الثلاثاء، 27 مارس 2012

القمة النعمة أم القمة النقمة ؟؟- كاظم فنجان الحمامي







القمة النعمة أم القمة النقمة ؟؟

كاظم فنجان الحمامي


مثل بقية الزوابع والأعاصير حصلت القمة البغدادية على اسمها قبل وقوعها, فاكتسبت اسمها من الأسواق العراقية, التي قفزت فيها أسعار الطماطة إلى أعلى معدلاتها بمقياس أسواق البصرة, فبلغت (2500) دينار للكيلو الواحد, فأطلقوا عليها (قمة الطماطة) منن باب التندر. .

نأمل أن تكون هذه القمة فاتحة خير على العراق وأهله, ونأمل أن تحمل لنا الأخبار السارة, لكنها كتمت أنفاس بغداد منذ الآن, وشلّت حركتها قبل انعقادها, وسط إجراءات أمنية مشددة, فتكاثرت الحواجز, وتعطلت المصالح العامة, وأغلقت الطرق والمنافذ الرئيسة بين الكرخ والرصافة, فحققت القمة أولى نتائجها الايجابية عندما أطلقت ماراثونات المشي بين أحياء بغداد وضواحيها,

فولدت اكبر تظاهرة شعبية لترشيق الأجسام المترهلة, وتخفيف الأوزان الزائدة, وتحولت بعض الشوارع العامة إلى ملاعب مفتوحة لممارسة لعبة كرة القدم لطلاب المدارس المتعطلة بمناسبة انعقاد القمة. .

غرقت بغداد في فوضى مرورية, وانقسم الناس بين صابر ينتظر الفرج, وبين متشائم لا يرى خيرا في الجامعة, في حين راح السياسيون المعارضون يواصلون التحريض ضد القمة, ويتوعدون بعرقلة أعمالها بكل الطرق الصبيانية المتاحة, وغير المتاحة. .

من المؤمل أن يزورنا الملوك والرؤساء العرب الذين قاطعونا وخاصمونا, ومارسوا ضدنا أبشع أنواع التنكيل, وسيأتي معهم الطاقم الجديد من الرؤساء الذين انتجتهم معامل الربيع العربي, وستجمعهم القمة مع الطاقم القديم, وتمنحتهم فرصة التعارف مع بعضهم البعض, وفرصة تبادل اللقطات التذكارية, واكتساب المهارات القيادية في ممارسة الحكم الميكافيلي بصيغته الرقمية المبتكرة. .

كان الرئيس القمري (اكليل ظنين) أول الواصلين إلى بغداد, فهل (ستتكلل) أعمالها بالنجاح ؟؟, أم تخوننا (الظنون) بالجامعة ؟؟. .

يقول نبيل العربي الرئيس الحالي للجامعة: ((إن مجرد عقد القمة العربية في بغداد (انجاز) من انجازات الجامعة في ربيع عام 2012)). .

ونحن نقول لا يمكن ان نعدها من الانجازات, ولا من المنجزات ما لم تسفر نتائجها عن تحرر العراق من مقصلة البند السابع على أقل تقدير. . .

الاثنين، 26 مارس 2012

الصورة عادل كامل-قصة قصيرة


قصة قصيرة

الصورة
عادل كامل
لم تتصور الخالة . في يوم من الأيام أن تستقبل إبن شقيقتها في وضع مزر كالوضع الذي تراه فيه الآن، فسألته على الفور . وبصوت قوي برغم إنها تجاوزت الستين من العمر.
-"ما الذي حصل لك يا ولدي ؟!"
ذلك لأنها أشرفت على تربيته . منذ الصغر، يوم فقد والديه، فكان بمثابة ولدها الوحيد، وقد أحبته وأشرفت على زواجه.
لم يجب، كان خائر القوى، على الرغم من ان الساعة لم تتجاوز الثامنة مساء .
فقالت مرة ثانية موجهة السؤال إليه :
-"هل حدث لك مكروه ؟"
رفع رأسه بهدوء وقال بصوت متعب :
-"إنها طردتني "
لم تصدق، فهما يعيشان معا منذ عشرين سنة لكنها خمنت انه يعاني من حالة سكر .. فقالت بطريقة غير مباشرة :
-"سآتي لك بالطبيب "
فقال بلا مبالاة:
- "الطبيب هو الذي أوصلني إلى هنا.. كنت قد ذهبت إليه.. وتحدثنا في الأمر .. ثم قلت له .. لا فائدة، فقال لي : أسترح " .
وسكت، كان يتخيل الساعات التي يمضيها وهو يراقب الأشجار.. خاصة بعد أن أحال نفسه إلى التقاعد .. والساعات التي يمضيها وحيدا في غرفته، تلك العزلة .. وتلك الأصوات التي كان يسمعها في الليل ..وعويل الريح .
رفع رأسه ونظر اليها، وهو يبتسم بمرارة، قالت :
ـ "طردت ؟ لم افهم قصدك "
ورفعت صوتها :
-"انك مريض ياولدي .. كيف فعلت ذلك ؟"
المرضى هم الذين يطردون .. وهكذا هم كبار السن .. وتلعثم .. دخن. كانت خالته متجمدة وهي تراقبه. كان شاحبا، ولم يكن يظهر عليه أنه في الأربعين من عمره. هكذا تخيلته . مازال في سن العشرين، متوقد الذاكرة، قوي البنيان، عدا عن انه مازال يعاني من الخجل .
قال بعد صمت
-"لا تقلقي .. لست بحاجة إلا إلى غرفة وسرير" .. لم يكن يفكر في شيء محدد. كلمات صديقه الطبيب تدوي في رأسه . كلمات مبهمة .. غامضة .
قالت له خالته
- "سأحضر لك العشاء .. لابد انك جوعان "..
-"اجل .. ولكن ليس الآن . أنا بحاجة إلى الماء .. بحاجة الى الماء .. أشعر بجفاف في جسدي كله".
دخن مرة ثانية .. وسكب قليلا من الخمر في جوفه . لقد اعتادت خالته ذلك منه منذ كان طالبا في الجامعة . يوم كان يعيش معها في البيت نفسه إلا أنها شعرت بالرثاء لشيء ما، لا له . ثم قالت على حين غرة .
-"ولن تعود اليها؟"
-"لقد طردتني .. الا يكفي أن تفعل هذا ؟!"
-ولم تأت بأي شيء من مقتنياتك الشخصية .. ملابسك وتلك التحف التي "جمعتها خلال حياتك ؟"
-"ماذا افعل بها !"
-"تركتها لها ..لهذه الـ …"
قاطعها، وهو يستعيد بعض قواه :
-"لا فائدة من هذا الكلام .. ولا فائدة من هذه الأشياء ."
وضحك متابعا، غير مكترث لما حدث :
-"لم آت بأي شيء لسبب بسيط.. آه.. لكي تبقى تتذكر كل ما في ذلك البيت .. إنها تعيش وحيدة بين الجدران أيضا ً " وأغلق فمه متذكرا إنها لم تترك سرا من أسراره لم تبح به لسكان الحي كله. انه فجأة أكتشف ذلك، قبل ايام قليلة .
ثم قال بألم دفين :
-"سأعود الى غرفتي القديمة .. هذا كل ما في الأمر …"
سألته :
- "وماذا ستفعل بحياتك .. ياولدي .. هل ستبدأ من جديد؟"
ابتسم بسخرية، وهو يتكلم بصوت قاطع :
-"جئت لأموت هنا "
كان الزمن يمضي بثقل . نهضت الخالة وأعدت له الطعام .. أما هو فكان أكثر وعيا.. وأكثر لا مبالاة . كان يتكلم . بهدوء، عن البرد .. وانه تجول في المدينة وشاهد الأطفال:
-"أجل .. كنت أشعر بالسعادة وكأني أرى أطفالي .. آه .. لا أجمل من هذه الكائنات".
ورفع صوته:
- " لقد تخيلت نفسي طفلا في العاشرة .. وهناك، رجل مطرود، وحيد، معزول، يهدده الزوال يتأملني لكني شعرت بالقوة فجأة : هؤلاء الأطفال سيكبرون.. سيكملون دراستهم ويتزوجون .. ويشيخون.. ثم تمر الرياح الصماء عليهم . لم احزن كثيرا.. بل جلست أمام النهر . نفس المكان الذي كنت اقرأ فيه .. وهو المكان الذي أحببت فيه " .
سكب آخر ما تبقى من الخمر لديه في جوفه دفعة واحدة .. وتركها تتكلم:
-"لا تحزن .. انك في ريعان الشباب .. سأعثر لك على أجمل امرأة .. إن ما تبقى من المال، لدي، يكفينا ويزيد .. لا تحزن .."
أبتسم :
-"أني هربت من الاحتضار هناك .."
-"آه .. والآن لنرتب الغرفة .."
قال في نفسه .. نفس الغرفة .. نفس النوافذ والستائر ونفس السرير والاشياء كلها مازالت في أماكنها.. صورة أمي .. أمي .. وصورة والدي أيضا. معلقتان فوق الجدار المقابل لرأسي وأنا أحدق فيهما وأستمع إليهما.. الأشياء كلها لم تتغير .
وهكذا قال لها بصوت مرتجف :
-"وملابسي مازالت معلقة .."
وفتح أحد الصناديق الخشبية .. وراح يداعب دماه القديمة .. ملابسه يوم كان في العاشرة .. كتبه المدرسية .. ثم أغلق الصندوق.. وترك جسده يسقط فوق السرير .
وكان يستمع إلى صوتها الاليف :
-"غدا، سنجدد أثاث الغرفة .. وسأجعلك تبدأ حياتك من جديد .. أما عن مصير اطفالك الثلاثة، وإبنتك الوحيدة، فانهم غدا أو بعد غد، أو بعد سنوات سيأتون الى هنا.. الى هذا البيت ".
وبثقل رفع رأسه وتمتم :
-"لديّ أمنية واحدة ياخالتي، امنية واحدة فقط .. ان نذهب غدا الى المصور. والتقط صورة لكي تضعيها هنا، الى جانبيهما، فوق .. الجـ ..دار .. ".
ثم أعاد رأسه الى الوسادة، بهدوء ومن غير احلام، رقد الى الابد .
لكن خالته برغم اساها، وفي اليوم التالي عثرت له على صورة، ونفذت وصيته، مدركة ان الباب الذي أوصد سيفتح في يوم من الايام .
1989

الجمعة، 23 مارس 2012

مع جلالة الملك في قلب الهور-كاظم فنجان الحمامي






مع جلالة الملك في قلب الهور


غريب على الخليج

ربما يعاتبني أحبابي في العراق على تركيزي في الكتابة عن البصرة, ويعلم الله إن العراق كله من شماله إلى جنوبه هو الرمز الشامخ لمعاني الوئام والألفة والتسامح, جمع الناس كلهم في إطار واحد, وخندق واحد, وقلب واحد, وكان كريما معهم عندما وفر لهم الخيرات من الأرض الخصبة, والماء الزلال, والمناخ المعتدل, فالعراق كله هو الأقرب إلى قلبي وروحي ووجداني, بيد إن البصرة الصابرة الصامدة هي المدينة التي شغلت تفكيري, وهي العنوان الرئيس للصمود والكبرياء العراقي, وكان أبناؤها هم الحصن المنيع, الذي تحمل الثقل الأكبر من الويلات والمصائب. .

فالبصرة ملعبي ومدرستي, وبيتي وحديقتي. عشت فيها طفولتي وبراءتي, وأمضيت فيها ربيع شبابي, وأجمل سنوات عمري, فحرمتني منها الأقدار, ورمتني خارج أسوارها, وغادرتها مكرها, أحن إليها صباح مساء, حتى بعد أن اشتعل رأسي شيبا, وحتى بعد أن انحنى ظهري, وذبل عودي. .

حينما أراجع صفحات الصبا والشباب, وتعيدني الذاكرة إلى أيام البصرة المطيرة, وكيف كنا نخوض المياه بجزماتنا السود غير عابئين بالأوحال, غير مكترثين برذاذ السيارات العابرة. نمر بسوق الهنود فتجذبنا الروائح الزكية إلى أشهى أنواع التوابل وأكثرها جاذبية,

نحوم حول عربة (الشلغم) قرب ساعة (سورين) كما النحل الباحث عن الرحيق في بخار القدرور الغنية بشراب الدبس, فنتناول منها ما نشاء بعشرة فلوس أو أقل, ونلهو برش الملح فوق أطباق الشلغم المحلى, فتختلط عندنا المذاقات في الأجواء الشتوية الملبدة بغيوم البصرة الممطرة, ثم نتجمع أمام دكان زرزور أبو الكرزات, ونجري مسرعين كلما مررنا على واجهات مطعم (بومباي), نهرب من إغراءات روائح السمبوسة والباكورة والتمن البرياني, رواح ومأكولات شهية لا تُقاوم, خصوصا بعد ان صرفنا آخر فلس عندنا. .

كبرنا وصرنا شبابا لا تتجاوز أعمارنا السابعة عشر, جمعتنا مقاعد الدراسة والجيرة وهوايات أخرى, بيد ان هواية الصيد صهرتنا في فلسفتها التي كانت تتطلب منا التسلح بالصبر والذكاء وحدة البصر, وعلمتنا الخشونة والنوم في العراء وسط الهور, وبين غابات القصب, وفوق أكوام الأحراش والبردي, وعلمتنا الاعتماد على أنفسنا في مواجهة تحديات البيئة الريفية الزاخرة بالمسطحات المائية المترامية الأطراف. .

اذكر إننا في العطلة الربيعية لعام 1954 كنا في رحلة إلى هور الحمّار, واتفقنا على المغادرة فجرا بسيارتي الجيب من طراز (لاندروفر), فهيئنا ليلا, ووضعنا طعامنا ومعداتنا وبنادقنا استعداد للرحلة, ثم انطلقنا بعد منتصف الليل الى بيوت أصدقائنا, وكانوا جميعا في الانتظار على أهبة الاستعداد, يدفعهم الحماس نحو خوض المغامرة المرتقبة بروح رياضية عالية, كان السكون يخيم على البصرة, والطرق خالية من العجلات والمارة, فوصلنا (أبي صخير) قبل حلول الفجر, وتوجهنا إلى (علوي) عن طريق السادة البطاط, الذين كانت تربطنا بهم أواصر ألفة ومحبة. .

كان في طريقنا مخيم من مخيمات الاستراحة الملكية, قالوا لنا انها عبارة عن موقع ملكي يقضي فيه الملك الراحل فيصل الثاني وخاله عبد الإله بعض الوقت في الصيد, وكان وكيلهم صياد محترف, وعلى قدر كبير من الخبرة, ويتمتع بمرونة وبساطة في التعامل مع الصيادين, واسمه (روبي انكورلي). وصلنا إلى هناك وكان الظلام يلملم ما تبقى من خيوطه إذانا ببزوغ الفجر. .

اقتربنا من المكان, فشاهدنا أنوارا ساطعة توحي لنا بالتوقف والترجل, وكان الطقس شيد البرودة, فإذا نحن في نقطة عسكرية مؤلفة من عناصر الحرس الملكي, فجاء كبيرهم وطلب منا الترجل بأدب جم, وبعبارات لطيفة, ثم خرج علينا رجل اسمر, طويل القامة, يرتدي معطفا شتويا, ويضع على رأسه يشماغاً أحمراً, قال لنا والابتسامة لا تفارق وجهه: ((صبحكم الله بالخير يا وجوه الخير, أنا عبد الله المضايفي مرافق جلالة الملك, اطلب منكم الابتعاد عن محرمات المحمية قدر المستطاع)).

فقلنا له بصوت واحد: ((إننا في طريقنا إلى مكان آخر يبعد أكثر من خمسين كيلومترا عن محرمات المحمية)), فودعنا بابتسامته التي استقبلنا بها, وتمنى لنا التوفيق والسلامة. .

لم تكن هناك مدرعات ولا مصفحات, ولا مصدات خراسانية, ولا حواجز إسمنتية, ولا وجوه مبرقعة, ولا نظرات حاقدة, ولا نبرات زاجرة. .

قضينا أربعة أيام في جوف الهور بين الأدغال والبردي, مستمتعين بالصيد الوفير, وجمال المناظر الخلابة في ذلك الفردوس الطبيعي, كان الهور جنة من جنات عدن. وكان الصيادون من أبناء الهور يواصلون النقر على الصفيح الفارغ (التنك), ويطلقون الصيحات العالية لتوجيه الأسماك نحو شباكهم, لم تكن لديهم سموم ولا مواد قاتلة, ولم تصلهم وقتذاك تقنيات الصيد الجائر بالصعقات الكهربائية. .

عقدنا العزم على العودة إلى بيوتنا, فجمعنا محصول الصيد كله, تمهيدا لتقسيمه على وفق القاعدة العادلة, التي تقول: ((الواحد للكل, والكل للواحد)). .

قفلنا عائدين بعد الظهر, ووصلنا المخيم الملكي عند العصر, فطلب منا الجنود التوقف, فتوقفنا على الفور, وخرج علينا عبد الله المضايفي, فسلم علينا, وطلبنا منا مواصلة السير نحو البصرة, لكننا سمعنا صوتا يأمره بتأخيرنا برهة, التفتنا إلى مصدر الصوت فشاهدنا جلالة الملك الشاب الأنيق بوجهه المنير المشرق, يرتدي ملابس الصيد, وعلى وجهه ابتسامة طفولية معبرة, فطلب منا الترجل من السيارة, وكنا في غاية الحرج بسبب ملابسنا الملطخة بالطين والوحل, وأحذيتنا المبتلة بالماء, فتقدم نحونا وصافحنا من اليمين إلى اليسار, الواحد بعد الآخر, وسألنا عن صيدنا, وهل كان صيدا وفيرا يستحق التعب, فأخبرناه بأنه كان وفيرا, فطلب أن يلقي نظرة عليه, فشاهد أكوام البط والإوز, وتأملها طويلا بعين الصياد الماهر, ثم سألنا عن أسلحتنا, فاحضر كل منا بندقيته, أخرجت بندقيتي من محفظتها الجلدية من دون تأخير, وقمت بتركيبها بخفة ومهارة, وكانت من صنع ألماني من معامل (كروب), تأملها جلالة الملك بإعجاب, ووضعها على كتفه, وأبدى ارتياحه لخفة وزنها. فشعرت بطبيعتي البدوية تطلق لساني بعبارات الود, فقلت له: ((مولانا إقبلها مني هدية)), فابتسم برقة متناهية, وقال: ((هاي البندقية صديقك. . شلون تتخلى عن صديقك)), حينها أطرقت برأسي خجلا, فهممنا بركوب سيارتنا, ونحن نرفع أيدينا بتحية الوداع, لكنه أصر على أن نشرب الشاي في ضيافته, ولم تفلح محاولاتنا الجادة بالاعتذار, ألح علينا فدخان بعده إلى وسط الاستراحة الملكية, وفوجئنا بأثاثها البسيط, وديكورها المتواضع, وما هي إلا لحظات حتى جاءت أقداح الشاي ومعها بعض قطع الكيك والبسكت, وكان يسألنا عن أساليبنا في الصيد, واستفسر منا عن نوع الخرطوش المستعمل, فقلنا له إننا نستعمل الخرطوش الانجليزي, ماركة (إيلي), وكنا نشتريه من محل (صموئيل عنتر), فنهض من مكانه ودخل غرفة مجاورة, خرج بعد برهة ومعه خادمه حاملا صندوقا من الخرطوش من نوع أمريكي, يسمى (رمنكتون), وهو من الأنواع التي لا تتوفر في الأسواق, وقال لنا هذه أفضل الأنواع أهديها لكم متمنيا لكم النجاح والتوفيق, فتبادلنا نظرات السرور, وشكرناه بلطف على هذه المكرمة اللطيفة, ثم ودعنا وسار معنا إلى الباب الخارجي, وربت على كتفي بلطف مذكرا إياي بعدم التخلي عن بندقيتي, فقال: ((ها. . مو تتخلى عن بندقيتك)). .

انطلقنا غير مصدقين إننا كنا في ديوان الملك, وشربنا معه الشاي, وأهدانا خرطوشا أمريكيا لم نسمع به من قبل, كان شابا متواضعا, بسيطا, مبتسما, لم يكن فظا غليظا متعجرفا متكبرا, ولم يكن جبارا ظالما, ولم يكن ميالا لمظاهر الترف والبذخ, ولا ميالا للتباهي بالمظاهر المسلحة, وكان موكبه الملكي أقل بكثير من موكب مأمور مركز الشرطة في إحدى القرى الريفية المتروكة الآن خلف جدران التهميش والإهمال. .

اما بالنسبة للهور فكان زاخرا بالعطايا والخيرات, غنيا بالموارد والثروات, كان نابضا بالحياة في كل الفصول والمواسم, لكنه يرقد الآن بين مخالب عفاريت التجفيف والتجريف. . .

وهاي وين ؟؟؟, وذيـﭻ وين ؟؟؟. . . .

غالب المسعودي - قل ولا تقل الهمرجة والهمبلة

الثلاثاء، 20 مارس 2012

الواقعية الروسية بريشة الفنان ارسن كربانوف












الملكة لاما -عادل كامل:قصة قصيرة


قصة قصيرة
الملكة لاما
عادل كامل
ارتدت ملابسها الموشاة بالذهب وغادرت غرفتها باتجاه الصالة .. لم يكن هناك إلا فريق الأطباء يتزعمه كبير المشرفين على صحة القصر.. نهض الجميع .. كانت الملكة تداري غضبها بابتسامة دقيقة وموجزة .. وبعد ان جلست فوق كرسي العرش سمحت لفريق الأطباء بالإصغاء إليها .. ولم تتعب نفسها بشرح حالتها .. فقد قال كاتم أسرارها ان احد أسنانها لم يعد يؤدي وظائفه على نحو إمبراطوري، وإنها كادت تعاقبه، لولا مرعاة خاصة منها نحوه فقال كبير الأطباء، انه استدعى الخبراء في شؤون العظام والمفاصل والذاكرة والدماغ وكافة خبراء تحضير الارواح وعلوم الغيب … وأمرهم بإجراء اللازم . ثم قال انه استنتج بان آلام الأسنان لا تتعارض مع متطلبات الحكم . ابتسمت باختزال، وهي تصغي لكاتم أسرارها يخبرها عن قيام احد الدويلات بأحداث شغب فهزت رأسها استجابة لقرار أزلي شكل هيكل إمبراطوريتها الكبرى . إن قطع الرؤوس يوازي وضعها في المقدمة . لكنه أجابها باستحالة تنفيذ الامر … فاحداث الشغب تحدت وتعدت ماهو مسموح لها. ضحكت بألم مكتوم إنما أعترفت أن الديدان تسللت الى قصرها .. ومن القصر الى مخدعها.. ومن مخدعها الى جسدها حيث أستقرت في الأسنان.
قال كبير خبراء الاسنان انه سيجري الفحص الشامل ولن يسمح للداء بالاستفحال: إننا مجندون لخدمة ملكتنا المقدسة، ملكة الغابات والمياه العذبة وملكة كل ذكرى ستبقى مدونة فوق أوراق السنين. قالت حسناً واستسلمت لخبراء العظام بعد ان أمرت بطرد كل من يشغل خيالها بقضايا الدويلات والطاعون وزحف الجفاف نحو بكر الأراضي الخضر.استسلمت وهي تردد ان الديدان استقرت في قلب نظام الحكم. وكان فريق العمل مثابراً بلا إصغاء، إنما كان كاتم أسراراها يدوّن أوامرها وينفذها على الفور.. كان يفعل ذلك بمسرة خارج حدود سعادته الشخصية .. كذلك كانت تردد ان الموت ليس خاتمة احتفالات الدويلات .. فالقدر كله ليس الا ضيق أفق. أجل : فهناك دوما استحالة تزعزع اغراء الوعي بالصبر والفخامة : ثمة دائما طاعون اعظم من الرخاء..
وأستمرت تتكلم .. وكان فريق العمل يؤدي واجبه.. حتى أن أحد الاطباء همس للآخر، هل نحن في مهرجان ؟ فقال الاخر له إننا في صالة عمليات القصر، ومثل ذلك الهمس اجابت عنه الملكة بكلمات مدوية : ان خيالي يدرك حدود ذاكرتكم . فقد كانت تستجيب لخيالها الامبراطوري .. الامر الذي اربك عمل الاطباء، وكاد يشل عملهم.. فقد باءت جهودهم بالفشل وهم يتخطبون بتحديد عوامل فساد الاسنان .. ثم انهم لم يعثروا على مكان استقرار الاعداء.. بل قالت، وهي في حمى الكلام، ان الحماقات تسبق سلالم المجد، انه المرض أو الموت المستعار. وفكرت للحظة بسطوتها وحدود دولتها الكبرى، بمجدها وما كتب عنها، بجمالها الذي سحر أمراء البلاد والأعداء، وبكنوزها التي لا تغيب عنها الشمس، فكرت بذلك وقالت إنها الآن لا تريد الاستسلام لمرض عابر وخال من الجمال . وقالت إنها ستأمر بضرورة تفكيك الخيال.
استمر عمل فريق الأطباء، بأناة وصبر، وعلى الرغم من ان الملكة كانت قد أمرت بإيقاف سريان الزمن، إلا انها كانت تخشى على أسنانها من عدم الطاعة، وقد يسري هذا الداء على فريق الاطباء . فأمرت بايقاف العمل وغادرت الصالة.
كان نهار ما قبل التاريخ يتعكر بشغب غبار دبق.. ثم ان حديقة القصر بدت لها بالية، فالاشجار واقفة مثل صخور زلزالية، والازهار ترتجف فزعاً من حتمية ذبولها ..كانت الملكة تفهم أسرار نسغ الاشجار، فأمرت بايقاف عمله:
لا ضرورة في هذا النهار المتحجر لهذا العبث.
نفذ الامر باشارة منها وقيل أن النسغ ذاته قد أوقف عمله.
فغابة القصر تمتلك قدرة ذاتية على اداء عملها في تنفيذ اوامر جلالة الملكة، الا ان سموها – حسب تعبير ابنها – امرت باعادة الالوان الى الورود على نحو ينسجم مع خيالها الا بعد، لكنها لم تبتسم على مدى زمن تفكيرها في حادث اغتيال جلالة الملك، الملك الذي ترك مملكة بلا حدود لكنه لم يترك وريثاً.. حينذاك اغتالت ابن اخيه، وكل الذكور المنتسبين الى سلالته ونصبت نفسها ملكة شرعية.. وبعد عام اعلنت ان السماء عقدت معها قرانا روحيا ستنجب منه ولدا . وجاء الولد إبن السماء والبرية خليفة ً ووريثا لها على عرشها . وكان هذا قبل نصف قرن، ثم بعد ذلك اعلنت نظريتها عن عدم شرعية أي زواج ومن أي نوع:
فالولد الواحد هو الخليفة الواحد …
وكان السكان منذ تسنمها العرش حتى الالم الفادح الذي دخل سواحل فمها الذهبي في استسلام لرقصات ودبكات هزت أقصى مناطق العرش، والملكة ذاتها لم يغب عنها الشعور بجدوى أو لا جدوى ذلك.. فالرقص الهستيري في شعاراته وهتافاته يماثل الصمت او الحالات المماثلة عند ذوي الطاقات بالغة التعقيد والحساسية . انما لم تفقد الامل بانها اعادت للحياة الاولى رونقها . ذلك لانها الغت كل أوامر صاحب الجلالة زوجها ومسحت آثاره من الخيال.. حتى انها نفذت شعار حرق كل ماهو مكتوب ودمرت بهذا المطابع وحرقت الورق ، ذلك لان تعلم القراءة والكتابة سيدفع بالابرياء للتلوث بسموم فكر الاعداء .. وهكذا حصنت مملكتها من التعامل مع الخارج، وطردت الاجانب وكل من أختلطت بدمائه عناصر مغبرة او صفراء او حمراء او زرقاء بل انها علمت شعبها انه لا الوان هناك عدا لون صفاء شفافية الروح. ومثل هذا الكلام شرحه بلغاء القصر وكبار العلماء فصفق الشعب وسط الرقص الذي مازالت تستمع اليه .. فالملكة بعد ان الغت خطاب الكلام وحروف المعرفة علمت شعبها لغة الضوء، اللغة التي يتفرد بها السكان عن العالم بأسره.. والتي لايمكن سرقة اسرارها او تعلمها او ترجمتها كذلك تم تحطيم عرش الماكنة والتعاليم الوافدة واعدمت نصف شعبها لسلامة النصف الآخر .
مر ذلك بخاطرها وهي تجلس فوق كرسيها الابونسي وهي تأمر باستدعاء فريق آخر. كانت تردد منذ نصف قرن ان تلف الاسنان يعني دمار الحكم وانهيار الامبراطورية .. ولهذا اصدرت امرها بخلع الاسنان وقلعها لدى الجيل الاول .. بينما أكتشف خبراء الطب الكبار الجنس الجديد الخالي من الاسنان الذي لايجيد بمهارة فائقة الا رقصة الهستيريا حتى الموت .. وكان كل من يموت بفعل الرقص يمنح شارة انوثتها الخالدة . الانوثة التي غدت كالاستقلال حتى لو تطلب الامر استحضار أرواح الاسلاف أو كل من سيلد بالقوة، إنما تفتتت النتائج لديها وهي ترى أنها فاقت خيالها العنيد. ولم تبتسم لاحد حتى لولي العرش المغبون المهمل. هذا الولد الذي دون بالضوء خطاه، وكانت الملكة لاما تدرك انها بلا ولد.. حتى ان ليلة عرسها السرية تلاشت فتلاشى الوجود لديها كله. ولم يدخل الولد نائب سر الملكة معها في جدل او حوار.. حتى انه لم يتحدث عن وهم الم الاسنان المزعوم خشية ان يذهب ضحية كما ذهب نصف عشاق الملكة. فقد كانت في طبيعتها لاتعثر على بغيتها في ذكر من ذكور العالم .. الا انها لم تسمح لجبروتها ان يتمرغ بوحل هزائم الشائعات أو التندر الصامت. هكذا هزمت جسدها وتحدثت طويلا الى أمتها كجسد صاف منقى لم يمسسه الإثم ولا فساد الأزمنة، ورقص لها الناس لعفتها وشجاعتها في مواصلة الكلام.. فهي الملكة الوحيدة التي استطاعت ان تلقي خطبة على مدار السنة . ولا يعني هذا ان الناس كانوا يتابعونها تماما .. لان التقاليد حتمت ان يكون الوعي مشوباً بعكسه.. كما إنها الوحيدة التي لم تذهب الى سريرها طوال هذا الوقت . إنما رفضت كل جلال التقديس والأبهة عدا ما كان يدفعها الى الحفاظ على الاستقلال.
"أيها الولد .."
بإشارة لا صوتية منهـا جاء ابنها بفـريق أطباء ثالث لتحديد النتائج.
كانت لا تنظر بل تلقي الكلام البديل لكلمات الأسلاف وهم يغطسون الى الاعماق.
ولم ترفع يدها الى الاعلى . كانت الاشياء تهبط أمامهاا. لتتذكر ليلة عرسها السرية والولد الذي جاء بدماء زمنية . لم يكن الموت يفزعها إنما الاسنان أوجعت فيها خيالها. فهي لم تعد تنتمي الى المصطلحات المعروفة .
كانت ترغب أن تقتلع ماضيها كله وتسير صافية كضوء في مساره المجهول: لاوعي ولا كدمات ولا أمة يحاصرها الغبار: لاجسد معتل ومملكة مشيدة بتواريخ لعنة : لا ضوضاء اشباح ولا رقصات هستيرية لبشر اضاعوا اقدامهم في مسالك الاحلام والرغبات . كانت تود إعادة قانون وجودها.. " ويالها من هزيمة وريح تنذر بالشر " ذلك لان اسنانها كانت تصل .. بعد أن فشل الفريق الثالث بعمل شيء وكان الابن يراقب .. والملكة لاتصغي لاخبار الشغب الدموية وإنما لمسار العشق المغبون .. كانت تحلم أن تقوم بعمل فذ ينسيها ليلة إغتيال زوجها والدماء التي سفحت جزافا من أجل إرساء نظامها..ففي السنوات الماضية وفي لحظات مماثلة كانت تعثر على تسليات تجعلها بلا ذاكرة.. ذات يوم فازت بالمصارعة . ومرة أقامت اعظم تجربة لها بالرسم وبزت أقرانها، وفي مرة ثالثة اتخذت الطب مهنة وقامت بإجراء عمليات للدماغ وصنعت العجائب حتى ان الطب ولسنوات طويلة مازال يدين لها بالولاء المطلق. إلا انها الوحيدة لم تكن راضية ولاجسدها تركها للراحة ولا نفسها أستقرت ولا روحها عرفت السلام، وكان الابن يتدارس الامر بسرية بالغة العتمة أمر ملكة الامة ويعالج الامر معالجةلاتثير الشكوك. فبعد الاستقلال الذاتي والوهمي استقرت أمور الرعية تحت قوس الرقص والغناء والجماع الحر الليلي الجماعي والفردي حول موائد ذبح الحمقى والثيران المخصية، وكانت الملكة تشارك رعيتها الاستقلال والعزلة، فليس التاريخ ان تكتب صفحاته انما ان تعيشه، ومعنى ذلك انك تبدعه.
كفى .. كفى .. ايها الفريق الطبي الاحمق …
وصرخت :
- " اتركوني وحيدة " .
لم يبق، كنسب يخص تقاليدها، الا الوريث الذي رأت فيه الاثام،معها. هذا إبن لا أحد، ورفعت صوتها .
- "أقترب.. تعال اليّ" .
وبسرية اللغة اللامية كادت ترسله الى قدره الاخير لولا ان اسنانها اعادت لها ذكرى مسار المنحدرات الملكية: الارتقاء الى الاعماق، فلم يجبها كقرار مكمل لخطة إنقاذ البلاد.
- "وانت ماذا ستفعل لانقاذي ياصبي الحكم القادم ..؟" .
بعد صمت أسطوري قال انه سينقذها من المأزق .. فسيأتي بأسنان الذئاب لتختار منها أجودها، راقت لها الفكرة، لكن من ذا الذي سيمسك بذئاب البرية ياصبي العرش القادم ؟
وتساءلت ايضا : ومن سيختار لي أسنان الحكمة التي لاتنظر الى يسار أو يمين؟.. قال لها ان الذئاب كلها في متنزه الامة، وسيأتي بملك الذئاب الذي لم يخنه أحد، لاذئب في البرية ولاملك الذئاب إلا وسيسجد لك ياصاحبة العرش.لم تستسغ فكرته لكنها لم تفكر بشن حرب لا لانها لاتمتلك أسلحة بل لان قانون فروسية لاما لايعترف بوجود الاعداء، وكاد الابن يتدبر تنفيذ خطته لولا إنها، نادت بفريق رابع لحسم أمر الالم الذي كان يشتد ويضرب بعيدا بعيدا داخل جسدها الملكي : الجسد المكور المغلف بالذهب والماس والمزين بالجواهر .حتى انها أحست بثقل جلدها عليها.. وثقل الضوء وبشاعة كل زمن الاحتفالات المجيد. وعندما شاهدت الشك ينتاب خيال وريثها الوحيد أخفت أسلحتها وراحت تتحدث عن وهم يتعقبه وهم أبعد بأنها لن تحارب بأسلحة من صنع الاعداء بل إنها ستحارب بالنور وقوى الهواء والاسرار التي لن تعلنها لاحد الا في ساعة الصفر . وكانت تخطب بلغة لاما وحشد الفريق الرابع يعالج اسنانها بعناية بالغة الدقة وهي تكرر انها لن تحارب بجيش من وهم، انها ستهزم الجميع عندما تتخلى عن فكرة النصر، لان النصر هو في نهاية المطاف اعادة الاستقرار الى اسنان جلالة الملكة.. وكانت تسمع دبكات الشعب والرقص وترى الارواح ترفرف كأنها نثرت نثرا منثورا.
ووجد فريق عمل الاطباء نفسه ازاء محنة، فليس في أسنان امبراطورتهم مايدعو الى الفزع والى كل هذا القلق الذي بلغ صداه ضمائر السكان.. بل قيل ان بعض الاخبار قد تسربت الى خارج البلاد.. وثمة إشارات غير مباشرة تدور حول تصدع رأس البلاد، لكن كبير الأطباء كاد يجزم بوجود علة سرية .. غير واضحة، تسبب الأضرار الجانبية لسواحل الأسوار المحيطة بأحد الأضراس .. وان هذه العلة تختفي عندما تشعر بالخطر، لكنه كان يدرك مغزى إعلان ذلك عند الملكة وأي مشاعر حزينة لديها سيسببه الأمر، فراح يشغل خياله ويشحذه عله يعثر على تبرير لمواصلة العمل.. فالقضية لم تعد عابرة بعد ان استقبلها الشعب بحيرة وارتباك .. وبعد ان بدأت الحياة بالتوقف عن مسارها المعتاد.
وكانت الملكة تكتم غيظها كبركان يجمع ناره بقوة اعتى الأوهام طبيعية ..كانت تبدو قد استسلمت لخيانة القدر .. ولسفالة الزمن في تجمده الملكي .. إنما كانت تبحث عن مأوى لهزيمتها بعيدا عن ذاكرة شعب لاما الطيب، المسالم، الودود، الذي انتابه الفزع لأنباء القصر.. ما يحدث من عجز في اداء فرق العمل الطبي وهي تنذر، كالشر، بقدر غامض ينتظر البلاد كان المأوى لديها المستحيل بعد ان تشظت ذاكرتها وصار خيالها يتجمع في أعلى درجات حرارات الوجد والانبهار بتألق الانوار والمشاعل الاولى، كانت تعشق شعبها عن حق كرسالة لا مفرمن ادائها في زمن خال من الكلام والرسالات . وهي تدرك ان لا أحد سيطلع على ذلك بدافع الغاء الكلام والتاريخ، ولم تبذل جهدا كبيرا مع السكان فقد كانوا يمتازون بصفات النور ونسائم الفجر: طيبون وخيرون بالفطرة، إنما لا أحد بلغ فضاء خطابها البعيد… فبعد أن تخلت عن أنوثتها راحت ترسم لمعالمها الشكل الاخر، هذا الذي، بعد ليلة اللذة السماوية الارضية، أنصهر فوق مساحات الامتداد، وقد ادرك السكان سر جورها ضد جمالها الذاوي المتفجر عجرفة وجلالا وقسوة…فإلى جانب سلوكها العجائبي، كانت تحافظ على أنوثة جسدية خالصة لايقدر قدرها الا من سبر مراحل مابعد اللذات العابرة. وتلك اشارات تركها العاشق لديها على مدى نصف قرن من تكرار الحرمان وانبعاثه الفضي على الرغم من الفتن والشغب وأحداث العصيان التي كانت تحدث، فترة بعد فترة، كأنها دورية، وكان ثمة من يشرف عليها على نحو بالغ الدقة، إنها كانت، وهي لاتفكر الا في كلابها الملكية الجائعة التي لم تذق الا خطبها العذبة، بقدر ومصير ونهاية الفريق الطبي الرابع، ولما رفعت نظرها كأمر ملكي بحتمية اتخاذ القرار كانت الامور قد سارت حسب الامر الملكي، وبعيدا عن انكسارات القلب تجاه الملك الراحل وبعيدا عن قدر السكان وحتمية انطفاء الشموس واستحالة الاشياء الى غياب بلوري تذكرت يوم قادت فرسها نحو البحر وحاولت الافلات من دقات الزمن.. كان ذلك ابان الاحتفال بتسنمها زمام المملكة، عندما مشت فوق الماء وعادت الى غابتها تاركة الشعب يتندر بلا خيال رصين للاحداث القادمة ففي تلك الليلة ظهرت ومعها قرارات الخلاص، وفي اليوم التالي، بعد ان غاب نصف الشعب، كان النصف الاخر قد أتقن اسرار وبهاء وخفايا رقصة الموت والاشباح و … .
نهضت ..كان العرش يرتج تحت قدميها وسارت باتجاه غابتها، كان ولي العهد، الابن يرافقها، لم يتكلم . ولم تتكلم ، كانت تود اعلان اسفها ان مملكة برمتها صمدت ضد قدرها، ان علماء الاسنان قد خيبوا املها بقمع الفتنة قبل ان تتحول الى فلكلور وعالجت الامر بنشيد صامت قدر له ان يذهب الى العدم. لكن الابن أصدر أوامر بلغة استثنائية، صرخت الملكة بعويل مكتوم، لقد تساقطت أسنانها كلها وصارت كأنها بلا عرش ..قال الابن بلغة الاسلاف:
- "سيشرح أمين اسراري لك ذلك ". ووجدت نفسها تجيد لغتها الاولى :
- "ستقطع رأسي اذا ً؟ ".
كلا … انك الان تسيرين باتجاه طريق المنفى … لقد اعددنا لك غابة جديدة ..
- "وملكة بلا مملكة .. بلا "
- "مثلما كانت المملكة بلا ملك ".
- "ايها الوغد!"
- "ايها الوغد الملك هكذا تكلمي . الملك الوغد الذي سيعلمك نظام الاشياء.. ايتها الراحلة ! "
وأعلن عن تأسيس أسلحة جديدة وإعادة نظام الاب القديم .. لم يصدم الشعب على الرغم من الاستقرار العميق، فقد كان الملك الجديد قد مهد لهذا القرار بترتيبات مناسبة .. أعاد الاتصال بالعالم كله .. وأعاد للهواء عناصره المحتجزة وترك الهواء يمر ويتنقل وحيداً بين الاشجار خارج قسوة الخيال الفولاذي . كان السكان منذ ذلك الوقت، يؤدون رقصاتهم على نحو مضاعف .صرخت الملكة .
- "ملكة بلا اسنان، واأسفاه ياابن الزنى .!"
- "لست انا السبب ايتها القديسة " .فقالت بلامبالاة:
- "ايها الولد ".
- "ايها الولد الملك … تعلمي، ايتها المنفية، الكلام مع الملوك الجدد " .
- "خيانة "
وتابعت الصراخ :
- "كنت أشم رائحة الخيانة .. كانت الديدان، منذ زمان بعيد، تعبث بهذا الجسد… وكانت مملكتي تترنح، كان حرسي يرقد في موقد الموت.. وكان جلدي يوشي بروحي عند الليل . وأ اسفاه …
قاطعها وهو يقترب منها : - الان هوذا طريقك … طريق المنفى .. ام علي ان اغلق الباب صرخت متابعة .- سانتظرك .. هناك .. في ركن من اركان غابتي ..
ابتسم وهو يتكلم :
انذاك سأرقص حتى الفجر، رقصة مملكة لاما .. رقصة هذا الوهم الذي استنزف العمر … والذي كاد ان يستنزف الخيال .. انذاك سأغلق الباب .. انا الآخر … بانتظار قبضات جدد ستحطم المفتاح باتجاه طريق أبعد من هذا المنفى .. وأبعد من هذا الخيال، أبعد من هذا الميلاد وأبعد من كل موت كنا لانحسب له كل الحسابات . سأرقص حتى لا أرى من الطارق .. وحتى لا أرى الباب ".