رسامو(الحمير) في التشكيل العراقي الحديث!
[ لا تحرقوا فائق حسن مرة ثانية]
عادل كامل
كيف يصبح، كائنا ً من كان، رساما ً، وهو لا يجيد رسم: (بطة) ..؟ هكذا تساءل فائق حسن، المؤسس لأصول الرسم الحديث في العراق، منذ أربعينيات القرن الماضي، وكيف يصبح، حتى لو درس الرسم، فنانا ً، إن لم يجتز محن الضرورة ـ متطلبات الحياة اليومية ـ نحو: الدخول في معضلات الفن، وإشكالياته؟
على أن انجازات الأستاذ فائق حسن، الرائدة، ومنها تأسيسه لفرع الرسم في معهد الفنون الجميلة (1939 ـ 1940)، وتطبيقاته الفنية، التكنيكية، التي تعلمها من أساتذته في (البوزار) ـ بفرنسا ـ ورؤيته التي زاوج فيها بين (البدائية/ التلقائية/ العفوية ..الخ) والفن كمجموعة من القواعد ـ والأسس، كلها، إلى جانب مهارته بخلق بنيات فنية غير مزيفة، وليست قائمة على المحاكاة، نسقا ً يماثل مفهوم:الحافر على الحافر كما قال الجاحظ، ... الخ، لا تقلل من المسارات التي بدأت منه، ومعه، وانتهت إلى: أخطاء، وتشويهات، لا على صعيد الرسم الواقعي، ورسم الخيول تحديدا ً، ولا على صعيد الرسم (التجريدي) الذي اعترف لي، في حوار منشور: بان تنفيذه لسلسة من اللوحات التجريدية، ليست إلا: تلويصا ً!
والاعتراف الأخير، للأسف، لم يثر انتباه تلامذته، أو من غدا يمثل دور (الأستاذ)، رغم انه لا يجيد رسم (بطة)، لا بهيئتها الواقعية، ولا برمزيتها، مثلما تحولت (خيوله) لدى 90% من مقلديه، إلى علامات فنية، على مدى سنوات غير قصيرة.
فالتجريد لدى الأستاذ فائق حسن، كان بمثابة نزعة تجريبية، مستمدا ً مغامرة التنفيذ إلى مهاراته، وشهرته، بوصفه غدا رائدا ً ـ وقدوة.
ولهذا لم تمض حياة فائق حسن، بسلاسة، ومن غير جدل...، فالفجوات بين (الرسام) و (الفنان) لم تنته، ولم تردم. كان فائق حسن رساما ً ـ من فعل رسم وهو ما سيقوم به الفنان في المجال البصري المستحدث ـ أم كان فنانا ً عاصر نهايات الحداثة، وعاش في مراحل نشؤ (ما بعدها)، في بلد مازال يرزح تحت مهيمنات عصور ما قبل عصر الزراعة ـ مع خليط من الأنظمة البدائية، الرعوية، الريفية، إلى جانب التطلع لتأسيس مجتمع يمتلك شروط التحديث ـ وصولا ً إلى مفهوم الإنتاج بمعناه الصحيح، وليس بمفهوم الاستيراد، والاستعارة، والمحاكاة.
بالطبع، لم يكن فائق حسن، معجزة، ولا كان جواد سليم، يعمل بدواعي الخرافة، والكرامات(في عصر الحقائق العلمية)، ولكن حصيلة الدراسات لمنجزيهما، تثبت إن أي تأسيس للإبداع الفني المميز، بل والجديد، لابد أن يمر عبرهما، في الرسم وفي النحت، كي لا تزداد القطيعة، بين الفن والمجتمع، مسافات إضافية، كالحاصلة اليوم، في المجتمعات العربية التي برهنت إنها قائمة على (ورق)، وليس على أسس تاريخية/ منطقية، في مواجهة العنف، الإرهاب، والارتداد، بل في موجات التدمير وهي تقوض حتى أهم منجزات ومميزات وعلامات حقبة الريادة، وتطلعاتها لبناء مجتمعات تنتمي إلى العالم الحديث، وليس الانحدار إلى القرون المظلمة.
إن فائق حسن ـ وليس وحده مسؤولا ً ـ عن وزر الشروع برسم الخيول!، بل كل من غذى منهجه للحفاظ على واقعية ليس عملها الحفر في أصولها، جذورها، مكوناتها، بل الاحتفال بسطوحها، وقشورها، تلبية تناسب ذائقة صنعتها ووفرتها ثروات، لم تهبط من السماء، بل خرجت من باطن الأرض، في هذه المرة، فالطبقة الوسطى، حتى تسعينيات القرن العشرين، كان لحضورها الأثر في وجود تقاليد ثقافية، اجتماعية، تعود أصولها إلى مراحل ما بعد الانسلاخ عن ظلمات عهد (الرجل المريض)، هي التي احتفت بأنماط تناسب كيانها غير المنتج، إن لم يكن رثا ً، في تأويل معاني الحياة، ومستقبلها.
فالثروات الهابطة من السماء (المطر)، هي التي شكلت الاقتصاد البشري، لحقبة لم تترك، للزراعة ـ الصناعة، وللموجة الثالثة، إلا ما يتوازن مع وجود (الدماغ) في قشرته العليا، فيما شكلت خلايا زمن الثدييات ـ المفترسات نسبة 99% من مكونات الدماغ البشري!
ولأننا لا نريد مواصلة ارتكاب آثام الاحتفاء بمن لا يجيد رسم (البطة) ـ وقد ارتبطت سماتها بكل ما هو مستحدث/ ومبتكر ومروج له بعنايةـ فان (إثارة) جدل آن له أن يعلن، مادامت موجة الخراب (العربي) لم تكتمل دورتها، ومادامت، في الوقت نفسه، تعمل على تدمير (المدمر)، من اليمن إلى العراق، ومن مصر إلى سورية، ومن لبنان إلى ليبيا ...الخ، فان إعادة قراءة مفهوم (الإنتاج) تعني، بالدرجة الأولى: المحاكاة أم الابتكار، الاستنساخ أم الاستحداث...؟
ولأن إثارة هذا الإشكال، بحد ذاته، يتطلب مجلدات تتوخى العثور على جواب لسؤال: لماذا مكثت هذه البلدان، أما بانتظار ما يوفره لها المطر ـ أو ما توفره لها كنوز الأرض، رغم تفاوت الدرجات بين إقليم وآخر، فانا آمل أن نعثر على مداخل تتناول مفهوم المجتمعات (الورقية)، التي تتعرض للحرق، وهي في طريقها إلى التواري، والزوال، وأسباب وقوعها في فخاخ الأحاديات، بأشكالها السائدة، وهي تتراجع إلى القرون المظلمة، في محاولة للحد من تطورها، حتى نحو عصر: الكفاية، أي عصر: الزراعة، وليس عصر الصناعة، التي تأسست فيه حداثات أوربا، منذ القرن الخامس عشر؟
ولأن أستاذا ً موهوبا ً، كفائق حسن، حدد أهداف عمله، وأتقنها، فقد نجح بخلق أساليب تجاوزت شروط رسم (البطة)! فخيوله، وصقوره، ونساءه، فلاحيه،في اغلبها، لم تتخل عن مسعاه بالعثور على العناصر ذاتها لدى أساتذة الفن الكبار.! وقد لا يكون لعلامة (التعجب)، هنا، إلا ما تعنيه من مفارقة لفنان شرقي ـ في بلد خرج توا ً من ظلمات العصور الوسطى ـ ليرسم بمهارة ديلاكروا، أو بونار....، ولكن نماذجه المتقدمة ـ حتى لو كانت قليلة ـ بهويتها الايكولوجية، بعيدا ً عن العلامات، تسمح للمتلقي أن يستنشق غبار العراق، ودخانه، ففي هذه النماذج، وليس في الأعمال الفنية التي أنجزها لأسباب ـ غير فنية ـ كنا نراه مثالا ً للرائد، كالذي رأيناه في جواد سليم، وهو يخرج من تأثيرات عشرات الرسامين والنحاتين الأوربيين، كتأثيرات هنري مور، أو بيكاسو، أو بول كلي ..، مثلا ً..
فما ـ هو ـ النقد الفني...؟ إن لم يكن يشخص (الظاهرة) ويرجعها إلى عوامل تكونها، من ثم، تحولها إلى نموذج أو قاعدة، ليؤشر الانحرافات وتحول الأوهام إلى حقائق؟
حيث شكلت تجارب خيول فائق حسن جاذبية للمتلقي ـ كبضاعة نادرة في سوق ينتظر المزيد منها ـ فلم يتخل عن المضي في رسم المزيد منها، معتمدا ً، في الغالب، على الصور الفوتوغرافية، مادام المتلقي ـ حديث العهد بنعم الثروات المتدفقة من باطن الأرض ومن غير جهد يذكر ـ بانتظار المزيد منها؟
في هذا المجال، تحول الأسلوب، من بحث، في ماهية الفن، ومعضلاته، إلى تطبيقات لنموذج تم اختباره: مهارة في التكوين، الأشكال، والألوان...، ومهارة في تحقيق الدهشة، إنما ليست دهشة الاكتشاف، بل دهشة الاحتفال/ الاستهلاك.
وفائق حسن نفسه، كان على وعي بالخسران الذي كان يستنزفه، جراء تلبية طلبات لم تنقطع، حتى فقدت خيوله أصالتها! كما فقدت لوحاته الفنية مميزاتها...، فأدرك، في لحظة محاكمة لذاته، انه أسرف في هذا المنحى، وابتعد عن مشروعه الفني، الذي منحه ـ عن حق ـ شارة الريادة، فرسم لوحة مشهورة لحصان هزيل يتأمل جمجمة حصان، ضمن مناخ شبيه بنهاية معركة لم تترك سوى الخراب.
لكن من صار يحاكي ـ يستنسخ/ يقلد ـ فائق حسن، حاول أن يتجاهل إن أستاذ الرسم، فائق حسن، كان إزاء عزل الأصالة عن تمويهاتها. فليس المهم إجادة رسم (البطة) ـ وإن كانت شرطا ً لكل رسام ولكل محترف ـ ولكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد المضي في تلبيه طلبات ذائقة لا تتمتع حتى بالحد الأدنى، ليس في الفن، بل من الحياة كحقيقة إنسانية قائمة على الإنتاج، وليس على الاستهلاك؟
فامتلأت صالات المعارض، وأجنحة الفنادق، والعديد من جدران المؤسسات، بما يشبه الخيول، حتى صار المتلقي، لا يميز إن كانت بغالا ً، أو حميرا ً، أو ألعابا ً كارتونية، عدا إنها تستمد شيئا ً ما من خيول الشيخ، الذي رحل، ولم يترك لنا إلا علبة تحتوي على قليل من رماد جسده، أصبحت، هي الأخرى، غائبة، كالكثير من نصوصه الفنية المهربة بعيدا ً عن وطنها.
والأمر لا يختلف كثيرا ً، إن لم يكن اشد خطورة، واعني به: التجريد. فالقليل من أكثر تجاربه (رداءة)، التي حاول فيها محاكاة أساليب شاخت في أوربا، وهرمت، معترفا ً لي بأنه، في هذه التجارب القلية، في ستينيات القرن الماضي، وسبعينياته، تلويصا ً!
ولا أجد معنى مقاربا ً لهذه الكلمة، باللغة العربية، اقرب من: الخداع أو التمويه ...، ولأن فائق حسن كان يتمتع بأدق مميزات عصر (التحديث)، عصر الريادات في مجالها الزمني، وصولا ً إلى بناء الهوية الثقافية/ الاجتماعية/ والجمالية أيضا ً، المواكب لبرامج تنموية وتعليمية وصحية لم تصمد، بعد 1958، حتى سرعان ما تلاشت، ليتم استيراد (الماء) من دول تفتده، فضلا ً عن استيراد المواد الأساسية، بلا استثناء، والاعتماد على ما تستخرجه الأرض، بنسبة بلغت 99%، من الناتج الوطني! فان أستاذا ً كبيرا ً كفائق حسن، ستتحول (هفواته) إلى تمويهات، تزييف، وخداع...، كانت حداثات أوربا قد تخطتها، في خمسينيات القرن الماضي، بينما نجدها قد تحولت عن رسامين لا يجيدون حتى التقليد الحرفي لصور الخيول الفوتوغرافية، فصارت تجاربهم، اقرب إلى مخلوقات خرافية، ورقية، ولا صلة لها حتى برسومات الحمير، التي كان أستاذ الرسم المصري، راغب عياد، قد أبدعها، في ثلاثينات القرن الماضي.
فصار الخلط، والتمويه، لا يستند إلى من لا يعرف رسم (البطة)، بل للتباهي بأنه أستاذ كبير في معرفة أسرار ما (بعد الحداثة)، فراح يذهب بالتجريد إلى أقصاه، متجاهلا ً غفلة المتلقي ـ حديث العهد ـ بان هناك تجاربا ً فنية ترجع إلى فاتحة القرن العشرين، مع موندريان، كاندنسكي، ميرو، كلي .. الخ ولرسامين آخرين، بذلوا جهدا ً (منتجا ً) ومتطورا ً لمفاهيم الفن، وليس ما ينقشه الرسام الأعمى، عن لوحات عمياء!
واليوم، عبر الخارطة العامة للتشكيل العربي، نجد من يلفت النظر للذين يستنسخون، الحافر على الحافر، في يسمى فنا ً حديثا ً، لسبب بسيط، يكمن في اتساع الفجوات، بين النخب الثقافية/ الفنية، والجمهور المنشغل أما بالبحث عن ملاذ امن له، في العالم، أو حماية مصيره من الموت جوعا ً، أو من القتل، بالذرائع التي قامت عليها محاكم التفتيش، في القرون المظلمة.
ولا مناص من الاعتذار للحمير، الحقيقية، وليس للذين لا يميزون بينهما وبين الزرافات، والبغال، فلا بد من الاعتذار لهذا الكائن الوديع الصبور وهو يتأمل أفول مصيره، وانقراضه، أمام تقدم الحواسيب العملاقة، ما بعد الذكية، ودورها في تحديد معاني الحياة، للمستقبل، إزاء المجهول، وهو لا يرى أثرا ً لهذه الفجيعة!، أكثر من بناء تصوّرات تموه الواقع بأساليب مازالت تجد رواجا ً، لكن، لا علاقة لها بملايين تفتقد إلى: الماء الصالح للاستخدام، والشرب، وأحيانا ً، لا تجد إلا الهواء الملوث، لتتنفسه!