الخميس، 19 يناير 2017

أختام *-عادل كامل

























أختام *



الختم الرابع


عادل كامل

 [7] مقاربة ـ كاظم حيدر (أ)
    في التشكيل العراقي الحديث، كان كاظم حيدر، لسنتين أو ثلاث سنوات، يواجه آثار اليورانيوم. كان باسلا ً في التعامل معه، شبيه بحكاية (أيوب) جرب حد ان الأذى بلغ أقاصي جسده، لكنه لم يجدف. كاظم حيدر ، هو الآخر، بحسب الطبيب الكوبي المعالج الذي حاورته، بعد رحيله بيوم، ذكر لي ان الفنان مات باطمئنان تام، فلم يولول، كمعظم المرضى، أو يتفوه بغضب. كان كاظم حيدر، قبل شهور، وفي لندن، قد رسم سلسلة من الرسومات، شبيهة بأختام عراقية قديمة، سومرية أو أكدية، وقد أزاح قشورها، ليرسمها من الداخل: شبكات أوردة، وشرايين باللونين الأحمر والأزرق. كان يصوّر محنته، محنة جسده، هو، وكان يراقبه عن بعد أيضا ً.كان شيّع جسده، قبل الموت، كآخر وثيقة له مع الحياة. عندما سألته: هل لديك تصوّرا ً بصرياً عن العالم الآخر..؟ أجاب بالنفي..! ربما كان سؤالي غريبا ً، ولكنه برهن لي انه كان متوازنا ً، ولا يرغب ان يكون مضطربا ً في قضية لا جدوى من التوقف عندها.
    في رسائل (علي النجار) إلي ّ، أراه اجتاز مفهوم (التعبير)، والتضرع، والاستعانة، نحو الانغماس بعمله الفني، وقد امتزجت تأملاته لجسده ـ وللعالم كفراغ مشغول بما لا يحصى من الذرات ـ بخامات وخلاصات تكمن فيها استحالة فك المعنى عن سياق النص ومعالجته كعلامة تكاملت فيها عناصرها. فلم يتوخ طلب الاتكاء على احد، أو استدراج عاطفة ما يدرك أنها، تأتي وتذهب بعلتها، إنما لم تغب عنه رهافة انه لم يخلق فائضا ً، أو خلق كما تخلق الأشياء متضمنة معناها في ذاتها، بمفهوم عمانوئيل كانت، وإنما هناك علاقة ما بالغة الدقة بين الكلي والأجزاء، مثلما هي علاقة بين الأجزاء والكل الكوني. فجسده لم يعد قابلا ً للتلف، وفي الوقت نفسه ليس باستطاعته ان يبلغ خاتمة المقدمات التي دارت بخله، ذات يوم، حول الإنسان، ولغزه. وكأنه ـ في هذه التجارب ـ سمح للأبدية، ولحافاتها غير المقيدة بحافة، ان تميز بين صانع الموت، والآخر الذي سيبقى يحدق فيه! أبدية الأسئلة وقد سكنت، لبرهة، زوالها العنيد!
[8] مقاربة ـ محمود صبري (ب)
     اذا كان علي النجار قد جعل جسده (وثيقة/ ختما ً) كما فعل أسلافه في سومر، وفي أكد، من غير استثناء هاجس التعارض بين اللامحدود وحدود خامات الجسد وقيود وعيه ـ فان محمود صبري، في خمسينيات القرن الماضي، كان صوّر القهر عبر الشهيد، بصفته نذرا ً أو أضحية بانتظار اكتمال دورتها. فاللاوعي ـ وبرمجته أو سياقه الحتمي ـ لم يقلل من منح الشهادة سحرها، والانجذاب إليها. عمليا ً انه سيغدو نظاما ً في حماية المركز (السلطة/ أو كل من يمثلها) وكأن التجانس بين اللاوعي ـ الحتميات ـ والنظام الاستبدادي للدكتاتوريات ـ من كبير الصيادين إلى المتحكم بالمصائر ـ مسلمة لن تدحض. وعلى كل أولى محمود صبري نصوصه في الرسم، نظام الختم أيضا ً. مانحا ً المشهد الجمعي للصراع أولوية دمج فيها الذات، في سياق تصوير المتضادات. فلم يكن في خمسينيات القرن الماضي، في بغداد، إلا لمحات غامضة عن حقبة ما بعد الحداثة: من الألسنية/ البنيوية/ وموت الفن، وصولا ً إلى التفكيك ـ عدا بزوغ إشعاعات شاحبة للوجودية، في مواجهة كلاسية النضال ضد الاستغلال، والهيمنة. كانت الوجودية بمثابة التمهيد لعزل الذات، وليس لمنحها قدرتها على التأمل الانطولوجي، لكن محمود صبري، سينفذ سلسلة تتفرد بمنح الفن شهادة حياة: شهداء أو ضحايا في مواجهة القهر السياسي (اليورانيوم الرمزي)، ولأجل مصائر تقاوم التزوير، وقد تمسكت بأحلامها، حد سكنها.
   
 [9] مقاربة ـ عادل كامل (جـ)
     هناك آخر، آخر محدد أو بحكم المجهول، لا تتوخى الجسور القطيعة معه، أو المصالحة. وقد يدخل الوهن، الحذر، الظن، التراخي، عائقا ً، ولكن ثمة آخر شبيه بالوهم ـ أو بصفته غائبا ً، كي يبعث رغبة خالصة تتوخى عملية الاتصال، وديمومتها...؟ لا أتخيل ان هناك حركة ـ من غير ارتداد أو تقدم ـ حركة، حتى على صعيد التجريد، باستطاعتها ان تبلغ الصفر.
    يقودني هذا إلى ان هناك (في المشهد الكلي ـ وفي أدق تفاصيله) يصعب رؤيته أو تتبع مساراته كانهمار أمطار تسقط عشوائيا ، إنما بنظام خارج قدرات الرائي ـ المراقب، في القدرة على الاستنتاج. وعلى كل، هناك آخر ـ حتى لو كان جحيما ً بحسب كلمة لسارتر ـ له دوره في ديمومة التصادم/ الحركة. آخر لا يسكن خلايانا حسب، بل نسكن خلاياه. وانتظام أشكال الحركات، ستبقى تحتوي اتساع الاضطراب، لتذهب ابعد من حدود الحركة، نحو مجالها اللامحدود.
    قد اجهل لماذا اخترت الجسد علامة ـ كمركز ـ لمسافة متعددة الأبعاد، مساحة يحدث فيها التقاطع، والتداخل، وانشغالاته، وإنما هل ثمة غير الجسد، حتى في أقاصي التجريد، محركا ً: الجسد بصفته غدا التقاء ما لا يحصى من العناصر، والروافد بمختلف خصائصها، كي يشكل وحدة: صورة لجوهر داخل منظومة متآلفة من النوع ذاته: نباتا ً كان أو حيوانا ً   أو خامات معادن..الخ
    تلك الصور للجسد لن تغيب عن الحواس، منذ تشكلها ألبدئي. فالعلاقة تبرهن أنها جزء من نظام حالما يتهدم، لأي سبب من الأسباب، سيعيد بناء تشكله بالصورة ذاتها، أو بتعديلها، أو على نحو مغاير.
     جسدي في المرآة ـ وليس عبر مقارنة أخرى ـ لن يمتلك إلا ان يتوحد مع ما لا يراه فيها: انه لا يرى شيئا ً محددا ً، عدا استغراقه بالعثور على معادل للتوازن.
     في لوحة لي ترجع إلى عام 1976، شديدة الصلة بتجربة ما يتعرض إليه الجسد من تعذيب. ربما هي تناور بمعناها، على خلاف نصوص علي النجار: فضيحة عصر أو آثام حضارة. مناورتي ذاتها لا اعتقد أنها بحاجة إلى إيضاح. فهل أغفلت أنني رسمت أثرا ً يعلن عن معناه: تناثر أجزاء الجسد وتحولها إلى وحدات معزولة بعضها عن البعض الآخر: أصابع/ عين شاردة/ وفم يكتم صرخة/ وجمجمة بدت متداخلة ببقايا الوجه.
    انه ختم معاصر، يلبي نظام أقدم النصوص: وظيفته في مواجهة التحرر منها، معناه وهو يستدرج ما بعد المعنى، ورمزيته وقد أعادت بناء واقعيته النائية.
     في أختام علي النجار، لا توجد لذّة جمالية باذخة،  كالتي شغلت 90% من الفنانين العرب أو العراقيين: بل ثمة ما هو مضاد لها، لا بحثا ً عن مأوى في غريزة الموت، بل في مواجهة أنظمة لم يمت الإنسان فيها فحسب، بل المضي في عالم خال ٍ من مستقبله، وماضيه أيضا ً. فثمة انجرار إلى تيار (السوق) سمح للربح ان يستثمر أدوات الموت من غير اعتراض يذكر. فالحروب تشن، باستخدام وسائل الإعلام المتطورة، وجرجرة العاطلين عن العمل، بل وحتى العقلاء، إلى مهرجان لا احد فكر في خاتمته. والفن ـ كجزء من خطاب عام ـ لم يمتلك الكثير في مواجهة صانعيه إزاء شفافية التلوث!، والتفكيك بما يتضمنه من غوايات آنية، لا اجتماعية، تشّرع للربح النظام ذاته الذي تأسست عليه الأنظمة الدكتاتورية.
    قطعا ً ليس الفن أداة جارحة، حتى عندما يتمسك برسالة ما من الرسائل، إنما، في الأقل، لا مبررات كي يتحول إلى (سلع جمالية باذخة للترفيه) تزّين جدران تعزل العالم إلى من هم يتحكمون بالمصائر، والى مصائر اندثرت، أو في طريقها إلى الاندثار.
     سيقال، مرة بعد أخرى، إنها لعبة تتجاوز لاعبيها، لعبة ترك البشر في نزاع دائم، على ان الضحايا، في هذا القانون، بالدرجة الأولى، أكثر مسؤولية في صناعة اشد الطغاة جورا ً، ولا معقولية، ولكن، بشرعية لا تنقصها أوهام الأبدية، والخلود!
[10] المنافي وعلاماتها
    لم يعد لدى علي النجار سوى تراكمات انخلاعات، وذاكرة زاخرة بعلامات منافيها، ابتداء ً بالوطن إلى المدن البديلة، إلى مفهوم تتهدم فيه الحدود الوهمية، أو الرملية، المتحركة، كي يصبح الجسد وحيدا ً في مواجهة المجهول. فالجسد ـ وسيغدو رمزا ًلملايين فتك بهم اليورانيوم ـ غدا علامة حضارة قائمة على سياق تقسيم البشر فيها إلى من هم خارج (التلوث) والى ـ ما كان يثير قلق دستويفسكي ـ بتلال النمل: الشعوب التي تم معالجتها بجدران عازلة، وقوانين بالغة التشدد،بأكثر من ممارسة تحافظ على ما آلت إليه، تحت نفوذ الإعلان، والأسواق، والاندثار.
    جسد علي النجار، رمزيا ً، يعيد إحياء أقدم شعيرة للأضاحي: انتزاع القلب، في احتفال دموي، تحيط به النار، وإعادته إلى المجهول. لكن جسد الفنان، في نصوصه، صاغته ملوثات عصر (الحداثة وصولا ً إلى العولمة)، ودخول العالم، في نهاية المطاف، إزاء تهديدات يصعب تداركها، فضلا ً عن تأثير التلوث في المجال الجيني، بانتظار نهاية ـ أو فاتحة عهد اقل لا مبالاة  تجاه  المصائر.
    رسوماته ليست إعلانات لاختيار عالم خال ٍ من أسلحة الدمار الشامل، الأسلحة (البيضاء) أو (النظيفة)، ولأجل حفنة من أثرياء، وسحرة عالمنا، في استبدال بناء متنزهات، ومزارعاً، ومصانعا ً تتوازن فيها رغبات الناس مع أحلامهم فحسب، بل لبناء المزيد من الأسلحة المستحدثة في محو الحياة، بمختلف صنوفها، وفي مقدمتها الإنسان.
     نصوصه ستوضح حقيقة تلوث: الفضاء/ المياه/ الأرض، بإحصائيات دولية، لا تعزل قارة عن أخرى، في نهاية الأمر. فالإشعاعات لم تثبت انها علامة انتهاك، بل ـ بالوثائق ـ مشهدا ً للموت ذاته. ومن غير كلمات، فان نصوص الرسام العراقي ـ بعد نصف قرن من العمل المتواصل ـ لا تنطق بأيديولوجية أحادية، أو بمذهب ختاميا ً، أو لصالح معتقد ضد آخر، بل تلفت نظرنا إلى طريق يبدو انه سيكون وحيدا ً ألا وهو أننا بانتظار حكماء ـ في العلم والفلسفة والاقتصاد وفي باقي حقول الحياة ـ يعملون على إعادة بناء فلسفة خارج مفهوم الانتصار، وسيادة قارة على قارة أخرى، أو جنس على جنس آخر، فالدعوة المروعة التي تبناها (هانتغتون) في كتابه (صدام الحضارات) تكون قد بلغت الصفر. الأمر الذي يرسخ منطلقات مغايرة للتصادم، بكل أشكاله، وحتى الرياضية منها ـ كما أشار أريك  فروم إلى ذلك ـ لعالم يتطهر فيه (الدماغ) من الجينات المسببة للعنف، وأوهام المجد والاستمتاع بمحو البشر، أو إعادة صياغتهم كمخلوقات بلا هوية، كأشباح كافكا، يساقون إلى حتفهم ككلاب!



[11] قصدية اللا قصد!
    مع ان نصوص عام 2011 أخضعها للتشذيب،  كي تتحول إلى: بقع/ فراغات/ علامات هندسية متداخلة شبيهة بمخلفات تأكسدت، ذات ألوان حادة، صافية، وملوثة حد التجريد بمختلف معالجاته الرمزية، والتعبيرية، والهندسية ...الخ إلا ان هاجس الفنان مكث يتتبع اثر (الموضوع/اليورانيوم) في نصوصه الفنية: فلا قطيعة أو فصل بين بنية وبنائية أو ترتيب العناصر من غير مركزها المعلن: الانشطار، التخريب، والمحو. فهل نصوصه الفنية بحاجة إلى الشرح، وكان (الضحايا) لن يشاهدونها، ولا المتابعين، إلا مع إيضاحات، أو مقدمات..؟
    ربما الأمر لا يخلو من قناعة ان هناك، في الفن، كما في الكيمياء، أو في المناهج الغنوصية، أو الأمراض العصية على التفكيك، خفايا تكتم كتماناتها بمشفرات يصعب ان تلمسها أدوات الحفر، والتحري، مما يسمح للفن ان يذهب حيث الغموض لا يتقاطع مع أشكاله وعلاماته ورموزه وعناصره الخارجية. كلاهما يعملان بالصور (من الكون إلى ملامس الخامات والى باقي العناصر)، إلى جانب القصد، في المحافظة على ديالكتيك التجربة، وأبعادها.
    فاليورانيوم لم يخترع كغذاء، أو لعبا ً للأطفال، أو رموزا ً للتسلية، والرفاهية، بل أصبح جزءا ً من فعل يلبي، إلى جانب القصد، لا قصدية يصعب وضعها في القفص!
    هل قصدت الإشارة إلى ما هو ابعد من ذلك، غير نزعة التدمير التي توازنت فيها غريزة الموت بإرادة البقاء، كتاريخ عامر بالتصادم، والعنف،حد الجور والمحو، إلى ذات الحكاية التي تروى عن ادم، عندما سأل إبليس:  لماذا أغويتني؟ فلم يجد الآخر إلا رداً بسؤال: وأنا من أغواني؟ فهل (موضوعية) الفنان بريئة من الذهاب إلى إثارة قضية ان للعذاب، في مختلف أشكاله، دربه المشفر، وليس ما ظهر عليه من استدراج للعواطف حسب! وإلا لماذا مكث فن التعذيب، بالانتقال من اللا إنساني إلى عالم حقوق الإنسان، والديمقراطية، والشفافية، وجد، في أكثر المثل رصانة، قبولا ً، واستعدادا ً، وتكلفة باهظة الثمن، فضلا ً عن الحماية القانونية أيضا ً!
     إنها إشارة تحيل تجربة علي النجار إلى نشوة حياة ستبدأ فيها الفلسفة بالبحث، مجددا ً، عن عالم لا نعرف اهو آت من العدم، أم ذاهب إليه..؟
   علي النجار الذي تجمعت في تجاربه خبرة طويلة، بدءا ً بالإقصاء عن (الأم/ الأرض) مرورا ً بدروب التصادم، مع الثقافات البديلة، وليس انتهاء ً بالجسد وهو يكتوي، ويفكك، إزاء مصير شبيه بالعائد إلى العدم أكثر مما هو خارج منه، يدرك ان البطولة لم يقصد منها الحصول على ثمار، أو ملذات، أو نجاة شخصية إزاء هزائم الشعوب، وتنوع هلاكات المذاهب، والأنواع البشرية، وتفتتها، إنما، ببساطة، انه شبيه بموقف متصوف، أو مازال يتمتع ببراءة من يجتز العام الأول من عمره، وقد حكم عليه بالرجم، أو النفي، أو الموت، لن تقتله إلا وردة!
[12] لوعة عصور
     يعيد علي النجار، كرسام وككاتب، للختم القديم قدمه: انه لا يجرجره، كما تستخرج الآثار أو الهياكل أو البقايا، ولا يدفع به نحو المجهول. فالفن عنده غدا مأوى غير قابل للانغلاق، وغير مشرّع بلا حافات أيضا. فهو الحاضر بموقعه في دورة الزمن ـ زمن الإنسان وتاريخه. وما تثيره أختامه، المنجزة توا ً، إنها شاهدة على عصر: التلوث/ فقدان المناعة/ الانشطار، والأذى الذي صنعه الإنسان ضد الإنسان، ليضع حدا ً لمصيره في نهاية المطاف.
    ففي أدبيات حضارة وادي الرافدين إشارات تتحدث عن نهاية الخلق، أي زوال البشر. وفي مقدمة أسبابها: اللغط/ الضوضاء/ التهريج/ أي: التلوث. فهناك ـ إلى جانب أدوات القتل والفتك المختلفة ـ ما ينسب إلى البناء الفوقي: اللغة. فالأخيرة تتبنى انساق البناء والهدم، وعندما لا يمتلك الباحث إشارات تكفي لاستبدال الوهم بالثابت، والزائل بالأبدي، فان تلك النصوص منحت اللغة ما سيمنحه (اليورانيوم) في فعالية الانقضاض على الحياة ذاتها.
    ولقد تحولت أختام علي النجار لدي ّ، إلى اتصال بهدم الجدران العازلة، والحدود، والفجوات بين المنافي. فبعد ان عزلت نفسي، بين أربعة جدران ـ إلى جانب سطح الأرض والسقف ـ أكون قد امتلكت حرية ان أكون حرا ً في حدود المستطيل أو المكعب الذي أنا داخله: أي حريتي في حدود هذا الاختيار. فقد أتى على الإنسان زمن فقد فيه حتى حرية ان يختار عزلته، أو موته في الأقل.
    أختام الفنان على النجار، تحكي لوعة عصور، وأمم، وشعوب، ومحن نكبات لا وجود لها في مملكات النبات، أو الحيوان! فلم يعرف ان فتك نبات بنبات، أو حيوان بحيوان، كما سيفتك الإنسان باختراع أندر الأنظمة والتشريعات على جعل الكراهية غير قابلة للدحض: فضحايا حماقات ما ينسب إلى الحكماء، والعلماء في شتى مجالات العلم، تكللت بصياغة ابرع فنون التدمير، والمحو، وكأن ما سعى إليه الجنس البشري، في زمنه الوجيز، قياسا ً ببعض المخلوقات المعمرة، يؤكد استحالة منع وجود أسلحة قادمة بفنون الفتك، لا بالإنسان أو بالحيوان أو بالنبات، بل بالبيئة المكونة لنشوء الحياة.
    فقد تغدو الأسلحة المستخدمة لليورانيوم، شبيهة بالحجارة عند سكان الكهوف، وكالسيوف والرماح  عند الفرسان في البراري، وكالصواريخ عابرة القارات في عصر حداثة أوروبا، وكاستخدام إشعاعات فائقة الأذى، يزعم أنها نظيفة، في عصر العولمة، والشفافية، والديمقراطية، والنزاهة، وفي عصر حملات الإيمان، والاحتماء بالمقدسات...الخ ليس إلا مقدمة لزمن مفرّغ من المعرفة، والى مدن خالية من البشر، والى عدم غير قابل للامتداد.  

قراءة في قصة سفر الفناء لعدنان المبارك
كتابة بنسق الختم وكلمات عند حافات الصمت


[1] حد بين حدين: إشكالية المسافة
     اللغة تخفي أيديولوجيتها، لأنها تتستر عليها، وعلى ما تخفيه، لكنها لا تخفي سرها، فهي، في الحالة الأولى، تعمل لغاية محددة، فيما لا تمتلك اللغة إلا ان تنتهك السر، أو تدمره، أو تعلن عن عجزها في المناورة. لكن الفن ليس لغة، كعمل اللغة في الاتصال والمحاورة، وإنما تبقى الاقتراب من سبر نشأتها، بمجموع العوامل، وفي مقدمتها الإنسان ذاته. فهل الإنسان ـ كباقي الكيانات الناطقة ـ يسعى الوصول إلى الذروة: العجز، واستحالة فك المناطق التي لا تعقبها مخفيات تتطلب جهدا ً، ووعيا ً، وأدوات توازيها في الانتقال من الملغز إلى مكوناته.
     وبمعنى ما فأنهما ـ لغة الفن ـ والفن الذي استدعى استخدام اللغة، يشتركان/ وينفصلان في تكوين معادلة برهنت عن تدرجها من الوظيفي إلى الديمومة، ومن المعلن إلى المتستر، ومن القابل للتفكيك إلى استحالة تتبع أثره، وقد غاب، أو اختفى تماما ً.
    فالأيديولوجيات، بمعنى الأقنعة، والتصوّرات، تحافظ على مسافة ما، تتسع وتتقلص، لمن منحها حضورها، الأمر الذي يجعل ديمومة الصراع، كديمومة الحركة، تهدف إلى ما هو ابعد من السطح، والظاهر، والقناع، لكنها ـ تلك المناطق النائية ـ تمتلك كل ما سيجتمع في الأثر: الختم. وفي مكونات هويته. إنما لا تمتلك الأخيرة إلا في حالة الاضطراب ان تعلن عن ذاتها، أي في حالة الاندثار أو الموت. وبمعنى مباشر: عن الديمومة، أو الإرادة، أو الاستجابة لاستكمال الدورة.
[2] السؤال: ديمومة الاستحالة
     لماذا تستحيل اللغة عند عدنان المبارك إلى (ختم): إعادة بناء ما تم حفرة، نبشه، بالأحرى محاولة الاشتباك معه من غير خسائر، وترك المعنى يعمل بالية دورته! ولأن لاوعي الكاتب لم يتنصل عن تاريخ لا وعيه المعرفي، سمح لوعيه بالتجول في تلك المناطق. كان الختم خلاصة فلسفة ان العدالة (في الأصل) إشكالية. فالعبد ـ في المحاورة السومرية ـ لن يسمح للسيد بالذهاب ابعد من موته. وقد دوّن الكاتب السومري، في الختم، استحالة عزل اللغة عما تخفيه/ وعما تعلنه، في هذا الديالكتيك. فاللغة ـ بعد ان تقول ما تريد إيصاله ـ تسكن مأواها: هذا الذي لا يمكن تجنبه: ان العدالة لن تكمن إلا باستكمال دورة الإنسان: موته، كي يبعث، ويبعث كي يرى ما هو ابعد من موته. أساطير ديموزي تفصح عن مدى استبصار السومري للحد من التناقضات، وجعلها، بدل التصادم، تأخذ نسق التكامل. فالشقيقان، الراعي والمزارع (قابيل وهابيل مستقبلا ً) لن يقتل احدهما الآخر، بل سيكمل احدهما عمل الآخر. انه سبر استثنائي لجوهر العدالة في الفكر السومري، دون إهمال ان (أيوب)، في الأخير، يترك سؤالا ً لن يجد إجابة إلا عبر ما سيضاف، ويقلب، في العصور اللاحقة. فأيوب لم يجدف، وضمنا ً، لم يول (الشطان) ـ ولا نعرف كيف تسلل الأخير إلى مجلس الإله ـ إلا عدم الاكتراث، الذي سيراهن عليه الإله، في حواره معه. فأيوب لم يسأل: ما الحكمة من الامتحان...؟ لأن أيوب حدد وجوده بالمحدود، فهو من التراب واليه يعود، عدا ان (النفس) أو (الروح) ستحل لغزها، وعملها، مادام الامتحان لا يخص الذات العليا، بل يخص الزمن، والأخير، لا يصح ان يذهب ابعد من زواله.
    هذه الإشارة التي تعزل الزمن عن (داخله) أنتجت آلاف الأختام ـ الألواح، بما فيها من تشريعات، وقبل كل شيء: أنتجت فنها، بنية الختم، كبناء استمد قوته من عناصر الحياة ذاتها: مرئياتها ومخفياتها معا ً. ومثال أيوب، في نجاحه، لن يعّول على الزمن إلا ممرا ً حسب، أي درجة ـ مساحة، من العبور، وهو الذي سمح له ان يتساءل: من منا في مأزق! سؤال سيتكرر طالما استعاد الفن هويته، لغة تفند الوظيفة لدمجها بما لا يثير الشك، في مواجه فنائه.
[3]  سِفر الفناء
     كما يعمل الختم (تجانس عناصر: الوعي/ اللغة/ الزمن/ الوظيفة، وضمنا الهيئة مع ما يذهب ابعد منها) ـ لكن ليس بالمعنى السوريالي: سبر مناطق اللاوعي/ أو اللاشعور، في إشارات لبريتون وبياناته، بل بقلب السوريالية وجعلها لا تترنح، بل تعيد صياغة المسافة  ذاتها بين نهايتها والمقدمات ـ فان عدنان المبارك يفتتح قصته (سِفر الفناء) باستشهاد لإميل سيوران، بما يصح ان يكون خاتمة: "كان هناك زمن حين لم يكن أي زمن". فماذا يستطيع، غير (الختم/ اللوح) وليس النص كما تداولته الحداثة الأوروبية وصنعته ـ ان يبنيه. فما ـ هو ـ غير الزمن ـ سوى الوجود خارج اللغة، وخارج أية وسيلة للتقدم، أو حتى للارتداد، أو للمراوحة. انه ليس العدم، إلا اذا كان العدم، بحسب فلاسفة بابل، ذروة إرادة الآلهة. وهذا ما تحول إلى إشكالية عند الهنود، عندما اضطروا لوضع حد بين الصفرين. إنما، في الأصل، كان ثمة ما هو سابق على الزمن: أي الذي لا تستطيع اللغة ان تمنحه وجودا ً. فهل ستأتي التكملة فائضة، للبرهنة أنها كانت قد بلغت خاتمتها، في الأصل، أم لأن الكاتب، عدنان المبارك، لم يغادر مفهوم لغز تكون بذرة الخلق الأولى ـ لأنها لم حتى بعدم تدخل الآلهة أو عدم وجودها في الأصل: تحكم دورة البذرة، دورة المفتاح في القفل، فيغدو السَفر/ الرحلة، كواجب الوجود ـ ولكن للذات في مواجهة فنائها، فينغلق السؤال بالإجابات. فالسومري كان منتبها ان شفرة الإجابات كامنة في السؤال نفسه، وهذا ما سيقوله ماركس، بعد خمسة آلاف سنة. بمعنى: ان العدم وجد امتداده في المساحة المشغولة بالزمن، كي تتحدد المعضلة في إطار: العناصر ـ وحركتها، وليس بفنائها. فالإنسان غير مخول لذلك، الأمر الذي دفع بالكاتب السومري للتفريق بين أهداف: عناصر الخلق، وبين مفهوم الخلق. إنها مسافة توارى فيها العدد بين ان يضع الصفر إلى اليسار أو إلى اليمين. لأن المعادلة تامة، في أصلها، أما ظاهرها، فانه سيحافظ على زمنه، وتاريخه. وضمنا ً كل ما يتعلق بالعدالة: لماذا  حكم الموت سابق على الولادة! وهو الذي شوش ـ وشكك، في منطق يحاول بناء تصور للآلهة، أو لدورها في بتكبيل المحدود بالطاعة، والشقاء، واللا متوقع، تزكية للذي يستحيل ان يكون له وجود، لا بالتأويل، ولا بالصورة، ولا حتى بالمشفرات! الختم الذي سيعيد بناءه عدنان المبارك، يدمج ثقافة (كلية) تمد الذات لمغادرة الزمن، كي لا تحصل أو تجني على ما كان جلجامش يبحث عنه، بل عن دحض وهم هذا الذي لا وجود له، إلا في حدود الزمني ـ وقد كانت خاتمته سابقة على الحضور.
   فهل يمكن ان ترفض الولادة، وهي مكبلة بالصفر، أي بانعدام الإرادة، إن أميل سيوران يسترجع تاريخا ً ينسج بنسقه هذا الذي تحول إلى (ختم/ لوح) لدى المبارك: العدد بين الصفرين!
[4] عودة إلى سِفر الفناء

     ليس لأنها حملت عنوان المجموعة، وإنما لأنها تمتلك مفهوم الصدمة، في مواجهة الاحتواء/ الاندماج، أو الرضا بما هو سابق على اللغة، أو بما هو ابعد منها.
  فمختار محمد المظهر، ولد ونشأ في بقعة نسيها الله والشيطان معا ً. لكن غدا عضوا ً في عالميا سيعمل في استعادة لغز حياته. الا انه سيدرك كم هو محكوم بالقيود، في مشهد المراقبة، والمحاسبة، فهو لم يعد نسيا ً منسيا، لكنه لم يغادر مساحتها. إنها المعادلة ذاتها الأولى: المطلق ـ والمحدود. فيهما مقيد بالأخر..؟ إنما السؤال هو: ما العمل.. وليس أين يكمن الخلاص. لأن السؤال لم يعد منفصلا ً عن الإجابة، لأن التطبيق لن يعدل ما تمت برمجته. والباقي تتمات للأصل: النسج ثم التفكيك. وهو الذي رسم مسافة هائلة بين الوعي والمصير. لقد أدرك، وهو المراقب من قبل أجهزة تعرف ماذا يعمل، عبر تأسيس جماعة لا ترى أملا ً في التعديل، ولا في الإصلاح. فالإنسان حيوان مزمن، ووجوده ليس إلا وجودا ً قهريا ً، والحياة برمتها مبرمجة بأنظمتها (الكلية/ وحرية الإنسان مقيدة بها ضمنا ً) من اللاحافات إلى أدق اشتغالات الدماغ، ومن العدم إلى الوعي، لكن ليس بالعدم، بل بظله. هذا النموذج ـ وهو واحد من ملايين فروا من منافيهم الوطنية نحو العالم، المنفى الأكبر، ولكن، قياسا ً ومقارنة بالمعنى، أو بالجوهر، سيبرهن باستحالة وجود حقيقة. إنها لعبة برمجة تعيد صياغة ما دعاه (توينبي) بالتحدي والاستجابة. إنما سيدرك ان شيئا ً مستقيما ً لن يتحقق مادام الأصل بدأ بقطعة خشب معوجة (استشهاد آخر بعمانوئيل كانت) يوضح، ان وعي مختار محمد المظهر، لم ينشغل بتفكيك اللعبة. فكلاهما، الله والشيطان، يعملان خارج الضحية!
    مرة أخرى يبرز (أيوب) في المشهد، ليس رمزا ً للمعنى في تحمل ما لا يحتمل حسبن بل للبرهنة ان الشيطان لا يعرف ماذا يعمل، كما المركز، بصفته مطلقا ً، لا يعلن إلا ما كتم. فالشطان لن ينجح (لكنه نجح في القصة) بإيذاء البشر، وإثارة غيظ الله. لأن ما سيسمى بالزمن لن يغادر سِفر فنائه: عقمه، فهو باطل في الأصل، وفي الأصل، كان السومري قد فرق بين من خلق (تحت)، من الوحل والدم، والآخر، الذي لا تدركه الأبصار. لكن الله لن يخسر، والشيطان لن ينتصر، إنما القصة تحكي باللغة، الإطار ذاته في محاورة العبد والسيد، وفي محاورة المتفائل والمتشائم، مثلما في أسطورة أيوب: لن يحصل الإنسان إلا على المسافة التي هي مجموع الاندثارات.فالخسارة وحدها هي أعلى درجات الكسب، مثلما الصمت هو أعلى مراحل الحرية!
     أين هو الختم في قصة لم تكتب لرفع معنويات مخلوقات رازحة تحت، في المستنقع، الذي هو الوضع البشري، ولم تكتب لتمجيد الوهم، أو المضي ابعد من برنامج (العشوائية) في عالم يتعرض لازمات تراكم رؤوس الأموال، وفي وضع لن يدور المفتاح في قفله، إلا بمزيد من الهدم، والتنكيل، والمحو.  ان القصة تعيد للذهن ان (العادل المعّذب/ المعاقب من غير سبب) المطرود بوشاية أو لأي سبب، لم يخن دوافع النعمة التي فقدها، وغدا في الجانب الآخر، مع (القطيع/ العامة/ الناس) لكن ـ في سِفر الفناء، يترك القاص نموذجه يستعرض عبارات منتقاة لحكماء وفلاسفة، وهي عبارات مدوّنة في ألواح الذاكرة الحضارية ـ الثقافية العراقية، قبل ان يخترع الانكليز العراق الحديث، وقبل ان تحاول أية قوى تجديد هذا الاختراع تحت عناوين أخرى ـ بمعنى ان الكاتب ـ بوعي أو بتفكيك قيوده ـ يعيد صياغة الحكاية ذاتها التي تحدث في كل زمن، والتي تحدث في كل مكان، إنما، اشتغل الوعي، مرة أخرى، كوعي جلجامش إزاء الموت/ وكوعي أيوب إزاء المعاقبة/ وكوعي العبد إزاء سيده القابض على مصيره/ فالثنائية/ والتعارض، لا تتكرر كي لا تبدو الحياة قلما (هنديا ً/ أو مسلسلا ً مصريا ً أو تركيا ًيفجعانا بالمواعظ او الغوايات/ أو انتصارا ً أمريكيا ً ملطخا ً بالرماد والخراب/ او صينيا ً قادما ً محملا ً بالوعود والآمال ) في تصوير امتدادات حكاية مشحونة بما هو ابعد من الصخب ـ كما في ولولة بنجي فوكنر، وليس هو الموت ككلب كما في خاتمة رواية القضية لكافكا، او نهاية وليد مسعود في رواية جبرا إبراهيم جبرا ـ وبما هو ابعد من المعنى، لأن الأسئلة لم تعد متعلقة بالإجابات، وليست مرتبطة بأصل نشوء خلايا الحياة في عفن الكهوف او في المستنقعات فحسب، بل الوعي راح يحفر في كل ما لا وجود له، كي يدلنا على أعذار أنتجت هذا الانشغال، المحكوم بالخساسة، والخوف، وليس بالحزن أو الأسى ـ بحسب الحكمة الصينية القديمة ـ  وهو الممهد لدرب امتد من العدم، كي يستكمل دورته،  كما قال فلاسفة العراق ـ قبل ان يصب البلد باليباب عندما اختره الإله انكي الرجل المخصي والمرأة العقيم سلالات لا تعمل إلا على إدامة سِفر فنائها ـ وتجمعت فيه، كما في ألواح الحكمة ـ من سومر وأكد وبابل وأشور وصولا ً إلى آثار دماء ضحايا كل من سعى إلى تدمير العقل، والإرادة، والمنطق! فالشيطان القديم سيجد تحديا ً دائما ً طالما التراكم سيقسم البشر إلى متضادات، تحديا ً يسمح له بالمراقبة، كي لا ترى الضحية كم الجلاد توغل بعيدا ً في العدم، لأن لذّات الجلادين وحدها غير قابلة للتصالح مع الزوال، ذلك لأنها لم تر ابعد من باطل الأباطيل: البشر في مواجهة كراهية تضع ـ بين حين وحين ـ العالم عند حافة دورة من دوراته.




تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


مصلوب بلغة الأرقام-علي النجار

مصلوب بلغة الأرقام




علي النجار

عراق
دموع الأرامل
مباركة هي اللعنة
والحروف الأولى الناقصة
والتجديف
وفرة في كل ما يلزم
و ما لا يلزم
ثوب الطفولة قصير
كما الزمن المعاد
بلا رجاء استقبل شفتيك
ومضة .. شرك
جناح فراشة
ادنو من النهاية
قيد أنملة
وهم النور
جدار الصمت
أختبئ
خلف  ثقب الظلمة
تزحف عناكب تيه جدتي
في الزاوية من ظلك
.....................

مصلوب الأطراف على جسر الشهداء
دجلة شاهدي
ومشهدي
اشتهيك كما انت
ندرة
والبوح متأخر



السبت، 14 يناير 2017

عطر الامكنة او ريشة الهدهد مرويات في سيرة المهمشين والمنسيين -احمد الحلي


عطر الامكنة او ريشة الهدهد مرويات في سيرة المهمشين والمنسيين ,تأليف احمد الحلي صدر عن المركز الثقافي للطباعة والنشر بابل –دمشق – القاهرة لوحة الغلاف للفنان العراقي المغترب صدر الدين امين –الاشراف الفني ولاء الصواف

ذاكرة المدن العراقية-المعرض الشخصي الاول للفنانة الزهراء صلاح قاعة اوج للفنون





ذاكرة المدن العراقية-المعرض الشخصي الاول للفنانة الزهراء صلاح قاعة اوج للفنون

الرسم بمغزاه الابعد-مذ فتحت عيناها على الحياة ابصرت اللوحات معلقة على جدران المنزل, صار الرسم عندها طقس يومي تزاوله بعشق ومحبة متعالية ,هكذا قدم له الفنان والناقد صلاح عباس

الخميس، 12 يناير 2017

جدلية البناء …. والنظرة الفلسفية …. عند الفنان والكاتب عادل كامل -د. ماضـي حســن نعمــة





جدلية البناء …. والنظرة الفلسفية …. عند الفنان والكاتب عادل كامل

 


د. ماضـي حســن نعمــة




إذا كان السعي لتحقيق فعل التوازن داخل الذات القلقة .. من جراء الإمساك بمحصلة نتائج عملية النشاط لشروط قوانين المتضادات وصراعاتها الايجابية , أي بمفهوم – نفي النفي – فان البناء في نصوص الفنان – عاد كامل – يرتبط بمفهوم ه الفلسفي .. في الرؤى , والتصور الشامل .. لجدلية تصادمات الأضداد منذ المنشئ .. – وينطبق ذلك أيضا على كتاباته الشاملة – وان لهذه الفعالية النشطة في ضرورة حتميات قوانين – الكون – التي تولد بدورها انعدام واندثار , وانكسار , تماثلت مع ما تقدمه البشرية في بناء النظم من تحيات , ونذور , وقرابين على مذبح نيل – الحرية – هؤلاء المضحون .. دوما هم المنادون بها أنبياء , وحكماء , وفلاسفة , وفنانون , الذين حملوا مشعل – الحرية , والعدالة – في هذه الأرض , وطبقوها على النفس , كما فعل ( سقراط ) والتضحية في النفس عند ( المسيح ) إن الفنان عادل كامل لديه هاجس البحث عن مفهوم الحقيقة العادلة التي أضحت اليوم غائبة في أتون أطراف الغلو ا والمتشعبات , والمواقف التي غدت تنقسم على نفسها , وتتكاثر بشكل مطرد تحت مناخات ضبابية أفقدت رؤية خيوطها الأولى على وفق نسق – براغماتي – صرف , في هذا الزمن أصبحت الأيديولوجيات , والمبادئ ذات الطابع ألقسري .. – المنغلق – الذي يفقد المرونة في التعامل مع الحياة والإنسان أكثر من عدد نفوس البشر ذاتهم .. حيث أن أحداها تفي الأخرى .. في خضم هذا الاحتدام يقف بنا عادل كامل في منعطف يخشى المستقبل , انه قلق – الحكمة , والإنسانية العطوفة على مصائر البشرية , فالأجسام العارية هي رموز تطهير الذات من شطط الذات , انه تطهير الفكر من إلغاء الأفكار الأخرى وتنقية العلم من خطر العلم , إن الفنان يريد أن يقول ان الخطر على مستقبل الإنسانية من الإنسان ذاته , وليست براكين الطبيعة وفوارتها المزلزلة في الأخطر .. فالصراعات , والمتضادات , والنفور في الطبيعة , أخيرا يولد فعل ايجابي لاحق .. فالبراكين بالضغط والحرارة ينجم منهما أحجار كريمة , وتقلبات المناخ ينجم تولد الفصول .. ولكن العصف الذري , وجزئيات الصراع الذاتي .. لا يولد سوى الدمار , وتشويه صور الجمال , ونقاء المناخ والنفوس معا , ان الفنان عادل كامل يؤيد بنا العودة الى مظاهر انتقاء توائم مسعاه لحلول معضلات العصر , انه يحاول ان يمسك بتلك المظاهر , وينتشلها من عالم متحرك قلق ليسكنها في عالمه المثالي , ولكنه عند الفنان ليس بعالم صعب المنال ..اذ ليس بيننا وبينه سوى تطهير الذات من دنس الذات .. في الكشف عنها تحت وهج الضوء دون ريب لتكتسب الشفاء والصحو .. والظلال في مخبوء للخفاء والتضليل والريبة .. فالفنان عادل كامل ينسلخ من تراكمات العصر وامتداداته السحيقة التي أثقل بها الإنسان محملا بأغلاله اطرافها المقيتة التي كتمت عل أنفاسنا , ليس في إبداء الرائي الحر فحسب , بل تعدى ذلك الى استنشاق ديمومة الحياة في مناخ نقي , انه يريد ان يحمل ذاته على اكفه ويمضي بها الى عالم ساكن خال من الافتراءات الكاذبة , ويغلفها بثياب وأغطية من فعل اختياره هو , ان تلك النوازع هي ليست نزاع مع المألوف في مظاهره الشرعية – الشكلية – لأنه بالي ومعيب , بل هي نزاعات تتوق الى تلمس أطراف الصدق والحقيقة الغائبة , ان رفضه لمقيدات الاجساد هو رفض للعودة لأصنام قديمة .. أفضت إلى فرز مقاييس ( ديماغوجية ) جاهزة للارتداء , كبلت البشر وأفقدتها حرية المرونة في الابصار والتبصير في مصائر الإنسان دون زيف وتعتيم … ان أزمة الإنسان المعاصر تتجلى في تعدد الأقنعة والاتجاهات والمواقف – البراغماتية – التي باتت مشروعة في تعامل العصرنة , وهي الوجه الآخر للانا وعبادة الذات ومصالحها المغلقة .. لذلك نجد ان عادل كامل في أعماله النحتية تحديدا لاسيما ( الريليف ) منها يعمد في تمثيل الأجساد التي غابت عنها ( الرؤوس ) ولكن : هل ان الفنان ابعد هذا الجزء لأنه يمثل الصورة الحسية .. المرئية للوجه وما يترتب عليه من حديثنا الانف الذكر ؟ أم ان الرأس يمثل العقل والفكر أيضا , والذي بدوره سيعكس بعد ا آخرا لمقاصد الفنان في نزعته الذاتية ؟



     





أرى ان كلا الأمرين حاضرين في التحليل والاستنتاج ولو توغلنا أكثر كمحاولة لفهم شخصية الفنان فيما تنطوي عليها من رؤى سيكولوجية تتسم بسمو معرفي شامل , لادركنا الازمة الحقيقية للبشر , لقد كانت تراوده دوما اجوبة مجهولة لأسئلة معلومة كثيرة , تلك هي مشكلة البحث الصميمة عند عادل كامل وأزمته التي لازمته منذ معارضه الاولى حينما كان طالبا في معهد الفنون الجميلة , إنها مشكلة البحث عن العدالة المفقودة , ففي تلك المرحلة كانت رؤوس الأشخاص عند الفنان مطاطاءة ويذكرنا قول خليل عبد الواحد عام 1971 حينما وصف أعماله بأنها … ( وجوه نحيلة بارزة العظام كأنها خطت عليها المرارة والالم ) في تلك المرحلة ونتيجة للظروف التي يمر بها البلد والمنطقة , ومنها أحداث عام 1967 وما تلاها من أحداث .. جسدها الفنان من خلال منح شخوصه صفة التشبث بالأمل برغم الالم والمرارة , لكنه بالمقابل استنفذ روحه وطاقته برغم شعوره بنشوة النصر , لقد سام الفنان تلك الرؤوس الماثلة أمامه , فأزالها من الأجساد وأبقى شخوصه أجساد تجمعها وحدة التشابه فهي إذا عودة إلى وحدة الاحساس بإزالة الفوارق القسرية , ليست نزعة تشاؤمية قانطة , بل هي استذكار وعودة الى الاختلاء بالذات الحرة التي تدرك حقيقة مفادها – ان الأجساد قد تجردت من الوجوه , التي توارت خلف اقنعة الاقنعة المزيفة , وجوه عانت الالم بفعل جلادها , فأفضت في النتيجة وحدات متشابهة على حد سواء , لا فرق بين الهامات .. ان تلك الإيقاعات الجسدية أضحت مسترخية غير مشدودة , منتصبة بأنماط قصدية , كما تناولتها ( الميثولوجيا )” في الماضي , فهي دينامية الايقاع , وان استحضرت معها طقوسها المعبدية , لكنها متحركة على وفق صياغة بنائية الشكل في التصور والعصرنة , والبعد الاخر عند الفنان بما يمثله مصدر الفكر – الذهن – الذي تتمثل فيه المعتقدات والاختيارات والمسارات التي باتت غير مجدية في تفعيل صياغة سبل الاختيارات المنفلتة من معاقل القيود القسرية …إزاء هذه المحن اختار الفنان , ان لا ضرورة في وجود قيود الافعال المتحكمة بالمصائر حينما تكون مصادرة هي الأخرى .. وهنا نسال أنفسنا : هل ان الفنان يبغي وراء هذا الخطاب اثارة تساؤلات , تحرك فينا ما حصل له وحقق له نتائج يرضي شعوره اللحظي ؟ وهنا نرى ان الامر ابعد من ذلك , ففنان ك ( عادل كامل ) عاش غمار تجاربا حياتية , وتشكيلية , ونظر في كتاباته الفلسفية والبحثية ازاء عقود من الزمن , اهلته ان يكون لخطابه ابعادا تتسم بتصورات فوق التصورات الحسية السائدة , وهو يدرك تماما ان غياب الوجوه غياب لوسائل الاتصال الحسية المدركة , والتي تتحقق فيها , او تكمن فيها اعماق الانسان , فالعاطفة والانفعالات الداخلية , وتحسس الأنغام والأصوات لا يتم الا بالوسائل الماثلة في الرأس , إلا ان ما أراده الفنان هو تأهيل المتلقي لان يعيش تجربة الفنان التعبيرية , وليثير تساؤلات , ويجيب عنها بنفسه , فضلا عن محاولته في إبقاء شخوص عائمة في سياقات الأزمنة وديناميتها في فضاءها المتحرك , والمنفلت من تحديدات معاقل المكان , اذا هي رؤية الفنان تتمثل بأبعاد قد استحدثت منابعها من نضوج شامل قد اجتاز فهم المعضلات والازمات والمحن في عصر الحداثة , بل امسك بخيوط الألغاز والمأزق لما بعد الحداثة , تفسح عنها حدسية ثقافته الشاملة . .


إيحاءات داخلية من الباطن , ومناجاة للشعور
  من جهة أخرى لا نستطيع ان نفصل تداعيات الفنان السيكولوجية في تعبيره الباطني بفعل غليانه الداخلي الذي رافقه منذ طفولته والى الحاضر , هذه التداعيات المنضبطة بفعل عقلنته الواعية , وحدسيته الحسية , والفطرية , فضلا عن اكتسابه لحيثيات , هي من مؤثرات المحيط وتنشئة البيئة الاجتماعية , الفنان عادل كامل كغيره من العراقيين تنقل بين محافظات , وأماكن متعددة ومتباينة في البيئة الاجتماعية – كمستويات المعيشة – وطرق التفكير لهذه المجتمعات والبل والأعراف التي يتعاملون بها بما توائم طرائقهم في الحياة , كل ذلك جعل الفنان يكتسب ويقارن , ويحلل ,. ويخزن في ذاكرته لإشباع مخيلته عبر أزمنة صاخبة وضاغطة أحيانا فأصبحت الأجساد الحرة في مواضيعه , هي ضرب من الرفض الداخلي لنزعته الصريحة , ارتبط بعضها ( الانحباس الداخلي ) مما اكسبها رمزية ذات أبعاد أخرى وهي اسمي من صفة الكبت السيكولوجي للفنان وأصبحت بث شفراته تارة ذات أبعاد أخرى , هي أسمى من صفة الكبت السيكولوجي للفنان وأصبح بث شفراته ذات دلالات فكرية وفلسفية , بل ووطنية تارة أخرى , فالأجساد التي اتخذت مفردات تكويناته ذات إيقاع متناغم , هي عودة الى الجذور , وعودة الى النقاء , وعودة إلى الأصل و لم تعد في النتيجة منفلتة عن انظمة المقاييس الأخلاقية في الأعراف الوضعية , لأنها اكتسبت قيم جمالية ( صوفية ) بلا نفاق او عضات شكلية غرضها استهلاك القيم الجمالية لإثارة عملية نشاط انفعالي جمالي ذاتي للفرد قد تصل الى حد الجلال في الحكم في التذوق , ان تحقيق صفة الجمال المتناغم والقوام الحسن في المخلوقات ( كنصوص ) هو وصول الى درجة الرقي والسمو التذوقي , وهو تجل , وعبادة صوفية خالصة , واذا كان الفيلسوف ( كانت ) اعتبر الجمال هو الاخلاق ومن قبله ( اليونان ) فان – عادل كامل – قد ازال الظلال عن وهج السمو وقدسية الجلال , فاضحت نصوصه الجمالية جزءا من العرف السلوكي وليس ضده , ان معرفتي بشخصية الفنان والكاتب المبدع عادل كامل عن قرب شكل لدي صورة واقعية في التحليل والاستنتاج لإماطة اللثام عن معنى اعمق في اعماله , ولفك الغاز رموزه المشفرة وقد عزز ذلك ملازمتي له لمدة غير قصيرة , اكدت لي مدى الجدية والصبر والشفافية في الحس والصدق في التعبير لديه , اذ ان الفنان لا يبغي من المنجز التشكيلي او الادبي سوى تحقيق الانسجام وتوافق مع مكنوناته الداخلية هذا الصدق قد ابعده عن الاستعانة بالاستعارات والتقنيات المألوفة ذات الصياغة الشكلية المزوقة لغرض تسويقها تجاريا , ان المتتبع لأعمال الفنان منذ كان طالبا في معهد الفنون الجميلة لا يكترث لتلك الوسائل , فهو يرفض استجداء اراء الاخرين , وهذا ما اكده النقاد في بداياته الاولى , لقد ذكر ( ابراهيم الزاير ) عن المبدع عادل كامل عام 1969 ( بالإمكان اعتبار عادل كامل ردا عمليا على تحذلق المتحذلقين الواهمين بحجر عريض ودليلنا على بساطة ونقاء الانسان العادي القريب نمن ذاته , ولم تفسده حيل التكنيك ) لذلك ارى ان ميزة الصدق الطفولة والعفوية الخالصة في اعمال الفنان ستجعلها تراثا حيويا مهما مضافا الى النتائج والعفوية الخالصة في اعمال الفنان ستجعلها تراثا حيويا مهما مضافا الى النتاج الحضاري للبلد تزداد كلما انحدرت نحو الماضي , وهي امتداد لموروثنا التشكيلي المعاصر , الناتج من رموز الحركة التشكيلية المعاصرة كـ ( جواد سليم وخالد الرحال ) . .
رموز معبدية تمسك بالأهداف
للمناخ المعبدي اجابات عن اصالة العصر من خلال الامساك بلحظة الزمن المتحرك , طالما ارقت مضاجعه , اذ تنطق بجمل ومقاطع ذات اشكال طوطمية – ميثولوجيا – ورموز تتوشم بنظام الايقاع السومري , فالفنان في منحوتاته الناتئة ( الرليف ) قد وضع كفه على نبض التاريخ الرافديني كي يقيس بها تجربته ومشروعه كي يخاطب بها حداثة العصر , وازماته المعلنة , والفن العراقي بشكل عام لا يخلو من أزمات اكتنفت مسيرته أسوة بأوجه الثقافة الأخرى , هذه الأزمة ارتبطت بالواقع الموضوعي للعراق والمنطقة بصورة عامة دفعت المبدعين لاختيار علامات ورموز , واحيانا دلالات مشفرة يكتنفها غموض وتأويل اسسه غياب الحرية وفرض الرقيب على النتاج , ولكن من الملاحظ ان اعمال الفنان عادل كامل كانت تتسم بالابتعاد عن التراكيب المعقدة , والتي لا تقبل الوهم في التفسير , وترمز على جانب الحرية بوصفها بؤرة مركزية لرموزه الاخرى , وهذا الامر يعود الى التعبير عن الازمة ذاتها , فهي اذا بحث عن أسباب شروط بقاء ونمو الإبداع وليس ما تلاه , فمنهم من مضى بإصرار على الرغم من عجاف سنواتهم , ومنهم من ضمن اعماله مغزا يحقق نتائج الاطمئنان وازالة الرقيب , والبعض تعطلت مواهبه ليدخل غياهب الصمت والهجرة , لينطوي مع سكون الذات المؤجلة من بين هذه المسارات تمحورت اعمال الفنان ( عادل ) بفعالية مؤجلة صارخة ضد صمت مقيت , ولكن بهدوء الحكمة .. فنجد ان الوانه اتسمت بأطياف هادئة – محايدة – لا تتخللها متضادات سوى تقنيات , ونتائج لجدلية الفكر , مستثنين من ذلك بدايته الأولى في المائيات والأعمال الزيتية التي تتضمن مواضيع نكبة 67 حزيران , والموضوعات الوطنية ( الشهيد ) وغيرها كتعبير حماس شبابي آنذاك , ولكن بعد ثلاثة عقود من الزمن تبلورت عنده الرؤى لتحويل ( الاحتباسات الحسية ) الى دفق من المعرفة التي توازي مستوى النضج الثقافي ( في الرواية والادب والنقد التشكيلي ) تلك المسارات في تنوع حقول المعرفة لم تشتت اوصاله بل تظافرت في تكامل القدرة على القياس والتمييز والحكم على النتائج لنفسه ولغيره من الفنانين , هذا الهدوء في تلمس حساسية اللون كان ينطبق تماما مع بساطة تقنياته كما ذكرت انفا , ومن الملاحظ ان الفنان كان ميال في اغلب الاحيان الى النحت – الناتئ -والذي خلق من خلاله اشكالا بأبعاد ثلاثية , او سطوح مستوية ذي بعدين ربما لانه يجمع بين خصائص الرسم والنحت معا , كما ان خلفية الفنان الكرافيكية , وتمرسه فيها عمليا من حفر ( طباعة ) تلصيق ( كولاج ) قد اوجد له في النحت الناتئ ما يجمع بين هذه التجارب , لاسيما وانه قد ادخل اللون على أعماله النحتية , كما إننا نجد في أعماله الكرافيكية والنحتية ( الريليف ) التخطيطية تقاطعا لإيقاعاته التصويرية بخطوط مائلة , لم تفقد العمل ( دراماتيكية ) كمضمون أو حركة الشكل الهرموني , وقد تزداد هذه الإشعاعات والتقسيمات الهندسية لتخلق تداخل تكعيبي يوصلنا في الغاية الى بساطة التنفيذ , وأصالة الفكرة .


تحولات
أما في أعماله الأخيرة فعلى الرغم من ان للفنان تجارب سابقة في النحت المدور , وهذا ما لمسناه في معرضه الشخصي عام 1994 إلا ان هذه الأعمال المنفذة بمادة – الجبس – كانت حقا تحقق ( الإثارة الحسية ) للمتلقي , ان لم نقل الصدمة الحسية له , فهي خلاصة مخاض محتدم داخل ذات الفنان في الإحساس بمحنة القدر ( الموت ) التي طالما شغلت هاجس الفنان والكاتب عادل كامل كرؤية فلسقيه تتحدى النزوع إلى قدرية الاستهلاك إلى مأزق الخوف من الاقتراب إلى مصائر صنعتها أيدي تريد ان تلغي مبررات قدسية الموت , من اجل إفساح المجال إلى الحياة , ان الترويج إلى صفات الموت , والترويع , وتهديد الأمل , والسوداوية للموت هي امر من الموت ذاته .. في أعمال الفنان عادل يريد ان يوازن بين الحياة والموت , في ان يشيد صروح الأمل والخلود في شخوصه التجريدية التي استلقت من خلال استلقائها في وعائها المحرابي والمستطيل الهيئة , أضحت جزء من محيطها والفته اكثر مما كانت تؤرق مضاجعهم في الحياة , تلك الرؤى لدى الفنان قد عصرتها الأحداث , لاسيما الأخيرة منها .


ضحايا وقصص قصيرة أخرى- عادل كامل









ضحايا وقصص قصيرة أخرى





   [ ـ" انه لمن الغريب والمثير لأقصى درجات الأسى أن نلاحظ كيف إن سباق التسلح يدمر الحس الأخلاقي. فانا لو تسببت عمدا ً بإصابة شخص بالسرطان وجب أن اعتبر وحشا ً، غير أنني إذا ما تسببت عمدا ً بإصابة آلاف الناس بالسرطان اعتبرت وطنيا ً نبيلا ً"]
بيرتراند راسل  



[ـ سيدي...، علينا أن نعرف ماذا يريد العدو...، كي نحاوره، ونتصالح معه.؟
ـ يا حمار...، نحن مازلنا غير متصالحين مع أنفسنا..، فهل باستطاعتنا أن نعرف ماذا يريد هذا العدو ، كي نعرف ماذا نريد؟!؟]







عادل كامل
 [1] ضحايا
ـ جد لي حلا ً لمعضلة الإناث، فهن يضاعفن الولادات، كلما حصل نقص في عدد أفراد القطيع. إنهن لا يمتنعن عن إنتاج المزيد من الضحايا، إزاء تزايد الهجمات علينا، بل يعملن، كما تعمل البكتريا والجراثيم، كلما حاولت القضاء عليها، استحدثت دفاعات تجدد إرادتها على إنتاج المزيد من المواليد ...
وأضاف:
ـ أريد أن تجد لي حلا ً لهذا العويل والصراخ والنحيب الدائم بين الأمهات الثكالى، لا يضربن عن إنتاج الضحايا، ولا يعرفن ماذا يفعلن إزاء تزداد شراهة الأعداء في طلب المزيد...؟
ـ حتى لو فكرن بالإضراب..، والامتناع عن الحمل والولادة، فإنهن ـ سيدي ـ سيعرضن القطيع برمته إلى الانقراض، والزوال؟
ـ تقصد انه لا توجد حلول سليمة تضع حدا ً للمعضلة، وإنهن عاجزات إلا على ديمومتها؟
ـ أنت تتحدث ـ سيدي ـ عن برمجة ترجع إلى ملايين الملايين من السنين...
ـ ولكني أيضا ً أتحدث عن الأمهات اللائي ينجبن المزيد من الأبناء، أما يرسلوهم للموت في الحروب، وأما العيش تحت خط الفقر، وأما للتشرد والسكن في المنافي ...؟
ـ آ ...، فهمت قصدك...، فأنت مازلت تحلم بوجود قانون يحد من التضخم، من ناحية، ومن الفقر المدقع، من ناحية ثانية؟
ـ أحسنت! بدل أن نرى هذه المشاهد المروعة لأشلاء الموتى وكأن برنامجها مازال مستمدا ً من أصوله الضاربة بالقدم...،  إن الإناث لم يعد يكترثن لخسائرهن، حتى لو  ملأن الدنيا عويلا ً وصراخا ً واستغاثات، بل يصررن بعناد غريب على إرضاء أفواه المفترسات الأكثر شراسة، بطيب خاطر!
ـ سيدي ...، لو لم يحرصن على أداء هذا الواجب على أكمل وجه...، فان الحياة بأكملها ستتعرض للاندثار، والزوال.
ـ ها أنت لا تفكر إلا بالقانون الذي يحمي الجائرين، وبالقانون الذي يجعل من الإناث أنفسهن ضحايا لا عمل لديهن إلا على إدامة المجازر....؟!
ـ آ ....، اذهب وأسأل الحوت كم ألف ألف سمكة تكفيه في الوجبة الواحدة؟
ـ أسأل من؟
ـ اذهب وأسأل هؤلاء....، ولا تسأل الأمهات الشبيهات بالمصانع لا عمل لديها إلا على زيادة الإنتاج ومضاعفته، أو  الطرد! فهن لا يمتلكن إلا عبوديتهن..، من جهة، وعلى إنتاج عبيد لا يمتلكون إلا عبوديتهم، من جهة ثانية.
ـ  ها أنت تسد أبواب المستقبل علينا؟
ـ لا ...، إن أبواب المستقبل مشرعة أبدا ً...، فمن يفقد الأمل كمن ارتكب ما لم يرتكبه القاتل الأول...، ولا القاتل الأخير!
ـ هكذا سنمضي في مشاهدة استعراضات أسلحة الفتك، والدمار...، لا نعرف، بعد استخدامها، من سيبقى على قيد الحياة ...؟
ـ لا تكترث...، فالجنة تحت أقدام الأمهات!
ـ والجحيم؟
ـ  سيدي، من يتذوق مرارات هذه الدنيا، لا يسمح إلا للقلة التي تهاب الجحيم، إن كان في عالمنا، أو في العالم الآخر!  

[2] عبور
  اقترب منه كثيرا ً:
ـ أنت تتألم كثيرا ً ..، ولكنك لا تعمل على معالجة ألمك، بل كأنك لا تريد أن تتخلص منه؟
   لم يجب. فعاد يخاطبه:
ـ  بل كأنك وجدت في ألمك فرحك الوحيد...، مثل من يتتبع موته برزانة، وهدوء؟
رفع رأسه قليلا ً:
ـ  هذا غير صحيح! فانا لا اجلد نفسي، ولا أعاقبها، ولكن ماذا افعل عندما لا امتلك إلا أن أرى النكبات تحدث الواحدة بعد الأخرى، عبر الشاشات...، وأنا وحيد معزول أعيش أيامي الأخيرة...، سوى أن اكتم لوعتي وافضحها، بشهادة تبدو، كما قلت، تضاعف سقمي، وأوجاعي؟
ـ لكن النكبات تقترب منك، زاحفة، وكأنك بانتظارها، وليس هي من تسعى إليك!
ـ وماذا افعل سوى أن استقبلها، وأنا أسير جسد غدا فائضا ً، وبحواس عاطلة عن العمل، وبإرادة عمياء!
ـ كأنك لا تريد حتى أن تنجو...؟
ـ آ ...، إنا لم اختر ألمي،...، فهل ترغب أن ادع الألم يمشي وحيدا ً ولا أشاطره عبوره نحو المجهول؟


[3] ثور ليس للبيع
   رأى الغراب ثورا ً ضخما ً يقف وسط المزرعة وينادي:
ـ رأسي للإيجار!
  فاقترب الغراب منه وسأله:
ـ أنا اشتريه، فهل تبيعه؟
ـ آ ...، سيدي، أنا لم يعد لدي ّ رأس للبيع...، بل للإيجار!
ـ لم افهم؟
ـ  سيدي هو من اشترى رأسي، ولما وجده لا يساوي شيئا ً، قرر أن يعرضه للإيجار، فانا لا يحق لي أن أبيع شيئا ً لا امتلكه!
ـ بالعكس...، كان على سيدك أن يبيع رأسك!
ـ سيدي يقول:  المزرعة التي لا ثيران فيها لا حكمة فيها أبدا ً!

[4] قطيع
    خاطبت الحمامة رفيقها، وهما يراقبان قطيعا ً من الخراف:
ـ  مع أن عدد أفراد هذا القطيع لا يحصى...، إلا أنني لم اسمع خروفا ً واحدا ً قال كلمة تختلف عن باقي أفراد القطيع؟!
ـ اقترح عليك أن تصبح خروفا ً لتعرف الحقيقة عن قرب!
ـ لم يكن هذا ـ هو ـ قصدي، بل سألتك لماذا يذهبون إلى المسلخ وهم يهتفون بصوت واحد؟
ـ أعود وأقول لك أن تصبح خروفا ً كي تخبرني بالحقيقة!
ـ لا أريد أن اذهب إلى الموت وأنا لم اقل كلمتي بعد!
ـ إذا ً ...، ليس لديك إلا أن تتمتع بصوت القطيع الموحد...، وأنت تنتظر الموت!



[5] مرة أخيرة
ـ هل تصدق ...، أن ما تراه...، لن تراه مرة ثانية؟
ـ اجل!
ـ غريب..، انك أجبت ببرود، بلا تردد، ومن غير خوف؟
ـ لأنني مازلت لا اصدق  هل حقا ً أنني رأيت كل هذا الذي لن أراه مرة ثانية، والى الأبد؟

[6] سخرية
ـ أتعرف لماذا انقرضت اللقالق، في حديقتنا؟
ـ  لم يعد الأطفال يسألون أمهاتهم: من أين جئنا؟
ـ لا! ...،  بل لأن الأمهات لم يعد لديهن إجابات مراوغة!
ـ آ ...، أرجوك اشرح لي قصدك؟
ـ ألا ترى أن الشرح، في هذه القضية، يفسد المعنى؟
ـ لا تراوغ!
ـ لو كنت راوغت لقلت لك: اللقالق لم تعد تحتمل أكاذيب الأمهات...، والآن لم يعد الأطفال يصدقون أكاذيب أمهاتهم...، كما أن الأمهات لم يعد لديهن أولاد يسألون أسئلة لا تثير إلا السخرية!

[7] كفن
ـ ما الذي يؤلمك...؟
فرد عليه بصوت مرح:
ـ هذه هي المعضلة...؛ أمضيت حياتي كلها أتألم من اجل قضايا لا تستدعي الألم...، والآن، وأنا استعد للمغادرة، لا أتألم من اجل قضايا  تستحق ما هو اكبر من الألم!
ـ هذا هو التوازن...، أليس كذلك؟
ـ لا ...، هذا هو الذي منحني اللامبالاة السعيدة:  انك توهمت انك كنت على صواب، فعندما كان عليك أن تتعلم كيف تكون صادقا ً، لم تفعل...، وعندما تحتم عليك أن تراوغ لم تفعل...، وقد فات أوان المحاسبة!
ـ ها أنا أجدك تتألم؟
ـ ربما ...، ولكنه الألم الذي  يماثل عمل الكفن وهو يتستر على الجسد!

[8] عزاء
   بعد غيابهم لسنوات طويلة، حتى كاد لا يتذكرهم، عادوا... فسألهم، الواحد بعد الآخر:
ـ أين ذهبت...، وماذا رأيت؟
ـ  ذهبت إلى كوكب كافة سكانه يعملون..، فصرت اعمل مثلهم، وهكذا أمضيت حياتي أتنعم بالأمن والسلام.
ـ وأنت؟
ـ أنا ذهبت إلى قارة لا يعرف سكانها سوى الرقص..، فرحت ارقص حتى صرت واحدا ً منهم.
ـ  وأنت؟
ـ أنا عثرت على بلاد لا يعرف سكانها إلا المرح...، والغناء، بعد انجاز الواجب، فصرت اغني في العمل، واعمل فرحا ً بما اعمل.
ـ وأنت؟
ـ أنا ذهبت إلى مدينة لا يوجد فيها أشرار...، فدربوني، حتى عشت حياة خالية من الشر ومن الشقاء.
ـ وأنت..؟
ـ  أنا ذهبت إلى عالم آخر...، مختلف، حيث الجميع يعملون، كما تعمل خلية النحل، يرقصون، ويغنون، حتى كدت أنسى أن هناك خاتمة للحياة.
ـ وأنت...؟
ـ أنا رأيت ما لم أره من قبل...، فلم أر قويا ً ولا ضعيفا ً، لا غنيا ً ولا فقيرا ً، لم أر أحدا ً يحمل سلاحا ً، ولم أر مكظوما ً، لم أر أيتاما ً، ولا أرامل ولا ثكالى ولا معاقين ولا عاطلين....، لم أر سجونا ً ولا بيوت للعجزة، ولم أر بيوتا ً للدعارة،  لم أر مصحات ...، حتى أني عندما أفقت أدركت أني أمضيت حياتي وأنا لا اعرف اهو حلم حياتي، أم أني أصبحت مأوى للأحلام!
ـ آ ... يا أحفادي، آن لكم  أن تقتربوا مني ...، وتقيموا مناحة علي ّ...، آن لكم أن تحفروا لي قبرا ً...، فانا ليس لدي ّ ما يروى...، فقد آن لكم أن تشاركوني البكاء، للحظة، آمل أن لا تدوم...، بانتظار عودة أحفاد أحفادكم إلينا، كي لا يجدوا سوى الرماد..، وهذا الغبار،  ويشاركوننا العزاء، والبكاء!

[9] حلم
   قال الحمل لامه:
ـ سمعت الواعظ يقول أن الإله سيعاقب الذئاب  بنار خالدة في جهنم ...
ـ الم أخبرك أن حياتنا، يا عزيزي، في هذه الحديقة، وجيزة..
ـ ها، ها، أصبحت تتحدثين مثله، كي أبقى احلم  بحديقة خالية من الذئاب!


[10] دعوات
   وهو محاصر من الجهات كلها، داخل مغارته، مع أفراد عشيرته، سمع فأرا ً يهمس في آذنه:
ـ لابد انك لم تدعو اله غابتنا لإنقاذنا من هذه الوحوش...؟
ـ الم اقل لك انه استجاب لندائي فأبقانا أحياء حتى هذا اليوم...، وإلا من أنقذنا من أنياب هذه القطط، ومخالبها...؟
ـ أرجوك ..، ادعوه...، أن ينقذنا مرة واحدة أخيرة...
ـ  يا حمار...، وما علاقة إلهنا بنا بعد أن انزل الطاعون والجذام والفزع في قلوب أعدائنا!
ـ هذه هي المعضلة، أعدائنا يموتون فزعا ً، ونحن نموت جوعا ً..،  فلا تعرف دعوة من استجاب لها اله هذه الغابة، دعوات الوحوش أم دعواتنا...، فمنحهم الصبر بانتظار هربنا، لافتراسنا، ونحن منحنا هذه الثقوب كي تخمد أنفاسنا فيها!

[11] مسرة!
ـ متى تشعر بالمسرة...؟
ـ عندما يبلغ العجز في ّ ذروته وقد فشل في أن يخمد أنفاسي، فأقول: يا لها من مناعة نادرة حتى إنها لم تسلبني لذّة  الحلم بالموت!


[12] حروب
ـ رأيت البحر يغلي، كأننا في قدر، ورأيت الغيوم تسقط حجارة من نار، ورأيت السماء  تطبق علينا...، ثم أفقت، فما هو تأويلك لهذا الحلم وتفسيره الصحيح؟
ـ يا أحمق...، هذه هي الحقيقة، فبعد أن  نزول، ربما سنحلم بالعثور على مستنقع لم تصله ويلات الحروب!


[13] مفارقة
ـ الآن فقط عرفت لماذا ينتصر الحمقى والأشرار!
ـ لماذا...؟
ـ لأنهم لا يستمدون قوة بطشهم إلا من الأحلام المستحيلة للأكثر ذكاء ً فوق هذه الأرض!



[14] ملاذ
   سأل الغراب حمامة كانت تراقب ـ معه ـ الاشتباكات:
ـ لِم َ تحصل هذه الحروب التي لن تترك سوى الدمار، والخراب؟
ـ هذه هي المهزلة...، فهؤلاء الأقوياء الذين يمتلكون المغارات، بعد الاستيلاء على الغابات، وعلى مصادر المياه ...، يواجهون هؤلاء الذين لا يمتلكون حتى حق الدفاع عن حفرهم التي تركت لهم، مع المياه الآسنة، والدغل...
فقالت الحمامة بسخرية:
ـ  إنها ليست مهزلة فحسب، بل لا اسم لها...، لأن ما ترك لهم من حفر، ومستنقعات، ودغل، تركت لهم كي يواصلوا العمل من اجل هؤلاء الذين يمتلكون الغابة!
ـ وهم يعرفون؟
ـ هم لا يعرفون، في الغالب، ولكن ماذا لو عرفوا، وهم لا يمتلكون إلا أجسادهم يبحثون لها عن حفر يدفنوها فيها!
قال الغراب:
ـ أنا سأمنحهم أجنحة للطيران!
ضحكت الحمامة بأسى عميق:
ـ وهل تركوا لهم ملاذا ً للخلاص؟

[15] مفترسات
  خاطب الأرنب جاره بعد بزوغ أشعة الشمس، وملأت فضاء الغابة:
ـ الآن تستطيع أن تعترف للعالم بما فعلوه بك، خلال ظلمات الليل.
ـ ألا تغلق فمك وتدعني أموت بسلام!
ـ آ...، ماذا فعل بك الخوف؟
ـ إذا كانت مفترسات الليل قد تركتنا على قيد الحياة، فمفترسات النهار لن تترك لنا حتى على اثر!

[16] حمقى
ـ هل تعتقد أن الإله قاس ٍ حد انه يرى الأطفال يذبحون ويقتلون ولا يفعل شيئا ً لهم؟
ـ يا أحمق..، انه يمتحن صبر الأمهات!
ـ آ..، لو لم أعرفك، لقلت كلاما ً آخر..
ـ وأنت ماذا تقول؟
ـ  أنا اعتقد أن الأمهات هن ّ من نذرن أولادهن!
ـ من اجل أن يتسلى القتلة بسفك دمائهم البيضاء؟
ـ لا..، يا أحمق، بل تحديا ً لهم، لأنهن لن يتوقفن عن مضاعفة الإنجاب!


[17] ديمقراطية
ـ أتعرف ما هو أفضل تعريف للديمقراطية؟
ـ أن يجري الحوار بين النار والماء، من غير هزيمة احد على حساب الآخر!
ـ جيد! هذا ما قيل قبل قرون طويلة..، ماذا عن اليوم؟
ـ أن تبقى تحاور الجدار حتى تدرك  انه سينطق بما هو ابعد من صمته!
ـ هذا هو بمثابة الهزيمة المكللة بالنصر؟
ـ يا حمار...، ومتى انتصر الهواء على التراب، ومتى انتصرت النار على الوحل...، ومتى انتصرت الظلمات على النور؟
ـ ولكن هل وصفك لي بالحمار هو جزء من الديمقراطية؟
ـ عندما تصغي إلى صمت الصخور  ستدرك إنها لم تخرج إلا من رحم اعتى البراكين غضبا ً، وأكثرها قسوة!

[18] الكنز!
ـ أراك لم تعد تخاف حتى من الموت؟
ـ سيدي، من يتذوق مرارات هذه الحياة، يدرك...للآسف، إنها لا تساوي شيئا ً وأنت تمتلك الكنز!
ـ ولكن موتك يمنح الجائرين علوا ً آخر...؟
ـ بالاقتراب من ذروته!
ـ  ألا ترى انك تتحدث بلا حول ولا قوة؟
ـ  اخبرني...، لطفا ً، كم عمرت الديناصورات، كم عاشت الخراتيت، كم...، وكم سيدوم أمد الشمس، وكم سيطول عمر هذه الحديقة؟
ـ ها أنت ـ سيدي ـ تساوي بين الجلاد والضحية؟
ـ آ ...، لِم َ تحرجني، وتربكني وأنا استعد للرحيل، وأنت مازلت لا ترى المشهد إلا في مقدمته؟!

[19] إضراب
   بعد أن أضربت الحمير عن النهيق، اثر أوامر صدرت باستبدال الشعير والبرسيم بعلف مستورد مصنع من المواد غير الطبيعية...، سأل المدير مساعده:
ـ ما هي أهداف هذا الإضراب؟
ـ لا غايات له، إلا عدم الاشتراك بالهتاف لمجدك؟
  صمت المدير برهة، ليسأل مساعده:
ـ وهل لهذا الإضراب اثر في باقي المواشي، والبهائم، والدواب؟
أجاب المساعد حالا ً:
ـ نعم، نعم سيدي، فالنعاج هي الأخرى كفت عن الترنم باسمك، والبغال كفت عن المشاركة بالاحتفالات، والضفادع لم تعد تنق أيضا ً.
ـ البغال..، آ .. حتى البغال؟
ـ أصابتها العدوى...، سيدي.
ـ وما الحل؟
ـ  سيدي، لدينا الحل الوحيد المجرب ألا وهو حرمانها من العلف..، كي تدرك إنها ستموت جوعا ً، قبل أن نرسلها إلى السباع والذئاب والنمور ...!
   لكن كبير الحمير تقدم بطلب لمقابلة السيد المدير، فأذن له، فسأله المدير:
ـ  تفضل..، قل ما لديك.
ـ سيدي، إن الأعلاف الجديدة..، تجعلنا نهتف بأسماء الشركات المصدرة للعلف...، ولهذا قررنا إعلان الصمت، وليس إعلان الإضراب!
ضحك المدير بقهقهة متقطعة:
ـ  كنت اعرف أن ولائكم لي بلا حدود...، بل وأنا أشاطركم صمتكم أيضا ً!


[20] النملة والفيل
   وقفت النملة فوق رأس الفيل، وقالت له:
ـ كم أنت عظيم، يا سيدي!
وأضافت:
ـ حتى أني كلما هتفت امجد عظمتك، أجد أني لم افعل شيئا ً..!
   هز الفيل خرطومه، وقال لها:
ـ  هذه هي المعضلة...، كلما سمعتك تهفين بحياتي، أدرك  أني لم اقدر إخلاصك، وعظمتك أيضا ً!
ضحكت النملة:
ـ  أتسخر مني؟
ـ بل اسخر من القدر الذي جعل عظمتي مقترنة بهتافك لي، أيتها النملة العزيزة!
5/1/2017

الجمعة، 6 يناير 2017

الفنان المحامي حميد العطار في ذمة الخلود


في الزقاق القديم-علي النجار





في  الزقاق القديم





علي النجار                                                              

... في الزقاق حيث ولدت
أثر ضاع
أثر مقيم
 كان صيف
ليس سوى الجسر العتيق
ونورس وحيد يزعق خلفي
حداد على الزمن الضائع
والزمن المجهول
و غبار .. البيت القديم
.............................

لا نورس يلتفت للخلف
لا تذكار يعود
في بلد النوارس الجديد
ليس سوى كلمات إثر كلمات إثر كلمات
ترفعني
تخفضني
وحفنة من تراب قديم


في التشكيل العربي المعاصر- في مشروع سلام عمر الجمالي "تقسيم" الميتافيزيقا لا تتستر على الغياب!- عادل كامل



 في التشكيل العربي المعاصر

في مشروع سلام عمر الجمالي "تقسيم"
الميتافيزيقا لا تتستر على الغياب!


عادل كامل
   قبل نصف قرن، بدأت حياتي الفنية بسؤال: ما الفائدة من إنتاج (الفن)، في مجتمعات سلب منها الخيال، استنادا ً  إلى فرضية تقول أن أسلافنا ـ قبل عصر الطوفان الأعظم ـ  كان خيالهم قد صاغ نسيج أساطيرهم، على خلاف زمننا: صار الناس أسرى آليات الواقع، ومن غير أساطير، ومن غير خيال، عدا: استكمال ما هو قيد المرور ابعد من حدوده.
    سلام عمر، في العام 2016، وفي البلد الوحيد القادر على إعادة التوازن للثقافة، مع ضدها، لبنان ـ بيروت،  لا يبحث عن إجابات، بل يقترح أسئلة لا تقوم على اللغة، ولا تقوم على الأساطير: هل بلغ العصر (العربي) ذروته، في دحر التقدم، وفي مواكبة العالم، والتمسك بأمل ما، حتى لو كان وهما ً...؟


     




    ففي مشروعه الفني "تقسيم" (بمعنى ما تفكيك) يغدو تاريخ الحداثة قد أصبح أكثر وضوحا ً لتمثل مصائر لم تعد تحدث فوق الأرض، بل عبر: الصور ـ والأثير. إنها تنتسب إلى (اللا كون) الذي صار وجودا ً لاستكمال مروره، وليس لمعرفته، أو التحكم بمساراته.  فالإحساس بالواقع لم يعد برنامجا ً طليعيا ، أو حتى حقا ً مستلبا ً، بل جزءا ً من وجود بلا مقدمات، وبلا زمن.

 



   فهل ثمة معنى للـ (الفن)، بعد أن غدا (سلعة/ شيئا ًكباقي الأشياء/ أو حيزا ً مشغولا ً بالفراغات)، منذ نبهنا هيغل لصدمة موت الفن، حيث لم تعد للميتافيزيقا مكانة في لفت النظر، فالرأسمالية، ليست اختراعا ً حديثا ً، أو وليدة التراكمات، مثلما أن مستقبلها لا تحدده القوى المضادة لها، ذلك لأن نظام (بذرة الخلق الأولى) ـ برمجتها أو خطتها  العصية على الإدراك ـ تأسست على النحو الذي  يدعه يكمل كل ما نراه قد جرد الإنسان من شروط وجوده: الهواء وليس الكرامة، الغياب وليس الديمومة، الخبز وليس الحرية، القبح وليس الجمال، القهر وليس المسرة، الألم وليس الوجع، العنف وليس المودة أو الوئام ...الخ، كي يختار الفنان سلام عمر (المسدس) علامة، وكان باستطاعته ـ طبعا ً ـ أن يختار أي رمز آخر من رموز عصرنا،  ينتسب إلى اللغة التي شغلت مساحة القرن الأخير، اللغة بوصفها فنا ً يكمل مقدماته، منذ أن تفككت الإمبراطورية العثمانية، وصولا ً إلى تفكك أوربا ذاتها، بعد خروج بريطانيا من مشروع أوربا الموحدة.  فالتقسيم مفهوم يتجاوز آليات عمل الجدل، وصراع الطبقات، وأفول الأيديولوجيات، وبزوغ عصر ما بعد العولمة.
   حقا ً لا يستطيع المتلقي أن يشعر بالـ (القرف)، أو بالكراهية، وهو يشاهد أسلحة شبيهة بالحلوى، ملونة، زاهية، ومنجزة بتصميم أخاذ، جذاب، حتى بدت (المسدسات) واجهة لعرض السلع الأكثر تداولا ً على صعيد الجماعات، الأفراد، والمؤسسات، ومقترنة بشركاتها، ودولها، حتى كأنها تبرهن أن غياب (الهوية)، لا يعني غياب (الإنسان)، بل على العكس: إن للفن مكانة في منح الصراع ديمومته، بل، وشرعيته، في دينامية آليات الصراع.
    إننا إزاء العاب، لم يبذل الفنان سلام عمر جهدا ً ببنائها، بل راح يلتقطها، عبر البصر، لتغدو إعلانات عبر الفضائيات، وعبر وسائل الاتصال المختلفة، الأكثر تطورا ً في حداثتها.

     


   فالمسدس ليس رمزا ً للقهر، أو للقوة، أو لإثارة الفزع، والكآبة، بل غدا نموذجا ً لأكثر الأسلحة شفافية، نعومة، جاذبية في وجودنا.  فالخيال لم يعد يذهب ابعد من حدود واقعيته السحرية: لأن العلامة لا يمكن عزلها عن نظام إدارة القارات، ومجتمعاتها، إن كانت أوربية ـ مصدرة للبضائع ومتحكمة بالأسواق ـ أو في العالم الثالث ـ وهي تستجدي مصيرها، حتى وهي تحتفل بخرابها، وأفولها.
    لكن هل ثمة صدمة، جمالية، في الأقل، لهذا الضرب من الفن وقد أعاد للصورة دور اللغة في التمويه، كما في أساطير الماضي وهي تمجد الآلهة، أم أن سلام عمر، يؤدي الدور ذاته لحامل (الكفر) دون ارتكابه...؟
    إن مجتمعا ً من غير فن، بالبداهة، ليس مجتمعا ً. لأن إنسان ما قبل التاريخ، لم يتكون، إلا بالفن. فالصدمة الأولى ستكون ذهبت مع الريح، في مجتمعات منشغلة، حد الموت، باختراع تصادمات لا تطرد الإبداع الفني، بل تحول الإنسان ذاته، إلى سلعة، لكنها سلعة خالية من الميتافيزيقيا. وهذا ما سمح للتدمير أن يتوغل في بلدان كانت تنعم بقناعة الصمت، في الأقل، ليتم تفكيكها، كما تم تفكيك (الذرة)، في فاتحة القرن الماضي، ليتم الاحتفال بالإبادات الجمعية، وما ستتركه من آثار عميقة ليس بموت (الفن)، أو موت (الإنسان)، بل بجعل الحياة تمضي كحكاية أعدت خاتمتها لها قبل أن تكون لها مقدمات.
    سيقال: هل هذا المعرض الجذاب للسلاح ـ ولنتخيل تاريخ الأسلحة، منذ الرمح، السهم، السيف، المدفع، الصاروخ عابر القارات، وصولا ً إلى الأسلحة الناعمة، ما بعد الذرية ـ يمتلك قدرا ً من إثارة الدهشة، أو الصدمة، أو الاستفزاز، بالخيال السائد لدى النخب، وليس لدى الملايين إلا الانشغال بالبحث عن: الخبز، والهرب من الاجتثاث، والمحو..؟
    ربما لم يترك سلام عمر، للفن، إلا الأثر؛ الصدى وقد سكن العلامة، أسوة بكنوز المتاحف الحربية، لا تمتلك إلا مرورا ً شبيها بمرور الأطياف، لكنها لا تمتلك  رغبة بإعادة فجيعة الأسئلة: كم قتلت، وكم هو عدد ضحاياها. فالفن الذي يحرض على إثارة الأسئلة، أما يخاطب من لا يفهم شيئا ً، أو يخاطب الذين لا تساعدهم المعرفة إلا على تجنب الخوض فيها. فهل ثمة (قسوة) أكثر بلاغة، من  تحول القسوة إلى صورة، لا تقارن، إلا بالحلوى، والعاب الأعياد، والانتصارات التمويهية، أو بالعروض السحرية للأسلحة التي  لا تترك ألما ً، بل ولا حتى ذكرى ما لغيابها؟!
26/12/2016

الأربعاء، 4 يناير 2017

مفهوم العقل العربي: أو الدعامة الفكرية للاستبداد-*موليم العروسي

مفهوم العقل العربي: أو الدعامة الفكرية للاستبداد
*موليم العروسي

لا أعرف كيف أشرح أن ينخرط الشباب، جسدياً وعملياً، في الإقبال على منتوجات التكنولوجيا الحديثة، وأن يستهلك آخر ما أنتج على مستوى الصورة والموسيقى واللباس، ولكنه يتوقف في قراءاته عند حدود القرن التاسع عشر الأوروبي ويحتمي في الغالب بملاءمة الفكر العربي التقليدي مع الفكر الحديث الذي أنتج في القرن الثامن عشر؟
يسألني طلبتي، بكثير من المكر، عن كيفية ملاءمة الحداثة وما بعد الحداثة مع حياتنا اليومية، وكيف يمكن لأمهاتهم وجداتهم فهم الحياة وفق هذا المنظور؟ يسألونني، وفي عيونهم حيرة عميقة، حيرة ذلك الذي يجد نفسه أمام طريقين، لكنه لا يزال يتردد في الأخذ بأحدهما.
أعرف جيداً أن الأمر لا يتعلق لا بأمهاتهم ولا بجداتهم ولكن الأمر يتعلق بهم هم، وصعوبة التخلص من منظومة تربوا فيها ولا يعرفون شيئاً غيرها. هذه المنظومة صنعتها المدرسة المغربية كما خُطِّطَ لها بِتأَنٍّ ومكر مكيافليين. ابتدأ مشروع التحول في التعليم المغربي من سنة 1965. فبعدما تم التراجع عن المشروع التحديثي السياسي الذي نادى به الجناح اليساري للحركة الوطنية واسترجاع الملكية على عهد محمد الخامس لغريزتها السلطوية التي كانت قد تخلت عنها مضطرة بحكم ظروف الاستعمار، أصبح الباب مشرعاً لإقامة نظام تعليمي يعيد إنتاج الخضوع والعبودية. ولم تجد الدولة أحسن من العودة للتراث لإعادة تنشيط الفكر السلطوي.
تزامن هذا مع حرب أكتوبر العربية الإسرائيلية، والتي وجد فيها دعاة العودة للماضي في العالم العربي، فرصة المطالبة بالتخلص من بقايا الاستعمار ومنها اللغة. ولكن العودة للغة العربية التي كانت تعني بالنسبة لبعضهم العودة للثقافة العربية، عنت للسلطة العودة إلى التقاليد وغربلتها من كل ما من شأنه أن يمس بالعمود الفقري للسلطة الأبوية الذكورية البطريكية الاستبدادية بصفة عامة. وكان النظام يعرف جيداً أن اللغات الأجنبية (الإنكليزية والفرنسية) تحمل في طياتها فكراً لا يتلاءم مع تكوين الرعية التي يريد، لذا قدم نفسه مسانداً لأؤلئك الذين يطالبون بالعودة للماضي. وبطريقة غريبة تحولت اللغات الأوروبية في التعليم إلى تقنية فقط تنتج التكنوقراط والتكنولوجيين لتبقى روح العربي مرتبطة بالفكر التقليدي. كل ما يعيد النظر في السلطة البطريكية التي هي أساس الاستبداد كان من اللازم أن يبقى خارج التعليم التقليدي. لذا حرص حراس النظام، وهم جيش من رجال التربية والتكوين، على أن تبقى بنية التفكير أبوية تقليدية، من هؤلاء من كان يعي ما يقوم به، ومنهم من كان يقوم بهذا مدفوعاً بغريزته الرجعية.
تعود بي الذاكرة إلى استجواب مطوَّل كانت أنجزته مجلة “الثقافة الجديدة”، في ملف خاص عن الثقافة المغربية ونشرته مجلة “الكرمل” الفلسطينية، نظراً لأن السلطات المغربية كانت قد قررت توقيف “الثقافة الجديدة” من جملة مجلات أخرى. في هذا الاستجواب أكد محمد عابد الجابري أنه يرفض سيغموند فرويد والسبب “أنه (أي فرويد) يهتك أعراضنا” (هكذا). علم النفس التحليلي (رغم ما يعتريه من هفوات) بالطبع يخلخل بنية النظم البطريكية؛ لذا أفهم موقف العابدي، الذي وضع، هو نفسه، برنامجاً مُعَرَّبََا للفلسفة سارت عليه أجيال، وأظنها ما زالت عليه إلى اليوم. وهو نفسه الذي وضع تصور تدريس الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع بالجامعات المغربية منذ تعريب الفلسفة (والذي كان عرابها أيضاً) إلى حدود الإصلاح الجامعي في بداية سنة 2000. وبعملية حسابية بسيطة سوف نرى أن جل ممتهني الفلسفة اليوم هم من نتاج برامج عابد الجابري. لا غرابة إذن في أن تتلقف الأجيال هذ النوع من التفكير على أساس أنه أحدث ما وصل إليه الفكر الإنساني. فلقد تربت عليه أجيال لتعتبر في النهاية أن أرقى ما يمكن أن تصل إليه هو هذا النمط من التفكير.
أتذكر في بداية الثمانينات، وأنا مدرس مبتدئ بجامعة الدار البيضاء، كان طلبتي يأتونني بنص جميل لغوياً وذي رنة غريبة بعنوان الأدب والغرابة. كنت حينها أدرس الحقيقة عند أفلاطون. كل ما كان يهم الطلبة حينها هو الافتخار بالفكر العربي الذي وصل حسب قولهم إلى مستوى عال قبل الفكر الغربي. كنت أقول لهم إن الرجوع إلى أفلاطون لا يعني، بالمرة، الاستنجاد بالماضي، لكي يمدنا بحلول لمعضلاتنا الآنية. الأمر كان يتعلق بتفكيك نظرية الاستعارة وردها إلى أصولها الميتافزيقية حتى يتبين لأولئك الذين كانوا يعتبرون أن العرب كانوا سباقين في علوم برع فيها الغرب، لاحقاً، لم يكونوا على صواب. لم نكن نقدس النص الإغريقي ولا النص العربي، كنا نفكك النص، نبحث في ثناياه عن ذاك الذي يتسلل إلى فكرنا دون وعي منا.
كنا وقتها بالمغرب خارجين للتو من ضربة قاسية أنزلتها السلطة على انتفاضة الدار البيضاء في يونيو 1981. وعلى المستوى العالمي كانت هناك النشوة المفرطة للإسلاميين بفعل نجاح ما كان يسمى في الأدبيات الإعلامية بـ “الثورة الإسلامية الإيرانية”. كان الجميع يقدم مقترحاته للخروج من الباب المسدود. لكن فُرِض في الآن نفسه على الفلسفة في تلك السنة، كما قلت، أن تنكمش وتنسحب من ساحة المقترحات. أصاب السياسة نوع من التشتت المذهبي والشك المنهجي وبقي الفكر يقاوم الاستبداد الذي أحسسنا بزحفه على أصعدة متعددة.
لكن قبل كل هذا، كان الفكر المغربي يتجه إلى التعبير عن نفسه من خلال ثلاثة تيارات : تيار تقليداني تقوده الدولة (وكان مهندسه هو الحسن الثاني)، ويلتقي في خطوطه الكبرى مع الوهابية والنظرة الأميركية للصراع، أو للطريقة التي يجب أن يتحول إليها الصراع العقدي في المنطقة ضد الشيوعية والتيارات الشيعية؛ تيار يتبنى ما كان يعبر عنه المفكر المغربي، عبد الكبير الخطيبي، بالنقد المزدوج أي نقد الثراث العربي والإسلامي من جهة ونقد الفكر الغربي وخصوصاً الاستعماري منه المتحول إلى إمبريالية من جهة أخرى وبناء فكر آخر مختلف Pensée Autree. من هنا كان التأكيد على اليُتمِ، هذا المفهوم الذي لم يستوعبه كثيرون لحد الآن والذي سوف نعود إلى تحليله لاحقاً. ومحور ثالث كان يظن، ولا يزال، أن الحل في التراث. هذا التيار هو الذي سيطر على الجامعة المغربية نظراً لتحالفه، عن غير وعي ربما، مع بعض التيارات الدينية ونظراً لدعمه من طرف الاستبداد العربي (البترودولار والقومية) وهذا هو تيار الخصوصية.

يعتبر هذا التيار أن للعرب حضارة وثقافة خاصة مختلفة عن شعوب العالم وهذا صحيح. هذه الخصوصية في نظر هذا الفكر تجعل من العقل العربي شيئاً مختلفاً تماماً عن العقول الأخرى. بادر هؤلاء إلى اعتبار العقل الكوني مجرد عقل غربي، جهوي وسارعوا، على شاكلة الفلاسفة الغربيين الذين حاولوا تحليل آليات العقل (الحديث هنا عن إيمانويل كانط وهيغل) إلى البحث عن خصوصيات عقل عربي خالص. لا يعترفون إذن بكونية العقل بل بجهويته ومن منطقهم هذا يمكن أن نعتبر أن ما أنتجه العقل الغربي (الكوني) لا يمكنه أن يتلاءم مع العقل العربي. هذا العقل العربي الذي صدر عن نص، هو القرآن، وعن نصوص قامت بتحليله وشرحه والتعليق عليه والتفاعل معه يمكنه، في نظر هؤلاء، أن يكون خاصية لمنطقة جغرافية لا أدري من سماها بالعالم العربي. لذا سحب هؤلاء منظومة فكرية نابعة من نص على أعراق وأجناس وثقافات لا تتكلم حتى العربية أحياناً.

هذا المنحى، والذي ما زال يبحث في التراث النصي الذي يتردد صداه من الماضي عن معضلات شعوب المنطقة، هو الذي سيطر بالمغرب والعالم العربي وما زال وهو الذي أَمَدَّ الأصولية الدينية من جهة والاستبداد السياسي من جهة أخرى بالأسس النظرية للدفاع عن أطروحة الخصوصية. فكل من الأصولية الدينية والاستبداد يعتبران أن مفهوم العقل ومفهوم الإنسان، ومن ثم مفهوم الحرية والديمقراطية دخيلة على المنظومة الفكرية والروحية العربية لذا لا يمكن الأخذ بها، ووجب تطوير مفاهيم نابعة من الأرضية الفكرية لهذه الأمة العربية.
هذا التيار يبحث في التراث البعيد عن مخرج لمعضلة آنية.
______
*ضفة ثالثة