاية الرحلة، شبيهة بجدلية المقدس والقطيع ـ الناس.
يقول بعض حكماء المعتقدات ان الإله، في اجتماعه المغلق، هو من أذن للشيطان بالحضور، كي يراهنه: ان أيوب ليس مثالا ً لصفاء ماء الينبوع، وانه سيجدف! فيقبل الإله الرهان ...! أنا لا أفكر بطريقة أسلافي، بل اذا كان الإله هو من أذن للشيطان بعقد هذه الصفقة، فمن الخاسر فيها، غير الإله نفسه!
لكن علي ّ ان ارجع إلى الأصول: فقد كان الاعتقاد السائد عند السومريين ان الآلهة خلقت البشر ليقوم بخدمتها: يخصها بالطاعة، والعبادة، ويقدم لها القرابين، ويبني لها المعابد، وينذر لها النذور ...، وكان الإنسان يطمع بالدرجة الأولى في ان تمنحه الآلهة مقابل تقواه وخشوعه وعبوديته، المعونة، والحماية، والسعادة في حياة كان يراها: تزول ـ وقائمة على الزوال...!
فإذا كانت الآلهة هي التي خلقت هذا الكون، فكيف أمكن اذا ً ان يولد الشر ويسود على الخير في حياة بعض الأتقياء ..؟ (1)
كان الجواب على هذا الانشغال، وأمثاله، من لدن (الكهنوت)، ان الآلهة نفسها لم تخل من صفات شريرة عندما اتبعت طريق العنف والبطش والخداع في خلال المراحل الأولى للخليقة. وكما يقول د. فاضل عبد الواحد علي في كتابه [من ألواح سومر إلى التوراة] فان عنصر الشر موجود في الآلهة وبالضرورة في البشر أيضا ً. حتى ان المثل السومري يلفت النظر إلى ذلك عندما ينص: لم تلد امرأة قط ابنا ً بريئا ً.
والمثال الذي سيتخذه أيوب رمزا ً لهذه الإشكالية، رجل اسمه (شيشي ـ مشري ـ شكان) عاش قبل ثلاثة آلاف عام قبل ميلاد يسوع، وقد امتاز بخشيته للالهة وبالتقوى وأداء الطقوس والإحسان إلى الناس، وانه احتل مناصب عالية في الدولة كما كانت له ثروة طائلة تتمثل بالحقول الزراعية والماشية والصيد.
لكن فجأة يتغير المشهد: فيتنكر له الدهر، بعد ان تركته الآلهة وحيدا ً لا معين له فاشتد عليه غضب سيده الملك وحنقه، وراح الطامعون من رجال الحاشية يحيكون له شتى أنواع المؤامرات للإطاحة به واحتلال مكانه. كما تنكر له الأصدقاء وكرهه الأصحاب وصار أهله يعاملونه وكأنه غريب بينهم، وبلغت به الحال درجة المذلة على يد عبيده:
[ لقد تخلى عني الهي واختفى
وخذلتني آلهتي وابتعدت عني
وفارقني الملاك الصالح الذي كان يلازمني
والروح حارستي لاذت بالفرار قاصدة غيري
ذهبت قوتي ووهنت رجولتي
راحت هيبتي وولت منعتي
فأل مخيف يحدق بي من كل جانب]
هذا الرجل الذي اسمه (شيشي ـ مشري ـ شكان) يصبح شبيها بالصورة التي حفظتها لنا التوراة عن أيوب الذي كان هو الآخر "كاملا ً ومستقيما ً يتقي الله ويحيد عن الشر" والذي كان مثل نظيره البابلي ميسور الحال، فقد " كانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم ومائة ألف جمل وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان .." غير ان أيوب، هو الآخر، سرعان ما أصابه الشر على يد الشيطان، إذ فقد وبصورة مفاجئة كل ما بحوزته من ممتلكات: أغنامه وجماله وأبقاره وحتى أهله!
ولنتأمل النص البابلي ـ السومري، بما أعلن عنه، كي نعيد قراءته بعد هذه القرون:
[شرك يوضع على فمي
مزلاج يغلق شفتي
سُد (بابي) وقُطع (موردي)
طال جوعي واكتم صوتي
قبري نتن الرائجة
اجل: لقد طالت بلواي
وتغير وجهي لقلة الطعام
وترهل لحمي وانحسر دمي
تفككت عظامي وهي لا يكسوها سوى جلدي
التهبت أنسجتي وأصابها المرض
إنني ألازم سرير العبودية، فالخروج عذابّ
لقد صار بيتي سدني:
شلل يدي ّ يغل بدني
عرج قدمي يقيدني
أحزاني مؤلمة وجرحي بليغ
سوط يطرحني أرضا ً، الضربة شديدة
رمح يطعنني، مهماز صارم
ومعذبي يريني صنوف العذاب طوال النهار
.....]
كي يقول أخيرا ً:
[ لقد انتهت المناحة حتى قبل ان أموت]
فأتذكر، قبل عشرين عاما ً كتبت، نصا ً تدّب فيه مشفرات سلفي، ان الميت، في موته، يشيع الجميع!
أما العذاب الذي لاقاه أيوب، الشبيه بعذاب العادل المعذب، في القصيدة البابلية ـ السومرية (العدالة الإلهية) فلا تخفي الإشكالية ذاتها:
[وخرج الشيطان من حضره الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته فاخذ لنفسه شقفة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته أنت متمسك بكمالك. بارك الله رمت. فقال لها تتكلمين كلاما ً كإحدى الجاهلات. الخير نقبل من عند الله والشر لا قبل. في كل هذا لم يخطيء أيوب بشفتيه]
كي يأتي التأويل الكهنوتي السومري ـ البابلي بالنتيجة ذاتها لمصير أيوب. فالإقرار بالعدالة الإلهية يحتم على الإنسان ان يصبر ويصابر اذا ما أصابه الشر لأن الآلهة ستنقذه في نهاية الأمر لا محالة.
انه الامتحان! على انه، في عالمنا، لم يعد محكما ً. فالشيطان لم يعص عن فراغ، أو من تلقاء ذاته، غرورا ً، بل لا بد انه تلقى إشارة ما للعصيان! لكن هل كان (الشيطان) يدرك انه لن يربح، وهو ينزل شتى أفعال الشر بالبشر ـ ومنهم أيوب ـ إلا خسائره! قد يكون ادم خدع بالغواية من لدن الضلع المعوج الذي هو حواء ـ امرأته، لكن ان يقبل الشيطان فعل الشر، بانتظار المعاقبة، فإنها تلفت النظر إلى ان الأخير، كان أكثر يقينا ً إنها ليست إرادته في صنع الشر، وإنما بإيحاء من الآلهة.
لهذا عندما سأل ادم الشيطان: لماذا أغويتني..؟ أجابه: وأنا من أغواني...؟
لا مجال لاستئناف قضية سابقة على اللغة، ولكنها ما دامت لا تتجاوز ما تريد اللغة ان تقوله، فان الحرية الوحيدة التي اختارها الشيطان هي وحدها التي كان لا يريد اختيارها، وإلا ما لغز دافع العصيان لو كان اختيارا ً خارج الإرادة الإلهية...؟
هنا، ضاع الإنسان! ليس الفرد ـ النخبوي ـ الصياد، أو الأمير، أو الملك، بل النمل، وهو يعيد سرد النسق ذاته الذي تلقاه الأشياء ـ العناصر ـ وصولا ً إلى من دبت فيه ومضات الحياة. إن الآلهة تروي حكايتها عبر راو ٍ، بحدود أصابعه، ودماغه، وما يمتلك من مخفيات، رواية مداها محكوم بزمن زوالها ـ انبثاقها. فهي ـ ككل ختم ـ تريد ان تقول شيئا ً لا يمكن ان يقال، ولكن لا يمكن تجاهله، كأن (المعصية) في لغزها، شفرة قداس تجعل الوعي، مهما بلغ ذروته، لن يغادر تضرعه بالغفران ـ وربما ـ ان اجتاز الشر والخير ـ طلب الرحمة، وان اجتاز الأخيرة، فليس ثمة إلا الرجاء بالموت!
1 ـ د. فاضل عبد الواحد علي [من ألواح سومر إلى التوراة] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1989 المبحث الثالث عشر(صبر أيوب) والاستشهادات جميعها من النص المذكور.
[19] الراسخ متحولا ً
اذا ً هي واحدة من آليات عمل البرمجة التي حافظت على ديمومة الاشتباك، وسلاسل التحديات: الطبيعة/ الزمن/ والإنسان، وصولا ً إلى الذات، بعجزها عن تحقيق إلا ما اندمج في المشهد الكلي للصراع. فالمنتصر الوحيد، بحسب مراقبة الوعي، هو هذا الذي منح الهزيمة غواية البقاء! لأن المنتصر الذي لا يمشي إلا في جنازته، يمضي من غير حساب؛ أمم تمحو أخرى، وقبائل تسحق جارتها، وطائفة تجتث من بجوارها، تارة باسم الآلهة، وتارة باسم العدالة، وأخرى باسم الحرية، إنما بعد ان يطوي لزمن الأسباب، تنبثق من الرماد، شرارة الحريق مرة أخرى.
وعندما يغدو من المستحيل تفكيك هذه الآلية، والتعرف على العلة السابقة على العلل، فان الشاهد ليس لديه إلا ان يترك أثره، أختامه، علاماته، أوكل ما يدل على انه عاش زمن زواله ـ أو لمح بعضا ً منه، بحدود لوعته وصبره، إنما بلغز جبروت الزوال، وعلاماته!
[20] ما قبل الريح ـ والغفران
هكذا ـ بشرود المنهمك بالعمل، وبلذّة صفاء المتأمل، احمل معي، كما فعل أسلافي في أعالي الفرات، قبل آلاف السنين، وفي الحقب المتعاقبة، أختامي؛ كقلائد، أو أساور، أو كأقراط، ودمى، وكسر ...الخ إلى الأرض: فراغ يتسع لمشاهدة كائنات اسمعها، واراها، واحدس ما ستعيد روايته، كي امسك بمساحة الحياة حتى ذروتها. فأنا لم يدر بخلدي قط أنني خسرت شيئا ً، كي أتأسف، أو أتبادل الأسف مع هذا الذي مد أصابعي بدينامية اجتياز الفراغات، وان اختار مساحة بحدود جسدي، فوق نسيج شبيه برقة عش من أعشاش الطيور، إنما لم اعد مكترثا ً ان كنت سأنهض غدا ً، لرؤية أشعة الشمس، أو المشي تحت المطر لاستعادة ابتسامة حبيبة غابت في قارة من القارات، أو رؤية حفيدي (علي) وهو يمسك بالقلم ليضع برقة اثر أنامله فوق الورق وهو الذي طالما كنت فعلته في ذات يوم، وأنا في عمره، أو أنني ـ كما كنت سالت أستاذي كاظم حيدر قبل رحيله بأيام ـ هل تمتلك تصورا ً ما للذي ستراه بعد الموت، أشكالا ً أو معاقبة أو ثناءً..؟ إنما لم أكن ـ مع هذا الذي يراقبني ـ أسعى للتراجع، ولكن في الوقت نفسه، وباليات هذه البرمجة، لم أتردد من الاعتراف بما يفوق الموت، إن كان بمصاف المجهول، أو عبر هذا الذي لم تعد لديه خسائر إضافية يخسرها، فقد عثرت على هذا المأوى، السابق على الريح، والسابق على الغفران!
24/11/ 201
1
فأعيد قراءة عبارة ليونغ، وهو يفكك وهم القناات الهشة، ولكنه ـ مثلي ـ لن يغادر حدود اللغة: "كان لدي ّ إحساس أني قطعة من التاريخ، مقطع ينقصه ما يسبقه وما يليه. بدت لي حياتي وكأنها منتزعة من سلسلة طويلة من الأحداث، وظل العديد من الأسئلة دون إجابات" (1)
انها ليست بطولة، ولا فتحاً، ان يمجد الغريق خشبة لامست أصابعه الواهنة، كي ينجو من الغرق، ولكنني، في تلك اللحظات، لم يغب عني ان (الأرض) و (المجموعة الشمسية، والمجرة) ما هي إلا بذور بحجم لا مرئيات الأجزاء المكونة لوجود لست إلا من وجد حياته، وفق هذا النظام، يبحث عن قشة فيه لإدامة لحظات ـ وأبدية الغرق.
كان إيمان شاكر حسن، أستاذي وصديقي، شبيه بما تتمتع به الأشجار، والصخور، الأقرب إلى إيمان يونغ، باستحالة القبول بالصفر! بمعنى ان ما أراه ـ بحسب النص الديني ـ لا يحدث من غير أسباب، ودلالة، إنما علي ّ ان ابلغ لحظة المؤن: النرفانا، وهي لحظة فناء المتصوف، العاشق، ولكن فجأة اكتشف انها لا تختلف عن حال الشخص المصاب بـ (النكروفيليا): أي، الانجذاب العاطفي إلى كل ما هو ميت، ومتفسّخ، ومتعفّن، وسقيم، إنها الشغف بتحويل ما هو حي إلى شيء غير حي؛ وبالتدمير من اجل التدمير؛ والاهتمام ألحصري بما هو ميكانيكي خالص. وهي الشغف بتفكيك كل البنى الحية" (2) كما يحلل اريك فروم هذه النزعة لدي أكثر قادة الشعوب مرضا ً، في رسم مشهد الخراب، والموت. حيث هؤلاء الزعماء يشتغلون باجتثاث بعضهم للبعض الآخر بلذّات مرضية يذهب ضحيتها ملايين الأبرياء. أي ان هؤلاء الذين يختارون خلاصهم، لا يختارون إلا العماء عما يجري في معسكرات الموت، أو ما تحدثه أسلحة الدمار، والصواريخ عابرة القارات، وآثار الإشعاعات في المخلوقات كافة، وفي الطبيعة، فليس ثمة أي احترام لا للإنسان ولا للطبيعة (الايكولوجيا).(3)
يا له من موقف يتأسس على المفارقة: تنقذ حياتك كي تديم زمن تأمل مشاهدة ما يحدث للناس من حولك، ولملايين المخلوقات، والكائنات الحية! لذّة مزدوجة، لاواعية، تعيد تقسيم المخلوقات إلى: مفترسة، وأخرى لا تجد ملاذا ً للفرار من قسوة النوع البشري، وقد أهملت الوصايا، والمثل، تحت ذريعة: من ليس معنا فلا يستحق إلا ان يدفن حيا ً، أو ينكل به حد الموت. فهل ثمة معنى لكلمة السيد المسيح: أحب جارك كما تحب نفسك! في عالم لا يختلف عما يجري في أي اشتباك يقع بين النمل الأبيض وهو يهاجم خلايا النحل..؟ لقد تأملت المشهد بفضول (آلي/ تأملي/ فلسفي) لكن من ذا يدحض أنني لم أكن أتلذذ برؤية حياة تنتهك، تدمر، وتزول! كي أدرك، في الوقت نفسه، أنني انتهك، كما ينتهك جسد الغزال بين أنياب لبوة جائعة، أو بين فكي تمساح، لكن مصيري ينتهك من لدن النوع الذي وجدت نفسي عضوا ً فيه!
انها محنة أنني كلما لذت بدرب، لا أجد في خلاصي، حتى لو سكنت كوكبا ً خارج مجرتنا، إلا ما يفعله النمل وهو يقضم، ويسحق، ويقضم أجساد النحل، لذّة غواية كائنات وجدت نفسها مفترسة، ثم انها وجدت نفسها لا تستطيع ان تعدل دوافعها، وبنيتها، بعد ذلك، ولا ترى شيئا ً يذكر، فقد اختفت مملكة النمل، كما أتخيل غياب سكان أسيا، وأوروبا، والقارات كافة، من الوجود، وقد تحولنا جميعا ً، عشاق الموت، وعشاق الحدائق، اليمين واليسار، الأشد ثراء ً والأكثر فقرا ً، إلى جزئيات لا مرئية في المختبر الكوني! فاترك أصابعي تدثرني بالدخان والبرد، وأنا أراها تحدق في ّ!
* عندما كلفتي الشاعرة أمل الجبوري بمسؤولية البرنامج الثقافي لـ (ديوان شرق ـ غرب) في بغداد، عام 2005، كان هناك شابا ً يافعا ً، وأنيقا ً، يعمل معنا، اسمه: نصر. فقلت له: أنت النصر الوحيد الذي أكاد أراه من غير خسائر!
1 ـ كارل غوستاف يونغ [ذكريات، أحلام وتأملات] ترجمة: ناصرة السعدون. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد. 2001 ص285
2 ـ اريك فروم [تشريح التدميرية البشرية) الجزء الأول. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. وزارة الثقافة السورية. 2006 ـ ص 15. وقد عبر ف.ت.مارتنتي عن روح النكروفيليا اول مرة في شكل أدبي في عمله "البيان المستقبلي) عام 1909، والميل نفسه يمكن ان نراه في الكثير من الأعمال الفنية والأدبية التي تصوّر الافتتان الخاص بكل ما هو مضمحل، وغير حي، وتدميري، وميكانيكي. والشعار الذي رفعته "الكتائب" في أسبانيا عام 1934: (يحيا الموت) يهددّ بان يصبح المبدأ السري لمجتمع يشكّل فيه قهر الطبيعة بالآلة المعنى ألصميمي للتقدم، وحيث يصبح الشخص الحي ملحقا ً بالآلة ـ. المصدر نفسه ـ ص47 ـ 48
3 ـ يكرس الفنان علي النجار معرضه الجديد : ضد اليورانيوم، وما أحدثه من أذى بالغ في ملايين العراقيين خلال الغزو على العراق منذ 2003، بعد ان كان الفنان قد ذاق لوعته قبل عقدين.
[11] بذور وإشعاعات ـ ديمومة اللغز
إنما في بذور الشمس، القادمة من (فرن) يقع على بعد 8 دقائق ضوئية، وهي المسافة التي أصل إليها في جزء من مليار جزء من الثانية، أكون أنا في الفرن، منصهرا ً، وقد استحال وجودي إلى أثير، ثم أغادر نحو الفضاءات، كي استقر، مع إشعاعات أخرى، في الأرض!
ان احد عوامل تمهيدات ظهور بذور الخلق، إلى جانب العوامل التي لا تقل أهمية عن الشمس، صاغت، المسار الذي أقف عند نهايته. لقد كان للجاذبية، بمعنى الحركة الكلية للأجزاء، والغلاف الواقي من القوى التدميرية للإشعاعات المختلفة، وظهور الماء ...الخ أثره المباشر، في فرضيات أخذت تبتعد عن التاريخ الطويل لمعتقدات وجدت ان الآلهة هي ـ وصولا ً إلى الإله الواحد ـ مسؤولة عن الإنسان وأسباب وجوده.
ومع ان القطيعة مع هذه الفرضيات لم تعدل المحنة، ولم تلغ الأسئلة، إلا ان آليات عمل الوعي، ليس باستطاعتها اختراع فرضيات من العدم. لأن السبب الذي يتعذر الذهاب إليه سيبقى خارج نطاق الأدوات، وفي مقدمتها: اللغة، وباقي الوسائل.
ها أنا استعيد أقدم طقس نحو الشمس: ليس تبجيلها، أو تقديم النذور أو الأضاحي إليها، كلا، وليس التذمر أو الشكوى منها، إنما، مع العوامل التي تشترك في ديمومة هذا الوجود، احفر في المناطق التي ستبقى، كلما اقتربت من نهايتها، تذهب ابعد من أدواتي.
ان البذور التي ظهرت، قبل أربعة أو خمسة مليارات سنة، بعد ان انفصلت الشمس، واستقلت بكيانها، عن قلب المجموعة، أجدها مازالت تومض في ّ، فأعيد للضوء، وغيابه، وللحرارة وللبرودة، وللريح، وللإشعاعات اللا محدودة، المرئية واللا مرئية، وللجاذبية، والمديات، والأثير، والكوزرات، والثقوب البيض، بعد السود...الخ موقعها مع هذا (الوعي) وانعكاساته في الأدوات: الأختام.
الم نخرج من جحيم الشمس، بمعنى، الم ْ تطهر الشمس مكونات البذرة، كي يغدو الوعي المادي مفتاحا ً للباب الذي سيبقى ـ مع قفله ـ خارج قدراتي...؟ فأي وعي (مادي) هذا صنعت ملامحه وقد كشف عن فجواته..؟ فانا لم اختر، في نهاية المطاف، لا الشمس، ولا الظلمات، وأنا لم اختر ظلي، ولا الغاية التي ُيخّيل إلي ّ أنني أسعى إليها، فانا وجدت حضوري مكبلا ً بالغياب. ثم اكتشف ان هذا النسق من الوعي، لا يمكن فصله عن النظام الهرمي، ولا عن بزوغ مشهد الاشتباك العنيد الذي منح الأقوى مزيدا ً من قدرة تدمير الآخر، لديمومة فرضت شروطها واليات تحولاتها، انقراضها وانبثاقها، كي المح ان تصوراتي ما هي إلا نتيجة هذه العوامل. فانا أدرك ان بذور الخلق خرجت من الجحيم، من الفرن، وقذفت في الفضاء، كي تستحيل إلى تأملات. لكن الشمس برمتها ليست إلا بذرة، والمجرة، ما ان أراها عن مسافة مناسبة، ليست إلا حبة رمل، بين رمال ذات نسق شبيه بما يحدث عند تكون (ختم): بذرة حياة تتوحد عناصرها بما يحدث في أية برمجة للعقول الآلية ـ الكومبيوتر. على ان أكثر هذه العقول تقدما ً، عند بلوغه درجة التفكير الذاتي، وحفظ مكوناته، لن يقارن بما سأبقى منشغلا ً فيه.
فها أنا، كلما حفرت في المشهد، انغلق علي ّ الفضاء بأبديته! وكلما بلغت حدا ً من حدود الأخيرة، أجد المفتاح دار في القفل، ودحض هذه الاحتمالات، عدا: ديمومتها. وها أنا أرى الموجودات برمتها وقد قيدت إلى النظام الذي حاولت ان أجد فسحة ما لفهم حضوري فيه مبررا ً كي اخمد نيران الفرن! حقا ً، استطيع ان أفسر لماذا كان أسلافي قد صنعوا من الشمس، رمزا ً، مثلما، للظلمة، وتركوا ارثهم لنا، لا يدحض إلا بإضافات تماثله: فليست درجات حرارة الشمس، مقارنة بنجوم أخرى، سوى حقبة جليدية!
[12] المستقبل ممتدا ً/ منغلقا ً بماضيه
فهل ختم الماضي مستقبله، أم سيجرجر المستقبل ماضيه، كي يكمله، حد استحالة العثور على نهاية عدا ما يغذي ديمومة الاشتباك: فتارة ينتصر الماضي كي يأخذ موقعه في المقدمة، ليكمل دورته، على حساب الآخر، وتارة، بحسب الاشتباك، يطيح الأخير بالأول، ليغدوا منتصرا ً!
كأن نمو العالم لم يحدث قط، لا على حساب الموجودات، ولا على حساب الأشياء ذاتها، بل على حساب التطور. لأن نمو التقنيات تجد تصوّرا ً مفاده ان تقدم الماضي يغلق الطريق على تقدم المستقبل، وهذا يعني انه بالنسبة للتقدم في المستقبل لم يبق في جميع الأحوال سوى هامش ليس إلا جزءا ً، بل هو جزء صغير من مسيرة التقدم السابقة.* لكن هذا محض إحباط أو هزيمة ولدتها الحالات الاستثنائية للاضطراب، إن كان اقتصاديا ً أو لأن مسيرة الإنسان لم تثمر عدا المزيد من تدمير شروط الحياة ذاتها، ذلك لأن تخيل وجود بلا معنى ـ بالمعنى المطلق ـ لا يدحض الموقف ألدهري، أو ألعدمي فحسب، بل يشاطر المؤمن بالنتائج ذاتها: ديمومة الاشتباك! فالمؤمن بروح شجرة، أو صخرة، أو الذي بلغ الذروة في الصفاء، أو في الاتحاد، أو في السكر، أو في الفناء ...الخ جميعا ً لا يعبرون إلا عن حدودهم، فيما حدود المعنى ـ معنى الإله وليس الإله الكلمة ـ فهو، كما قال الحكيم السومري: ابعد من ان يكون بعيدا ً؛ أي ابعد من التصوّرات، ومن أدوات التعبير...الخ إنما، ـ ربما ـ للصمت مداه الذي طهر الضجات، وصهر مقدماته بالنهايات!
وهل لمخلوق سكن أيا ً من هذه الفرضيات (الاحتمالات) ان يدرك، في الأخير، انه لاذ بجحيمه، ولكنه، لرهافته، لم يحتمل ان يرى ما لم يدونه (دانتي) في جحيمه، قد أصبح نزهة مشفرة بترليونات الجينات العاملة على إدامة كل هذا الذي يراه يتضرع بالحفاظ على قليل من زمن العفن ـ زمن التراب ـ والشمس! هل لهذا المخلوق، في الأخير، إلا ان يحصي طرق العبث بالمصائر، وليس لديه إلا جسده ـ وما سكن هذا الجسد ـ يراه غير منفصل عن المكونات التي كونت حضوره، بالية لن تسمح للمصادفة إلا ان تأخذ موقعها في التتابع، حيث الصفر، وحده، غير قابل للإدراك! هل لهذا المخلوق ان يقول: مسؤوليتي، في الأخير، تقع خارج المحاسبة؟ لا لأن القسوة اقل جوراً من الرحمة، بل لأن الأخيرة لم ْ تترك غواية إلا ومنحتها للشقي ان يواصل السير نحو الخاتمة التي وحده أدرك ان مقدماتها ليست من صنعه، وان ما دونه، ليس إلا ممرا ً لم يغلقه، ولكنه، في أي احتمال من هذه الاحتمالات، لم يكن فائضا ً خارج هذا الاشتباك!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يقول دوبريه: " محتوى قانون حد النمو التقني ـ الاقتصادي إنما هو في واقعه ان تقدم الماضي يغلق الطريق على تقم المستقبل وذلك يعني انه بالنسبة للتقدم في المستقبل لم يبق في جميع الأحوال سوى هامش ليس إلا جزءا ً بل هو جزء صغير من مسيرة التقدم السابقة" انظر: [التنمية صفر] ريموند ريشنباخ/ سيلفن اورفر. ترجمة: سهام الشريف. وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق 1978 ص48
[13] فجوات
عندما تستحيل الحلول إلى مستحيلات، وفي مقدمتها: ان يكون الفنان، هو نفسه، متطابقا ً مع القناعات التي يستطيع ان يعدلها، يحذفها، يهدمها، ويشرع ببناء إضافات يستمدها من الخبرة البشرية، فانه سيتعثر حتى في اختيار شروط بناء هويته: توقيعه ككائن غير مزور، مشبوه، وغير مهدد بالطرد من الحياة برمتها. إنها الفجوة تتسع طالما إنها قائمة على الشك، وتعقيدات الاندماج في عالم تكونه غالبية مازالت تعيش في عصر ما قبل اكتشاف النار.
أنا لم استخدم كلمة (مقدس) بصفتها منزّلة، غير قابلة للدحض، وأبدية، بل ذكرتها أحيانا ً بصفها احد المعايير التي تجعل الحياة محتملة، كاحترام الوصايا، من عدم القتل إلى عدم السرقة، ومن عدم الغش إلى عدم التزوير، والتشهير، وكل سلوك يتنافى مع الرفعة، والجمال، وبهذا المعنى، في الأعماق، كانت لدي ّ صلابة منحت عزلتي مبرراتها، وعنادها أيضا ً.
وكي لا تذهب إشارتي من غير تدقيق، فما قبل اكتشاف النار، تعني: ما قبل اختراعها. فالنار ـ وهي ليست مقدسة بصفتها جزء من الشمس، أو لأن شمسنا جزء من المجرة ..الخ ـ لم تعد إلا أداة للانتقال من تحكم الطبيعة بمصائرنا إلى تحكمنا في صياغة هذه المصائر. هو ذا الفارق بين المكتشف والمخترع، فالأخير، يصنع اختراعه المتضمن عمل المكتشف، والمغامر، والباحث عن عدم تحوله إلى رقم أو إشارة. وهي مسافة الألف عام بين العصر الذهبي لبغداد، والعالم الذي ولدت فيه، وهي المسافة ذاتها بين هذا العالم وما رسخته أوروبا من معايير. لهذا واجهت مشروعات التحديث ـ وبدءا ً بحملة نابليون على مصر 1789، ومنذ أصبح الشرق غابة تصطاد أوروبا طرائدها فيه ـ عقبات يخيّل إلي إنها ستبقى غير قابلة للردم، إلا باكتمال دورة ما من دورات الاشتباك.
إنها المسافة أو الفجوة التي ستدفع بالصراع إلى ديمومة: الهوة العسكرية/ والخطاب المعرفي/ مع تراكمات رؤوس الأموال...، في معالجة مصائر مخلوقات لا تمتلك إلا ان تحدق مذعورة، مستسلمة تارة، ومتفجرة حد الانتحار تارة أخرى.
فهل باستطاعتي ان احدد، بهدوء، وآمان، ودقة، وصدق، من أكون ...؟ ومن هو (أنا) لا إزاء بنية الصراع ومساحته، أو إزاء واقع ما قبل النار، بل إزاء المجهول!
وأنا مادمت لم أجمد، ولم اخسر عمل أصابعي، وما تبقى من عقلي، فانا لا أدعو ـ مع نفسي ـ لترك الهزيمة تجد مأواها في عيني، وفي ضميري، وفي ما أدهشني وأنا اقدر كم هذا الشرق عنيد، وسيسهم، بعد اكتمال دورة (الحداثة وما بعدها ـ العولمة)، لأن هذا الإنسان وحده لا نجده وحيد البصر، ووحيد الدرب، فيما مازلت افكك كل قناعة بدت لي راسخة، تحت لهب ومضات أسهم بجعلها تقاوم التصالح مع الموت، أو مع الظلمات!
[14] عتمة وومضات
في حوار جرى بين اندريه مالرو وبين ماو، زعيم الصين العظيم، دار حول تجربتهما، وخبرتهما، وآمالهما، وخيبتهما، كي يعترفان، ببساطة، بالصعوبات التي واجهتهما حد أنهما شعرا بالخيبة في فهم قضايا كثيرة، في الحياة، ذكر ماو انه لم يفهم الشعب الصيني! وذكر انه بدأ حياته معلما ً، وكان يود لو لم يتخل عنها! ماو .. لم يفهم شعبه! ومالرو كان يتمنى لو عمل معلما ً أيضا ً! فهل باستطاعتي ان اجري حوارا ً مع كائنات لا تعمل إلا عمل الصياد إزاء الطرائد: تمزيق الآخر! أو تركه وليمة لمناسبات قادمة! إنني اشعر بما هو أعمق من الإحباط، أو الآثم، أو الشرود، وأنا أمحو ذكر أسماء لا تحصى لم تجرحني حسب، بل حفرت لمصيرها مدفنا ً بلا علامات، عدا ما لا يقارن إلا بما يصنعه المرضى، والشواذ.
قطعا ً هناك مئات من الذين ذاقوا هذا العقاب، وبأشكال مختلفة، من القبول بالسجن، أو النفي، أو الانتحار، أو الوقوف بصلابة أمام حبال الموت، وهم ومضات صاغت، في أعماقي، وهم وغواية المعنى الذي لا مسافة بينه وبين نقيضه، وأنا أتتبع أصابعي في مقاومة الوهن، أو في التحول إلى: صياد!
وها أنا أعيد قراءة آخر عبارات (يونغ) التي دونها في نهاية تجربته: " أحس بخيبة الأمل من الناس كما في نفسي. تعلمت أشياء عجيبة من الناس، وحققت أكثر مما كنت أتوقع من نفسي. ولا استطيع ان أعطي حكما ً نهائيا ً لأن ظاهرة الحياة نفسها، وظاهرة الإنسان، لهي من السعة بحيث اعجز أمامها. وكلما تقدم بي العمر قل فهمي وتبصري ومعرفتي بنفسي"!* معترفا ً، بعد بضعة اسطر "أني موجود على أساس شيء لا اعرفه" ليعادلها بالتكملة المنطقة " ورغم كل الشكوك، أحس بالصلابة التي يقف عليها كل الوجود ..." مدوّنا ً في الأخير: " وكلما زاد إحساسي بعدم اليقين، كبر لدي ّ الإحساس بالقرابة مع جميع الأشياء. ويبدو كما لو ان التقرب الذي عزلني عن العالم، قد انتقل إلى عالمي الداخلي، وكشف لي غربة غير متوقعة عن نفسي"!
ومن قرأ مراثي بلاد سومر، ومراثي أكد، وما دوّنه حكماء الأزمنة السحيقة في بابل، لا يجد جديدا ً قط في هذه الومضات. فالعدالة شغلت إنسان وادي الرافدين، في مواجهة التعسف، وفي محاولة للعثور على توازنات بين الأضداد.. فولدت أقدم الشرائع، ثم اكتملت في مسلة حمورابي العظيم.
ومن يعيد قراءة المعلقات، وآلاف النصوص التي دونها الحكماء العرب، في العصور الذهبية، أو في حتى في حقب الارتداد، والاضمحلال، يجد ما ذكره ماو، أو يونغ، أو اندريه مالرو، حاضرا ً في تتبع مسارات المحنة ذاتها، بما فيها من آليات تخص الوعي بمكوناته، حد ان المعري اظهر تعجبه لمن يطلب المزيد من اللا جدوى ـ اللا معنى، الذي سيشكل محفزا ً لديمومة كل هذا الذي، في لمحة، يحافظ على استحالة وجوده!
* كارل غوستاف يونغ [ذكريات، أحلام وتأملات] ترجمة: ناصرة السعدون. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 2001 ص 345 ويذكر أيضا ً: " أني موجود على أساس شيء لا اعرفه. ورغم كل الشكوك، أحس بالصلابة التي يقف عليها كل الوجود والاستمرارية لنمطي في الحياة"
[15] لغز الصفر ـ لغز الفراغ ـ لغز ديمومة الامتداد
لست مؤهلا ً للحديث عن آليات عمل الدماغ، ومدى قدرته على أداء دوره في حماية: النوع ـ وفي حماية الفرد، وقدراته في استحداث البدائل. ولست مؤهلا ً للدخول في جدل ما اذا كانت الإجابات، عبر اللغة ومشفراتها، وعبر باقي الدفاعات، والوسائل، تمتلك قدرة تحديد غائية (الحياة)، وتحديد دور (الوعي) في هذه الغائية، أم ان (الدماغ)،هو الآخر، لا يمتلك إلا ان يكون جزءا ً من كل، تستحيل تفكيك لغز نشأته ـ وعمله ـ وما يسعى إليه!
إنما أجد أنني عندما أفكر في ما املكه من (وعي)، امتلك مراقبا ً له، يعترض عليه، فيعمل كأنه يستحدث مسارات مستقلة، وربما مستحدثة تماما ً.
إنها ليست ازدواجية، كالتي عبر عنها دستويفسكي في المزدوج، ولا هي محاولة لرسم الخط الفاصل بين الرحمن والشيطان، في المثنويات، وفي تحديد الاختيار إزاءهما، ولا هي الصراع بين (الأنا) والآخر، من اجل ما يسمى بالجوهر ـ أو الكينونة، بل أكاد اصدق ان يدا ً ما خفية تحافظ على عملها في ديمومة هذا: الذي لا يدوم!
في أسى عميق استعيد تصوّرات الحكيم (ماني) إزاء ما يقذف فوق رؤوسنا من مزابل المواعظ ونفايات الفضائيات المستأجرة لمحو آخر ما تبقى في الإنسان من نبل، وكرامة، ـ استعيد بحزن تصوراته ـ وهو الذي زعم انه كتب عشرة كتب أملاها عليه الوحي ـ بديمومة (الشر/ الظلام)، عبر حمل المرأة للمفهوم ديمومة الصراع، وهو الصراع الذي لن يفضى إلى خاتمة فيها ما يعادلها مع مقدماتها: الاشتباك بين ظلام وضوء، بين معدم ومتخم، بين فاقد للمعرفة وآخر إلا عبر ديمومة التقسيمات الاجتماعية، من العصر البدائي إلى عصر ظهور الطبقات، ومن عصر البرية إلى عصر المدن، والأنفاق، والغرف، والزنزانات، ومن الغذاء العفوي إلى كيمياء الطعام المستحدث، بدءا ً بوسائل الإنتاج، وصولا ً إلى التصوّرات أو ما سيسمى بالمذاهب، والمعتقدات، والأيديولوجيات؛ أي من الرأس إلى القاعدة: أسى لا أجد عقارا ً له يوازي صفائي وأنا استغني عن الغوايات، واصعد حيث المسافات تتجمع في لغز الصفر، واكتم أو ادفن ما دفنته دفنا ً باحتفال شارد، ومن غير ضجيج.
على ان المسيرة الشاقة، المنهكة، والطويلة التي أفضت ببزوغ (الدماغ) سمحت للانسان ان يبحث عن قناعات لا تتقاطع مع مبدأ وجوده الملغز: الوجود وقد بلغ ذروته في دفع العلل إلى العلة المكتفية بذاتها، الأقرب إلى مقولة عمانوئيل كانت: الشيء في ذاته.
فالثالوث الواقعي للمسيرة البشرية ـ المنحدرة من الصراع الغامض للخلايا في الحفاظ على بقائها ـ صاغ رمزا ً لها تمثلت فيه المعطيات الواقعية: تراكم العمل، وما يؤديه الإنسان بفعل تزايد قدراته في استخدام القوة، والعنف، واستثمارها بطرق دبلوماسية، ماكرة أو متسمة بالمكر والذكاء، إلى جانب الجدل، والحوار، ودور وسائلهما في الحفاظ على الرموز، وقد بلغت ذروتها في: الشيء في ذاته ـ المشفر، والمقدس، في ديمومة الاشتباك، وليس بتعديله، أو دحضه.
فالرمز، للوهلة الأولى، لا يمكن عزله عن هذا الثالوث، لأن الواقعي لا يمكن ان يكون إلا نتيجة تصوّراته. على ان الأخيرة، كالمال ـ بصفته قيمة تجريدية خالصة ـ سيؤدي دورا ً معقدا ً في الحفاظ على صلاتها بالمحركات. هكذا سيعمل الثالوث ببناء الثابت، لأن النتيجة الحتمية للصراع، ستفضي لا إلى اختراع (المقدس) بل إلى حتمية أو ضرورة وجوده.
لكنني لست منشغلا ً كثيرا ً بعدالة نظام لا امتلك إلا ان أغض النظر عنه، فلماذا تتراكم الثروات لدى الصانع لخطابه على حساب صانعي تلك الثروات...؟ ولماذا يمتلك الصراع مقوماته على حساب تصنيفات غير عادلة للعدالة؟
ان هذا لا يجري في (دماغي) حسب، فانا لا أعاني من خلل رغبات متراكمة في هذا (الدماغ)، إنما تاريخ الحياة برمته لا يفضي إلى قناعة تسمح ـ بالحد الأدنى ـ للقبول أو التطابق. انه إرغام الوعي للانضواء تحت آليات يدرك الوعي إنها قهرية! فهل ثمة (عقدة) ما بالإمكان تفكيكها، وإعادتها إلى أصولها، تقود إلى منطق لا يتضمن نقيضه...؟
اريك فروم يلفت النظر، في حديثه عن المسافة بين الدوافع والتصوّرات إلى: " فمع ان تعاليم يسوع لا تزال جزءا ً من أيديولوجيتنا الأخلاقية، فالإنسان الذي يتصرف وفقا ً لها يعد عموما ً مغفلا ً أو "عصابيا ً" ومن ثم لا يزال الكثيرون من الناس يبررّون دوافعهم الكريمة بأنه تحرضّها المصلحة الذاتية" * على ان تعاليم يسوع، في الأخير، كالتعاليم الأخرى، تنتهي عند المركز: ديمومة ديالكتيك النهايات بمقدماتها، والتي منحت التصادمات شرعيتها، وأصولها، ورموزها، وكأنها ليست أبدية، ومطهّرة.
وها أنا أعود إلى: الصفر!
فانا لا امتلك إلا ان ـ بعيدا ً عما تعلن عنه الكلمات ـ اكتشف احد دوافع هذا (اللا مسمى) في تقنيات التدمير.
ثمة ما لا يحصى من الممرات جميعها ـ عدا استثناءات بندرة الشك بوجودها ـ تمتلك غواية ان يجرجر (الإنسان) إلى الهاوية: وحل الصراع وشراسته! بدءا ً بشروط الجسد، مرورا ً ببعض الغوايات، التسليات،، ولكن ليس انتهاء ً بالعقل ـ المنشغل بوضع ثوابت لهذا الذي يمسك بلغز الديمومة. فانا لا اخلط بين عمل الأعصاب وعمل النفس، وغير منشغل بأسبقية الوجود على الوعي أو الوعي بما يذهب إليه ...الخ فانا أجد حياتي، كنملة، تصير جسرا لعبور النمل، إنما لماذا لم اعد امتلك غوايات تسمح لي بتذوق حتى مرارات ـ أو حلاوات ـ لذّات لا أجدها تصلح ان تكون حتى عقابا ً!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* اريك فروم [تشريح التدميرية البشرية] الجزء الأول. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. منشورات وزارة الثقافة السورية. دمشق 2006 ـ ص148
[16] فواصل، فجوات ووحدة
فهل كنت أحاور (نفسي): أي هذا الذي يمثل ذاتي، أو الأنا الأعلى، والذي لا استطيع ان أتخلى عنه، بعد ان توارى الآخر، أم أنني لا امثل إلا ذلك التتابع لبرمجيات يصعب الفكاك منها، حتى عندما أقوم بتفكيكها، والتخلي عنها، ومغادرتها...؟
من هذا الذي استطيع محاورته، والإصغاء إليه، كي يسمح لي ان احجز أعضاء جسدي كاملة...، من غير آسف...؟ وهل عمل الفنان شبيه بعمل من تعلم كيف يخترع غوايات رمزية يؤديها لأجل الديمومة، أم مثل جنرال متقاعد لا عمل له إلا ان يحافظ على ماضيه ممتدا ً ...؟
هذا الذي هو من صنع الأصابع و(الدماغ)، هذا (الوعي) الذي راح يصغي إلى آخر يتتبع مسيرته، وخطاه، ويعّدلهما باتجاه نهايات مغايرة لاتجاهات لا علاقة لها بالرموز، وبالإشباع الرمزي، وليس لها علاقة بالرهافة، والجماليات ...، فما ـ هي ـ ماهيته، كي اعزلها عن أي عمل آخر شبيه به ..؟
أم كان لرسامي الكهوف، في عزلهم، داخل ممرات تقود إلى حفر نائية، داخل كهوفهم، مخفية، معزولة، مموهة، كي تنتج آثارهم ومشفراتهم السحرية الخالصة...؟ ماذا قلت: الخالصة..وأنا أدرك تماما ًاستحالة وجود هذا الخالص...، لا الجمال، ولا البراءة، ولا غيرهما..!
فهل كنت، بدافع الديمومة أؤدي عملا ً رآه الآخر ـ القابع في الرأس/ أو خارجه ـ يتجانس مع مكونات كياني، وأنني كنت، منذ انشغل بصري بفضة الفجر، وبومضات النجوم النائية، وإشعاعات الشمس، ومباهج رذاذ أمطار شحيحة، وما تركته مياه الينابيع، والجداول، والأنهار من انجذاب لا يقاوم، قد وجدت في الفن ولعا ً ـ كالذي وجده المتصوف أو العاشق أو المنشغل بأوهامه إن كانت مجردة، أو واقعية حد الاستحالة رحت أشيّد حمايتي، بعيدا ً عن حقبة تحول الفن إلى أشياء، معترفا ً ـ بشرود شبيه بمن قاتل كي يمسك بالريح ـ أنني اخترت عملا ً غير ضار بأحد، وإنما، على العكس، ان يكون نافعا ً..!
كم أبدو متطابقا ً كمركز ضم لاحافاته إليه، وكأن علي ّ ان أؤدي دور: البذرة! وهو دور دودة القز في صناعتها للحرير، بموتها، ذلك لأنه لا حرية لدي ّ عدا حرية ان لا أكون حراً، كي يكون الختم، أو أي نص له هذا التجانس، قفلا ً يسمح لي بالعبور حيث لا أرى إلا وأنا قد أخفيت آلاف المنبهات، عدا أنني عملت ألا اشعر بالآسف، حتى وأنا أعود اسكن بيت من طلبني، في عمق الزمن: هذا الذي لا أبعاد له/ ولا مساحات/ ولا أجزاء، ولا حركة، ولا ثقل، ولا تاريخ، ولا .....، وقد تركته يصغي إلى غياب صوتي: اتبعني!*
* لعلي قمت بتجربة مماثلة، عام 1992، بكتابة نص حمل عنوان (الأوثان) علي ّ ان أعود إليه، كي اجري مقارنة أدق بين (الكتابة) و (الفن) مع أنني ـ كلما عدت إليه ـ أكاد اكتشف ان (الآخر) ـ النائي والمجهول ـ هو الذي أنجز العمل.
[17] الأخير في المقدمة
ربما ما هو أفدح من الموت، هو: الرحمة! * وليس الغفران، مع ان الأخير، لا يقل غموضا ً في لغز الوعي بالوجود ـ وبالوجود خارج نطاق الإدراك.
هل قلت كلمة تنتظر التأويل، أي بانتظار الدحض، والتدمير! وليس التفسير، والشرح..؟ لأنهما؛ الرحمة كبديل للموت لا وجود لها خارج النظام ذاته، مثلما لا موت إلا بصفته حال من الأحوال!
هنا تختلط التصورات، والمفاهيم، والكلمات، باستحالة عزل حد عن نقيضه. فأنا (أدوّن) للأسباب ذاتها التي ساجد نفسي فيها ملحقا ً ـ مثلما كنت ـ بالكلام: الصمت. لكن الأخير ليس شيئا ً في ذاته، مهما اكتسب الجلال ـ والطهارة، والتقديس. فالوجود لن يعزل عن دورته، مكملا ً ماضيه نحو الماضي المؤجل، إنما لا يجد الوعي إلا هذه الدفاعات: تارة الاستنجاد بالموت، وتارة طلب الرحمة. وفي الحالتين، كلما امتد به الزمن، توغل توغلا ً في المتاهة.
الا تخفي الرحمة مداها في ديمومة انتظار العقاب، بعد ان كان الموت قد نقل الوعي الى حسابه الخاص، خارج مشهد الحضور والغياب، أم ان هذا كله لا يحكي الا شيئا ً شبيها ً بعمل المشفرات؛ إنما من المستحيل الذهاب ابعد من حدودها الدنيا...؟ ام سيقال، مثلما أضع مصيري برمته في المسار ذاته، ليس لدينا الا ان نحافظ ـ ونحسن ـ موقعنا في الوجود...؟ لكن عندما لا مجال للمزيد من التحايل، والغواية، والانجذاب، والاستماتة في إظهار الحكمة ...الخ فأي معنى يجدر بنا ان نغادره...؟
وكأن الحياة لعبة محكمة بتفنيد هذا الذي أحيانا ً يوهمنا انه يمتلك سرها: سر حياة لا موت فيها ولا رحمة! آنذاك لا امتلك إلا ان ادع (ومضات) هذا الوعي تجد مدفنا ً لها كي تطلب الرحمة، تاركة الموت يأخذ دوره كما هو قانون الحياة: لا عدم من وجود، ولا وجود من غير عدم! كي اكتشف، في نهاية المطاف، ان الفراغ ليس الا درجة في الكثافة، وليس كلها!
• ربما ما هو أفدح من العدم، هو: الوجود!، لكن الأخير، من غير عدم، هو هذا الذي يذهب ابعد من ماضيه، وابعد من تسلسله المنطقي، كي يأخذ هيأة الأسرار، والملغزات، وكي تنتعش الميتافيزيقا، لكن على حساب عمل الرحمة وهي غير مكترثة بتكرار معاقبة ضحاياها، بحسب تصوراتنا الأسطورية.
[18] الرهان ـ الزوال وما بعده
ها أنا في الذروة: أقصى ما تريد اللغة ان تكتمه: الوضوح! لأنهما يتضمنان الميت والذي سيموت، والمنبثق والذي لا يمكن دفنه. فالنهار سكن المطلق، فهو ولد ببذور شيخوخته، وبشفرة دحضها، مثلما الليل، ما هو إلا نهار معتم! فبعد أزمنة طويلة ما الذي تريد اللغة ان تدوّنه، وليس ما الذي يريد الإنسان ان يعلنه. اللغة ـ الفن، وهما ملحقان بأدوات الجسد ـ الدماغ، أكثر ـ أو اقل ـ مما قيل في أول استغاثة، وفي أول نشوة، وفي أول دفن، وفي أول عيد ميلاد...يبحثان عن الذي بدده الإنسان في هذا الذي سيبقى وجوده منتظرا ً، وكأن ما أنجز وحده لا يمتلك إلا غواية زواله، ونشوة انبثاقه من الموت!
أتراني فكرت طويلا ً ان حدود التفكير، كحدود "الفرد" وكحدود دورة الإنسان ـ من العشيرة إلى الجماهير، ومن صيادي الغابات إلى مدراء الشركات عابرة القارات، شملت هذه الثنائية، وان المستحدث، في لغزه، شبيه بعصيان إبليس! وإلا كيف تنبثق مياه الينابيع صافية كي تلقى مصيرها، بعد مسارات طويلة، في المستنقعات! من ثم، ترتفع المياه نقية كي تتساقط وفرا ً ومطرا ًفي أعالي قمم الجبال...؟
دورات، وعادات، وهجرات، واشتباكات كوّنت تنوع الدوافع، مع انها، في نهاية الرحلة، شبيهة بجدلية المقدس والقطيع ـ الناس.
يقول بعض حكماء المعتقدات ان الإله، في اجتماعه المغلق، هو من أذن للشيطان بالحضور، كي يراهنه: ان أيوب ليس مثالا ً لصفاء ماء الينبوع، وانه سيجدف! فيقبل الإله الرهان ...! أنا لا أفكر بطريقة أسلافي، بل اذا كان الإله هو من أذن للشيطان بعقد هذه الصفقة، فمن الخاسر فيها، غير الإله نفسه!
لكن علي ّ ان ارجع إلى الأصول: فقد كان الاعتقاد السائد عند السومريين ان الآلهة خلقت البشر ليقوم بخدمتها: يخصها بالطاعة، والعبادة، ويقدم لها القرابين، ويبني لها المعابد، وينذر لها النذور ...، وكان الإنسان يطمع بالدرجة الأولى في ان تمنحه الآلهة مقابل تقواه وخشوعه وعبوديته، المعونة، والحماية، والسعادة في حياة كان يراها: تزول ـ وقائمة على الزوال...!
فإذا كانت الآلهة هي التي خلقت هذا الكون، فكيف أمكن اذا ً ان يولد الشر ويسود على الخير في حياة بعض الأتقياء ..؟ (1)
كان الجواب على هذا الانشغال، وأمثاله، من لدن (الكهنوت)، ان الآلهة نفسها لم تخل من صفات شريرة عندما اتبعت طريق العنف والبطش والخداع في خلال المراحل الأولى للخليقة. وكما يقول د. فاضل عبد الواحد علي في كتابه [من ألواح سومر إلى التوراة] فان عنصر الشر موجود في الآلهة وبالضرورة في البشر أيضا ً. حتى ان المثل السومري يلفت النظر إلى ذلك عندما ينص: لم تلد امرأة قط ابنا ً بريئا ً.
والمثال الذي سيتخذه أيوب رمزا ً لهذه الإشكالية، رجل اسمه (شيشي ـ مشري ـ شكان) عاش قبل ثلاثة آلاف عام قبل ميلاد يسوع، وقد امتاز بخشيته للالهة وبالتقوى وأداء الطقوس والإحسان إلى الناس، وانه احتل مناصب عالية في الدولة كما كانت له ثروة طائلة تتمثل بالحقول الزراعية والماشية والصيد.
لكن فجأة يتغير المشهد: فيتنكر له الدهر، بعد ان تركته الآلهة وحيدا ً لا معين له فاشتد عليه غضب سيده الملك وحنقه، وراح الطامعون من رجال الحاشية يحيكون له شتى أنواع المؤامرات للإطاحة به واحتلال مكانه. كما تنكر له الأصدقاء وكرهه الأصحاب وصار أهله يعاملونه وكأنه غريب بينهم، وبلغت به الحال درجة المذلة على يد عبيده:
[ لقد تخلى عني الهي واختفى
وخذلتني آلهتي وابتعدت عني
وفارقني الملاك الصالح الذي كان يلازمني
والروح حارستي لاذت بالفرار قاصدة غيري
ذهبت قوتي ووهنت رجولتي
راحت هيبتي وولت منعتي
فأل مخيف يحدق بي من كل جانب]
هذا الرجل الذي اسمه (شيشي ـ مشري ـ شكان) يصبح شبيها بالصورة التي حفظتها لنا التوراة عن أيوب الذي كان هو الآخر "كاملا ً ومستقيما ً يتقي الله ويحيد عن الشر" والذي كان مثل نظيره البابلي ميسور الحال، فقد " كانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم ومائة ألف جمل وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان .." غير ان أيوب، هو الآخر، سرعان ما أصابه الشر على يد الشيطان، إذ فقد وبصورة مفاجئة كل ما بحوزته من ممتلكات: أغنامه وجماله وأبقاره وحتى أهله!
ولنتأمل النص البابلي ـ السومري، بما أعلن عنه، كي نعيد قراءته بعد هذه القرون:
[شرك يوضع على فمي
مزلاج يغلق شفتي
سُد (بابي) وقُطع (موردي)
طال جوعي واكتم صوتي
قبري نتن الرائجة
اجل: لقد طالت بلواي
وتغير وجهي لقلة الطعام
وترهل لحمي وانحسر دمي
تفككت عظامي وهي لا يكسوها سوى جلدي
التهبت أنسجتي وأصابها المرض
إنني ألازم سرير العبودية، فالخروج عذابّ
لقد صار بيتي سدني:
شلل يدي ّ يغل بدني
عرج قدمي يقيدني
أحزاني مؤلمة وجرحي بليغ
سوط يطرحني أرضا ً، الضربة شديدة
رمح يطعنني، مهماز صارم
ومعذبي يريني صنوف العذاب طوال النهار
.....]
كي يقول أخيرا ً:
[ لقد انتهت المناحة حتى قبل ان أموت]
فأتذكر، قبل عشرين عاما ً كتبت، نصا ً تدّب فيه مشفرات سلفي، ان الميت، في موته، يشيع الجميع!
أما العذاب الذي لاقاه أيوب، الشبيه بعذاب العادل المعذب، في القصيدة البابلية ـ السومرية (العدالة الإلهية) فلا تخفي الإشكالية ذاتها:
[وخرج الشيطان من حضره الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته فاخذ لنفسه شقفة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته أنت متمسك بكمالك. بارك الله رمت. فقال لها تتكلمين كلاما ً كإحدى الجاهلات. الخير نقبل من عند الله والشر لا قبل. في كل هذا لم يخطيء أيوب بشفتيه]
كي يأتي التأويل الكهنوتي السومري ـ البابلي بالنتيجة ذاتها لمصير أيوب. فالإقرار بالعدالة الإلهية يحتم على الإنسان ان يصبر ويصابر اذا ما أصابه الشر لأن الآلهة ستنقذه في نهاية الأمر لا محالة.
انه الامتحان! على انه، في عالمنا، لم يعد محكما ً. فالشيطان لم يعص عن فراغ، أو من تلقاء ذاته، غرورا ً، بل لا بد انه تلقى إشارة ما للعصيان! لكن هل كان (الشيطان) يدرك انه لن يربح، وهو ينزل شتى أفعال الشر بالبشر ـ ومنهم أيوب ـ إلا خسائره! قد يكون ادم خدع بالغواية من لدن الضلع المعوج الذي هو حواء ـ امرأته، لكن ان يقبل الشيطان فعل الشر، بانتظار المعاقبة، فإنها تلفت النظر إلى ان الأخير، كان أكثر يقينا ً إنها ليست إرادته في صنع الشر، وإنما بإيحاء من الآلهة.
لهذا عندما سأل ادم الشيطان: لماذا أغويتني..؟ أجابه: وأنا من أغواني...؟
لا مجال لاستئناف قضية سابقة على اللغة، ولكنها ما دامت لا تتجاوز ما تريد اللغة ان تقوله، فان الحرية الوحيدة التي اختارها الشيطان هي وحدها التي كان لا يريد اختيارها، وإلا ما لغز دافع العصيان لو كان اختيارا ً خارج الإرادة الإلهية...؟
هنا، ضاع الإنسان! ليس الفرد ـ النخبوي ـ الصياد، أو الأمير، أو الملك، بل النمل، وهو يعيد سرد النسق ذاته الذي تلقاه الأشياء ـ العناصر ـ وصولا ً إلى من دبت فيه ومضات الحياة. إن الآلهة تروي حكايتها عبر راو ٍ، بحدود أصابعه، ودماغه، وما يمتلك من مخفيات، رواية مداها محكوم بزمن زوالها ـ انبثاقها. فهي ـ ككل ختم ـ تريد ان تقول شيئا ً لا يمكن ان يقال، ولكن لا يمكن تجاهله، كأن (المعصية) في لغزها، شفرة قداس تجعل الوعي، مهما بلغ ذروته، لن يغادر تضرعه بالغفران ـ وربما ـ ان اجتاز الشر والخير ـ طلب الرحمة، وان اجتاز الأخيرة، فليس ثمة إلا الرجاء بالموت!
1 ـ د. فاضل عبد الواحد علي [من ألواح سومر إلى التوراة] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1989 المبحث الثالث عشر(صبر أيوب) والاستشهادات جميعها من النص المذكور.
[19] الراسخ متحولا ً
اذا ً هي واحدة من آليات عمل البرمجة التي حافظت على ديمومة الاشتباك، وسلاسل التحديات: الطبيعة/ الزمن/ والإنسان، وصولا ً إلى الذات، بعجزها عن تحقيق إلا ما اندمج في المشهد الكلي للصراع. فالمنتصر الوحيد، بحسب مراقبة الوعي، هو هذا الذي منح الهزيمة غواية البقاء! لأن المنتصر الذي لا يمشي إلا في جنازته، يمضي من غير حساب؛ أمم تمحو أخرى، وقبائل تسحق جارتها، وطائفة تجتث من بجوارها، تارة باسم الآلهة، وتارة باسم العدالة، وأخرى باسم الحرية، إنما بعد ان يطوي لزمن الأسباب، تنبثق من الرماد، شرارة الحريق مرة أخرى.
وعندما يغدو من المستحيل تفكيك هذه الآلية، والتعرف على العلة السابقة على العلل، فان الشاهد ليس لديه إلا ان يترك أثره، أختامه، علاماته، أوكل ما يدل على انه عاش زمن زواله ـ أو لمح بعضا ً منه، بحدود لوعته وصبره، إنما بلغز جبروت الزوال، وعلاماته!
[20] ما قبل الريح ـ والغفران
هكذا ـ بشرود المنهمك بالعمل، وبلذّة صفاء المتأمل، احمل معي، كما فعل أسلافي في أعالي الفرات، قبل آلاف السنين، وفي الحقب المتعاقبة، أختامي؛ كقلائد، أو أساور، أو كأقراط، ودمى، وكسر ...الخ إلى الأرض: فراغ يتسع لمشاهدة كائنات اسمعها، واراها، واحدس ما ستعيد روايته، كي امسك بمساحة الحياة حتى ذروتها. فأنا لم يدر بخلدي قط أنني خسرت شيئا ً، كي أتأسف، أو أتبادل الأسف مع هذا الذي مد أصابعي بدينامية اجتياز الفراغات، وان اختار مساحة بحدود جسدي، فوق نسيج شبيه برقة عش من أعشاش الطيور، إنما لم اعد مكترثا ً ان كنت سأنهض غدا ً، لرؤية أشعة الشمس، أو المشي تحت المطر لاستعادة ابتسامة حبيبة غابت في قارة من القارات، أو رؤية حفيدي (علي) وهو يمسك بالقلم ليضع برقة اثر أنامله فوق الورق وهو الذي طالما كنت فعلته في ذات يوم، وأنا في عمره، أو أنني ـ كما كنت سالت أستاذي كاظم حيدر قبل رحيله بأيام ـ هل تمتلك تصورا ً ما للذي ستراه بعد الموت، أشكالا ً أو معاقبة أو ثناءً..؟ إنما لم أكن ـ مع هذا الذي يراقبني ـ أسعى للتراجع، ولكن في الوقت نفسه، وباليات هذه البرمجة، لم أتردد من الاعتراف بما يفوق الموت، إن كان بمصاف المجهول، أو عبر هذا الذي لم تعد لديه خسائر إضافية يخسرها، فقد عثرت على هذا المأوى، السابق على الريح، والسابق على الغفران!
24/11/ 201
1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق