الاثنين، 14 مارس 2016

أختام*- عادل كامل




















أختام*

عادل كامل
 [21] خاتمة تؤدي دور المقدمة
    ليس لأنني في اشد الساعات شعورا ً بالوحدة، بسبب العوامل غير الشخصية، وليس بسبب شعوري منفيا ً، محبطا ً، مخلوعا ً، بدوافع استحالة تجانسي مع هذا الذي فقد سماته الاعتيادية، المألوفة، التقليدية، وليس بدواعي غياب ما توفر للنبات، أو للطير، من آمان مؤجل، وليس لأن قانون اللا رحمة مكث يمسك بأدق المفاصل، وأكثرها حساسية، فحسب، بل لأسباب تبدو  إنها قائمة على نظام مغاير للأمل الذي راودنا، عند تحول أسلافنا، من مخلوعين ومنفيين تائهين في المستنقعات، البراري، الوديان، إلى: نسبة ضئيلة تتحكم بالمصائر، من غير بناء قاعدة تشذب درجات (الجور) والتعسف،  والانتهاك...
    بسبب هذا كله، في مجتمع صار  الخروج من عصره الاقتصادي (البري/ الابتدائي/ السحيق)، مستحيلا ً، إزاء التقدم الحاصل في مجتمعات لم تتوفر لديها ما لدينا من موارد وطاقات بشرية وكنوز أنجزتها الحقب الذهبية، بحثت عن الوهم ذاته الذي قاد أسلافي ـ في أقدم العصور أو في زمني ـ للعثور على فردوس لا وجود له إلا في: الفن!
    لكن هذا كله لم يعمق المسار الفردي، بل على العكس، عزز حقيقة: إننا ولدنا جماعات، وإن عصيان الأفراد، وتمردهم، أو خروجهم عن الجماعة، لم يحدث إلا للبرهنة بان الجماعة لديها ما تدشنه، وتجربه، بعد... للخروج من عصر: المنافي ـ والصحارى ـ والغابات.
   فالفن، منذ لا مست يد أسلافي الطين، وصاغت نماذجها البكر للآلهة الأم ـ القانون الأول لمفهوم السحر والديمومة ـ كان ذا نزعة جمعية تضامنية لا يؤدي فيها الأفراد ـ الأكثر رهافة أو حكمة أو تشددا ً ـ إلا بحمايتها من التشتت، واندحارها إزاء قوى الطبيعة، أو الضواري، أو القوى المماثلة الأخرى.
    بهذا الهاجس النفسي، المسبوق باليات لاواعية غدت رؤيتي تتبلور بوصفها علاقة دائمة بين التعسف ـ  ومحاولات العثور على منافذ تجعل الحياة اقل عتمة...
   فإذا كنت منشغلا ً ـ لسنوات طويلة ـ بـ: لماذا...؟ فان لحظات الانشغال بالعمل الفني، كانت مقاربة دائمة  للتفكير بلغز يكمن في: أقدم مصنع أنا جزء منه: الرحم. فالحلم الذي مكث يشغل لا وعينا ـ ولا شعورنا ـ  بالعودة إلى اللا عمل، هناك، في المكان المحمي، الأمن، بالغ الدقة في توفير الاطمئنان، والسعادة في ذاتها، العمياء، الشبيهة بما يحدثه أي عقار مخدر، كالمورفين، وباقي السموم، شغلني أيضا ً. فإذا وجدت المنفى هو الزمن الوحيد للحضور إزاء الغياب، فقد تحتم علي ّ أن أؤدي دور الرحم ـ لا وعيه في توفير عناصر الحماية ـ في ديمومة كل ما هو في الطريق إلى الزوال.
   وبعيدا ً عن استعارة كلمات  لا تفسر إلا بما لا يحصى من الكلمات، ولا تقول شيئا ً، فان ترك الأصابع تفكر ـ  مع خلايا الدماغ، وباقي الأعضاء ـ سيختزل مفهوم بناء ذات غير قائمة على التعسف، والاغتصاب. فإذا كان الجسد، وقد وجد نفسه مكونا ً، كأقدم ملكية، فانه سيواجه قدره بالبحث عن عدالة ما، لا تدعه ينتهك، من غير مقاومة.
    ثمة ـ بحسب تراكم الخبرة ـ: الخامات، خامات وجدت إنها فاعلة ـ من الداخل أو بسبب الخارج أو معا ً ـ تمتلك طاقات، وتراكمات، تحتم عليها أن تنتج لغات/ وسائل للخطاب والتواصل: من الصرخة إلى الإشارة، ومن الأصوات إلى الرموز، لأجل  غاية ستبقى تمتلك لغز يجرجرها للتشبث في سبر مناطقها اللا مرئية، وقد صاغت مفهوم: التوقيع ـ الأنا ـ الختم، وكل ما يتعلق بمكونات الهوية. فالختم لا يمكن عزله عن: الكون/ الطبيعة/ المجتمع/ والبيئة ذاتها التي وجدت إنها تتكون عبر تصادماتها ـ فوضاها ـ بحثا ً عن ذات السكينة التي صنعها المصنع الأول، وقذف بها، بعيدا ً عنه!
   هكذا سأكتشف إنني تحولت إلى (سلعة) داخل سوق منتهك، لاكتشف أن المصنع الذي انتجني ـ بمكونات الأرض وعناصرها ـ الأم وهي تتعرض لشتى الانتهاكات الدائمة، يكرر السلع نفسها، ويصر، بعناد غامض وقهري يماثل نهايات الماسي القائمة على تفنيد العدالة، ومنطقها، لا يمتلك إلا  قدرات افتراضية، وهمية في الغالب، في العثور على منافذ للخلاص.
    لكني ـ ببدائيتي التي شذبتها بالقليل من المعلومات والخبرة النظرية والعملية ـ كنت اصنع أختامي، مثلما يبني الطير عشه. فانا كنت شديد الرغبة أن أبقى سلعة محمية من التلف! في عصر لم يعد للآلهة الأم إلا رمادها، بعد أن دخلت أنظمة المراكز الذكورية ـ من الثور إلى رأس الهرم، ومن سادة الغابات والمستنقعات والبراري إلى رؤساء الشركات وكبار زعماء المنظمات القائمة على المشفرات والألغاز ـ في تصادمات لم تسمح لي إلا برؤية هذا القليل من الومضات...، كي احفر هذا الذي ـ هو الآخر ـ أراه يذهب ابعد من غايته، وكأن لغز الغياب يأبى إلا أن يغوينا بظلال حضوره، وأنا أراه يقيدني بتتبع خطاه، حتى لو كان وجوده وهما ً، وقسوته عبرت حدود الآمال، والزمن.
بغداد ـ 1/3/2016
   

تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختام معاصرة.



كيلو الشرف.. بحفنة دم

كيلو الشرف.. بحفنة دم: خاص ( ثقافات )أن تسجَّل في عام واحد ستّ عشرة جريمة قتل لنساء على أيدي أقاربهنّ في مجتمع صغير كفلسطينيي 48، وبزيادة بنسبة 60 بالمئة عن العام السابق، ليفوق عدد المقتولات في العقد الأخير مئةَ أنثى، فإنّ هذه كارثةٌ بيّنة. أمّا أن يكشفَ بحثٌ ميدانيّ أنّ أكثر من 55 بالمئة من شريحة الشبيبة (جيل المستقبل)، يؤيدون هذه الجرائم ويحمّلون ضحيتها المسؤوليةَ

الخميس، 10 مارس 2016

أختام*-عادل كامل




















أختام*

عادل كامل
 [20] مرايا ومرايا مؤجلة
    لا تستطيع أية فلسفة عدمية، وأية قوة تدميرية، وضمنا ً هذا التيار الجارف للانتحاريين، أن تزعزع ذلك الفاصل بين عصر ما قبل (المرآة)، وما بعدها. ليس لأن الحياة قائمة خارج إرادتنا، وكل إرادة من صنع المتراكمات، التاريخ، أو بفعلها، وإنما لأن الوعي المضاد ذاته سيشكل امتدادا ً لها. وبمعنى ما فان اكتشاف (نرسس) الرمزي، لذاته ـ مع تحديد بؤر الخطر: كل ما هو في الخارج، وصولا ً إلى التدمير الذاتي للذات ـ سيدفع بالوعي إلى ذروته: ألانا على حساب الآخر، مما منح الجميع قدرات أعلى في صياغة مبررات الإرادة: ليس بالعودة للحفاظ على (الذات) وتراكماتها، بل للعثور على مسوغات تتوازن فيها شراسة التصادمات، وعدميتها، لكن ثمة قوة ما ستستعيد انبثاقها، على حساب حيوات ستتوارى، ابعد فابعد، كي تمنح الإرادة صيرورتها: وكل ما لم يدشن بعد.
     فهل كان باستطاعتي أن أكوّن قناعة ـ غير مبرمجة بإحكام ـ غير عمياء،  لا أتسلى بها، ولا أتقدم في المجهول،  لا يكون الاضطراب فيها مدمرا ً،  بل متوازنا ً مع هذا الذي يمنح وجودي حده الأدنى من الثبات، والسكينة، ولا يدعني أتستر خلف مرايا وجودها لا يمتلك إلا قوانينه الراسخة: أنا أو الآخر...؟
    قبل أن يرى (نرسس) وجهه فوق سطح الماء، لم يخف، انه رآه قيد الزوال، متموجا ً، إنما، في لحظة الاكتشاف، تشبث بما رأى، وسيعمل وفق اكتشافه، لذاته. إنما ثمة مسيرة طويلة تسبق هذا الاكتشاف، ومراحل لاحقة ستجعل من المواجهات حتميات لفهم القانون ذاته، ليس إلا التصادم المرئيات عبر تحولاتها إلى ذرات، والى كتل، يدمر بعضها البعض الأخر، شبيهة بتصادمات الذرات في النار، وشبيهة بتصادمات المجرات، والنجوم، في الفضاء الأكبر.
    قبل أن يتعرف نرسس على انه: وجه، ولغة، ودهشة، كان يرى في الآخر، شبيها ً له: فكانت الحياة متوازنة عبر صراعها العنيد. وها هو يكتشف انه يمتلك قوة باستطاعتها أن تقول للآخر: إن لم تكن معي فانا لن ادعك تراني عدوا ً! لكن هذا لن يدوم. فكل الحروب تخمد، مثلما خمدت البراكين التي كونت قاراتنا، كي تعمل المرآة، لا في اكتشاف خفايا النفس، ولا شعورها السحيق، أو في لاوعيها المبرمج بمعزل عنها، بل لاكتشاف حتمية إن الكون، يمتد، ويمتد، متسعا ً، إلى ما لانهاية.
     إنها سلسلة تصادمات، إنما لن تقدر أن تضع نهاية لهذا الاشتباك، إلا بالمساومة، كي يأخذ الصلح دوره في ديمومة الاحتفال، وكي يفضي إلى: مرآة شاملة. فعندما  لا يوجد منتصر في نهاية المطاف، لا توجد هزيمة أيضا ً. فهل المرآة  الشاملة، واقعيا ً، مسارا ً انصهرت فيه الروافد القديمة، أم تحضيرا ً لعصر مداه يقع خارج حدود كوكبنا الأزرق الصغير، والأخير يعالج أفوله بعقارات جميعها شبيهة بالسم الكامن في الغوايات...؟
    ها أنا لا أرى إلا ما رآه مدوّن قصة الخلق: العماء! فأمد أصابعي كي اعثر على موطئ قدم، فالعالم الذي لا اعرف عنه شيئا ً، لا يقع داخلي، ولا يقع خارجي، لا لأنه عالم مرايا، وتصوّرات، وصيرورات، حسب، بل لأنه هو كل هذا الذي لا استطيع إلا أن أتوارى فيه، كي أدرك، في نهاية الأمر، إنني أسير غوايات، حتى في عملي المضاد لها.
    ويا له من مجد، وانتصارات ظريفة، لكنها، عمليا ً، وبقليل من الحكمة، لم تشيد إلا فوق الضحايا، والخراب، والخواء  فحسب، بل لأنني عندما لا انتصر على الآخر، وعندما انتصر على (أناي)، فان الهزيمة وحدها ستمتد، وأنا أرى المرايا تتهشم، الواحدة بعد الأخرى، كي لا أرى إلا  لا مرايا، تتجاذب، فاترك أصابعي تصنع أختامها، محاطة بحافات سبقها عدمها، كقوة بلا حدود، في الديمومة.
    انه اللا كل وقد منح كل (أنا) إرادة خفية لاجتياز عصر العماء. فاستعيد دور الأعمى، واتمثله، في الحديث عن نجوم لم أرها، حولت إشعاعات الشمس، إلى فحم، داخل حضارات لم يدم صخبها، إلا ومضات داخل هذا اللا كل، عبر تصادم غوايات غابت عنها المرايا، من الخلف أو من الأمام، وقد اخذ اللا زمن موقعه، نائيا ً، في المحو. انه وجود انبثق من العماء، نحو عدمه، عبر حضور مسبوق بشظايا لن يدوم تجمعها إلا بحدود المسافة ذاتها بين الأزل والأبد، فهل تبقى لي رجاء عدا ترك روحي تحّوم برجاء لا علاقة له بي، أو بما رأيته، عبر مسرات الجحيم، والأصح: عبر جحيم المسرات  المستحيلة...؟

تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

الأربعاء، 9 مارس 2016

المثقف الواحد المتعدد.. البورتريه لا البروفايل-*د. حسن مدن

المثقف الواحد المتعدد.. البورتريه لا البروفايل
*د. حسن مدن

هل من الأجدى أن يحتكم المثقف إلى فكرة أو نظرة محورية واحدة، عبرها يرى الظواهر الأخرى، وأن يرى أن هناك ناظماً للأشياء والظواهر، أم أنه ينظر إليها فرادى، جزئيات مبعثرة مختلفة. حتى تفسير التاريخ نفسه عانى من هذا اللبس، ومثله السلوك العام للبشر، وفي هذا السياق يمكن صوغ أسئلة عدة عمن كان على حق: كارل ماركس مثلاً في اعتماده التفسير الاقتصادي لتطور مجتمعات وسلوك الأفراد، أو فرويد في اعتماده التحليل النفسي منهجاً لفهم النسق العام للسلوك البشري؟ ويمكن سوق أمثلة أخرى عن مزاعم صراع الحضارات والأديان والثقافات وهلم جراً.
أيهما أجدى للمرء: أن تكون بصيرته مفتوحة على الظواهر المختلفة، وهو يسعى لتأويلها مستعيناً بأكثر من منهج وأكثر من رؤية، فيرى الاقتصادي والثقافي والنفسي وسواه في الظاهرة الواحدة، أم يقصر ميدان بحثه ورؤيته على عاملٍ دون سواه؟ أمن الأجدى أن يتمترس المرء وراء رؤية فلسفية بعينها يخضع شتى الظواهر لها محاولاً، طوعاً أو قسراً، تأويلها عبر هذه الرؤية، أم أنه يوسع زاوية نظره فيرى تعدد الأبعاد في الظاهرة الواحدة، فيقاربها من الزوايا المختلفة كي يستوي في نهاية المطاف إلى خلاصة أقرب إلى الحقيقة من سواها.
ثم: ألا يؤدي ذلك إلى نوع من التوفيق الذي يبلغ حد التلفيق بين نقائض مختلفة، متعددة، متناقضة، ولو تأملنا في الكثير من الأطروحات التي تجد لها سوقاً رائجة من حوالينا لوجدنا فيها نماذج لا تحصى على هذا التلفيق، الذي لا يمكن أن ينتج معرفة جديدة، أو يُوَّلد مفاهيم خلاقة. والمعرفة بمقدار ما هي تواصل واستمرارية، فإنها كذلك تتطلب الجرأة على القطيعة مع مفاهيم بلت، حتى لو كان لها من سطوة الحضور ما يتطلب المقارعة الجسورة، كي تشق المعرفة الجديدة لنفسها درباً للأمام. ولكن معرفة أشياء كثيرة، وإن كانت مكسباً للمرء، فإنها أشبه بحبات السبحة التي انفرط عقدها فتناثرت على الأرض كل حبة في جهة، إن لم يجمعها خيط واحد تلتئم فيه.
يجري التبشير اليوم بسقوط الفلسفات والنظريات والمشاريع الكبرى التي كانت تزعم لنفسها امتياز الإحاطة بكل شيء، وتفسيره وتعليله، ويُنعش تفرغ العلوم والمعارف والاختصاصات وتشظيها إلى فروع دقيقة، متخصصة، إلى إنعاش الرأي القائل إنه لم يعد بوسع شيء واحد كبير بأن يحيط بكل شيء، وتروج بعض دعوات ما بعد الحداثة، فرانسوا ليوتار، مثالاً، لما تدعوه نهاية السرديات الكبرى، خاصة منها تلك ذات التوجه اليساري: الثورة والتحرير والعدالة الاجتماعية، بل وحتى قيم التنوير وتمجيد العقل، فيما ذهب هربرت ماركوز ومجايليه من رموز مدرسة فرانكفورت، إلى أن آليات نمط الحياة الاستهلاكي الذي أشاعته الرأسمالية في مرحلة نضوجها، أغرق الناس في أوهام المجتمع الاستهلاكي واستوعب طاقات الاحتجاج لديهم.
هذه الدعوات الآتية في سياق الفكر الغربي تعبيراً عن التعقيدات التي يطرحها تطور الرأسمالية في البلدان المتقدمة تجد أصداء لها في بلداننا العربية التي تبدو أبعد ما تكون عن استيفاء شروط الحداثة الفكرية، وهناك مهووسون بالموضات والتقليعات الفكرية يحاولون اسقاطها على واقع مغاير، شديد الصرامة في بؤسه، فيما نحن في أشد الحاجة إلى نموذج المثقف الذي يجب أن يتوافر على شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وحاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه نزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي.
ليس كافياً أن يكون المثقف مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حكماً على أحداث مجتمعه. وفي عبارات أخرى على المثقف أن يكون صاحب رؤية بديلة وقادراً بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه إلى بث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها مبضع النقد الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرّحة لمريضه.
وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه الوعي الجديد المؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي إلى مواجهة ما مجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في الراهن وفي المقبل من حياتنا العربية.
الثقافة بطبيعتها ديمقراطية، ولكن ذلك لا يتحقق تلقائياً، ثمة جهود يجب أن تبذل من أجل ترسيخ القيم الديمقراطية في الثقافة، بنبذ أشكال التزمت والتعصب والتطرف، بتكريس الانحياز العميق لقيم العقلانية والعلم والتسامح والإنفتاح الحر والشجاع والنقدي في آن على تيارات العصر، سواء في ثقافتنا أو في الثقافات الأخرى دون خوف أوعقد .
في التراث العربي الإسلامي كان العالم أو المفكر في الأصل رجلاً موسوعياً. إنه يجمع بين الفقه والطب والرياضيات والعلوم الفلسفة. أما اليوم فبالكاد نعثر على مثقف متبحر في حقل اختصاصه. نقول هذا الكلام من وحي الضجيج الكبير الذي يثار حول المعلوماتية، التي تطرح بوصفها ثقافة العصر الراهن، ويكثر الكلام عن تدفق المعلومات وانسيابها كما لو كانت هذه المعلومات تخلق نمطاً جديداً من المثقف الموسوعي الذي هو على بينة من كل القضايا، ولكن المعلوماتية أمر، والثقافة أمر آخر.
أفول زمن المثقف الموسوعي له أسباب موضوعية، تكمن في التطور المذهل في المعارف والعلوم بحيث لم يعد في طاقة عقل بشري واحد أن يستوعب كل هذه التطورات، وحيث بات التخصص مطلوباً وضروريا، فحتى التخصصات الفرعية تتشظى هي الأخرى إلى فروع أصغر فأصغر، وبات كل فرع بحاجة لمن يتفوق فيه وينبغ، ولكن الأمر الذي نحن بصدده يتصل بالرؤية الشاملة أو المنظور الفلسفي العام الذي بات الكثير من دعاة الثقافة اليوم يفتقدونه في أطروحاتهم وفي القضايا التي يتناولونها.
يروي الكاتب أنيس منصور الحكاية التالية التي جرت له في وقت ما في ستينات القرن الماضي على الأرجح، إذ حدث أن دعاه المرحوم أحمد بهاء الدين هو وكامل زهيري لمرافقة الشاعر الروسي الكبير يفجيني يفتوشينكو الذي كان يزور مصر يومها بدعوة رسمية في رحلة إلى مدينة الأقصر، وفي ليلة قمرية خرج الثلاثة: منصور وبهاء الدين وزهيري إلى رحلة على متن زورق فوق سطح النيل. كان الشاعر الأجنبي مستلقياً في الزورق مأخوذاً بالقمر والليل والنيل يتأمل في ما يرى. وفجأة ومن دون سابق حديث سأل الضيف مضيفيه: ما هي القضية التي يتجادل حولها المفكرون والمثقفون في مصر، فيتفقون أو يختلفون ما الذي يشغلكم؟ ما هي قضيتكم؟!
يقول أنيس منصور إن السؤال فاجأ جميع مَن هم على الزورق، واجتهد كل مهم في تقديم إجابة. كامل الزهيري تحدث عن الأدب والجدل حول الواقعية كمدرسة، معها أو ضدها. منصور نفسه تحدث عن الوجودية بوصفها رداً لاعتبار الفرد في مواجهة ما فعلته به الشمولية، وأحمد بهاء الدين تحدث عن أمر ثالث، وهكذا. فما كان من الشاعر الضيف إلا أن روى لزملائه المصريين حكاية عن فنان طلب منه أن يرسم بورتريه لرجل مهم، ولكن في وجه هذا الرجل المهم ثمة عاهة، إن أظهرها في الرسم قد يؤخذ عليه ذلك، فاحتال الفنان بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية، أو ما يعرف بـ «البروفيل» وما ذكرتموه من أجوبة ليس أكثر من «بروفيلات» لواقعكم، إنكم تتفادون النظر إلى الواقع كما هو تماماً كما فعل الفنان الذي تحاشى رسم «البورتريه» ولجأ إلى «البروفيل».
يضيف أنيس منصور معقباً: هذا السؤال الذي طرحه الشاعر الضيف والتعقيب الذي قاله فيما بعد شغلاه طويلاً، وسعى للإجابة عنه في العديد من الكتب التي ألفها على مدار عشرين عاماً أو أكثر من دون أن يوفق في الإجابة كما يقول هو نفسه. ولست اتفق مع أنيس منصور، لا في الفكر وفي السلوك السياسي، ولكني أظنه مصيباً تماماً في ما ذهب إليه من أن الفكر العربي مازال مشغولاً بالجدل في قضايا قد تكون مهمة لكنها لا تشكل محور أو جوهر ما يدور في الواقع من اشكاليات.
إن هذا الفكر يقع غالباً في أحد محذورين: الانشغال بتفصيل معين من تفاصيل هذا الواقع، قد يكون مهماً لكنه ليس الأهم، وفي غمرة انشغاله بأمر الشجرة ينسى الغابة التي تتكون من آلاف الأشجار، وإما أنه يلجأ إلى التجريد الذي يغفل حيثيات هذا الواقع، ومن طبيعة الفكر أن يكون مجرداً لأنه يشتغل على القوانين العامة لحركة المجتمع، لكن هذه القوانين حين تبحث مفصولة أو مبتورة عن الواقع الذ تنشط فيه، تصبح رسماً أشبه بالبروفيل لا رسما للبورتريه على نحو ما ذهب يفغيني يفتوشينكو.
يتعين على المثقف الفرد أن يكون متعدداً، لا بمعنى أن يكون مختصاً في كل حقل من حقول المعرفة فذلك محال، وإنما يكون قابضاً على الخيط الذي يشد العلوم بعضها لبعض تعبيرا عن الترابط القائم بين الظواهر في الحياة نفسها وفي الطبيعة الأشمل التي تحوي كل هذه الظواهر.
_________
*جريدة عُمان

الثلاثاء، 8 مارس 2016

لمناسبة يوم المرأة العالمي.... كي لا نوغل في التمويهات... المرأة مازالت في عصر العبودية!-عادل كامل



لمناسبة يوم المرأة العالمي....
كي لا نوغل في التمويهات...
المرأة مازالت في عصر العبودية!

عادل كامل
     ليس في عام 2016 ـ في فاتحة الألفية الثالثة ـ يتم الاحتفاء بالخراب، الذي تعرضت له (المرأة)، في بلداننا ـ العربية/ الإسلامية ـ بل لقرون طويلة خلت أفضت إلى نهايتها المنطقية: تدمير (المرأة) ولغز وجودها بوصفها شكلت أقدم مفهوم لخلية إنتاج: الحياة!
   فلا أقسى من وجود من يزعم أن المرأة حصلت على حقوقها، رغم إنها لم تعد معطلة، أو عاطلة عن العمل، عامة، بل بمحو كيانها الوجودي، والرمزي، معا ً، فهل الحديث عن حضورها ـ كوجود الآخر ـ يسمح بالحديث عن وجود غير مقيد بالأسر في مجتمعات قائمة ـ عبر تاريخها ـ على تدمير: العمل/ التنمية/ الحرية؟ وهن ـ كالآخر ـ يعشن عمرا ً من اليباب، والخواء، أسئلة شبيهة بوجودهن داخل زنزانات في قاع كهف مظلم وموصد بكل سبل تدمير: العمل/ العقل/ والحكمة؟
   ولا جدوى من مناقشة أي فكر لا يتوخى وضع معايير منطقية للحكم....، كالقائم على الافتراضات، والمؤجلات، والتسويات، والتمويهات الرمزية...، لأن إهمال الإحصاء، في الحقوق، لا يسمح للتوغل في مواصلة بناء عالم مؤسس على الحقوق، والواجبات.
  ولنرجع إلى  أقدم مثال كونته الأزمنة السحيقة، ألا وهو: وجود آلاف المجسمات، التماثيل، في شتى بقاع الأرض، تمثل: الآلهة الأم...
   فالعصور البدائية، القائمة على حماية وجودها بنفسها ضمن الاقتصاد البري، أنجزت (المرأة) بوصفها شاملة على عناصر الديمومة، أي بوصفها هي الأصل، الذي أنتج الآخر، الذكرـ ديمومة من غير جنسانية، أو قائمة على القمع، المبرمج، وإنما بما يمثل الحرية المقيدة بالضرورات، وكالحرية لا معنى لها من غير تنمية قائمة على وفرة: الإنتاج، وغناه المادي ـ والروحي.
   فإذا كانت المصانع الأولى، لم يستحدثها احد، من البشر البدائيين، كالكون، والطبيعة،  والكائنات الحية المختلفة من حيوان ونبات....، فان (الرحم) سيشكل نواة أقدم مثال للمصنع، بكامل آليات عمله المتقدمة على أكثر مصانعنا المعاصرة، تطورا ً، ونظاما ً مشفرا ً، تحكم بالديمومة، وفي مواجهة آفاق الزوال.  فالرحم ـ الأكثر صلة بالكون والأرض وملغزاتهما ـ شبيه بالكهف الذي راحت عناصره تتراكم، وتتكامل، من النار، والخامات، وصنع الأدوات، إلى عمليات صياغة الأسئلة ـ سيشكل نواة أول مصنع منتج لأدوات صنع الأدوات، وليس لاستهلاكها حسب. ولعل أدق مثال هو وجود تماثيل الآلهة الأم، بوصفها علامة مبكرة لمفهوم المصنع ـ المركب، وهو يتصدى لصدمات التهديدات الخارجية، والفزع من الضواري، والموت. فهو وحده أداة لصنع الأدوات، لكن هذا لم يكن إلا المفتاح، للبحث عن الباب، وفك أقفاله الموصدة. فالحياة مكثت تتجدد عبر تجدد استحالة العثور على إجابات أخيرة، وحاسمة. إلا أن  مفهوم (الأم/ الأرض/ الخصب والتجدد ...الخ) لم يقهر، لا بفعل كوارث الطبيعة ونكباتها، ولا بفعل استعباد المرأة وإلحاقها بممتلكات الآخر ـ في عصر انتصار الذكورة.
   وحكاية نهاية عصر (الأم) مدوّن في الكثير من الأساطير، رغم عدم زوال آثار عصر (الأمومة)، و عصر (الأم)، بلغز عذريتها، رمزيتها، في الأقل، كما في العذراء والدة السيد المسيح. فبعد أن قام الإله (مردوخ) بقتل الآلهة (تيامة) سادت سلطته، بإلحاق المرأة، بها،  فانتقل المركز، من الآلهة الأم، إلى الإله ـ الذكر.
     وليس ثمة زمن محدد لهذا التحول، أدق من ظهور الزعامات ـ باستثناء زعيمات أو نساء قائدات كانخيدونا ابنة الملك سرجون الاكدي قبل موت تيامة بألفي سنة ـ في وادي النيل، والرافدين، وفي الصين والهند...
    لكن (المصنع) لم يتعطل عن أداء دوره غير المستحدث، فالطبيعة لديها آليات لإنتاج دفاعات محكمة في مواجهة: التطرف أو الجنسانية، والانحياز لجنس على حساب الآخر، إلا إن عصر العبودية ـ عصر خضوع المرأة لمركزية الرجل ـ لم يدم إلا بتعديلات، هي بمثابة ترميمات، للمساواة، والتمويه. فالمركزية عملت تحت هيمنة البنيات الأقوى، حتى إن مثال قابيل وهابيل يرجعنا إلى حكاية أقدم، لهذه المركزية، بغياب دور (المرأة)، ومثال الطرد/ الخروج، النفي، بسبب خضوع حواء للغواية، هو الآخر، مدوّن لتعزيز مركزية (الذكر)، وهو مثال يمكن مقارنته بالقوة المتنامية، لعنصر الذكورة، على حساب دور الأم، المعني بحفظ الحياة.
   على إن عصر (العبودية) يفصح عن تاريخ طويل زاخر بالوثائق والآثار المؤلمة....، ورغم إن البحث مازال يستدعي دراسات تفسر أو تشرح لماذا انتهى عصر الأم، لصالح الآخر، الأقوى، إلا إن تاريخ العبودية، هو تاريخ استبدال (المصنع) بأخر، لم يقد إلى العدالة، أو إلى التوازن، إلا ليأخذ (الذكر) دوره المهيمن، منذ عصر الزراعة، وتحولاتها، وصولا ً إلى العصور الصناعية، وليس انتهاء ً بالموجة الثالثة، عصر ما بعد الصناعة ...، فالمرأة ـ في الحقوق وفي الواجبات ـ مكثت في المرتبة الثانية.
   وفد (نلجم) بظهور فلسفات، ومعتقدات، وسلطات، وأعراف منحت (المرأة)  حقوقها، ومساواتها مع الآخر، ولكن هل حقا ً هذا  يلغي تاريخ (السبي) و (العبودية) ومعاملة المرأة كسلعة، وموضوعا ً للترف، وعلامة من علامات البذخ، الطويل الذي تعرضت له المرأة، في مختلف المجتمعات البشرية، وبدرجات  لا تلغي الفجوات، بينها، إن لم توسعها،  في حقب ازدهار الإمبراطوريات، القائمة على القوة، وسفك الدماء، والاغتصاب ...؟
    إن الحديث عن (المساواة) ليس حكما ً هشا ً، ومخادعا ً فحسب، بل انه يلغي أي تفكير (موضوعي ومقترح للمساواة)، ويدعونا إلى قراءة المعادلة، ليؤسسها على: العمل/ العقل/ الحرية.
    فهل نحج (الرجال) بإقامة أنظمة الكفاية، كي لا تشهد الأرض، في عالمنا المعاصر، أكثر من ملياري (رقم بشري) يعيشون تحت خط الفقر، وبموت أكثر من (17) ألف طفل يوميا ً، ووجود أكثر من (60) مليون  مهجر، نازح، مخلوع عن وطنه، وملايين من الباحثين عن بلدان لا تسفك فيها دمائهم، لأسباب واهية، مصطنعة، خادعة...، وملايين العاطلين عن العمل، والتفكير، وملايين لا علاقة لهم بالحياة، لا بمصنعها ولا بحكمتها؟
   أي احتفاء ـ احتفال ـ يجري للآلهة (الأم) وهي مقيدة بنظام يلفت النظر، بالدرجة الأولى، إلى عالم: العبيد ـ رغم سيادتهم، وامتلاكهم، لإدارة شؤون الأرض، ومصانعها؟!
    فالرجال ـ هنا ـ مثال للعبيد، وليس للأحرار...، وإلا كيف يتم تدمير أقدم مثال للمصنع ....، بأية ذريعة من الذراع، فلسفيا ً،  أو بأي مبرر من المبررات، أو بأي عرف، أو أخلاق، أو قانون... تجري العقوبات، والمعوقات، ضد عمل المصنع الأول: لإنتاج وسائل إنتاج الحرية: التنمية، العقل، والعدالة.
    ألا تبدو المقارنة، اليوم، تلفت نظرنا ليس لتحرير (المرأة) فحسب، بل لتحرير بنية النظام الذي صنع من الرجال سادة افتراضيين،  وبناء عبودية لم  تجعل من المرأة سلعة، رقما ً، هامشا ً، فحسب، بل  مصنعا ً لا ينتج إلا العبيد! ألا يتطلب الاحتفاء/ الاحتفال، إزاحة الوهم، والتوهم، الخداع والمخادعة  برؤية ما يحدث فوق كوكبنا الأزرق الشبيه بحبة رمل في ساحل لا نهائي الامتداد....، وتهديدات لا تدفع بالحياة نحو المجهول، بل تقوضها، عندما لم نتعلم من الآلهة (الأم) لغز الدور الذي افتتحت البشرية معالمها المتمدنة الأولى: كي لا يأتي منح (المرأة) حريتها، حسنة، أو مكرمة، بعد أن تحولت القوة إلى القانون الذي ينتج ـ إلا  قوانين الاستبداد، وتدمير أي حرية قائمة على تكبيل التنمية، وعلى التطرف ألذكوري، الذي ما انفك يعمل على تدمير أي جهد  حقيقي لحياة لا نسمع فيها إلا عويل الأطفال، واستغاثات المرضى، ولا نصغي إلا إلى أنين الأرامل، وبكاء الثكالى!

* جدارية خزفية للآلهة الأم ـ 1994/ 182×31 سم لعادل كامل



الأحد، 6 مارس 2016

غالب المسعودي - نَعَم.....؟(قصة سُريالية)

نَعَم.....؟(قصة سُريالية)-د.غالب المسعودي

نَعَم.....؟(قصة سُريالية)

يا ليتها كانت نِعَم....!

على انغام اغنية سعدي الحلي شربت كاسي الاخيرة حتى الثمالة, غفوت , استرسلت في الطبقة الثالثة من حلمي, اثار (الدوك ستايل) واضحة على ركبتيها, سالتها عن القروح ,قالت انها تمسح وتنظف البيت على ركبتيها, لكني اعرف انها اثار(الدوك ستايل), تصورت انها غلبتني لأني تنازلت لها عن ما تبقى من حلمي الاخير ,غفوت على حلمتها اليسرى , عندما اغفو احلم و اشخر بعمق, كذلك احلم بعمق, روى لي سلطان شذ منذ الصغر, ان مردوس وهو العقل الثاني  في حلمي  وهو في هيئته  الطولية, قال لي ستعشق , سأسير لك الصافات في سماء حلمك, تحميك وستاتيك سفائن محملة بالبخور, لم احزن لأني اعرف ان هذا حلمي الاخير معها, لكني عدت الى ذاكرتي وهي تتمرغ بالطين اليابس, حين اصدر فرمانا عثمانيا نص على ان يكون راس السلطة القضائية ,قوادا للوالي وان يكون الوالي شاذ جنسيا ,وبناء على عدة فقرات من الدستور, عين الوالي كبير الطهاة وكبير الخدم وكبير القوادين وهلم جرا, انا لازلت مصرا منذ حلمنا الاخير ان اثار القروح على ركبتيها تشير الى( الدوك ستايل) لكن احدهم نبهني انها تمارس العادة السرية في أروقة المستشفيات , تعلمت طرقا جديدة للوصول الى لحظة انهيار اللذة, كما يدور في بلدي, المهم وانا في حلمي بعد ان اجريت تعديلا وزاريا على حلمي, قامت احدى النباحات, اعترضت على تسنم وزارة قضيب العفة لشخص عفيف, تصدى لها ذو اللحية الزرقاء, نسي ان يصبغها بالأسود لكثرة انشغاله ,هي في الحقيقة كانت مخططة, انسدل سائل ابيض على فمها , تدفق من حنجرتها صرخت بأعلى صوتها, هذا نهب العذرية ,لم يصغي لندائها ,احد شتمت بؤس مصيرها, اتخذت من العطار القذر سلوتها خانت حلمها, هي مصالح, المفكرون المحتالون خلف عجيزتها, يساريون لم يقتربوا من جحر التنين, شذاذ افق, اكلت من صمتها ,تراءى لها انها في قمة الانتصار, الوالي سخر اجنحته اصدر فرمانا اخر بتعيين كبير النعاق مسؤولا عن التكنوقراط ,لف عمامته اسدل لحيته تعطر بالبخور, رش على قامته المقذية برميل عطر مغشوش تحسبا ,ظهر على شاشة التلفاز..., انا كما هي, نِعَم.... نِعَم.... نِعَم....! هي تبرر كذبتها بالصدق , انا ابرر صدقي بالكذب, ما الفارق اذن....؟ نحن نسير على خط واحد, اكل من نهديها وشرب ,عزل الخمس من حليبها, اودعه في بنك اليسار, جمع الباقي في خيبتها الطينية ,ناور في كسب اصدقائها القدماء ,لم يؤلوا جهدا في كسب  سذاجتها ,اكل من دمعتها وهي قيد النضج ,احتشدت حول اريكتها انواع الشائعات وارقام الهواتف غير المحفوظة, لم تُصدق, لأنها روتها لي على عجل ,لكني في حلمي قضيت وطرا اناقش مستجدات الوضع الراهن ,تبين ان الدخان المتصاعد من خيمتها فيه اثار تمرد واشتعال, لكنه غير ناضج حد اللحظة, تساوره شكوك اعرابي لم يلحظ ان الصحراء مزروعة بسراب الماء ,وعليه ان يزاول صيده البحري ما بين الصخرة والماس ,تعجب الاعرابي الذي كان يبحث عن قطرة ماء اصبح كله ماسا, هو لا يجيد لغة الماورائيات, عندما يعطش ,بول الابل له سلوى, هو كما هي نفس الرؤى والتفكير, لا زلت امارس حلمي في مدينة بيضوية الشكل ,الناس فيها يتباهون بقلوب سوداء كأنها هدايا عيد الحب ,كلابهم تعزف موسيقى رائعة ,رميت بقايا محفظتي لم يلتفت لها احد, كانت تحتوي بقايا من الشبكة العنكبوتية ,كان التنور مشتعلا قرب حافة وسادتي استيقظت من حلمي ,واذا بها تستعطي الحب من جيوب المتسولين ,حمدت مردوس لقساوته معي اذ لم يسمح لي ان التقط سقط المتاع.

الجمعة، 4 مارس 2016

رسامو(الحمير) في التشكيل العراقي الحديث! [ لا تحرقوا فائق حسن مرة ثانية]- عادل كامل











رسامو(الحمير) في التشكيل العراقي الحديث!
[ لا تحرقوا فائق حسن مرة ثانية]



عادل كامل
     كيف يصبح، كائنا ً من كان، رساما ً، وهو لا يجيد رسم: (بطة) ..؟ هكذا تساءل فائق حسن، المؤسس لأصول الرسم الحديث في العراق، منذ أربعينيات القرن الماضي، وكيف يصبح، حتى لو درس الرسم، فنانا ً، إن لم يجتز محن الضرورة ـ متطلبات الحياة اليومية ـ نحو: الدخول في معضلات الفن، وإشكالياته؟
    على أن انجازات الأستاذ فائق حسن، الرائدة، ومنها تأسيسه لفرع الرسم في معهد الفنون الجميلة (1939 ـ 1940)، وتطبيقاته الفنية، التكنيكية، التي تعلمها من أساتذته في (البوزار) ـ بفرنسا ـ ورؤيته التي زاوج فيها بين (البدائية/ التلقائية/ العفوية ..الخ) والفن كمجموعة من القواعد ـ والأسس، كلها، إلى جانب مهارته بخلق بنيات فنية غير مزيفة، وليست قائمة على المحاكاة، نسقا ً يماثل  مفهوم:الحافر على الحافر كما قال الجاحظ، ... الخ، لا تقلل من المسارات التي بدأت منه، ومعه، وانتهت إلى: أخطاء، وتشويهات، لا على صعيد الرسم الواقعي، ورسم الخيول تحديدا ً، ولا على صعيد الرسم (التجريدي) الذي اعترف لي، في حوار منشور: بان تنفيذه لسلسة من اللوحات التجريدية، ليست إلا: تلويصا ً!
   والاعتراف الأخير، للأسف، لم يثر انتباه تلامذته، أو من غدا يمثل دور (الأستاذ)، رغم انه لا يجيد رسم (بطة)، لا بهيئتها الواقعية، ولا برمزيتها، مثلما تحولت (خيوله) لدى 90% من مقلديه، إلى علامات فنية، على مدى سنوات غير قصيرة.
    فالتجريد لدى الأستاذ فائق حسن، كان بمثابة نزعة  تجريبية، مستمدا ً مغامرة التنفيذ إلى مهاراته، وشهرته، بوصفه غدا رائدا ً ـ وقدوة.
    ولهذا لم تمض حياة فائق حسن، بسلاسة، ومن غير جدل...، فالفجوات بين (الرسام) و (الفنان) لم تنته، ولم تردم. كان فائق حسن رساما ً ـ من فعل رسم وهو ما سيقوم به الفنان في المجال البصري المستحدث ـ أم كان فنانا ً عاصر نهايات الحداثة، وعاش في مراحل نشؤ (ما بعدها)، في بلد مازال يرزح تحت مهيمنات عصور ما قبل عصر الزراعة ـ مع خليط من الأنظمة البدائية، الرعوية، الريفية، إلى جانب التطلع لتأسيس مجتمع يمتلك شروط التحديث ـ وصولا ً إلى مفهوم الإنتاج بمعناه الصحيح، وليس بمفهوم الاستيراد، والاستعارة، والمحاكاة. 
    بالطبع، لم يكن فائق حسن، معجزة، ولا كان جواد سليم، يعمل بدواعي الخرافة، والكرامات(في عصر الحقائق العلمية)،  ولكن حصيلة الدراسات لمنجزيهما، تثبت إن أي تأسيس للإبداع الفني المميز، بل والجديد، لابد أن يمر عبرهما، في الرسم وفي النحت، كي لا تزداد القطيعة، بين الفن والمجتمع، مسافات إضافية، كالحاصلة اليوم، في المجتمعات العربية التي برهنت إنها قائمة على (ورق)، وليس على أسس تاريخية/ منطقية، في مواجهة العنف، الإرهاب، والارتداد، بل في موجات التدمير وهي تقوض حتى أهم منجزات ومميزات وعلامات حقبة الريادة، وتطلعاتها لبناء مجتمعات تنتمي إلى العالم الحديث، وليس الانحدار إلى القرون المظلمة.
    إن فائق حسن ـ وليس وحده مسؤولا ً ـ عن وزر الشروع برسم الخيول!، بل كل من غذى منهجه للحفاظ على واقعية ليس عملها الحفر في أصولها، جذورها، مكوناتها، بل الاحتفال بسطوحها، وقشورها، تلبية تناسب ذائقة صنعتها ووفرتها ثروات، لم تهبط من السماء، بل خرجت من باطن الأرض، في هذه المرة، فالطبقة الوسطى، حتى تسعينيات القرن العشرين، كان لحضورها الأثر في وجود تقاليد ثقافية، اجتماعية، تعود أصولها إلى مراحل ما بعد الانسلاخ عن ظلمات عهد (الرجل المريض)، هي التي  احتفت بأنماط تناسب كيانها غير المنتج، إن لم يكن رثا ً، في تأويل معاني الحياة، ومستقبلها.
   فالثروات الهابطة من السماء (المطر)، هي التي شكلت الاقتصاد البشري، لحقبة لم تترك، للزراعة ـ الصناعة، وللموجة الثالثة، إلا ما يتوازن مع وجود (الدماغ) في قشرته العليا، فيما شكلت خلايا زمن الثدييات ـ المفترسات نسبة 99% من مكونات الدماغ البشري!
    ولأننا لا نريد مواصلة ارتكاب آثام الاحتفاء بمن لا يجيد رسم (البطة) ـ وقد ارتبطت سماتها بكل ما هو مستحدث/ ومبتكر ومروج له بعنايةـ فان (إثارة) جدل آن له أن يعلن،  مادامت موجة الخراب (العربي) لم تكتمل دورتها، ومادامت، في الوقت نفسه، تعمل على تدمير (المدمر)، من اليمن إلى العراق، ومن مصر إلى سورية، ومن لبنان إلى ليبيا ...الخ، فان إعادة قراءة مفهوم (الإنتاج) تعني، بالدرجة الأولى: المحاكاة أم الابتكار، الاستنساخ أم الاستحداث...؟
     ولأن إثارة هذا الإشكال، بحد ذاته، يتطلب مجلدات تتوخى العثور على جواب لسؤال: لماذا مكثت هذه البلدان، أما بانتظار ما يوفره لها المطر ـ أو ما توفره لها كنوز الأرض، رغم تفاوت الدرجات بين إقليم وآخر، فانا آمل أن نعثر على مداخل تتناول مفهوم المجتمعات (الورقية)، التي تتعرض للحرق، وهي في طريقها إلى التواري، والزوال، وأسباب وقوعها في فخاخ الأحاديات، بأشكالها السائدة، وهي تتراجع إلى القرون المظلمة، في محاولة للحد من تطورها، حتى نحو عصر: الكفاية، أي عصر: الزراعة، وليس عصر الصناعة، التي تأسست فيه حداثات أوربا، منذ القرن الخامس عشر؟
     ولأن أستاذا ً موهوبا ً، كفائق حسن، حدد أهداف عمله، وأتقنها، فقد نجح بخلق  أساليب تجاوزت شروط رسم (البطة)! فخيوله، وصقوره، ونساءه، فلاحيه،في اغلبها، لم تتخل عن مسعاه بالعثور على العناصر ذاتها لدى أساتذة الفن الكبار.! وقد لا يكون لعلامة (التعجب)، هنا، إلا ما تعنيه من مفارقة لفنان شرقي ـ في بلد خرج توا ً من ظلمات العصور الوسطى ـ ليرسم بمهارة ديلاكروا، أو بونار....، ولكن نماذجه المتقدمة ـ حتى لو كانت قليلة ـ بهويتها الايكولوجية، بعيدا ً عن العلامات، تسمح للمتلقي أن يستنشق غبار العراق، ودخانه، ففي هذه النماذج، وليس في الأعمال الفنية التي أنجزها لأسباب ـ غير فنية ـ كنا نراه مثالا ً للرائد، كالذي رأيناه في جواد سليم، وهو يخرج من تأثيرات عشرات الرسامين والنحاتين الأوربيين، كتأثيرات هنري مور، أو بيكاسو، أو بول كلي ..، مثلا ً..
    فما ـ هو ـ النقد الفني...؟ إن لم يكن يشخص (الظاهرة) ويرجعها إلى عوامل تكونها، من ثم، تحولها إلى نموذج أو قاعدة، ليؤشر الانحرافات وتحول الأوهام إلى حقائق؟
   حيث شكلت تجارب خيول فائق حسن جاذبية للمتلقي ـ كبضاعة نادرة في سوق ينتظر المزيد منها ـ فلم يتخل عن المضي في رسم المزيد منها، معتمدا ً، في الغالب، على الصور الفوتوغرافية، مادام المتلقي ـ حديث العهد بنعم الثروات المتدفقة من باطن الأرض ومن غير جهد يذكر ـ بانتظار المزيد منها؟
    في هذا المجال، تحول الأسلوب، من بحث، في ماهية الفن، ومعضلاته، إلى تطبيقات لنموذج تم اختباره: مهارة في التكوين، الأشكال، والألوان...، ومهارة في تحقيق الدهشة، إنما ليست دهشة الاكتشاف، بل دهشة الاحتفال/ الاستهلاك.
    وفائق حسن نفسه، كان على وعي بالخسران الذي كان يستنزفه، جراء تلبية طلبات لم تنقطع، حتى فقدت خيوله أصالتها! كما فقدت لوحاته الفنية مميزاتها...، فأدرك، في لحظة محاكمة لذاته، انه أسرف في هذا المنحى، وابتعد عن مشروعه الفني، الذي منحه ـ عن حق ـ شارة الريادة، فرسم لوحة مشهورة لحصان هزيل يتأمل جمجمة حصان، ضمن مناخ شبيه بنهاية معركة لم تترك سوى الخراب.






    لكن من صار يحاكي ـ يستنسخ/ يقلد ـ فائق حسن، حاول أن يتجاهل إن أستاذ الرسم، فائق حسن، كان إزاء عزل الأصالة عن تمويهاتها. فليس المهم إجادة رسم (البطة) ـ وإن كانت شرطا ً لكل رسام ولكل محترف ـ ولكن ماذا بعد  ذلك؟ ماذا بعد المضي في تلبيه طلبات ذائقة لا  تتمتع حتى بالحد الأدنى، ليس في الفن، بل من الحياة كحقيقة إنسانية قائمة على الإنتاج، وليس على الاستهلاك؟
     فامتلأت صالات المعارض، وأجنحة الفنادق، والعديد من جدران المؤسسات، بما يشبه الخيول، حتى صار المتلقي، لا يميز إن كانت بغالا ً، أو حميرا ً، أو ألعابا ً كارتونية، عدا إنها تستمد شيئا ً ما من خيول الشيخ، الذي رحل، ولم يترك لنا إلا علبة تحتوي على قليل من رماد جسده، أصبحت، هي الأخرى، غائبة، كالكثير من نصوصه الفنية المهربة بعيدا ً عن وطنها.
   والأمر لا يختلف كثيرا ً، إن لم يكن اشد خطورة، واعني به: التجريد. فالقليل من أكثر تجاربه (رداءة)، التي حاول فيها محاكاة أساليب شاخت في أوربا، وهرمت، معترفا ً لي بأنه، في هذه التجارب القلية، في ستينيات القرن الماضي، وسبعينياته، تلويصا ً!
     ولا أجد معنى مقاربا ً لهذه الكلمة، باللغة العربية، اقرب من: الخداع أو التمويه ...، ولأن فائق حسن كان يتمتع بأدق مميزات عصر (التحديث)، عصر الريادات في مجالها الزمني، وصولا ً إلى بناء الهوية الثقافية/ الاجتماعية/ والجمالية أيضا ً، المواكب لبرامج تنموية وتعليمية وصحية لم تصمد، بعد 1958، حتى سرعان ما تلاشت، ليتم استيراد (الماء) من دول تفتده، فضلا ً عن استيراد المواد الأساسية، بلا استثناء، والاعتماد على ما تستخرجه الأرض، بنسبة بلغت 99%، من الناتج الوطني! فان أستاذا ً كبيرا ً  كفائق حسن، ستتحول (هفواته) إلى تمويهات، تزييف، وخداع...، كانت حداثات أوربا قد تخطتها، في خمسينيات القرن الماضي، بينما نجدها قد تحولت عن رسامين لا يجيدون حتى التقليد الحرفي لصور الخيول الفوتوغرافية، فصارت تجاربهم، اقرب إلى مخلوقات خرافية، ورقية، ولا صلة لها حتى برسومات الحمير، التي كان أستاذ الرسم المصري، راغب عياد، قد أبدعها، في ثلاثينات القرن الماضي.
    فصار الخلط، والتمويه، لا يستند إلى من لا يعرف رسم (البطة)، بل للتباهي بأنه أستاذ كبير في معرفة أسرار ما (بعد الحداثة)، فراح يذهب بالتجريد إلى أقصاه، متجاهلا ً غفلة المتلقي ـ حديث العهد ـ بان هناك تجاربا ً فنية ترجع إلى فاتحة القرن العشرين،  مع موندريان، كاندنسكي، ميرو، كلي .. الخ ولرسامين آخرين، بذلوا جهدا ً (منتجا ً)  ومتطورا ً لمفاهيم الفن، وليس ما ينقشه الرسام الأعمى، عن لوحات عمياء!
    واليوم، عبر الخارطة العامة للتشكيل العربي، نجد من يلفت النظر للذين يستنسخون، الحافر على الحافر، في يسمى فنا ً حديثا ً، لسبب بسيط، يكمن في اتساع الفجوات، بين النخب الثقافية/ الفنية، والجمهور المنشغل أما بالبحث عن ملاذ امن له، في العالم، أو حماية مصيره من الموت جوعا ً، أو من القتل، بالذرائع التي قامت عليها محاكم التفتيش، في القرون المظلمة.
   ولا مناص من الاعتذار للحمير، الحقيقية، وليس للذين لا يميزون بينهما وبين الزرافات، والبغال، فلا بد من الاعتذار لهذا الكائن الوديع الصبور وهو يتأمل أفول مصيره، وانقراضه، أمام تقدم الحواسيب  العملاقة، ما بعد الذكية، ودورها في تحديد معاني الحياة، للمستقبل، إزاء المجهول، وهو لا يرى أثرا ً لهذه الفجيعة!، أكثر من بناء تصوّرات تموه الواقع بأساليب مازالت تجد رواجا ً، لكن، لا علاقة لها بملايين تفتقد إلى: الماء الصالح للاستخدام، والشرب، وأحيانا ً، لا تجد إلا الهواء الملوث، لتتنفسه!

تشكيل :حسني أبو المعالي وروح التحدي بين الكلمة واللون والنغمة- مؤيد داود البصام









 تشكيل
حسني أبو المعالي وروح التحدي بين
الكلمة واللون والنغمة



مؤيد داود البصام
        في جو العتمة، وبين حفريات المدن المغلقة على نفسها وعلى من فيها، يغدو كل شئ قابلا لان يتحرك نحو الانفجار، ويصبح الإنسان بركان يغلي، أما السؤال لماذا لم ينفجر؟ يقول عزيز عذاب، وهو ابن مدينة الفنان حسني أبو المعالي، ( لأننا كنا نغوص في الكتب ونخلق تجاربنا، ولا نخشى أن نسير عراة أمام أنفسنا والآخرين، لان التجربة مهولة حينما تنظر لها من أسفل ستجد أنك تقف تحت عشرة من صخور سيزيف)، فأي عالم هذا الذي يتحدث عنه (العذاب)، هذا الذي كرس نفسه في حب الحرية والعيش فيها من دون أن يلتفت للوراء، و يصرخ بأعلى صوته حينما تمس كلمة الحرية بخدش من قبل من لا يؤمن بها، أنه يروي لنا حياتهم في تلك الحقبة من ستينيات القرن الماضي ونحن نتجول في معرض الفنان الراحل حسني أبو المعالي في قاعة مدارات في منطقة الوزيرية في بغداد عن أيام الطفولة والشباب في مدينة كربلاء، المدينة التي تنام هادئة وتصح على لغط آلاف الناس كأنهم في يوم المحشر يزورون أضرحة الأئمة على مقربة أمتار من أسرة نوم أهلها، وحتى إذا ما خرج الصبية والشباب للنزهة، فهي مقرونة بمراقبة الآخر، لأنهم أبناء المدن المحرم عليهم الخروج عن العرف والتقاليد، فكيف إستطاع حسني أبو المعالي أن يتحمل ثوبه اللاصق على جسده، وهو يبحث عن متنفس الحرية. وكما كتب الفنان صاحب أحمد صديق طفولته ( وقتها لم نجد الفرصة للتواصل في مرسم الابتدائية لمخاوفنا من أبائنا خشية معرفتهم بانحراف اتجاهاتنا نحو شئ أسمه (فن).



التمرد خالق الإبداع
التمرد الأول: تلك اللحظات المشوبة بالخوف والرهبة والمغامرة، خاضها معظم أبناء المدن المحافظة على العادات والتقاليد المتزمتة، وتعيش ضمن تقاليد اجتماعية صارمة، تسحق الطموحات وتغدر بالآمال، وقد يكون بعضها زائفا ً كما فضحها نجيب محفوظ في تزمت سي السيد في ثلاثيته، إلا أنها تبقى ذاتُ فاعلية في حراكها الاجتماعي، ومدينة كربلاء من مدن الشرق والعراق التي تضم أضرحة الأئمة الذين يقدسهم ملايين المسلمين بادراك أو عفوية، تحمل في باطنها هذا التزمت الذي خلق في داخل أبنائها روح التمرد، وهو السبب الغير مرئي لانبثاق عشرات المبدعين في مدينة كربلاء أو في المدن الشبيهة، المدن المغلقة على نفسها ومنهم الفنان حسني أبو المعالي، عندما بدأ يخط ويخربش ويرسم ويصنع لعب من الطين، كانت تلك اللعب أول خطوات التمرد التي ستقوده لاكتشاف ذاته بين الرسم والنحت والشعر ثم الموسيقى، ولكن لان النسقين الرسم والنحت يحملان الكثير من المخاطر لبث الشجون الجوانية، فانه التجأ إلى الكلمة التي جاءت للتعبير عما لا يستطيع من الإتيان به خطا ً ولونا ً، فظهرت أولى قصائده، لتصرخ في وجه ذلك الكبت والحرمان الذي يضغط على كل مفاصل الإنسان ولا يملك قوة الخلاص، فهو محكوم بإرادة أقوى منه، ويرسم عبر الكلمات آهاته ولواعجه، وصورة الحبيب، أي حبيب ؟، الحبيب الذي يتخيله من وراء الحجب والممنوعات، فالمحروم يصور الأشياء بغير مقاسها الحقيقي لا اختلاط المرئي وغير المرئي لديه.
التمرد الثاني: إذا كان البيت والعائلة والمدرسة هما حمل الضغط الأول الذي ينوء تحت ثقله الإنسان المرهف الحساس ، ويعتقد واهما انه عندما يبلغ الحلم، سيملك حريته الذاتية، يكتشف وهمه عند أول اصطدام بعد تقاليد البيت والمدرسة المتزمتة، بتقاليد السلطة المدمرة، وهنا تتراكب لحظات الألم والقهر والكبت، إما بخلق النموذج المقهور الذي لا يملك وعيا ً يؤهله لتغيير واقعه، فيلجأ إلى لعبة التمرد ويصبح القاهر للآخرين، ( الاحتيال والغش والكذب والعنف والقتل والسلب والنهب وكل الأنساق التي تعشش بها المجتمعات المكبوتة)، وهو نتاج القهر الرأسمالي في بقاع الأرض شرقا ً وغربا ً، أو العكس تتفجر الإبداعات التي ترفض القهر والعبودية والظلم وكل أنواع القسوة، الإنسان الذي يبحث عن إنسانيته الضائعة بين محاور يفرضها الواقع لا دخل له فيها، فيظهر لنا رامبو وأمثاله في الغرب وحسين مردان وعبد الأمير الحصيري وجان دمو وأمثالهم في العراق وفي الشرق، ولكن هل أختار أبو المعالي طريق الصعلكة بشكل وآخر ليظهر خزينة ؟، هذا ما لا تشير لنا به الأدبيات التي خلفها أو التي كتبت عنه، لقد أختار طريق النضال من أجل الإنسان، المثقف الفاعل ليصطدم بالسلطة بأي شكل من إشكال طغيانها، ومع زبانيتها متمثلة بالحوشية من الانتهازية والمنتفعين الذين يلتفون حولها لتنفذ أوامرها، ويمارسون ساديتهم على الآخرين بمعرفة السلطة أو بعدم معرفتها بحجة أنهم جزء من السلطة وحماتها، وقد كان أحدهم في منطقتنا يحمل عبء حماية السلطة على ظهره، فيقرع أبوابنا ويلاحقنا ويرسم خطانا، لأجل عيون السلطة، ولكنني في يوما ما وكنت أسير برفقة الصديق الكاتب فاروق ناجي وإذا بهذا الشخص أمامنا فسأله فاروق وكان على معرفة به: ( هاي وين محد يشوفك ؟ فأجاب بانكسار: مو طردوني من الحزب، وأردف: إني صحيح ساكت لكن اكدر افضح كل إلي سمعته الناس والي ما سمعته.) فطيب فاروق خاطره وسرنا، وسألت فاروق متعجبا: يا أخي كان هذا أكثر من القيادة متفاني للحزب والثورة معقول؟ ضحك فاروق وقال: معود أمثاله بالعشرات يشتغلون لمصلحتهم مو لوطنهم ولا لحزبهم، آذى الناس والآن يتخفى منهم بعد من يحميه... من أمثال هؤلاء بالحوشية قابل حسني أبو المعالي أثناء وجوده في مدينته أو عندما التحق في كلية الفنون الجميلة في مدينة بغداد كان يومها تسمى، (أكاديمية الفنون الجميلة)، وعانى ما عانى على يد هؤلاء الساديين حتى توضح لديه أن الأفق الذي كان يحلم أن يراه بات ليس أزرقا وممكن أن ينفتح على ألسمائي، إنما آخذً بالاسوداد، لهذا قرر الرحيل، عندما لم يجدي الرسم ولا النحت ولا القصيدة ولا الموسيقى مبعثا ً للأمل، وبسط السكينة، في بلد ينتج من يقتل الجمال بأسماء عجيبة يخترعونها ليمارسوا ساديتهم وجهلهم وتخلفهم، كان الرحيل الطريق الذي اختاره لإيجاد الحرية التي يتوق لها.
 

اللون والموسيقى تحاكي عذابات الذات والغربة.
         امتلك أبو المعالي أنماط متعددة من الإبداعات الفنية والأدبية، وحاور من خلال هذه الكثافة الإبداعية الذات للخروج بها من الغربة  التي كانت تلف حياته وواقعه، وقد صاغ الاضاءات الجمالية التي اتسمت بها إعماله على صعيد الرسم الذي كان الأكثر انحيازا ً إليه بثقل كبير مع اتكاءه على الموسيقى والتلحين للتعبير عن تهدئة الثورة الداخلية التي كانت تشتعل بين آونة وأخرى فيحاول كبت التفجير بالغرق في التأمل والتخيل المجرد، وفي معرض كتابته عن تجربته الفنية يقول، " وجدت أن كلا ً من الموسيقى والتشكيل وجهان لعملة واحدة يتبادلان الأدوار معي بين رحلة فنية وأخرى، ومع هذا فأنا لا أحترف الموسيقى ولستُ سوى محبا ً وعاشقا ً لها، ولا ألحن إلا بريشة الرسام " ، لم تكن الموسيقى إلا الترياق الذي يحمله إلى عالم اللا مرئي، إلى عالم الخيال المجرد، أحلام اليقظة التي لا نحصل عليها إلا عندما تشحنا رؤية لشئ جميل أو صوت الموسيقى، هذه الروح التواقة للحرية كانت تستنزف أعماقها لإيجاد المنطلق الذي تحاول إن ترتوي منه بحثا ً عن الحرية المفقودة ، وهو ما دعاه لان يمارس الأنساق الثقافية جميعا للوصول إلى نبع المشاعر الإنسانية المتدفق في داخله، فماذا كتب، د.عباس الصراف في دلالة هذه التعددية الإبداعية ، " كان يشعر أن في داخله تجارب شعورية مكثفة ربما يعجز النحت الإفصاح عنها بقيم تعبيرية فائقة، ومن هنا زاوج بين النحت والرسم في دراسته، فاثبت قدرته على تكييف واقع الرسم وذلك بربط مكونات الأول مع تفاصيل الثاني شكلا ومضمونا." ، تحملنا هذه التعددية على النظر إلى أنه، كان يبحث عن طريق أكثر صدقا للتعبير عن ذاته ومكنوناتها التي شوشها الواقع المر، مبعث أول معاناة لديه، المعاناة الأولى لمعرفة القمع والاضطهاد من الآخر، إن ألرؤية التي كان من الممكن أن يمنحها النحت لإظهار قساوة الواقع ومحاولة التعبير عن المرارة في عدم تحقيق الحلم، كان يشوبها فقدان التعبيرية اللونية للإفصاح عن هذه الغربة الساحقة في الداخل، لهذا لجأ إلى اللون ليحاكي الألم الجواني وتجريد الواقع وإعطاء اللون المساحة الأكبر، في محاولة أن تكون الرؤية الجسر الذي يعبر من خلالها بحار الحلم الذي ينقله صوت الموسيقى إلى عالم خالي من الواقع الذي يعيشه مضطرا ً بكل فساوته، لون ازرق يمثل حلما ً ما زال يشرق في الذهن ولكنه يأخذ في العتمة تدرجا ً كلما توغل إلى داخله، ودائما هناك في مكان ما من اللوحة بصيص ضوء ينبثق من العتمة، ومن خلال لون الحلم الأزرق، أبواب غير متناسقة وجدران مضببة كلها باللون الأزرق ومن خلال هذه الأبواب الموصدة والمصدات التي تخلقها الجدران الصماء، هناك فتحة صغيرة لأحد الأبواب يظهر منها ضوء لا يسع لانفتاح الضوء للمرور، ومن خلف المصدات هناك نقطة ضوء جاءت من ضربة فرشاة وانتهت، أو شلال نور ضيق المساحة، كان يرسم حلمه ولكنه في وسط الحلم يتوه ويرحل في البحث عن ذاته، عن ضياع الحلم الذي أراد أن يكرس حياته له، فهل اغرق وقته لأجل إن ينسى؟ لهذا تحولت الألوان الزرقاء الفاتحة والسمائية بعد فترة إلى ألوان غامقة معتمة، وفي وسطها أو على الطرف منها في زاوية يظهر بصيص من ضربة فرشاة بالأبيض والأصفر، تلك هي اللحظات التي كان يريد أن يصل فيها إلى تطابق بين الذات والموضوع فلا يجد إلا السراب والعتمة والأبواب المغلقة، هذه المحنة في عشق كل شئ في الوطن و الأرض، ولكنها بعيدة عنه، فليس هذا هو الوطن الذي يحلم به ولا الأرض التي تنسم رائحتها وظن انه سيشيد حلمه عليها، عندما كان يهرب خائفا مذعورا لئلا يكتشفوا هو ورفاقه أنهم يمارسون العاب المحرمات، (الرسم والنحت)، وتلك هي اللحظة التي تحول فيها من السطح الذي يتيحه القماش أو الكتلة النحتية عندما وعى وأدرك، أن هناك لحظات لا يمكن القبض عليها، فيها ترحال إلى السمو والتعالي إلى لحظة تجريد ذهنية، لا يمكن بلوغها إلا بالمجرد التي تمنحنا اياها الموسيقى والشعر، هذا هو المؤشر الذي يدلنا عن عمق الغربة التي كانت تلفه، هو لا يرسم درابين وشوارع وحارات معينة، ليست مدينة كربلاء وحدها التي تجسدت في إعماله، كان يرسم صحاريه الجوانية شوارعه التي رآها والتي يحلم إن يراها، المدن المضببة والمدن غير المرئية عندما تكون الوحشة وقت الغروب على أشدها في التذكر والنسيان، حين تبدأ الحياة تسير نحو السكون والهجوع، ويأخذ ألتأمل مساحته وتنثال الذكريات، وهي الإشارة التي توصلنا إلى إعماله الأخيرة بعد أن تخلى عن التشخيص ليأخذ التجريد مساحة واسعة في لوحته، كان أبو المعالي يتجول في اشتغالاته  الإبداعية  ضمن البعد الذي آمن به، ألا وهو الصدق الذاتي، إذا ما نظرنا إلى أعماله، فهي لحظة فراق ووحشة تتمثل فيها الغربة موضوعا ً ولونا ً،  (خيل)، لوحدها تهيم في عالم مضبب ورجال تمتطي الخيول لا نرى إلا أشباح، يلفها السكون والوحشة، ترحال دائم وعدم استقرار، لا يمكن لشيء ينقل لنا هذه الغربة والوحشة مثل اللون الذي لجأ إليه أبو المعالي ليكتب إبعاد مأساته الوجودية ومرارة الواقع، تكتب سناء الموصلي عن هذا العالم الذي سيتأكد عند أغلب من كتب عنه، "تمتاز أعماله بتوالف وتناغم موسيقي بين الألوان المنثورة على اللوحة والتي تتمتع بأصوات ساحرة حيث ينتقل المتلقي إلى عالم ساحر "، هذا العالم السحري يفسره الناقد جاسم عاصي عبر فهمه لدخيلة أبو المعالي ورؤاه ، " فألوانه وخطوطه طيفية، لا تحدد عزلا ً عن مجمل تشكيلات موجودات اللوحة، بل هي نوع من المشتقات تفرضها حركة اللون، وميلها إلى الروحانية، التي تصل حد الرؤيا الصوفية. "، إن الإحساس الذاتي الذي لاحق أبو المعالي بغربته الذاتية عن مجمل الواقع الذي حاول إن يسترد بعضا ً منه في المملكة المغربية، عندما هاجر للعمل، ظل يلازمه لأنه كان مدركا ً أن هناك بعدا ً ليس من السهل غلقه مستمراً في حفرياته عند تخوم الذكريات، وفي اللوحة هنا تجرد الأشياء من دلالاتها الواقعية لتتحول إلى رؤيا خارج إطار الواقع، فيلجأ إلى اللون ليعبر عن هذا الجواني، وهو ما يتطلب الدربة والتجربة والممارسة، وهذه المعالم التي اشتغل عليها أبو المعالي، شخصها الفنان علي النجار حينما كتب ، " عالم الرسام الراحل حسني أبو المعالي عالم ألوان بالدرجة الأولى، ولكي نفهمه حق فهمه لا بد لك من أن تأتيه عبر بوابة اللون بالذات . " ، وهذه هي الدلالة التي تحدث عنها د. عباس الصراف، في تبنيه الرسم لأنه يمنحه الفضاء الواسع كما هي الموسيقى في بث المكبوت والخلاص مما يثقل عليه.


الرمزية  والتجريد في إعماله..
         إن الروح الموسيقية التي تتسم بها إعمال أبو المعالي تضفي هذا الطابع الرمزي على لوحته، فالألوان بشفافيتها وتدرجاتها اللونية مع استخدام اللون الأبيض، يوصل الخطاب الذي اشتغل عليه ، لينقلنا إلى مساحات من التخيل والطقوس الأسطورية، التي يؤكد فيها غربته، ويشكل للعين رؤية بالراحة والهدوء الذي يتيحه اللون الأزرق بعد رحلة التعب والإرهاق الذهني، وعندما تتحول  الإشكال إلى خطوط هندسية وألوان شفافة بانسيابية تعطيها هذا الجمال العذب، فيضحى الشكل المجرد أقرب إلى الواقعية منه إلى التجريد الخالص لأنه مستمد من الواقع ولكنه يأخذ طريقه نحو المعاصرة لاستعارة ما يحمله الداخل، في الإيهام وكسر الأطر الواقعية، التي تظل الأساس في اشتغالاته، وهو ما ينقله اشتغالاته بالكولاج، حيث تتضح الفكرة التي تنزع نحو الاختلاف  والتضاد موضوعا ً ولونا ً، فتأخذ مساحة أكبر في التجريد ويقترب فيها من لحظة الفرح والاندماج التي يتشارك فيها مع الآخر، ولكنه دائما ما ينكفئ على ذاته ليعيد اللون الغامق مع الألوان المفرحة.
         على الرغم من اشتغال أبو المعالي بالتجريد لكنه لم يتخلى عن واقعيته حتى في لوحاته المتشكلة بالكولاج، لأنه كان يؤمن أن الفنان عندما يخرج عن الواقع يسقط وينتهي، لكونه يفقد القاعدة التي يقف عليها ويسوق شيئا ً ليس له وجود و لا يمتلك المرتكزات ألأساسية التي تحدد مدى إمكانياته والروح التي عبر عنها، وهذا هو سر روعة أعمال الفنان الراحل حسني أبو المعالي، وعندما ننظر إلى إعمال بالكولاج نجد ملامح قوة الخط والكتلة التي تمثل بداياته الأولى في التشكيل كونه نحاتا قبل إن يكون رساما  ً.