تشكيل
رسومات للفنان إسماعيل فتاح
تخطيطات تبوح بكتمانها
عادل كامل
ما الذي أراد الفنان إسماعيل فتاح ـ في هذه التخطيطات، المنفذة بعفوية ـ أن يبوح به...، بالأحرى ما الذي استحال عليه كتمانه، إن لم اقل: ما الذي كتمه...؟
ها أنا أدوّن بالعوامل ذاتها التي سمحت للفنان بالتعبير عما كان يختلج في أعماقه، وما كان يعانيه...، ليس كذات حسب، بل لتاريخ تمتد ظلماته إلى قرون بعيدة...، أعود أدوّن لشعوري بان النهايات لم تعد محكومة بمقدماتها، بل بما تذهب ابعد من ذلك!
فلغز (العمل) ـ أو الحرية بوصفها تنمية ، أو الزمن الذي يستحق أن لا يكون فائضا ً وضائعا ً ـ لم تعد معالجته بالكلمات تناسب الزمن الذي مازال يعمل بعناد على هدم كل ما كان بحكم الخراب ـ والأثر...، هذا إذا كان (الفن) باستطاعته أن يدخل في نظام العمل ـ الإنتاج ـ وليس أن يكون جزءا ً من الاستهلاك، والاندثار...، فببساطة، ومنذ ألف عام، لم نعد نمتلك براعة اختراع واحدة تقارن بأكثر من ألف براعة اختراع أنجزتها عالم واحد عظيم مثل ادسون!، ذلك لأن العمل، أي عمل يتوخى الإضافة والتحرر من آليات الاقتصاد البري ـ البدائي، يعد فرية، بدعة، تهمة، شبهة، ليصبح: ذنبا ً أو إثما ً لا يفلت من العقاب.
ولأن ثمة دينامية طالما صاغت من إسماعيل فتاح قوة متدفقة، فانه، حتى في لحظات الاستمتاع، أو الاسترخاء، والاستراحة ، أن يفكر بتخطي حدوده، وان لا يدع الزمن يأخذ طريقه إلى الأفول، والغياب.
كانت ثيمة (الموت ـ الحب) ترجع إلى زمن أقدم، من زمن تنفيذ هذه التخطيطات 1985، ولكنها لم تتبلور لديه، بإرباكاتها، وجدليتها، وبملغزاتها، إلا عندما اشتدت عليه العزلة، والوحدة، في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، إحساسه الدائم باستحالة الإمساك بما كنا نراه يدّب نحو نهايته: الخراب ـ والصمت.
وعلى الرغم من أن فن النحت يقاوم (الهشاشة) ويعمل على منح الفراغ معادلا ً مع الكتلة، إلا أن ثمة لغزا ً لا يكمن في الزمن ـ كحركة ـ بل كجوهر: ذلك الذي يعمل على التفكيك ـ والتفتيت.
وباعترافه لي ـ بعد أن كنت أوقدت فيه معضلة (إنانا) بوصفها سيدة الأقدار: الموت ـ والحب ـ انه لا يستطيع فصل الحدين عن بعضهما من غير شعور بتحول العالم إلى فراغ بلا حافات. فانانا، بالسومري، تعني (الحياة)، حاملة معنى (حواء) في أساطير الخلق العراقية القديمة، فهي لم تدفن حبيبها، بعد أن دفنته في ظلمات العالم السفلي، بل ستعمل على إنقاذه، وبعثه مجددا ً إلى الحياة.
عمليا ً، البذرة إن تُدفن، لن تنبت. وديموزي، مثال، عبر مواسم الحزن، والبكاء عليه، بانتظار عودته، وبعثه، عبر الدورات أو الفصول، لم يستبعد (القدر)، بل يحاذيه، بفعل غوايات (إنانا) أو (الحياة) أو (حواء)...
هل ثمة عقدة تكاد تتجاوز ما سيشكل كراهية للعمل، والإنتاج، بل والابتكار، توازي علاقة الرجال بالنساء....؛ عقدة تبدو إنها تحولت إلى مرض لا شفاء منه إلا بديمومة هذا المرض! مكثت تنتج ما كان أعظم شعراء العراق الحديثين الملا عبود الكرخي قد لخصه في رائعته الفريدة( المجرشة)، ومعناها غير ملتبس، وغير مشفر، مع انه موجه ضد الواقع الاجتماعي ـ السياسي، لكنه يضعنا ـ وجها لوجه ـ إزاء: انانا ـ الدنيا ـ برمتها.
لم يكن إسماعيل فتاح قد أقام معرضه (رجال ونساء) إلا بعد عقد ...، ولكنه طالما شعر بان الفجوة ـ التي تبلغ أحيانا ً حد الفجيعة ـ مازالت فعالة، بما كانت مجرشة الكرخي تعنيه وتقصده: الهواء ـ أو الفراغ. فالمجرشة لا تطحن شيئا ً ـ كما كانت الحياة تطحن ضحاياها.
وقد تكون ثمة أسبابا ً أخرى مجهولة ـ جينية أو أسرية ـ غير التي أفصح عنها الفنان كانت تغذي إحساسه بالفراغ ـ والخديعة ـ وتنتهي به إلى: الوهم، سمحت له مقاومة الاستسلام للهزيمة، أو الرضا بالخمول.
فديناميته ـ ضد مشاعره باستحالة حضور الذي لا وجود له، إن كان الكامن في لغز البذرة، أو الذي تمثله أساطير الخلق/ ديموزي، سمحت له أن يتلهى ـ غواية ـ بالحياة بمعناها النسبي، فبعد أن عاش حياة طبيعية في أوربا ـ ايطاليا، حلم أن يستكملها في بغداد، فاصطحب معه فنانة مرهفة موهوبة لتشاركه مشروعه الفني. لكن تجاورهما لم يدم طويلا ً...، لتعود الفجوة تتسع وتعمل عملها...، وهي ذاتها القائمة بين النساء والرجال، كأحد أشكال المجتمعات التي لم تجد فرصة لمغادرة اقتصادها البري ـ البدائي.
كان إحساسه بالعزلة محفزا ً له لاجتياز موضوع (الموت ـ الحب) متمثلا ً بعدد كبير من تجاربه في النحت، وفي الرسم...، إلى توكيد ـ يبلغ حد التكرار ـ لموضوع الرجال ـ النساء.
في ذلك المساء (14/5/1985)، كالأيام التي كان إسماعيل فتاح محورها، في جمعية الفنانين التشكيلين العراقيين، ولا أتذكر إنني أنا من طلب منه أن يخطط، بل أتذكر انه هو من سحب الأوراق مني عنوة...، وراح يخطط، بانفعال مشوب بالقلق، والتوهج، فقد كان منتشيا ً بثمالة طائر يرقص بعد الذبح! فلم يكن موضوع الموت قد احكم انغلاقه عليه، بل وجد انه يحوّم في مكان آخر... هو ... الجسد.
كان يحدثني عن حلم لم يفارقه ـ قبل رحيل ليزا زوجته وبعد رحيلها ـ بإقامة علاقة مع امرأة عراقية...؛ كأنه كان يرغب أن يحفر في أسطورة (انانا) نفسها، بالعودة إلى: الطين ـ مادة الخلق الأولى ...، وإعادة تمثل آليات سر دفن البذرة...، للعثور على أمل...، ما...، لأن المرأة لن تصبح مشروعا ً مكتملا ً إلا بالآخر، مما يستدعي ابتكارات لردم المسافة ـ وفراغاتها ـ بينهما.
في تلك الجلسة ـ وقد أرخها الفنان ووقعها أيضا ً ـ باح بكل ما كان يمثل عذابا ً حقيقيا ً يعيشه، ولا يفصح عنه بالكلمات...، فترك أصابعه تفصح عن قلب وحيد...، وعن ذات مقيدّة، وعن صراع غير قابل للخمول أو التسوية...
ولم يكن الفنان يجهل التاريخ الكبير المعروف، لمثل هذه الموضوعات، ومعالجاتها، وهي ترجع إلى المعابد السومرية، والهندية، ومتوفرة في تجارب أقدم، ترجع إلى الآلهة الأم...، وما كان ينفذ كتعويذات، وتعاليم سحرية، وطبية، كما إن العديد من المتاحف الكبرى، تضم مجموعات فنية نادرة تتناول تصوير الأعضاء، والوضعيات الخاصة بالممارسات الجنسية، خارج الأعراف، والرقابة، والمحرمات...، فالأنثى ليست جسدا ً يسعى له الذكر، ضمن ممارسة الكائنات الحية بلا استثناء، من اجل الإخصاب أو الاستمتاع، بل هي أقدم علامة حملت مفهوم: الخلق ـ الإنتاج. إنها (حواء) بوصفها: المولدّة. ولكن حواء من غير الآخر ـ وبعيدا ً عن مفاهيم الخطيئة وتأويلاتها ـ لن تستكمل مشروع الحياة برمتها، إلا بوصفها حاملة لبذرة الحياة وديمومتها: موتها الذي لا يموت!
اعترف بأنني ـ في تلك الجلسة ـ لم احتفظت إلا بهذا العدد من الرسومات، لسوء تقدير مني وأنا أتلفها، لأجد ما تبقى منها، لدي ّ، بعد 30 عاما ً، توقد الرغبة ذاتها التي وجدت سكنها في هذه التخطيطات، والتي نفذها الفنان، بتلقائية، وعفوية، ولكن بالإفصاح عن كتمان اعتقد انه ينتظر من يعيد قراءته، في تاريخ مبدعنا الكبير: إسماعيل فتاح الترك.
*هناك تخطيطات مباشرة، فاضحة، يمكن الاطلاع عليها لدى من يقتني هذه الوثائق الفنية، على نحو خاص.
Az4445363@gmail.com