الخميس، 22 سبتمبر 2011
( ومن طلب العلى سهر الليالي ),حامد كعيد الجبوري
( ومن طلب العلى سهر الليالي )
حامد كعيد الجبوري
حدثني أحد الأصدقاء وهو أستاذ جامعي عن استيائه من أغلب الطلاب لأنهم بعيدون عن الثقافة العامة ، ولا يحاولون الاستزادة من المعارف والعلوم ألا بقدر ما يخص دراستهم الجامعية ، يقول سألت طلابي يوما ، من يعرف أين تقع قناة ( أوستاكي ) ؟ ، الغريب كما يقول صديقي أني لم أحصل على إجابة لسؤالي ، وهذا ما لحظته لدى أبنائي وأبناء أصدقائي ، والأغرب أن لا علاقة لهم بما يدور حولهم من وضع سياسي ، حتى ظننت انعدام روح المواطنة لديهم ، ولا علاقة لهم بالثقافة والمعرفة والعلوم ، ولا تسحرهم الأغاني الجادة ويستمعون ويستمتعون بأغاني هابطة لا علاقة لها بفن الغناء ، وفي المقابل أقف عاجزا أمام قسم من الشباب يكرس جل وقته للتتبع والدراسة والبحث ، مما دعاني لتغيير وجهة نظري السابقة التي كرسها لدي الصديق الذي ذكرت .
الاثنين 5 / 9 / 2011 م شكلت لجنة في أكاديمية الفنون الجميلة / بابل ، من السادة الدكاترة 1 : أ .د حميد الزبيدي رئيسا 2 : أ . د عبود المهنا عضوا 3 : أ .د يوسف رشيد عضوا 4 : أ .د محمد أبو خضير عضوا 5 : أ . د باسم الأعسم عضوا 6 : أ .د هدى الربيعي عضوا مشرفا ، لمناقشة طالب الدكتوراه ( زيد ثامر عبد الكاظم مخيف الجبوري ) عن رسالته الموسومة ( التحولات المعرفية للجنسانية في النص المسرحي ) ، استمعت واستمتعت لأربعة ساعات متواصلة بطريقة الدفاع الحماسي للطالب المجد ، والأسئلة الثاقبة لأساتذته الذين يرومون تقويم وتصحيح وتوجيه ما وقع به طالبهم من أخطاء ليس بمتن الأطروحة ولكن بشكلها التنظيمي الأكاديمي ، وصدق حدسي بأن الطالب قد تأثر بأستاذه د . ( محمد أبو خضير ) أكثر من بقية الأساتذة بدليل أستخدام الطالب ( زيد ) لمفردات كرسها ويعمل عليها د . ( محمد ) ، ك ( الشخصانية ، الهشاشة ، الجنوسة ، الجنسانية ، التسحيق من السحاق ، المثلية ) ، أختار الطالب من المسرح العالمي والعربي والعراقي نصوصا وجدها ملائمة لنتائج بحثه ، وقد خاض بالموروث الديني والعقائدي والمجتمعي كلها وأثرت كثيرا بالمتلقي الذي يراد له التخلص من عقده الموروثة ، وقد حصل الطالب على نتيجته التي جاهد من أجلها بدرجة امتياز ، ولكي يتمتع القارئ بهذه الأطروحة المبشرة لأطاريح مكملة لها سأستنسخ مقدمتها لأجل الفائدة والتعرف على جهد طالب الدكتوراه ( زيد ثامر الجبوري ) ، ( ملخص البحث
لقد شغلت القضية الجنسانية المعقدة في تركيبتها السيكولوجية ، السوسيولوجية ، الجسدية والذهنية الوعي النقدي والمسرحي على حد سواء ، ولأن القضية لا تنحصر في الذكر والأنثى أو في الشرائع المقدسة والمدنسة فحسب ، بل في معالجة المسائل المتعالقة التي شكلت النسيج الحيوي للبنية الجنسانية في المجتمع الإنساني ككل. لهذا بات من المهم الكشف عن هذا الخطاب من زوايا عديدة ، كونه يتناول السلطة ، الفعل الجنسي والقيم الدينية وهذه كلها تقع داخل المنظومات الإنسانية. أجمع. والوعي الجنساني ما هو إلا وعي مزدوج كونه هو الفاعل الأول والأساس فيها ، لذلك تأتي ازدواجيته من التنظيم العاقل لخاصيات الطاقة الجنسية (اللبيدو) والشعور الجنسي والنزوع العاطفي والتكوين الأسري ومختلف أساليب الإغواء المحرضة للدوافع الجنسية ، وكلها ساعدت على تحرير الوعي الغريزي المحدود ونقله إلى أطوار أوسع رؤية من الوعي الغريزي المفتوح على كل الاحتمالات ، التي ميزت الوعي الإنساني من غيره ، لهذا فالوعي يتحكم في عملية التعقلن الغريزي وضبطه ، مما تميز في تفرده ليؤسس الثقافة الجنسانية وتعدد تحولاتها المعرفية عبر التاريخ.
يضم البحث أربعة فصول ، يتضمن الفصل الأول – الإطار المنهجي للبحث ، مشكلة البحث المتمركزة في الاستفهام الآتي: ما التحولات المعرفية في تحديد ثقافات الجسد عبر مفاهيم الجنسانية (السلطة – الجنس – الدين) في النص المسرحي ؟ ، بينما تجلت أهمية البحث بوصفه يقدم دراسة فلسفية – تحليلية تسلط الضوء على مصطلح الجنسانية عبر التحولات المعرفية(البيولوجية ، السيكولوجية ، السوسيولوجية ، السياسية ، الاقتصادية والدينية) ، وتم اشتقاق هدف البحث وهو التعرف على التحولات المعرفية للجنسانية في النص المسرحي ، أما حدود البحث فقد شملت النصوص المسرحية الغربية والعربية والعراقية خلال المدة (1985-2009)م ، واختتم الفصل بتعريف المصطلحات الأساسية التي وردت في عنوان البحث.
أما الفصل الثاني ، الإطار النظري والدراسات السابقة ، فقد تضمن أربعة مباحث عني المبحث الأول منها بدراسة الجنسانية وإشكالية المصطلح ، واستعرض فيه الباحث المفاهيم التي تداخلت وتلاحقت مع المصطلح الجنساني ، فيما عني المبحث الثاني بدراسة التحولات المعرفية للجنسانية وتضمن أربعة محاور ، المحور الأول تناول فيه الجنسانية والخطاب الأسطوري وشمل حضارة وادي الرافدين ، حضارة وادي النيل ، حضارات الشرق ، الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية ، أما المحور الثاني فقد تناول الجنسانية والخطاب الديني وتضمن الديانة اليهودية ، الديانة المسيحية والديانة الإسلامية ، أما المحور الثالث فقد تناول الجنسانية والخطاب النفسي والاجتماعي وشمل عددا من علماء النفس وعلماء الاجتماع في مجال الاختصاص ، أما المحور الرابع فقد تناول الجنسانية والخطاب النقدي وشمل عددا من النقاد في مجال الاختصاص ، فيما عني المبحث الثالث بدراسة التحولات الفلسفية للجنسانية وشمل مجموعة من الفلاسفة في مجال الاختصاص ، أما المبحث الرابع فعني بدراسة الجنسانية في النص المسرحي الغربي والعربي والعراقي واستعرض الباحث عددا من كتاب الدراما في مجال المسرح. ثم اختتم الفصل بالمؤشرات التي أسفر عنها الإطار النظري والدراسات السابقة.
أما الفصل الثالث فقد تضمن إجراءات البحث ، وهي مجتمع البحث ، عينة البحث ، منهجية البحث ، أداة البحث ، صدق الأداة ، ثبات الأداة ، الوسائل الإحصائية ، وتحليل العينات وتم اختيار ستة نصوص مسرحية غربية وعربية وعراقية من اجل تحليلها بقصد معرفة مصطلح الجنسانية وتحولاته المعرفية في النص المسرحي.
أما الفصل الرابع ، فقد احتوى على نتائج البحث التي توصل إليها الباحث وأهمها:
1- انتقال السلطة من الجسد الذكوري إلى الجسد الأنثوي عبر الماضي والحاضر.
2- الجنسانية الشرعية المسيحية تورث مبادئ التقسيم بين الذكر والأنثى فالغريزة الجنسية تقع ضمن حدود المنظومة الزوجية لا خارجها.
3- العلاقات الجنسانية بين طرفي الذكورة والأنوثة غير متكافئة بسبب سلطة الذكر وتهميش الأنثى ، لذلك ظل الخطاب السوسيولوجي الثقافي مقوضا لأن الذكر والأنثى لا يؤديان الأدوار الجنسوية نفسها.
4- أصبح الفعل الجنسي شكلا من أشكال الهيمنة والاستيلاء والتملك.
5- إدراك الايروس والثاناتوس ضمن المستوى الذكوري بفعل الوعي الأنثوي الخلاق.
6- الشخصية الأنثوية هي الشخصية الفاعلة في الخطاب الأسطوري.
كما احتوى الفصل على الاستنتاجات ومجموعة من التوصيات والمقترحات وثبت المصادر والمراجع والملاحق والملخص باللغة الانكليزية.
) .
امنعوا التسول في التقاطعات -كاظم فنجان الحمامي
امنعوا التسول في التقاطعات
كاظم فنجان الحمامي
في البلد الذي تطفو مدنه وأريافه وبراريه وجباله وأهواره على اكبر بحيرات النفط المخبأة تحت قشرة كوكب الأرض منذ آلاف السنين, وفي البلد الذي منحه الله كل العطايا والمزايا والهبات والخيرات والثروات, ونشأت في رحمه أقدم السلالات. وفي البلد الذي تتكاثر فيه منظمات المجتمع المدني بالانشطار.
في هذا البلد العريق تتشقق الأرض في الصباحات الباكرة فتخرج منها جنيات ملثمات مجهولات الهوية, يرتدين البراقع السود, ويحملن أطفالا مستعارين, تمت برمجتهم وتخديرهم بالعقاقير المنومة, والأعشاب السحرية مضمونة النتائج.
يتجمعن قبيل بزوغ الشمس عند تقاطعات الطرق الداخلية, وحول الإشارات المرورية المزدحمة, يزاولن الاستجداء بالضرب على زجاج السيارات ونوافذها وسقوفها, من الصباح الباكر وحتى ساعة متأخرة من المساء, وتزداد نشاطاتهن في الأعياد والمناسبات والعطل الرسمية وغير الرسمية, التي تصل عندنا أحيانا إلى 364 يوم في السنة.
وفي خضم غياب المعالجات الحكومية الحاسمة لظاهرة استجداء النساء في تقاطعات المدن, وفي الوقت الذي تزداد فيه آلامنا لهذه المشاهد المحزنة والمخجلة, لا يسعنا إلا أن نطلق صيحتنا من هذا المنبر الحر, وندعو رجال الدولة كافة إلى وجوب الإسراع بوضع الحلول الإنسانية الناجعة لهذه الظاهرة المأساوية المستفحلة, وان يتجنبوا منعهن من الاستجداء بالقوة, فهن في أمس الحاجة للرعاية والعناية, ومعظمهن من ضحايا التهجير القسري, ومن ضحايا أعمال العنف الطائفي التي تركت عوائلهن من دون معيل. ومنهن من كان زوجها ومعيلها ضحية لإحدى التفجيرات الطائشة, التي تركته راقدا على سرير العجز الكلي.
تنامت هذه الظاهرة المفزعة في كنف التداعيات السلبية للحروب المتعاقبة والأزمات, التي مر بها مجتمعنا في العقود الماضية، والتي ذهب ضحيتها رجال العائلات الفقيرة، فضلا عما خلفه العنف السياسي المتهور من آثار خطيرة, أجبرت اليتامى والأرامل على الاستجداء، ودفعتهن للبحث عن لقمة العيش في تقاطعات الطرق المكتظة بالسيارات الفارهة, واستجداء عطف أصحابها وكرمهم .
فهل عجزت الحكومة عن توفير الرعاية لهن ؟, وهل فشلت حقا في تدبير السكن اللائق, ودفع الإعانات المالية للنساء المشردات والمفجوعات بموت ذويهن, وهل هي غير قادرة فعلا على انتشالهن من أوضاعهن المزرية ؟.
أم إن مواكب المسئولين لم تتوقف لحد الآن عند التقاطعات المرورية لكي ترى هذه الحقيقة المؤلمة, بسبب سرعاتها الفائقة, فهي دائما على عجالة من أمرها, بحيث لا يسمح لها وقتها الثمين رصد هذه المشاهد ؟. فسيارات المسئولين تتسابق في الطرق العامة كما الخيول الجامحة, تزبد وترعد وتصهل بأصواتها المرعبة, ولابد لنا من التحاور معها بلهجة المواعظ والحكم, ونقول لأصحاب الخيول الجامحة: إن الخيول إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق, فلا تكن الخيل أفطن منكم, فإنما الأعمال بالخواتيم, وأن زيف الدنيا زائل, وكل نعمة دون الجنة فانية, وكل بلاء دون النار عافية, فاتقوا النّار، ولو بشق تمرة. ولَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ. وينبغي أن تحاسبوا أنفسكم قبل فوات الأوان. وان تتصدوا بحزم لعوامل نشأة هذه الظاهرة ونموها, فالفقر والجهل والبطالة, وأعمال العنف والتخريب, وما رافقها من تهجير وتشريد للعوائل المنكوبة, وما تلاها من سلسلة تفجيرات إرهابية, هي الزوابع والأعاصير التي مزقت جسد المجتمع العراقي المنهك, وبعثرت كيانه.
ومما يبعث على الحيرة إن ظاهرة استجداء النساء المبرقعات انتشرت منذ سنوات في تقاطعات الطرق الداخلية لبعض المدن الخليجية المفرطة في الثراء, فهل مرت المدن الخليجية الغارقة في العسل بمثل ما مر به العراق من أهوال ومصائب وويلات ؟. الجواب: كلا. ولكن البلاء, كفاكم الله شروره, له جنود غير مرئيين.
السبت، 17 سبتمبر 2011
حـبٌ ورثـــــــــاء -الناصريةمدينة الكرما ء000لماذا الشجرة الخبيثة ؟
حـبٌ ورثـــــــــاء
الناصريةمدينة الكرما ء000لماذا الشجرة الخبيثة ؟
تعرف الناصرية بأنها مدينة الأدب والفن والسياسة 0
وقد تميز ابناؤها في مجالات :-
الادب والنقد والشعر والغناء والموسيقى والمسرح والتمثيل اضافة الى الفنون التشكيلية ، ناهيك عن السياسة وتضحياتها0
ويشهد لها التأريخ بشجاعة أهلها ونضالهم الطويل ، وكفاحهم ضد الأستعمار البريطاني والحكومات والأنظمة اللاوطنية والدكتاتورية 0
وكان لأبناء الناصرية دور فعال ومتميز عبر تاريخها 0 ودورهم في ثورة العشرين مثال بسيط على وطنيتهم 0
احدى عشائرها وتسمى:- ( آل إزيرج ) تقطن بين مدينة الناصرية وناحية الغراف التي تبعد مسافة 30 كم شمالاً، جعلوا من احد الاشجار مرصداً وساتراً لرصد القوات البريطانية التي تعسكرت بالقرب من اراضيهم ، لأقتناص افراد الجيش البريطاني0وبعد ان قتلوا عدد من افراده ، قام احد الضباط البريطانيين بالتحقيق والتحري عن مصدر النار التي تبطش بجنوده ، فتوصل الى استنتاج 0 ان تلك الشجرة هي السبب بقتل جنوده 0 فقال:- ( هذه الشجرة شجرة خبيثة ويجب ان تزال من مكانها) 0 فقلعوها 0
استخدمت بشكل خبيث ولئيم مقصود في تداول مفردة (الشجرة الخبيثة ) ضد مدينة الناصرية المناضلة ، من اجل الاساءة اليها وتشويه الصورة الجميلة لأبنائها الوطنيين الشرفاء
لكن وللأسف الشديد وبسبب جهل البعض لتاريخ وطنهم المشرف ، اخذوا يطلقون تسمية الشجرة الخبيثة على مدينة الناصرية دون ادراك او فهم قصدية هذه التسمية ولم يتخلوا عن اميتهم ويتقصون عن حقيقة شجرة الناصرية المشرفة 0
طوبا للذين فدوا ارواحهم دفاعاً عنك000 وسلاماً لما تبقى من شتات ابنائك المبعثرين في بقعاع الأرض
أحبـُّك رغـم غـــربتي
بعد اشراقة شمس الصباح 0000
تنهض حبيبتنا الناصرية من غفوتها وهي محتضنة بذراعيها عشيقها الأزلي
الذي لم يتخلى عنها يوماً
كان يغرقها بالحب الصوفي قبل زمن مضى
الفرات يمد جسده الرشيق الطاهر من رأسها حتى اطراف قدميها
يداعب ضفائرها بهدوء حتى تغفو بأمان وسلام ومحبة
مقبلاً جبينها 000 مقبلاً وجنتيها وبقدسية مؤمن متعبد
ماء وخضراء وقمر000
مناخ للعشاق يكتمل000
اصوات غناء العاشقين تصدح
للناصرية000 للناصرية
بو جناغ اريد وياك للناصرية
أو بثنين إديه بثنين إديه
تعطش وشربك ماي بثنين إديه 0
وصوت اخر يردد طرباً
ضي كمرة اوتوالي الليل
واعذيب الهوا إينسم
ومن جلسة سمر اخرى يتغنى الحبيب بصوت طربٍ جنوبي000
ياكمر تاني الحبيب اعلَ الدرب
تتنطرك عين المحب
وهناك إبكمرة ليل وي ماي النهر
كالت حبيب الروح علشاطي انتظر
كانت ليالي ابناء المدينة تتمتع بالجمال والحب والنقاء
تزهو شوارع الناصرية بحركة الناس 000
ارصفتها المتعبة ، تزينها خطوات النساء والصبايا الجميلات
نسمات معطرة بعطور القادمات
الأرصفة الخربة تمسك بأحذيتهن وتقبل اقدام الواقفات والعابرات رغم الاهمال
جسر الزيتون محظوظ هذه الايام
والجسر القديم ، بات اليوم حزيناً 000 شارك ابناؤها بكل الذكريات 000
لم ينجو هذا الجسر من حقد الاعداء
كان هدفاً لتحطيمه وتمزيق تاريخه وما يحمل من ناس واجمل الذكريات
وبعد ترميمه فقد بعض الصفات
جعلوه ممراً واحداً للعجلات والعائدين الى المدينة بعد ان اجهدهم تعب النهار
اختفى ذاك المسكين النحيف بعد ان مد جسده الهزيل فوق ماء الفرات لسنين من البؤس والحرمان حتى شاخ
نذر نفسه للسابلة والمتعبين والفقراء 00 قاوم تيار النهر وضربات الامواج بصبر ومعانات0
نكبــةمدينــــــــة اســمها الناصــــرية
يبدو ان الناصرية كانت تهز عروش الحكام بوطنية وشجاعة وايمان أهلها
فعملوا على تشويهها وتدمير كل مجالات الحياة الأجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية0
النسبة الكبيرة من ابناء الناصرية النجباء الذين يؤمنون بالافكار التقدمية كانت السجون والمشانق نهايتهم0
والبعض فضل وجع الغربة وألم التشرد مرغماً 0
وكذلك عدد من المثقفين والأدباء والفنانين فضلوا الهجرة خارج وطنهم فهي أفضل لهم من إذلالهم 0
أفرغت المدينة من ابنائها ولم يبقى فيها الا عدد قليل لا يملأ الفراغ 0
بعدها تم قتل الحياة في اهوار الناصرية والمناطق الريفية القريبة منها ، فتمت جريمة نزوح هؤلاء بكل مايحملون من تخلف وسلوك الى مدن الناصرية وكانت حصة مركز مدينة الناصرية كبيرة ومؤثرة على تغيير صورتها الحضارية والأجتماعية والمدنية0
سبق هؤلاء بفرض انفسهم على المدينة ألائك المبعدين من الكويت (البدون ) مستغلين قسوة الحصار علينا وتأثيره النفسي والاقتصادي 0 متباهين ومستقويين بأمكانيتهم المادية التي جموعها عن طريق خدمة الكويتيين لسنين من الاذلال والتقشف فأضطهدونا بعد سيطرتهم وسط المدينة 0
فتحققت اهداف وغايات الحاقدين والمتسلطين على رقاب العراقيين000
في كل مدن العالم يكون فيها مركز للمدينة يعتبر ( سنتر المدينة ) ويحضى بالرعاية والاهتمام من الجهة المسؤولة 0
في منتصف شارع الحبوبي الذي يمتدد من جنوب مدينة الناصرية الى شمالها ،تقع ساحة الحبوبي ، التي اصبحت تمثل مركز مدينة الناصرية وزينت بتمثال للعلامة المناضل والشاعر:- ( محمـد سـعيد الحبـوبي )
وهو يتوسط الساحة شامخاً، ماسكاً بعصاه وبيده الاخرى حاملاً وثيقة احتجاج
0 حزيناً 0ممتعضاً 0
لكن وللأسف اصبحت هذه الساحة الجميلة ساحة للفوضى ومرتعاً
تزدحم حوله قطعان من البهائم والرعاع واكداس من الازبال والمعدان ، ممتدة الى
الجهة اليمنى من شارع النيل ، شوهت صورة المدينة والمدنية الى صورة اخرى ، تعكس اسوء سلوكيات التخلف والجهل والشعوذة والدجل والعشائرية الأبتزازية
خجل هذا التمثال وهو يرى امام عينه هذا الانحطاط المخزي والمؤلم 0
احد المقاهى التي تحتل مساطبها مساحة واسعة شاغلة للمكان
اغلب روادها من المراهقين والمنحرفين والصبيان 000 متباهين بأنفسم ومسترخين على دخان الأركيلة بطعم المعسل وما خفي بينه كان اسوء واخطر0
مجموعة من ابناء المدينة الاصلاء يجلسون امام مقر جمعيتهم المتواضع مساء كل يوم ، يرتسم على وجوههم هموم ومأساة مدينتهم ، منعزلين عن الأخرين كأنهم منكسرين مندحرين أمام هذا الغزو الهمجي وهم لاحول لهم ولا قوة ، ابناء الناصرية طيبون 0
الحبوبي صامت بعد ذاك الزمان رغم الفوضى والضجيج والنهيق والعواء
الحبوبي ربما مخذولاً مما تبقى من ابناء المدينة وهم يقفون حائرين او سائرين جنب الجدران 0
يتخطون ضمن مسافة بضعة امتار ، أو معتكفين بين اربعة مقاهي وبنفس المكان
متحاورين او صامتين ، مختلفين في بعض الاراء والافكار 0
متفقين على استنشاق دخان السكائر وشرب الشاي الساخن بأعتباره اقل سخونة من غليان مشاعرهم ومتحدين لهب جو المدينة الذي أكسى بشرة وجوههم سمرة 0
احزن واتألم لبعض الفنانين والادباء 0
جعلوا من استراحتهم تلك المساطب الاسمنتية اوالخشبية البائسة على ارصفة بداية شارع النيل ملجأهم الوحيد ولا بديل 0
بعضهم يحدق في المارة عله يحظى بصديق يشاركه وحدته وهمومه المتراكمة ، والبعض مشغول بقراءة صحيفة او كتاب
واخرون شاغلين انفسهم بالحديث والحوار، واقدامهم متدلية فوق مجرى مياه الاوساخ الجارية بأستمرار0
الاتربة الممزوجة بالدخان تملأ الفضاء عند مرور السيارات
متذمرين من هذا الحال المفروض عليهم في كل زمان
بعضهم يتكلم مع نفسه متذمراً
وآخريتحدث مع صاحبه ويكش بيده 000ومنزعجاً من المكان
متسائلاً هل التغير اصبح محال ؟ 0 متمنياً ان تكون بأفضل حال 0
قروي قَدمَ من ناحية البطحاء ضمن نزوح اللألاف من خارج الأرياف ، ليجعلوا مدينة الناصرية مرتعاً وساحة للفوضى والخرافات والعودة بالمدينة والمدنية الى الوراء 0
هذا الهمجي الذي اصبح رواده البعض من الفنانين والأدباء 000 لايعنيه قيمة هؤلاء 000 المهم عنده ان يبيعهم الشاي
عجباً لهؤلاء ؟ كيف يتلذذون بالبؤس ويخلقون لأنفسهم همٌ ِومعاناة
يالسوء الاقدار 000 منذ زمن وحال مدينتي الطيبة 000 مدينة الغرباء 000 من سوء حال الى اسوء حال
مسكينة هذه المدينة
متى ترحمك الاقدار0 وهي تثقل عليك بالهموم والاحزان
كم هي طيبة مدينتي 000 بأعتراف النزلاء والغرباء
مدينتي 000 معروفة بالطيبة والسخاءوالكرم 000 والغريب انها اكثر كرماً وسخاء لضيوفها والغرباء حد نكران الذات
هذا ديدنك منذ زمان 000 قد لا اجده في أي مكان
مدينتي بعد الثناء وحسن الصفات 0
يطرح نفسه هذا السؤال :-
لمــاذا يامدينتي تلفضين الأبناء وتحتضنين الغرباء ؟
عذراً لك ، هذا جواب أبنك الشاعر (رشيد مجيد ) قبل رحيله ، التقيته بالصدفة فشكوت له غربتي0 في مدينة اخرى امر طبيعي ، لكن من المحزن ان اشعر بالغربة في مدينتي 0 فأجابني بألم قائلاً:-
انا أسمي هذه المدينة بالمدينة العاق ، لأنها المدينة الوحيدة التي تلفظ أبنائها !!
رحماك مدينتي فنحن ابناؤك الأصلاء ، الأوفياء
كفاك قسوة 0 ويكفينا قسوة الاخرين والزمان 0 عذراً مدينتي كنت صريحاً معك
واعلمي ان الآخرين هم افضل من وضعنا في اية حال
ســــلاماً مديـنـتــي000 تمنياتي لك بالشـفاء العاجل من هذا الوبـاء
أحد أبناؤك المخلصين
الناصريةمدينة الكرما ء000لماذا الشجرة الخبيثة ؟
تعرف الناصرية بأنها مدينة الأدب والفن والسياسة 0
وقد تميز ابناؤها في مجالات :-
الادب والنقد والشعر والغناء والموسيقى والمسرح والتمثيل اضافة الى الفنون التشكيلية ، ناهيك عن السياسة وتضحياتها0
ويشهد لها التأريخ بشجاعة أهلها ونضالهم الطويل ، وكفاحهم ضد الأستعمار البريطاني والحكومات والأنظمة اللاوطنية والدكتاتورية 0
وكان لأبناء الناصرية دور فعال ومتميز عبر تاريخها 0 ودورهم في ثورة العشرين مثال بسيط على وطنيتهم 0
احدى عشائرها وتسمى:- ( آل إزيرج ) تقطن بين مدينة الناصرية وناحية الغراف التي تبعد مسافة 30 كم شمالاً، جعلوا من احد الاشجار مرصداً وساتراً لرصد القوات البريطانية التي تعسكرت بالقرب من اراضيهم ، لأقتناص افراد الجيش البريطاني0وبعد ان قتلوا عدد من افراده ، قام احد الضباط البريطانيين بالتحقيق والتحري عن مصدر النار التي تبطش بجنوده ، فتوصل الى استنتاج 0 ان تلك الشجرة هي السبب بقتل جنوده 0 فقال:- ( هذه الشجرة شجرة خبيثة ويجب ان تزال من مكانها) 0 فقلعوها 0
استخدمت بشكل خبيث ولئيم مقصود في تداول مفردة (الشجرة الخبيثة ) ضد مدينة الناصرية المناضلة ، من اجل الاساءة اليها وتشويه الصورة الجميلة لأبنائها الوطنيين الشرفاء
لكن وللأسف الشديد وبسبب جهل البعض لتاريخ وطنهم المشرف ، اخذوا يطلقون تسمية الشجرة الخبيثة على مدينة الناصرية دون ادراك او فهم قصدية هذه التسمية ولم يتخلوا عن اميتهم ويتقصون عن حقيقة شجرة الناصرية المشرفة 0
طوبا للذين فدوا ارواحهم دفاعاً عنك000 وسلاماً لما تبقى من شتات ابنائك المبعثرين في بقعاع الأرض
أحبـُّك رغـم غـــربتي
بعد اشراقة شمس الصباح 0000
تنهض حبيبتنا الناصرية من غفوتها وهي محتضنة بذراعيها عشيقها الأزلي
الذي لم يتخلى عنها يوماً
كان يغرقها بالحب الصوفي قبل زمن مضى
الفرات يمد جسده الرشيق الطاهر من رأسها حتى اطراف قدميها
يداعب ضفائرها بهدوء حتى تغفو بأمان وسلام ومحبة
مقبلاً جبينها 000 مقبلاً وجنتيها وبقدسية مؤمن متعبد
ماء وخضراء وقمر000
مناخ للعشاق يكتمل000
اصوات غناء العاشقين تصدح
للناصرية000 للناصرية
بو جناغ اريد وياك للناصرية
أو بثنين إديه بثنين إديه
تعطش وشربك ماي بثنين إديه 0
وصوت اخر يردد طرباً
ضي كمرة اوتوالي الليل
واعذيب الهوا إينسم
ومن جلسة سمر اخرى يتغنى الحبيب بصوت طربٍ جنوبي000
ياكمر تاني الحبيب اعلَ الدرب
تتنطرك عين المحب
وهناك إبكمرة ليل وي ماي النهر
كالت حبيب الروح علشاطي انتظر
كانت ليالي ابناء المدينة تتمتع بالجمال والحب والنقاء
تزهو شوارع الناصرية بحركة الناس 000
ارصفتها المتعبة ، تزينها خطوات النساء والصبايا الجميلات
نسمات معطرة بعطور القادمات
الأرصفة الخربة تمسك بأحذيتهن وتقبل اقدام الواقفات والعابرات رغم الاهمال
جسر الزيتون محظوظ هذه الايام
والجسر القديم ، بات اليوم حزيناً 000 شارك ابناؤها بكل الذكريات 000
لم ينجو هذا الجسر من حقد الاعداء
كان هدفاً لتحطيمه وتمزيق تاريخه وما يحمل من ناس واجمل الذكريات
وبعد ترميمه فقد بعض الصفات
جعلوه ممراً واحداً للعجلات والعائدين الى المدينة بعد ان اجهدهم تعب النهار
اختفى ذاك المسكين النحيف بعد ان مد جسده الهزيل فوق ماء الفرات لسنين من البؤس والحرمان حتى شاخ
نذر نفسه للسابلة والمتعبين والفقراء 00 قاوم تيار النهر وضربات الامواج بصبر ومعانات0
نكبــةمدينــــــــة اســمها الناصــــرية
يبدو ان الناصرية كانت تهز عروش الحكام بوطنية وشجاعة وايمان أهلها
فعملوا على تشويهها وتدمير كل مجالات الحياة الأجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية0
النسبة الكبيرة من ابناء الناصرية النجباء الذين يؤمنون بالافكار التقدمية كانت السجون والمشانق نهايتهم0
والبعض فضل وجع الغربة وألم التشرد مرغماً 0
وكذلك عدد من المثقفين والأدباء والفنانين فضلوا الهجرة خارج وطنهم فهي أفضل لهم من إذلالهم 0
أفرغت المدينة من ابنائها ولم يبقى فيها الا عدد قليل لا يملأ الفراغ 0
بعدها تم قتل الحياة في اهوار الناصرية والمناطق الريفية القريبة منها ، فتمت جريمة نزوح هؤلاء بكل مايحملون من تخلف وسلوك الى مدن الناصرية وكانت حصة مركز مدينة الناصرية كبيرة ومؤثرة على تغيير صورتها الحضارية والأجتماعية والمدنية0
سبق هؤلاء بفرض انفسهم على المدينة ألائك المبعدين من الكويت (البدون ) مستغلين قسوة الحصار علينا وتأثيره النفسي والاقتصادي 0 متباهين ومستقويين بأمكانيتهم المادية التي جموعها عن طريق خدمة الكويتيين لسنين من الاذلال والتقشف فأضطهدونا بعد سيطرتهم وسط المدينة 0
فتحققت اهداف وغايات الحاقدين والمتسلطين على رقاب العراقيين000
في كل مدن العالم يكون فيها مركز للمدينة يعتبر ( سنتر المدينة ) ويحضى بالرعاية والاهتمام من الجهة المسؤولة 0
في منتصف شارع الحبوبي الذي يمتدد من جنوب مدينة الناصرية الى شمالها ،تقع ساحة الحبوبي ، التي اصبحت تمثل مركز مدينة الناصرية وزينت بتمثال للعلامة المناضل والشاعر:- ( محمـد سـعيد الحبـوبي )
وهو يتوسط الساحة شامخاً، ماسكاً بعصاه وبيده الاخرى حاملاً وثيقة احتجاج
0 حزيناً 0ممتعضاً 0
لكن وللأسف اصبحت هذه الساحة الجميلة ساحة للفوضى ومرتعاً
تزدحم حوله قطعان من البهائم والرعاع واكداس من الازبال والمعدان ، ممتدة الى
الجهة اليمنى من شارع النيل ، شوهت صورة المدينة والمدنية الى صورة اخرى ، تعكس اسوء سلوكيات التخلف والجهل والشعوذة والدجل والعشائرية الأبتزازية
خجل هذا التمثال وهو يرى امام عينه هذا الانحطاط المخزي والمؤلم 0
احد المقاهى التي تحتل مساطبها مساحة واسعة شاغلة للمكان
اغلب روادها من المراهقين والمنحرفين والصبيان 000 متباهين بأنفسم ومسترخين على دخان الأركيلة بطعم المعسل وما خفي بينه كان اسوء واخطر0
مجموعة من ابناء المدينة الاصلاء يجلسون امام مقر جمعيتهم المتواضع مساء كل يوم ، يرتسم على وجوههم هموم ومأساة مدينتهم ، منعزلين عن الأخرين كأنهم منكسرين مندحرين أمام هذا الغزو الهمجي وهم لاحول لهم ولا قوة ، ابناء الناصرية طيبون 0
الحبوبي صامت بعد ذاك الزمان رغم الفوضى والضجيج والنهيق والعواء
الحبوبي ربما مخذولاً مما تبقى من ابناء المدينة وهم يقفون حائرين او سائرين جنب الجدران 0
يتخطون ضمن مسافة بضعة امتار ، أو معتكفين بين اربعة مقاهي وبنفس المكان
متحاورين او صامتين ، مختلفين في بعض الاراء والافكار 0
متفقين على استنشاق دخان السكائر وشرب الشاي الساخن بأعتباره اقل سخونة من غليان مشاعرهم ومتحدين لهب جو المدينة الذي أكسى بشرة وجوههم سمرة 0
احزن واتألم لبعض الفنانين والادباء 0
جعلوا من استراحتهم تلك المساطب الاسمنتية اوالخشبية البائسة على ارصفة بداية شارع النيل ملجأهم الوحيد ولا بديل 0
بعضهم يحدق في المارة عله يحظى بصديق يشاركه وحدته وهمومه المتراكمة ، والبعض مشغول بقراءة صحيفة او كتاب
واخرون شاغلين انفسهم بالحديث والحوار، واقدامهم متدلية فوق مجرى مياه الاوساخ الجارية بأستمرار0
الاتربة الممزوجة بالدخان تملأ الفضاء عند مرور السيارات
متذمرين من هذا الحال المفروض عليهم في كل زمان
بعضهم يتكلم مع نفسه متذمراً
وآخريتحدث مع صاحبه ويكش بيده 000ومنزعجاً من المكان
متسائلاً هل التغير اصبح محال ؟ 0 متمنياً ان تكون بأفضل حال 0
قروي قَدمَ من ناحية البطحاء ضمن نزوح اللألاف من خارج الأرياف ، ليجعلوا مدينة الناصرية مرتعاً وساحة للفوضى والخرافات والعودة بالمدينة والمدنية الى الوراء 0
هذا الهمجي الذي اصبح رواده البعض من الفنانين والأدباء 000 لايعنيه قيمة هؤلاء 000 المهم عنده ان يبيعهم الشاي
عجباً لهؤلاء ؟ كيف يتلذذون بالبؤس ويخلقون لأنفسهم همٌ ِومعاناة
يالسوء الاقدار 000 منذ زمن وحال مدينتي الطيبة 000 مدينة الغرباء 000 من سوء حال الى اسوء حال
مسكينة هذه المدينة
متى ترحمك الاقدار0 وهي تثقل عليك بالهموم والاحزان
كم هي طيبة مدينتي 000 بأعتراف النزلاء والغرباء
مدينتي 000 معروفة بالطيبة والسخاءوالكرم 000 والغريب انها اكثر كرماً وسخاء لضيوفها والغرباء حد نكران الذات
هذا ديدنك منذ زمان 000 قد لا اجده في أي مكان
مدينتي بعد الثناء وحسن الصفات 0
يطرح نفسه هذا السؤال :-
لمــاذا يامدينتي تلفضين الأبناء وتحتضنين الغرباء ؟
عذراً لك ، هذا جواب أبنك الشاعر (رشيد مجيد ) قبل رحيله ، التقيته بالصدفة فشكوت له غربتي0 في مدينة اخرى امر طبيعي ، لكن من المحزن ان اشعر بالغربة في مدينتي 0 فأجابني بألم قائلاً:-
انا أسمي هذه المدينة بالمدينة العاق ، لأنها المدينة الوحيدة التي تلفظ أبنائها !!
رحماك مدينتي فنحن ابناؤك الأصلاء ، الأوفياء
كفاك قسوة 0 ويكفينا قسوة الاخرين والزمان 0 عذراً مدينتي كنت صريحاً معك
واعلمي ان الآخرين هم افضل من وضعنا في اية حال
ســــلاماً مديـنـتــي000 تمنياتي لك بالشـفاء العاجل من هذا الوبـاء
أحد أبناؤك المخلصين
الجمعة، 16 سبتمبر 2011
قراءة في فكر القرامطة-حواء سعيد عبد الفتاح
قراءة في فكر القرامطة
حواء سعيد عبد الفتاح
أديبة عربية
من مواليد مدينة الناصرة في فلسطين
تعمل معلمة للغة الانجليزية .
قال : عنها الأديب والكاتب والناقد المصري الأستاذ سمير الفيل /
الأستاذة / حواء سعيد ..
من الأقلام الجادة التي لفتت نظري
فهي تأخذ الموضوع بجد ، ولا تتأخر في أن تكون حاضرة ، وصاحبة كلمة ، وموقف ..
ربما من الأسماء التي كانت تعليقاتها منصبة في بنية النص لا خارجه .، بلا تهويمات في الفراغ ، أو تخريجات مطاطة مقصقصة الريش !! .
إنها تمارس عملها بحب و إخلاص لا حد له ..
وقال كذلك : على حواء سعيد في غير هذا الموقع .. وأذكر أنها قد ظلت تتعامل مع نصوصي القصصية التي أنشرها بذكاء، وفطنة ، ولمسة نقدية تشي بموهبة مؤجلة .
مرة قالت لي : إنني أنوي نشر قصة . ترددت في التحمس لها حتى قرأت عملها .
كان " بيت الدمى " هو نصها الجميل والمدهش ، والذي لم أكتب عنه كثيرا .. كنت وقتها متدفقا مع حدوتة (النقد ) بكل دفء وحرارة الذي تعرف على عالم جديد وغريب هو دنيا " النت " .. أعمل ليل نهار دون ان أكل أو أمل .
لكنني كنت بخيلا مع حواء سعيد ، وهي الكاتبة الموهوبة الدمثة التي تعمل في هدوء وصمت يليق بالزهاد .
في ضوء مقولة المفكر الجزائري [ محمد آركون ] (( مع اعتزازنا بالتراث لابد من قراءة جديدة له )) ، ولقراءة تأريخ القرامطة ، والتعرف على تلك الحركة الاجتماعية ، والفكرية ، والسياسية ، المغمورة في مدوناتنا ، والوصول إلى الأسباب ، التي أدت إلى خروج حركة اتهمت بالإلحاد ، ولم يمض على ظهور الإسلام سوى ثلاثة قرون !
فمنذ ظهورها، وحتى القرن الخامس للهجرة ، تصدت الأقلام المأجورة للكتابة عنها ، وسخرت خزائن المال والسلاح لمقاومتها ، ونصبت المشانق لكل أتباعها، وقطعت سيوف الخلافة أطرافهم ، وأحرقت مؤلفاتهم ، فتبخرت باحتراقها أفكار العلماء ، والفلاسفة ، والشعراء ، وكل من اتهم بمجاراتهم ، أو الاقتراب منهم .
إذن ، كيف لنا أن نقرأ تأريخ القرامطة قراءة جديدة ، دون تحيّز ، دون خوف ، دون استنتاجات مسبقة ؟
إن ثنائية ( السلطة /المعارضة ) من بداية تشكلها ، أي منذ أيام ( السقيفة ) إلى أيام صلب [ الحسين بن منصور الحلاج ] والقضاء التام على القرامطة وثورتهم الاشتراكية الخالصة ، ومن اتهم بجريمة الانتساب إلى فكرهم وحركتهم ، تحت أهم (فتوى) أعلنت من قبل السلطة آنذاك (( هذا داعية قرمطي فاصلبوه )) !
في بدايات تشكل حركات المعارضة ، والاحتجاج على ممارسات السلطة ، فمن [الكوفة ] أطلق [ زياد بن أبيه ] على هذه الحركة (( الجارية الحسناء )) ، لكنها أثبتت للتاريخ أنها (( نار متأججة )) حيث كانت هناك أسباب للتمرد ، والشكوى من سكانها ، وغالبيتهم من الفلاحين ، والحرفيين الحالمين بالعدالة ، والمساواة ، التي نادى بها الإسلام ، وأهمل تطبيقها حكام المسلمين .
صدر أول احتجاج ، أو نقد لإدارة [ أبي بكر] من قبل الأنصار ، والمسلمين الذين حضروا [ حجة الوداع ] وخطبة الرسول في [ غدير خم ] ولم يلتزم بها الخليفة بعد وفاته .
ثم عثمان ، وذلك حين قرروا الكتابة للخليفة ، يشكون له من سوء الأوضاع ، وتجاوزات عامله . سمّي الاعتراض في زمن أبي بكر [ ارتدادا ] ومأساة [ مالك بن نويرة ] نموذجا .
ثم في زمن عمر ، وإبعادهم أو إشغالهم بالفتوحات ، وتوسيع رقعة الإسلام .
أما في زمن عثمان ، والفتن وما بعده وتأجيج الفتن ، بتداخلات غير مسبوقة من قبل عائشة واتباعها !
إن ظهور حركة الخوارج ، كأول احتجاج منظم ، وخاصة بعد استشهاد الإمام علي بن أبي طالب( ع ) وما أدى إليه من حروب داخلية ،وفتن ، ومن ثم انتقال السلطة عن البيت الهاشمي ، إلى البيت الأموي ، تسبب بانقسام حاد في جسد الدولة الإسلامية الفتية ، ولم يكن انقسام المسلمين بعد مقتل عثمان هو البداية ، بل إن الفتنة ، كانت قد اشتعلت ، قبل ذلك التاريخ بأكثر من ربع قرن ، وبالتحديد في اليوم الأول لوفاة الرسول ( ص ) وفي سقيفة بني ساعدة يوم انتصار مقولة عمر (( الأمة من قريش )) .
إن وصول بني أمية للخلافة ، يمثل إذن تتويجا ، وتطبيقا عمليا لتلك المقولة .
وإذا كانت جماعة الإمام علي بن أبي طالب [ شيعته ] قد تحولت إلى فرقة دينية ، وخاصة بعد استشهاد الإمام ، وابنيه [ الحسن والحسين ] في كربلاء من بعده قد سار في مسار الأمويين ، في الدعوة لقريش فالاختلاف له جذوره التاريخية الموضوعية ، ومثلما ذكرنا أعلاه ، لولا حادثة [ السقيفة ] لما حدث ما حدث .
إن ممارسات بني أمية الوحشية ، الهادفة إلى الإبقاء على عروشهم وملكهم ، يجملها قول معاوية (( أنا أول الملوك )) وجعل القول فعلا حيث ورّث العرش لأبنه [ يزيد ] . وقد كانت فعلته هذه فتنة ، توازي فتنة عثمان وقميصه ، لأنها كانت تحولا مصيريا آخر عن مبدأ الشورى ، الذي اقره الإسلام ، ولم يطبق حتى في زمن الخلفاء الراشدين ، باستثناء خلافة الإمام علي بن أبي طالب ، حيث جاءت البيعة إليه ، دون أن يسعى إليها .
وأمام حركة [ التوابين ] ، و [شرطة الله ] ، و [ والكيسانيين ] ، والخوارج من قبلهم ، كان لابد من سقوط الدولة الأموية ، حيث تم ذلك بالتحالف [ الكيساني/ العباسي ] بعد أن عمّت الفوضى السياسية ، والتحولات الاجتماعية ، ووصول بني العباس للخلافة ، والتي لم يكن لهم في تأسيسها أي دور فعلي ، باستثناء القيادة الروحية ، المتمثلة بالشيعة الهاشمية ، وفرقهم منها [ الكيسانية ] أما الدور الحقيقي فانه يسجل [ لأبي مسلم الخرساني ] وجيشه ، ودعاته المنتشرين في أرجاء المعمورة .
وإذا كان بنوا العباس ، قد اعتلوا الخلافة باسم الدين ، والإمامة ، حيث قامت دولتهم على الخداع ، والدهاء ، والغدر . وكان قسم التحايل والمخادعة ، أوفر من قسم القوة والشدة ، على حد قول [ ابن طباطبا ] وكان أول ما فعله العباسيون ، هو نبش قبور بني أمية ، والتمثيل بما فيها ، وضربها بالسياط ، ثم صلبها ، وحرقها ، ودق رمادها ، وذرها في الريح ، وهذا ما فعلوه بالتالي مع الذين خرجوا عن طاعتهم ، مع عائلاتهم، فحينما قتل [ أبو جعفر المنصور ] [أبا مسلم الخرساني ] قيل له (( يا أمير المؤمنين ألان أصبحت خليفة )) .
كذلك لم يسلم منهم المفكرون ، والشعراء ، والأدباء ، الذين اتهموهم بالزندقة تارة ، وبالتآمر تارة أخرى .
أما شكل الحكم ، فلم يطرأ عليه أي تغيير ، عما كان عليه الحال ، في دولة بني أمية . إذ بقي الحكم وراثيا ، على رأسه بيت من بيوت قريش ، وكان من أزهى عصور الدولة العباسية ، عصر [ هارون الرشيد ] الذي جاء موازيا لما حدث فيه من عنف سياسي ، وأبشعه ما حدث [ للبرامكة ] الذين صودرت أموالهم وممتلكاتهم ، بعد إبادتهم جميعا . وكذلك واقعة [فخ ] في الحجاز وما آل إليه مصير [ الحسين بن علي الخير ] وأتباعه ، من تمثيل في جثثهم ، وقطع رؤوسهم وحملها على الرماح ، من الحجاز حتى بغداد ، حيث ادخلوها على الخليفة !
وكذلك ما حدث للعلويين ، وما رافق انتقال السلطة ، من خليفة إلى آخر ، من إراقة الكثير من الدماء ، والسلب ، والنهب ، كما هو الحال مع [الأمين ] وأخيه [ المأمون ] . ويشمل هذا الأمر كافة خلفاء بني العباس . ويبدو أن العنف يولد العنف . فقد شهد هذا العصر ظهور حركات معارضة ، أكثر مما شهده عصر بني أمية . واضطرت هذه الحركات إلى رفع شعار روحي ، ليكون مبررا لخروجها عن طاعة الخليفة العباسي .
باستثناء حركة واحدة ، وتجربة مختلفة مع [ أبي سعيد الجنابي ] وقرامطة البحرين ، ضمن حركات العلويين الكثيرة ، على طول العصر العباسي ، ومن قبله الأموي ، وأهمها حركة [ زيد النار ] ، الذي كان عقابه المفضل ، الحرق بالنار ، لكل من يلبس السواد . والولاء العباسي مرورا بحركة [ بابك الخرّمي ] و ثورة [الزنج ] ، التي عاصرت ظهور حركة القرامطة .
ومن الفرق الإسلامية العلوية [ الدعوة الإسماعيلية ] نسبة إلى [ إسماعيل ] الابن الأكبر للإمام [ جعفر الصادق ] وهذه الفرقة ينسبها بعض المؤرخين ، إلى الفرق الباطنية ، وكان لظهور الدعوة الإسماعيلية وبدايات تشكل حركة القرامطة في سواد الكوفة ، حيث ساد الفساد الإداري ، والانحلال الخلقي ، والتمييز العرقي والفوارق الطبقية ، مع نهاية الدولة العباسية جميعها مسببات لولادة معارضة فكرية ، اعتمدت في تحليلها للواقع ، وتصورها للمستقبل ، على أفكار فلسفية تناسب كافة الفئات التي تشكلت منها قاعدة الدعوة .
لهذه الأسباب جميعها ، استطاع الإسماعيليون ، وبفضل دعاتهم المنتشرين في أطراف الدولة العباسية ، التي لم يبق لخليفتها سيطرة فعلية عليها ، عندما أسسوا دولتهم الفاطمية الأولى ، في المغرب العربي ومصر . لكن هذه الدولة ، وحالما استقرت أمور أول خليفة لها [ المهدي ] حتى تكرر ما قام به المنصور العباسي قبل قرن من الزمان ، من تصفية لداعيته ، وتعذيب المعارضين ، وحبسهم ، وقتلهم ، إضافة إلى فرض الضرائب الباهظة ، على عامة الناس ، والتي تصب في جيب الخليفة .
لم يكن الحال كذلك في الدولة الفاطمية الثانية ، والتي تأسست في اليمن . فقد تمكن [ أبو الحسن الصليحي] من توحيد اليمن . دون تعصب لمذهب ، أو عقيدة . ولم يبشر بالدعوة الإسماعيلية بحد السيف . ولم يضطهد أتباع المذاهب الأخرى . وإنما ترك للناس حرية الاختيار ، وبالسلوك الحسن ، والاستقامة استطاع الوصول إلى قلوبهم ، وكسب ولائهم ، وإقناعهم بأنه داعية من اجل إعلاء كلمة الحق . لكن دولته لم تستمر طويلا .
وفي قلعة الموت ، حيث الداعية الإسماعيلي الكبير [ حسن الصباح ] كانت قد تشكلت الدولة الفاطمية الثالثة ، وبذلك فقد الخليفة العباسي سيطرته الفعلية ،على معظم الأراضي ، التي كانت تابعة لحكمه .
إن ما يميّز هذه الدول الثلاث ، التي بالنتيجة هي دول ذات مذهب واحد ، هو المذهب العلوي الإسماعيلي [فرقة من الشيعة ] . قولها وفعلها ( ( بعصمة الإمام )) وهذا الأخير يعتبر المرجع الثقافي الأعلى ، حيث أن السلطة المطلقة مرتبطة به وبالنتيجة فهي محصورة ب [ قريش ] . أما القرامطة فكان لهم رأياً آخر .
وإذا كان القرامطة الإسماعيليون ، قد شكلوا من البداية فرقة واحدة ، إلا إنهم مثل أي مدرسة عقائدية ، اختلفوا في أمور ، واتفقوا في أخرى .
لم تكن العصمة معروفة للقرامطة ، ولا يوجد من هو فوق [ النقد ] ، بما في ذلك الأئمة أنفسهم . أما اتفاقهم ، فكان في اعتماد رسائل [ أخوان الصفا ] ، ووضوح الفكر الشيعي التقدمي فيها . وكما كانت الكوفة مسرحا لاندلاع أول الثورات في عهد [عثمان ] حيث الأراضي الخصبة للثورات ، وحيث الطبقة المسحوقة ، التي ضاقت بنزق الحكام ، وبالفوضى السياسية السائدة ، فإنها أيضا ، موطن [ حسين الاهوازي ] أول دعاة القرامطة . وربما يكون هذا الداعية هو [ الحسين بن منصور الحلاج ] ، الذي دعى الفلاحين ، والحرفيين الفقراء ، إلى الإضراب ، وتعطيل الأعمال . كما نادى قبله الشهيد [ زيد بن علي ] . لكن الرايات البيضاء لم ترتفع في سواد الكوفة ، إلا مع [ حمدان قرمط ] المؤسس الحقيقي للمذهب . والذي اعتمد في حركته ، على قاعدة شعبية ، فقيرة في اغلب الأحيان ، ومن جنسيات ، وعقائد مختلفة . لذا كان منهج حركته عقلانيا فلسفيا ، اكثر من كونه روحيا عقائديا. وفي الحقيقة فان الفكر البديل ، الذي انتهجه القرامطة ، كان نتاجا لعصر [ التنوير ] ، الذي بدأ بعصر [الرشيد ] ، وبدار الحكمة ، في عهد [ المأمون ] وكذلك بالحركة النشطة للترجمة ، والتفسير ، والتأليف ، التي شارك فيها العلماء ، والأطباء ، والمهندسون ، والفلاسفة ، من جنسيات مختلفة .
لقد طبق [ حمدان قرمط ] النظام الاقتصادي ، في مجتمع الكوفة ، وبين مريديه . ومن الجدير بالذكر أن [ حمدان ] قد أوّل بعض آيات القرآن ، تأويلاً يحثُّ على الألفة ، والتعاون لصالح الجماعة . وفي ذلك تأويله للآية (( واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألّف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته أخوانا )) بأنه لا حاجة بهم إلى الأموال ، لأن الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم . وطالبهم بشراء السلاح وإعداده . وكان ذلك في السنة السادسة والسبعين ومائتين من الهجرة . كذلك فان الضرائب التي فرضها عليهم ، انتهت بنظام الألفة ، وهو (( أن تجمعهم أموالهم في موضع واحد ، يكونوا فيها أسوة واحدة ، ولا يفضل أحد منهم صاحبه ، أو أخاه )) وهذا الإجراء هو الأول من نوعه في تاريخ الإسلام ، علما بأنه في ما سبق ظهور [ حمدان قرمط ] كانت الأموال تجمع من الأتباع ، لترسل إلى الخليفة ، أو الإمام . أما حسب الترتيب الجديد ، فإنها تصرف على أولئك الأتباع ، كذلك وضع [ حمدان ] لجماعته نظاما خاصا بهم ، حرص فيه على اختيار الدعاة ، حسب الشروط والمواصفات التي حددها فلاسفتهم ، ومنها العلم ، والتقوى ، والسياسة ، والمخاتلة ، والمقدرة على الجدل .
وقد كان لأولئك الدعاة ، دور رئيسي في أمور الدعوة ، فقد حرص [ حمدان ] على مشاركتهم في القرارات المصيرية ، واختلف في ذلك عن الإسماعيليين ، الذين كانوا يعتبرون الإمام وحده مصدر التشريع ، وعلى ذلك النهج تأسس في ما بعد [ مجلس العقدانيين ] في البحرين . وطبق مبدأ الشورى [ الديمقراطية ] عند [ أبي سعيد الجنابي ] داعية [ حمدان ] والمخلص للتعاليم الجديدة ، وصاحب أول دولة اشتراكية . والرجل الذي جعل من حلم [ حمدان قرمط ] حقيقة ، بعد أن قضى العباسيون على حركة القرامطة في العراق .
إن دولة القرامطة التي تأسست في البحرين ، وهي بلاد شاسعة ، امتدادها من البصرة حتى عمان ، يقيم فيها أقوام من جنسيات شتى، وتتعايش فيها العقائد المختلفة ، من مسيحية ، ويهودية ، ومجوسية ، ووثنية ، إضافة للإسلام . وكانت ملجأ للهاربين من ارض الجزيرة ، وبؤرة الردة على ساحلها الشرقي . كما كانت ارض الخوارج ، ومنطلق الزنج ، فلا غرابة من أن يتمكن [ أبو سعيد الجنابي ] القرمطي، تلميذ وداعية [ حمدان قرمط ] وخلال فترة لا تتجاوز خمسة عشر عاما [من 286- 301هجرية ] من بناء مجتمع عقلاني يحكمه القانون، ويبدو أن ذلك القانون [ كان قانونا وضعيا ] لا علاقة له بالشريعة . و لربما كان اجتهادا عقليا مستمدا من الشريعة الإسلامية على الأرجح ، حيث أن تنفيذ أركانها لم يكن مطبقا . فعلى سبيل المثال ، أن الجامع رغم وجوده معطل ، والصلاة اختيارية . أما الموارد الاقتصادية للدولة القرمطية في البحرين ، فكانت تتأتى من مصادر عديدة ، أهمها الضرائب التي كانت تجبى من السفن المبحرة في الخليج ، ومن تجارة اللؤلؤ ، وعائدات الشام ، والكوفة ، وطريق الحج ، إلى جانب مغانم الحروب ، وضرائب باب البصرة ، المفروضة على البضائع الخارجة منه إلى الخليج . ولم تذكر المصادر عن ضرائب فرضت على سكان البحرين ، أو محاصيلهم ، بل أن نظام الزراعة واستغلال الأراضي ، قد تحول إلى ملكية الدولة ، حسب نظام خاص لزراعة الأراضي وفلاحتها ، على أن يكون الإنتاج للجميع ، إلى جانب قيام الدولة بتوفير كافة المتطلبات الرئيسية لسكانها ، فالمسكن مؤمن ، والأراضي الزراعية تنتج كميات تزيد عن الحاجة وتكفي الطلب ، والطواحين تطحن بالمجان ، وبذلك ألغى [ الجنابي ] الملكيات الخاصة ، كما فعل [ حمدان قرمط ] من قبل . وأصبح نظام الملك جماعيا . أقول ربما اطلع الشيخ الألماني [ كارل ماركس ] على تاريخ الشعوب ، والحركات الثورية في بلاد مابين النهرين [ العراق نموذجا ] و لربما ( وهذا ليس نقصا ) انه غرف من الإسلام ومن معين القرامطة ، وثورتهم ، وجمهوريتهم ، ودولتهم التي أسسوها في العراق ، والبحرين . وليس من الضعف ، أو العيب ، بل إن من القوة تلاقح واندماج ما يخدم الإنسانية على هذه المعمورة ، من أفكار، وتجارب ، وعلم ، وفلسفة ، وكل جوانب العلوم الأخرى ، والنظريات ، لتسخير كل الخير، بما يتطلبه البناء في تقويم الإنسان ، وخاصة المستضعفين في الأرض . وهكذا كان متفقهوا شيعة العراق ، وتحديدا القرامطة . ومن هذه العبارات والدلالات ، نقول أن [ ماركس ولينين ] هم أبناء وأحفاد ل [ حمدان قرمط وأبي سعيد الجنابي ] وامتداد لهم ، فهم قرامطة الحداثة والتقدم في هذه القرون الجديدة .
ومن سنن القرامطة في جمهوريتهم الاشتراكية الأولى في التاريخ ، جمع المواشي ، والإبل ، والمحاصيل والثمار ، وتخصيص من يرعاها بصورة محددة ، وتحويل كل نتاج الأرض للسلطة المركزية . وتم تخصيص نظام مالي ، يمنح من خلاله جميع الأتباع ما يكفيهم للمعيشة . فلا غرابة إذن أن تهتز ارض العراق أمام شعارات القرامطة وأعلامهم البيضاء ، التي كتب عليها (( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ، ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين ))
وعلى خطى [ حمدان قرمط ] كان [ ماركس ] وكان [ لينين ] في ثورته الاشتراكية ، التي غيرت وجه التاريخ والدنيا معا ، فهما قرامطة العصر الحديث فلسفة وتطبيقا .
ومن أفكار [ حمدان قرمط ] استمد [ أبو سعيد الجنابي ] عدم ادعائه بالنسب العلوي ، كما فعلت جميع الحركات الإسلامية قبله . ولم يعلن نفسه إماما. وعلى هديه سار أتباعه في نهج ديموقراطي ، وسلوك في غاية التواضع ، وكان[الجنابي] يدير السلطة من خلال مجلس استشاري [ مجلس العقدانيين ] ، مكوّن من ستة أشخاص ، يساعدهم ستة وزراء . وبعد مداولتهم بالأمور، يصدرون قراراتهم وأحكامهم بالاتفاق . ولأن حركة القرامطة إصلاحية عقلانية ، فان حرية المعتقد مكفولة ، وان علاقة الإنسان بربه (( دون وسيط سواء كان ذلك الوسيط أمام جامع أو حجرا مقدسا )) من هنا يمكن تفسير سرقتهم ل [ الحجر الأسود ] واحتفاظهم به في دولتهم اثنان وعشرون عاما .
في ظل هذه الأوضاع، لم يبق للسلطة العباسية إلا أن تسخر جميع طاقاتها لمحاربة (( أعداء الله والمسلمين )) كما زعموا باطلا، فشحذت أقلام المؤرخين الطبالين لتهاجم القرامطة، ليس بسبب معتقداتهم الدينية ، بل لأنهم كانوا يهددون الخلافة ، وبلاط الحكم ، ولأنهم تميزوا عن جميع الفرق الأخرى ، بنجاحهم في تأسيس دولة ، تتعايش فيها الأقوام ، والمذاهب المختلفة ، وتقوم على أسس لاقت استحسان ذلك الخليط من البشر . وأخذت تعاليمها من تراثهم ، وفلسفتهم ، ولبت حاجاتهم للحياة الآمنة .
وبالرغم من تكفير البعض لهم ، بحجة الخروج عن التفسير الرسمي للقرآن الكريم وتأويل آياته ، فان [ أبي حنيفة ] أحد أصحاب المذاهب الأربعة (( قد أفتى بالقتال إلى جانبهم ، وبمساندتهم عسكرياً )) ويعني هذا ضمن ما يعنيه أن تأويلهم للآيات القرآنية لا يبعدهم عن حظيرة الإسلام .
كانت حركة القرامطة حركة فكرية اجتماعية ، لم تتاجر بالدين ، ولا بالطائفية . وكان هدفها إقامة مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية ، والمساواة بين الأجناس ، والألوان ، والأعراق ، وان غايتهم في إقامة جنة على الأرض ، لم تبعدهم عن إيمانهم في وجود جنة سماوية في الحياة الأخرى . وما تعطيلهم للمساجد إلا بسبب تحويلها لتكون منبرا للخليفة دون الملة ، ومركزا للدعاية له ، دون الاهتمام بأمور الرعية ، ولا بالأحوال المتدهورة ، في أنحاء مناطق الخلافة العباسية .
وهنا علينا أن نضع حركة القرامطة أمام أنفسنا لنتأملها مرة أخرى ، ولنتأمل الوجه الآخر ، الذي نرفض الاعتراف به ، أو بوجوده. حيث أن حركة القرامطة تثير قضية معرفية غاية في الأهمية ، ألا وهي تأويل القرآن. وبالتأكيد فان قضية تأويل القرآن باعتباره النص المركزي عند المسلمين ، ليست قضية معرفية فحسب وهذا هو الدرس الأكثر بلاغة ، وفاعلية ، وحياة .
فان كانت جميع الفرق الإسلامية ، رسمية كانت أم معارضة ، تدعي في حججها أنها لم تخرج عن روح النص المركزي ، أفلا يعني هذا انه ليس هناك قراءة بريئة ؟
وان لكل قراءة سلطة ؟
اعتقد أن الجواب نعم
وكلمة أخيرة في هذا السياق ، أقول : ولا اعتقد أن شخصا ما ، لديه ضمير حي ، أو حس إنساني تاريخي ، يمكن أن يغفل أن تاريخ البشرية يقسم إلى فترتين فقط كانت الأولى في العراق ، حيث انتصر الفقراء بقيادة [ حمدان قرمط ] على الحكم العباسي وأسسوا أول دولة شعبية . وعندما حوصروا انسحبوا إلى البحرين ودامت دولتهم نحو ( 124 سنة ) وكانت الفترة الثانية في روسيا ، بقيادة [ لينين ] وجموع الكادحين ، واستمرت ( 74سنة ) غيرّت مفاهيم الشعوب ، قضت على الاستعمار ، أنهت أسطورة تحكّم الأرستقراطية ، وحققت إنجازات لا تحصى للبشرية ، ثم سقطت بفعل [ التبويش ] التفريغ ، والتآكل الداخلي ، والتآمر الخارجي .
فهل ستعود يوما ؟
نعم ستعود ، ولكن بشكل إنساني أعمق ، وبإطار ديمقراطي أشمل ، ووفق ممارسات لا تبوأ القيادة فيها إلا إلى المخلصين ، فالتاريخ [ وكما تعودنا ] يعيد نفسه بصيغ حضارية متقدمة
ثورة الزنج في البصرة قراءة معاصرة-خضير حسين السعداوي
ثورة الزنج في البصرة قراءة معاصرة
خضير حسين السعداوي
الحوار المتمدن - العدد: 2460 - 2008 / 11 / 9
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
واني وان كنت الاخير زمانه لات بما لم تستطعه الاوائل
قيل لصاحب هذا البيت وهو ابو الطيب المتنبي الاوائل اتوا بثمان وعشرين حرفا فاجعلها تسع وعشرين حرفا .
انا مقدما لا اقول ساتي بما لم تستطعه الاوائل وانما اقول ساتي بما كتبه الاوائل عن حدث استمر ما يقارب اربعة عشر عاماهي احداث الثورة هذا الثورة التي كتب عنها الكثير الا انها لم تنصف اما بدوفع قومية شوفينيةعنصرية تنظر الى الزنج نظرة دونية اوبدوافع دينية متزمته لاتفهم الاسلام على انه دين المساواة بين البشر او بدوافع سياسية و هذه الثورة هي امتداد لسلسله من الثورات كانت البداية الحقيقية لرفض الظلم والانحراف عن خط الاسلام الاصيل هي ثورة الحسين بن علي (ع ) العام 61 هجرية وقد جوبهت هذه الثورات عسكريا واعلاميا فالمواجهات العسكرية معروفة جيوش تتقاتل ولكن اخطر ما واجه هذه الثورات هي المواجهات الاعلامية والاقلام التي تدور في فلك السلطة التي ارادت ان تشوه وجه هذه الحركات التي استشعرت معاناة الناس وقاومت الانحراف عن طريق الاسلام الصحيح بعد ان تحولت الخلافة الى ملك عضوض .
الثورات اوحركات التمرد او النهضة او التصدي هي تسميات لحالة واحدة جهد انساني لازالت حالة معينة يشعر الثائر انها خاطئة من وجهة نظره بقيت طريقة التعبير عن وجهة النظر بهذه الاشكال التي ذكرنا او بالطرق الحديثة في ابداء الراي عن طريق الانتخابات اوغيرها من الوسائل الحضارية التي ابتدعها العقل البشري . في العصور الاسلامية سلك المعارضون للسلطات طريق الثورة وهي جمع الاتباع والموالين لقائد الثورة والناقمين على السلطان واغلب الثورات والحركات المعارضة في الفترة الاموية والفترة العباسية هي المعارضة العلوية ومعارضة الخوارج .
ثورة الزنج من الثورات التي جنى عليها وعلى قائدها المؤرخون فبما ان الثورة فشلت والتاريخ يكتبه المنتصر ولدينا شواهد عدة ، في العراق مثلا ماحدث بعد انقلاب شباط الاسود عام 1963 وقتل الزعيم عبد الكريم قاسم كان يؤرخ لهذا الحدث على انه عروس الثورات وانها قامت ضد الدكتاتورية والشعوبية الذين انحرفوا عن مسار ثورة 14 تموز وتدرس لابناءنا في كافة المراحل الدراسية وكذلك انتفاضة شعبان / اذار عام 1991 كان يؤرخ لها على انهم مجاميع غوغاء او صفحة الغدر والخيانة هذه المجاميع كل همها السلب والنهب والقتل وهذه احداث لم تغادرنا بعيدا كيف باحداث وقعت قبل اكثر من 1000 سنة تقريبا فانبرى المؤرخون يكيلون الذم لعلي بن محمد واول ذم له هو التشكيك في نسبه بانه ليس عليويا واخر نسبه الى انه فارسي يريد ان يطيح بالخلافة العربية في حين ان التاريخ الذي حدثت فيه الثورة وهو عام 255 للهجرة ليس للعرب اي سلطان وانما كان الحل والعقد بيد الاتراك يولون ويعزلون الخلفاء هذا اضافة الى المبالغة في تهويل الاحداث وهذه الحالة اتبعتها السلطة قبل القضاء على الثورة لارعاب الناس بان الزنج سوف يقتلونكم سوف يبيدونكم هذا الاعلام الموجه جعل كثير من الناس يصدق ما تقوله السلطة في الوقت الذي نقرا عن علي بن محمد ونفس المؤرخين انه كان شاعرا وعالما يمارس في سامراء تعليم الخط و النحو والنجوم اذن قائد الثورة عالم وليس قاطع طريق وكان مسلما ملتزم بتعاليم الاسلام التي تقرا الاية القرانية (( انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم )) هذه الاية التي تؤكد ان لا تمييز بين بيني البشر انما المقياس جاء على التقوى والورع وكذلك قوله تعالى ((وكرمنا بني ادم ))و على قول امير المؤمنين علي بن ابي طالب ((ع)) (( ان الانسان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق)) من المنطقي ان اي توجه من هذا النوع يرعب الطبقات المتنفذه والتي تسيطر على الاراضي الزراعية والبساتين والضياع والثروة الحيوانية والتي كانت في ذلك العصر هي وسائل الانتاج اضافة الى السلطان والجاه الذي يتمتع به السلاطين من الاتراك والعباسيين في الوقت الذي يعيش الفقراء الفاقة والحرمان كحالة الزنج في البصرة وعندما يرفضون هذا الظلم ويكسروا اغلالهم ويقفوا بوجه مستغليهم يصبحون خارجين على اولي الامر والمشكل ان اغلب مثقفينا يعرف تفاصيل دقيقة عن ثورة العبيد في روما بقيادة سبارتكوس ومافيها من وجع انساني حيث يودع العبيد في ساحات خاصة ليتقاتل اثنين منهم وتكون النتيجة ان احدهم يجب ان يقتل الاخرلادخال السرور الى قلب القياصرة في التمتع بهذا المنظر الهمجي وفي حالة عدم قتل احدهم الاخر يقتل الاثنان معا وما رافقها من انتفاض سبارتكوس عندما اختير ليقاتل احد ابناء جنسه للتخلص منه بعد ان شعر القياصر بنفوذه وحب العبيد له وكانت النتيجة ان بدل ان يتقاتل الاثنان هجموا على القيصر الا ان صديقه قتل من قبل الحرس مما اشعل فتيل الثورة المعروفة . نعرف كثيرا عن سبارتكوس افلام و روايات وحتى هنالك فرقة باليه بلاروسيا قدمت عملا تجسد معاناة العبيد في روما في ثورة الزنج كثير من المثقفين لا يعرف الا اليسير عن هذه الثورة في الوقت الذي تتشابه مع ثورة العبيد في كثير من النقاط واهمها انها استشعرت معاناة الانسان وثقل الاستغلال والاستعباد الذي كانت عليه البشرية في تلك الحقبة.
في ثورة الزنج في البصرة هنالك اختلاف واحد عن ثورة العبيد ان القيادة للثورة جاءت من خارج الزنج حيث ان القائد علي بن محمد لم يكن من الزنج ولم يسترق من احد وانما كان حرا طليقا وهنا تكمن روعة علي بن محمد قائد الثورة لان اسبارتكوس ثار نتيجة وقع الظلم الذي يعان منه هو وابناء جنسه اما علي بن محمد فلم يكن وقع عليه ما وقع على الزنج الذي ثار لاجلهم وقد ساءه ما لاحظه من امتهان لكرامة الانسان انه قال(( لم يثر لغرض من أغراض الدنيا، وانما غضباً لله، ولما رأى عليه الناس من الفساد".. وعاهدهم على أن يكون، في الحرب، بينهم حيث قال"أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي" بل قال لهم: "ليحط بي جماعة منكم، فإن أحسوا مني غدراً فتكوا بي؟! ". وبالفعل كانت نهايته انه قتل في الميدان كاي زنجي من هؤلاء الثائرين وانطلاقا من كونه يحمل فكرا ثوريا مستمدا من النسب العلوي الذي ينتسب له حيث تؤكد بعض المصادر انه هو علي بن محمد بن احمد بن عيسى بن زيد الشهيد الذي قتل في ثورته المعرفة ضد الامويين في الكوفة بن زين العابدين بن الحسين بن على بن ابي طالب وحتى لوكان مدعيا لهذا النسب فانه قام بعمل من صلب تعاليم الاسلام وهو نصرة الضعفاء والاقتصاص لهم من ظالميهم ، لقد توفرت العوامل الموضوعية والذاتية لقيام الثورة حسب المصطلح الحديث فالعوامل الموضوعية منها عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية
• االعوامل السياسية: شكل التسلط التركي على مقاليد الامور السياسية سببا مهما عندما اصبحوا يولون ويعزلون الخلفاء حسب اهواؤهم ورغباتهم مما خلق تذمرا كبيرا لدى كثير من المسلمين وخاصة العرب الذين همش دورهم مما دفعهم للثورة علما ان كثير من كبار قادة الثورة هم من العرب وليس من الزنج ولكن غلبة التسمية عليها بثورة الزنج نظرا للاغلبية الكبيرة التي شكلها الزنج في هذه الثورة
• العوامل الاقتصادية: هذه العوامل من اهم العوامل التي تهيء للثورة قاعدة من السخط ضد الاوضاع المزريه التي يعيشها الناس وظهور تمايز طبقي كبير بين فئاةابناء الدولة الاسلامية فتجد ثراء فاحش الى جانبه فقرا مدقع وخاصة بالنسبة للزنج الذين يكدحون طول النهار لمجرد سد الرمق في اعمال مضنية جعلهم يستجيبون لكل نداء يشعرون انه ينتشلهم مما هم عليه
• الدوافع الاجتماعية: التمييز العنصري الذي يعامل به الزنوج جعل منهم يتوقون الى اي دعوة تستشعر مساواتهم كبشر مع بقية الناس وقد جاءتهم الفرصة على يد علي بن محمد
اما العومل الذاتية فوجود خط ثوري في التاريخ الاسلامي يتفجر بين فترة واخرى الا وهو اسلام الجوهر والذي يختلف عن اسلام السلطة هذا الخط بدا عام 61 للهجرة بواقعة الطف وبقي مشتعلا رغم القسوة المتناهية التي استخدمت ضد هذا الخط عسكريا واعلاميا فكما اشيع عن ثورة الحسين بانهم خوارج استخدمت شتى الاساليب ضد الحركات الثورية التي اعقبت
واقعة الطف فعندما تقلب التاريخ ترى العجب عما كتب عن هذه الثورات والحركات التي قاومت السلطة فاول اتهام انها فئات باغية بغت على اولي الامر حيث يتوجب ابادتهم وبشتى الطرق اهداف الثورة سياسية واقتصادية واجتماعية
الاهداف السياسية
رفض سلطة بني العباس القائمة على الوراثة والخاضعة لقادة الجند الاتراك
الاهداف الاقتصادية
انتزاع ملكيات الاراضي التي يسيطر عليها الملاك والدهاقين الفرس واعطاءها الى الفقراء الذين يعملون بها اي انه طبق شعار((الارض لمن يزرعها ))قبل ان يعرف في العصور الحديثة
الاهداف الاجتماعية
تحرير الزنج من العبودية والاسترقاق ومساواتهم مع بقية البشر في الحرية دون تمييز خاصة وان اغلبهم مسلمون والاسلام لا يميز بين بني البشر كما اشرنا اعلاه
الخميس، 15 سبتمبر 2011
أختام عراقية معاصرة,عادل كامل:القسم الثاني
أختام عراقية معاصرة
عادل كامل
القسم الثاني
[1] من الظلمات إلى النور
بين أن اترك أصابعي ترسم أشكالا ً لا واعية، أو غير مقصودة، وبين أن اصف العملية لأجل التدوين، إجراء شبيه بأول من رسم المثلث، أو الدائرة، وبين من كان يجد تبريرا ً ـ وتأويلا ً لهما. ثمة مسافة مزدوجة بين التنظير والتطبيق، وهي المسافة التي تتقلص ـ حد التلاشي ـ في التنفيذ، وتتسع في حالة الكتابة، حد التجريد، واللا حافات ـ أو اللا موضوع في نهاية المطاف.
هل كانت أصابعي تؤدي ما كان يدور في راسي ـ أو في كياني ـ من الأصابع إلى المخ، أم أن هناك انحيازا ً للحواس، أو للعقل في سيادة أسلوب أو موضوع محدد في التجربة؟
عندما وجدت نفسي ابتعد عن لون الخامة، وملمسها الطبيعي، وجدت بصري ينبهر بالألوان، فكنت امتلئ بنشوة شبيهة بنشوة طفل اكتشف أن الأرض لن تخذله بما تمنحه من عناية سأجدها ليست رمزية فحسب، بل وجمالية!
وإذا كنت حريصا ً بعدم الخلط بين النادر والتقليدي، وبين الفردي والجمعي، فان للألوان دورا ً مغايرا ً للتخطيط أو للتكوين، وحتى للمعاني. ففي سنوات الجدب العاطفي كانت الألوان لا تشكل جسرا ً ولا علاقة ولا لغة مع الآخرين، وكأنني كنت اعترف ضمنا ً بالعمى اللوني، مما جعلني أكرس سنوات لكتابة (الأوثان) بعد (عند جذر الوردة)، وبعد (ألفية الولد الخجول)، وهي تجارب لا تخفي ذلك اليباب بموت الإنسان، وليس بموت الفن أو موت الفلسفة حسب. ولم يكن هذا اكتشافا ً نظريا ً أو نقديا ً، بل جاء بفعل التجربة ذاتها.
فعندما يشتغل البصر، تكف الأصابع عن تباهيها بدورها. إنها تغدو زوائد كأرجل خنفساء كافكا بعد أن انقلبت ووجدت نفسها في مأزق: لا تعرف ماذا تعمل. على أن أصابعي كانت ترقص ـ إنها تؤدي الدور الذي أومأ إليه بوذا ، وجدنا للرقص. بمعنى أنني ـ هنا ـ رحت استبعد أي اهتمام بالمخالب، وبالدفاعات، والمضمرات العدوانية. فالسلام مع العالم غدا دربا ً متحدا ً مع غاياته. فأنا لا أريد أن أصل إلى نهاية الطريق ـ لا لأنه في الأصل لانهاية له، وإنما لأن الحركة ذاتها تمتلك لغز غايتها في السلام الروحي ـ بل أنا حررت ذاتي من الغاية عدا أنها سكنت الدرب. هذا المشترك بين الخامة والمقدمة سمح للألوان أن تعيد للأختام ـ النصوص المضادة للأثر ولكن السالكة دربه ـ بحجة إنسان لم يعد يجد في عالمه إلا تأملات كائن محكوم بسجن لا أبواب له ولا منافذ. فيا لها من لذّة ملغزة دمجت البصري، المرئي، بما هو ابعد منه، ابعد من رؤية ذرات ذات أطوال تتجاور باختلافها وتنوعها نحو مفهوم للروحي عبر اللذّة.
هل ثمة علاقة ـ صلة ـ ما تسمح للقلب أن يضطرب، أم ذكرى ما تتجدد ـ وتجدد ـ، لبرهة من الزمن، عمل الومضات؟ لا امتلك إجابة دقيقة، وأمينة، مع نفسي، بقدر انشغالي بحركات طفل ـ هو حفيدي ـ راح يذكرني بان العالم مازال حاضرا ً وزاخرا ً بالعطور والصخب.
وجدت بصري يعيد ـ بعد أن كانت الأختام علامات حرصت أن لا أنهكها بالمشفرات ـ معالجة الخامات بألوان طالما غذت سنوات طفولتي: الوان بعدد الذرات، وليس بعدد الأشكال! فالعالم ـ إن كان خارجيا ً أو داخليا ً ـ لم يعد مجموعة قوانين صارمة ومحكمة حد أنها دمجت النهايات بمقدماتها.
على أنني لم أتوقف عن متابعة كتابة فصول رواية استذكر فيها سنوات ما قبل عام 1980، عام الحرب. لكني توقفت لشهرين في الأقل عن الكتابة بسبب زميل كلفني بعمل وجدت نفسي أنجزه بلذة مرة ، وفي الأيام ذاتها (نيسان 2011) كان علي ّ أن أقدم نموذجا ً تخطيطيا ً لنصب كي احصل على مبلغ يساوي راتبي التقاعدي لخمسة أعوام، لكني ـ بدل ذلك ـ وبعد أن تحررت من تكليف زميلي لأيام خلت ستطول ـ انشغلت ـ ليلا ً بمتابعة الدوريات الأوروبية: الاسبانية/ الانكليزية تحديدا ً ـ ثم نهارا ً: أن لا أميز أكانت الألوان هي التي أعادت لي بصري، أم بصري هو الذي سمح لي أن أجد في الألوان عملا ً شبيها ً برسامي الكهوف وهم يؤدون أعمالا ً لم تبلغ نهايتها، في موت الحواس، أو في محوها، أو في جعلها تعمل بلون واحد.
كم استغرقت كي اعرف أن المسؤولية التضامنية بين البشر ـ في عالمنا برمته ـ وحدها تخفي عملا ً ما في حياة لن تبلغ نهايتها، لكني عمليا ً كنت دمجت النهايات بالأمل، والمشهد الكلي بأدق ما تراه الأصابع، لبصر لم يكل عن نسج تجمعت فيه العناصر ذاتها التي ـ أحيانا ً ـ تبدو خارج الرؤيا، والرؤية ـ وخارج مدى حركة الأصابع ـ ونبضات القلب.
كانت للألوان، داخل جدران غرفة مكتظة بالكتب، والصحف، والصور، رائحة طفل ـ هو حفيدي علي زيد ـ تغويني بالحفر في مدافن قلب لم يعمل دائما ً بالمثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! ذلك لأنني لم اقلب ـ ولم اعدل ـ المثل بل رحت أوازنه بمضاداته. فالموت ذاته لم يعد إلا لغزا ً تتكون عبره الصيرورات ـ لكنني لم أقع في الغواية، ولم أهلهل لها، ففي الحكاية ذاتها التباساتها، ماضيها ومستقبلها: آثامها/ جدلها/ مفاتيحها/ انغلاقاتها مما جعلها تمتلك قدرة الامتداد، واستكمال دورتها. فانا مادمت لم اقدر على اختيار الموت، لم اختر الحياة كي ارتقي بها إلى النذالة، والعدوانية، والخساسة، بل رحت أعالجها كحقيقة علي ّ أن اترك كياني برمته أن يجاورها، نحو السكن فيها، ومعها، بصياغة ألوان تعيد للأعمى ـ الذي هو أنا ـ دربا ً سمح لي أن أوازن بين اللا وجود ـ والمرئيات، عبر ألوان تتحدث عن شهادة أعمى يمشي من الظلمات إلى النور، ومن العتمة إلى الفناء.
[2] ضد السلعة
الحقيقة الأقل إثارة للجدل ـ ولكنها الأكثر التباسا ً ـ أن الزمن يكمل دورته: إنه لن يرتد. وبمعنى ما كنت أتخيل ـ وأنا في المناطق النائية التي وجدت سكني فيها ـ مشهد اللا زمن: اللا مشهد، فازداد سكينة طالما أحسست أنني جزء من مديات تتخللها ومضات، وتصادماتـ وإشعاعات،فاستنجد بما فعله أسلافي: صناعة دفاعات! فثمة (عدو) ما يهدد اقتلاع كياني، جعلني اكتشف ـ ببساطة ـ أن المفتاح الذي امسك بدورته في القفل هو جزء من كياني ذاته! فلا أجد لذّة توازي عدم إهمالها تشاطرني الشرود: انه ليس الاكتشاف، وليس البحث، إنما هو هذا الذي لا امسك فيه وقد راح يتكوم فيّ، يتناثر مجتمعا ً في أقاصي هذا الشرود. وبمعنى ما فالمشكلة ليست فنية خالصة، أو لها علاقة بلغزها المشفر، والجمالي فحسب، بل بالمراقبة والاستئناف أيضا ً.
ما معنى أن انشغل بعمل أنا ـ هو ـ أول العارفين انه ليس سلاحا ً للدفاع لا عن الجسد، ولا عن النفس. فانا هنا ابلغ ذروة المصالحة. بمعنى ما أنني اكتشف ـ كأسلافي في تدشين الأعمال الشبيهة بالفن ـ أنني احتمي بما اصنعه: مجسمات بدت لي أنها تشبهني، لا كمرآة، بل كأجزاء متناثرة تعمل بنبضات القلب، وبلغز ومضات الوعي، وكأن الإدراك غدا شريكا ً مع الأصابع ومع باقي الحواس في هذه الرؤية ـ والرؤيا. فاكتشف فجوة ثانية تفصلني عن نفسي: ما هذا الوعي الذي غدا سكننا ً ـ وليس له منفذا ً، وليس له خاتمة؟
انه ـ من غير مقدمات ـ أصبح آلية لا سريالية، بل منطقية لكائن مخلوع، وليس مرميا ً أو منفيا ً في الوجود. فانا لا انتمي إلى ارض أو إلى نبات أو إلى قبيلة، بل أصبحت جزءا ً من الكل، بعد أن تحول العمل إلى شاهد علي ّ: فانا لم اربح شيئا ً ، مثلما لم ْ أعد أفكر في الخسارات. فما أنجزه يتجمع من حولي، منه إلي ّ، ومني إليه، ليمنحني رغبة مضادة لترك العمل، أو الانشغال بالصفر، أو بالفراغات. فلم يعد الختم مرآة، ولكنه سمح لي بانشغالات بصرية تخص ما هو قيد الانجاز، وليس بما أنجز، أو كان منجزا ً سلفا ً. أنني أكاد امتلك نظام خلية الخلق البكر: انتظام الومضات، من العوامل المكونة لها، وصولا ً إلى العمل الذاتي الآلي كاستحداث لذات تعلمت المكر، لكن من غير انشغال بالخديعة؛ بالربح أو بالخسارة، أو بما سيقال.
هل صاغ الصانع الأول مثلثاته، خرزه، إشاراته، دماه، خطوطه ومستطيلاته لأنه وجد حريته تنذره بالهزيمة، وبالموت، فجعل منها ـ كما فعل النحل/النمل/ والطير ـ معماره المقنن برهافات وتقانات بالغة الانضباط ـ كي أعيد، في سياق هذا اللاوعي ـ نهايات تحولت إلى غواية، وكلمات، لا امتلك إلا أن اشرع في صياغة مقدماتها، كأنها الضرورة سكنت ألتوق، وكأنه ألتوق وقد قيد بالضرورات....؟!
[3] الكتمان ـ مرئيا ً
سأعترف أنني لا امتلك حق القول أنني نفذت أختامي بموازاة ما كنت أريده، أو انه النتيجة المثلى، والأخيرة، ولكني لا اشعر أنني غادرت ولعي بإعادة صياغة أفكاري. إن أصابعي تعمل فانقاد إليها! أشيّد وأضيف مع الحذف كي ابلغ بالنص نهايته: إشارات تكاد تلغي ما تتضمنه العلامة من تجريد/ رموز/ وإيحاءات. ففي الإشارات يكمن اللا متوقع الذي كنت أراقبه، وانتظره، وليس في العلامات، بل ولا حتى في الأسلوب. فانا ازداد انشغالا ً بمغادرة أشكالي، وكل ما سيشكل خصائص الختم.
هنا اكتشف أني احفر في مدافني الأولى: في مقبرة شبعاد، قبل أكثر من نصف قرن، بجوار مقابر أور، على مسافة غير بعيدة عن الناصرية ـ مركز ذي قار ـ حيث استعيد حرارة الرمال، في الخارج، وأصداء أصوات ما جرى إبان نزول الأميرة شبعاد إلى العالم السفلي. أتذكر ـ بعد نصف قرن ـ أنني تحدثت إلى البروفسور هاوزه ـ مدير متحف برلين عام 2005 ـ عن لغز القبر السومري، وعن المعتقدات البكر للايكولوجيا الكونية. ماذا تقصد...؟ سألني. فقلت أن هناك فجوة للعبور، بين الموت والحياة، وبين الحياة والموت، تخيلها السومري كي تتحول إلى جسر، أو صلة يستحيل استبعادها. فثمة كون وجد نفسه فيه متوحدا ً عبر تحولات المظاهر، وهي التي ستظهر تأثيراتها في الهند ـ بعد ألف سنة ـ بعيدا ً عن المثنوية وصراع الضدين. فالوحدة التي تخيلها السومري تركت الزمن لا ينتهي عند خاتمة، بل يمتد، عبر دورات. فرأس الأفعى عندما يبلغ ذيلها، يمتد، عبر دورة اكبر، تتقاطع مع مفهوم الرجوع إلى التراب ـ أو إلى العدم.
موت له مذاق الأبدية! لكني لم استبعد أبدا ً حدود التجربة بحدود التصوّر؛ حدود الدفاع عن كياني، بما اعرفه، وخبرته، وعشته، مع أني لم الغ أن هناك خلايا تعمل بالنظام الأكثر تعقيدا ً، الخاص بالكون، وليس بحدود وجودي. انه إغراء آخر للعمل، كواجب، وليس ترفا ً أو بذخا ً.
على أن الكلمات أما تذهب ابعد من النص الفني، أو انها ستتحول إلى يد تدور في مفتاح الباب: الباب الذي ادخله، طالما من المستحيل العثور على سكن فيه، عدا الكون الذي لا علاقة له لا بالموت ولا بالحياة! وهنا ساترك إحساسي بالزمن، وبما سيقال حول تجربتي، فأنا بالختم اترك كياني مكبلا ً بحرية الضرورة، وبضرورات هذه الحرية.
فالفن لن يفصل الأثر عن صانعه، ولا صانعه عنه. فأدرك أن السومري صاغ مفهوما ً سترجع إليه البشرية في لحظة إدراكها انها لن تبلغ خاتمتها. فهي تتضمن دورات، شفرت عبر ما لا يحصى من الحروب والكتب في الجسد/ الوعي/ وفي الكيان بوجوده في الوجود: دينامية تتحول الحياة فيها إلى رقصة (بوذا) و (فناء ً) كما في مسلك الصوفي وطرقه.
لكن النشاط الفردي ـ الخاص ـ لن يعمم، الأمر الذي يجعل كل ختم، مستقلا ً عن سواه. فكما كل وردة، في البستان، لها تفردها، فان ما لا يحصى من الورود (والأزهار البرية) ستعمل على حماية هذا الختم: الهوية، والأسباب الكامنة في الأسباب، فلا ضرورة لسؤال مثل: لماذا اعمل ... ولا ضرورة لسؤال: ماذا لو تخليت عن العمل؟ لكني ـ هنا ـ اخترع لعبة، أو تسلية، بل وعيا ً له موقعه للتحرر من الأعباء، والضرورات اللا ضرورية، يسمح لكياني أن يتشكل مع الموجودات النائية، والمجاورة على حد سواء.
انه شرط يحرر الشرط بتحوله من قيد إلى توق. فتكف اللغة عن مجال عملها، في الاستغاثة، أو في المؤانسة، أو في الشهادة، أو الترميز، كي تغدو جزءا ً من الختم. فهو وحده يقول ما يكتمه، وهو وحده يفضح كتمانه.
[4]البحث عن الذي غادرني
ليس أكثر من تأمل ما ستؤول إليه النصوص: زوالها. وبمعنى ما فانا امسك بما أراه يندثر. ففي عالم كفت فيه قوانينه ـ عدا عنفه وأقنعته وغوايته ـ عن العمل، يغدو الفن ممرا ً للبحث عن الدوافع التي سمحت لأصابع أسلافي أن تنسج هذا الذي حفزني للعثور على توازن مستحيل في الفن:انه قيد لممارسة وهم الخلاص منه. لم يكن أسلافي في المغارات أو في أعالي الجبال يحلمون بأكثر من المرور في الدرب ذاته الذي لا طائل من المشي فيه! إلا أنني ـ وأنا أبصر حبيبات الزمن تذوب في الفراغات والمسافات اللانهائية ـ لا أرى شيئا ً باستطاعته أن يمنع بصري من الاستيقاظ: التاريخ بصفته لم يبدأ! وكأن لغز جلجامش مازال يمتلك غوايته: التفوق! والبحث عن سكينة غير التي يحدثها الفناء، أو الموت. فأتخلى عن المعاني ..فانا أدوّن بحثا ً عن هذا الذي لا أتوقعه: لون ما .. أو تصدعات، أو مخربشات تمتلك كل ما لا يمكن تحديده في الكل اللا متناهي وقد غدا مرئيا ً، أو تحت البصر. فانا لست منفصلا ً عن نفسي! ولا عن ختمي. لأننا ـ كلانا ـ لا نمتلك سوى استحالة نفي هذا الحضور ـ هذا الذي يتفتت، ويتجمع، كي يعلن عن صلابة نظام الامتداد؛ امتداد الفراغات وتجمعها، حد استحالة مغادرة حدود اللامحدود ـ والسكن فيه. لا مكان ولا زمن ـ للمؤجلات! فانا تام الموت، وتام الغياب، وحضوري وحده صار الختم بما يستحيل مغادرته. إنها لذّات أصابع أمسكت بالمفتاح وهو يدور في الهواء.
فبماذا امسك...وليس بين يدي ّ إلا ما أراه يغادرني، عدا إحساسي الخفي بان اللا متناهي يمتلك حضوره، لا كغواية، أو مناورة، بل واجبا ً.
هكذا ـ كما يحدث لمن تأجل موته ـ يختفي التذمر أو الاستسلام للتعب، فيغدو ـ هذا الغائب ـ حاضرا ً بما فقده. فاستعيد رغبة صياغة علامات أحاول فيها وضع مصيري برمته، لا للمباهاة أو لفت النظر، بل للتواري، والسكن بعيدا ً عن الرقابة. لكنني لم امتلك قدرة أن أصبح أعمى، إلا عندما ازداد ثقة بان مصيري يسبقني، فامشي خلفه، بلا استئذان، أو رغبة بالغفران. انه الذنب التام الموازي لولادة لا اختيار لي فيها بعزلها عن حتمية أن أراها تأخذ ـ غيابها وحضورها ـ كي أحافظ على شرود ـ وعزلة ـ كلاهما يجعلاني امشي في جنازتي ـ أو في موتي.
[5] المحنة: الفجوة ليست بعدا ً
عندما لا يقذف الفنان عمله (الفني) إلى السوق، بصفته سلعة، أو عندما لا يجد مبررا ً لعرضه خارج حدود المشغل، أو عندما لم يعد نتيجة أسباب خاصة، فانه، في لحظة استحالة العثور على ما يماثل مشاعر الانجذاب في الحب، أو في التصوّرات الاستثنائية، التي اتحدت وسائلها بغايتها، فان ثمة ظلمات لها فعل الغبار البركاني تجعل مصيره معلقا ً، فيرى انه ـ في العمق ـ قد هدم ما علق فيه من تاريخ، لكن ليس لصياغة علامات مميزة، وإنما كي لا يبدو ، في هذه المتاهة الحالكة ـ إلا وقد اجل خاتمته، مثلما أدرك انه كاد ينفصل عن ماضيه.
أليست هذه أزمة لاذعة، كالتي يكتوي فيها جندي في حرب لا معنى لوجوده فيها دخلها كي لا يغادرها، لا بالربح ولا بالخسارة، أو كحال من وجد انه غير قادر على الاندماج، حتى في الاستسلام لموته!
إنها ليست حالة سيكولوجية، أو اجتماعية (بسبب استحالة العثور على خلاص يوازي وعيه لوجوده) وإنما شبيه بموقف من وجد أن أفضل الاختيارات باطلة، فيكون ـ هنا ـ كمن حفر في الأرض قبرا ً لينبت فيه أسباب استحالة انه وجد فائضا ً، أو محض مصادفة، تاركا ً الأمل والخسارة والتصورات بعيدا ً عن الخاتمة.
هو ذا الطريق المائل المضاد للدرب العام، الذي لن يسمح بالارتداد أو الشكوى. فالصوفي يأمل ـ حد الصدق ـ بما سيجده في الفناء ـ أو بما لا يجده أيضا ً ـ وشبيه بمن تخلى عن أناه لقضية ما بلغت ذروتها في الوجد، والانجذاب حد المحو، إنما هنا تحدث المصالحة بين الكيان ـ كياني برمته ـ وما أراه أصبح شبيها بالملكية: الأشياء ذاتها لا تخفي إلا ما تعلنه، وهذا الذي تعلنه ليس هو الذي كنت أريد أن يكون مجموع الأشياء. إنها ـ اذا ً ـ المحنة وقد غادرت لغزها. فأنا أصبحت علامة مضادة؛ علامة بين علامات، كغريق لا يمتلك إلا أن يحيا حياة ما بعد الغرق: حال صوفي أخذه الوجد حد غياب غيابه. وهي ذاتها اللحظات التي طالما قاومت فيها موتي (المادي) كي أصحو ـ كآخر ـ كف أن يموت.
إن أصابعي تجرجر رفيف رغباتي فأراها تتداخل في وجه، أو في جسد مختزل، أو عبر اللا متوقع وقد أمد في ّ قدرة الموازنة بين المستحيلات والمنجز، وبين الأشكال وما تسترت عليه. فالإحساس الجمعي غدا لا صلة له بعلاقتي مع الآخرين، كما حرر (ذاتي) من قيودها، وغذاني بالتقدم، مرة بعد أخرى، وأنا أكاد امسك بالذي لم يسمح لي أن أعيش خارج انجذابه: أهو الفن، أم هو ما بجواره، أم هو حماية ما، أم الشيء الشبيه بـ (بالشيء)، الذي لن يقارن إلا بالمسافة بين الظل ونوره، أو ـ بمعنى أدق ـ هذا الذي اراه تكوّن عبر غيابي ..والا فانني اكون قد وجدت غواية ما للاندماج .. أي: للعزلة، كالميت وقد عثر على من يرقد بجواره!
[6] المحدود ممتدا ً
طالما أدركت ـ بعد تذوق مرارات العمل في الصحافة ـ أنني امشي آليا ضد إرادتي. فقد كانت الأخيرة لا تعمل على استنزاف الجهد ـ والتأمل ـ والشخصية فحسب، بل على دفع الفن باتجاه التداول. ان طبيعة الموجودات، منذ امتلكت الحد الأدنى للتحكم بمصيرها، وجدت أنها في الاشتباك. فالبشر ينقسمون إلى من هم في المقدمة، والى من هم في القاع: النظرية التي تعيد صياغة التقسيم القديم ـ الصياد/ الضحية، بما يناسب من يتحكم بالمصائر، وأنا أحسست، منذ الثالثة من عمري، بذلك الانقسام، ورحت أتتبع مساراته، ومشاهده، ونتائجه. ولست بصدد تفكيك خفايا المجال النفسي لدوافعي ـ هنا ـ بل لمعرفة دوافع من هم في المحيط/ الهامش لا يعملون من اجل استبدال أدوارهم بمن في المقدمة، وإنما لخلق توازنات لا تخلو من عدل، أو في الأقل: ليست جائرة. لكن العالم ـ بعد العصر الصناعي وما بعده ـ استثمر الأقنعة/ الأيديولوجيات، لجعل الاشتباك متواصلا ً. فالبشر لم يخلقوا للرقص، ولا لأداء أدوارهم في الاحتفال الجمالية، ولا للأعياد. فليس لدي ّ ما استند إليه عدا الأعداد الهائلة من الضحايا: في تدمير البيئة، والعناصر البكر، واستهلاكها حد الإيذاء ـ التلوث الشامل ـ، ومعاملة الحيوان بقسوة وجدت مبرراتها بأشكال مختلفة، فضلا ً عما خلفته الحروب من خراب وأخلاقيات قائمة على تعزيز التقسيم القديم. لكن العناصر وباقي الكائنات الحية لم تكف عن تشبثها بوجود اقل قسوة، وشراسة، ودناءة، إلا أنها لم تثمر إلا عن ذهاب القوى نحو غياب تام للشفافية. فالحياة ـ بزيادة السكان، وتراكم الموارد، وأدوات الفتك ـ مكثت تقسم البشر بين من يعمل مع المتحكم فيها، وبين من أصبحوا تابعين، وممحوين.
انه مشهد حفر في أسئلة أجوبتها ـ عند البحث ـ كانت مصدرا ً للمعاقبة، والإيذاء. فالسؤال، لماذا الفن، لم يفض إلى فضاء مغاير، أو ناء ٍ، عن تغذية التقسيم. لأن الفنون الجميلة ـ وضمنا ً الفنون الأخرى/ والفنون الهامشية ـ لم تجد جسورا ً مع من هم بحاجة إلى أساسيات الحياة: الخبز والماء والإضاءة والقليل من الهواء غير الملوث.
على أنني عقدت ثقة ليست عمياء تماما ً مع إرادتي في الانحياز إلى الفن. فثمة ظلمات لم أكن لأدرك كم هي بلا حافات لولا هذا القليل من الإنارة ـ وهذا القليل من الومضات. لكن القلب، هو الآخر، لا يعمل إلا كعمل مجرة بين المجرات! فهو لا ينبض بسبب أوامر يصدرها العقل، مع ان اللاوعي يسمح للوعي بمجاورة الضوء، والتدشينات السحرية. بمعنى اقل إحباطا ً للمغامرة فان القلب ـ بصفته مجرة وليس نجما ً أو كوكبا ً ـ يوازن بين برمجته نحو موته بغواية العثور على خلاص غير مزيف تماما ً. فانا لا اعمل وكأن كل جزء من الثانية ـ حد عمل قوى اللا مرئيات ـ برمج آليا ً في (الماكينة التي تخيلها ديكارت) وفي الوقت نفسه، فان تفنيد المصادفة/ المصادفات، لن يفند ظاهرة الاضطراب ـ ومبدأ: اللا متوقع ـ واللامعقول في الأخير. فالأشياء بوجودها ليست بحاجة إلى برهان ـ لأنها وجدت تلقائيا ً، أو خرجت من العدم ـ مادامت أفكر بأدوات، هي، غالبا ً، من أسهمت بصياغة هذه التصورات. فانا كمحدود أدركت ـ وهو مثال يقارن بحدود وعي الآخرين ـ ان اللامحدود الذي شغلني/ وشغلنا، لا يمتلك إلا ان يكون بحدود ما أنتجه المحدود، مع ان اللامحدود سيبقى ـ كالعدم أو كالأثير عند قدماء الحكماء ـ قائما ً ولا يمكن تفنيده. إلا أنني سأزداد شكا ً في تصوراتي، ولن استعين بها إلا نتيجة حتمية لاشتباكي مع المستحيلات؛ مع الزمن، ومع ديمومة التقسيم بين من اخترع التصورات وآخر لا يمتلك إلا ان يتدرب عليها، ويفندها، حيث العدالة ـ منذ أيوب السومري ـ لم يفلح إلا قلة ـ حد الندرة ـ من تخيل حتمية وجودها، كوجود العدم تماما ً. لقد كان عقلي احد أسباب انحيازي لرهافة طالما وجدتها في ما لا يحصى من المشاهد، ان كانت بالغة الدقة، أو باتساع المديات ما بين اللاحافات. ولكن قد تكون الرهافة ـ هنا ـ المصدر الأول، وليس الآخر الذي حدد عملها ـ هو السبب المباشر لها! لكني سأدرك ـ بالوعي وبالرهافة ـ ان احدهما لا يمكن فصله عن الآخر. فمن سوى العدم يستحيل ان يكون للوجود هذا التتابع، المحكم، حد ان اللا متوقع ـ والمصادفات ضمنا ً ـ مظهرا ً من مظاهره ـ وبرهانا ً على وجوده. لكن أي لغز سيحدد ماهية أو آلية عمل تلك القوة الداخلية ـ التي تبدو غير قابلة للدحض ـ في مواجهة استعادة العدم لموجوداته!
[7] اللاحافات ـ أو المشفر
أيا ً كانت النتائج: كل ما لم ْ ير عبر الحواس، أو عبر الحدس، أو عبر العقل، إن كان العدم الممتد ـ غير المدرك ـ أو الذي سينتج حلقة ما في التحولات، فان إرادة حياة الفرد لا يمكن عزلها عن مكوناتها ـ وتتابع أزماتها ـ كي ترتقي إلى الأفعال الخالصة. فالنسبية تعني أني مقيد بما امتلك، وليس بما أتخيل، أو افترض. لأن التصورات ليست مستقلة في ذاتها أو تعمل بمعزل عن مكوناتها.
أتذكر ـ هنا ـ أنني سألت زميلة لي في العمل حول سبب عدم نشرها مخطوطات كان والدها قد أنجزها ولم ينشرها، فقالت بصيغة سؤال: وماذا تنفعه إن لم تخلصه من الآثام؟ فسألتها: وما ـ بتصورك ـ فيها من آثام؟ فقالت: إن نصوصه الشعرية تتحدث عن مفاتن الحياة وغوايتها! هذا الحوار سمح لي أن استبعد نظام الذهاب إلى اللا عمل والوصول درجة الاتحاد بالكل، إنما ـ بعد أيام ـ سألتها: وما نفع كل ما تنجزه المخلوقات الزائلة للذي لا يزول؟ لم تبلغ في ردها ما كنت آمل أن تجمّد في ّ جذوة الشرود. لقد تحدثت عن الفضائل وما ينفع الناس. جيد. قلت لها: ربما في قصائده السر ذاته الذي لا يوجد إلا في الكلمات، أو عبر مشفراتها. السر الذي يتوارى في الأنظمة المشفرة للهندسات الجينية، بل الذي قد يكون سكن تصوراتنا ووعينا وحدوسنا التي تمتلك صدمات اللا متوقع، واللامعقول، لكن التي لها لغز هذا الذي يأتي من المجهول ليذهب ابعد منه! فقالت: أنا لا افهم هذا الكلام!
مع زميلتي المشفرة بدفاعاتها، استعدت حوارات لي مع الأستاذ مدني صالح ـ أستاذي وصديقي حتى رحيله ـ فلم يصدمني صالح بنبوغه وعبثه ووعيه الشعري كما صدمني وهو يتحدث عن عدم اكتراثي للغرائب، بل ولا للصدمات!
قلت لها: وهل يكترث المطلق ـ اللامحدود ـ لنا، ولشطحاتنا، ولظلالنا المائلة، ولعثراتنا...وماذا لو اكترث، وجرت معاقبتنا ـ بعد موتنا أو في حياتنا ـ إن لم تكن غاية لها ذروتها بما تمتلكه من حكمة! وأضفت: لكني أرى أن انشغال بعضنا بما يبدو فائضا ً، أو له معناه المغاير لانشغالات البشر بحياتهم اليومية، كالبحث أو الذهاب إلى المناطق النائية، لم يولد قسرا ً أو يولد من الفراغ. هل دار بخلدك أن يوما ما سيأتي يتمكن فيه الناس من استعادة ما حدث في أي زمن ـ وفي أي مكان، للتعرف على قانون: لا عبث ولا مصادفات في الديمومة، لا التي تعرفنا عليها ولا التي مكثت مقيدة بقيودها، إنما التي تجعل المعارف ـ كافة ـ مع قليل من الفضائل، لا يمكن عزلها عن نسبية أحكامنا، وأفكارنا. فاللامحدود يتسلل عبر نظامه كي يكتشف المحدود لهفته في المغادرة، لكن للامساك بما اعتقد فيه، أو تصوّره، بل للذي سيبقى ابعد من تحديد موقعه الذي استحال إلى قيود عند البعض، والى سكن في اللاحافات عند البعض الآخر!
[8] منعم فرات ـ السرداب خال ٍ من السلالم!
لم يكن النحات منعم فرات كاتبا ً، ولكن الكلمات القليلة التي تركها تكفي لمعرفة انه لم يكن مشغولا ً ببيع مجسماته، ـ وإن كان مضطرا ً لبيعها في بداية حياته ـ التي وضعته، ذات مرة، أمام القضاء، فقد كان يرى (الدنيا) سردابا ً خال ٍ من السلالم، وعراك البشر، عنده، غير مبرر، وهذا ما دفعه ليصغي إلى ذرات الخامات في تصادماتها، وفي عويلها العميق، وما تتركه من غموض ملغز، لا يليق بنا كبشر، ولا بأصول الاشتباك. انه سمح لي أن أتذكر أعظم شعراء العراق مرارة في المشهد ذاته، الملا عبود الكرخي، لأنهما كلاهما منحا الفلسفة الانتقادية سكنها في الفن. لم يكن منعم فرات بهلوانا ً، أو أيديولوجيا ، كي يخدعنا، ويوهمنا، ويغوينا، كانت مهمته قد سمحت له أن يستعيد تقاليد أقدم الانشغالات اللا متوقعة: الأشياء الشبيهة بالفن. لكن ليست الهامشية، أو المهمشة، بل المتجذرة في الشخصية الرافدينية، وايكولوجيتها العميقة. فالبدائي يذكرنا ـ في مجال مجاور ـ بالتماثل التكويني الحاصل في تكوينات أجنة الكائنات الحية، واختلافها، بعد ذلك. وكان هذا الاختلاف، في فنه البدائي ـ أو السابق على المعرفة التلفيقية ـ يخص إنسانيته، فلم يبحث عن الثراء أو الشهرة، فقد انشغل بأسئلة ترجع إلى المنطق: لماذا تنتهك حرمات المخلوقات الضعيفة، ولا تجد من يقف معها. الأسد لن يتحول إلى وليمة! ولكنه، لن يفلت من العقاب، عندما نعيد قراءة الدورة كاملة. كان هذا الانشغال يمتلك هويته ـ مع فجر التحديث في الحياة البغدادية ـ وبصماته، وشفافيته. فارجعنا منعم فرات إلى حكماء العصور السحيقة، من سومر إلى بابل، وصولا ً إلى مفهوم المعتزلة حول العقل، والمتصوفة بتخليهم عن غوايات التراب. فكان فنه إجابات لا تتضمن أسئلة، بل تزدحم بها، حد انه لم ير الحياة، إلا كما رآها الشاعر الملا عبود الكرخي ـ كما في رائعته المطحنة ـ فالدنيا ـ الحياة ـ لا تساوي شيئا ً كي تنتهي بالحساب! حساب يجري مع من: مع العناصر، أم مع المكونات، أم مع النتائج ... ومنعم فرات، كالكرخي، لم يهمل المسار المعقد للاشتباك، والتصادمات. فالضحية ـ كما في سفر أيوب السومري ـ يستعيد قراءة مفهوم العدالة برمتها. هذا الوعي العميق الكامن في فن منعم فرات، لم يكن بدائيا ً، أو شخصيا ً، كآخرين سيحولون فنهم إلى سلعة، والسلعة إلى ما تتطلبه من مهارة حرفية، وإنما بمهارة الفنان، كي تعالج قضايا توازي مرارة المحنة: المحدود إزاء مساحة الاشتباك وما تفضي إليه. فلم يحول فنه من اجل الكسب، ولم يسمح لحياته أن تكون عابرة. فلم يوظفها لأحد، أو يقع في غواية الدفاع عن وهم من الأوهام. لقد وجد مصيره شبيها ً بمن سبقوه، التمسك بالدفاع عن الهزيمة ـ وعن المهزومين ـ: فالاشتباك لن يقود إلى نصر، ولن يقود إلى خاتمة، عدا ديمومة مقدماته ونتائجه: الأكثر رهافة في مواجهة جبروت الظلم ـ والظالم. وحتى لو كان قد اختار الفلسفة ـ كأسلافه المعتزلة ـ لكان لقي حتفه في سرداب، أو لكان اختار الفناء/ والتطهر/ والعفة / كالمتصوفة، ومات ضحية الأنظمة ذاتها في إنتاجها لبنية الاشتباك. تلك كانت ريادة منعم فرات التي صاغها ولفت انتباه نقاد أوربا ـ وربما الاستثناء الجدير بالذكر هنا، هو استأذنا الدكتور أكرم فاضل في عنايته بالفنان ومهد للباقين في الحديث عن حياته وفنه ـ كي لا يذهب المجهول.
لكن مهاجرا ً لم يحتمل مقاومة الرداءة في وطنه، لن يرصد الجهد الممهد للوعي النقدي ـ على صعيد الكتابةـ أو في الانجاز الفني، خلال القرن الماضي، في التشكيل العراقي، كي يهمل الجهود كافة، ولا يستثني الا من راه عبر ثقب في بصره! فلم يذكر ان الوعي النقدي عند منعم فرات، ومحمود صبري، وجواد سليم، لم يكن عابرا ً، كما لم تكن المقدمات النقدية عند جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن، وعباس الصراف، بنزقة في هذا المجال. وسيقال لي: لماذا تشغل نفسك، وتشغلنا، بما هو بمصاف اللا فعل!
أعود إلى منعم فرات، كإجابة تلخص المسار ذاته لنسق من قال كلمته ومضى، كما قالت العرب، لكن هذا ليس اعترافا ً بالهزيمة، بل للفت النظر إلى البلاغة الزائفة لعصر الإعلانات، وإهمال سيسمح للدورة أن تبلغ نهايتها: الاستهلاك. لأن مفهوم صياغة الأختام البكر، لن يغادر لغز تكّون الرهافة ـ من الأصابع والحواس إلى الدماغ، ومن الأخير إلى الوعي والى النص الذي غدا نموذجا ً للأكثر احتمالا ً في تدشين الدروب الوعرة. فعندما تشتد العتمة ـ لا بغياب مصدر الإنارة فحسب ـ بل لانحسارها لدى الباحث وتحولها إلى حلقة بين لا محدودين ـ أو مجهولين. وإذا كان من الصعب إجراء مقارنة بين ما ينتجه المحدود، وصلته بما هو ممتد، فان الأخير، ليس فائضا ً في حضوره عبر علامات قاومت زوالها، لا كي تغوينا بالخالد، والسرمدي، بل كي لا تمجد الوهم كثيرا ً!
[9] اللاحافات ـ الصفر عددا ً
وأنا انظر إلى تلال القمامة، التي كانت ترمى إليها جثث المغدور بهم وتترك نهبا ً للكلاب التي لا اعرف أأنا كنت انظر إليها مذعورا ً أم هي التي كانت تؤجل مشروعها نحو جسدي، فكرت بالمخلفات: نفايات المدن في خرابها/ وما يخلفه الزمن/ ولا مبالاة الناس. فإذا كان الأوروبي يتداول سلعه، ليستهلكها، فهو أكثر فهما لمصيره بين خاتمته ومقدماتها. بضائع جميعها لم تصنع في بلدي، فالناس تحولوا إلى مستهلكين، الأمر الذي عزز عزلتهم، وهمومهم، إلا في الرصد والمراقبة. فالعمل أصبح ـ كما كان عمل المزارع أو الحائك قبل نصف قرن ـ لوثة! فكرت في النفايات المنتشرة، في الساحات، مع بقايا أشجار مهملة، وعند نهايات الأزقة، وفي الممرات الجانبية، ولماذا أصبحت لا تثير القرف! هل لأن من أسهم في دفن أحفاده يجد سلوى في عرض نشاطه، بعد أن صنعه، كي يدافع عنه في هذا العرض الغامض للأعماق، والخواء! فانا لن أنسى أن أستاذا ً يعمل في وزارة ثقافية وتربوية، طالما انجذبنا إلى حواراته حول ما يحدث، رايته، في يوم عاصف، يفّرغ سلة المهملات فوق تل الزبل الذي يقع في نهاية الشارع! ما علاقة هذا بعملي وأنا مشغول بالعثور على غواية للتنفس، وليس للخلاص! فالموت هو الذي بلغ ذروته، أما الحياة، فلم تعد إلا دحضا ًلكل ما تعلمته منها. الأمر الذي سمح لي أن احفر مساحة ارقد فيها، في الختم، ختمي، أو في العبارة، عبارتي. على أن دوافع الحياة ليست ذاتية، من غير محفزات حتى لو كانت بحجم مرور طير، أو تأمل شجرة معزولة بين مدافننا. فالمائة عام الأخيرة، التي أراها أمامي، ليس باستطاعتها إلا أن تسهم بموتي جزءا ًجزءا ً، وها هي تحول الأشكال إلى نفيها، ولا تترك للدوافع إلا أن تكون لا متوقعة، ولا معقولة. فهل كان إنسان المغارات ـ الذي وجد نفسه يحفر فوق الصخرة، أو يرسم فوق الجدران، يعمل بدوافع القهر، وهو ـ مثلي ـ أدرك أن الجدران لن تحمي شيئا ً، أم كان، لسبب ما، يعمل بقوة الديمومة، واليات غوايتها؟
أليس من العبث أن اسأل نفسي سؤالا ً حول اللغز الذي سكنه، وجعله متوازنا ً، وهو عرضة للافتراس، بدل أن أحاور الجزء الآخر في راسي؟ يصعب علي ّ ـ الآن ـ الإجابة عن سؤال: ما الصدق/ ما الواجب/ وما الصواب ...؟ فالاشتباك ـ الشبيه بحرب الجميع ضد الجميع ـ لا يستند إلا إلى نظام الصياد ـ الضحية، هذا الذي ـ خلال قرن ـ اتجه نحو خاتمته: بلدان غادرت التاريخ،وبعضها تُرك يحتضر فوق تلال القمامة، وعند الخرائب، وأخرى تنهش بعضها البعض الآخر؟ فأي أمل، أو حرية، أو خلاص، أو منطق، بإمكانه أن يستبدل الوهم، والرداءة، والتعفن، بهواء غير اسود!
لقد تحدث (ادلر) عن الدفاعات التي يستند إليها المنتحر، الدفاعات السلبية، لكنها، في الأخير، لا تقل رداءة عن عمل الشعوب التي تفترس أخرى، وتحولها إلى مخلوقات بلا غاية، ضائعة، وحشية، ولكنها ـ كالكلاب التي كنت أراقب شراستها ـ لا تعرف الرحمة.
وأنا أراقب الريح تهز سعف نخلة الجيران، اجهل ما اذا كانت هي التي تمشي في جنازتي، أم أنا هو من يمشي في جنازتها! الريح، بمعنى ما، الوسط المرئي للعبور، لا تمتلك إلا عفنا ً تحمله معها، داخل أرضنا، دون إضافات تذكر. فالعفن الذي حصل، بعد أن انفصلت الأرض عن نجمها، وتجمعت العناصر، وصار لها مجالها الحيوي، أنتج لغزه. فذرات هذا الجسد، جسدي، مع كل ما أنتجته، ونطقت به، وكتمته، سيكّون جزءا ً من الريح وهي تؤدي دورها ـ الذي لا مقدمات له، ولا خاتمة ـ في المرور، والعبور، والإعادة. فثمة آخر مغفل سيعمل لا على غواية الآخرين، أو إيذاء البيئة، بل في الذهاب بعيدا ً في مدياته من اجل التوازن. حقا ً أن من لا وجود له ـ أمامي ـ أراه يحفر ـ كما اشتغل في فك مشفرات مخلفات السابقين ـ واراه، مثلي، يجهل سر استحالة استبعاد القبول إلا بالغواية نفسها: المرور إلى هناك، وابعد، في انتظار الذي يمر بأسرع من زماننا ـ في أبدية اللاحافات!
[10] عودة: جذور التأمل
هل باستطاعتي أن اجري مقارنة بين عدد من المهن ـ بالمفهوم العام ـ كمهنة صانع الأسلحة، أو الأحذية، أو صانع الأواني الخزفية ...الخ بمهنة القاتل أو اللص أو المشتغل بإدارة أعمال لا شرعية ومنها إدارة المواقع الداعرة، أو التنكيلية، أو الخاصة بالشذوذ والغرائب، بمهنة شخص وجد انه مشغول بفك شفرات مقاومته للاندماج، حد المحو، والتلاشي، وتمسكه بفردية لا علاقة لها بالمهن، أو بأي مشروع للتعالي فوق البشر، أو عبادات سحرية سرية، بل، في الغاب، وجد انه غارق في مسار الترقب، وتتبع حلقاته...؟ إن انشغالا ً قديما ً ـ ومتجددا ً ـ يدفع بعدد من الأشخاص للإعلان ـ وللكتمان أيضا ً ـ عن هذا الضرب من الاضطراب، والتكيف، ان كان مرضيا ً، أو مجاورا ً له، نحو موقع صناعة (أشياء) ليست مهمتها لفت النظر، أو سلعا ً للتداول، أو حتى محاولة للاندماج المشروع، والواقعي. لكن هؤلاء المحصنين، والمحميين ذاتيا ً، لا يمتلكون الذهاب ابعد من وظيفة (ما) بين التقسيم الاجتماعي للأفراد: تقسيم العمل، كي لا يجد صانع (الفن) نفسه إلا ـ كالكاتب ـ وفي مجتمعات المنظمات المنغلقة ـ معزولا ً ووحيدا ً. مع ذلك فعدوى الرهافة، في الأصل، تمتلك ديمومتها، وعملها بين الأعمال الأخرى. فالتفرد ـ في الختم/ التوقيع ـ ليس علامة جذابة، ضمن بضائع السوق الحرة ـ أو عبر حرية السوق ـ بل للصانع نفسه. فهو ـ كما في عدد من حالات الشرود/ والتوحد ـ يغدو قوة لمغادرة الانعزال، والضمور. فهذا الذي سيحدث (ويحدث)، في واقع الأمر، شبيه بمن وجد نفسه موجودا ً، كي تتكرر الأسئلة ذاتها المحفورة في النصوص، إن كانت كتابية أو فنية، فالدورة لم تكتمل، وإلا لوجد الفنان مصيره مع الحرفيين، وغدا منسجما ً في أداء عمله، بدلا ً من انتظار الذي ذهب، أو الذي لن يأتي أبدا ً، وإنما الذي له حضور الغائب!
هنا، وهنا تحديدا ً، لم يعد للنبش في المخفيات، الاهتمام ذاته في التوغل خارج حدود الخامات، الأمر الذي يدحض ـ ولكن يكرر ـ انشغالات الساحر القديم: ليس المهم الحصول على الدهشة، بل كيف تبقى تحافظ على لغزها: هذا الانجرار، بطيب خاطر، إلى المتاهة بصفتها لذّة، ومضادة لها، في الوقت نفسه!
[11] ماض ٍـ يتقدم ـ وآخر يثب
فإذا كانت الدهشة قد تجمدت، وكفت أن تكون واقعا ً، وإذا كان الانشغال بعدم الربح شبيه باللامبالاة تجاه المحو ـ أو الخسران ـ فان أمرا ً ما مشتركا ً بين ذاتية الفنان ومحيطه يتحدان لا ضد الرغبة، بل بجعلها أكثر قربا ً من صياد أدرك انه لا مناص الضحية. على أن هذا الذي لا ابحث عنه ـ في أختامي ـ كالجراح لا مناص أبصر موت مريضه، كلانا منشغلان بحاضر سابق على الانجاز! ثمة أزمنة أجدها تستيقظ عنوة: فانا جزء كلما اتسعت مسافتي عن باقي الأجزاء أجد أنها تعمل في ّ: ما لا يحصى من التصورات حول ما بعد الموت، كالتي تراود مخيال الفيزيائي في احتمالات اتساع ـ أو تقلص ـ أو بقاء الكون على ما هو عليه. إن المشترك بينهما يخص استكمال بقاء الماضي ماضيا ً. فهو يزحف، ولن يتراجع، بل يكمل بعضه بالبعض الآخر في المسافة ذاتها.
محنة أخرى تثب، ستوازن بين المرارة وبين لذّات النشوة. فكما يجد العاشق أقاصي المسرة في استحالة لقاء من طلبه، فانا أتلمس في الدوافع شيئا ً ما آخر غير الذي أراه مرئيا ً، ليس ما توارى ـ أو ما هو قيد الاندثار ـ بل هذا الذي امسك في ّ وقيدني في العمل.
الفن شغل، بمعنى: عملا ً مضادا ً للعمل. لكن طبيعة هذا العمل ـ كالحرية ـ لا تعّرف بمفهوم أو بخاتمة. فهو اذا ً وجود ينفي وجوده. وهنا أكون قمت بما يؤديه الدياكتيك (الكلي) باستبعاد أي سبب عن الأسباب الأخرى. فإذا كانت نهاية ما أره يغادر، فان ما هو قيد الغياب سيتشبث بأبدية الثابت، أو ما غدا خالدا ً بحدود معنى الكلمة ـ وحروفها ـ وتصّوراتها.
فالعالم مكث ـ من بضعة كائنات إلى مليارات سبعة من السكان اليوم ـ راسخا ً باستحداث قدمه ـ ومقدماته المكتفية بذاتها. وهنا أجد رهافتي شذبت درجة أنها غابت في ّ. فالأجزاء غير القابلة للإحصاء ـ جزئيات/ ذرات/ كيانات/ مجموعات، وصولا ً إلى لا حافات الاتساع، أو نحو الصفر ـ قد قيدت ودونت في ّ. فانا، مرة أخرى، أجد نفسي بجوار شبيهي: ميتان يتبادلان الموت، لكنهما يعبران من الماضي ـ إليه ـ بعيدا ً عن الموت. فالدوافع تكاد ـ في انفصالها عني ـ لا تمتلك إلا حدود المفتاح وقد دار في القفل. انه المحدود ـ أو النسبي ـ وقد اتسع خارج إمكانية تلمس أي حافة من حافاته. فهل قصد أسلافي ـ في التحول من الشفهية إلى الحفر والى الكتابة ـ هذا الذي أنا أؤديه استكمالا ً لماض ٍ، بحسب قدراتي في التصور، ومن غير خاتمه له؟ لأنه لا يمتد، ولا ينبثق، ولا يرتد، ولا يتماثل، ولا يكتمل. بمعنى ما انه سيحافظ على ما في العمل من قيود، وأنظمة، وضمنا ً، من ارتواء يستدعي مستحيلاته. فالذي يقع هناك، غير منفصل عن التمهيدات التي استحدثته، لكنه سيبقى يمتلك ما يريد أن يؤديه، إنما بما أريد أن أنجزه، وليس بمعزل عني.
[12] ديمومة الغائب ـ الموت حاضرا ً
الأختام مجّفرة ـ مشفّرة ـ بمعنى أنها لا تخفي بصمات حاملها ومخفياته، بل ولا صانعها، لأنها، في ما تخفيه، امتلكت لغز موتها بتمام حضوره. فما دوّن فيها يمكن عزله: القصد والتداول والهوية، فيما اكتشف، بعد عزل الزمن عن حركته، أنها صنعت لتخفي ما لم ـ ولن ـ تعلن عنه. ففي الختم ديمومة علي ّ ان لا أقع في وهمها، ديمومة بدأت اعزلها عن أسبابها النائية. فجأة بدا الختم لي ـ مثل إنانا ـ علامة توارت فيها ما لا يحصى من العلامات. على ان الختم ليس علامة ـ للتداول ـ والتجاور ـ والمنفعة، فالختم قبر.
أعدت قراءة بعض الأشكال، فلم اخف ولم اصدم أنها شبيهة بما أراه في (ما أنا عليه/ جسدي، أو هذا النفس، أو الروح التي لا اعرف كيف آوتني معها فيه) هذا الجسد. فليس مصادفة أنني اشتغلت بالمدافن: مدفن شبعاد/ ومدفن والدي/ ومدفن الجنيد. فقبل عقدين، وفي ليلة شتاء باردة، قبيل الفجر، طلبني شيخي فذهبت إليه (كان معي عدد من الفنانين اذكر منهم هيثم حسن، سلام عمر) فلم أر إلا جسد الأرض: ختمها. لكنني كنت تعلمت ألا أقع في غواية الوهم. فالقبر ـ كالختم ـ ليس شكلا ً أو هيئة، بل ممرا ً من الأرض إلى لغزها. فاكتشف أنني لم اغدر جسدي بعد، إنما استطيع الاعتراف أنني تحررت منه. كذلك القبر لا علاقة له بمن فيه، إلا في حدود الأشكال. فهو مدرج سفر ـ وطيران ـ ولم يصنع للإقامة.
يا للفرحة التي بلغت ذروتها: كم يشبه جسدي القبر، وكم يشبه قبري جسدي! كي أعيد استذكار اللحظات التي عشتها وأنا انزل إلى سراديب قصر شبعاد، في رمال أور، وقد تحولت إلى خرائب. تلك الأختام المبعثرة، مع الحصى، كانت تعلن عن هذا الذي أراه يغادر، كما حصل في الماضي ـ وكما يحصل أمامي ـ أراه تام الغياب.
كم أشبه نفسي! فها أنا استطيع ـ بما يتضمنه الختم ـ أن أوحد بين المتضادات التي غطست فيها، حتى تحولت إلى رحم، أم باستطاعتي مغادرتها، كما تتكون النصوص الشبيهة بالفن؟
ها أنا أتكّون في مساحة اللاحافات. فانا لا اسكن من سكنني، ولكنني لا امتلك قدرة الانفصال عنه. فاستعيد قدرتي على صياغة لماذا كان اسم [إنانا] شبيها بختمها، ولماذا تركت أصابعي تنتج ما نسجته آلهة الحرب/ الحب في ذاكرة أسلافي، وفي ما يدفن في أختامي.
فانا غير معني ـ يا له من اكتشاف ـ بما زال، وبما أراه يتبعثر، أو أراه يأخذ حبيبات الأثير/ والزمن، بما يتجمع. فالختم ليس ما نقش أو ما حفر، بل بما هو قيد الحفر. انه السابق على التجربة ـ وهو الملحق بها. ولأنني مشغول بعدم التمويه أو التضليل أو المناورة، فان التجربة تأخذ أسبابها التي كونتها، ومادامت الأسباب بلا حافات، ولا نهاية لها في وجودها، فإنها لن تعد بحاجة إلى برهان أو نفي. وهنا اكف تماما ًعن الأسباب التي استدعت أسلافي لصياغة رموزهم النائية. لا لأنها محض تصوّرات، بل لأنها مناورة القبر لمن لم يسكنه بعد. أما ما بدا لي خارج ضرورة البرهان فهو شبيه بالمثلث أو المستطيل أو المربع، وككل الأشكال أينما تضعها فإنها لن تذهب ابعد من وجودها كما ظهرت عليه، لأنها، في واقعها، لا تمتلك إلا ما سيشكل مغادرة لحضورها: حضوري وأنا مسبوق بوجود سابق على هذه الأشكال!
عادل كامل
القسم الثاني
[1] من الظلمات إلى النور
بين أن اترك أصابعي ترسم أشكالا ً لا واعية، أو غير مقصودة، وبين أن اصف العملية لأجل التدوين، إجراء شبيه بأول من رسم المثلث، أو الدائرة، وبين من كان يجد تبريرا ً ـ وتأويلا ً لهما. ثمة مسافة مزدوجة بين التنظير والتطبيق، وهي المسافة التي تتقلص ـ حد التلاشي ـ في التنفيذ، وتتسع في حالة الكتابة، حد التجريد، واللا حافات ـ أو اللا موضوع في نهاية المطاف.
هل كانت أصابعي تؤدي ما كان يدور في راسي ـ أو في كياني ـ من الأصابع إلى المخ، أم أن هناك انحيازا ً للحواس، أو للعقل في سيادة أسلوب أو موضوع محدد في التجربة؟
عندما وجدت نفسي ابتعد عن لون الخامة، وملمسها الطبيعي، وجدت بصري ينبهر بالألوان، فكنت امتلئ بنشوة شبيهة بنشوة طفل اكتشف أن الأرض لن تخذله بما تمنحه من عناية سأجدها ليست رمزية فحسب، بل وجمالية!
وإذا كنت حريصا ً بعدم الخلط بين النادر والتقليدي، وبين الفردي والجمعي، فان للألوان دورا ً مغايرا ً للتخطيط أو للتكوين، وحتى للمعاني. ففي سنوات الجدب العاطفي كانت الألوان لا تشكل جسرا ً ولا علاقة ولا لغة مع الآخرين، وكأنني كنت اعترف ضمنا ً بالعمى اللوني، مما جعلني أكرس سنوات لكتابة (الأوثان) بعد (عند جذر الوردة)، وبعد (ألفية الولد الخجول)، وهي تجارب لا تخفي ذلك اليباب بموت الإنسان، وليس بموت الفن أو موت الفلسفة حسب. ولم يكن هذا اكتشافا ً نظريا ً أو نقديا ً، بل جاء بفعل التجربة ذاتها.
فعندما يشتغل البصر، تكف الأصابع عن تباهيها بدورها. إنها تغدو زوائد كأرجل خنفساء كافكا بعد أن انقلبت ووجدت نفسها في مأزق: لا تعرف ماذا تعمل. على أن أصابعي كانت ترقص ـ إنها تؤدي الدور الذي أومأ إليه بوذا ، وجدنا للرقص. بمعنى أنني ـ هنا ـ رحت استبعد أي اهتمام بالمخالب، وبالدفاعات، والمضمرات العدوانية. فالسلام مع العالم غدا دربا ً متحدا ً مع غاياته. فأنا لا أريد أن أصل إلى نهاية الطريق ـ لا لأنه في الأصل لانهاية له، وإنما لأن الحركة ذاتها تمتلك لغز غايتها في السلام الروحي ـ بل أنا حررت ذاتي من الغاية عدا أنها سكنت الدرب. هذا المشترك بين الخامة والمقدمة سمح للألوان أن تعيد للأختام ـ النصوص المضادة للأثر ولكن السالكة دربه ـ بحجة إنسان لم يعد يجد في عالمه إلا تأملات كائن محكوم بسجن لا أبواب له ولا منافذ. فيا لها من لذّة ملغزة دمجت البصري، المرئي، بما هو ابعد منه، ابعد من رؤية ذرات ذات أطوال تتجاور باختلافها وتنوعها نحو مفهوم للروحي عبر اللذّة.
هل ثمة علاقة ـ صلة ـ ما تسمح للقلب أن يضطرب، أم ذكرى ما تتجدد ـ وتجدد ـ، لبرهة من الزمن، عمل الومضات؟ لا امتلك إجابة دقيقة، وأمينة، مع نفسي، بقدر انشغالي بحركات طفل ـ هو حفيدي ـ راح يذكرني بان العالم مازال حاضرا ً وزاخرا ً بالعطور والصخب.
وجدت بصري يعيد ـ بعد أن كانت الأختام علامات حرصت أن لا أنهكها بالمشفرات ـ معالجة الخامات بألوان طالما غذت سنوات طفولتي: الوان بعدد الذرات، وليس بعدد الأشكال! فالعالم ـ إن كان خارجيا ً أو داخليا ً ـ لم يعد مجموعة قوانين صارمة ومحكمة حد أنها دمجت النهايات بمقدماتها.
على أنني لم أتوقف عن متابعة كتابة فصول رواية استذكر فيها سنوات ما قبل عام 1980، عام الحرب. لكني توقفت لشهرين في الأقل عن الكتابة بسبب زميل كلفني بعمل وجدت نفسي أنجزه بلذة مرة ، وفي الأيام ذاتها (نيسان 2011) كان علي ّ أن أقدم نموذجا ً تخطيطيا ً لنصب كي احصل على مبلغ يساوي راتبي التقاعدي لخمسة أعوام، لكني ـ بدل ذلك ـ وبعد أن تحررت من تكليف زميلي لأيام خلت ستطول ـ انشغلت ـ ليلا ً بمتابعة الدوريات الأوروبية: الاسبانية/ الانكليزية تحديدا ً ـ ثم نهارا ً: أن لا أميز أكانت الألوان هي التي أعادت لي بصري، أم بصري هو الذي سمح لي أن أجد في الألوان عملا ً شبيها ً برسامي الكهوف وهم يؤدون أعمالا ً لم تبلغ نهايتها، في موت الحواس، أو في محوها، أو في جعلها تعمل بلون واحد.
كم استغرقت كي اعرف أن المسؤولية التضامنية بين البشر ـ في عالمنا برمته ـ وحدها تخفي عملا ً ما في حياة لن تبلغ نهايتها، لكني عمليا ً كنت دمجت النهايات بالأمل، والمشهد الكلي بأدق ما تراه الأصابع، لبصر لم يكل عن نسج تجمعت فيه العناصر ذاتها التي ـ أحيانا ً ـ تبدو خارج الرؤيا، والرؤية ـ وخارج مدى حركة الأصابع ـ ونبضات القلب.
كانت للألوان، داخل جدران غرفة مكتظة بالكتب، والصحف، والصور، رائحة طفل ـ هو حفيدي علي زيد ـ تغويني بالحفر في مدافن قلب لم يعمل دائما ً بالمثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! ذلك لأنني لم اقلب ـ ولم اعدل ـ المثل بل رحت أوازنه بمضاداته. فالموت ذاته لم يعد إلا لغزا ً تتكون عبره الصيرورات ـ لكنني لم أقع في الغواية، ولم أهلهل لها، ففي الحكاية ذاتها التباساتها، ماضيها ومستقبلها: آثامها/ جدلها/ مفاتيحها/ انغلاقاتها مما جعلها تمتلك قدرة الامتداد، واستكمال دورتها. فانا مادمت لم اقدر على اختيار الموت، لم اختر الحياة كي ارتقي بها إلى النذالة، والعدوانية، والخساسة، بل رحت أعالجها كحقيقة علي ّ أن اترك كياني برمته أن يجاورها، نحو السكن فيها، ومعها، بصياغة ألوان تعيد للأعمى ـ الذي هو أنا ـ دربا ً سمح لي أن أوازن بين اللا وجود ـ والمرئيات، عبر ألوان تتحدث عن شهادة أعمى يمشي من الظلمات إلى النور، ومن العتمة إلى الفناء.
[2] ضد السلعة
الحقيقة الأقل إثارة للجدل ـ ولكنها الأكثر التباسا ً ـ أن الزمن يكمل دورته: إنه لن يرتد. وبمعنى ما كنت أتخيل ـ وأنا في المناطق النائية التي وجدت سكني فيها ـ مشهد اللا زمن: اللا مشهد، فازداد سكينة طالما أحسست أنني جزء من مديات تتخللها ومضات، وتصادماتـ وإشعاعات،فاستنجد بما فعله أسلافي: صناعة دفاعات! فثمة (عدو) ما يهدد اقتلاع كياني، جعلني اكتشف ـ ببساطة ـ أن المفتاح الذي امسك بدورته في القفل هو جزء من كياني ذاته! فلا أجد لذّة توازي عدم إهمالها تشاطرني الشرود: انه ليس الاكتشاف، وليس البحث، إنما هو هذا الذي لا امسك فيه وقد راح يتكوم فيّ، يتناثر مجتمعا ً في أقاصي هذا الشرود. وبمعنى ما فالمشكلة ليست فنية خالصة، أو لها علاقة بلغزها المشفر، والجمالي فحسب، بل بالمراقبة والاستئناف أيضا ً.
ما معنى أن انشغل بعمل أنا ـ هو ـ أول العارفين انه ليس سلاحا ً للدفاع لا عن الجسد، ولا عن النفس. فانا هنا ابلغ ذروة المصالحة. بمعنى ما أنني اكتشف ـ كأسلافي في تدشين الأعمال الشبيهة بالفن ـ أنني احتمي بما اصنعه: مجسمات بدت لي أنها تشبهني، لا كمرآة، بل كأجزاء متناثرة تعمل بنبضات القلب، وبلغز ومضات الوعي، وكأن الإدراك غدا شريكا ً مع الأصابع ومع باقي الحواس في هذه الرؤية ـ والرؤيا. فاكتشف فجوة ثانية تفصلني عن نفسي: ما هذا الوعي الذي غدا سكننا ً ـ وليس له منفذا ً، وليس له خاتمة؟
انه ـ من غير مقدمات ـ أصبح آلية لا سريالية، بل منطقية لكائن مخلوع، وليس مرميا ً أو منفيا ً في الوجود. فانا لا انتمي إلى ارض أو إلى نبات أو إلى قبيلة، بل أصبحت جزءا ً من الكل، بعد أن تحول العمل إلى شاهد علي ّ: فانا لم اربح شيئا ً ، مثلما لم ْ أعد أفكر في الخسارات. فما أنجزه يتجمع من حولي، منه إلي ّ، ومني إليه، ليمنحني رغبة مضادة لترك العمل، أو الانشغال بالصفر، أو بالفراغات. فلم يعد الختم مرآة، ولكنه سمح لي بانشغالات بصرية تخص ما هو قيد الانجاز، وليس بما أنجز، أو كان منجزا ً سلفا ً. أنني أكاد امتلك نظام خلية الخلق البكر: انتظام الومضات، من العوامل المكونة لها، وصولا ً إلى العمل الذاتي الآلي كاستحداث لذات تعلمت المكر، لكن من غير انشغال بالخديعة؛ بالربح أو بالخسارة، أو بما سيقال.
هل صاغ الصانع الأول مثلثاته، خرزه، إشاراته، دماه، خطوطه ومستطيلاته لأنه وجد حريته تنذره بالهزيمة، وبالموت، فجعل منها ـ كما فعل النحل/النمل/ والطير ـ معماره المقنن برهافات وتقانات بالغة الانضباط ـ كي أعيد، في سياق هذا اللاوعي ـ نهايات تحولت إلى غواية، وكلمات، لا امتلك إلا أن اشرع في صياغة مقدماتها، كأنها الضرورة سكنت ألتوق، وكأنه ألتوق وقد قيد بالضرورات....؟!
[3] الكتمان ـ مرئيا ً
سأعترف أنني لا امتلك حق القول أنني نفذت أختامي بموازاة ما كنت أريده، أو انه النتيجة المثلى، والأخيرة، ولكني لا اشعر أنني غادرت ولعي بإعادة صياغة أفكاري. إن أصابعي تعمل فانقاد إليها! أشيّد وأضيف مع الحذف كي ابلغ بالنص نهايته: إشارات تكاد تلغي ما تتضمنه العلامة من تجريد/ رموز/ وإيحاءات. ففي الإشارات يكمن اللا متوقع الذي كنت أراقبه، وانتظره، وليس في العلامات، بل ولا حتى في الأسلوب. فانا ازداد انشغالا ً بمغادرة أشكالي، وكل ما سيشكل خصائص الختم.
هنا اكتشف أني احفر في مدافني الأولى: في مقبرة شبعاد، قبل أكثر من نصف قرن، بجوار مقابر أور، على مسافة غير بعيدة عن الناصرية ـ مركز ذي قار ـ حيث استعيد حرارة الرمال، في الخارج، وأصداء أصوات ما جرى إبان نزول الأميرة شبعاد إلى العالم السفلي. أتذكر ـ بعد نصف قرن ـ أنني تحدثت إلى البروفسور هاوزه ـ مدير متحف برلين عام 2005 ـ عن لغز القبر السومري، وعن المعتقدات البكر للايكولوجيا الكونية. ماذا تقصد...؟ سألني. فقلت أن هناك فجوة للعبور، بين الموت والحياة، وبين الحياة والموت، تخيلها السومري كي تتحول إلى جسر، أو صلة يستحيل استبعادها. فثمة كون وجد نفسه فيه متوحدا ً عبر تحولات المظاهر، وهي التي ستظهر تأثيراتها في الهند ـ بعد ألف سنة ـ بعيدا ً عن المثنوية وصراع الضدين. فالوحدة التي تخيلها السومري تركت الزمن لا ينتهي عند خاتمة، بل يمتد، عبر دورات. فرأس الأفعى عندما يبلغ ذيلها، يمتد، عبر دورة اكبر، تتقاطع مع مفهوم الرجوع إلى التراب ـ أو إلى العدم.
موت له مذاق الأبدية! لكني لم استبعد أبدا ً حدود التجربة بحدود التصوّر؛ حدود الدفاع عن كياني، بما اعرفه، وخبرته، وعشته، مع أني لم الغ أن هناك خلايا تعمل بالنظام الأكثر تعقيدا ً، الخاص بالكون، وليس بحدود وجودي. انه إغراء آخر للعمل، كواجب، وليس ترفا ً أو بذخا ً.
على أن الكلمات أما تذهب ابعد من النص الفني، أو انها ستتحول إلى يد تدور في مفتاح الباب: الباب الذي ادخله، طالما من المستحيل العثور على سكن فيه، عدا الكون الذي لا علاقة له لا بالموت ولا بالحياة! وهنا ساترك إحساسي بالزمن، وبما سيقال حول تجربتي، فأنا بالختم اترك كياني مكبلا ً بحرية الضرورة، وبضرورات هذه الحرية.
فالفن لن يفصل الأثر عن صانعه، ولا صانعه عنه. فأدرك أن السومري صاغ مفهوما ً سترجع إليه البشرية في لحظة إدراكها انها لن تبلغ خاتمتها. فهي تتضمن دورات، شفرت عبر ما لا يحصى من الحروب والكتب في الجسد/ الوعي/ وفي الكيان بوجوده في الوجود: دينامية تتحول الحياة فيها إلى رقصة (بوذا) و (فناء ً) كما في مسلك الصوفي وطرقه.
لكن النشاط الفردي ـ الخاص ـ لن يعمم، الأمر الذي يجعل كل ختم، مستقلا ً عن سواه. فكما كل وردة، في البستان، لها تفردها، فان ما لا يحصى من الورود (والأزهار البرية) ستعمل على حماية هذا الختم: الهوية، والأسباب الكامنة في الأسباب، فلا ضرورة لسؤال مثل: لماذا اعمل ... ولا ضرورة لسؤال: ماذا لو تخليت عن العمل؟ لكني ـ هنا ـ اخترع لعبة، أو تسلية، بل وعيا ً له موقعه للتحرر من الأعباء، والضرورات اللا ضرورية، يسمح لكياني أن يتشكل مع الموجودات النائية، والمجاورة على حد سواء.
انه شرط يحرر الشرط بتحوله من قيد إلى توق. فتكف اللغة عن مجال عملها، في الاستغاثة، أو في المؤانسة، أو في الشهادة، أو الترميز، كي تغدو جزءا ً من الختم. فهو وحده يقول ما يكتمه، وهو وحده يفضح كتمانه.
[4]البحث عن الذي غادرني
ليس أكثر من تأمل ما ستؤول إليه النصوص: زوالها. وبمعنى ما فانا امسك بما أراه يندثر. ففي عالم كفت فيه قوانينه ـ عدا عنفه وأقنعته وغوايته ـ عن العمل، يغدو الفن ممرا ً للبحث عن الدوافع التي سمحت لأصابع أسلافي أن تنسج هذا الذي حفزني للعثور على توازن مستحيل في الفن:انه قيد لممارسة وهم الخلاص منه. لم يكن أسلافي في المغارات أو في أعالي الجبال يحلمون بأكثر من المرور في الدرب ذاته الذي لا طائل من المشي فيه! إلا أنني ـ وأنا أبصر حبيبات الزمن تذوب في الفراغات والمسافات اللانهائية ـ لا أرى شيئا ً باستطاعته أن يمنع بصري من الاستيقاظ: التاريخ بصفته لم يبدأ! وكأن لغز جلجامش مازال يمتلك غوايته: التفوق! والبحث عن سكينة غير التي يحدثها الفناء، أو الموت. فأتخلى عن المعاني ..فانا أدوّن بحثا ً عن هذا الذي لا أتوقعه: لون ما .. أو تصدعات، أو مخربشات تمتلك كل ما لا يمكن تحديده في الكل اللا متناهي وقد غدا مرئيا ً، أو تحت البصر. فانا لست منفصلا ً عن نفسي! ولا عن ختمي. لأننا ـ كلانا ـ لا نمتلك سوى استحالة نفي هذا الحضور ـ هذا الذي يتفتت، ويتجمع، كي يعلن عن صلابة نظام الامتداد؛ امتداد الفراغات وتجمعها، حد استحالة مغادرة حدود اللامحدود ـ والسكن فيه. لا مكان ولا زمن ـ للمؤجلات! فانا تام الموت، وتام الغياب، وحضوري وحده صار الختم بما يستحيل مغادرته. إنها لذّات أصابع أمسكت بالمفتاح وهو يدور في الهواء.
فبماذا امسك...وليس بين يدي ّ إلا ما أراه يغادرني، عدا إحساسي الخفي بان اللا متناهي يمتلك حضوره، لا كغواية، أو مناورة، بل واجبا ً.
هكذا ـ كما يحدث لمن تأجل موته ـ يختفي التذمر أو الاستسلام للتعب، فيغدو ـ هذا الغائب ـ حاضرا ً بما فقده. فاستعيد رغبة صياغة علامات أحاول فيها وضع مصيري برمته، لا للمباهاة أو لفت النظر، بل للتواري، والسكن بعيدا ً عن الرقابة. لكنني لم امتلك قدرة أن أصبح أعمى، إلا عندما ازداد ثقة بان مصيري يسبقني، فامشي خلفه، بلا استئذان، أو رغبة بالغفران. انه الذنب التام الموازي لولادة لا اختيار لي فيها بعزلها عن حتمية أن أراها تأخذ ـ غيابها وحضورها ـ كي أحافظ على شرود ـ وعزلة ـ كلاهما يجعلاني امشي في جنازتي ـ أو في موتي.
[5] المحنة: الفجوة ليست بعدا ً
عندما لا يقذف الفنان عمله (الفني) إلى السوق، بصفته سلعة، أو عندما لا يجد مبررا ً لعرضه خارج حدود المشغل، أو عندما لم يعد نتيجة أسباب خاصة، فانه، في لحظة استحالة العثور على ما يماثل مشاعر الانجذاب في الحب، أو في التصوّرات الاستثنائية، التي اتحدت وسائلها بغايتها، فان ثمة ظلمات لها فعل الغبار البركاني تجعل مصيره معلقا ً، فيرى انه ـ في العمق ـ قد هدم ما علق فيه من تاريخ، لكن ليس لصياغة علامات مميزة، وإنما كي لا يبدو ، في هذه المتاهة الحالكة ـ إلا وقد اجل خاتمته، مثلما أدرك انه كاد ينفصل عن ماضيه.
أليست هذه أزمة لاذعة، كالتي يكتوي فيها جندي في حرب لا معنى لوجوده فيها دخلها كي لا يغادرها، لا بالربح ولا بالخسارة، أو كحال من وجد انه غير قادر على الاندماج، حتى في الاستسلام لموته!
إنها ليست حالة سيكولوجية، أو اجتماعية (بسبب استحالة العثور على خلاص يوازي وعيه لوجوده) وإنما شبيه بموقف من وجد أن أفضل الاختيارات باطلة، فيكون ـ هنا ـ كمن حفر في الأرض قبرا ً لينبت فيه أسباب استحالة انه وجد فائضا ً، أو محض مصادفة، تاركا ً الأمل والخسارة والتصورات بعيدا ً عن الخاتمة.
هو ذا الطريق المائل المضاد للدرب العام، الذي لن يسمح بالارتداد أو الشكوى. فالصوفي يأمل ـ حد الصدق ـ بما سيجده في الفناء ـ أو بما لا يجده أيضا ً ـ وشبيه بمن تخلى عن أناه لقضية ما بلغت ذروتها في الوجد، والانجذاب حد المحو، إنما هنا تحدث المصالحة بين الكيان ـ كياني برمته ـ وما أراه أصبح شبيها بالملكية: الأشياء ذاتها لا تخفي إلا ما تعلنه، وهذا الذي تعلنه ليس هو الذي كنت أريد أن يكون مجموع الأشياء. إنها ـ اذا ً ـ المحنة وقد غادرت لغزها. فأنا أصبحت علامة مضادة؛ علامة بين علامات، كغريق لا يمتلك إلا أن يحيا حياة ما بعد الغرق: حال صوفي أخذه الوجد حد غياب غيابه. وهي ذاتها اللحظات التي طالما قاومت فيها موتي (المادي) كي أصحو ـ كآخر ـ كف أن يموت.
إن أصابعي تجرجر رفيف رغباتي فأراها تتداخل في وجه، أو في جسد مختزل، أو عبر اللا متوقع وقد أمد في ّ قدرة الموازنة بين المستحيلات والمنجز، وبين الأشكال وما تسترت عليه. فالإحساس الجمعي غدا لا صلة له بعلاقتي مع الآخرين، كما حرر (ذاتي) من قيودها، وغذاني بالتقدم، مرة بعد أخرى، وأنا أكاد امسك بالذي لم يسمح لي أن أعيش خارج انجذابه: أهو الفن، أم هو ما بجواره، أم هو حماية ما، أم الشيء الشبيه بـ (بالشيء)، الذي لن يقارن إلا بالمسافة بين الظل ونوره، أو ـ بمعنى أدق ـ هذا الذي اراه تكوّن عبر غيابي ..والا فانني اكون قد وجدت غواية ما للاندماج .. أي: للعزلة، كالميت وقد عثر على من يرقد بجواره!
[6] المحدود ممتدا ً
طالما أدركت ـ بعد تذوق مرارات العمل في الصحافة ـ أنني امشي آليا ضد إرادتي. فقد كانت الأخيرة لا تعمل على استنزاف الجهد ـ والتأمل ـ والشخصية فحسب، بل على دفع الفن باتجاه التداول. ان طبيعة الموجودات، منذ امتلكت الحد الأدنى للتحكم بمصيرها، وجدت أنها في الاشتباك. فالبشر ينقسمون إلى من هم في المقدمة، والى من هم في القاع: النظرية التي تعيد صياغة التقسيم القديم ـ الصياد/ الضحية، بما يناسب من يتحكم بالمصائر، وأنا أحسست، منذ الثالثة من عمري، بذلك الانقسام، ورحت أتتبع مساراته، ومشاهده، ونتائجه. ولست بصدد تفكيك خفايا المجال النفسي لدوافعي ـ هنا ـ بل لمعرفة دوافع من هم في المحيط/ الهامش لا يعملون من اجل استبدال أدوارهم بمن في المقدمة، وإنما لخلق توازنات لا تخلو من عدل، أو في الأقل: ليست جائرة. لكن العالم ـ بعد العصر الصناعي وما بعده ـ استثمر الأقنعة/ الأيديولوجيات، لجعل الاشتباك متواصلا ً. فالبشر لم يخلقوا للرقص، ولا لأداء أدوارهم في الاحتفال الجمالية، ولا للأعياد. فليس لدي ّ ما استند إليه عدا الأعداد الهائلة من الضحايا: في تدمير البيئة، والعناصر البكر، واستهلاكها حد الإيذاء ـ التلوث الشامل ـ، ومعاملة الحيوان بقسوة وجدت مبرراتها بأشكال مختلفة، فضلا ً عما خلفته الحروب من خراب وأخلاقيات قائمة على تعزيز التقسيم القديم. لكن العناصر وباقي الكائنات الحية لم تكف عن تشبثها بوجود اقل قسوة، وشراسة، ودناءة، إلا أنها لم تثمر إلا عن ذهاب القوى نحو غياب تام للشفافية. فالحياة ـ بزيادة السكان، وتراكم الموارد، وأدوات الفتك ـ مكثت تقسم البشر بين من يعمل مع المتحكم فيها، وبين من أصبحوا تابعين، وممحوين.
انه مشهد حفر في أسئلة أجوبتها ـ عند البحث ـ كانت مصدرا ً للمعاقبة، والإيذاء. فالسؤال، لماذا الفن، لم يفض إلى فضاء مغاير، أو ناء ٍ، عن تغذية التقسيم. لأن الفنون الجميلة ـ وضمنا ً الفنون الأخرى/ والفنون الهامشية ـ لم تجد جسورا ً مع من هم بحاجة إلى أساسيات الحياة: الخبز والماء والإضاءة والقليل من الهواء غير الملوث.
على أنني عقدت ثقة ليست عمياء تماما ً مع إرادتي في الانحياز إلى الفن. فثمة ظلمات لم أكن لأدرك كم هي بلا حافات لولا هذا القليل من الإنارة ـ وهذا القليل من الومضات. لكن القلب، هو الآخر، لا يعمل إلا كعمل مجرة بين المجرات! فهو لا ينبض بسبب أوامر يصدرها العقل، مع ان اللاوعي يسمح للوعي بمجاورة الضوء، والتدشينات السحرية. بمعنى اقل إحباطا ً للمغامرة فان القلب ـ بصفته مجرة وليس نجما ً أو كوكبا ً ـ يوازن بين برمجته نحو موته بغواية العثور على خلاص غير مزيف تماما ً. فانا لا اعمل وكأن كل جزء من الثانية ـ حد عمل قوى اللا مرئيات ـ برمج آليا ً في (الماكينة التي تخيلها ديكارت) وفي الوقت نفسه، فان تفنيد المصادفة/ المصادفات، لن يفند ظاهرة الاضطراب ـ ومبدأ: اللا متوقع ـ واللامعقول في الأخير. فالأشياء بوجودها ليست بحاجة إلى برهان ـ لأنها وجدت تلقائيا ً، أو خرجت من العدم ـ مادامت أفكر بأدوات، هي، غالبا ً، من أسهمت بصياغة هذه التصورات. فانا كمحدود أدركت ـ وهو مثال يقارن بحدود وعي الآخرين ـ ان اللامحدود الذي شغلني/ وشغلنا، لا يمتلك إلا ان يكون بحدود ما أنتجه المحدود، مع ان اللامحدود سيبقى ـ كالعدم أو كالأثير عند قدماء الحكماء ـ قائما ً ولا يمكن تفنيده. إلا أنني سأزداد شكا ً في تصوراتي، ولن استعين بها إلا نتيجة حتمية لاشتباكي مع المستحيلات؛ مع الزمن، ومع ديمومة التقسيم بين من اخترع التصورات وآخر لا يمتلك إلا ان يتدرب عليها، ويفندها، حيث العدالة ـ منذ أيوب السومري ـ لم يفلح إلا قلة ـ حد الندرة ـ من تخيل حتمية وجودها، كوجود العدم تماما ً. لقد كان عقلي احد أسباب انحيازي لرهافة طالما وجدتها في ما لا يحصى من المشاهد، ان كانت بالغة الدقة، أو باتساع المديات ما بين اللاحافات. ولكن قد تكون الرهافة ـ هنا ـ المصدر الأول، وليس الآخر الذي حدد عملها ـ هو السبب المباشر لها! لكني سأدرك ـ بالوعي وبالرهافة ـ ان احدهما لا يمكن فصله عن الآخر. فمن سوى العدم يستحيل ان يكون للوجود هذا التتابع، المحكم، حد ان اللا متوقع ـ والمصادفات ضمنا ً ـ مظهرا ً من مظاهره ـ وبرهانا ً على وجوده. لكن أي لغز سيحدد ماهية أو آلية عمل تلك القوة الداخلية ـ التي تبدو غير قابلة للدحض ـ في مواجهة استعادة العدم لموجوداته!
[7] اللاحافات ـ أو المشفر
أيا ً كانت النتائج: كل ما لم ْ ير عبر الحواس، أو عبر الحدس، أو عبر العقل، إن كان العدم الممتد ـ غير المدرك ـ أو الذي سينتج حلقة ما في التحولات، فان إرادة حياة الفرد لا يمكن عزلها عن مكوناتها ـ وتتابع أزماتها ـ كي ترتقي إلى الأفعال الخالصة. فالنسبية تعني أني مقيد بما امتلك، وليس بما أتخيل، أو افترض. لأن التصورات ليست مستقلة في ذاتها أو تعمل بمعزل عن مكوناتها.
أتذكر ـ هنا ـ أنني سألت زميلة لي في العمل حول سبب عدم نشرها مخطوطات كان والدها قد أنجزها ولم ينشرها، فقالت بصيغة سؤال: وماذا تنفعه إن لم تخلصه من الآثام؟ فسألتها: وما ـ بتصورك ـ فيها من آثام؟ فقالت: إن نصوصه الشعرية تتحدث عن مفاتن الحياة وغوايتها! هذا الحوار سمح لي أن استبعد نظام الذهاب إلى اللا عمل والوصول درجة الاتحاد بالكل، إنما ـ بعد أيام ـ سألتها: وما نفع كل ما تنجزه المخلوقات الزائلة للذي لا يزول؟ لم تبلغ في ردها ما كنت آمل أن تجمّد في ّ جذوة الشرود. لقد تحدثت عن الفضائل وما ينفع الناس. جيد. قلت لها: ربما في قصائده السر ذاته الذي لا يوجد إلا في الكلمات، أو عبر مشفراتها. السر الذي يتوارى في الأنظمة المشفرة للهندسات الجينية، بل الذي قد يكون سكن تصوراتنا ووعينا وحدوسنا التي تمتلك صدمات اللا متوقع، واللامعقول، لكن التي لها لغز هذا الذي يأتي من المجهول ليذهب ابعد منه! فقالت: أنا لا افهم هذا الكلام!
مع زميلتي المشفرة بدفاعاتها، استعدت حوارات لي مع الأستاذ مدني صالح ـ أستاذي وصديقي حتى رحيله ـ فلم يصدمني صالح بنبوغه وعبثه ووعيه الشعري كما صدمني وهو يتحدث عن عدم اكتراثي للغرائب، بل ولا للصدمات!
قلت لها: وهل يكترث المطلق ـ اللامحدود ـ لنا، ولشطحاتنا، ولظلالنا المائلة، ولعثراتنا...وماذا لو اكترث، وجرت معاقبتنا ـ بعد موتنا أو في حياتنا ـ إن لم تكن غاية لها ذروتها بما تمتلكه من حكمة! وأضفت: لكني أرى أن انشغال بعضنا بما يبدو فائضا ً، أو له معناه المغاير لانشغالات البشر بحياتهم اليومية، كالبحث أو الذهاب إلى المناطق النائية، لم يولد قسرا ً أو يولد من الفراغ. هل دار بخلدك أن يوما ما سيأتي يتمكن فيه الناس من استعادة ما حدث في أي زمن ـ وفي أي مكان، للتعرف على قانون: لا عبث ولا مصادفات في الديمومة، لا التي تعرفنا عليها ولا التي مكثت مقيدة بقيودها، إنما التي تجعل المعارف ـ كافة ـ مع قليل من الفضائل، لا يمكن عزلها عن نسبية أحكامنا، وأفكارنا. فاللامحدود يتسلل عبر نظامه كي يكتشف المحدود لهفته في المغادرة، لكن للامساك بما اعتقد فيه، أو تصوّره، بل للذي سيبقى ابعد من تحديد موقعه الذي استحال إلى قيود عند البعض، والى سكن في اللاحافات عند البعض الآخر!
[8] منعم فرات ـ السرداب خال ٍ من السلالم!
لم يكن النحات منعم فرات كاتبا ً، ولكن الكلمات القليلة التي تركها تكفي لمعرفة انه لم يكن مشغولا ً ببيع مجسماته، ـ وإن كان مضطرا ً لبيعها في بداية حياته ـ التي وضعته، ذات مرة، أمام القضاء، فقد كان يرى (الدنيا) سردابا ً خال ٍ من السلالم، وعراك البشر، عنده، غير مبرر، وهذا ما دفعه ليصغي إلى ذرات الخامات في تصادماتها، وفي عويلها العميق، وما تتركه من غموض ملغز، لا يليق بنا كبشر، ولا بأصول الاشتباك. انه سمح لي أن أتذكر أعظم شعراء العراق مرارة في المشهد ذاته، الملا عبود الكرخي، لأنهما كلاهما منحا الفلسفة الانتقادية سكنها في الفن. لم يكن منعم فرات بهلوانا ً، أو أيديولوجيا ، كي يخدعنا، ويوهمنا، ويغوينا، كانت مهمته قد سمحت له أن يستعيد تقاليد أقدم الانشغالات اللا متوقعة: الأشياء الشبيهة بالفن. لكن ليست الهامشية، أو المهمشة، بل المتجذرة في الشخصية الرافدينية، وايكولوجيتها العميقة. فالبدائي يذكرنا ـ في مجال مجاور ـ بالتماثل التكويني الحاصل في تكوينات أجنة الكائنات الحية، واختلافها، بعد ذلك. وكان هذا الاختلاف، في فنه البدائي ـ أو السابق على المعرفة التلفيقية ـ يخص إنسانيته، فلم يبحث عن الثراء أو الشهرة، فقد انشغل بأسئلة ترجع إلى المنطق: لماذا تنتهك حرمات المخلوقات الضعيفة، ولا تجد من يقف معها. الأسد لن يتحول إلى وليمة! ولكنه، لن يفلت من العقاب، عندما نعيد قراءة الدورة كاملة. كان هذا الانشغال يمتلك هويته ـ مع فجر التحديث في الحياة البغدادية ـ وبصماته، وشفافيته. فارجعنا منعم فرات إلى حكماء العصور السحيقة، من سومر إلى بابل، وصولا ً إلى مفهوم المعتزلة حول العقل، والمتصوفة بتخليهم عن غوايات التراب. فكان فنه إجابات لا تتضمن أسئلة، بل تزدحم بها، حد انه لم ير الحياة، إلا كما رآها الشاعر الملا عبود الكرخي ـ كما في رائعته المطحنة ـ فالدنيا ـ الحياة ـ لا تساوي شيئا ً كي تنتهي بالحساب! حساب يجري مع من: مع العناصر، أم مع المكونات، أم مع النتائج ... ومنعم فرات، كالكرخي، لم يهمل المسار المعقد للاشتباك، والتصادمات. فالضحية ـ كما في سفر أيوب السومري ـ يستعيد قراءة مفهوم العدالة برمتها. هذا الوعي العميق الكامن في فن منعم فرات، لم يكن بدائيا ً، أو شخصيا ً، كآخرين سيحولون فنهم إلى سلعة، والسلعة إلى ما تتطلبه من مهارة حرفية، وإنما بمهارة الفنان، كي تعالج قضايا توازي مرارة المحنة: المحدود إزاء مساحة الاشتباك وما تفضي إليه. فلم يحول فنه من اجل الكسب، ولم يسمح لحياته أن تكون عابرة. فلم يوظفها لأحد، أو يقع في غواية الدفاع عن وهم من الأوهام. لقد وجد مصيره شبيها ً بمن سبقوه، التمسك بالدفاع عن الهزيمة ـ وعن المهزومين ـ: فالاشتباك لن يقود إلى نصر، ولن يقود إلى خاتمة، عدا ديمومة مقدماته ونتائجه: الأكثر رهافة في مواجهة جبروت الظلم ـ والظالم. وحتى لو كان قد اختار الفلسفة ـ كأسلافه المعتزلة ـ لكان لقي حتفه في سرداب، أو لكان اختار الفناء/ والتطهر/ والعفة / كالمتصوفة، ومات ضحية الأنظمة ذاتها في إنتاجها لبنية الاشتباك. تلك كانت ريادة منعم فرات التي صاغها ولفت انتباه نقاد أوربا ـ وربما الاستثناء الجدير بالذكر هنا، هو استأذنا الدكتور أكرم فاضل في عنايته بالفنان ومهد للباقين في الحديث عن حياته وفنه ـ كي لا يذهب المجهول.
لكن مهاجرا ً لم يحتمل مقاومة الرداءة في وطنه، لن يرصد الجهد الممهد للوعي النقدي ـ على صعيد الكتابةـ أو في الانجاز الفني، خلال القرن الماضي، في التشكيل العراقي، كي يهمل الجهود كافة، ولا يستثني الا من راه عبر ثقب في بصره! فلم يذكر ان الوعي النقدي عند منعم فرات، ومحمود صبري، وجواد سليم، لم يكن عابرا ً، كما لم تكن المقدمات النقدية عند جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن، وعباس الصراف، بنزقة في هذا المجال. وسيقال لي: لماذا تشغل نفسك، وتشغلنا، بما هو بمصاف اللا فعل!
أعود إلى منعم فرات، كإجابة تلخص المسار ذاته لنسق من قال كلمته ومضى، كما قالت العرب، لكن هذا ليس اعترافا ً بالهزيمة، بل للفت النظر إلى البلاغة الزائفة لعصر الإعلانات، وإهمال سيسمح للدورة أن تبلغ نهايتها: الاستهلاك. لأن مفهوم صياغة الأختام البكر، لن يغادر لغز تكّون الرهافة ـ من الأصابع والحواس إلى الدماغ، ومن الأخير إلى الوعي والى النص الذي غدا نموذجا ً للأكثر احتمالا ً في تدشين الدروب الوعرة. فعندما تشتد العتمة ـ لا بغياب مصدر الإنارة فحسب ـ بل لانحسارها لدى الباحث وتحولها إلى حلقة بين لا محدودين ـ أو مجهولين. وإذا كان من الصعب إجراء مقارنة بين ما ينتجه المحدود، وصلته بما هو ممتد، فان الأخير، ليس فائضا ً في حضوره عبر علامات قاومت زوالها، لا كي تغوينا بالخالد، والسرمدي، بل كي لا تمجد الوهم كثيرا ً!
[9] اللاحافات ـ الصفر عددا ً
وأنا انظر إلى تلال القمامة، التي كانت ترمى إليها جثث المغدور بهم وتترك نهبا ً للكلاب التي لا اعرف أأنا كنت انظر إليها مذعورا ً أم هي التي كانت تؤجل مشروعها نحو جسدي، فكرت بالمخلفات: نفايات المدن في خرابها/ وما يخلفه الزمن/ ولا مبالاة الناس. فإذا كان الأوروبي يتداول سلعه، ليستهلكها، فهو أكثر فهما لمصيره بين خاتمته ومقدماتها. بضائع جميعها لم تصنع في بلدي، فالناس تحولوا إلى مستهلكين، الأمر الذي عزز عزلتهم، وهمومهم، إلا في الرصد والمراقبة. فالعمل أصبح ـ كما كان عمل المزارع أو الحائك قبل نصف قرن ـ لوثة! فكرت في النفايات المنتشرة، في الساحات، مع بقايا أشجار مهملة، وعند نهايات الأزقة، وفي الممرات الجانبية، ولماذا أصبحت لا تثير القرف! هل لأن من أسهم في دفن أحفاده يجد سلوى في عرض نشاطه، بعد أن صنعه، كي يدافع عنه في هذا العرض الغامض للأعماق، والخواء! فانا لن أنسى أن أستاذا ً يعمل في وزارة ثقافية وتربوية، طالما انجذبنا إلى حواراته حول ما يحدث، رايته، في يوم عاصف، يفّرغ سلة المهملات فوق تل الزبل الذي يقع في نهاية الشارع! ما علاقة هذا بعملي وأنا مشغول بالعثور على غواية للتنفس، وليس للخلاص! فالموت هو الذي بلغ ذروته، أما الحياة، فلم تعد إلا دحضا ًلكل ما تعلمته منها. الأمر الذي سمح لي أن احفر مساحة ارقد فيها، في الختم، ختمي، أو في العبارة، عبارتي. على أن دوافع الحياة ليست ذاتية، من غير محفزات حتى لو كانت بحجم مرور طير، أو تأمل شجرة معزولة بين مدافننا. فالمائة عام الأخيرة، التي أراها أمامي، ليس باستطاعتها إلا أن تسهم بموتي جزءا ًجزءا ً، وها هي تحول الأشكال إلى نفيها، ولا تترك للدوافع إلا أن تكون لا متوقعة، ولا معقولة. فهل كان إنسان المغارات ـ الذي وجد نفسه يحفر فوق الصخرة، أو يرسم فوق الجدران، يعمل بدوافع القهر، وهو ـ مثلي ـ أدرك أن الجدران لن تحمي شيئا ً، أم كان، لسبب ما، يعمل بقوة الديمومة، واليات غوايتها؟
أليس من العبث أن اسأل نفسي سؤالا ً حول اللغز الذي سكنه، وجعله متوازنا ً، وهو عرضة للافتراس، بدل أن أحاور الجزء الآخر في راسي؟ يصعب علي ّ ـ الآن ـ الإجابة عن سؤال: ما الصدق/ ما الواجب/ وما الصواب ...؟ فالاشتباك ـ الشبيه بحرب الجميع ضد الجميع ـ لا يستند إلا إلى نظام الصياد ـ الضحية، هذا الذي ـ خلال قرن ـ اتجه نحو خاتمته: بلدان غادرت التاريخ،وبعضها تُرك يحتضر فوق تلال القمامة، وعند الخرائب، وأخرى تنهش بعضها البعض الآخر؟ فأي أمل، أو حرية، أو خلاص، أو منطق، بإمكانه أن يستبدل الوهم، والرداءة، والتعفن، بهواء غير اسود!
لقد تحدث (ادلر) عن الدفاعات التي يستند إليها المنتحر، الدفاعات السلبية، لكنها، في الأخير، لا تقل رداءة عن عمل الشعوب التي تفترس أخرى، وتحولها إلى مخلوقات بلا غاية، ضائعة، وحشية، ولكنها ـ كالكلاب التي كنت أراقب شراستها ـ لا تعرف الرحمة.
وأنا أراقب الريح تهز سعف نخلة الجيران، اجهل ما اذا كانت هي التي تمشي في جنازتي، أم أنا هو من يمشي في جنازتها! الريح، بمعنى ما، الوسط المرئي للعبور، لا تمتلك إلا عفنا ً تحمله معها، داخل أرضنا، دون إضافات تذكر. فالعفن الذي حصل، بعد أن انفصلت الأرض عن نجمها، وتجمعت العناصر، وصار لها مجالها الحيوي، أنتج لغزه. فذرات هذا الجسد، جسدي، مع كل ما أنتجته، ونطقت به، وكتمته، سيكّون جزءا ً من الريح وهي تؤدي دورها ـ الذي لا مقدمات له، ولا خاتمة ـ في المرور، والعبور، والإعادة. فثمة آخر مغفل سيعمل لا على غواية الآخرين، أو إيذاء البيئة، بل في الذهاب بعيدا ً في مدياته من اجل التوازن. حقا ً أن من لا وجود له ـ أمامي ـ أراه يحفر ـ كما اشتغل في فك مشفرات مخلفات السابقين ـ واراه، مثلي، يجهل سر استحالة استبعاد القبول إلا بالغواية نفسها: المرور إلى هناك، وابعد، في انتظار الذي يمر بأسرع من زماننا ـ في أبدية اللاحافات!
[10] عودة: جذور التأمل
هل باستطاعتي أن اجري مقارنة بين عدد من المهن ـ بالمفهوم العام ـ كمهنة صانع الأسلحة، أو الأحذية، أو صانع الأواني الخزفية ...الخ بمهنة القاتل أو اللص أو المشتغل بإدارة أعمال لا شرعية ومنها إدارة المواقع الداعرة، أو التنكيلية، أو الخاصة بالشذوذ والغرائب، بمهنة شخص وجد انه مشغول بفك شفرات مقاومته للاندماج، حد المحو، والتلاشي، وتمسكه بفردية لا علاقة لها بالمهن، أو بأي مشروع للتعالي فوق البشر، أو عبادات سحرية سرية، بل، في الغاب، وجد انه غارق في مسار الترقب، وتتبع حلقاته...؟ إن انشغالا ً قديما ً ـ ومتجددا ً ـ يدفع بعدد من الأشخاص للإعلان ـ وللكتمان أيضا ً ـ عن هذا الضرب من الاضطراب، والتكيف، ان كان مرضيا ً، أو مجاورا ً له، نحو موقع صناعة (أشياء) ليست مهمتها لفت النظر، أو سلعا ً للتداول، أو حتى محاولة للاندماج المشروع، والواقعي. لكن هؤلاء المحصنين، والمحميين ذاتيا ً، لا يمتلكون الذهاب ابعد من وظيفة (ما) بين التقسيم الاجتماعي للأفراد: تقسيم العمل، كي لا يجد صانع (الفن) نفسه إلا ـ كالكاتب ـ وفي مجتمعات المنظمات المنغلقة ـ معزولا ً ووحيدا ً. مع ذلك فعدوى الرهافة، في الأصل، تمتلك ديمومتها، وعملها بين الأعمال الأخرى. فالتفرد ـ في الختم/ التوقيع ـ ليس علامة جذابة، ضمن بضائع السوق الحرة ـ أو عبر حرية السوق ـ بل للصانع نفسه. فهو ـ كما في عدد من حالات الشرود/ والتوحد ـ يغدو قوة لمغادرة الانعزال، والضمور. فهذا الذي سيحدث (ويحدث)، في واقع الأمر، شبيه بمن وجد نفسه موجودا ً، كي تتكرر الأسئلة ذاتها المحفورة في النصوص، إن كانت كتابية أو فنية، فالدورة لم تكتمل، وإلا لوجد الفنان مصيره مع الحرفيين، وغدا منسجما ً في أداء عمله، بدلا ً من انتظار الذي ذهب، أو الذي لن يأتي أبدا ً، وإنما الذي له حضور الغائب!
هنا، وهنا تحديدا ً، لم يعد للنبش في المخفيات، الاهتمام ذاته في التوغل خارج حدود الخامات، الأمر الذي يدحض ـ ولكن يكرر ـ انشغالات الساحر القديم: ليس المهم الحصول على الدهشة، بل كيف تبقى تحافظ على لغزها: هذا الانجرار، بطيب خاطر، إلى المتاهة بصفتها لذّة، ومضادة لها، في الوقت نفسه!
[11] ماض ٍـ يتقدم ـ وآخر يثب
فإذا كانت الدهشة قد تجمدت، وكفت أن تكون واقعا ً، وإذا كان الانشغال بعدم الربح شبيه باللامبالاة تجاه المحو ـ أو الخسران ـ فان أمرا ً ما مشتركا ً بين ذاتية الفنان ومحيطه يتحدان لا ضد الرغبة، بل بجعلها أكثر قربا ً من صياد أدرك انه لا مناص الضحية. على أن هذا الذي لا ابحث عنه ـ في أختامي ـ كالجراح لا مناص أبصر موت مريضه، كلانا منشغلان بحاضر سابق على الانجاز! ثمة أزمنة أجدها تستيقظ عنوة: فانا جزء كلما اتسعت مسافتي عن باقي الأجزاء أجد أنها تعمل في ّ: ما لا يحصى من التصورات حول ما بعد الموت، كالتي تراود مخيال الفيزيائي في احتمالات اتساع ـ أو تقلص ـ أو بقاء الكون على ما هو عليه. إن المشترك بينهما يخص استكمال بقاء الماضي ماضيا ً. فهو يزحف، ولن يتراجع، بل يكمل بعضه بالبعض الآخر في المسافة ذاتها.
محنة أخرى تثب، ستوازن بين المرارة وبين لذّات النشوة. فكما يجد العاشق أقاصي المسرة في استحالة لقاء من طلبه، فانا أتلمس في الدوافع شيئا ً ما آخر غير الذي أراه مرئيا ً، ليس ما توارى ـ أو ما هو قيد الاندثار ـ بل هذا الذي امسك في ّ وقيدني في العمل.
الفن شغل، بمعنى: عملا ً مضادا ً للعمل. لكن طبيعة هذا العمل ـ كالحرية ـ لا تعّرف بمفهوم أو بخاتمة. فهو اذا ً وجود ينفي وجوده. وهنا أكون قمت بما يؤديه الدياكتيك (الكلي) باستبعاد أي سبب عن الأسباب الأخرى. فإذا كانت نهاية ما أره يغادر، فان ما هو قيد الغياب سيتشبث بأبدية الثابت، أو ما غدا خالدا ً بحدود معنى الكلمة ـ وحروفها ـ وتصّوراتها.
فالعالم مكث ـ من بضعة كائنات إلى مليارات سبعة من السكان اليوم ـ راسخا ً باستحداث قدمه ـ ومقدماته المكتفية بذاتها. وهنا أجد رهافتي شذبت درجة أنها غابت في ّ. فالأجزاء غير القابلة للإحصاء ـ جزئيات/ ذرات/ كيانات/ مجموعات، وصولا ً إلى لا حافات الاتساع، أو نحو الصفر ـ قد قيدت ودونت في ّ. فانا، مرة أخرى، أجد نفسي بجوار شبيهي: ميتان يتبادلان الموت، لكنهما يعبران من الماضي ـ إليه ـ بعيدا ً عن الموت. فالدوافع تكاد ـ في انفصالها عني ـ لا تمتلك إلا حدود المفتاح وقد دار في القفل. انه المحدود ـ أو النسبي ـ وقد اتسع خارج إمكانية تلمس أي حافة من حافاته. فهل قصد أسلافي ـ في التحول من الشفهية إلى الحفر والى الكتابة ـ هذا الذي أنا أؤديه استكمالا ً لماض ٍ، بحسب قدراتي في التصور، ومن غير خاتمه له؟ لأنه لا يمتد، ولا ينبثق، ولا يرتد، ولا يتماثل، ولا يكتمل. بمعنى ما انه سيحافظ على ما في العمل من قيود، وأنظمة، وضمنا ً، من ارتواء يستدعي مستحيلاته. فالذي يقع هناك، غير منفصل عن التمهيدات التي استحدثته، لكنه سيبقى يمتلك ما يريد أن يؤديه، إنما بما أريد أن أنجزه، وليس بمعزل عني.
[12] ديمومة الغائب ـ الموت حاضرا ً
الأختام مجّفرة ـ مشفّرة ـ بمعنى أنها لا تخفي بصمات حاملها ومخفياته، بل ولا صانعها، لأنها، في ما تخفيه، امتلكت لغز موتها بتمام حضوره. فما دوّن فيها يمكن عزله: القصد والتداول والهوية، فيما اكتشف، بعد عزل الزمن عن حركته، أنها صنعت لتخفي ما لم ـ ولن ـ تعلن عنه. ففي الختم ديمومة علي ّ ان لا أقع في وهمها، ديمومة بدأت اعزلها عن أسبابها النائية. فجأة بدا الختم لي ـ مثل إنانا ـ علامة توارت فيها ما لا يحصى من العلامات. على ان الختم ليس علامة ـ للتداول ـ والتجاور ـ والمنفعة، فالختم قبر.
أعدت قراءة بعض الأشكال، فلم اخف ولم اصدم أنها شبيهة بما أراه في (ما أنا عليه/ جسدي، أو هذا النفس، أو الروح التي لا اعرف كيف آوتني معها فيه) هذا الجسد. فليس مصادفة أنني اشتغلت بالمدافن: مدفن شبعاد/ ومدفن والدي/ ومدفن الجنيد. فقبل عقدين، وفي ليلة شتاء باردة، قبيل الفجر، طلبني شيخي فذهبت إليه (كان معي عدد من الفنانين اذكر منهم هيثم حسن، سلام عمر) فلم أر إلا جسد الأرض: ختمها. لكنني كنت تعلمت ألا أقع في غواية الوهم. فالقبر ـ كالختم ـ ليس شكلا ً أو هيئة، بل ممرا ً من الأرض إلى لغزها. فاكتشف أنني لم اغدر جسدي بعد، إنما استطيع الاعتراف أنني تحررت منه. كذلك القبر لا علاقة له بمن فيه، إلا في حدود الأشكال. فهو مدرج سفر ـ وطيران ـ ولم يصنع للإقامة.
يا للفرحة التي بلغت ذروتها: كم يشبه جسدي القبر، وكم يشبه قبري جسدي! كي أعيد استذكار اللحظات التي عشتها وأنا انزل إلى سراديب قصر شبعاد، في رمال أور، وقد تحولت إلى خرائب. تلك الأختام المبعثرة، مع الحصى، كانت تعلن عن هذا الذي أراه يغادر، كما حصل في الماضي ـ وكما يحصل أمامي ـ أراه تام الغياب.
كم أشبه نفسي! فها أنا استطيع ـ بما يتضمنه الختم ـ أن أوحد بين المتضادات التي غطست فيها، حتى تحولت إلى رحم، أم باستطاعتي مغادرتها، كما تتكون النصوص الشبيهة بالفن؟
ها أنا أتكّون في مساحة اللاحافات. فانا لا اسكن من سكنني، ولكنني لا امتلك قدرة الانفصال عنه. فاستعيد قدرتي على صياغة لماذا كان اسم [إنانا] شبيها بختمها، ولماذا تركت أصابعي تنتج ما نسجته آلهة الحرب/ الحب في ذاكرة أسلافي، وفي ما يدفن في أختامي.
فانا غير معني ـ يا له من اكتشاف ـ بما زال، وبما أراه يتبعثر، أو أراه يأخذ حبيبات الأثير/ والزمن، بما يتجمع. فالختم ليس ما نقش أو ما حفر، بل بما هو قيد الحفر. انه السابق على التجربة ـ وهو الملحق بها. ولأنني مشغول بعدم التمويه أو التضليل أو المناورة، فان التجربة تأخذ أسبابها التي كونتها، ومادامت الأسباب بلا حافات، ولا نهاية لها في وجودها، فإنها لن تعد بحاجة إلى برهان أو نفي. وهنا اكف تماما ًعن الأسباب التي استدعت أسلافي لصياغة رموزهم النائية. لا لأنها محض تصوّرات، بل لأنها مناورة القبر لمن لم يسكنه بعد. أما ما بدا لي خارج ضرورة البرهان فهو شبيه بالمثلث أو المستطيل أو المربع، وككل الأشكال أينما تضعها فإنها لن تذهب ابعد من وجودها كما ظهرت عليه، لأنها، في واقعها، لا تمتلك إلا ما سيشكل مغادرة لحضورها: حضوري وأنا مسبوق بوجود سابق على هذه الأشكال!
الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011
لقطات فوتوغرافية اثرت في العالم
في 22يوليو 1975 سمع مصور جريدة بوسطن هيرالد بواسطة جهاز الالتقاط الخاص عن حريق وقع في شارع ملبورو في بوسطن فذهب لمكان الحريق ليلتقط هذه الصورة للسيدة ديانا بريتن وفتاة صغيرة وهما تسقطان من المبنى الذي كانتا تعيشان فيه قبل الحريق. ديانا توفت في لحظة اصطدامها بالأرض لكن الطفلة عاشت لحسن الحظ لان رجل اطفاء حاول حمايتها وديانا من قوة الارتطام فنجح معها وفشل مع الاخرى.
حاز ستانلي جي فورمن على جائزة ال Pulitzer على تغطيته للحريق بالصور لكن الاهم من الجائزة أن عمله مهد لفرض قوانين صارمه بما يتعلق بحوادث الحريق وشروط السلامه في بوسطن والولايات الأمريكية الاخرى.
صورة حزينة لفتاة ال 13 اوميرا سنشيز التي ظلت حبيسة المياه والاسمنت لمدة 3 أيام اثر بركان نيفادو دلرويز في كولومبيا في 14 نوفمبر 1985 والذي راح ضحيته مايعادل ال 2500 انسان.توفت اوميرا بعد فترة قصيرة من انقاذها لتسبب الصورة الكثير من المشاكل للمصور الذي اتهم بعدم الانسانية واستغلال ماساة الفتاة للتصوير بدلا من محاولة انقاذها باسرع وقت. كذلك تسببت الصورة لمشاكل للمصور مع الحكومة الكولومبية التي ادركت بكون الصور تلك دلالة على فشلها وعدم كفائتها في التدخل لانقاذ الشعب في الكوارث.
التقط هذه الصورة المصور مالكوم براون في 11 يونيو 1963 عندما قام الراهب الفيتنامي ثيك كونق دس باشعال نفسه حتى الموت في احد أشهر واكثر شوارع سايقون ازدحاما .جاء الحادث كاعتراض ومحاولة لفت النظر لمشكلة رهبان البوذية الذين عانوا تحت نظام ديم الكاثوليكي الذي تحكم في جنوب فيتنام حينها.كان الرهبان يطالبون بحقوق تتساوى مع الرهبان المسيحين لكن النظام مارس عليهم القمع ومنعهم و من رفع اعلامهم الخاصة ومن ممارسة طقوسهم ومعتقداتهم.
الغريب ان الراهب لم يتحرك من مكانه اثناء احتراقه ولم يصدر عنه اي صوت!
حظى المصور ماكس اقيليرى عام 1999على فرصة العمر عندما سمح له بتصوير واحدة من اهم عمليات تصحيح تشوه السباينا بايفيديا .تمت هذه العملية الرائدة على الجنين صامويل سويتسر الذي لم يكن يتجاوز وقتها ال 21اسبوع وهو لا يزال في رحم امه.
يقول اقيليرا"خلال العملية التصحيحية اخرج صامويل ذراعه من الفتحة الجراحية في رحم امه. رفع الجراح ذراع صامويل لنفاجأ به يمسك اصبع الجراح الذي هز اصبعه في محاولة لاختبار قوة الجنين الذي تشبث باصبع الجراح ولم يتركها.في تلك اللحظة كان لها تأثير عميق علي كمصور يحكي القصص خلال عدسة كامرته ".عندما ولد صامويل لاحقا اعتبر اول جنين يولد مرتين.
بعد القبض على تشي جيفارا واعدامه قام قاتليه بدعوة مجموعة من المصورين لالتقاط هذه الصورة ليثبتوا للجميع موت "تشي العظيم"فيخفت تاثيره على متبعيه. لكن الصورة اضافت بعدا أعمق لاسطورة تشي لم يحسب لها قاتليه أي حساب لأن معجبيه قاموا بمقارنة ملامح تشي المتسامحه مع المسيح.
كان ويلهلم كونراد رونتجن اول من تلقى جائزة نوبل للفيزياء فى عام 1901 وهي جائزة يستحقها بسبب اكتشافه الذي يعد ثورة في عالم الطب وكان رونتجن قد اجرى سلسلة من التجارب لاحظ معها انبثاق وهج فلوري من الباريوم بلاتينوكيانيدي . جمع رونتجن ملاحظاته تلك وساعدته زوجته التي قدمت كفها لتجاربه وقام بتصوير اول اشعة سينية سهلت للعالم النظر لجسم الانسان من الداخل بدون التدخل الجراحي.
اودلف هتلر امام برج ايفل في باريس عام 1940 وعلى يساره معاونه المهندس البرت سبير
أول صورة عامة لغيمة ناقازاكي بعد القاء القنبلة عليها في 9 اغسطس 1945 والتي تسببت بمقتل 150000 نسمة وتسببت بدمار اعظم بسبب الحرارة العالية والاشعاع والريح التي نشرتها. كانت القنبلة الذرية الاولى القيت على هيروشيما في 6 اغسطس قتلن مايقارب ال 80000 انسان لكن اليابان لم تستسلم مما دفع امريكا لالقاء قنبلتها الثانية. وكان طيار ال B-29 شارلز سويني متجها بالقنبلة نحو Kokura Arsenal عندما منعه الضباب من الرؤية فتوجه لنقازاكي بدلا عنها.
كارثة منطاد هيدنبيرق لم تكن الحادثة الجوية الاسوأ لكنها كانت الوحيدة التي صورت وقتها ويقال ان هذه الصورة التي التقطت في 6مايو 1937 انهت صناعة السفر بالمنطاد. قتل في هذه الكارثة 35 من اصل 97 من ركاب المنطاد زيبلن الذي كان يعتبر حتى تلك اللحظة اكثر وسائل السفر الجوي امانا والتي كانت متاحه ايامها.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)