قصة قصيرة
رائحة ما
عادل كامل
سمحت له نبضات قلبه باستدراك انه مازال قادرا ً على عزل رائحة الأعشاب عن القشور والأوراق، وعزل رائحة التراب عن رائحة الريش والصوف، وعزل الخشن منها عن الناعم، والجاف عن الرطب، وانه يمتلك قدرة ما للرؤية حتى بغياب أي مصدر من مصادر الإنارة، إن كانت من الشمس أو من المصابيح أو من القمر والنجوم. فعاد منشغلا ً بتتبع انتقالها من اليسار إلى قمة رأس، وهبوطها من الأعلى إلى الأسفل، بعد أن توقفت لثوان في الوسط، فلم يعد يجادل نفسه، أو يحاورها، إن كان القلب هو مصدر الديمومة أم الدماغ أم كلاهما باستحالة عزل أي عضو له عن موقعه في العمل...، فلكل واحد من هذه الأجزاء وظيفته في الكل. ووجدها فرصة للتندر....، للتندر على نفسه، في ظلام الحفرة، وقد شعر أن الجسد الآخر الملتصق به، هو الآخر، مازال يشع حرارة، وانه لم يصبح متجمدا ً، وانه مازال مصدرا ً لرائحة حفزته للاستنشاق بعمق رائحة الريش الجاف الممتزجة بقشور بذور وجذور عتيقة غطت تراب الحفرة، من الأسفل، ومن الجانبين، حتى لذّ له أن يستعيد قدرة المراقبة، والتوجس، وانه لم يعد كتلة رخوة غير قادرة على الحركة.....، فقرب جسده بحركة غير مقصودة من جسدها، ثم ابتعد بإحساس سمح له أن لا يكتم نية ما لمعاقبة نفسه، وجلدها، فعاد يتحسس ضربات قلبه تصطدم بجدار الحفرة المتصلب، مستنشقا ً رائحة ما كانت تنبثق من باطن الأرض، فهو يعرف أن الحفرة تقع في مكان منخفض، بجوار زريبة الثيران وحظائر الخيول وأجنحة الحيوانات المستوردة، وان هناك ممرات للمياه الآسنة تصب في المستنقع، فأغلق انفه أو بالأحرى حاول تنفس ما يكفي من الهواء كي يحافظ على بقائه حيا ً، متجنبا ً الروائح ذات المذاق المر، والرطب الشبيه بما ينبعث من جحور الفئران والجرذان المجاورة لحفرته. فكر بمتعة غامضة، لم يؤلها، ليس لأنه تجاوز العمر المسموح له، ليصبح معمرا ً، بل لأن ما صدر بحقه لا يستدعي مثل هذا العقاب، كي يبقى أسير محنة أفضت به للاعتزال داخل حفرته...، ثم ليكتشف إن شريكته، التي ظن إنها غابت، أو اختفت، مازالت مصدرا ً غامضا ً لا يسمح له بتجاهل ما حصل له، ولا تدعه يتجاهل مصيره، بوصفه يستحق هذا الشقاء، حد التنكيل. وكم ود لو لكزها أو عضها أو هرب من الحفرة....، إلا أن قرارا ً كهذا القرار طالما كان عصيا ً، فدفع بجسده نحو جدار الحفرة حتى كف عن تحسس أية حركة لنبضات القلب، فظن انه لن يعود للشعور بأنها مازالت تشاركه السكن في المكان ذاته، وقد ضاق بهما، حد استحالة مغادرته، بالأحرى لم يجادل إن كان لها حضور، فمنذ شاركته مصيره أدرك إن ما يشبه اللعنة قد حلت عليه، إنما تبدد ذلك بمرور الزمن، فلا يليق به ـ أو بأي ذي عقل أو أنياب أو مخالب ـ الايمان بأوهام لا تصمد طويلا ً إزاء الحقائق، فاعترف إن المعضلة رهن الأعراف وعادات الحديقة، ولكنه سرعان ما تراجع منكلا ً بضعفه، معترفا ً بالفارق الكبير بينهما، مما ضاعف الفجوة، وجعلها فراغا ً بلا حافات، فلا هو عرف كيف يرتقي بها للتفكير بدرجة أعلى ولا هو رضخ كي يداري مشاعرها، فأعلن موتها ـ في نفسه ـ مثلما أعلن موته، لها.
ووجد انه في متاهة، لولا انه شعر برائحة ندية، رطبة راحت تتسلل إليه، ملأته حتى ود لو قلب جسده، وتحرش بها، مستسلما ً لرغبة ظنها شبيهة بما تمارسه الديدان، بل وحتى الحشرات، من وضاعة غالبا ً ما تبدأ بالبحث عن أنثى، لتواجه بذكور متربصين، من ثم إلى الاشتباك، عادة ما ينتهي بهزيمة الأضعف، بعد النصر الذي يحققه الآخر. انه فعل الأمر نفسه، قبل عقود، وظفر بها، كي تنجب له العشرات، والمئات، والآلاف...، حتى صارت جدة لجدات أحفاده، ولكنها أبدا ً لم تؤيده ولم ترض عنه، ولم تشاركه أفكاره، ولا مشاريعه، ولا أحلامه، ببناء حياة مشتركة خالية من العداء، والتنكيل، وسفك الدماء.
عاد يستنشق الرائحة الممتزجة بصوت دقات القلب التي راحت ترتفع حتى حسبها صادرة عن آلة تعمل ذاتيا ً، أنسته انه قال ذات مرة: اغفر للحشرات، والبهائم، والأنعام، والكلاب، والديدان كافة ذنوبها، إلا ذنوب هذه ....، فحدجته مذعورة، وقالت إنها تترك الأمر للعلي القدير، ولا ترد عليه، لتوسخ ضميرها بترهات اللغو الفاسد، لكنها، منذ تلك اللحظة، لم تعد تشاركه حياته، ولا نظراته، ولا تراب الحفرة المشترك.
ثم بدا له قلبه يتوقف عن الحركة، فلم يعد يحس بانتقال الألم من الصدر إلى أعلى الرأس، ومن الأعلى إلى الوسط، كما أحس بها قبل لحظات، فقد شعر بفراغ بارد...، فدار بخلده انه ربما يكون فقد حياته، وانه لا يمتلك إلا صحوة للمراجعة الأخيرة، حصلت بسبب تتبع الألم، ثم الإصغاء إلى ضربات رتيبة، والانشغال برائحة كادت تحفزه إلى مغادرة الحفرة، والذهاب إلى مغارة لا تسكنها سوى أنثى كانت بانتظاره....، لكنه لم يفعل...، بل ترك أصابعه تتحرك منفردة من غير أوامر، تشارك انفه باستنشاق حرارة امتزجت بها رائحة جذور جافة، وقشور بذور مازال البعض منها طريا ً...، حتى وجد انه لا يستطيع أن يفعل شيئا ً محددا ً، إلا الابتعاد عنها، وعدم التحرش بها، وتجنب ملامسة جسدها...، إنما اعترف لنفسه انه لا يمكن أن يكون وحده على صواب...، كي يتخذ موقفا ً لا يسمح له بالتراجع، فالقضية لا تخص أحدا ً سواه هو....، داخل ظلام الحفرة، معترضا ً على نفسه بسؤال ...، ومن يعرف...؟ فلم يجب، فقد عاد يتحسس ضربات حادة تأتيه من نهاية أصابعه، سرعان ما انتقلت إلى الوسط...، مصغيا ً لقلبه يدق بإيقاع ثابت....، أحس بقوتها، حتى ظنها ستخلع قلبه وتجتثه من جذوره...، مما دفعه ليترك جسده يتراخى، بعد أن سمح لخواطره بالانحسار، وتركها تخمد. إلا أن ثمة حركة راحت توقد فيه رغبات هامدة لم تتركه يستسلم للرخاوة، والتجمد...؛ حركة مقصودة أم عفوية، إرادية أم شيطانية، تساءل، لينفي قيمة الإجابة وجدواها...، مادام وجد أن رغبة حارقة راحت تنتشر في جسده برمته، ولا تدعه يفكر بالأيام ذات المصير المجهول...، بل بحضور لا فائدة من الاعتراف بغيابه، ولا جدواه....، فأغلق فمه، تاركا ً الكلمات تذهب بعيدا ً عن فمه...، بل شعر إنها تلامسها، وإلا ما مغزى أن يستنشق أنفاسها ممتزجة بالرائحة ذاتها التي أسرته في لقائه الأول معها في الغابة....؛ شرد ذهنه، وأحس انه يستعيد طراوة فقدها، وان الالم انتشر وتسرب في مناطق لا تحصى من جسده، حتى اختفى....، عندما اخبرها بانه سينتظرها ـ فجرا ًـ عند البركة، فلبت الدعوة، والتقى بها، ومازال الظلام في أشده....، والهواء شديد البرودة، هي قالت إنها تسللت عبر الكثبان، والدغل، ولم تخبر أحدا ً بأمر اللقاء....، لأنها ـ سمعها تهمس ـ أصغت إلى الصوت الذي كان يناديها، فاعترف لها انه شعر بما لا يستطيع مقاومته، خاصة انه عاش محنة استحالة وقف التدهور، هنا وهناك، فلم تستمع إلى صوته، ولا إلى كلماته، فقد راحت تهرول فوق الرمل الندي، الناعم، المبلل بالماء، وثمة هواء بارد كان يتسلل من خلف الأشجار، ممتزجا ً بلون فضة الفجر، ويحّوم فوق الأمواج....، تحت شجرة السدر، وبجوار الممر الضيق، خلف جناح الماعز، والخراف، والجاموس....، هناك، تحت صخرة كبيرة، باح لها بأنه لا يجهل سر تولعه بها، وانشداده لها، حد الجنون، باستثناء المصادفة التي حصلت بما يؤكد وجود ما لا يحصى منها، كي تحصل، فقد اخبرها بشتى العلاقات الحاصلة في الحديقة، وفي باقي الحدائق، وبحسب الأنواع، من الطيور ذات الممارسات الأقل فحشا ً، إلى المخلوقات الأحادية، ذات الطهر، إلى الأكثر دنسا ً، وقسوة، مؤكدا ً لها انه وجد الوفاء ضربا ً من التهذيب يفضي إلى السكينة، والاستقامة، فهل كانت تدرك انه لم يعد منشغلا ً بجسدها، وحده، بل بالشراكة الخالصة في مواجهة المحن، والأقدار...؟
سمع أصوات دوي راحت ترج الحفرة، آتية من مناطق غير بعيدة...، رغم ان الليل لم يجتز بدايته، فلم تشغله طويلا ً فقد لمح في الظلام ثمة ومضات ناعمات مثل هالات راحت تتداخل، بعضها بالبعض الآخر، فكر إنها هي الحرارة، وقال ربما ان مصدرها إشعاعات صادرة عن الأرض...، أو إنها جزء من أجزاء الرائحة ذاتها التي استنشقها ـ عند الصخرة في ذات يوم قبل عقود ـ وهو يفقد الإحساس بجسده، معها، تماما ً. سمع قلبه يضرب في الوسط، يدق، وثمة وخزات حادة، وانه يوشك ان يختنق، فتنفس بقوة، تاركا ً جسده يتململ، ويتحرك بين الجدار وبينها. فانا لم أمت إذا ً...، دار بخلده، كأن الحياة تأبى ان تغادر، وتذهب ككل الذي نراه يتحول إلى هواء...، وغبار...، وفراغات. ولكنه لا يعرف لماذا تذكر انه قال لها ذات مرة: اغفر للبهائم والحشرات والصراصير والبرغوث وكل دابة تدب بأرجل ومن غير أرجل، وذات المخالب وذات الأنياب، وكل المفترسات والبرمائيات والفيروسات...، ذنوبها عدا....، فانا غير مسؤول عن الغفران! بصمت ابتسم ومن غير صوت سأل نفسه: ومن أنا ...، سوى كتلة ذرات، في هذه الحفرة، في هذه الحديقة، فوق هذه الأرض، في هذا الكون....، يعنيه أمري...؟ فقد تذكر انه لم يغادر ابعد من حصوله على قليل من العشب، والقشور، والجذور، غير مكترث بالبحث عن الاعشاب الطرية، ولا عن الجزر، ولا عن الاوراق الزاخرة بالمواد الغذائية ...، مكتفيا ً حتى بالاوراق المتساقطة، والدغل، كي يعود الى حفرته محملا ً بمشاعر حيادية تماما ً، في البدء كانت ثمة نوبات من الغضب تنتابه، بل وحتى طالما أحس بالتحدي، شغلته بعض الوقت، حتى فكر بالصراخ، والثأر، دفاعا ً عن الحقوق التي سلبت منه، أو الاتهامات الباطلة كيلت ضده، من اجل التشهير، إلا انه ـ مع مرور الوقت ـ لم يعد يفكر حتى بكلمة عتاب. مع ذلك كرر، وهو يصغي إلى ارتباك في وجيب القلب، ولوخزات كانت تتنقل عبر جسده، انه لا معنى لو غفر لها أو لم يغفر....، فهي ليست وحدها المفتاح، ولا هي القفل. فدار بخلده إنها محض مشاعر برمجت للتحكم بالسلوك، حتى الإشارات التي كانت تطمئنه، كانت تعمل وفق التراكم، وآليات النظام نفسه، الذي سمح له أن ينتظم بتجاهل المؤثرات...، على إن استنشاقه لرائحة الأوراق والجذور والريش سمحت له برؤية حزمة من الألوان تدرجت من الرمادي إلى الأحمر، ومن الأصفر التبني إلى البلوري المشع، ومن الوردي إلى الأزرق الغامق...، جعلته ينشغل بتأويل العلاقة ما بين الرائحة والإشارات، التي غدت متبادلة ما بينهما. فهل هذا ـ دار بباله ـ هو الغفران؟ أجاب بالامتناع عن البحث في قضية أصبحت من الماضي البعيد، فلقد كان عليه أن يهجرها، أو يدعها تهجره، عندما اتسعت الفجوة بينهما حد استحالة ردمها...، لكن لا هي، ولا هو...، أقدم على ذلك.
مد انفه درجة ملامستها والإصغاء إلى ضربات قلبها، فلم تعترض، لم تبتعد، ولكنها لم تقترب منه. لقد تذكر ما لا يحصى من المرات التي صدته، ونهرته؛ تارة بحجة انه لم يذهب للاستحمام في المستنقع، وتارة إنها متعبة، وتارة أخرى إنها منشغلة بأداء الفرائض، فلا يصح أن تدنس، وتختلط شطحات الشيطان وغوايته بطهر الرحمن، وفي الغالب لم يكن يلح عليها تاركا ً رغبته تتلاشى بهدوء، كأنها فائضة، وتخمد، فيخمد هو معها أيضا ً. سأغفر للجميع ....، مبتسما ً: ولها أيضا ً! ساخرا ً من قناعته الأخيرة، وعدم جديتها، حتى كانت صادرة عما يكنه لها من ولاء، وحب. فمن هو ـ دار بخلده ـ كي يتحكم بسلاسل محكمة لم يقدر حتى على فك واحدة منها، طوال عقود طويلة مضت كومضة ضوء في فراغ بلا حدود. فعاد يراها تهرول عند ضفة النهر تحت الأشجار...، فيهرول خلفها، يثب، ويقفز...، لتبلغ نهاية الممر وتتوقف عند صخرة كبيرة، فيحدق في محياها، وجها ً لوجه. لم يفتح فمه، كي ينطق، بل راح يراها تحدق في عينيه حتى اندمجت المسافة بينهما، وتلاشت.
مد أصابعه، بالأحرى تركها تمتد من غير قصد أو أمر، أو إرادة، لتلامس أعلى جسدها، مصغيا ً لقلبه يوشك أن يغادر صدره ....، أتراها كانت تسمع؟ خاف أن يلقى ردا ً أو تحذيرا ً يسحق آخر ما تبقى له من كبرياء....، لكن صوتا ً ما منها لم يصدر، فمكث يتحسس حركة ناعمة في جسدها سرعان ما وجدها مشجعة للاقتراب منها. لم يقترب...، كان يتابع حركة أصابعه اللاإرادية تستقر تحت رقبتها...، لم تعترض، فترك الأصابع تعمل بعيدا ً عن مشاعره المضطربة، بعد أن فقد قدرة السيطرة على ما سيحصل لو استجابت...، فقد ظن انه فارق الحياة، أو في الأقل، لم يعد على قيد الحياة.
فلمح الذرات اتخذت أشكالا ً دائرية، وأخرى حلزونية، وثالثة بدت له مثل حزم ضوئية....، ممتزجة بحرارة سمحت له بالحركة، فابتعد عن الجدار قليلا ً ليلامسها بالكامل....، لم تعترض، فدار بخلده إنها ـ هي الأخرى ـ لم تفارق الحياة، ولكنه أحس انه ـ هو الذي طالما اعترض على نظام القسوة والظلم والفساد ـ غير قادر على تلبية نداء ظن انه فقده، فالجرأة التي كادت تهلكه، تخلى عنها، مثلما لم يعد يعنيه ما كان يحدث...، من حوله. فكر إن الأمر ليس قدرا ً...، أو حكما ً نهائيا ً، فمادام القلب يعمل فقد يمتلك قدرة تساعده على تلبية نداء لا يعني كائنا ً آخر، في الحديقة، سواه. ليس لأن الأمر يجري بعيدا ً عن الأنظار، بل لأنه، في الحالات كلها، لن يغادر فضاء الحفرة. فماذا يعني ـ في الأخير ـ إن حاسبه ضميره أو لم يحاسبه، وفي قضية لا تستحق أن تأخذ مدى ابعد من علاقة بين شريكين، احدهما يختلف عن الآخر، درجة استحالة تحديد أيهما المذنب، وأيهما يستحق العقاب..؟ قال انه لم يعد ثمة ما يرتقي إلى المحاسبة، والحساب...، فمنذ عرفها، اخبرها انه ينوي إجراء تعديل... إصلاح، أو عدم ترك الأمور تجري كأنها غير قابلة للتعديل، أو الدحض...، فالغبن حد الجور لا يجدر أن يبدو من صنع الآلهة، ولا أبديا ً....، لم تعترض، في بادئ الأمر، حتى عندما تعرض ـ هو ـ للأذى، والتنكيل، إلا انه وجدها تحولت إلى القفل الذي لا مفتاح له. فقال للآخرين انه يغفر للأعداء كافة آذاهم له عدا استحالة أن يغفر لها ما أنزلته فيه من عمى! ضحك من سمعه، فقال انه عندما قرر أن تشاركه الحياة ظن انه وجد من يمشي معه في الدرب الموحش، القاحل، لا أن يفقده ما تبقى لديه من أمل، وإرادة. لكنها أفلحت أن تجعله يدرك إن الظلمات وحدها لا حدود لها، وان الشر هو وحده القادر على إنزال اشد الضربات بمن يعترض طريقه.
شعر إن أصابعه تلامس رائحة لها صدى مدوّن سرى عبر شرايينه، فثمة طراوة كثيرا ً ما افتقدها، أعادت لرأسه قدرة رؤية بلورات فضية راحت تتصاعد وتحيط بهما، حرارة بيضاء، سمحت له بالالتصاق بها، وإحاطتها بذراعية، مثل أسد لم يترك للبؤته الحركة، فتندر، فانا لست أسدا ً.....، لأنه تخيل الساعات الطوال التي كان يراقب فيها ما يجري خلف الأشجار...، وفي الأجنحة النائية، وما يحدث في الحظائر، والزرائب، وعند ضفاف المستنقع الكبير...، بل وما كانت تبثه شاشات الحديقة من فعاليات تلقي الضوء على أكثر العلاقات سرية، وخفاء ً. فشاهد ذات مرة زرافة أمضت وقتا ً طويلا ً بملاحقة أتان، وكلبا يغتصب قطة، وحشرة تقضم رأس الذكر، وتحافظ على جثته لغذائها بعد الوضع، شاهد عراك الذكور من اجل أنثى، لا ينتهي إلا بانتصار أكثرها شراسة، وقسوة....، فأحس بلزوجة ما سرى مذاقها الغريب كمذاق بذرة طرية لها رائحة أججت فيه حركة كان يظن انه فقدها، فمضغها، كأنه تناول حزمة عشب، ممتزجة بحرارة حادة، وتركها تدور داخل فمه، من غير أن يتفوه بكلمة. لم تعترض....، لأن أصابعه مكثت تصوّر له مشهدا ً آخر مضاء تحت سماء شديدة الزرقة، صافية، بجوار ضفاف النهر، بمحاذاة الأشجار...، وثمة هالات لها لون يبث عطرا ً وحدهما حد الصفر.
إنما شعر بالحفرة تتعرض للضربات...، فسمع صوت انفجار، أعقبه آخر، فوجدها فرصة للتوحد معها ابعد من درجة الصفر، وجد جسده يتلاشى بجسدها، يغور، وينصهر. ودوى انفجار آخر...، مستنشقا ً رائحة دخان، وعندما حاول الانفصال عنها وجد الأمر مستحيلا ً...، بانتظار ما سيحدث. فسمعها تهمس من غير صوت، فأحس انه وجد قواه استحالت إلى كيان آخر غير كيانه، فأدرك إن الحفرة لم تتهدم بعد عليهما، فقد لمح، من ثقبها، ومضات نجوم. فكر أن يمد رأسه ليرى ما حدث...، وهل وصلت المعارك كي تدور الاشتباكات، فوق الحفر والحزوز والشقوق...، أم إنها تمهيدات للحرب التي طال انتظار حصولها....، لكنها عادت وأخبرته أن لا يفعل، ولا يغامر برأسه، وبمصيره في هذا الليل، فوجد فمه يضيع منه، كما لم يجد الكلمات إلا وقد تحولت إلى حبيبات لها مذاق حرارة التراب...، مخلوطة ببقايا الجذور والقشور ...، فاستنشق عميقا ً أنفاسها...، ليجد إنها مازالت تهمس من غير صوت النداء الذي دفن فيه ذات يوم عند الفجر قبل قرون....، كان ذلك قبل الطوفان، وقبل تنبني القرى، والمدن، والمحميات....، نطق. فلم تجب. إنها لم تدع فمه طليقا ً، ولا جسده يبتعد عنها قيد أنملة. فود لو سألها هل هما على قيد الحياة، ومازالا في الحفرة، وفي جناح البهائم الأليفة؟ لأنه فكر أن يرى نتائج الدوى التي حصلت بالجوار، أو في مكان ليس بالبعيد:
ـ لا شأن لك ... بما يجري! كأنك لا تريد أن تتعض ولم تكوى بدروس الماضي!
فلم يجد ثمة ضرورة للرد أو الدخول في عراك خشية أن يتلقى منها كلمة تخرب عليه لحظات السكون. فقال مع نفسه انه طالما كانت المسافة بينهما لم تتسع لحوادث لا معنى لها، كالسؤال عن حرارة الجو، او المواقيت، او قضايا اخرى ثانوية، كاحداث الشغب، والفتن، والحرب، فاي خلاف سينشب بيتهما قد يفسد ما عليه نشوة لا يريد ان يراها تزول، وتتلاشى.
انخفضت درجة الحرارة حتى شعر ان لسعات البرد بدأت تعزل اعضاء بدنه بعضها عن البعض الاخر، برد حاد لاذع جمده تماما ً، فكاد يتضامن مه جسده، متغاضيا ً عما جعله متوهجا ً بنشوة ظن لا وجود لها، لثوان، لولا انه استبعد أن تكون البرودة قد بلغت درجة التجمد، درجة الصفر. فقد شغله سؤال أوقد فيه لذّة غامضة تذوقها فأحس بمراراتها اللدنة، اللزجة، هل كان يتخيل وجودها على هذا النحو الذي تركه يدحض قراراته السابقة، ويفندها، والشروع بصفحة عمر لا تزول بزوالها، أم أن وجوده ـ هو ـ محض ضباب لا وجود له بالمرة؟ أثارت العبارة قلقه بوصفه غدا حالة غير سوية، ما دام لم ير النور منذ زمن غير قصير، وان وجوده ليس إلا وجودا ً غائبا ً، وان ما لمسه، وأحسه، واستنشقه، وتذوقه، وتصوره، وما رآه ممتزجا ً بالموجات البلورية، الناعمة، ذات الحافات الرقية، لا يمكن أن يكون إلا وهما ً: محض انشغالات طالما أكدت رغبته بالتواري، وعدم مواجهة قضايا كادت تودي بحياته، وتذله إلى ما تحت الحضيض، كالتفكير ذاته، بوصفه حقا ً وليس هبة. ذلك لأنه تخيلها تمسك به من رأسه حتى أصابع قدميه، مثل كماشة، وتشده شدا ً قويا ً كما تفعل أفراس النهر، أو التماسيح، أو بعض النمل، حتى وجد كيانه برمته يتراخى ويستسلم لهدوء غريب، وكأنه تحول إلى طيف، أو نسمة هواء، ثم الاستمتاع بسكينة لم تصدع إلا ورأسه قد قضم بعّضة واحدة، بينما جسده مازال ملتصقا ً بها، حتى شعر أن الفجوة بينه وبينها قد تلاشت، زالت، إنما كاد يستنجد بحثا ً عن القليل من الهواء....، وليس لأمر آخر. فتبدد الكابوس عندما وجد أصابعه تتلمس أصابعها: كم كانت طرية، ناعمة، رقيقة مثل برعم يلامس بلورات الماء! وضغط عليها، لتشاركه الاشتباك، والتداخل، كأنهما في حفلة رقص، حتى لمح إنها تتابع خطاه، مثل أعمى يتشبث بأعمى، لدرجة انه ود لو تجمدت اللحظات، وانعدم الزمن، وفنيت الحركة، وفقدت وجودها. فلم يكن يتصوّر إنها كم كانت شفافة، رقيقة، ناعمة، نورانية، فاقت طراوة نسيم الفجر، وإنها كانت تخفي شفافيتها في مكان محصن، ليوم طال انتظاره، وها هي تبدو كما ود أن يراها: أكثر سلاسة، مثل ضوء يلامس قطرات الماء، وإنها خالية من الشوائب! إلا إنها كانت ـ قال لنفسه ـ لحظة وجيزة لم تدم أكثر من مسافة تلاشيها، فقد شعر ان مخالبها راحت تخترق لحم جسده وتغور فيه، وكاد يراها تمسك بالقلب، بل رآها أمسكت به، واقتلعته، كأنها تخلع سنا تالفا ً، وإنها راحت تحدق فيه بعنجهية المنتصر: يا قلبي...! ومضغته بشهية، ونشوة، ولذّة فائقة...، وابتلعته، فقد رأى قلبه تحول إلى كرة صغيرة من غير حافات، وقد اندمجت بجسدها، واختفت. فأفاق، مبللا ً، وثمة عرق بارد مازال ينز من رقبته، ومن وسطه، عرق لزج، حتى لم يعد يمتلك قدرة الحركة، فقد أحس إنها هي التي أوقعته في كمينها، واستدرجته إلى الحفرة، فانجذب لمكيدتها برضاه، مثل ضحية تدل الصياد عليها، برخاوة تامة. فما جدوى الاعتراض...، وما مغزاه...، وما فائدة استئناف قضية لا وجود لها، في نهاية المطاف؟
لم يجد كلمة مناسبة لينطق بها، لأنه عاد يتلمس نهايات جسده، فوجدها تحولت إلى سائل مذاب، مرن، شديد اللزوجة، ولا حافات له، ممتزجا ً بالتراب، والقش، وبقشور البذور وسيقانها المتصلبة. وعندما مد أصابعه كي تكون شاهدا ً على ما حدث ـ ومازال يراه يكمل لحظات شروعه ـ وجدها غائبة أيضا. فدار بباله ان الفجوة اتسعت حتى لم يعد لها وجود يذكر، لا هو باستطاعته ان يمتلك برهانا ً على وجودها، ولا هي منحته دليلا ً على انه مازال على قيد الحياة، فأحس بلذّة غامضة شبيهة بلحظة اختفاء الألم، فجأة، وانه راح يبحث عنها بعد ان عاد يتتبع سماع حشرجة أصوات ملأت فراغ الحفرة، بعد اختفاء جسده: لذّة توارت قبل ان يمسك بها، فلم يعد مكترثا ً للتفكير بالذي حصل إن كان وهما ً، أو انه لا يمتلك حتى هذه الدرجة، فقد راح يستنشق مرارة ذات ملمس جاف، مرارة الغبار، ممتزجة ً برائحة شواء أجساد وسيقان أشجار وعشب ومعادن أيضا ً...، حتى لمحها تتدفق من فتحة الحفرة، تارة، وتنز من مسامات الجدران والسقف تارة أخرى، أحسها حصلت قبل زمن بعيد، وما ان رآه يتجدد حتى أدرك انه لا يمتلك قدرة على دحض ما يحدث، أو إثباته.
إنما عاد يستنشق رائحتها، كأنها استجابت لنوايا حسبها سلبت منه، فراح يتلذذ بها كأنه لم يتذوقها من قبل، ولم يسبر أغوارها كما بلغت بذروتها الآن. إنما شعر انه بالغ بموت ضميره، أو انتفاء حضوره، واستبعاده عن سياق الحدث، ولا مبالاته بالانفجارات التي زلزلت الأرض، ورجتها، بعد انتصاف الليل...، لأن المرارة التي راح يتلذذ بها داخل فمه سرعان ما راحت تسري داخل جسده المتذبذب بين الغياب والحضور، حتى كادت تمنع الهواء عنه، لولا انه سألها هامسا ً ـ ومن غير صوت مسموع ـ ما إذا كان الخطر قد زال أم قد يتكرر، ويمتد، ويعصف بهم..؟ لم ترد لأنها جرجرت أصابعه ليحيط بها ثم دفعتها إلى الأسفل، فامتزجت برائحة الدخان والشواء وبروائح مختلطة أخرى كان لها اثر من لم يعد يرى شيئا ً محددا ً، بل من كف عن الرؤية تماما ً. ولكنه أحس انه يقف في أعلى قمة جبل، كأنه نجا من الغرق بأعجوبة...، ليرى المياه غمرت الحديقة، بأجنحتها، وزرائبها، وحظائرها، ومغاراتها، وغطتها تماما ً...، فتمتم مع نفسه من غير صوت، فقد حذرته أصابعه من الإسراف بالعودة لمعرفة ما حدث، ويحدث ...، لأن أصابعه طلبت منه ان يستنشق الهواء المشبع بومضات لها لون غبار الطلع، وعطر النرجس، وورود الياسمين، وما تبعثه رفيف أجنحة الطيور عند التزاوج.
فكاد يعترف لها بان القدر أحيانا ً يتعثر بمصادفات لا يقدر العقل على ضبط مساراتها، وحركاتها، ولكنه لوي فكرته وجعلها جزء من العثرة ذاتها التي يصعب تصوّر حدوثها إلا كي تكون مكملة للقدر نفسه. مبتسما بأسى عميق ولكنه غير ضار، لأنه وجد رأسه ملتصقا ً بها درجة انه لم يعد يفكر ان كانت الانفجاريات قد أوقعت أضرارا ً جسيمة أم إنها، كما في المرات السابقة، ليست أكثر من مناوشات وتمهيدات لأحداث ليس باستطاعته ان يحدس نتائجها.
ولم يكن باستطاعته ان يمتنع من مشاهده مشاهد أخرى كثيرا ً ما راقبها عن قرب، وأخرى عن بعد...، فها هو يشاهد أسدا ً يفترس أشباله، الواحد بعد الآخر، ثم يرى كيف استسلمت اللبؤة له وعادت تغازله. فنفي ان يكون ـ هو ـ فعلها، حتى لو لم يكن أسدا ً، بل محض واحد من القوارض، مازالت موروثات الزواحف تشتغل فيه، مثلما لم تكف دوافع الثدييات تعمل عملها أيضا ً، مع ان شريكته أنجبت له سلسلة من الأجيال والأجيال مهما تعرضت للإبادة فإنها لم تنقرض ولم ترسل إلى في رفوف المتاحف وتركن هناك، كما هو حال الديناصورات، وما كان يراه من متحجرات لا تحصى ولا تعد، ليدور بذهنه، انه لم يكن معنيا ً بالأمر كثيرا ً لولا انه لم يهرب أو يفر بحثا ً عن مأوى آخر، رغم إنها كانت تتركه شاردا ً يجهل ما الذي عليه ان يفعله.
مد أصابعه وتلمسها ليتأكد انه لا يخلط بين الأحلام التي يراها النائم، وبين أحلام اليقظة، ولا بين ما يظهره السراب عن الماء، أو ما تتركه التصورات من مسافات شاسعة عن مكوناتها، راغبا ً لو اعترف لها بأنه هو وحده الذي لا يستحق إلا أن يحاسب، وينال جزاءه، بدل ان يتصورها وحدها من كانت المذنبة، أو مفتاح الأغوار المظلمة، والخراب. لكنها لم تترك له فرصة الانشغال بصياغة عبارة أو بالنطق، فقد أحس انه لم يعد يمتلك قدرة الابتعاد عنها مساحة شعرة، رغم إحساسه بان المسافة بينهما غير قابلة للردم. لقد أحس انه راح يتنفس أنفاسها بنشوة مخدرة، وان جسده برمته توارى داخلها بعد أن ضاقت جدران الحفرة ومنعته من الحركة. لا يعرف لماذا شعر انه يحّوم داخل فراغ محصن، مثل جنين داخل رحم، لا يمتلك إلا رغبة سمحت له بالدوران، من غير حركة، داخله. ليرى ومضات لها أصداء همدت منذ زمن بعيد حتى كف عن التنفس، فلم يكترث إن كان انتقل من الحياة إلى الموت، ومن الحلم إلى التراب، أم العكس، لأنه وجدها مازالت لا تسمح له بذلك. فود لو اعترف لها بأنهما كلاهما يتحملان العثرات، وانه لا جدوى من تحديد أيهما المذنب وأيهما كان ملاكا ً. ذلك لأنه عاد يراها تهرول مسرعة فوق رمال ضفاف النهر ويتواريان تحت صخرة احدهما سد الطريق على الآخر. وانه عندما أفاق وجدها مازالت تحدق في عينية شاردة تماما ً، فترك فمه يمنعها من النطق، حتى أحس إنها بدأت تقاومه بحثا ً عن الهواء، فابتعد قليلا ً عنها، ليراها تزداد شرودا ً، لكنها كانت قد أمسكت به كأنه وقع في المصيدة، فراح يبحث عن الهواء، فلم تفتح فمها، ولم يفتح فمه، فقد كانت الجدران تتقلص، الأعلى يقترب من الأسفل، واليسار يقترب من اليمين، مستنشقا ً رائحة دخان حادة، امتزجت بغبار الحفرة، وعندما فكر لو طلب منها الخروج، أدرك إنها ستستجيب لأي طلب عدا المغادرة، والفرار. ذلك لأنه أدرك أيضا ً أن ما حصل، عمليا ً، لا يسمح لاتخاذ هذا القرار، ودار بخلده، انه مازال يتمتع بقدرة استرجاع اللحظات التي حسبها غابت، وتلاشت، مع زمنها البعيد...
ترك صمتها فيه سكينة لا يعرف كيف ـ ومتى ـ فقدها؛ سكينة غير قابلة للوصف، عدا أن الهواء البارد كان مشبعا ً بعبق عطر جعله يدرك انه ليس القدر وحده يعمل من غير عثرات، بل العثرات ذاتها لن تحصل من غير هذا القدر. فكر انه فقد السكينة عندما بلغت ذروتها، وتخطاها، وباتت محض تسوية توازي الخيانة، أو الانحدار، والتهتك. إنما راح يتتبع أصداء ومضات فأسرع كي يجد انه راح يدفع بالجدار من غير جدوى، غير مكترث إلا بالانتباه إلى وخزات اخذ يتتبع انتقالها، من عضو إلى آخر، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، ولم يجد ثمة ضرورة لإبداء الأسف، أو الندم، أو البوح لها بان ما حدث شبيه بالخلاف الذي قط لم يذهب ابعد من علله، لكنها لم تجب، فقال انه لم يكن بانتظار ردها ما دامت سمحت له باستنشاق رائحة ما تركها تختلط بالغبار، والدخان؛ رائحة لم تدع المسافة بينه وبينها تبلغ ذروتها، إلا وقد أيقن انه لم يعد يمتلك قدرة على استعادتها.
29/10/2015
Az4445363@gmail.com
رائحة ما
عادل كامل
سمحت له نبضات قلبه باستدراك انه مازال قادرا ً على عزل رائحة الأعشاب عن القشور والأوراق، وعزل رائحة التراب عن رائحة الريش والصوف، وعزل الخشن منها عن الناعم، والجاف عن الرطب، وانه يمتلك قدرة ما للرؤية حتى بغياب أي مصدر من مصادر الإنارة، إن كانت من الشمس أو من المصابيح أو من القمر والنجوم. فعاد منشغلا ً بتتبع انتقالها من اليسار إلى قمة رأس، وهبوطها من الأعلى إلى الأسفل، بعد أن توقفت لثوان في الوسط، فلم يعد يجادل نفسه، أو يحاورها، إن كان القلب هو مصدر الديمومة أم الدماغ أم كلاهما باستحالة عزل أي عضو له عن موقعه في العمل...، فلكل واحد من هذه الأجزاء وظيفته في الكل. ووجدها فرصة للتندر....، للتندر على نفسه، في ظلام الحفرة، وقد شعر أن الجسد الآخر الملتصق به، هو الآخر، مازال يشع حرارة، وانه لم يصبح متجمدا ً، وانه مازال مصدرا ً لرائحة حفزته للاستنشاق بعمق رائحة الريش الجاف الممتزجة بقشور بذور وجذور عتيقة غطت تراب الحفرة، من الأسفل، ومن الجانبين، حتى لذّ له أن يستعيد قدرة المراقبة، والتوجس، وانه لم يعد كتلة رخوة غير قادرة على الحركة.....، فقرب جسده بحركة غير مقصودة من جسدها، ثم ابتعد بإحساس سمح له أن لا يكتم نية ما لمعاقبة نفسه، وجلدها، فعاد يتحسس ضربات قلبه تصطدم بجدار الحفرة المتصلب، مستنشقا ً رائحة ما كانت تنبثق من باطن الأرض، فهو يعرف أن الحفرة تقع في مكان منخفض، بجوار زريبة الثيران وحظائر الخيول وأجنحة الحيوانات المستوردة، وان هناك ممرات للمياه الآسنة تصب في المستنقع، فأغلق انفه أو بالأحرى حاول تنفس ما يكفي من الهواء كي يحافظ على بقائه حيا ً، متجنبا ً الروائح ذات المذاق المر، والرطب الشبيه بما ينبعث من جحور الفئران والجرذان المجاورة لحفرته. فكر بمتعة غامضة، لم يؤلها، ليس لأنه تجاوز العمر المسموح له، ليصبح معمرا ً، بل لأن ما صدر بحقه لا يستدعي مثل هذا العقاب، كي يبقى أسير محنة أفضت به للاعتزال داخل حفرته...، ثم ليكتشف إن شريكته، التي ظن إنها غابت، أو اختفت، مازالت مصدرا ً غامضا ً لا يسمح له بتجاهل ما حصل له، ولا تدعه يتجاهل مصيره، بوصفه يستحق هذا الشقاء، حد التنكيل. وكم ود لو لكزها أو عضها أو هرب من الحفرة....، إلا أن قرارا ً كهذا القرار طالما كان عصيا ً، فدفع بجسده نحو جدار الحفرة حتى كف عن تحسس أية حركة لنبضات القلب، فظن انه لن يعود للشعور بأنها مازالت تشاركه السكن في المكان ذاته، وقد ضاق بهما، حد استحالة مغادرته، بالأحرى لم يجادل إن كان لها حضور، فمنذ شاركته مصيره أدرك إن ما يشبه اللعنة قد حلت عليه، إنما تبدد ذلك بمرور الزمن، فلا يليق به ـ أو بأي ذي عقل أو أنياب أو مخالب ـ الايمان بأوهام لا تصمد طويلا ً إزاء الحقائق، فاعترف إن المعضلة رهن الأعراف وعادات الحديقة، ولكنه سرعان ما تراجع منكلا ً بضعفه، معترفا ً بالفارق الكبير بينهما، مما ضاعف الفجوة، وجعلها فراغا ً بلا حافات، فلا هو عرف كيف يرتقي بها للتفكير بدرجة أعلى ولا هو رضخ كي يداري مشاعرها، فأعلن موتها ـ في نفسه ـ مثلما أعلن موته، لها.
ووجد انه في متاهة، لولا انه شعر برائحة ندية، رطبة راحت تتسلل إليه، ملأته حتى ود لو قلب جسده، وتحرش بها، مستسلما ً لرغبة ظنها شبيهة بما تمارسه الديدان، بل وحتى الحشرات، من وضاعة غالبا ً ما تبدأ بالبحث عن أنثى، لتواجه بذكور متربصين، من ثم إلى الاشتباك، عادة ما ينتهي بهزيمة الأضعف، بعد النصر الذي يحققه الآخر. انه فعل الأمر نفسه، قبل عقود، وظفر بها، كي تنجب له العشرات، والمئات، والآلاف...، حتى صارت جدة لجدات أحفاده، ولكنها أبدا ً لم تؤيده ولم ترض عنه، ولم تشاركه أفكاره، ولا مشاريعه، ولا أحلامه، ببناء حياة مشتركة خالية من العداء، والتنكيل، وسفك الدماء.
عاد يستنشق الرائحة الممتزجة بصوت دقات القلب التي راحت ترتفع حتى حسبها صادرة عن آلة تعمل ذاتيا ً، أنسته انه قال ذات مرة: اغفر للحشرات، والبهائم، والأنعام، والكلاب، والديدان كافة ذنوبها، إلا ذنوب هذه ....، فحدجته مذعورة، وقالت إنها تترك الأمر للعلي القدير، ولا ترد عليه، لتوسخ ضميرها بترهات اللغو الفاسد، لكنها، منذ تلك اللحظة، لم تعد تشاركه حياته، ولا نظراته، ولا تراب الحفرة المشترك.
ثم بدا له قلبه يتوقف عن الحركة، فلم يعد يحس بانتقال الألم من الصدر إلى أعلى الرأس، ومن الأعلى إلى الوسط، كما أحس بها قبل لحظات، فقد شعر بفراغ بارد...، فدار بخلده انه ربما يكون فقد حياته، وانه لا يمتلك إلا صحوة للمراجعة الأخيرة، حصلت بسبب تتبع الألم، ثم الإصغاء إلى ضربات رتيبة، والانشغال برائحة كادت تحفزه إلى مغادرة الحفرة، والذهاب إلى مغارة لا تسكنها سوى أنثى كانت بانتظاره....، لكنه لم يفعل...، بل ترك أصابعه تتحرك منفردة من غير أوامر، تشارك انفه باستنشاق حرارة امتزجت بها رائحة جذور جافة، وقشور بذور مازال البعض منها طريا ً...، حتى وجد انه لا يستطيع أن يفعل شيئا ً محددا ً، إلا الابتعاد عنها، وعدم التحرش بها، وتجنب ملامسة جسدها...، إنما اعترف لنفسه انه لا يمكن أن يكون وحده على صواب...، كي يتخذ موقفا ً لا يسمح له بالتراجع، فالقضية لا تخص أحدا ً سواه هو....، داخل ظلام الحفرة، معترضا ً على نفسه بسؤال ...، ومن يعرف...؟ فلم يجب، فقد عاد يتحسس ضربات حادة تأتيه من نهاية أصابعه، سرعان ما انتقلت إلى الوسط...، مصغيا ً لقلبه يدق بإيقاع ثابت....، أحس بقوتها، حتى ظنها ستخلع قلبه وتجتثه من جذوره...، مما دفعه ليترك جسده يتراخى، بعد أن سمح لخواطره بالانحسار، وتركها تخمد. إلا أن ثمة حركة راحت توقد فيه رغبات هامدة لم تتركه يستسلم للرخاوة، والتجمد...؛ حركة مقصودة أم عفوية، إرادية أم شيطانية، تساءل، لينفي قيمة الإجابة وجدواها...، مادام وجد أن رغبة حارقة راحت تنتشر في جسده برمته، ولا تدعه يفكر بالأيام ذات المصير المجهول...، بل بحضور لا فائدة من الاعتراف بغيابه، ولا جدواه....، فأغلق فمه، تاركا ً الكلمات تذهب بعيدا ً عن فمه...، بل شعر إنها تلامسها، وإلا ما مغزى أن يستنشق أنفاسها ممتزجة بالرائحة ذاتها التي أسرته في لقائه الأول معها في الغابة....؛ شرد ذهنه، وأحس انه يستعيد طراوة فقدها، وان الالم انتشر وتسرب في مناطق لا تحصى من جسده، حتى اختفى....، عندما اخبرها بانه سينتظرها ـ فجرا ًـ عند البركة، فلبت الدعوة، والتقى بها، ومازال الظلام في أشده....، والهواء شديد البرودة، هي قالت إنها تسللت عبر الكثبان، والدغل، ولم تخبر أحدا ً بأمر اللقاء....، لأنها ـ سمعها تهمس ـ أصغت إلى الصوت الذي كان يناديها، فاعترف لها انه شعر بما لا يستطيع مقاومته، خاصة انه عاش محنة استحالة وقف التدهور، هنا وهناك، فلم تستمع إلى صوته، ولا إلى كلماته، فقد راحت تهرول فوق الرمل الندي، الناعم، المبلل بالماء، وثمة هواء بارد كان يتسلل من خلف الأشجار، ممتزجا ً بلون فضة الفجر، ويحّوم فوق الأمواج....، تحت شجرة السدر، وبجوار الممر الضيق، خلف جناح الماعز، والخراف، والجاموس....، هناك، تحت صخرة كبيرة، باح لها بأنه لا يجهل سر تولعه بها، وانشداده لها، حد الجنون، باستثناء المصادفة التي حصلت بما يؤكد وجود ما لا يحصى منها، كي تحصل، فقد اخبرها بشتى العلاقات الحاصلة في الحديقة، وفي باقي الحدائق، وبحسب الأنواع، من الطيور ذات الممارسات الأقل فحشا ً، إلى المخلوقات الأحادية، ذات الطهر، إلى الأكثر دنسا ً، وقسوة، مؤكدا ً لها انه وجد الوفاء ضربا ً من التهذيب يفضي إلى السكينة، والاستقامة، فهل كانت تدرك انه لم يعد منشغلا ً بجسدها، وحده، بل بالشراكة الخالصة في مواجهة المحن، والأقدار...؟
سمع أصوات دوي راحت ترج الحفرة، آتية من مناطق غير بعيدة...، رغم ان الليل لم يجتز بدايته، فلم تشغله طويلا ً فقد لمح في الظلام ثمة ومضات ناعمات مثل هالات راحت تتداخل، بعضها بالبعض الآخر، فكر إنها هي الحرارة، وقال ربما ان مصدرها إشعاعات صادرة عن الأرض...، أو إنها جزء من أجزاء الرائحة ذاتها التي استنشقها ـ عند الصخرة في ذات يوم قبل عقود ـ وهو يفقد الإحساس بجسده، معها، تماما ً. سمع قلبه يضرب في الوسط، يدق، وثمة وخزات حادة، وانه يوشك ان يختنق، فتنفس بقوة، تاركا ً جسده يتململ، ويتحرك بين الجدار وبينها. فانا لم أمت إذا ً...، دار بخلده، كأن الحياة تأبى ان تغادر، وتذهب ككل الذي نراه يتحول إلى هواء...، وغبار...، وفراغات. ولكنه لا يعرف لماذا تذكر انه قال لها ذات مرة: اغفر للبهائم والحشرات والصراصير والبرغوث وكل دابة تدب بأرجل ومن غير أرجل، وذات المخالب وذات الأنياب، وكل المفترسات والبرمائيات والفيروسات...، ذنوبها عدا....، فانا غير مسؤول عن الغفران! بصمت ابتسم ومن غير صوت سأل نفسه: ومن أنا ...، سوى كتلة ذرات، في هذه الحفرة، في هذه الحديقة، فوق هذه الأرض، في هذا الكون....، يعنيه أمري...؟ فقد تذكر انه لم يغادر ابعد من حصوله على قليل من العشب، والقشور، والجذور، غير مكترث بالبحث عن الاعشاب الطرية، ولا عن الجزر، ولا عن الاوراق الزاخرة بالمواد الغذائية ...، مكتفيا ً حتى بالاوراق المتساقطة، والدغل، كي يعود الى حفرته محملا ً بمشاعر حيادية تماما ً، في البدء كانت ثمة نوبات من الغضب تنتابه، بل وحتى طالما أحس بالتحدي، شغلته بعض الوقت، حتى فكر بالصراخ، والثأر، دفاعا ً عن الحقوق التي سلبت منه، أو الاتهامات الباطلة كيلت ضده، من اجل التشهير، إلا انه ـ مع مرور الوقت ـ لم يعد يفكر حتى بكلمة عتاب. مع ذلك كرر، وهو يصغي إلى ارتباك في وجيب القلب، ولوخزات كانت تتنقل عبر جسده، انه لا معنى لو غفر لها أو لم يغفر....، فهي ليست وحدها المفتاح، ولا هي القفل. فدار بخلده إنها محض مشاعر برمجت للتحكم بالسلوك، حتى الإشارات التي كانت تطمئنه، كانت تعمل وفق التراكم، وآليات النظام نفسه، الذي سمح له أن ينتظم بتجاهل المؤثرات...، على إن استنشاقه لرائحة الأوراق والجذور والريش سمحت له برؤية حزمة من الألوان تدرجت من الرمادي إلى الأحمر، ومن الأصفر التبني إلى البلوري المشع، ومن الوردي إلى الأزرق الغامق...، جعلته ينشغل بتأويل العلاقة ما بين الرائحة والإشارات، التي غدت متبادلة ما بينهما. فهل هذا ـ دار بباله ـ هو الغفران؟ أجاب بالامتناع عن البحث في قضية أصبحت من الماضي البعيد، فلقد كان عليه أن يهجرها، أو يدعها تهجره، عندما اتسعت الفجوة بينهما حد استحالة ردمها...، لكن لا هي، ولا هو...، أقدم على ذلك.
مد انفه درجة ملامستها والإصغاء إلى ضربات قلبها، فلم تعترض، لم تبتعد، ولكنها لم تقترب منه. لقد تذكر ما لا يحصى من المرات التي صدته، ونهرته؛ تارة بحجة انه لم يذهب للاستحمام في المستنقع، وتارة إنها متعبة، وتارة أخرى إنها منشغلة بأداء الفرائض، فلا يصح أن تدنس، وتختلط شطحات الشيطان وغوايته بطهر الرحمن، وفي الغالب لم يكن يلح عليها تاركا ً رغبته تتلاشى بهدوء، كأنها فائضة، وتخمد، فيخمد هو معها أيضا ً. سأغفر للجميع ....، مبتسما ً: ولها أيضا ً! ساخرا ً من قناعته الأخيرة، وعدم جديتها، حتى كانت صادرة عما يكنه لها من ولاء، وحب. فمن هو ـ دار بخلده ـ كي يتحكم بسلاسل محكمة لم يقدر حتى على فك واحدة منها، طوال عقود طويلة مضت كومضة ضوء في فراغ بلا حدود. فعاد يراها تهرول عند ضفة النهر تحت الأشجار...، فيهرول خلفها، يثب، ويقفز...، لتبلغ نهاية الممر وتتوقف عند صخرة كبيرة، فيحدق في محياها، وجها ً لوجه. لم يفتح فمه، كي ينطق، بل راح يراها تحدق في عينيه حتى اندمجت المسافة بينهما، وتلاشت.
مد أصابعه، بالأحرى تركها تمتد من غير قصد أو أمر، أو إرادة، لتلامس أعلى جسدها، مصغيا ً لقلبه يوشك أن يغادر صدره ....، أتراها كانت تسمع؟ خاف أن يلقى ردا ً أو تحذيرا ً يسحق آخر ما تبقى له من كبرياء....، لكن صوتا ً ما منها لم يصدر، فمكث يتحسس حركة ناعمة في جسدها سرعان ما وجدها مشجعة للاقتراب منها. لم يقترب...، كان يتابع حركة أصابعه اللاإرادية تستقر تحت رقبتها...، لم تعترض، فترك الأصابع تعمل بعيدا ً عن مشاعره المضطربة، بعد أن فقد قدرة السيطرة على ما سيحصل لو استجابت...، فقد ظن انه فارق الحياة، أو في الأقل، لم يعد على قيد الحياة.
فلمح الذرات اتخذت أشكالا ً دائرية، وأخرى حلزونية، وثالثة بدت له مثل حزم ضوئية....، ممتزجة بحرارة سمحت له بالحركة، فابتعد عن الجدار قليلا ً ليلامسها بالكامل....، لم تعترض، فدار بخلده إنها ـ هي الأخرى ـ لم تفارق الحياة، ولكنه أحس انه ـ هو الذي طالما اعترض على نظام القسوة والظلم والفساد ـ غير قادر على تلبية نداء ظن انه فقده، فالجرأة التي كادت تهلكه، تخلى عنها، مثلما لم يعد يعنيه ما كان يحدث...، من حوله. فكر إن الأمر ليس قدرا ً...، أو حكما ً نهائيا ً، فمادام القلب يعمل فقد يمتلك قدرة تساعده على تلبية نداء لا يعني كائنا ً آخر، في الحديقة، سواه. ليس لأن الأمر يجري بعيدا ً عن الأنظار، بل لأنه، في الحالات كلها، لن يغادر فضاء الحفرة. فماذا يعني ـ في الأخير ـ إن حاسبه ضميره أو لم يحاسبه، وفي قضية لا تستحق أن تأخذ مدى ابعد من علاقة بين شريكين، احدهما يختلف عن الآخر، درجة استحالة تحديد أيهما المذنب، وأيهما يستحق العقاب..؟ قال انه لم يعد ثمة ما يرتقي إلى المحاسبة، والحساب...، فمنذ عرفها، اخبرها انه ينوي إجراء تعديل... إصلاح، أو عدم ترك الأمور تجري كأنها غير قابلة للتعديل، أو الدحض...، فالغبن حد الجور لا يجدر أن يبدو من صنع الآلهة، ولا أبديا ً....، لم تعترض، في بادئ الأمر، حتى عندما تعرض ـ هو ـ للأذى، والتنكيل، إلا انه وجدها تحولت إلى القفل الذي لا مفتاح له. فقال للآخرين انه يغفر للأعداء كافة آذاهم له عدا استحالة أن يغفر لها ما أنزلته فيه من عمى! ضحك من سمعه، فقال انه عندما قرر أن تشاركه الحياة ظن انه وجد من يمشي معه في الدرب الموحش، القاحل، لا أن يفقده ما تبقى لديه من أمل، وإرادة. لكنها أفلحت أن تجعله يدرك إن الظلمات وحدها لا حدود لها، وان الشر هو وحده القادر على إنزال اشد الضربات بمن يعترض طريقه.
شعر إن أصابعه تلامس رائحة لها صدى مدوّن سرى عبر شرايينه، فثمة طراوة كثيرا ً ما افتقدها، أعادت لرأسه قدرة رؤية بلورات فضية راحت تتصاعد وتحيط بهما، حرارة بيضاء، سمحت له بالالتصاق بها، وإحاطتها بذراعية، مثل أسد لم يترك للبؤته الحركة، فتندر، فانا لست أسدا ً.....، لأنه تخيل الساعات الطوال التي كان يراقب فيها ما يجري خلف الأشجار...، وفي الأجنحة النائية، وما يحدث في الحظائر، والزرائب، وعند ضفاف المستنقع الكبير...، بل وما كانت تبثه شاشات الحديقة من فعاليات تلقي الضوء على أكثر العلاقات سرية، وخفاء ً. فشاهد ذات مرة زرافة أمضت وقتا ً طويلا ً بملاحقة أتان، وكلبا يغتصب قطة، وحشرة تقضم رأس الذكر، وتحافظ على جثته لغذائها بعد الوضع، شاهد عراك الذكور من اجل أنثى، لا ينتهي إلا بانتصار أكثرها شراسة، وقسوة....، فأحس بلزوجة ما سرى مذاقها الغريب كمذاق بذرة طرية لها رائحة أججت فيه حركة كان يظن انه فقدها، فمضغها، كأنه تناول حزمة عشب، ممتزجة بحرارة حادة، وتركها تدور داخل فمه، من غير أن يتفوه بكلمة. لم تعترض....، لأن أصابعه مكثت تصوّر له مشهدا ً آخر مضاء تحت سماء شديدة الزرقة، صافية، بجوار ضفاف النهر، بمحاذاة الأشجار...، وثمة هالات لها لون يبث عطرا ً وحدهما حد الصفر.
إنما شعر بالحفرة تتعرض للضربات...، فسمع صوت انفجار، أعقبه آخر، فوجدها فرصة للتوحد معها ابعد من درجة الصفر، وجد جسده يتلاشى بجسدها، يغور، وينصهر. ودوى انفجار آخر...، مستنشقا ً رائحة دخان، وعندما حاول الانفصال عنها وجد الأمر مستحيلا ً...، بانتظار ما سيحدث. فسمعها تهمس من غير صوت، فأحس انه وجد قواه استحالت إلى كيان آخر غير كيانه، فأدرك إن الحفرة لم تتهدم بعد عليهما، فقد لمح، من ثقبها، ومضات نجوم. فكر أن يمد رأسه ليرى ما حدث...، وهل وصلت المعارك كي تدور الاشتباكات، فوق الحفر والحزوز والشقوق...، أم إنها تمهيدات للحرب التي طال انتظار حصولها....، لكنها عادت وأخبرته أن لا يفعل، ولا يغامر برأسه، وبمصيره في هذا الليل، فوجد فمه يضيع منه، كما لم يجد الكلمات إلا وقد تحولت إلى حبيبات لها مذاق حرارة التراب...، مخلوطة ببقايا الجذور والقشور ...، فاستنشق عميقا ً أنفاسها...، ليجد إنها مازالت تهمس من غير صوت النداء الذي دفن فيه ذات يوم عند الفجر قبل قرون....، كان ذلك قبل الطوفان، وقبل تنبني القرى، والمدن، والمحميات....، نطق. فلم تجب. إنها لم تدع فمه طليقا ً، ولا جسده يبتعد عنها قيد أنملة. فود لو سألها هل هما على قيد الحياة، ومازالا في الحفرة، وفي جناح البهائم الأليفة؟ لأنه فكر أن يرى نتائج الدوى التي حصلت بالجوار، أو في مكان ليس بالبعيد:
ـ لا شأن لك ... بما يجري! كأنك لا تريد أن تتعض ولم تكوى بدروس الماضي!
فلم يجد ثمة ضرورة للرد أو الدخول في عراك خشية أن يتلقى منها كلمة تخرب عليه لحظات السكون. فقال مع نفسه انه طالما كانت المسافة بينهما لم تتسع لحوادث لا معنى لها، كالسؤال عن حرارة الجو، او المواقيت، او قضايا اخرى ثانوية، كاحداث الشغب، والفتن، والحرب، فاي خلاف سينشب بيتهما قد يفسد ما عليه نشوة لا يريد ان يراها تزول، وتتلاشى.
انخفضت درجة الحرارة حتى شعر ان لسعات البرد بدأت تعزل اعضاء بدنه بعضها عن البعض الاخر، برد حاد لاذع جمده تماما ً، فكاد يتضامن مه جسده، متغاضيا ً عما جعله متوهجا ً بنشوة ظن لا وجود لها، لثوان، لولا انه استبعد أن تكون البرودة قد بلغت درجة التجمد، درجة الصفر. فقد شغله سؤال أوقد فيه لذّة غامضة تذوقها فأحس بمراراتها اللدنة، اللزجة، هل كان يتخيل وجودها على هذا النحو الذي تركه يدحض قراراته السابقة، ويفندها، والشروع بصفحة عمر لا تزول بزوالها، أم أن وجوده ـ هو ـ محض ضباب لا وجود له بالمرة؟ أثارت العبارة قلقه بوصفه غدا حالة غير سوية، ما دام لم ير النور منذ زمن غير قصير، وان وجوده ليس إلا وجودا ً غائبا ً، وان ما لمسه، وأحسه، واستنشقه، وتذوقه، وتصوره، وما رآه ممتزجا ً بالموجات البلورية، الناعمة، ذات الحافات الرقية، لا يمكن أن يكون إلا وهما ً: محض انشغالات طالما أكدت رغبته بالتواري، وعدم مواجهة قضايا كادت تودي بحياته، وتذله إلى ما تحت الحضيض، كالتفكير ذاته، بوصفه حقا ً وليس هبة. ذلك لأنه تخيلها تمسك به من رأسه حتى أصابع قدميه، مثل كماشة، وتشده شدا ً قويا ً كما تفعل أفراس النهر، أو التماسيح، أو بعض النمل، حتى وجد كيانه برمته يتراخى ويستسلم لهدوء غريب، وكأنه تحول إلى طيف، أو نسمة هواء، ثم الاستمتاع بسكينة لم تصدع إلا ورأسه قد قضم بعّضة واحدة، بينما جسده مازال ملتصقا ً بها، حتى شعر أن الفجوة بينه وبينها قد تلاشت، زالت، إنما كاد يستنجد بحثا ً عن القليل من الهواء....، وليس لأمر آخر. فتبدد الكابوس عندما وجد أصابعه تتلمس أصابعها: كم كانت طرية، ناعمة، رقيقة مثل برعم يلامس بلورات الماء! وضغط عليها، لتشاركه الاشتباك، والتداخل، كأنهما في حفلة رقص، حتى لمح إنها تتابع خطاه، مثل أعمى يتشبث بأعمى، لدرجة انه ود لو تجمدت اللحظات، وانعدم الزمن، وفنيت الحركة، وفقدت وجودها. فلم يكن يتصوّر إنها كم كانت شفافة، رقيقة، ناعمة، نورانية، فاقت طراوة نسيم الفجر، وإنها كانت تخفي شفافيتها في مكان محصن، ليوم طال انتظاره، وها هي تبدو كما ود أن يراها: أكثر سلاسة، مثل ضوء يلامس قطرات الماء، وإنها خالية من الشوائب! إلا إنها كانت ـ قال لنفسه ـ لحظة وجيزة لم تدم أكثر من مسافة تلاشيها، فقد شعر ان مخالبها راحت تخترق لحم جسده وتغور فيه، وكاد يراها تمسك بالقلب، بل رآها أمسكت به، واقتلعته، كأنها تخلع سنا تالفا ً، وإنها راحت تحدق فيه بعنجهية المنتصر: يا قلبي...! ومضغته بشهية، ونشوة، ولذّة فائقة...، وابتلعته، فقد رأى قلبه تحول إلى كرة صغيرة من غير حافات، وقد اندمجت بجسدها، واختفت. فأفاق، مبللا ً، وثمة عرق بارد مازال ينز من رقبته، ومن وسطه، عرق لزج، حتى لم يعد يمتلك قدرة الحركة، فقد أحس إنها هي التي أوقعته في كمينها، واستدرجته إلى الحفرة، فانجذب لمكيدتها برضاه، مثل ضحية تدل الصياد عليها، برخاوة تامة. فما جدوى الاعتراض...، وما مغزاه...، وما فائدة استئناف قضية لا وجود لها، في نهاية المطاف؟
لم يجد كلمة مناسبة لينطق بها، لأنه عاد يتلمس نهايات جسده، فوجدها تحولت إلى سائل مذاب، مرن، شديد اللزوجة، ولا حافات له، ممتزجا ً بالتراب، والقش، وبقشور البذور وسيقانها المتصلبة. وعندما مد أصابعه كي تكون شاهدا ً على ما حدث ـ ومازال يراه يكمل لحظات شروعه ـ وجدها غائبة أيضا. فدار بباله ان الفجوة اتسعت حتى لم يعد لها وجود يذكر، لا هو باستطاعته ان يمتلك برهانا ً على وجودها، ولا هي منحته دليلا ً على انه مازال على قيد الحياة، فأحس بلذّة غامضة شبيهة بلحظة اختفاء الألم، فجأة، وانه راح يبحث عنها بعد ان عاد يتتبع سماع حشرجة أصوات ملأت فراغ الحفرة، بعد اختفاء جسده: لذّة توارت قبل ان يمسك بها، فلم يعد مكترثا ً للتفكير بالذي حصل إن كان وهما ً، أو انه لا يمتلك حتى هذه الدرجة، فقد راح يستنشق مرارة ذات ملمس جاف، مرارة الغبار، ممتزجة ً برائحة شواء أجساد وسيقان أشجار وعشب ومعادن أيضا ً...، حتى لمحها تتدفق من فتحة الحفرة، تارة، وتنز من مسامات الجدران والسقف تارة أخرى، أحسها حصلت قبل زمن بعيد، وما ان رآه يتجدد حتى أدرك انه لا يمتلك قدرة على دحض ما يحدث، أو إثباته.
إنما عاد يستنشق رائحتها، كأنها استجابت لنوايا حسبها سلبت منه، فراح يتلذذ بها كأنه لم يتذوقها من قبل، ولم يسبر أغوارها كما بلغت بذروتها الآن. إنما شعر انه بالغ بموت ضميره، أو انتفاء حضوره، واستبعاده عن سياق الحدث، ولا مبالاته بالانفجارات التي زلزلت الأرض، ورجتها، بعد انتصاف الليل...، لأن المرارة التي راح يتلذذ بها داخل فمه سرعان ما راحت تسري داخل جسده المتذبذب بين الغياب والحضور، حتى كادت تمنع الهواء عنه، لولا انه سألها هامسا ً ـ ومن غير صوت مسموع ـ ما إذا كان الخطر قد زال أم قد يتكرر، ويمتد، ويعصف بهم..؟ لم ترد لأنها جرجرت أصابعه ليحيط بها ثم دفعتها إلى الأسفل، فامتزجت برائحة الدخان والشواء وبروائح مختلطة أخرى كان لها اثر من لم يعد يرى شيئا ً محددا ً، بل من كف عن الرؤية تماما ً. ولكنه أحس انه يقف في أعلى قمة جبل، كأنه نجا من الغرق بأعجوبة...، ليرى المياه غمرت الحديقة، بأجنحتها، وزرائبها، وحظائرها، ومغاراتها، وغطتها تماما ً...، فتمتم مع نفسه من غير صوت، فقد حذرته أصابعه من الإسراف بالعودة لمعرفة ما حدث، ويحدث ...، لأن أصابعه طلبت منه ان يستنشق الهواء المشبع بومضات لها لون غبار الطلع، وعطر النرجس، وورود الياسمين، وما تبعثه رفيف أجنحة الطيور عند التزاوج.
فكاد يعترف لها بان القدر أحيانا ً يتعثر بمصادفات لا يقدر العقل على ضبط مساراتها، وحركاتها، ولكنه لوي فكرته وجعلها جزء من العثرة ذاتها التي يصعب تصوّر حدوثها إلا كي تكون مكملة للقدر نفسه. مبتسما بأسى عميق ولكنه غير ضار، لأنه وجد رأسه ملتصقا ً بها درجة انه لم يعد يفكر ان كانت الانفجاريات قد أوقعت أضرارا ً جسيمة أم إنها، كما في المرات السابقة، ليست أكثر من مناوشات وتمهيدات لأحداث ليس باستطاعته ان يحدس نتائجها.
ولم يكن باستطاعته ان يمتنع من مشاهده مشاهد أخرى كثيرا ً ما راقبها عن قرب، وأخرى عن بعد...، فها هو يشاهد أسدا ً يفترس أشباله، الواحد بعد الآخر، ثم يرى كيف استسلمت اللبؤة له وعادت تغازله. فنفي ان يكون ـ هو ـ فعلها، حتى لو لم يكن أسدا ً، بل محض واحد من القوارض، مازالت موروثات الزواحف تشتغل فيه، مثلما لم تكف دوافع الثدييات تعمل عملها أيضا ً، مع ان شريكته أنجبت له سلسلة من الأجيال والأجيال مهما تعرضت للإبادة فإنها لم تنقرض ولم ترسل إلى في رفوف المتاحف وتركن هناك، كما هو حال الديناصورات، وما كان يراه من متحجرات لا تحصى ولا تعد، ليدور بذهنه، انه لم يكن معنيا ً بالأمر كثيرا ً لولا انه لم يهرب أو يفر بحثا ً عن مأوى آخر، رغم إنها كانت تتركه شاردا ً يجهل ما الذي عليه ان يفعله.
مد أصابعه وتلمسها ليتأكد انه لا يخلط بين الأحلام التي يراها النائم، وبين أحلام اليقظة، ولا بين ما يظهره السراب عن الماء، أو ما تتركه التصورات من مسافات شاسعة عن مكوناتها، راغبا ً لو اعترف لها بأنه هو وحده الذي لا يستحق إلا أن يحاسب، وينال جزاءه، بدل ان يتصورها وحدها من كانت المذنبة، أو مفتاح الأغوار المظلمة، والخراب. لكنها لم تترك له فرصة الانشغال بصياغة عبارة أو بالنطق، فقد أحس انه لم يعد يمتلك قدرة الابتعاد عنها مساحة شعرة، رغم إحساسه بان المسافة بينهما غير قابلة للردم. لقد أحس انه راح يتنفس أنفاسها بنشوة مخدرة، وان جسده برمته توارى داخلها بعد أن ضاقت جدران الحفرة ومنعته من الحركة. لا يعرف لماذا شعر انه يحّوم داخل فراغ محصن، مثل جنين داخل رحم، لا يمتلك إلا رغبة سمحت له بالدوران، من غير حركة، داخله. ليرى ومضات لها أصداء همدت منذ زمن بعيد حتى كف عن التنفس، فلم يكترث إن كان انتقل من الحياة إلى الموت، ومن الحلم إلى التراب، أم العكس، لأنه وجدها مازالت لا تسمح له بذلك. فود لو اعترف لها بأنهما كلاهما يتحملان العثرات، وانه لا جدوى من تحديد أيهما المذنب وأيهما كان ملاكا ً. ذلك لأنه عاد يراها تهرول مسرعة فوق رمال ضفاف النهر ويتواريان تحت صخرة احدهما سد الطريق على الآخر. وانه عندما أفاق وجدها مازالت تحدق في عينية شاردة تماما ً، فترك فمه يمنعها من النطق، حتى أحس إنها بدأت تقاومه بحثا ً عن الهواء، فابتعد قليلا ً عنها، ليراها تزداد شرودا ً، لكنها كانت قد أمسكت به كأنه وقع في المصيدة، فراح يبحث عن الهواء، فلم تفتح فمها، ولم يفتح فمه، فقد كانت الجدران تتقلص، الأعلى يقترب من الأسفل، واليسار يقترب من اليمين، مستنشقا ً رائحة دخان حادة، امتزجت بغبار الحفرة، وعندما فكر لو طلب منها الخروج، أدرك إنها ستستجيب لأي طلب عدا المغادرة، والفرار. ذلك لأنه أدرك أيضا ً أن ما حصل، عمليا ً، لا يسمح لاتخاذ هذا القرار، ودار بخلده، انه مازال يتمتع بقدرة استرجاع اللحظات التي حسبها غابت، وتلاشت، مع زمنها البعيد...
ترك صمتها فيه سكينة لا يعرف كيف ـ ومتى ـ فقدها؛ سكينة غير قابلة للوصف، عدا أن الهواء البارد كان مشبعا ً بعبق عطر جعله يدرك انه ليس القدر وحده يعمل من غير عثرات، بل العثرات ذاتها لن تحصل من غير هذا القدر. فكر انه فقد السكينة عندما بلغت ذروتها، وتخطاها، وباتت محض تسوية توازي الخيانة، أو الانحدار، والتهتك. إنما راح يتتبع أصداء ومضات فأسرع كي يجد انه راح يدفع بالجدار من غير جدوى، غير مكترث إلا بالانتباه إلى وخزات اخذ يتتبع انتقالها، من عضو إلى آخر، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، ولم يجد ثمة ضرورة لإبداء الأسف، أو الندم، أو البوح لها بان ما حدث شبيه بالخلاف الذي قط لم يذهب ابعد من علله، لكنها لم تجب، فقال انه لم يكن بانتظار ردها ما دامت سمحت له باستنشاق رائحة ما تركها تختلط بالغبار، والدخان؛ رائحة لم تدع المسافة بينه وبينها تبلغ ذروتها، إلا وقد أيقن انه لم يعد يمتلك قدرة على استعادتها.
29/10/2015
Az4445363@gmail.com