السبت، 29 أكتوبر 2016

الفوتغرافـي محمد آل تاجر مثل العراق فـي 50 معرضا دوليا وحظي بتكريم 11 بلدا - كربلاء – إيمان العارضي



الفوتغرافـي محمد آل تاجر مثل العراق فـي 50 معرضا دوليا وحظي بتكريم 11 بلدا




كربلاء – إيمان العارضي
بمحاولته لإظهار كرامة الانسان خلال بحثه عن الحقيقة، ثمة توق في فنه إلى التوحد بالآتي، كيف يستشعره، وما مدى علاقته بالواقع؟ هل الروح الفنية غاية تدرك أم وسيلة؟، هل يواجه المؤلف موته عند رسم آلامه أم يتألم حين يرسم موته؟ أم يتوارى خلف أشكاله العارية المتهالكة؟ أسئلة كثيرة اقتنصت فرصة الولوج من خلالها الى العالم السحري لفنان استدعى بعض الارتجالات بجانب السرعة في الأداء لأجل التعبير، دون التقيد بالمنطق الكلاسيكي، ليصبح الواقع هنا ليس نتاجا حسيا بقدر ماهو فكرة جمالية استحالت إلى واقع جمالي، ادخل الحداثة لفنه بطريقة مزج خلالها اللحظة بالخيال عبر التكنلوجيا الحديثة ليتوصل الى الواقع، هل نجح بذلك هذا الفنان الذي كشف عن بعد جديد للواقع الطبيعي - بحدود موضوعة الجسد - من خلال استخدامه لآليات وبرامجيات الحاسوب، والإبحار عميقا في كوامن المرئيات، بعيدا عن القشور، ليقترح شكلا جديدا، من خلال التنقيب في الجوهر، عن طريق إجراءات الحذف والإضافة والتمويه والاستعارة من الأيقون المصور، وصولا إلى الشكل الفني.
وفي حوار مع "العالم" قال الفنان الفوتغرافي واستاذ مادة التصوير محمد آل تاجر، إن" تجاربي هي محاولة لإظهار كرامة الإنسان، هي لحظات "بحث عن الحقيقة" لم تعد تنتهي بالنسبة لي حتى يقتنع المتلقي ان روحهم ووجودهم يغني حياتنا، هو التزام العدسة تجاه مشاعرهم وبرهان لوجودهم الابدي في إيقاع حياتنا اليومي بكل فروقاتهم الشخصية والاجتماعية، خلق تفاعل الاخرين مع لحظات مجتزأة من يوميات"هؤلاء"هي بدء خطوة نحو الاحتراف، حينما نجد تلك "الحقيقة" معا، قد تتحقق لحظتها وبشكل عملي مرحلة للاحتراف الفكري.معزز باحتراف تقني، وقناعتي هي أن الإنسان فقط هو من يخلق حوارا جدليا، بين مشاعر تتجلى في كل صورها في أغلب أعمالي، المجموعة الأولى (البحث عن الحقيقة) في العام 1990، ومجموعة (كتبات على جدار وطن) في العام 2006، وكان (الإنسان والوطن)، ومجموعة (أقنعة الجسد في رحاب الذاكرة) في العام 2006 أيضا، ومجموعة (365 يوم 365 وجه) هذه لوجوه أطفال كانوا ضحية الإرهاب والتهجير القسري، وأنجزت العمل بها في العام 2007، وعرضت في مؤتمر خاص في الأردن".
واضاف آل تاجر "الآن أعيد العمل بها بتقنية جديدة، لأن قراءتي لتلك الوجوه غير تلك التي كانت كصورة فوتوغرافية مجردة، وقت انجازها، فهناك ما يجب أن يضاف، كي يكمل حلقات الأحاسيس الإنسانية لهؤلاء، وللتقنية حضور، كي تصبح عاملا مضافا يصور تلك النقلة لدى المتلقي، ما بين العام 2007 والآن، فالتهجير زمنا ولى ولله الحمد، ولكن هل كان زمنا مجتزأ من ذاكرتهم وذاكرتنا، هذا ما احاول تدوينه من خلال الوجوه".
ويرى آل تاجر أن "دخول التقنيات الحديثة على الصورة في عالم المعالجة الرقمية، أصبح عاملا مضافا، ففي العام 1826 استطاع الفرنسيJoseph Niepce الحصول على أول صورة فوتوغرافية ثابتة، لمشهد طبيعي، من نافذة منزله، واستغرقت تلك الصورة تعريضا ضوئيا لمدة ثمان ساعات، وبعد جهود طويلة ومضنية استطاع أن يثبت تلك اللقطة، وسجلت في التاريخ، كونها أول صورة ثابتة في العالم، وذلك حسب كتاب تاريخ التصوير، بجامعة كمبريدج، وبعد عقود توصل العلم إلى ما لم يكن أن يحلم به نيبيس".
وأكد أن "التصوير الفوتوغرافي يستمد تلك الحقيقة على أنه أكثر الفنون تواصلا مع مبادئ الحداثة والتطور العلمي، ومعالجته فنيا وتقنيا، بتكنولوجيا حديثة يخرجه إلى فضاء أوسع، لفن رقمي أصبح جزءا مهما في تبويب الفنون البصرية والتشكيلية، أحيانا كثيرة، وبكل تأكيد فإنه فن يجمع بين فكر إنشاء وتكوين القطة، مضافا إليه فكر جمال وفلسفة جمالية منجز بفكر تقني وتكنولوجيا معاصرة".
والفنان محمد آل تاجر اختلف عن غيره من الفنانين، ليس فقط بنظرته للأشياء والوجوه وتوثيقها، وإنما في نقطة انطلاقه للعالمية، فعادة ما تكون الانطلاقة لكل فنان من بلده، الذي ترعرع بين تفاصيله اليومية، إلا أنه اختار أن ينطلق انطلاقة أخرى، بعيدا عن بلده العراق، رغم أنه لم يغادره إلا للمشاركة في المعارض التي تقام في بلدان العالم.
وللمصور والفنان التشكيلي العراقي محمد آل تاجر أكثر من 20 معرضا ومسابقة في التصوير الفوتوغرافي، شارك فيها، ونال خلالها عدة جوائز دولية، لم يكن بينها سوى معرضا يتيما على أرض بلده، وهذا ما كان مدعاة للتساؤل الذي كان من الطبيعي أن نوجهه إليه، فأجاب بأن "أغلب مشاركاتي خارج العراق، وأعمل عادة على المشاركة في المعارض الفنية ذات الطابع التشكيلي، وأحيانا أخرى معارض التصوير، التي تنظم برعاية الاتحاد الدولي للتصوير".
ولفت آل تاجر إلى أن له "أكثر من خمسين مشاركة دولية، مسجلة رسميا من أهمها معرض "Trierenberg Super Circuit"، ومعرض "Special Themes"، الذي يقام سنويا، في النمسا، وأعتز بأني المشارك الوحيد في هذا المعرض من العراق طوال الفترة من 2006 وحتى 2010، ولدي شهادة خاصة بذلك من الجهة المنظمة، ونشرت أعمالي في العديد من كتب وكتالوجات التصوير الغربية، إضافة إلى حصولي على العديد من شهادات التقدير والدبلوم والميداليات من النمسا، وإيطاليا، وفرنسا، وصربيا، وإيران، وتركيا، وتونس، والأردن، ولبنان، وقطر، والإمارات".
وعن الأسباب التي جعلته يذهب إلى المشاركات الخارجية، قال آل تاجر إن التجربة المحلية في العراق بات محكوما عليها بالفشل، حتى قبل التفكير في خوضها، وذلك لعدة أسباب، فهي بعيدة تماما عن الهدف الاجتماعي الثقافي، الذي يمنح المصور المساحة الكافية للتعامل بمرونة، مع كل محاولة، للوصول إلى صناعة صورة ذات قيمة إنسانية وفنية.
وتابع آل تاجرالقول، إن "الجمهور المستهدف، والمتلقي الخاص للفن في العراق، اعتاد أن يسجل حضورا متميزا في ساعات الافتتاح، في صالات العرض، ولكن في منتهى الصراحة، فإن حضور وسائل الإعلام، غير المبرر، في كثير من الأحيان، لعدم وجود منْ هو معني بالشأن الفني منها، وإنما الأغلبية غير معنية حتى بأي مشهد ثقافي أو فني" مضيفا "هذا الكم الهائل أصبح سمة مهمة، كونها تسلط الضوء على من حضر من السياسيين، وصولا إلى ضيوف المشهد الثقافي والفني، وقلة ما نجد محررا في صحيفة أو مجلة، يهتم بما يعرض من فن، وهذا ما يجعل الانتشار انطلاقا من المحلية ضربا من المحال، على عكس المشاركات الخارجية، التي تشهد حضورا إعلاميا متخصصا يساهم في صقل وإنجاح تجربة الفنان.
وحول احد تصريحاته الصحفية السابقة التي اتهم فيها الحكومة بأهمال الفن حاولنا إدراك السبب الذي يلمسه قال "أن الاهتمام الحكومي بالفن عموما غير جاد في العراق، لأسباب كثيرة، وفي أغلب الأحيان بسبب ضعف الإمكانيات المخصصة، وعدم قدرة أصحاب القرار على فهم ما يقدمه الفنان عموما، وهناك محددات كثيرة لاتجاهات فنية عديدة، تكاد تكون خطا أحمر لا يسمح للفنان بالاقتراب منه، أو حتى الحديث فيه، وباتت المعارض الجماهيرية التي تنظمها المؤسسات الفنية مرتبطة بمناسبة ما، فهي إكسسوار مكمل لتلك المناسبات لا غير".
ويؤكد آل تاجر أن "الفن في العراق يحتاج إلى متلق حقيقي، يتدرج به إلى منصة متقدمة في "سلم ماسلو"، لا أن يعود به إلى قاعدة الهرم في البحث عن الأمن والأمان، ويجب أن تتراتب بنائية التجربة بجميع عناصرها المختلفة، لتشكل مفهوما وهدفا ناجحا، ومن المهم أن نتذكر هنا بإمعان مقولة كودراي "وجوه الناس أفضل مرآة للمجتمع"، واصفا المسؤولين في العراق بأنهم في واد والفن في واد آخر، وأن وجودهم في النشاطات الفنية لا يتعدى الاستعراض، والذي لا يتوافق منطقيا مع غايات الفن".
وذكر آل تاجر مثالا للفارق بين الاهتمام بالفنان في العراق، وبين غيره من الدول، أنه "في أحد المعارض الدولية، التي أقيمت في أوروبا، كنت أنا وزميلين من العراق مشاركين فيه، وزملاء يعدون على أصابع اليد الواحدة من عدة دول خليجية، وفي الأعوام التي تلت بت أنا المشارك الوحيد من العراق، في الوقت الذي ارتفع عدد المشاركين من كل دولة خليجية ليصل إلى 20، وفي إحداها إلى أكثر من 40 مشاركا".
واعتبر المصور والفنان التشكيلي العراقي محمد آل تاجر أن "السبب ليس في قصور الأداء العراقي المتميز، ولكن في سبل وتفاصيل المشاركة، والتي تكلف المصور أحيانا مبلغ 200 دولار، ما بين تهيئة العمل، وإرساله عبر البريد الجوي، وتفاصيل أخرى، منها رسوم الاشتراك، فالمؤسسات المعنية في تلك الدول قدرت مدى أهمية التمثيل في مثل هذه المعارض، لنقل ثقافات بلادهم إلى الغرب، وهنا لا يوجد من يمثل المصور تمثيلا حقيقيا، وإن وجد فلا يوجد غطاء مالي كاف، أو أسلوب للتواصل، وفق معطيات التكنولوجيا الحديثة".


مدني صالح مقاربات في رؤيته التشكيلية والجمالية-عادل كامل



مدني صالح
مقاربات في رؤيته التشكيلية والجمالية


عادل كامل

     في استفتاء كنت أجريته لمجلة (ألف باء) قبل ثلاثين سنة، تضمن السؤال التالي: من هو ـ في تصورك ـ الناقد التشكيلي، الذي تضعه في المرتبة الأولى؟  فكانت هناك إجابة، من بين الإجابات، لفتت نظري، إذ تم اختيار الأستاذ مدني صالح ناقدا ً تشكيليا ً! فسألت مدني صالح، عن رأيه..؟  لا أتذكر الإجابة الآن، لأنني كنت لا أريد أن أقيده في حقل أخير، أو محدد، خاصة انه كان يكتب في الفلسفة، والنقد الأدبي، ويكتب القصة، والمقامة، والرواية ... فهل كان أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد، الذي سمح  للفلسفة أن تغادر جدران الدرس الجامعي، لتعمل في الصفحات الثقافية، في مخاطبة اكبر عدد من القراء، وليس لبضعة طلبة دفعهم الحظ العاثر لاختيار حب الحكمة،في عصر: موتها! ناقدا ً تشكيليا ً؟
     لم تكن ثمة إجابة بنعم أو بلا، فقد كنت كتبت في عام 1985، بعد مقدمة توضح أن مدني صالح من أكثر المنشغلين بالتهذيب، تحديدا ً: بالرقي، وانه لم يذهب إلى السينما، أو المسرح، منذ عشرين سنة! أي منذ أواسط ستينيات القرن الماضي.. وانه زار معرضا ً تشكيليا ً في الجزائر عام 1972، ولم يجد غير الرسام في القاعة! على حد اعتراف مدني صالح لي .. ولكن أستاذ الفلسفة، المنحدر من بيئة تقع في عمق الصحراء، تنتسب إلى موروثات الحقب الحضارية المتأخرة للدولة البابلية ـ الأشورية، والذي نشر في بغداد،  في عام 1955 كتابه الأول [ الوجود ـ في الفلسفة الإسلامية ـ مقارنة ونقد] مع كتاب آخر نشره بعد عام واحد، حمل عنوان [أشكال وألوان] ومن ثم الدراسة في لندن، في جامعة كامبردج، والعودة إلى بغداد، بعد حادث غامض لم يفصح عنه الأستاذ صالح، ألا وهو انه أنجز كتابة الدكتوراه، بإشراف المستشرق (آر بري) ولم يناقشها، بل قيل انه رفض مناقشتها، لأسباب اجهلها!
    هذا كله دفع مدني صالح إلى: فن الكتابة. وفي الوقت نفسه، أمضى سنوات طويلة في كلية الفنون الجميلة، واشرف على رسائل واطاريح للماجستير والدكتوراه، في حقل: فلسفة الفن، وعلم الجمال. أي الحقول القريبة إلى الرؤية في النقد التشكيلي.
     وإذ ْ لم ينشر  الأستاذ صالح دراسة في هذا الحقل، يوضح فيها آراءه في التشكيل، وفي الفن التشكيلي العراقي، فان ثمة إشارات ومقاربات كثيرة متناثرة في كتبه حول الفارابي وخراب الفلسفة والسياب والبياتي وابن طفيل وفي ما بعد الطوفان وفي مقاماته الأدبية والروائية تسمح لنا بتتبع والتقاط شذرات من رؤيته الفلسفية والجمالية بالدرجة الأولى، كرؤية تبلورت بنقد مظاهر الاستنساخ، والاستعارة، والمحاكاة، حيث ظهر ذلك في نقده المتواصل للمتحدثين (المتشدقين) بالحداثة! في الوقت الذي كنت أتقاطع معه ـ بعيدا ً عن الهزل ـ في أحكامه إذ ْ كنت لا أرى أكثر انغلاقا ً من رؤيتنا التقليدية وتحجرا ً إزاء انفتاح العالم وحداثته، الأمر الذي جعلنا نضع الحواجز أمام ابتكاراتها، فلم يعترض علي ّ إلا بنشر مقالة حول مخطوطة لي اختار ـ هو ـ عنوانا ًلها، وأطراها وفق وعيه للحداثة، بصفتها ليست قناعا ً أو انتحالا ً، بل إنباتا ً.  وكانت مقالته بمثابة مقدمة لهذا النص [ ألفية الولد الخجول] الذي فسر الحداثة على نحو مغاير لأكثر مستخدميها تزمتا ً، وادعاءً:  على انه لم يكن واضحا ً إلا بدرجة الغموض، ولم يكن غامضا ً إلا في وضوحه، بصدد موقفه من (الحداثة)! لكنه، كما كتب: " إن شاء الحظ وصدت النية، مع التطوريين ومع أنصار التجديد."  الأمر الذي يوضح منهجه في محاضراته في كلية الفنون الجميلة. فليس مفهوم (التجديد) و (التطور) إلا مدخلا ً لرؤيته في تعريف لا يزيد التعقيد تعقيدا ً، مثلما كان يوصي بتجنب تعقيد الواضح السهل.  فما هو (التجديد) وما هي رؤيته للتطور، في الفنون الجميلة..؟ لم أجد إجابة أكثر صراحة، وضوحا ً، من قوله ـ والحديث كان يدور حول سر جماليات الشعر الجاهلي: " إنها حتما ً كذلك. إنها العادات..إنها الطقوس، إنها التقاليد . انه المعتقد.. انه يحمل مرآة الثقافة التي لم تكن إلا مجمل مرآة الحضارة التي لم تكن إلا مجمل تطورات أطوار (عاد) و (ثمود) و (طسم) و (جدس) و (تهامة) و (نجد) و (الحجاز) والربع الذي لم يخل قط من آيات المجد الحضاري الرصين ..." وقد شخص لي، بعد أن استذكر (عبلة) و (هريرة) و (خولة) و (عنيزة) و (مية) حساسية  المعالجة وجماليتها الفنية، بقوله " إنها التي يكاد فضيض الماء يخدش جلدها إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد، وإنها (فينوس) في (خولة) و (عنيزة) في (عشتروت) وظاهر أمر الأسطورة في باطن أمر الفلسفة، وباطن أمر الفلسفة في ظاهر أمر الأساطير. "
    هذا الديالكتيك، في الرؤية التطورية، يسمح للمبدع، كي يكون مجددا ً، أن: يكون متحررا ً من القيود التي تكبل رؤيته. وان يكون التحرر قائما ً على وعي بالحرية في تقنياتها، وان لا يكون ثمن (التجديد) تكسبا ً إلا في حدود الكسب الحلال، وان تكون فلسفة التجديد قائمة على إعادة التوازن:
ـ بين الإنسان ونفسه
ـ وبين الإنسان ومجتمعه
ـ وبين الإنسان فردا ً ومجتمعا ً من جهة والتاريخ كل التاريخ منذ بداية وعي الإنسان من الجهة الأخرى ضمن حدود اعتماد (الفن) وسيلة لاقتلاع الإنسان من موقع وزرعه في موقع أفضل: داخل دائرة اعتماد الإنسان غاية وقيمة عليا، مستندا ً إلى قانون: إن الوظيفة تبرر الوجود، وإنها السبب إليه، والدليل عليه، والعكس صحيح.
     وثمة مثال اخر ذكره مدني صالح، والحديث يدور عن مقارنة بين الفنون التي انجزها الفنان قبل الاسلام، كالعمارة، والخط العربي، والزخرفة، وباقي الفنون، قياسا ً بالشعر، فذكر: " كانت للجاهلية تماثيل من عمل النحاتين الجاهليين .. لكن هذه تماثيل صار اسمها اصناما ً ولم يبلغنا من خبرها الا انها كانت من الباطل الذي زهق حين ظهر الحق فلم تكن منه التماثيل ولم يكن منه النحت .. لكنك تستطيع ان تقدر انهم كانوا يصنعون التمايل حتى من التمر!"
     لكن الأستاذ مدني صالح، في مجال فن النحت، يرجعنا إلى أصول أقدم، حيث كن النحت الشرقي عامة (والبابلي خاصة) أرقى من النحت الإغريقي ومن النحت المسيحي .. وذلك لأنه  لامتناه بناء على رمزيته. وان الشعر، والنحت الشرقي: " كالرسم، وكالنحت، وكأي من وسائل الأداء لا يصير لامتناهيا ً إلا حين يكون رمزيا ً. والخلاصة أن هناك فنونا ًرمزية وأخرى مباشرة. فإذا كان تمثال (فينوس) يتمتع بالوضوح والواقعية والمباشرة، فان تمثال (أسد بابل) يقول الأستاذ مدني صالح: يدوخ الأفلاك! ثم يتساءل: أرأيت أن أحدا ً رأى أسد بابل، وقال انه صورة من صور تدجين (شمشون) و (هرقل) و (انكيدو) في صورة أسد! فما تحقق في (المعلقات) تحقق في سد مأرب.. وفي العمران ..والجسور وتنظيم القناطر .. وكلها قد بلغت أوجها قبل الإسلام. وان (حداثتنا) لم ترتق بعد إلى جماليات تلك المنجزات. حتى انه، وأنا أسأله عن الحداثة، قال بالنص "أنا لا أتداول مثل هذه الكلمات، ومثل هذه المصطلحات .. حداثة.. قدامة ..عصارة.. عصرنة" ثم قال " أني أولا ً ـ في سؤال حول التجديد " اني أولا ً أتداول كلمات نافعة في الحكم النقدي ومنها صح .. خطأ .. صواب .. جميل ..قبيح .. نافع .. ضار .. عادل ..ظالم .. مشرق .. معتم .. الخ لا حداثة عصرنة .. وعصرانية.. وتحديث التقصير في المعاصر الحداثانية!! " ذلك، في رؤية مدني صالح، أن الفن ليس فنا ً ما لم يكن جميلا ً. والفن لا يكون جميلا ً ما لم يكن عدلا ً عادلا ً. والعدل أساس الجمال والأدب والفن والعلم والحضارة والثقافة، وتاريخ البناء، في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.  فالجمال، ليس بالمعتقد أو باللغة أو بالملايين، ولا بالدنيا كلها، إنما بالإنسان: الصادق العادل الجميل!
     وإذ ْ كنت أشرت، في (جريدة العراق 10/3/ 1988) أن الأستاذ مدني صالح، يبشر بجمالية نقدية، إحيائية، تنتمي إلى الأرض والتاريخ والأصول .. فقد قال لي  انه قد أنجز نظرية (الأوساط والتمدد) في التشكيل وفي التصميم. وهي تلخص حصيلة دراساته وتأملاته، في علاقة الوظيفة بالأشكال، والأشكال بالوظائف: إنها بلا مستقبل إن لم تكون قادرة على التكيف والمعاصرة بما هو نافع في مجال الانتقال من الجميل إلى الأجمل، على غرار قاعدة من قواعد سنن الحياة الطبيعية ومجرى سير التاريخ.


الخميس، 27 أكتوبر 2016

<iframe src="https://embed.ted.com/talks/alyssa_monks_how_loss_helped_one_artist_find_beauty_in_imperfection" width="640" height="360" frameborder="0" scrolling="no" webkitAllowFullScreen mozallowfullscreen allowFullScreen></iframe>

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

أختام -عادل كامل











أختام

الختم الرابع


عادل كامل

[" لن أنسى أن أضع بين هذه الوصايا طريقة مبتكرة جديدة في المعالجة، رغم إنها يمكن أن تبدو تافهة بل مثيرة للضحك تقريبا ً، وان كانت ذات فائدة كبيرة في حثّ العقل على مختلف الابتكارات. ويحدث هذا إذا ما رحت تتفحص جدرانا ً ملطخة ببقع مختلفة، أو أحجارا ً من أنواع مختلفة، فإذا ما احتجت إلى ابتكار تصور لمكان ما استطعت أن ترى هناك وبشتى الأشكال مثيلا ً لمناظر طبيعية مختلفة، تزينها الجبال والأنهار والصخور والأشجار والسهول الشاسعة والوديان والهضاب، وتستطيع فوق ذلك أن ترى ثمة معارك مختلفة، وحركات سريعة لأجسام غريبة، وتعابير وجوه، وثيابا ً وعددا ً لا يحصى من أشياء يمكنك أن تجمعها في صورة متكاملة جيدة ...
  فلا تحتقرن رأيي هذا الذي أذكرك به، ولا تجدن ثقلا ً في التوقف مرة أخرى والنظر إلى البقع على الجدار، أو إلى رماد النار، أو إلى الغيوم، أو إلى الأوساخ، أو إلى أماكن أخرى مماثلة، ستجد فيها، إذا ما تفحصتها جيدا ً، من الابتكارات المدهشة ما يحث عقل الرسّام على ابتكارات جديدة سواء في ذلك أشكال معارك الحيوانات والبشر، أو مختلف أشكال المناظر الطبيعية والأشياء المرعبة، مثل الشياطين وأشياء مشابهة، تصبح سبب شهرتك؛ ذلك أن الأشياء الغامضة تحثّ العقل على ابتكارات جديدة"]
ليوناردو دافنشي

[1] ذرائع ـ دائرة الانغلاق

     كأن محركات اليد الخفية، المحمية بجدران الكهف، كانت تتلمس ـ ضمن حدود التجربة أو بدوافعها اللا شعورية ـ خاتمة ما لمصيرها. يد احد أسلافي في أزمنة ما قبل استخدام نظام اللغة، ان التشبث بالوجود، ليس إرادة ذاتية خالصة، إلا ضمن المشهد الكلي. فتلك الأصابع العنيدة التي كان عليها ان تظهر بسالة المخلوقات الأقل إدراكا ً بالنتائج، وما ستؤول إليه عدم المقاومة، كانت تخفي ذريعة أنها لن تقهر... لكن ضد من..ولأية غاية لا يشوبها الظن، أو أسى الفقدان، كانت تتمسك بأداء فعل غير مكلفة بانجازه، ولا تمتلك مبررات استحداثه بالوضوح الذي جعلها تنجزه!
     لم اكف عن النحت، بهذا الهاجس النائي، ولكن بالية رهافة أعادتني إلى نهار الغابات، وومضات رذاذ الماء تحت أشعة الشمس، والى برد المغارات، والى يوتويبيا ما قبل إدراك أنني جزء من أجزاء لن تشكل الكل، لأن الكل سيبقى وحده محميا ً بمسافاته، ومدياته الشاسعة، أو غير القابلة للقياس إن لم اقل غير الخاضعة له، عدت أدوّن في الفصل الرابع، من رواية علي ّ ان أعالج فيها موقف مخلوقات خرجت توا ً من المحو، وليس عليها، إزاء عاصفة كبرى، إلا ان تترك أثرا ً ..!
احد الشخصيات، في هذا الفصل، ـ وهو في دوامة أحاسيس لم تفقده وعيه في ان الفراغ، ليس عدما ً، بل ولا الأخير خال ٍ من الذبذبات، في الأقل ـ بلغ الحالة ذاتها التي كان يحدس ان لها الفعل ذاته. فكتبت تمهيدا ً يلامس لحظة تقدمه في الفراغ، لكن الذي ـ رمزيا ً ـ يعمل بالمشفرات ذاتها التي جعلت سلفي ـ قبل مليوني سنة ـ يحفر في الصخرة أثرا ًيتضمن حضوره في الغياب، وقد بدا له جزءا ً من نظام عمل الدورات، أو الاضطرابات، في الصفر المطلق:
     [ ليس لديّ ما استدل عليه كي أثبته، أو انفيه، ما اذا كنت أفقت، أو أنني مازلت عديم الوزن. الأمر الوحيد الذي لفت انتباهي أنني لم اعد أفكر، ولم اعد منشغلا ً بوجودي أو ما كنت عليه. لم يكن لي وزن، بمعنى أنا لم اعد كتلة. فانا، بحسب الترتيب، بلا أبعاد. الأمر الذي لمحته عابرا ً ان انعدام الوزن لا علاقة له بالفراغ، فانا في مكان مفرّغ، وإلا كيف مازالت تخطر هذه اللمحات في راسي؟
   تذكرت ـ ربما بسبب حبيبات لمعت أمام بصري ـ ان قوة ما سحبت بذور الهواء معها، ولملمت ذرات الزمن، ولم يبق شيئا ً لي، فأنا لا امتلك أداة للمقارنة، أو التعرف، فانا عديم الحواس، وهذا الذي يخطر ببالي، ليس وهما ً وليس امتدادا ً وليس بقايا ... إنما كيف أبرهن ان الزمن اختفىن كالجاذبية، كي أكون محاطا ً بهذا الفراغ ...! استدركت، وأنا اجهل تماما ً ما اذا كنت اعبر من الموت إلى الحياة، أم من الحياة إلى الموت، ولكن الذي لا استطيع معرفته هو أنني كنت اعرف أني فقدت هذه الأشياء كلها من غير اعترض! كانت ثمة قوة ما امتصت، سحبت، جذبت، فرّغت، الهواء، والضوء، والزمن ... لكنني مازلت اجهل لماذا لم تأخذ معها هذا الذي لم اعد أتحكم فيه، مع انه يكاد لا يترك إلا أثرا ً لا يدل عليه، ولا ... عليّ!
    استطيع الاعتراف أنها الأفكار التي طالما خطرت ببالي، لكن من غير صور، أو عمق، أو انعكاسات، أو أصداء. اذا ً أنا لست طاقة، ولست حبة رمل خارجة من الصفر، أو راجعة إليه، وإلا كيف لمحت تحول المدى إلى أشكال تمحو حافاتها حد أنها لم تترك حافة، أو ما يدل على أني كنت لمحتها، ولمحت تلك القوة التي لم تترك، إلا هذا الذي لا استطيع تفنيده، أو إثباته!]



[2]الزمن: حدود متناثرة ونائية
      ما الذي باستطاعتها ان تقوله، اللغة، بنظامها في التعبير، أو بما تخفيه، عبر رموزها، وإيحاءاتها، وصورها، ومشفراتها، وهي جزء من مشهد كلي التحولات: الانبثاق من الموت، وموت كل ما غدا وكأنه سيقاوم الفناء!
    إنها تركت (أثرا ً) وعلامة ما دالة على الحفر/ الانتهاك، وفي الوقت نفسه، أملا ً كامنا ً في آليات لاوعي الكائن الحي بالدرجة الأولى.
   فانعدام الهواء، واختفاء ذبذبات الأصوات، وانسحاب حبيبات الزمن، ونضوب ومضات الضوء،حد انسحاب أو انعدام الفراغ ... كلها لا تدل على لغة، راسخة، مقدسة، أو أبدية. فاللغات، شبيهة بالكائنات الحية، لها حضورها الملازم لها ضمن شروط وجودها، وزوالها. فعدد اللغات التي لا اثر لها، لا كلغة حسب، بل كآثار أو خربشات، بعدد المنقرضات. وعندما أعود إلى (النص) السابق، لم يغب عن ذهني، ان المراقب كان واعيا ً ان أثره، كمصيره، كلاهما بلغا درجة: الصفر/ العدم/ الفراغ غير المنتهي بحدود، لكنه ـ في وعيه ـ كان يمتلك قناعة ما بان الموجودات، لم توجد ذاتها بذاتها، فهي ليست فائضة، قياسا ً بعضها بالبعض الآخر، من ناحية، أو بوجودها في المشهد الكلي غير القابل للحصر، أو ان يكون مادة للوعي. فاللغة ـ كأداة ـ تبرهن أنها لا تقول ما يريد الكائن ان يتخطى حدوده، أي حدود الاستحالة التي وجد نفسه مكبلا ً داخلها، مع انه لم ينس ان الإجابات، أو الحلول، أو الامتداد، أو الديمومة، كلها كامنة في أصل الاشتغال، وفي بناء السؤال.
     ان اثر اللغة، نصا ً شعريا ً أو نثريا ً، أو بينهما، لا يقول الحقيقة أبدا ً، لأنه لا يمتلكها، ولكنه ـ كما في حالة هذا الشخصية ـ لم يستسلم للذوبان فيها. فقد اكتشف ان المعضلة لا تكمن في الزمن ـ المرور/ أو لأن المكان أزمنة تكاثفت ـ بل في الذي سكنه. لكن لغته مازالت هي لغة  من صنع وجود وجد قوانينه أقوى من ان يستبدلها بقوانين مناسبة، أو حتى ان يدحضها بما غذى أحلامه من ومضات، واستحالات!
     لغة ضد الاستحالة، سيبحث عنها، بعد ان وجد ان عناصر الحياة قد سلبت، جرجرت، سرقت، دمرت ...الخ منه. فهو حاول ان يوثق ذلك الذي مأواه قد توارى في الزمن! الزمن الذي لم يعد ينتج المتضادات، حد المحو، بل غدا يخترع لغة ما لوجود طالما سكنه، هو، شبيها ً بالذي لا وجود له، في وجود آثار الزمن، موزعة، ومتناثرة، في ساحة الصراع.

[3] المرآة ـ المسافة
     بلا وعي لا يستثني الرهافة عن آلياته غير القابلة للاستبدال (الحتميات)، لا يتكون الختم من غير مراقبة شاملة، حتى في تأمل ما يبدو محض مصادفة، أو فائضا ً، أو لا متوقعا ً، أو وهماً.
    فإذا كنت كررت، بأشكال محورة، حد التمويه، علاقة الرائي بالمرآة، فقد خطر ببالي السؤال التالي: أيهما يحدق في الآخر الوجه في المرآة، أم المرآة في الوجه! لكن هذا محض مدرج لسؤال: ما المسافة بينهما،ومن ناحية أخرى: أيهما أكثر بعدا ً عن الآخر؟ أتراهما سيلتقيان، أم أنهما لم يفترقا في الأصل...؟
    كان الوجه يعبر عما لا يحصى من أجزاء الأجزاء اللا متناهية كي يتعرف على نهايته. يذهب ليرجع. إنها دورة. لكن هل كانت عناصر المرآة تمتلك الرهافة ذاتها في أداء دورها الآلي..؟ فماذا كانت ترى المرآة في الوجه، عبر المسافة غير القابلة للقياس، أو ان تكون محض ممرات، وكيف باستطاعتي ان احدد دورها..؟
    لبرهة تجاهلت المرآة ـ بصفتها طاقة تجمدت واستحالت إلى جماد، خامة لها سمة الذاكرة، أو الحفظ، ولكنها كانت تتلاعب بالاتجاهات، كما أنها تحتفظ بوجه آخر حصلت عليه بفعل الانتقال وعبر المسافة المزدوجة، فتارة الأخيرة تؤدي دور الجسر، وتارة تؤدي دور الفجوة، وعمليا ً لا يمكن ان تكون هناك حقيقة إلا عبر هذه الازدواجية: التناقض. فالوجه النابض بمكوناته هو غير المنعكس في المرآة، والمرآة لا علاقة لها إلا بحدود أنها كانت تحتجز وجها ً بدا لها مصادفة، وأصبح حقيقة بحدود استحالة ان يكون، هو هو، وإنما الوجه ليس لكائن آخر.
   لكن ماذا عن سطح الماء ...؟الماء الذي يشترك، مع الجسد (ومع الوجه) في نسبة من العناصر، وليس عن الخامة التي بدت منفصلة عن الوجه!
   
[4] الماء: المرآة/ المسافة/ والأثر
     للمرة الأولى لمح الوجه هيأته في الماء، وللمرة الأولى اكتشف ـ في مسلسل التعرف على وجود له خصائصه الموضوعية ـ ما سيحمل عنوان: نرسيس. لكن هل حب الذات حد العشق هو الجانب الأخير من الاكتشاف..؟ ان الماء أدى دور المرآة، وسمح للوجه ان يتعرف على ذاته، ذاته هو، كما هو عليها، وليس كما في عيون الآخرين. فمرآة الماء أداة محايدة، فهل هي محايدة حقا ً، أم أنها ستفتح هوة لن تردم ترسخ عزلة (انفصال) الوجه عن باقي المكونات...؟ مرة أخرى عملت مرآة الماء بازدواجية زاخرة بأسئلة مولدة للإجابات، وبإجابات عملها لن يتوقف عند أسئلة أخيرة. فالوجه تعرف على 1 ـ ذاته 2 ـ وعلى الماء 3 ـ وعلى المسافة ما بينهما. وفي ذات الوقت تعرفت مرآة الماء على 1 ـ عملها 2 ـ  وعلى الآخر 3 ـ وعلى المسافة بين شكلين لهما خصائص مشتركة، ومختلفة في وقت واحد.
     لم انشغل كثيرا إلا بالمسافة وما يحدث عبرها من متغيرات في الوجه، وفي المرآة، وفي مرآة الماء، لأنها وحدها أدت دور الجسر ـ ودور الجدار، ومن ثم لا احد تعرف على الآخر، عن إجابات، وعن أسئلة لا خاتمة لها.
    ألا تبدو المرآة، مرآة الماء، والمرآة التي ستصنع أو تستحدث لأداء هذا الدور، ولتؤدي دور الذاكرة: تكدس أطياف الصور/ وأشباحها/ والصور التي تلتقطها لتتجمع فيها، كما ستتجمع في خلايا الذاكرة، ضمن عمل الدماغ المستحدث، لدى الآخر، كائنا ً حيا ً أو جمادا ً!
[5] العبور إلى الصفر

    فثمة مادة ما لديها خاصية الحفظ، فانا لا اعرف كم تجمعت، في مرآة الماء، وفي المرايا الأخرى، من صور؟ لكن تفكيك الذرة ـ كما اعُتقد أنها اصغر وحدة للقياس ـ لا يفضي إلى خصائص مكان له ثبات جدران: الرأس/ الرحم/ الكهف/ القاصة/ المتحف ..الخ بما هو مشترك بينها في الخزن، وفي الحماية، وفي الاستثمار، حيث يتهدم نسق الديمومة برمته! لا المرآة ستتذكر ما خزنته، ولا خلايا البصر ستحتفظ بما رأت إلا في حدود زمن زوال ما مر بها. فالموجودات وجدت كي تدرك أنها تؤدي دورها في العبور إلى اللا وجود، لا وجودا هي، الوجه أو المرايا، بل استحالة الاحتفاظ بما مر بها، وكنزته، وحسبته أبديا ً!
    فهل يحتفظ الختم ـ التوقيع، الشبيه بالمرآة أو المتحف أو الرحم أو القاصة، بما يتحدى فيه عوامل انحداره إلى المغيب، وهل لديه قدرة الاحتفاظ بالجهد الذي بذل من اجل ان يكون معدا ً سلفا ً، وبحكم القانون، لهذا المغيب؟


[6] جذور ـ   المرآة ومشفراتها

     ولأن الإنسان ليس مجموع مكوناته، إلا لأنه ـ بحسب احد معتقدات الشرق ـ امتاز بحمل (نفس) من الأعالي، وهي، بحدود الكلمات، الآلهة. فالإنسان المكّون من خامات الأرض، وجد هبة من مكان آخر. فهو ليس عناصر تجمعت مصادفة، وقفزت من العشوائية إلى النظام الذي شكله، بل جاء ـ بحسب هذه الومضات ـ حصيلة تداخل، وتركيب، وتوحد. انه غدا يحمل نفسا ً (روحا ً) جاء نتيجة عطف الآلهة على هيأته البدئية، ثم حصل على عمل: خدمتها! خدمة تلك الآلهة تحديدا ً. لكن المسافة ستتسع بين الأعالي والمخلوقات ـ التي حكمت بالعودة إلى عناصرها، وعزل (النفس)، مرة أخرى، عنها!
    تلك (الوظيفة) ستؤدي إلى فجوة. لأن عمل البشر لن يذهب إلى الآلهة، ولا أضاحيه، وفي مقدمتها إراقة الدم البشري، إنما ستذهب إلى بيتها، الذي استولى عليه عدد من أقدم سحرة العالم، كي لا يذهب عمل الإنسان إلى الأعالي، أو إلى من وهبه الروح، بل إلى حفنة راحت تتحكم بالتصورات، والموارد، وبالإنسان نفسه.
     وأختام الأزمنة التي وثقت أقدم أشكال (الاغتراب) تحكي ما هو ابعد من ذلك: الحرية بصفتها فخا ً، غواية، لعبة يذهب ضحيتها الجميع، لكن ضمن جدلية: الصياد ـ الطريدة.
   فالمرآة ستعمل في حدود مساحة كهف الساحر، ومعابده ـ وصولا ً إلى الرأسمالي، وخزائنه في رسم مشهد تطور الصياد إلى زعيم كلفته الآلهة بأكثر الأدوار ديمومة على الأرض: النهب، ومنح العنف مبرراته تزكية لنظام الاحتكار،في أكثر المعادلات استحالة على التفكيك..!
   فما ـ هو ـ حاجة الآلهة الأولى، في أقدم التصورات، لعمل ما تجمع في المرايا، عدا منح الاستحالة منطقها الأرضي لصالح طرف على حساب الطرف الآخر! لكن الذات التي رأت زوالها، قبل ان تراه في الآخر، لم تكف عن البحث في العثور على مبررات أنها ولدت لتمحو ذاتها. فلا خاسر إلا من ربح خسائره، لكن، في ما هو خلف المرآة، ومنحها لغز الأبدي، وقد عاد إلى: الصفر.
[7[ الفجوات ـ تتسع
     فكرت ان للختم الدور المعلن هذا بالإضافة إلى مخفياته. وسأفترض ان للختم ـ وللفنون والثقافات وللدوافع الجمالية ـ دور المرآة، لرائي ناء ٍ. كالمجتمع أو الضمير أو قوى ما لها هذا الدافع. ثم طورت آليات هذا النسق. فثمة ومضات أراها تأتينا من وراء مسافات غير قابلة للقياس: مليارات من السنوات الضوئية، وأكثر ـ لأنني محكوم بحدود أدواتي العملية والمخيالية ـ لكنها تصلنا بعد ان تكون قد فقدت وجودها، معناها وشكلها. وفي الوقت نفسه، هي لا ترى إلا الومضات التي فقدت وجودها برمته، ولم يبق منها، إلا ما هو آت ٍ من وراء المسافات:  لا وجود لمرآة يرى فيها أيا ً منهما ـ هنا ـ إلا ما سيسكن الطاقة، أو في أقاصيها، كالذي سكن المسافات بين الكتل، مدى الانجذاب، الشبيه بالفراغ، بما فيه من ( ! ) من محركات ستعيد إليه أشكالا ً ليس لها إلا متغيراتها، وتحولاتها، بحسب مكونات ما هو ابعد من الختم، والصانع، والمتلقي!
    فلا احد باستطاعته ان يرى الآخر، بمعنى: لا احد رأى. لأن الماضي، وحده هو الجذر الذي لانهاية له في توغلاته، لأن الحاضر  هو ما لم يحدث (يكتمل) بعد، كلاهما، لا يتحدان إلا بما قبل الزمن، وقبل المسافات، وقبل الحركة.
    انه ليس الماضي، بل السابق عليه. الأمر الذي يجعله ان يضع حدا ً للاستحالات، ويتركها تكمل دورتها، خارج ما بين المرايا. فلا احد رأى الآخر إلا وقد اكتملت الرؤية! أما ان تكون قد أؤجلت، بانتظار ان تكتمل، فتلك قضية ستغدو قد خضعت لبرمجة كلية بالغة التجريد، وخارج نطاق الإدراك البشري.

نصوص علي النجار
شهادات وأختام في عصر اليورانيوم
عادل كامل
[1] بذور النشأة والانشقاق
 لم يغادر على النجار مأواه، أو المكان الذي ولد ونشأ فيه، إلا ليكتشف ان الجنين الذي سيتكون، سيتكّون في رحم المنفى. انه افتراض يوازي نهاية ما بعد الحداثة، وكعودة إلى اتجاهات مغايرة للعولمة. فالمنفى ليس اختيارا ً، كالانتحار، كلاهما لا يمثلان إلا إرادة مقيدة. فالبذرة ـ إشارة لتكّون خلايا الخلق البكر ـ التي تولد وتنمو وتنضج وتموت أو تدُفن في أرضها، لا تؤدي إلا دورتها، إنما ثمة بذور ستجد أنها منشغلة بالبرهنة على أنها عنيدة، لا في دحض فنائها، بل لمنح الديمومة اللغز ذاته الذي كونها، أو مازال تعمل بدوافعه.
     كان علي النجار، في بغداد، حتى قراره بالبحث عن أيد ٍ قد تنقذ حياته من مرض عضال، كما يقال، في أي مكان عدا الأرض التي راحت تسحق حياته. كان منشغلا ً بصناعة أختام لم يسمح لها ان تحافظ على منطق الشكل: الصورة، بل ذهب ليبحث ـ ويجد ـ ان الدوافع لن تتوقف عند حد من الحدود. وان العلامات (كأجزاء أعيد بناءها) ما هي إلا علاقة رهافة مهمتها ان لا يدع الجمال فائضا ً.
    كانت أساطيره ومخلوقاته وليدة اشتباك بحثا ً عن الممكن في المستحيل، وربما عن المستحيل في الممكن، فرسوماته لا تمتلك غواية، أو ترف الرسامين الباذخين الذين لا علاقة لهم بما كان يحدث، لا في المكان ذاته ولا في أي مكان آخر من العالم، بل كانت تتوخى تفكيك المرآة وبناء علامات لا مرائية، لكنها ليست من صنع العدم! كانت الحرية، لكل من يدعو إليها، أو يقود الآخرين إليها، تتطلب محكا ً للبرهنة على أنها ليست غواية، أو كمينا ً، أو فخا ً توارت خلفه ما لا يحصى من الدوافع. فالرائي طالما غدا ضحية أحاديات تتحكم بمصيره، لتتركه، في النهاية، بلا مصير!
     أختام تحكي كل ما سيكون حجابا ً بفعل الكلمات (لأننا أسرى لغتنا، وأنظمتها) فالرسام لم يرسم إلا تلك المناطق وقد جردت من الهواء، والماء، ومن الرحمة! فهل باستطاعتي ان أتصوّر أشد (وحشية/ ووحشة) من حياة تتحول فيها (الرحمة) إلى آليات لإنتاج سلع غايتها الربح، وغايتها الأبعد، تدمير الربح نفسه!
     علي النجار استمد ديناميته بهدم نظام ان العالم يتكون من أشياء، وسلع، ومكاسب، لكنه سيديم بطولته بعد ان جردها من هذا كله، بل، ومن البطولة تماما ً. فان تكون بطلا ً، بحكم هذا النسق ـ السياق ـ تكون أقمت مجدك على تدمير الآخر وعلى خسائره، بعد محوه! إنما أقامها كانتماء إلى عالم بالإمكان ان يخلو من حروب الموتى، وحروب لا يقودها إلا الموتى.
[2] الاحتفال باليورانيوم!
     هل باستطاعتنا ان نجد ذلك في نصوص علي النجار، وهي تفكك جحيم الألوان، وقد اشتبكت، ضمن العناصر، بخلق مشاهد لا تحدث إلا في الاستثناءات النادرة، اشتباكات شبه يومية، بل والتي أخذت تتسلل إلى الجميع، والى كل من حاول تجنبها. فالفنان كان يرى استحالة وجود مناطق آمنة، في الرحم، الوطن الذي غدا جحيما ً للإخصاب! هل باستطاعة أختامه ان تهدم أقنعة عالم تحول فيه نظام حرب الجميع ضد الجميع إلى قانون لا ينجو منه احد. ففي عصر البرية، قبل اكتشاف/اختراع النار، وقبل عصر السحر، والمعابد، والأفران النووية، وقبل عصر الشركات الساحقة للقارات، بعد حروب الصواريخ المزودة بأطنان من مواد الفتك، النظيفة!، ومن برامج التفكيك ..الخ في تلك الأزمنة الأقل قسوة، كانت حتى البكتريا  تجد لها مأوى للخلاص،  فقد كانت للرحمة آثار مازالت علاماتها حاضرة وشاهدة ومحمية بين الطبقات العميقة للصخور البركانية!  
     أختام علي النجار مكثت تحافظ على مشفرات الرموز، وعناصرها، حيث الأمل لم يكن وهما ً، إلا بحدود المشاركة، لا بحدود تبادل الاجتثاث، والمحو...! فهي تحكي كم هي بذور الشمس قادرة على إخصاب رحم الأرض! لتقيم عرسا ً، مهما كانت تأويلاته تقودنا إلى مناطق نائية، إنما مازال يمتلك صدى ان الحياة ليست فائضة، أو من صنع العشوائيات، أو أنها محض جذام!
   أنا كتبت ذلك، قبل ثلاثين عاما ً، عندما كنت أولي الآخرين ذات المهمة التي سيضطلع بها صديقي علي النجار، وهو يكرس فنه للاحتفال بنكبات اليورانيوم!
 [3] ـ ملاذ المرارات ـ الحياد المستحيل

     يا له من احتفال...!
 في أيام حروب الحجارة، والسهام، والبارود، والكمائن الصغرى، كان باستطاعة الباحث عن ملاذ ان يتجنب الموت، وان يستعيد حياته، بعد الارتواء من القتل، وسفك الدماء. وحتى أبشع حالات الذعر، لم تكن قد بلغت ذروتها، كي يصبح طلب الموت وحده كالحالم بالحصول على جناح في الفردوس! لأن للنجاة منافذ ليست بلا وجود، أو فقدت.
   ربما هناك تلك الإبادات التي ستستلم إليها الكائنات، قبل ان يتحول الذعر إلى وعي به، والى فرصة تأمل، والى انشغالات فلسفية ... ففي تلك الإبادات، كالبركان الذي يحول نهار الأرض إلى ليل متجمد، أو كسقوط نيزك، أو انخفاض حاد في درجات الحرارة، للحد الذي تتجمد فيه بذور الخلق ...الخ لا فرصة للبحث عن كوكب آخر، أو حتى تخيل إمكانية الحصول على عزلة في الفضاءات البعيدة، لكن درجات الحرارة الباذخة في الارتفاع، كانت تحول العضويات، إلى هواء، والى فراغات، والى ما يشبه الأثير الذي يتخذ أشكالا ً بفعل تجمد العناصر المنصهرة، وتحولها إلى مجسمات!، لكن، لها أشكالها، وتفاصيلها الدقيقة أيضا ً.
    ثمة ذعر ... مازال صداه يأتينا، كرائحة غبار تلك البراكين، والنيازك، ممتزجا ً في الملامح، وفي الهيئات.
   فكانت رهافة علي النجار، لا تكمن في رصد أشكال الانتهاك ـ التقليدية ـ للغالب أو للخاسر، بل للخسران الذي تعرضت إليه الحياة، عبر أزمنتها الطويلة. ولعل سؤال: لماذا تعاقب ارق المخلوقات، هذا العقاب، يوجه إلى الخاسر الأكبر: الصياد أو من سيقوم بدوره. لكن نصوص الفنان ليست إعلانات لصالح طرف ضد الطرف الآخر، وإنما لمنح الفن لغزه، كي يتمتع بهذا الدور الذي لم يفقده بعد!

[4] خلايا تفتك بخلايا
    فهل تراه يحتفل، أم يحتفي، أم يدحض أي مفهوم للاحتفال والاحتفاء، وهو يعيد قراءة نتائج ما ستؤول إليه الحروب، والتصادمات (إن كانت قذرة أو نظيفة)، التي لا تستخدم السهام، والبارود، والخردل، بل تستخدم أكثر أنواع الأسلحة فتكا ً، من غير الم، وربما من غير اثر! الأسلحة التي أصبحت شرعية للاستخدام، منذ هيروشيما، حتى يومنا هذا، لكنها التي أصبحت تخلف آلاما ً، وتشوهات، ولا أخلاقيات انحدر إليها المشهد الكلي، وغدا خارج حدود الاحتمال.
    علي النجار يعنّون برنامجه للعمل الفني لا كإعلان لجماعة مسالمة، أو تنتمي إلى منظمات الخضر، أو الرفق بالحيوان، أو تنتمي إلى فلسفات البيئة (الايكولوجي)، ولا إلى اللا عنف، ولا إلى بعض أنقى الديانات الهندية، التي ترجعنا إلى مفاهيم العدالة، في سومر فحسب، بل إلى ضرب من (الانطولوجيا)، وقد أعاد بنائها بوعي بدا له متحررا ً من قيود المنفى، وما ورثه من مشفرات مدافنه القديمة، ولكنه الوعي الذي يتقمص رسالة ما، غير ربحية، أو تعمل بالأقنعة، تتحدث عن اثر (اليورانيوم) في الأشياء، والنبات، والحيوان، وفي مقدمتها: الإنسان.
     انه لا يمرح، ولا يصنع لوحات باذخة الجمال، للصالات، مع ان الذين يواجهون الموت، يمتلكون أحيانا ً قدرات نادرة على إنتاج الطرائف، بمعنى: الأمل، من غير ارتداد أو لجوء إلى الحميات الوهمية. فهو يحدق في خلايا تفتك بخلايا! فالمشترك هو الانشطار، وهدم برامج الكائنات الحية، ودفع حياة المصاب إلى ذروتها:  لا جدواها، بعد ان أصبحت فائضة.  لكنه يضعنا في مفهوم آخر للانشطار، خاص بالزيادة السكانية (السرطانية)، إزاء ثابت الإنتاج ومحدوديته المالتوسية *،أي إزاء رداءة المعايير المتعارف عليها منذ غدا نظام البقاء للأقوى راسخا ً. انه، عمليا ً، يحدق في حضارتنا المعاصرة، ويعرضها من غير رتوش، أو تزوير.
* ـ دوّن مالتوس في كتابه بحث في مبدأ السكان عام 1798 سلسلتين أصبحتا شهيرتين:
ـ السلسلة الهندسية لتزايد السكان (التزايد الهندسي)
ـ السلسلة الحسابية لنمو وسائل المعيشة (التزايد الحسابي) . مستنتجا ً بضرورة وضع حد لزيادة السكان، لتلافي الحروب. ولكن كارل ماركس فند هذا الرأي، وأرجعه إلى عوامل تخص النظام نفسه، وليس إلى الحتميات. انظر (التنمية صفر) ريموند ريشنباخ/ سيلفن اورفر. ترجمة: سهام الشريف. وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق ـ  1978  ص7

  [5] لأجل القتل
    ليس لأن اليورانيوم محض خامة إبادة، أو احد عناصر أسلحة الاشتباك، بل لأنه يحكي ـ من غير شروح ـ صمت الحكمة، بل موتها. فعلي النجار حفظ عن ظهر قلب مقولات: موت الفلسفة وموت الفن وموت الإنسان نفسه، لكنه حفظ أيضا ً ان شيئا ًما أقوى من الموت، ليس هو مشفرات بذرة الخلق، بل استحالة تدمير نظامها العنيد بعد! فالرسام يصوّر عالما ً لم يتطرق إليه (المعري) في زيارته إلى العالم الآخر، ولا (دانتي) في جحيمه، لأنهما، لم يمتلكا تصورا ً حول انشطار الذرة وما تكونه من طاقة مروعة على: المحو. لكن المحو النووي، لن يتوقف عند الموت، أو دفع اصلب الفلزات كي تستحيل إلى أثير، بل ستترك أثرها في إنزال اشد التشوهات في الأجنة، وفي المواليد، لأن اليورانيوم، سيعمل ـ كباقي المستحدثات في هذا المجال ـ على تخريب، وتدمير الخارطة الجينية للموروثات التي صمدت في البقاء مع نشوء بذور الخلق قبل مليار ونصف المليار سنة. وقد كان الفيلسوف البريطاني برنارد رسل قد لفت النظر في كتابه (هل للإنسان مستقبل؟) ما يحدثه استخدام هذه الأسلحة، لا في الجسد فحسب، بل في التدهور الأخلاقي أيضا ً. فالفنان يرث ـ وهو يعيد القراءة ـ مشروعا ً لسلوك لا ينحدر إلى عصور الزواحف، والثدييات، بل إلى ضرب من أفعال (الشيطان) التي وثقها المدوّن الحكيم السومري، في نص (العادل المعاقب)، أيوب، ليمثل (اليورانيوم) سلاحا ً دالا ً على أفعال (الشيطان) ـ أو أي اسم آخر للذي يجد في التعذيب تسلية من غير دوافع منطقية، عدا القتل لأجل القتل ـ تحسينات عليه، كي لا يكتفي بالفتك، بل كي يحافظ على ديمومة إنزال شتى صنوف التعذيب. فهو لا يبرر لدوافع اقتصادية، أو من اجل المجد، والزهو بالنصر، أو بدوافع الكرامة، أو من اجل العالم الحر، المتعدد الهويات، الديمقراطي، والشفاف، بل لدوافع ـ كما لفت فرويد النظر إليها ـ ان الإنسان لم يخلق لبناء حضارة، ولا كي يحمل بذورها! مما سمح له ان يعمل على تفكيك النظام (البشري) برمته، جاعلا ً من الموت، كالحياة، آليات لا واعية تعمل خارج الإرادة، ومنطق العقل.
    علي النجار، رأى آثار اليورانيوم، وهي تهدم البيوت على ساكنيها الحياديين، غير المشاركين في جرائم إنسانية، اللهم عدا ركونهم إلى الصمت، وشاهد، عبر بعض الفضائيات، مسلسلات وبرامج ما تركته الأسلحة، لا في مكان واحد، بل في الفضاء الأرضي من القطب الشمالي إلى جنوبه، عبر البحار والغابات والصحارى.
     وعلي النجار، كفنان لم يعد ينتمي إلى ارض، أو قارة، أو منحازا ً إلى طائفة، أو ديانة، بل إلى ذاته، في قرية تحولت إلى أسواق، وأسوار، وفراغات مشغولة بالفضائيات، وبشبكات ألنت، والفيس بوك، في غسل العقول ـ المصابة بالبراءة ـ راح يصنع أختامه، بعيدا ً عن البذخ، وبعيدا عن أقنعة الرفاهية.
[6] الجسد: الشخصي والعام
     بين نصوص الفنان السابقة، ونصوص عامي 2010 ـ 2011، لم يغب الجسد (من الرأس إلى أخمص القدمين)، بل أفصح عن اختيار الفنان، وعن تنوع زوايا المشاهدة. الجسد بصفته امتدادا ً، حدثا ً، ومركبا ً، وأداة معرفة، يغدو في الفن مدخلا ً لعالم آخر، غير السطح، وغير الشكل. فالجسد الذي شهد طفرات، وتحسينات، وتهذياب، مكث يعلن عن محنته: تارة يجتاز العقبات، وتارة لا يتستر عليها، وفي الغالب يكون قد اجتازها نحو أسئلة لا تقود إلى إجابات، بل إلى استحالات.
   في نصوص (اليورانيوم) يترك علي النجار جسده يتحدث عن خفاياه، لا يعلن عن استعراض، أو أناقة، أو تهذيبات جمالية، بل عن الأذى الذي سكنه، حيث أصبح جسده مأوى للأسئلة والإجابات معا ً. فالمطلق ليس بانتظار كلمة تتفوه بها مخلوقات الأرض، المكونة من الوحل والدم، الواهنة، والمبرمجة بحدود منفاها، واستحالة عثورها على خلاص، فلا وجود إلا لفراغ مشغول ببذور وذرات وومضات، وإشعاعات ذات أذى بالغ ـ كأشعة غاما وما يصلنا من المناطق السحيقة من الكون ـ الجسد الذي تحول إلى علامة حضور، في الأرض، منفاه الذي التصق به، وتقيد بغوايته التي لم يخترها، ولم يقدر على تهذيبها،غدا علامة غياب.
     على النجار لم يرسم موت الفن، أو موت الجسد، أو موت الإنسان، بل سكنه، وقلب المعادلة. فجسده غدا متحفا ً، مدفنا ً/ ومساحة للمصائر، وأخيرا ً مشهدا ً له يستعرض فيه عبوره من المجهول إلى مجهول آخر.
     فاليورانيوم علامة (حضارة) استخدم فيها الإنسان كل أقنعته كي يجعلها لا تحكي ما هي عليه: الفتك. الفنان لا يذهب ضحية اختياراته، وأفكاره، وفلسفته، أو ما تبقى من أحلامه، بل جعل وعيه (الفني) شهادة أمام لا احد! لأن المتلقي، في الغالب، شريك في الإثم!


تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


السبت، 22 أكتوبر 2016

امريكا...امبراطورية الشكل-صائب خليل

اميركا.. امبراطورية "الشكل" والعدو المقسم على تحطيم المحتوى
صائب خليل
19 تشرين أول 2016

كتب على شعب العراق ان يكون تحت رحمة هذا الكائن الغريب والخطر، والآن يتوجب عليه ان يخوض حرب "تحرير" الموصل تحت اشرافه، فلماذا يتوجب علينا ان ننتظر أن يكون ذلك "التحرير" الأمريكي، مختلفاً عن "الديمقراطية" الأمريكية و "الصداقة" الأمريكية و "السفارة" الأمريكية، وكل شيء أمريكي فارغ أو مقلوب المعنى؟



مع اميركا، كل شيء مزيف!
“الديمقراطية”، عندما تأتي من اميركا، غلاف جميل لتغطية خيوط السلطة الأمريكية للهيمنة على الشعب "الممقرط"، وسلبه أية قدرة على التحكم بمصير بلاده. “حرية السوق” الأمريكية التي تفرض على الشعوب فرضاً وبالانقلابات العسكرية والضغط، ليست سوى حرية اللصوص الدوليين بنهب البلاد. "حرية" الأثرياء في البلاد بطرد العاملين والموظفين متى شاءوا. "حرية" الشركات في تدمير بيئة البلاد التي تعمل فيها دون ان تدفع تكاليف ذلك، وحريتها في "احتكار العمل" وفرض اوطأ الأجور. إنها "حرية" البنوك الكبرى في طباعة النقد وحريتها في نهب نسبة من ممتلكات الناس بخفض قيمته. هي "حرية" الأثرياء برشوة الحكومة لتكون خططها لصالحهم على حساب الشعب الذي انتخبها، و "حرية" اللوبي التابع لهم لدفع البلاد إلى الحروب التي تثريهم وتدمي شعبهم وضحاياهم معا. إنها "حرية" من يمتلك الصحيفة وقناة التلفزيون ان يحدد للناس من يجب ان ينتخبوا في المرة القادمة ومن يهملوا. وحريته في ان يحدد لهم مقاييسهم واخلاقياتهم وتحديد ما هو مهم وما هو غير مهم، فتترك الاخلاق والقيم معناها الاجتماعي لتصب في قبول "الجشع" والظلم. إنه حريتها في ان تشل إرادة الشعب وحكومته المنتخبة وتمنعها من التصرف بثروات البلاد لصالح هذا الشعب، وحريتها بأن توجه تلك الثروات وضرائب البلاد إلى ما يخدم أثرياء أميركا وذيولهم دون غيرهم.

كل شيء أمريكي، مزيف!

“الاستثمار” بالفهم الأمريكي الذي يسود العالم، ليس سوى “استثمار لشلل البلاد” وضعف إرادة شعبها لامتصاص خيراتها، ولذا فهو حريص على الحفاظ على هذا الشلل الاقتصادي والسياسي وخلقه ان تطلب الأمر.
أما “الخصخصة” التي تطالب بها اميركا في كل مكان تواجدت فيه، فليست سوى سرقة مباشرة وصريحة لممتلكات الشعب التي حققتها لهم حكومة سابقة. "الاقتصاد"، في هذا الزمن الأمريكي، لم يعد علماً لزيادة الإنتاج او توزيع أرباحه، بل لإيجاد طرق جديدة لسرقة الناس وقنونة هذه السرقة واثارة الغبار في مصطلحاته لتعمي الناس وتردعهم عن محاولة الفهم. ووفق هذا "الاقتصاد" يجب اعتبار الحرب وفتح السجون، بل حتى إصابة شخص بالمرض أو حدوث ثقب في إطار السيارة، عوامل "منشطة" للاقتصاد، لان ذلك يعني "فرص عمل" للضباط والجنود وشركات السلاح والشرطة والطبيب والبنجرجي، وكل ما يدفع من اجل ذلك يدخل وفق هذا "الاقتصاد" ضمن "الناتج الإجمالي القومي"، وهو المقياس الأساسي لتقدير حالة الاقتصاد!
في الزمن الأمريكي هذا، لا تمنح جوائز الاقتصاد إلا لمن يسهم في خداع الناس بمفهوم جديد، له هيئة توهم بالعمق والعلمية لتخفي فراغ المعنى.

لقب "الإرهاب" تمنحه اميركا دون غيرها! إنه تهمة توجه للأبطال الذين يحررون بلادهم من الاحتلال! وقد يعود البعض من هؤلاء فيحصلون على لقب البطولة وينالون جوائز التكريم والتعظيم من “امبراطورية الشكل”، إن اقتضت الحاجة. أما “جوائز نوبل” للسلام وللأدب فصارت بالتأثير الامريكي تعطى لمجرمي الحرب الكبار ولمن يروج الانبطاح للقوة الغاشمة وصار ارتكاب جريمة حرب يزيد فرصك من نيل جائزة نوبل للسلام!
قوانين محاربة الإرهاب" ليست سوى “قوانين إرهاب” يستخدمها القوي لإرهاب شعبه واجباره على التنازل عن حقوقه بحجة "الطوارئ" متخذاً من رعب الكلمة، حجة لتجاوز المسيرة القانونية الطبيعية للتحقيق والمحاكمة والعقاب. "قوانين محاربة الإرهاب" ليست لمعاقبة الإرهابيين لأن هذا كان ممكن دائما ضمن القوانين الاعتيادية السابقة، لكنها مناسبة جداً لمحاربة ومعاقبة الأبرياء الذين لا يروقون لأميركا، لأن المتهمون فيها لن يحصلوا على الفرصة لإثبات براءتهم.

"الأمم المتحدة" التي أسست بعد الحرب العظمى الثانية للحفاظ على السلام الدولي والقانون الدولي لم يبق منها بعد الجهود الأمريكية، سوى قشرها. فأفرغ محتواها ليملأ بكل ما يجعلها أداة لشرعنة العدوان على الضعيف. و "التدخل الإنساني" لم يعد إلا وصفا شكلياً مّقنعاً وحجة لتجاوز القانون من اجل تحطيم الشعوب والدول، وتهمة "جرائم الإبادة الجماعية" لم تستخدم مرة واحدة لمعاقبة قوي قام بتلك الجرائم، بل فقط ضد من خسر الحرب أو وجد نفسه في حالة ضعف، لابتزازه أو لتبرير ارتكاب "جرائم إبادة جماعية" ضده. إن الدعوة اليوم لتدخل الأمم المتحدة تثير الرعب لدى الشعوب، والدعوة لإدراج حدث ضمن "جرائم الإبادة" يثير القلق الشديد كمشروع ابتزاز جديد، لا أكثر.

"وسائل الاحتجاج الشعبي" من تظاهرات واعتصامات، والتي طالما خدمت الشعوب في التخلص من الدكتاتوريات، تمت دراستها و"تطويرها" في اميركا، لتصبح هراوات لتحطيم الشعوب. لتصبح "ثورات ملونة" شديدة الفعالية في الانقلاب على الحكومات المنتخبة ديمقراطيا، والتي لا تناسب اميركا. وتجوف مثلا، معنى الظاهرة الاجتماعية الجميلة بتقديم "الورد"، عندما استخدمها متظاهرو "الثورات الملونة" وتحولت إلى رمز مخيف وعلامة تحذير من كارثة قادمة على البلد. فهذه الحركة هي ضمن حركات كثيرة تم تدوينها في كراسات طبعتها منظمات مشبوهة تدير "الثورات الملونة" من وراء الكواليس، ووزعتها على الناس، وتستخدم كطريقة لابتزاز الشرطة ومنعهم من أداء واجبهم بحفظ النظام. ونفس هؤلاء الذين يركضون لتقديم الزهور، سيحملون الاجندة الأمريكية القادمة بكل ما قد يصاحبها من عنف. وبمثل هذه الأساليب ذات "الشكل" الجميل، والقصد المخيف، تم استبدال حكومة أوكرانيا المنتخبة بمجموعة من العصابات النازية الجديدة، وتم تمزيق البلاد على يد الشعب المخدوع نفسه وبفضل تظاهراته، وبتوجيه مما يسمى "المنظمات الإنسانية" غير الحكومية، وهي بلا استثناء تقريباً، وعلى عكس اسمها تماما، منظمات تآمر وإدارة انقلابات وأوكار تجنيد للعملاء والمتآمرين، في الزمن الأمريكي الجديد.

"السفارة" عندما تكون أمريكية، فهي ليست سوى قاعدة عسكرية استخبارية للتآمر، يتناسب تحصينها وحجمها مع حجم العداء المنتظر بينها وبين ضحيتها (الشعب) وحجم الخراب الذي تنوي القيام به في تلك البلاد. "الصداقة" الأمريكية لا علاقة لها بما يوحي هذا الاسم للبشر، فهي ليست سوى “الشكل” الذي يتيح لها الوصول إلى أحشاء البلاد التي "تصادقها" لبث السم وتأسيس الدمار فيها. ولنلاحظ إنها لا تختار "السفراء" كما يفهم الناس لدور السفير، بل تختار سفيرها من بين أشد مرشحيها خبرة بصناعة الإرهاب ومن تمكن من هؤلاء من إراقة أكبر كمية من الدماء والدموع والرعب في دول أخرى كانت ضحايا لهم، مثل السفير الأمريكي الأول في العراق نيغروبونتي، او "أصحاب المواهب" الجدد، الواعدين ببناء مستقبلهم الدموي على خطى من سبقهم. وليست "المساعدات" التي تقدمها السفارة إلا كمثل أصحابها. فمعاهد "تدريب المهارات الوطنية" مثلا، لا يعني، في أسوأ الأحوال سوى تدريب الإرهابيين كما في "مدرسة الأمريكان" في اميركا الوسطى، وفي أحسن الأحوال "زرع مفاهيم الوهم" في المتدربين وزيادة كفاءتهم ليقودوا البلاد اقتصادياً وسياسياً نحو الهاوية.

الحاكم على البلاد التي تتحكم فيها اميركا، لا يتم اختياره لخدمة البلاد، بل لخدمة الأهداف الامريكية التي تتناقض تماما مع مصالح البلاد المحتلة. وفي لحظات تاريخية كانت مصلحة اميركا متلائمة مع مصلحة بعض البلدان مثل أوروبا واليابان، للوقوف بوجه المد الشيوعي العالمي، لكن تلك الفترة انتهت منذ زمن طويل. أما الآن، فبدلا من ان يصل الأشراف إلى رأس السلطة لخدمة الشعب كما يفترض، لا يصل إلى السلطة في بلد تشرف عليه اميركا، إلا اشد الحثالات من المرشحين المتوفرين، وأكثرهم وعوداً بتنفيذ الدمار المخطط، وليس "البناء". وبدلا من ان يصبح ممثلو الشعب وحكومته في خدمة هذا الشعب، نصحوا لنجدهم بتوجيه امريكي، الخط الهجومي الأول للتدمير المخطط، والعدو الأول الذي يجب ان يتخلص الشعب منه إن أراد الحياة. وإن فشلت الخطة ولم يكن من على السلطة بالسفالة اللازمة لتنفيذ الخطة فإنه يزاح خلال أسابيع لينتخب من يكون كذلك. وعندما يستهلك هذا يؤتى بمن هو أكثر استعدادا منه للتدمير، حتى لو لم يكن أحد يعرفه او ينتخبه.

كل ما هو امريكي، مزور ومقلوب المعنى. "التعاون العسكري" لا يعني سوى تجنيد الضباط عديمي الشرف، وأولئك الذين تم جمع معلومات تدينهم وابتزازهم بها، وإعدادهم للمهمات الأمريكية القادمة. وفي العراق، بدلا من الدفاع عن الوطن، قام قادة الجيش الذين اختارتهم اميركا وسلمتهم المناصب المناسبة عن طريق عملائها في بغداد، بتسليم المدن التي وضعوا للدفاع عنها، إلى الإرهابيين، مع كامل أسلحتهم ودون أي قتال. وبدلا من قصف الإرهابيين المعتدين، لا يقوم "التحالف الدولي" الذي تقوده اميركا إلا بقصف حشد وجيش البلد الذي جيء به لـ "يدافع عنه"، "بالخطأ"، المرة تلو المرة. ولا تهبط مساعداته بالباراشوت إلا "بالخطأ" إلى الإرهابيين.
حلفاء اميركا وذيولها الأجانب، بدلا من ان يكونوا حلفاء لـ "اصدقاءنا" فهم الجهات الأشد عدوانية علينا، يصرفون أموالهم لدعم الإرهاب الذي تدعمه اميركا في بلادنا، وتخترق جيوشهم حدودنا عنوة وبصلافة متناهية، فلا يجد "اصدقاؤنا" الملزمون بحمايتنا ما يقدموه لنا سوى النصيحة بالتفاهم مع المعتدي.
ولو نظرنا إلى ما يسمى "تسليح الجيش"، بالمفهوم الأمريكي كما يطبق على جيشنا، لوجدناه لا يعني سوى منع الجيش من الحصول على السلاح بشتى الطرق. فيؤخر تنفيذ صفقات الأسلحة إلى سنوات عديدة، ويمنع البلد من الحصول على السلاح من أي مكان آخر من خلال جوقة رخيصة من العملاء داخل البلد.
وبنفس الطريقة، فأن "دعم وحدة البلاد" لا تعني كما يبدو في الفهم الأمريكي، إلا السعي الحثيث إلى تمزيقها على خطوات تبدأ بإعلان أقاليم وزيادة صلاحيات محافظات ومشاريع جيوش مستقلة وقرارات برلمانية بالتعامل مع مختلف الجهات باستقلال عن حكومة المركز، وكلها موجهة لتحطيم سلطة المركز وتسهيل تفكيك البلد. ويمكننا ان نلاحظ علاقة وطيدة بين من يدعو بحماس الى تلك المشاريع، وعلاقة هؤلاء بأميركا.

وسائل "الإعلام" التي قام الأمريكان بزرعها، ليست في مضمونها إلا وسائل "إيهام" تشن حرب هلوسة وإبادة شاملة على وعي الشعب، لتصوير الصديق عدوا والعدو صديقا، والنقي فاسدا والفاسد نقيا. تنشر الجهل والخرافة علناً وتركز الأضواء على تافه الأخبار وتترك ما هو مهم ليدفن في النسيان. ومن مهماتها تأكيد العبارات الفارغة المعنى او المقلوبة المعنى في أذهان الضحايا، فلا يفلت منها إلا شديد الانتباه.
لقد قال البروفسور جومسكي عن "اتفاقية حرية التجارة" بأن لا علاقة لها بالتجارة أو الحرية، ولا هي حتى "اتفاقية" كما تعرف الاتفاقيات! وقال عن الحرب التي شنتها بلاده لـ "تحرير كوبا" بأنها كانت حربا "لمنع كوبا من التحرر"! فهذه الأسماء لم تصمم إلا لخداع الشعب الأمريكي ليرى العالم مقلوباً! إن من يصرف مئات المليارات ليخدع شعبه (وهو، ويا للمفارقة، من اطيب الشعوب في العالم!)، لن يبخل بمثلها لخداع الشعوب الأخرى وقلب عالمها.

إن كل ما يتعلق بأميركا مزيف ومقلوب المعنى وعبارة عن شكل مفرغ المحتوى، وليس ذلك صدفة. فتركيبة اميركا وكل دولة مبنية على العدوان ومستفيدة منه، ان تبقي ضحاياها في الوهم تحت سيطرتها. لكنها ليست مهمة سهلة لمن يرى العالم كله، بضمنهم شعبه نفسه، اعداءاً وفرائس له يجب خداعهم. لذلك كانت المهمة هي تحطيم محتوى المفاهيم وقلبه، مع الإبقاء على الشكل سليماً وكأن شيئا لم يكن! وقد بذل جهد هائل واموال طائلة في سبيل هذا الهدف، داخل اميركا وخارجها. وإلا كيف يمكن لنا ان نفهم ان هاتين الشخصيتين التافهتين السايكوباثيتين، مرشحتان لحكم أقوى دولة في العالم؟ وكيف أصبح الإنسان ضائعا في عالمه لا يعرف دربه، لا يجد امامه أي خيار يمثله في دولة يفترض انها "ديمقراطية"، لولا انفصال المعنى على الشكل تماماً؟
كل شيء مزيف ومقلوب المعنى وبخطة دقيقة. جربوا ان تقلبوا كل كلمة لها علاقة بأميركا، وانظروا إن لم يصبح العالم مفهوماً أكثر!

إن لقلقنا على الموصل والعراق وعلى العالم والبشرية عموماً، كل مبرراته وأكثر. فدخول اميركا (وأكثر منها، إسرائيل) إلى بلد ما، يجعل كل قائم فيه يميل، وكل مستقيم ينحني، فتقلب الكلمات ويزوغ البصر. إن التواجد الأمريكي او الإسرائيلي في بلد ما، لا يختلف في نتائجه عن انتشار الطاعون في ذلك البلد، او وقوعه تحت مصيبة مزمنة كالجهل أو الأمية أو الفقر أو الجفاف! وإفلات البلد من هذه السلطة ثروة قومية هائلة يجب المحافظة عليها بالناب والمخلب، فهي تزيد في قيمتها على الثروات المعدنية والمناخ اللطيف ونعمة خصوبة الأرض ووفرة المياه. يجب على الشعوب التي تريد البقاء على قيد الحياة البشرية أن تدرس هذا الوحش جيداً وتطور مناعتها بوجهه وتكتشف اللقاحات المضادة له، مثلما تفعل ذلك مع الأوبئة والكوارث الطبيعية، فلم يكن مخطئا ذلك السياسي المكسيكي الذي نعى بلاده بأنها ابتليت بكارثتي "بعد الله عنها وقرب اميركا منها".



الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

السيرك- قصة قصيرة- عادل كامل

قصة قصيرة

السيرك


عادل كامل
     مع انه لم يذهب إلى السيرك، ولم يشهد فعالية من فعالياته، ليس لأن أحزانه سدت عليه منافذ الرغبة، بل لأنه وجد أن ما تبقى من أيام حياته يتوقف على تلافي استذكار بداياتها، إلا أن ما كان يسمعه من شهود عيان، ثقاة، سمح له بالذهاب ابعد من الألعاب البهلوانية، وزج أكثر الفصائل تعنتا ً في ممارستها، والتوله بها، في الرقص، والاختبارات السحرية، ومعرفة خفاياها التي وجدت قبولا ً حتى من المعادين للمرح، والفكاهة، للقبول بها، كأمر غير قابل للاستبدال، والدحض.
     بيد انه لم يكن تصوّر حياته مضت بعيدا ً عنه، عنه هو تحديدا ً، أو عن أي مفهوم آخر للعب على الحبال، وتبني مبدأ إن لم ْ تكن ماكرا ً، فلا موقع لك في اللعبة، مما جعله يفكر بتقديم طلب الانتساب، والانضمام، إلى السيرك، ليس لأنه أجرى أحاديث عابرة، وأخرى جادة، مع شركاء له في الجناح، ومع شركاء آخرين في باقي الحظائر، والزرائب، والأقفاص، مستنتجا ً أن القبول بالعزلة، ليس قدرا ً، بل هزيمة. ومع انه لم يعلن رأيه أو ينحاز إلى البطولات، إلا انه رغب ألا يحّمل ضميره ما لا يحتمل، فهو أعلن قبل سنوات بعيدة استحالة التقدم حتى خطوة واحدة….، لأن التقدم هو الآخر ليس قدرا ً، فلا يصح أن تتحول أوامر الموتى وأعرافهم إلى ثوابت، ونواهي، فالشمس لا تشرق من ممر واحد، ولا تغيب في الممر ذاته، بل هي في كل جزء من أجزاء الزمن غير التي كانت عليه قبل ذلك.
   ابتسم من غير ابتهاج، قبل أن يفكر بالانضمام، فقد ارتبك بالرد على سؤال لو سئل: لماذا تأخرت…؟ قال انه سيعثر على رد، كالقول بأنه لا معنى لإغفال ما حدث، أو انه يمتلك مهارات يود أن تكون نافعة، أو كي لا تذهب سدى.  ثم خطر بباله أن لا يجوز للتماسيح، أو للفيلة، أو حتى للسلاحف، القفز خمسة أمتار في الهواء، في الوقت الذي كان فيه معلما ً للوثب العالي، وأستاذا ً ماهرا ً في التدلي من غير حبال، والدوران في الفراغات عبر ممرات افتراضية…، لم يدع فمه يفضحه قبل أن يتقدم خطوة لطلب استمارة الاختبار، لأنه عرف، من الموظفين، أن عليه أن يتحلى بالوقار، والتجلد، رغم ما كان يتم تناقله عما يجري بعد الانضمام إلى الفريق، وامتهان أندر الأعمال وأكثرها صعوبة، من نوادر غريبة…، كالعلاقات الغامضة بين نوع وآخر له تاريخ طويل في العداء، والكراهية، لأن عمل الفريق يتطلب محو الغرائز، ومبدأ الإرادة العمياء،  والذهاب ابعد من شعارات السيرك المتداولة.
   فسأله الموظف: أخيرا قررت…؟
   صدم للهجته فقد شعر إنها استفزازية، فقال الموظف حالا ً:
ـ لا..، أبدا ً، أنا لا استفزك…، لماذا افعل ذلك…، وأنا محض موظف في إدارة المؤسسة…، وأنت تعرف كم بذلت من جهد كي احصل عليها!
    هز الذئب المسن رأسه، ورد:
ـ آسف…، فانا لم اعتد مثل هذه اللقاءات..
ـ آووووه…،  هذا مؤذ…، العزلة، هل قرأت كتاب زعيمنا بصدد مضار التوحد، وأثره في نظامنا الجمعي.
وأردف الموظف في الحال:
ـ  فالعزلة تدفعك للبحث عن الذي لا وجود له، لتجد انك ما أن تمسكه، حتى تكون كمن امسك بالهواء!
   أكد له الذئب انه لم يتأخر في خوض التجربة، وإنما للضرورة أحكام، كما يقال، وللأسباب أسباب…، ثم من قال …
   لم يدعه  يكمل:
ـ  أنا ابحث.
ـ سعادة الذئب…، أنت في  عالم مكشوف، معرى، حتى الريح تجري بنظام! بل حتى عدد نبضات قلبك مدوّنة، ويجري التحكم بها عن بعد!
ـ وهل هناك صرصار أو برغوث لا يعرف ذلك؟
ضحك الموظف، وهو أرنب له أصول برية، وسأله:
ـ لِم َ تستخدم أمثلة عفي عليها الزمن...؟
ـ ماذا تقصد..؟
ـ أمثلتك تذكرنا بأزمنة الطغاة..، والاستبداد...؟
ـ آسف ...، فانا عملت على تطهيرها من خلايا دماغي...، فلا اعتقد أن لها وجود...، ربما توهمت ذلك! المهم، ماذا افعل الآن؟
    قال الأرنب بصوت خفيض:
ـ انتظر...، سأطلب لك استمارة، تطلع عليها..
ورفع رأسه وحدق في عيني الذئب الذابلتين:
ـ وتدوّن إجاباتك بدقة، ووضوح، بحدود المطلوب!
      ها أنت في القفص! دار بخلد الذئب، وكل هذا من اجل أن تصبح مهرجا ً؟
ـ تفضل ....، هذه هي الاستمارة، انظر، كم هي أنيقة، وجذابة!
ـ هذا كتاب، سفر، مجلد... ، وليس استمارة...، يا سيدي؟
   هز الأرنب رأسه:
ـ سيادتك تعلم انك تنوي الانتساب إلى اكبر المؤسسات شفافية، وحرفية، وبراعة...، وهذا ـ بحد ذاته ـ يتطلب الحصانة، والحذر، والدقة، والمصداقية، والانتباه، والمتابعة...، فأنت  تعلم ما حل بنا جراء الأساليب البالية، القديمة؟
    منع رأسه من التذكر. وكم ود لو شغل جرثومة الذئب، كي يبتلعه دفعة واحدة، من غير ضرورة إلى تقطيعه: لا......، ورد على سؤال دار بباله: كأنني لم اخضع للتشذيب،  والتهذيب، والترويض، والتدجين، وقال مازحا ً:
ـ  المشكلة إن الأرانب مازالت لا تقدر أن تستحدث إلا نوعها!
ـ آ ...، يبدو انك عدت للبحث عن الذي لا وجود له...؟
 فقال بمرح:
ـ وهل باستطاعتي أن أصبح سمكة من غير دحض الشرعية...؟
ـ آ .....، اعد لي الاستمارة! فمن المستحيل إجراء المقابلة، وأنت لم تتطهر من ماضيك!
    أبتسم الذئب:
ـ أخبرتك إني امزح...، فخلط الأزمنة شبيه بخلط الأفكار، مع أن الأخيرة تفضي إلى الصهر، ثم إن التركيب سنة من السنن...، فلماذا تبدو وكأنك لا تمتلك المرونة، والدهاء، وإرادة العبور...؟
ـ ماذا قلت؟
     لوّح له الذئب بإشارة انه يمتلك توصية استثنائية صادرة عن مكتب المستشارة تحديدا ً، وانه، لولاها، لم يكن ليجرأ اجتياز ممر من الممرات، وعبور المستنقع، والزرائب، وتجنب عثرات الدرب المار بالجحور، والحظائر، والحفر، والمغارات...، كي يصل إلى مقر المؤسسة العامة للمباهج والأعياد...، بعد أن خاض سلسلة من الإجراءات .... ، فقال:
ـ فانا تركت الماضي حيث هو ...، وأنت تعرف انه لا يمكن للماضي إلا أن يكون ماضيا ً، كالغائب لا يحضر إلا بقوة غيابه مادام حضوره يذهب ابعد من الغياب...، وانه لا معنى للنبش في مثل هذه الدفاتر، والتقارير، والسجلات...، ولكن من الضروري التصدي لمن يعمل على جعل الماضي قدوة، ونبراسا ً، وهدى!
ـ أحسنت...، الآن طمأنتني، فقد كدت أصاب بالغثيان!
ـ ماذا قلت؟
ـ لا ...، كلمة غالبا ً ما تخطر ببال الأفاقين، والمرائين، وأنا لم استخدمتها بمعناها الأبعد...، ثم إنني استخدمتها كي تستبعدها تماما ً وأنت تتطلع لمصير يليق بك!
ـ آ ...، لم تخبرني بالحذر من الكلمات...، وما تعنيه وما تخفيه، أنت أخبرتني بضرورة  تدوين المعومات الخاصة بالاختبار.
ـ أخبرتك! آ ...، يبدو انك تعاني من ضعف في الذاكرة، أو من هشاشتها، في الأقل...، أو انك تعاني من مرض الغفلة، أو من لعنات الشرود؟
ـ لا...، لا أعاني من وهن الذاكرة، ولا من النسيان، ولا من الشرود، ولا من الغفلة، ولا ....رغم تقدمي في السن، فانا امتلك قدرة التلاعب بالفراغات...، وملأها بفراغات لا تنضب، لأن الجاذبية ليست قدرا ً!
ـ أووووه...، كأنك تذكرني بالسيد الفيل، وهو يحلق بأجنحة افتراضية، ثم لا يذهب ابعد منها! كي ينال وسام المجد للحدائق، أو بالقرد الأعرج الذي باع كنوز حديقتنا ليكرم بدره الشرف من الدرجة الأولى ـ زواحف! وبتلك القطة التي لم تترك أحدا ً لم تمارس معه البغاء القانوني كي تحصل على أعلى درجات الانجاز في المهارات ما بعد الكلامية!
ـ بالمناسبة...، جدي كان شارك في حرب الفيل! ولكنه لم يحصل إلا على درع النمل!
ـ اسكت! هنا، يمنع منعا ً باتا ً الحديث عن الحروب، والحديث عن الأمجاد المستحدثة، والأعمال التاريخية الوهمية.
ـ اعرف..، ولكن ـ دعنا من الماضي ـ ما هو تصوّرك للحروب القادمة، بعد انبثاق عصر الجينات ذات الذكاء الآلي...، وبعد زوال حدائقنا الغناء...؟
   قرب الأرنب رأسه من رأس الذئب وسأله:
ـ أأنت جاسوس؟   
ـ لا....، أنا حيوان جاء لينتسب إلى فرقة الرقص في السيرك العام..
ـ إذا ً...، لا تدع خلايا دماغك تعمل عشوائيا ً، مع أن الأخيرة لها فوائد لكن مضارها مفجعة.
ـ كأنك قصدت الخمر، وليس الزنا؟
ـ أرجوك، لا تذكرنا بأمثلة الفاسدين، ومرتكبي الكبائر، الأنذال، قساة القلوب، وعديمي الرحمة...، فنحن مخلوقات وديعة، تأكل لتعيش، وتعيش لتأكل...، فلم يعد في قاموسنا مفاهيم كالشقاء، والغدر، والخيانة...، فوجودنا وعدمه لا يخضع لافتراضاتنا الخادعة، بل لتنفيذ كل ما لا نستطيع قهره.
ـ جميل، يا كبير موظفي الاستعلامات، والآن ماذا افعل...؟
    رد الأرنب بهدوء:
ـ انتظر، ليس عليك إلا أن تنتظر.
وأضاف بعد لحظة صمت:
ـ انظر... هناك..
ـ أين؟
ـ إلى هؤلاء المتقدمين للاختبار...، فهم يمثلون المواهب الواعدة...، اذهب واجلس معهم، ريثما أناديك!
ـ لكن عددهم يتجاوز نصف عدد سكان حديقتنا؟
ـ الم ْ أخبرك إن الانتساب إلى المراكز العليا، الحساسة، أيسر بكثير من الانضمام إلى حلبات السيرك؟
    حتى وأنت تختار وظيفة كهذه، عليك أن لا تتشبث بعقلك، ودار بخلده، لكن هذا وحده يسفه المسعى، ويبلد الذهن، فكيف أوازن بينهما؟
     اقترب من الأرنب، ولفت نظره بأنه سينسحب، ويذهب مباشرة إلى مكتب السيدة المستشارة، والى المستشارة ذاتها ويخبرها بالأمر، وبما حدث. ارتج جسد الأرنب، مما دعاه للحديث بلهجة ناعمة، لا تخلو من تقديم الاعتذار، واخبره بأنه لن ينتظر طويلا ً. واستمع إلى الأرنب هامسا ً في أذنه بصوت خفيض:
ـ فانا كنت صادقا ً معك لو....
ـ لو ماذا...؟
ـ لو تعدني باستعدادك لتجاوز عثرات التاريخ!
ـ آ ...، التاريخ، عن أي تاريخ تتكلمين، أيتها الضفدعة...، وأنا جئت للتطهر منه، بل وأغادره من غير رجعه!
ـ جميل...، لأننا، لا نعمل إلا على كتابة التاريخ بتاريخ مغاير تماما ً...، فالأمر، على كل، لا يحدث بيسر...، ولكن انتسابك لنا سيمهد لك حرق المراحل، والعبور إلى ما وراء الاحتمالات المعلنة...
ابتسم الذئب برزانة:
ـ لن ادع قردا ًيثب إلا وأنا قدوة له...، ولن ادع ضبعا ً يجري إلا وانأ اجري أسرع منه...،لأنني..
   وطلب منها أن تصغي له من غير كلمات:
ـ لأنني تدربت على استبدال الحبال بالمجسات، واستبدلت خيوط الشمس بالمجال الذي يتحرك فيه الزمن!
   فلم تجب الضفدعة. فقد شعرت انه لا يبالغ، بل يتمتع بروح الفكاهة الاستثنائية، مع خيال مشوق ...، فتركته يتكلم، حتى أحس بأنها كانت منشغلة بعملها. وعندما طلبت منه أن ينتظر استجاب لها.
     فكر مع نفسه: ليس باستطاعتي اتخاذ القرار الذي قد اندم على فوات أوان تعديله، وأضاف، فانا لو تراجعت، مع أن الاختيارات، رغم تنوعها، لا تعد أكثر من مناورة؟ مع ذلك ـ ضرب الأرض ـ  واعترف انه ربما يكون ارتكب أسوء قرار....، ولكن ليس أسوء من الحياة ذاتها. من يعرف ...؟
     نادت الضفدعة على دب متوسط الحجم، وطلبت منه الاستعداد للدخول:
ـ لحظة...، من فضلك.
  وخرج كنغر حديث الولادة، تتبعه فقمة، وطائر البطريق، من غرفة المقابلات. فضحك الذئب، ودار بباله سؤال: أصبحنا حديقة كوكبية! ولم يقل: أممية. فلم تعد الأخيرة متداولة. فطلبت الضفدعة منه أن لا يتذمر، أن لا يعبس، وان يعدل من تقاطيع محياه، ويجعلها منبسطة، خالية من القسوة، وأضافت:
ـ لقد دققت في طلبك بعد أن لاحظت إن لديك إجابات لا تخلو من جسارة!
لم يدعها تكمل:
ـ جسارة ؟
ـ لأنك ـ مثلا ً ـ دوّنت، بلا حذر، معلومات استثنائية...
ـ أبدا ً...، أنا كنت أواكب العصر! خاصة، في المجال الحقيقي للتقدم، فنحن لم نرتد، لأننا في الأصل لم نتقدم!  
     سمعها تردد: اهدأ ...، ليس هذا وقت الاستعراض!
ـ اعرف...
وأضاف يخاطب الدب:
ـ آ ...، لو كنت بعمرك.
   ذعر الدب، ولم يفتح فمه. فتابع الذئب يقول:
ـ مع إن مصائر اللاعبين لا تقل سوءا ً عن ...
اعترضت الضفدعة:
ـ أرجوك ...، لا تبعث فيه الخيبة، فهو يحمل توصية من السيد كبير القرود.
   تمتم الدب:
ـ اجل....، فهو أستاذي، الأعرج، في الرقص البهلواني.
   قرب الذئب رأسه من الأرنب، وسألها فجأة:
ـ لِم َ أنت ِ خارج السيرك ...؟
   فقالت من غير تردد:
ـ ومن يدير أعمالكم؟
   اختفى الدب، والفقمة، وطائر البطريق...، وخرج ثور اسود اللون صغير كان يتمتم مع نفسه بمرح: أيها العجل....، تدرب..، تدرب..، تدرب...
فقال له الذئب:
ـ لن تهزم أبدا ً!
  ضحكت الأرنب:
ـ أرجوك ...، حافظ على لياقتك في التوازن!
ـ لم افهم؟
ـ قل كلمة واخف تسع!
ـ آوه...، عدنا إلى الدكتاتورية!
  فهمست بصوت رقيق:
ـ لولا هذا المبدأ لتعرضنا جميعا ً للهلاك!
وهمست، بعد برهة:
ـ استعد.
    شعر كأنه استنشق رائحة طريدة: آ ....، كأنها تومض في قاع الرأس! ذلك لأنه لمح حملا ً سمينا ً يضع فوق رأسه قناع أسد: غريب...:
ـ للمرة الأخيرة أنبهك...، لا تتحرش! وكن حذرا ً ...
ـ سيدتي الضفدعة، آ ...، لو عاد الزمن قليلا ً إلى الوراء...
    غضبت:
ـ مع انك تمتلك تزكية السيدة المستشارة، إلا إنني استطيع إثارة زوبعة!
ـ آسف...، لم افهم قصدك.
ـ سأتساءل: كيف حصلت عليها؟
فقال بمرح:
ـ إنها تباع...، أأشتري لك ِ واحدة؟
    فدار بخلدها، ربما للتمويه، من يعلم؟ قال الذئب:
ـ عندما طلبوا مني قيادة جناح الضباع...، اعتذرت...، وبعدها، منحت نفسي إجازة.
ـ حسنا ً فعلت، فالمناصب لا تدوم لأحد!
ـ اجل، فالكثير منها يدوس على أصحابها، وتنتهي المصائر إلى حاويات النفايات، لكن لا احد يتعض!
    وضحك فجأة. فقالت الأرنب:
ـ أنا لم ارو لك طرفة...، ما الذي أضحكك، وأنت منشغل بالمزابل، وحاويات القمامة؟
ـ آ ....، سمعت حفيدي الصغير يقول للآخر: الرب لن يرسلك إلى المحرقة، بل إلى سلة المهملات!
ـ رب رقيق!
ـ ما المضحك؟
ـ لغته المهذبة...، فالولد لم يستخدم لغة النار والحجارة، بل استبدلها بلغة الحرير، متأثرا ً بعصر الإفراط بالشفافية!
   خرج الدب، ووقف يحدق في عيني الذئب:
ـ كما قالت السيدة السكرتيرة، ذات الجمال الأخاذ، لا تبح بأكثر من واحد من ألف...، فالشياطين تعمل على زّل لسانك، وغوايتك، فاحذر الزلل، والشطحات.
ـ هل أوقعوك؟
ـ لا ...، أنا أوقعتهم! فاللجنة ظنت إنها سترسلنا إلى السماء! وقد أخبرتهم: الحديقة التي لا تزدهر فيها العاب الهواء لا مستقبل لها.
ـ لم افهم؟
ـ بعد أن تخرج من الاستجواب...، إن لم تكن ماكرا ً، فعليك أن لا تغفل نكبات الدهر!
ـ آ ....، عدنا إلى ما قبل زمن الطوفان، والحريات الناعمة...؟
ـ يا ذئب...، لا تخف أنيابك! حتى لو للمباهاة!
ـ اعرف هذا...، لكن ما الذي حصل؟
ـ تخّيل...، احدهم سألني: لو كنت تتدلى من أعلى ولمحك الزعيم ...، فماذا تفعل؟
ـ  وماذا فعلت أنت..؟
ـ  كن أنت بمكاني...، فما هو جوابك؟
ـ هل تمتحنني...؟
ـ يا سعادة الذئب...، أفضل انسحابك...، بدل أن تطرد، أو ترسل إلى ....؟
ـ هل طردوك؟
ـ لا ...، أنا طردت نفسي...، فقد اخبروني بأنني أصبحت فائضا ً! وإنني استطيع الذهاب إلى أية حديقة أخرى في هذا العالم.
ـ وأين ستذهب؟
ـ دعني أصدق إنني خرجت ...، دعني استرجع أنفاسي...، قبل أن اختنق، وبعد ذلك، أفكر!
ـ لا تكترث...، سنلتقي، في يوم من الأيام!
ـ تفضل بالدخول، فهذه هي فرصتك الأخيرة؟
    لماذا الأخيرة؟ تدارك، إنها على حق، فانا لم انشغل باقتناص الفرص، مع إنها هي التي كانت تجرجرني إليها، بل هي التي كانت تغويني. فقلت لنفسي:فانا لم أكن احلم إلا بلعب الأدوار الحقيقية ، فهل سأتذوق آخر المرارات لأنني لم أصبح لاعبا ً في هذا السيرك؟ ودار بخلده، عبر لحظات امتدت حتى ظنها تجمدت، وتخلى عنها الزمن، فلا توجد قوة جاذبة، ولا أخرى تكيل لها الضربات. متابعا ً، انه وجد في المغارة بالإحساس ذاته، بانعدام المؤثرات، والدوار، وفقدان الجاذبية، كأنه في زنزانة، معترضا ً، بدافع دحض أحادية التفكير، إن الزنزانة التي مهدت له استئناس المغارة، منحته لذات اللا عمل الأبدية! فانا لم أوافق بالعودة إلى عملي والتمتع بامتيازات الخبرة، والمهارات، خشية الأقاويل. كما لم اسمح للقبول بقيادة جناح الثيران، أو مغارة الأفاعي، أو حتى مستنقع التماسيح.
     ولأنه وجد مشاعره منفصلة عنه تماما ً، فقد أحس إن هناك فجوة لا نهائية الأبعاد تعمل على محوه، ولا تسمح له بالمراقبة، والاعتراض. فكاد يتراجع، معتذرا ً ـ أو من غير ذلك ـ للعودة إلى مغارته: حيث السكينة لا تدعه يتصدع برؤية ما يعرض عبر شاشات الحديقة. فالعالم يدوس على ماضيه...، ولا يرتد،! وردد: ما شأني بذلك؟ فانا قررت، من غير دوافع تذكر، إشباع أقدم رغبات لدي ّ: استبدال الصمت باللعب، والوقار بالهزل، والعلم بالسحر، فانا لست أول ولا آخر من يفعل ذلك. جدي الذي صوّر لنا انه سيحرر البرية من الأوغاد، لم يمت كما تموت الذئاب، أو مثل بنات أوى، بل مات مثل أسد، معلقا ً بحبل!
لكزه احدهم بخفة:
ـ أستاذ...!
   أفاق. أتراني احلم، أم تراني أتوهم الحلم، أم احلم إنني أتوهم، أم هذا يحدث لي بعد....الموت؟ ابتسم ورفع رأسه:
ـ نعم.
ـ اللجنة بانتظارك.
     وأخيرا ً لذّ له أن يستعيد أول مقابلة له جرت قبل عقود، في الصحراء، عندما وجد نفسه منخرطا ً في مكافحة الجرذان، والموتى، والأشباح الضالة. لم يسأله احد عن ماضيه، ولا عن مهاراته، بل عن أحلامه! فأجاب بهدوء: وهل يحق لي أن احلم ما لم اعمل على بناء دولة الحلم؟
ـ أستاذ .....، هل تشكو من شيء...؟
ـ لا، لا، عدا أن القلب يكاد يغادر...
    ودفع جسده كي يمشي خلفه. لأن أصابعي راحت تداعب الهواء، كأنها تمسك بالحبال الوهمية، وجسدي يصعد إلى الأعلى، حتى تناثر ...، كأن لغما ً أو عبوة أو حزاما ً انفجر في ّ. فأغلق فمه، ولم يدع صوته يغادر حنجرته، وجلس في نهاية المستطيل، بانتظار بدء المقابلة.  امتد الصمت، وهو يراقب الوجوه الواحد بعد الأخر، وقد عرفها، تذكرها، لأنه طالما شاهدها وحاول محوها من ذاكرته، وها هي شاخصة أمامه، مثل شواهد، فأغلق فمه بإحكام خشية إن يعمل صوته خارج إرادته.
     وسمع رئيس اللجنة يسأله:
ـ نعرف انك واجهت صعوبات التحول....، فالصدمات لا تعمل إلا بالصدمات...، والعشوائية لن تصبح نظاما ً إلا بعد أن تبلغ ذروتها، وتشيخ!
ـ عذرا ً...، ماذا قلت؟
ـ كنت أتحدث عن مضار عزلتك، فالمعلومات تؤكد انك كنت تعيد قراءة ما كان يحدث ...
ـ آ ....، وما علاقة هذا بالاختبار...
    رد رئيس اللجنة:
ـ نحن نتحدث عن السلامة...، عن النوايا، أولا ً؟
ـ ممتاز!
     ودار بخلده انه لم يأت للعمل في التجارة، والصيد، ولا في مكافحة آفاق الخساسة، والنهب، والمتاجرة بالغزلان، والثيران، والبرغوث، ولم يأت للانخراط في واجبات استثنائية، بل يبحث عن عمل لا يدعه يفطس وحيدا ً في المغارة.
   فسأله الآخر، بعد أن عرفه، فقد كان يعمل بمعيته، قبل عقود:
ـ ما هي أخبار جدك؟
   فكر: ما شأن جدي ... بعملي في السيرك. فقال:
ـ لا هو يود أن يتذكرنا، ولا نحن نرغب أن نعرف شيئا ً عنه!
ـ لامناص انه مازال يتمتع بالامتيازات؟
ـ انتم تعرفون ذلك...، فبعد أن حصل الذي حصل، لم يبق لي إلا أن امضي شيخوختي أراقب ما يحدث في المغارة!
    ضحك رئيس اللجنة:
ـ وماذا يحدث داخل جدرانها..؟
ـ هذا الذي لا يمكن أن يحدث في أي مكان خارجها..
ـ لم ْ تجب؟
ـ  بل كانت إجابتي أكثر من تامة.
ـ غريب!
ـ سيادة الرئيس: لا أرى في المغارة إلا الصمت، ولا أصغي فيها إلا إلى الظلمات....،  فاعرف إن ما يحدث في الحديقة، قد حدث ويحدث من غير ملل، استنساخا ً ...، وتكرارا ً...، وهذا هو  المسلي حد إن ما يحدث لا يجد من يمنعه، وما لا يحدث لا احد يحثه على الحدوث...، فانا مسرور لأنني لا  اشعر بالآسف إن خسرت مسراتي أو أمسكت بها، فلم اعد منشغلا ً بالبحث عن طريدة، ولا بالدفاع عن حدود مغارتي، ولا حتى بما ينتظرني .... بعد الموت!
     نقر الثاني بأصابعه المدببة نقرات حادة فوق المائدة الخشبية:
ـ    آن لك أن تحدثنا عن أحلامك؟
    ضحك الذئب بطلاقة:
ـ  هذا السؤال هو ذاته الذي لا اعرف الإجابة عليه... ولكنني، في الاختبار الأول، قلت: أنا لن احلم ما لم أر أحلامنا تذهب ابعد منا.
تساءل العضو الربع:
ـ هذا يعني أنك مازلت تحلم؟
ـ ليس بمعنى الحلم...، قل: ظله؟
   فسأله رئيس اللجنة:
ـ وما علاقة هذا الظل بالانتساب إلى السيرك؟
ـ آ ....، هذه هي المعضلة!
ـ هناك معضلة إذا ً...؟
ـ في السنوات التي أمضيتها وحيدا ً داخل حفرتي...، استعدت كل ما جرى لي في ظلمات الرحم! ثم ذهبت ابعد من ذلك، وسألت نفسي: كيف حصل أن تجمعّت كي أتكّون؟
ـ آ...
   تأوه الخامس:
ـ هذا يعني انك تفكر...؟
     لم يجد دافعا ً أو رغبة، سببا ً أو ضرورة ملحة لشتم الماضي، أو حتى نبشه. نعم. كنت اقترحت إنشاء مركزا ً صغيرا ً، وليس مديرية أو مؤسسة، مركزا ً مهمته التدريب على تشغيل خلايا الرأس؛ التفكير. ماذا ...؟ أتعتقد إن هناك موجبات لمثل هذا المقترح الغامض: التدريب على تشغيل خلايا الرأس؟ فقال إن الأمر لا يتعلق بالميتافيزيقا، ولا بالقدر، ولا بالحتميات، ولا بالتعرض للطريق الواحد في مواجهة التعددية، والتنوع، بل لأن العمل، من غير تدّبر، شبيه بمن يعيش في علبة، حتى لو كانت في السماء. ولم يستوعب المسؤول كلماته، بل وضع تحتها خطا ً احمر وألف علامة استفهام، فقال له: أستاذ...، إن المقترح لا يتقاطع مع الأعراف، ولا مع الثابت الأبدي، لا مع العاطلين عن التفكير، والمعطلين، ولا مع العاطلين والمعطلين عن العمل، بل إنه، في الأخير، لن يقف حجر عثرة أمام المحو، وزوال كل ما أنجز بالكد، والجهد، والشقاء. ماذا تقصد...؟ أجاب الذئب المهووس بالأحلام، والأفكار، بهدوء: أن نقدر ونحترم هذا الموجود داخل الجمجمة، فهناك مليارات من الخلايا، وحدها تمهد لفهم أفضل للتقدم نحو حياة لا تركل، وتصبح فائضة. فتسلم، في ذلك اليوم، أول عقوبة ولكن ليس لأنه اقترح إنشاء مديرية للتدريب على التفكير، واحترام خلايا الرأس، بل لأنه تطاول على المسؤول، ووصفه بالمتحجر! فسحب مقترحه، ونقعه في الماء...! لأنه لم يدر ماذا كان سيحصل لو اقترح إنشاء أجنحة مهمتها الانشغال بالمصائر، والمستقبل...، أو ببناء وحدات مهمتها مواجهة فاقدي العقول، والضمير...، وبعدها، شبع من الإنذارات، ولفت النظر، والعقوبات، فما كان عليه إلا أن التجأ إلى مصح الحديقة، متواريا ً عن الأنظار. وعندما أعاد قراءة الوجوه، لم يعرف لماذا اغفلوا انه عومل كحيوان مصاب بجنون البرغوث، وبقسوة من ارتكب معصية، أو اجتاز الخط الأسود! بعدها انسحب ولم يعد لديه سوى التستر داخل جدران حفرة أعلن إنها وحدها هبة الأعالي له، لأنها شبيهة بالحتميات، والقدر، وانه بالفعل لا معنى له أن يذهب ابعد من حدود فتحة حفرته، أو ابعد من نوافذها الصغيرة المقفلة. وتساءل: أتراهم لا يمتلكون معلومات دقيقة عن ذلك...؟ ودار بباله، إنهم لا يجهلون انه لم يسرق، ولم يغش، ولم يزور، ولم يرتكب شطحات سوى التعلق بخلايا أحلام الرأس، والطيران بعيدا ً عن جدران الحفر، والمغارات، والقاعات المقفلة. ولكنه لم يجتز تلك الحدود، فلم يهاجر، ابعد من أسوار الحديقة، وأسلاكها، وجدرانها، مكتفيا ً بجلد نفسه درجة أمنت له التخلي عن رأسه، غير مكترث إن مصيره تجمد، وراح يرتد، فلا معنى للبرامج المغايرة، ولا مغزى للتقدم، والاستمتاع بالشمس...، فلماذا التفكير، ولماذا العمل، ولماذا المستقبل؟  وكاد يفتح فمه ويعترف للجنة بأنه بالفعل ارتب ذنبا ً عندما لم يتخل عن ما تبقى من الخلايا...، وانه لا يستحق إلا أن يرفض طلبه، كي يرجع إلى حفرته، آمنا ً، بوصفها تحدت ببسالة وبعناد جبروت الزمن، وشدة الأعاصير، وقوة الطوفانات، وحافظت على كيانه راسخا ً في مواجهة التحول، فأي انجذاب غامض هذا الذي دعاه لإنشاء مشغل صغير مهمته إعادة القراءة....، وأية قراءة...؟!   
ـ لا...، لا أبدا ً...،  لا في هذه اللحظات، ولا في السنوات المنصرمة....، فالتفكير قضية مختلفة تماما ً.
    سأله رئيس اللجنة بتعجب:
ـ إذا ً فطلبك للانتساب إلى السيرك يؤكد حرصك على الإجابة؟
ـ بل، على العكس، التخلي عنها تماما ً، فهل تتاح للبهلوان فرصة أن يسأل نفسه: ماذا يفعل؟
    تململ الرابع وسأله:
ـ إذا ً لم تعد تفكر تفكر؟
ـ عندما كدت افقد الأمل بالعثور على جواب شاف ...، أدركت إنني غير مسؤول عن البرنامج الذي بموجبه تكّونت....، لأن والدي لم يكن ذئبا ً!
ـ نعرف ...، كان أميرا ً للذئاب وسلالته ترجع إلى أصول لا غبار عليها!
ـ وأمي لم تكن تنتسب إلى هذا الفصيل ... الأغبر.
ـ نعم، كانت ذات أصول أنقى، وذات جمال ملعون...، وقصتها بحملي لم تنس بعد!
   ضحك الذئب بفم مغلق:
ـ أيها السادة الكبار...، مادمتم تعرفون حتى زمن اللحظة التي تكّونت فيها...، فما الفائدة من النبش في هذه السجلات...؟
ـ هذا هو السؤال الذي شغلنا...
ـ ما هذا السؤال، لطفا ً؟
ـ إذا كنا لا نمتلك أنملة لا في تغيير المسار....، ولا في تعديل الاتجاه...، فهل هذا الذي لا يتغير يعد ثابتا ً؟
ـ سؤال لا يدعو إلى التفكير، بل إلى محوه.
ـ أحسنت.
وأضاف رئيس اللجنة برزانة:
ـ فأنت تجد انك تمتلك مهارات ما فوق عادية، وأخرى مكتسبة، وثالثة تتجدد تلقائيا ً، ورابعة تدحض أي نكوص....، لهذا فكرت أن لا تدعها تذهب ....، كأنها اكتسبت صفتها المتحفية، ودخلت عالم المتحجرات! أم لديك ملاحظة مغايرة بهذا الصدد...؟
ـ السيرك، يا كبار خبراء الشفافية، ما أدراكم ما السيرك: انه لا يعلن عن سره. ككل دينامية تتستر على عملها العنيد!
ـ نرغب أن تفسر لنا إجابتك؟
ـ  لو كانت لدي ّ إجابة غيرها، لما كنت تخليت عن السيرك الذي أرغمت العمل فيه؟
ـ أرغمت؟
ـ لا معنى للتأويل أو الشرح، ولا معنى لإضاعة الوقت بالتفسيرات...، أو الجدل، أو التصورات، أو بوجهات النظر...، أنا أخبرتكم إنني فكرت طويلا ً في هذا كله....، فانا لم أرغم ولم أكن عفويا ً...، أو حرا ً...، ولكن الانتساب إلى السيرك  لا يتقاطع مع حيوان عجز عن الذهاب ابعد من الحدود التي كنا نحرص أن نرسمها بالبول...، أليس كذلك؟
ـ ها أنت ترجعنا إلى عصر ما قبل الحدائق، والى عصر جمع القوت...؟
     لم يصمت، بل وجد الهواء يتدفق من فمه بكلمات واضحة لم يقدر على حجزها:
ـ انتم أساتذة أكفاء، وهذا يكفي، فلا يحق لتلميذ مثلي العثور على مبررات للإشادة بمكانتكم.
   فسأله الربع مستفسرا ً:
ـ لفت نظرنا بحديثك عن الحدود...؟
ـ سيدي، الأمر يتعلق بقضية لا تريد أن تحسم، فهي تعمل لا إراديا ً لاستكمال إرادتها في الذهاب ابعد منا جميعا ً. فإذا كانت حدودنا ترسم بالبول فان الحدود اليوم ترسم بالأسلاك، والقضبان، والأقفاص، والدم!
ـ آ...!
بشرود سأله رئيس اللجنة:
ـ هل تريد القول انك لا إراديا ً جئت تكفر عن ماضيك...؟
ـ سيدي، عن أي ماض ٍ تتحدث...، بعد أن أصبح مندثرا ً بماضيه...، ثم إن الزمن لا يرتد، ولا يتراجع، ولا يتجمد...، ثم انه لا يمر عبر ممرات معلنة ومباشرة...!
ـ هذا صحيح...، ولكنك جئت بتوصية خاصة،  ونحن نقدر ذلك...، فالعمل في السيرك شبيه بالعمل في شركة إعلانات، بل وعابرة للقارات، شركة أفلام، أو مخدرات، أو عقار، أو أسلحة، أو إدارة حدائق...!
ـ آ .....، كأنك تلمح إلى عدم صلاحيتي للعمل في هذا السيرك...؟ فانا مسن، وعقلي عتيق، والكآبة لم تعد تسمح لي بالمرونة، واني افتقد إلى العمل بروح الحرير، وشفافية المصالحة؟
ـ أنا لا المح...، بل أسألك مباشرة...
   وصمت. ثم نقر فوق الطاولة:
ـ في الحرب الأخيرة...، مع من كنت...، في الأقل، على مستوى الضمير، والمشاعر...؟
ـ مع لا احد....،  فبعد تجربة شاقة أمضيتها في مراقبة عثرات الدروب، هل تعتقد بوجود قوة ما قادرة على إغوائي...؟
ـ مع لا احد...؟
ـ سأعيد صياغة جوابي: إذا لم أكن مع هذا الذي ليس لأحد ...، فمع من أكون؟
ـ دعنا في السيرك"
ـ وأنا لم أغادره.
ـ هل أنت مع ضميرك...، مع انك لم تحصل إلا على حفرة بحدود جسد ذئب عجوز...؟
ـ أنا لم أتخل عنها، حفرتي! إنها الفردوس! ولكنها لم تكن هدفي الأول....
ـ لكنك لم تكن معنا..؟
ـ سيدي، أنا لم أغادر حدود السيرك؟
ـ تقصد أسلاك الحديقة وأسوارها؟
ـ لا مجال للتأويل...، فانا تعلمت أن أتعكز على نفسي!
   ابتسم الأول:
ـ لكنك جئت بتوصية تقول: مازال يمتلك روح المرح الشفاف! فما المقصود ...، وأنت قلت: أتعكز على روحي؟
    لم يصدم، فقال ساخرا ً:
ـ اذهب واسأل السيدة المستشارة؟
ـ آ...
وأضاف رئيس اللجنة بحذر:
ـ كان باستطاعتها أن تصدر امرأ ً بقبولك...، وليس باختبارك؟
ـ وأين تذهب شفافيتنا، وأين تذهب ديمقراطيتنا..؟
    ساد الصمت. فنهض الذئب وعدل من قامته، ثم جلس، وقال:
ـ اجل، فانا في الأصل أرغمت أن أكون مع لا احد...، وأرغمت أن لا انحاز إلى احد...، وها أنا أخبركم بالحصيلة...، فان لم ترسم الحدود بالدم، والموت، فان عصر البول يكون قد ولى، وصار من الماضي! ومن المستحيل التحدث عن إمكانية رسم الحدود بالضمير؟ لأن العدالة ما أن تتحقق حتى ينتفي الوجود برمته...؟
ـ كأنك تتحدث عن أمر ما غير رغبتك بالعمل معنا في السيرك، والفكاهات، ونوادر الأعمال البهلوانية، وكأنك تتحدث بالذهاب ابعد من اللهو، واللعب ...؟
ـ لا...، السيرك، يا سادة، شبيه بأي عمل آخر، فانا عندما أمضيت سنوات غير قليلة أراقب ما يجري في  هذه الحديقة...، أدركت إن امتناعي من العمل، ليس عملا ً مع لا احد...، بل تماما ً هو بمثابة خطوة متقدمة في النتيجة. وهنا أنا تقدمت بنفسي للاختبار...، لكن لا احد سألني عن مهاراتي...، فهل أجيد القفز...، أو الدوران من غير ضرورة لوجود المحور....، هل لدي مهارات افتراضية....، وهل اقدر أم أقدم مشاهد خالية من إثارة الشغب، والتأويل، والشكوك...؟
ـ ذئب يفكر..، إن لم اقل: الذئب يفكر؟
   دار بخلد الثاني. فقال رئيس اللجنة يخاطب الجميع:
ـ لم يكن معنا، ولم يكن معهم...، مع انه لم يكسب شيئا ً إلا انه أجاد مهارة التلاعب بالكلماتّ.
   نهض الذئب وتمتم:
ـ سبق لي وان قلت: إذا كان الصمت يتضمن قانون توازنه مع ذروة العويل، والصراخ...، فان العمل في السيرك خطوة نحو الاندماج...، ومادمتم  تدركون إن البعوض والبرغوث وباقي الحشرات لن تسهم أكثر أو اقل من أي مخلوق آخر في استحداث توازنات خلاقة...، فانا، عمليا ً، أرغمت أن أكون مع نفسي، مع نفسي تماما ً، حتى إنني أضعتها بلا أسف، لأنني في الواقع كنت ضدها، ومن غير أسف أيضا ً! وهكذا تكون الحرية كلمة قد أخذت موقعها في سلة المهملات! فالتاريخ والقدر والحتميات والحريات كلها علامات متقاربة، ومتضادة، لتشتغل بعناية مشفرة عبر تسلسلها في الذهاب ابعد من وجودها معنا....!
    انفجر الثاني بالضحك، تبعه الثالث، لكن الأول قال بوقار:
ـ  أرغمت أن تكون معهم...، مثلما أنت حر للعمل معنا؟
ـ سيدي، في الحرب...، كما في الموت، وكما في الحب، هناك مسافة وهمية مهمتها ترك الجميع في علاقة!  فانا في الأصل أرغمت أن اختار هذا الذي لم اختره...، مثلما أنا حر تماما ً في استحالة اختيار موقف مغاير آخر....، غير السيرك؟
ـ وهل بإمكانك أن تخبرنا: هل حصل استثناء...، ونحن نقدر تماما ً كيف تعمل هذه الإرادة عملها...؟
  أجاب رئيس اللجنة يخاطب الجميع:
ـ عندما كان الزعيم يقول لنا: إذا كنا نستطيع أن نكسب الشيطان للعمل معنا، فلا يعني هذا إننا نغيض الملائكة! ولكن لا تدعوا الشيطان يتصوّر إننا نعمل على إفساد اللعبة ...؟
   صفقوا. فقال الذئب وقد شعر إن عزلته قد تبخرت، بل وشعر انه يعرف ما لا يحصى من الموضوعات عدا معرفته لنفسه:
ـ علي ّـ أيها الحكماء ـ أن أغادر...، فلا اعتقد أن هناك مدى ابعد استطيع التقدم فيه!
  فسأله رئيس اللجنة:
ـ أما السيرك وأما المغارة؟
ـ بالضبط!
    عندما غادر، انحنى الأرنب له، قائلا ً:
ـ لا استطيع إلا أن أقدم لك آخر التهاني وأحرها، سيدي!
   حدق الذئب في عينيه شزرا ً:
ـ كيف حزرت..؟
ـ لأنك خرجت سالما ً، سيدي!
ـ اقترب..
ـ نعم، نعم سيدي!
ـ لقد كانت مهمتي واضحة لدرجة إنني كنت أتصوّر فشلي فيها...، وهذه هي الحصيلة: لن تمتد اليد لانتشال من في المغارة...، لكن يد المغارة، عندما تذهب ابعد من مداها، فكأنها أكملت عملها من غير جهد.
     أتراه فهم الدرس، دار بباله، وهو يتلاشى، أم لا....؟
12/10/2016
Az4445363@gmail.com