الجمعة، 11 نوفمبر 2016

رفاهية وقصص قصيرة أخرى-عادل كامل

رفاهية وقصص قصيرة أخرى


عادل كامل

إلى نوال السعدون
[1] رفاهية
   في القفص، سألت أنثى الذئب قرينها الهرم:
ـ أتراهم يعطونا لحوم غزلان، أم لحوم كلاب، أم لحوم حمير؟
ضحك الذئب الهرم:
ـ وما الفرق... ؟
قالت بصوت غاضب:
ـ لحوم الغزلان تجعلني احلم، ولحوم الكلاب تضطرني إلى النباح، وأنت تعرف ماذا تفعله لحوم الحمير فينا؟!
ـ يا عزيزتي...، وهل كنا في البرية نختار وجبتانا اليومية بهذا اليسر؟
ـ آسفة، يا عزيزي، لكن هذه الأقفاص لم تعد تجعلك تفكر في ّ، أو حتى تغازلني، وتتحرش بي...، كما كنت تفعل عندما كنا طلقاء في البرية؟
ـ يا عزيزتي...، انتهى زمن الشقاء، والكد، فبعد أن وضعونا في هذه الأقفاص، منحونا الرفاهية، فعلينا أن نتمتع بالحرية التي لا تذكرنا بالعواصف، والأعداء، والمجاعات،  فالموت في الرفاهية لا يدعنا نقع حتى في غوايات الخطيئة!  


[2] زمن المعجزات
   وهي تراقب الفصائل التي استنزفتها ويلات الحرب، سألت الحمامة حمارا ً يستعد للاشتباك:
ـ هل أنت اخترت أن تكون حمارا ً..؟
ـ كلا.
وسألت الذئب المستعد للمنازلة:
ـ أم أنت اخترت أن تكون ذئبا ً؟
ـ كلا.
وسألت الدب:
ـ وأنت؟
ـ   أنا ولدت دبا ً ابن دب وصولا ً إلى جدنا الدب الأعظم.
ـ وأنت ِ أيتها الأفعى..؟
ـ أنا ولدت هكذا ...
ـ وأنت، أيها الضبع، وأنت أيها الخنزير، وأنت أيها الثعلب، وأنت يا تمساح...
ـ الكل وجد انه ولد كما هو عليه...، بأنياب ومخالب وجلد ولون وحجم ودم وذيل لم يختره ...
ـ فما الذي يدعوكم للتباهي بإعلان الحرب، وبسفك الدماء...، مادام الفيل لم يختر أن يولد عصفورا ً، ولا الكوسج  فكر أن يصبح نورسا ً، ولا القطط الوحشية هذبت مخالبها أو أنيابها...؟
   نظروا إليها بشرود تام:
ـ ومن ذا باستطاعته أن يغير ما ولدنا عليه أيتها الحمامة، مادام موتنا اعد لنا قبل أن ترى عيوننا النور؟
ـ هذا وهم...، هذا هو الوهم!
ـ ما الحقيقة إذا ً...؟
ـ لا توجد حقيقة!
صاحوا بصوت واحد:
ـ أيتها الفصائل: أما النصر وأما الموت!
صاحت الحمامة  مذعورة:
ـ  لكنكم، للآسف، لن تكسبوا حتى هزائمكم في هذه الحرب!
ـ انك تطلبين المحال، والمستحيل، وبحصول معجزة بعد أن انتهى زمن المعجزات...؟
فراحت تتمتم مع نفسها:
ـ هكذا سيبقى السلام حلمنا الوحيد، وما أن يتحقق، بعد هزيمة الجميع، حتى تكون جراحكم غير قابلة للشفاء، إلا بمعجزة، وانتم قلتم: أنهى زمن المعجزات!


[3] تكريم
   سأل الأرنب زميله، وهما يتأملان  الحديقة:
ـ أتعرف لماذا وضعوا المفترسات الشرسة في هذه الأقفاص؟
ـ عقابا ً لجرائمها المقترفة بحقنا!
فقال الآخر بصوت حزين:
ـ كلا...، يا أحمق، بل تكريما ً لها! لأننا، عندما كنا في البرية، كنا نمتلك ألف وسيلة للهرب، وللنجاة منها...، أما هنا، أيها المغفل، فإنها لا تشقى بالحصول على لحمنا!


[4] صمت
ـ قل كلمة نافعة...، وامض.
ـ أخبرتك أني جمعّت كل ما دار برأسي وبحت به فإن لم تسمع صمتي، فلن يكون لكلماتي حتى اثر ما تعمله السكين وهي تفصل الرأس عن البدن!
ـ  ومن ذا سمع صمتك؟
ـ تقصد...، ومن يصغي لكلماتي، وأنا أخبرتك، أن كل ما تفوهت به، شبيه بما كتمته، مع أن النهايات لن تكمل إلا ما هو سابق على مقدماتها، وملحق بما هو ابعد منها. فان قلت كلمة نافعة...، ففيها من الضرر مثلما يصبح فيها النافع فراغا ً...
ـ ها أنت قلت كلاما ً شريرا ً...؟
ـ لو لم يكن للشر منافع لكانت العدالة تكفلت بإصلاح الأشرار...، وليس بما تراه...، يذهب خارج مدى ما يراه الأعمى، في هذا الليل، وهو يسرد حكايات عميان انحدروا من أكثر الشموس توهجا ً!


[5] دعوة
    بعد أن اشتد أوار الحرب، فقد الغزال رشده، وتوقف في الساحة، يخاطب الجميع:
ـ ما الذي يدعوكم إلى سفك الدماء، وانتم تعرفون أن أحدا ً لن ينتصر على الآخر...، وأنكم ستتصالحون غدا ً أو بعده...؟
   توقفت الأطراف المشتبكة، عن القتال، وصاحت بصوت واحد:
ـ هذا الغزال يدعو إلى الصلح، ويدعو إلى المودة، والى السلام....، ليرتكب ذنبا ً  فاق ذنوب الحرب!
  وهموا بالهجوم عليه مجتمعين، موحدين، كتلة كالبنيان المرصوص...، فقال الغزال لنفسه، بصوت مسموع:
ـ أن تموت وأنت بريء خير من أن تموت وأنت ملطخا ً بدماء الأبرياء!
ـ قفوا...
صاح كبير الذئاب، مقتربا ً من الغزال، وسأله:
ـ يبدو انك هبطت من كوكب آخر...؟
   أجاب الغزال:
ـ لا...، بل أنا لم اعد أصلح للسكن في هذا الكوكب!


[6] تتمات
ـ ها أنت أصبحت من الخالدين! فخذ موقعك، واسترح!
ـ آ .....، ها أنا ذا إذا ً في القاعة التي كنت أتأمل فيها الديناصورات، والخراتيت، والمنقرضات...، وأقول لنفسي: يا لقسوتنا..، حتى عظامها لم تسلم من التشهير!
ـ حسنا ً، سنمحو أثرك، قبل أن نعيدك إلى الفناء!
متمتا ً، قال لنفسه بصوت واهن:
ـ لا العظام اقترنت بالخلود، وبالخالدين، ولا المحو باستطاعته أن يكون عدما ً.
ـ حرنا معك ...
ـ هذه حيرتكم، لا حيرتي..، فانا قلت: دع الحيرة تأخذ تسلسلها...، فلا يتقدم العدم على الوجود، ولا الوجود على العدم، فأنا طالما قلت: وما معنى استحداث نهايات مسبوقة بما لا يحصى من المقدمات، ومقدمات لا تستحدث إلا ما لا يحصى من النهايات، فانا لم اطلب أكثر من  قهر هذا الذي صار علامة للقهر!

[7] غياب
   وهو يرى المشهد كاملا ً، سمع من يناديه:
ـ كلنا لذنا بالفرار...، فاهرب معنا، مادمت تستطيع الجري..، ومادمت تستطيع أن تفلت من مخالبهم، وأنيابهم...
  هز رأسه متمتما ً:
ـ  وهل اهرب من الحديقة التي عملت على اجتثاث دغلها؟
سمع احدهم يقول له:
ـ  أتريد أن تُذكر مع أسماء الغائبين...؟
ـ وهل ستجدون حديقة لا ينمو فيها الدغل، كي أنجو من الغياب؟!

[8] عند بوابة الجحيم
ـ ألا تعتقد إن إلهانا، ونحن مازلنا في زمن الغاب، والبراري، وبكلمة منه، يستطيع القضاء على الشر ...؟
ـ يقدر. وأنا أقول لك انه يقدر ليس لأنني لا استطيع أن أقول غير ذلك، بل لأنه وحده ترجع إليه الإرادة.
ـ افهم منك أن الشر ليس شرا ً خالصا ً...، بل له منافع نجهلها، حتى عندما يقضي علينا،  ويمحونا من هذا المستنقع؟
ـ انك تناقش قضايا خارج حدود عقلي، وخارج أدواتي بالبحث أيضا ً.
ـ  لكن...، بحدود هذا العقل، فانا لا أجد أن هناك منافعا ً سوى ما ذكرته لك.
ـ  لولا الشر...، ولولا الأشرار...، لولا الجهل، ولولا الجهلة، لتوقفت الحياة برمتها..، لنصبح وكأننا رجعنا إلى أصلنا الأول الذي طردنا منه!
ـ إلى العدم...، أم إلى  الفردوس؟
ـ  اختر ما تشاء...، عدا هذا الذي رأيته، وعشته، وتمتعت بحسناته وسيئاته.
ـ كأنك تساوي بينهما؟
ـ  ليس لدي جواب، فانا اجهل الرد...، لأن عدم وجودي لا يسمح لي أن اعرف عنه ما علي ّ أن أخبرك به...، فان كل ما اعرفه أن حياتنا ليست شرا ً خالصا ً..، فلولا المنافع، لكان الإله قد استغنى عن غاياته، فلولاه لما ازدهر علم الطب، ولا علم الحساب، ولا علم الفضائل...، لا التجارة ولا الجمال..، لا فن صناعة البضائع، ولا فن صناعة الجثث.
ـ ولكنك لم تقل: فن القتل؟!
ـ انك لم تدعني أكمل... فأقول: فن الفتك!
ـ فن قتل الصغار، وقتل الأبرياء، وقتل المستضعفات..؟
ـ لا اعتقد انك قصدت الفن الجميل...، بل الشر الذي يحفزنا لاستحداث ما يتطلب عملا ً، وجهدا ً..
ـ ولكن ليس للقضاء عليه، أو محوه...؟
ـ تلك هي إرادة الإله ...، يا سيدي!
ـ عدنا إلى الصفر: ألا تعتقد إن إلهانا يقدر، بإشارة منه، القضاء علينا جميعا ً؟
ـ ولماذا علينا جميعا ً..؟
ـ حسنا ً، أتستطيع أن تجد لي كائنا ً واحدا ً، واحدا ً حسب، خارج شرط وجوده؟
ـ لا!
ـ فما هي منافع الشر إذا ً...، حتى لو لم ندركها؟
ـ آ ...، أنت تقصد الأشرار...، لقد فهمت الآن قصدك!
ـ بل أنا قصدت الشر الذي يأتي بهم...؟
ـ ويأتي بالحكماء أيضا ً...؟
ـ وهل استطاع هؤلاء الحكماء، لو جمعتهم، منذ أول الخلق، حتى يومنا هذا، إيقاف ازدهار فن قتل الصغار، والتسلي بالضعفاء، والإسراف في الجور...؟
ـ لا.
ـ  فما الفائدة من الشر الذي لا يصنع إلا حكماء عجزة؟
ـ ها أنت صرت تفكر كاله!
ـ  وكيف أفكر مثل اله وأنا ولدت في هذه المزبلة، في هذا المستنقع، وفي هذه الزريبة...؟
ـ ستعرف الجواب عندما تدخل جهنم..!
ـ أنت يا سيدي هو من يتكلم مثل اله، لا أنا...، لأنني لا اصدق أن هناك إلها يصنع الشر..، ويصنع الجحيم معا ً، فهل هذا اللا مسمى الذي بلا حدود وبلا حافات ينتظر مني الإدلاء بصوتي لانتخابه، وإعلاء شأنه؟!
ـ  ها أنت تذهب ابعد من المعضلة التي غطسنا فيها!
ـ أعود، مرة أخرى، وأسألك السؤال نفسه: ما فائدة الشر ..، وما فوائد الدناءة، والرداءة، والمرض، والهرم، والجنون؟
ـ اذهب واسأله؟
ـ يا سيدي، أنا لا اعرف كيف تجرأت وسألتك هذا السؤال...، فهل باستطاعتي أن أجد جوابا ً على أسئلة ما انفكت تحتفل بازدهار الانتهاكات، والمظالم، والخراب؟



[9] شجاعة
ـ ها أنا أموت..، إذا ً أنا لن أموت مرة ثانية؟
قالت الغزال لنفسها بعد أن ابتلعها التمساح. فقال الأخير لنفسه بعد أن سمعها:
ـ  يا لشجاعتها ...، لم تهرب مني، بل ولم تبد مقاومة تذكر، لكنها تخاف أن تولد مرة، لتنجو مني!

[10] احتفال
ـ أنت لا تسمع الرنين الذي اسمعه، فأنت لا تسمع سوى قرع طبول الحرب...، ودوي المدافع، أزيز الطائرات، ولا ترى سوى أعمدة الدخان ترتفع عاليا ً...، أنت تسمع أصوات الباعة، والداعين إلى المجازر، تسمع أصوات المهرجين، وعويل الثكالى، وانين الأيتام، واسى الأرامل، أنت تسمع صدى نزيف الضحية وهي تحدق في رصاصة موتها...، أما أنا ...، فاسمع الصمت، يمضي ابعد منك...، وابعد مني أيضا ً!
ـ أرجوك ...، من أنت؟
ـ  أنا تاريخ صمتك الذي يولد بعد هذا الاحتفال!

[11] كوكب آخر
ـ لم يبق لدينا إلا أن نبحث عن كوكب آخر...
متابعا ً، أضاف الأرنب لزميله:
ـ فأينما هربنا، وأينما ذهبنا، وأينما ولينا، لحقت بنا الأفاعي!
   فكر زميله برهة من الزمن، وقال:
ـ لا أريد الاعتراف ـ مرغما ً ـ بان بقاء الأفاعي، على قيد الحياة، لن يحصل إلا بوجودنا!
ـ أتود أن نمضي حياتنا برفع شعار: مضاعفة النسل...، كي لا تتعرض الأفاعي للانقراض؟
ـ قلت لك: مرغما ً...، لأنني كنت أريد أن أقول: وهل نحن خلقنا أبرياء؟ فإذا كنا لا نستطيع قهر الأفاعي، والحد من بطشها، ووضع حدود عادلة بيننا...، وإذا كنا لا نستطيع الهرب إلى كوكب آخر...، فالحل الأخير غدا معضلة حقيقية...، تماثل الإجابة على سؤال لا إجابة عليه، وتماثل معضلة ضع حلا ً للمشكلة غير القابلة للحل؟!
ـ آ ....، لم تبق لنا إلا أن نستسلم لشراهتهم، لأنهم بافتراسنا يبنون مجدهم!
ـ لم اقل هذا أبدا ً...، ولكن اخبرني: ما الحل؟
ـ أنت ترغمنا بالاستسلام للمبدأ العام: لولا البحر لهلكت الأسماك، ولولا العشب لهلكت المواشي، ولولا الحمير لهلكت السباع، ولولا الأرانب والنعاج  والمخلوقات المستضعفة الأخرى، لهلكت الذئاب، ولولا الطيور والدواجن لهلكت الثعالب وبنات أوى...، ولكن ـ أرجوك ـ اخبرني:هل هذا هو العدل؟
ـ ا .. يا صديقي، دعنا نصنع ممرات وزواغير وثقوب أخرى تحت الأرض...، عميقة، محصنة، شديدة التمويه، لها منافذ لا تحصى...، لمقاومة الأفاعي الشرهة، ولباقي المفترسات المتوحشة...؟
ـ أعود وأتساءل: هل هذا هو العدل؟
ـ لا تسألني...، أذهب وأسأل من خلقها، ومن خلقنا، لأنك ستعرف انك أينما وليت، هربت، ولذت بالفرار...، وأينما تحصنت، واحتميت، ستجدها تجري خلفك...، تتبع ظلك، وتستنشق رائحة لحمك...، لأن الشر، يا صديقي، لا يزدهر إلا بوجود مخلوقات لا حول لها ولا قوة، إلا بانتظار ساعة هلاكها!

[12] انتظار
ـ أصبحت الحرب ظالمة...، فالبشر لديهم ما لا يحصى من الأسلحة..، ونحن لم نعد نمتلك شيئا ً عدا إننا أصبحنا أهدافا ً للصيد، والقتل؟
ـ أنت محق، وعلى صواب...، ولكن لا تحزن، فالبشر أيضا ً يقتل بعضهم البعض الآخر، وهذه هي فرصتنا للهرب منهم..!
   فسأله بشرود ذهن:
ـ آ ....، انتظر زوالهم من وجه هذه الأرض...، بفارق الصبر!
ـ وماذا سنفعل أيها الطير الجميل؟
ـ سأفكر ـ آنذاك ـ كيف نكسر قيود هذه الأقفاص التي احتجزونا فيها!


[13] جسور
ـ لِم َ يشيدون الناس الجسور...؟
   ضحك، وأجاب، وكانا يقفان وسط الجسر:
ـ لا أقول، كي تعبر من تحتها الأسماك! بل كي تراقب الطيور المحلقة عاليا ً في الفضاء عدد المارين من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار...، وجمع العدد وتقسيمه على عدد السكان، لمعرفة العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل!
ـ أووووه....، كأنك الخوارزمي أو اينشتاين؟
ـ يا حمار حتى اينشتاين رسب في الحساب!
ـ كنت أظن انك تعرف...، وقد ظهر لي انك ذهبت بعيدا ً حتى كدت تنسى أن الجسور تشيد من اجل أن لا تتسع المسافات بين الضفاف، وتبتعد بعضها عن البعض الآخر، وتتفكك آنذاك المدن، وتزول الحكومات، وتندثر الدول!

[14] طيف
   لم يجد جدارا ً، ثورا ً، ذئبا ً، نورسا ً، أو حتى شجرة يتكلم معها، بعد أن استحال البستان إلى رماد. فرفع رأسه قليلا ً ليشاهد ذرات الأثير مازالت تتموج فوق الرماد! فقال لنفسه بأسى عميق:
ـ لا أريد أن أتجمع! لا أريد أن أولد مرة ثانية!  
  سمع الطيف الأثير يخفي ابتسامة ذات رنين صامت:
ـ وهل كنت تناثرت بإرادتك؟ وهل كنت أنت من اختار ولادته؟

[15] نعمة!
ـ لم ْ يبق لدي ّ ما أبيعه...، عدا جسدي...، فلا اعرف أشكر من على هذه النعمة التي كنت اجهلها؟
  قال ابنها الأول:
ـ تشكرين أثرياء حديقتنا..
وقال الثاني:
ـ تشكرين كل من يغتصب جسدك وهو يدفع الثمن بدل أن يغتصبك مجانا ً!
وقال الابن الثالث:
ـ بل تشكرين الشقوق والفتحات والثقوب التي لديك والتي صارت مصدرا ً لعيشنا بدل أن نتسول، كشحاذين، وبدل أن نموت من الجوع، بعد أن أصبحنا فائضين في هذا الوجود!

[16]  ديمومة
  سأل الثور البقرة التي نز عليها:
ـ أأنت سعيدة؟
ـ لا! فانا سأنجب عجلا ً للذبح!
 فسألها الثور:
ـ لِم َ لم تهربي مني؟
ـ حتى لو هربت منك، يا عزيزي، فهل سيتركني القصاب؟


[17] ظل
   مكث يحدق في قرص الشمس حتى فقد بصره، فقال لنفسه:
ـ الآن بدأت أرى!
لكن ظله سأله:
ـ هل تراني؟
ـ من يرى الشمس، لمرة واحدة، لا يستطيع أن يضع حافة لظلماتها!

[18]
قالت اللبوة للسبع بعد ان افترس ليوتها:
ـ لِم كلمات انجبت ليوثا ً تفترسهم...؟
فقال بصوت نشوان:
ـ لولا الاثم لكانت المسرات مستحيلة!
ثم سألها:
ـ وانت...، لِم َ لم تهربي مني؟
ـ وأين اذهب...، في غابة قائمة على هذا القانون؟

[19] البعوضة تفكر!
    وهي تراقب المستنقع عن كثب، سألت البعوضة نفسها:
ـ إذا كنت أنا انحدرت من عفن هذا المستنقع، فهل هذا الغزال، مثلي، خليط من الوحل والمياه الآسنة....؟ ثم هل هذا الذئب، هو الآخر، كالحمل، انحدر من التراب...؟ ومثل هذا الحمار، وهذه الزرافة، وهذا الضبع، وهذه العقرب...؟
   قبل أن تجد جوابا ً على أسئلتها، أفاقت، كي ترى إنها محاصرة بدخان ابيض، لعلها تجد جوابا ً قبل أن تفقد وعيها وتموت.


[20] حرية!
   بعد إعلان المساواة بين الدواب والبهائم، بين الزواحف والطيور، بين المفترسات والحشرات، وبين كل من يدب ويسبح ويطير، وصار الحمل يتنزه مع الذئب، والنمر يرقص الغزال، والثور يتجول بسرور مع القصاب...، سأل الغراب بلبلا ً حزينا ً:
ـ أأنت كدر، ولم تعد تغرد، لأننا حصلنا على الحرية؟
ـ لا! لأنني لا استطيع تصوّر الحياة خارج أقفاصها، سراديبها، وسجونها!
ـ لم افهم...؟
ـ  إن هذه الحرية، يا عزيزي، هي القفص الوحيد الذي لا نستطيع مغادرته!

29/10/2016
Az4445363@gmail.com

الاعمال الشعرية الكاملة للشاعر ناهض الخياط


عن المركز الثقافي للطباعة والنشر
بابل-دمشق-القاهرة
صدر للشاعر ناهض الخياط-الاعمال الشعرية الكاملة الجزء الاول-الاشراف الفني ولاء الصواف-سومريننت تبارك له هذا المنجز

الخميس، 10 نوفمبر 2016

قراءةٌ وعرض ديوان شعري ( لدمشق هذا الياسمين )- حامد كعيد الجبوري



قراءةٌ وعرض ديوان شعري 
 ( لدمشق هذا الياسمين )
                                                                 حامد كعيد الجبوري 
      ضمن سلسة الشعر ( 2 ) لعام 2013 م / منشورات إتحاد الكتاب العرب دمشق صدر ديوان شعري ( لدمشق هذا الياسمين ) للشاعرة ( ليندا إبراهيم ) ، والديوان يقع ب 100 صفحة من الحجم المتوسط أخرجتهُ فنياً  ( وفاء الساطي ) ، يحتوي الكتاب على 29 قصيدة من ضمنها قصيدة الإهداء ، 9 قصائد عمودية و 20 قصيدة التفعيلة  . 
      ومجموعة الشاعرة ( ليندا ) الشعرية مستهلةً تهديها ، ( السلام على الشعر / مني على الشعر أزكى السلام ) ، وتسترسل  ( على مفردات من النور / جئن كدفق الغمام ) .
     سئلَ أحد الأعراب الشاعر المتصوف الحلاج – ( أبو عبد الله حسين بن منصور الملقب بالحلاج 244 هـ  – 309 هـ  ) –  ما في جبتك ، فأجابه الحلاج ( ما في جبتي غير الله ) ، وبسبب هذه الإجابة أتهمَ الحلاج بالزندقة وشنق بحضور جمع كبير من عامة الناس ، ولأن دمشق الحاضرة العربية التي احتضنت الفكر العربي واليساري ، وقدمت الكثير للشعوب العربية وللإنسانية ، لذلك تكافَئُ من بعض الدول ( المتأسلمة ) والمستعربة لطمر هذه الجذوة الفكرية  والحياة المدنية التي ألفتها الشام منذ أسست ومصرت وليومنا هذا ، وتنبري الشاعرة ليندا ومعها من أحبَ الحياة والضياء والزهور للدفاع عن معشوقتهم ومقدستها الشام لكي لا تُشنق كما شنق الحلاجُ الذي قرأتهُ بتمعن وروية ، وتحاولُ محاكاة عشقها المتوحد مع ذاتها الدمشقية التي جبلت عليها ، ( ولها من الفردوس ، حورٌ مائسات ، عند غوطتها ، يفحن شذى ، على عتباتها ) ، ولأن الشام ودمشقيتها التي ألفت وتآلفت  ، ( مآذن النجوى ، نواقيس التذكر ، هيكل الإيمان ، محراب اليقين ، تهجد النساك ، في غرفاتها ) ، وتجزم الشاعرة ( ليندا ) أن دمشق عصية على أن يطمس ذكرها ويمحى تاريخها العريق ، ( دمشق بادئة الزمان ومنتهاه ، المصطفاة من المدائن روحها وصفاتها ) . 
     يمكننا أن نحيل قصائد ديوان  الشاعرة ( ليندا ) لعدة أغراض شعرية ،  القصائد الوطنية ، الوجدانية ، الذاتية ، قصائد الغزل ، ولا أتمكن كقارئ ومتذوق لما تكتبه ( ليندا ) أن أقتطع بيتاً وأكتفي ويكتفي معي القارئ بتشكيل حصيلة أدبية ورؤية لوحدة موضوعة القصيدة إياها ، القصيدة عند الشاعرة سلسة متواصلة إن تفرطَ عقد جمانها أضعنا مضمونها وشتتنا حبيبات مسبحة قصيدتها وما تريده الشاعرة  بكل بيت من الشعر ، بل وفي أي شطر من قصائدها ، وبخسنا حقها  في ما تريد إيصاله لمتلقيها ولمتذوقي ما تكتبه .
     ( من أين أبتدئ الغناء / ولمن سأهدي قبلتي الأولى ) ، ونتخطى عتبات حنينها في قصيدتها ( أمي )  لنصل ، ( وكل ما في الكون أبيض جاء / من وجهٍ لأمي / كان شمسا صيغ من ذهب السنابل  ) ، وحين تغادرها طيوف ملائك أمها التي حطت على شرف السماء تقول ، ( طوبى لها / اليوم أبتدئ الصلاة لوجهها / واليوم أبتدئ الغناء ) . 
      أحاول جمع بعض شذرات من ديوان ( لدمشق هذا الياسمين ) أجلي بها ركام إسفاف ما تسمى قصائد البعض من المتشاعرين ،  وما أكثر أدعياء الحرف الذين أساءوا للذائقة الأدبية وشوهوها ، فالحرف والقصيدة عند الشعراء – الشعراء - محراب مقدس لا يلجون عبابه إلا على دراية باللغة ونحوها ، والبحور العروضية وميزانها ، مستثنى من ذلك القصائد المنثورة .
      من قصيدة سورة الحب ، ( رباه هذا الحب يشبهني / ومنذ الصبوة الأولى / أسبح باسمه / أني أنا الأنثى التي أرخت جدائلها / على عرش القصيدة ) ، وتقول ( أنا فتنة الأنثى / تفيض على مدارج دوحها عطرا / وينسكب الغمام ) .
      في قصيدة ( خالقة ) تؤنب الشاعرة مخلوقها الحبيب وتزدريه ، وعلى النقيض تعد – تحسب -  له أفضالها عليه لتمجيده وإعلائه ، ولأنها الربةُ تجده أقل شأنا منها فتترك مخلوقها قائلة له ، ( أمجد ما خلقت / وقلت / يا روحُ استريحي من عناء الخلق / ثم منحتك الاسم الجليل ) . 
      من حزنها في قصيدتها ( أغنية الشتاء ) فالى من تهدي شتائها الحزين ، بعد أن عتّقوها بقارورة الصمت ، وزفوا لها الظلمَ والظلام بسنين ربيعها لتجترح قوتها من طاهر جرحها وتسد جوع حنينها  بدفاتر حبها العتيق ، ولتكتب رثاء الاشتياق والبعد والوصل والصد والعشق والشهد المرير ، و ( حشدتُ حروفي مواكب نور / تشيِّع هذا الأمان الخؤون ) ، ولم تيأس بل ( وتهدي لأفئدة العاشقين / غناء ورود شتائي الحزين ) . 
      في قصيدة ( نقش حناء على صدر السويداء ) تؤطرها ( الى سويداء القلب وشامة الوطن ) فتقول ، ( أتيت فأنسكبي برداً على كبدي / يا حنطة القلب يا دنيا من الأبد / أتيت أحمل قلبي ديمة هطلت / على ذرى صدرك المزدان بالبرد / وفي يدي بعض حناء سأنقشها / على ترائب فيهن الجمال ندي ) ، وتؤمن الشاعرة بأن شامها والسويداء بنيت ، وعَلت وبقيت ، وقاومت لأنها ( بصرح من المجد / جدرانه عمِّدت / بدم الشهداء ) ، ولذلك أضحت السويداء الكبيرة والشام الأكبر ( وطناً شامخاً / وأرضاً تضج / نخيلا وقمحا ) ، وأضحت حاضرة إنسانية ( وعشا لعصفورة / ويمام ) .
       الحلول في الذات الخالقة لا يعد سبة أو ذنباً ليرمى صاحبه بالزندقة أو الكفر كما أرى وأفهم ،  ( يا عبدي أطعني تكن مثلي ، تقل للشئ كن فيكون )  ، وهي غير الاعتقاد بحلول الخالق بالذات المخلوقة عند أهل المنطق والروحانية وهو الكفر كما يروون ، وفيه اختلافات فقهية عند مذاهب المسلمين لست بصدده  ، ووجدت بعض الإيحاءات والإشارات والشطحات الصوفية نقرأها ببعض قصائد الشاعرة ( ليندا إبراهيم ) ومنها قصيدة ( صوفيات ) ، وقصيدة ( هائم ) ، وقصيدة ( مقام الهوى ) ،  وقصيدة ( نفحات ) ، وبعض أبيات متفرقة بمنصوص قصائد الديوان ، من قصيدة نفحات نقرأ ، ( ففي فؤادي خوابٍ من سلاف هوى / مذ عتقت في دنان الحب أعضائي / ومذ تعرفتُ في قلبي ثمالته / أبصرت في لوحهِ العلويَّ أسمائي / .... حيث الطيوفُ غريراتٌ مولهةٌ / بالعشق تسكن بين الحاء والباء / هذا هو الحب إذ أحيا به وله / فأن فنيت ففي أيديه أحيائي ) ، ومن قصيدة مقام الهوى ، ( سفري طويل / والقصد دوحك / والشمول ) ، وفي قصيدتها ( نفحات ) أكثر من تسائل وإجابة واعتراض ، القصيدة في شطر بيتها الثالث تقول ، ( هو الله يأتي بالزمان وأهله ) حقيقة لا مناص منها  ، وتتساءل في عجز نفس البيت وكأنها تقول لماذا ، ( وتهوي عليهم بالمنون معاوله ) ، وتستعجب بقولها في البيت الخامس من نفس القصيدة ، ( وتحصد كف الموت أرواحنا غدا / كأنا لديه حقله ..وسنابله ) ، وتمضي متسائلة وصولاً لقناعة الوجود المطلقة فتقول ، ( وإما تجلى الله للروح أترعت / من المطر القدسي ما شاء وابله ) ، ولا يفوتها وهي بهذا المحتدم من الرؤى والقناعات والتساؤلات أن  تشير لذاتها ، ( بروحي مسيح الحزن ضجت جراحه / وجسمي من الأرزاء ينهدُّ كاهله ) ، لتخلص خاتمة لمعشوقتها الشام فتقول ، ( عليك أيا أم الزمان سلامنا / إذا بيرق بالنصر لاحت أوائله / فشام الدنى أرضي وفيها ملاعبي / تسامق فيها المجد صرحاً تطاوله ) .
    بين هذا وذاك من الإغراض الشعرية تشكلت عند قراءتي المتأنية لديوان ( لدمشق هذا الياسمين أن الشاعرة كانت بقصائدها ، واختياراتها ، وبحسن معانيها ، وجزالة ألفاظها موفقةً ، وأزعم أنها غير موفقة مع من تحب ، ودليلي لذلك مسحة الحزن ، ولؤلؤ الدموع والأسى  الذي يفيض من جوانب قصائدها الذاتية ففي قصيدة ( المرض الأخير لأبي الطيب المتنبي )  ، ( روحي / تكابد وجدها الأقصى / وعمري طاعن بالحزن ... قلبي مطفأ القنديل / لا زيت فيسرج هذه النفس الجموح / ولا بقايا من عراق الروح / أو ذكرى حبيب   ) .
     الحزن يؤججه الانتظار ، الرغبة ونقيضها ، اللقاء والصدود  ، الدفء والثلج  ، الأنوثة المحترقة ، الخذلان والخسارة  ، تجتمع بين سطور أبيات قصيدة ( أرق ) ، ( قلت سأسرج / القمر المسافر / كي يراني أجمل امرأة ، وأوقد رغبتي / كي يهتدي لحقوله العطشى / وينثر شجوه الحاني على قلقي .
       لدمشق هذا الياسمين ديوان شعري ينبأ عن طاقة شعرية إبداعية في زمن يندرُ أن تجد شاعرة تحسن لغة التخاطب ، بلغة عربية غير ملحنة ، فضلا عن بعض الشعراء أيضا  ، ولا غرابة أن الشاعرة ( ليندا ) تتقن اللغة العربية ونحوها ، الشعر وأوزانه ، لأن جذورها المعرفية تتصل بعراقة عائلتها التي أنجبت الكثير من المشايخ ، الذين تعتبر اللغة العربية حبلَهم المتصل بالدين والمعتقد ، وتمتلك الشاعرة أذنا موسيقية تمييز فيها عروضيا بين هذا البحر وتلك التفعيلة ، لذا نجدها تكتب قصيدة التفعيلة من بحرٍ تختاره ، وربما نجد بنفس القصيدة مختارةُ البحر أبياتا عمودية ، وهذا بزعمي  متأتياً من إتقان نحويٍ وعروضي ، أبارك للشاعرة ليندا إبراهيم هذا الفيض من الياسمين الذي أغرقني بفوحان عبيره الياسميني .    
     ببلوغرافيا :
ليندا سلمان إبراهيم 
شاعرة و أديبة - مواليد دمشق 
الشهادة : الهندسة – جامعة تشرين 
العمل : وزارة الثقافة السورية - مديرية ثقافة طرطوس
مكان الإقامة : سوريا –  محافظة طرطوس ..
عضو اتحاد الكتاب العرب – عضو جمعية الشعر
عضو نقابة المهندسين السوريين 
عضو لجنة التمكين للغة العربية 
عضو جمعية العاديات الثقافية الأهلية
الجوائز :
- جائزة المجاهد الشيخ صالح العلي الشعرية 2001 
- جائزة مسابقة أمير الشعراء 2013 /دولة الإمارات العربية المتحدة - أبو ظبي /
- جائزة نازك الملائكة للإبداع النسوي العربي /بغداد / العراق/ 2014
- جائزة عمر أبو ريشة للشعر العربي سوريا 2016
صدر للشاعرة  ...
1- "لدمشق هذا الياسمين" مجموعة شعرية صادرة عن اتحاد الكتاب العرب –سوريا 2013
2- "فصول الحب و الوحشة" مجموعة شعرية صادرة عن وزارة الثقافة السورية 2013
3- "لحضرة الرسولة" مجموعة شعرية صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2016 





   
  
        

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

شعر أمازيغي: إزران حول الحب-ترجمة: الحسن أسويق

شعر أمازيغي: إزران حول الحب
ترجمة: الحسن أسويق
( ثقافات )
منتخبات لأجمل أبيات شعرية لأمازيغ المغرب تسمى إزران حول الحب (أريضا )[1]
1
\ إرا قغاسن عماس أرضا أذيذرقف —- ورڴيغ بورحساب إوور أذنخظف \
كنت أحسبني منيعا، الحب لن يخطفني —- ما كنت أحسب أن القلب قد ينخطف
2
\ أذروغ إمتاون أذشاغ ركيسان —— سوين أليف إينو أذربينو نيشان \
دموع كالخمرة أذرفها فتملآ الكؤوسا —- أدعوك حبيبي لتشربها تباعا
3
\ سريغ الحب الحب نيغاس أومي تقان ——أومي ذيرقاف توغ موخ ذيقان \
سألوني عن مسمى الحب قلت لا أدري…… ولما به أبتليت نسيت إسمي
4
\ أبو غارو يغا ڴاي ركيث كفوس —– ياك سرخبر إينك أريضا ذسوسوس\
هي ذي يدي أكويها بسيجارتك المشتعلة —– ألا تدري ان الحب داء ورعشة
5
\ إيرا ڴيغ أذريغ مشا روخ اذهويغ —– ذمشند نرضا ڴميغ أتعذيغ \
من أجلك اذرع المكان جيئة وذهابا………….جئت طالعا فوجدتني هابطا
6
\ ذمسراي أكيذم أوم فاتو مسكين —– اتقراب غا ذمسي ويسين منذين \
كالفراشة تدنو من النار —– أجهل مصيري وأنا أتقرب اليك
7
\ ألليف انو ذ لعود نشدان افران انس —– أنتا ذ دنيا نش ذ لحياة انس \
حبيبي كالعود وأنا أوتاره —- حبيبي كالدنيا وأنا فيها الحياة
8
\ أمطا انو أيما خوبريو نظيط —– والله ما ديوضا خثني ذيذنيذ جيت \
تحجر الدمع في المآقي ,هي الدمعة عالقة على شفا رموشي —- أقسمت يا أمي ألا أدعها تهبط , وفاء لك ونكاية بالتي غدرتني
9
\ زين انم اذيوسين تمسي —– ارقفاي أور افسي أمذروسي \
تلفحني نيران جمالك — تصيب قلبي فيذوب كالّزبد
10
\ أزين نليف انو اتقس ڴذتوين —–تتاغ اربي ذناش اثغيوين \
جمال حبيبي شعاع يؤلم عيني ….. أه يا الهي لو يكون من نصيبي
11
\ ذمسي نخسين ثني ماتمسي —— أذمسي نلحب ضغا ذوڴي أتخسي \
النار التي تنطفأ ما هي بالنار —- الحب نار تشتعل فتستعر
12
\ عيبنداي ليف ننداي اسكا —– أجنتاي أثويغ أثسواغ كثا \
قلن : ما حبيبك الا سكير يعاقر الخمرة —- قلت : ان أنا تزوجته سأشربه حد الثمالة
13
\اغاب أيور غبن اثران انس —– ثغاب نوبيا غابند ذفراز انس \
غاب القمر ومعه غابت ضياء النجوم —- غابت حبيبتي ومعها غابت معالم الوجه المنير
14
\ أيور اينو يشار س لحوب إذكان —-وزماغ أذنيغ شان لحب ن ميدن \
قلبي مثخن بحبك ممتلئ جنباته —- لا مزيد حبيبي لحب لست أنت صاحبه
15
\أون يڴين لحب امعاذ أذيتو —- أديش اكسوم أناس اذذ ور أموفيرو \
لن ينعم بالنسيان من جرب الحب ——- سيتساقط لحمه الى أن يستحيل خيطا رقيقا
16
\ ظيت اينو ثزرمت ثزرا أوخا ذساذ—- ثزرا ربهوث انم اتيجين ثتعذاب \
لمحت عيني اليسرى الحسن وقد هبت نسائمه —- لكن ما أمكن اللقاء فأدمعت نفسي يا معذبتي
17
\ أريضا أمورومي , أريضا ذسواس —– أثن اذيجين أوخي تك بويضس \
الحب كالعدو هو سبب تهممي وعذابي —– هو مصدر أرقي وسهادي
18
\ أخمي غا توغ توغ ‘ أخمي غا سهيغ سهيغ —– خمي تفكارغ تروبيغ تخسغ أدوضيغ \
أكون هادئ البال حين أنسى أوعن فراقنا أسهو —– وحين أتذكر أكاد أنهار, فُيشفق لحالي
19
\ أدغميغ دلوردة خو بريذ منيس اعدا —- أور اينو أذرقح أور انس أذفنا \
وردة سأنبت حيث مسراه أنا الميتة —— سيينع قلبي وهو الحي سيفنى قلبه
20
\إرا إراح أذيشارف أغيتا أويشرف شي —– نتا ميودا ونتشين مانشي\
كاد يمضي وما مضى إلى حال سبيله —- هناك حيث الحبيب ينجلي الوله
________________________________________
1| هو اللفظ الذي يدل على معنى الحب بمعناه الغرامي . وهو لفظ مركب من أري وتعني : الصعود , و ضاوتعني : النزول. هذه التسمية تعكس أجواء المراقبة التي تنسج فيها علاقات الحب والغرام في مجتمع قروي متشدد خاصة تجاه المرأة التي قد تجلب العار لأهلها اذا علم الناس بعلاقتها الغرامية . لذلك لزم الحذر والتزام السرية .لكن ما كان سرا يمكن الجهر به أثناء أحد الاحتفالات خاصة في الاعراس حيث يمكن للشابة ان تصرح بحبها لعشيقها وحبيبها\الليف\ حتى في حضور أهلها ووالديها , فتنشد ذلك شعرا في ابيات مقفاة – ازران.وهذه ظاهرة انسانية ينطبق عليها التعريف الشهير للمحلل النفساني سيجموند فرويد للاحتفال حيث يقول : الاحتفال هو التمرد الرسمي على الممنوع والمحرم, وهو تمرد مقبول ومسموح به (الطوطم والطابو).

الاثنين، 31 أكتوبر 2016

قصة قصيرة-عادل كامل

 


قصة قصيرة
تقرير غير مؤكد حول العدم

"لأنك تتصوّر أني أتكلم في الغوامض والأسرار، بينما أنا أقول بكل بساطة أن الكذب، أو كون المرء فريسة الكذب، وخلو عقله من المعرفة في ما هو من اثبت اليقينيات، أن يسكت عن تسرّب الكذب إلى نفسه، هو ابعد ما يرضاه عاقل لأن كل الناس يكرهون الباطل في النفس كل الكره"
سقراط
"كثيرا ً ما نفعل الخير لنتمكن من فعل الشر دونما عقاب"
"إن فضائلنا تكون في معظم الأحيان عيوبا ً مموهة"
لاروشفوكو
[...وها أنت تجدني اكتوي باليقين أكثر من عذاب ارتكاب المعاصي! ]    

عادل كامل

    تساءل بشرود تام، إن كان أصيب بالمرض، استنادا ً لأقوال أسلافه بان اللعنة ما أن تصيب احدهم فلا مناص على المصاب أن لا يرفع صوته، أن لا يحزن، وان لا يتذمر، وان لا يقنط، تساءل إن كانت محض مصادفة، أو وفق خطة ما تضمنت استحالة نفيها، فهو ـ تابع يخاطب نفسه، في الحالتين، ليس لديه ما يعترض عليه، مثلما أن صمته لا يمثل أكثر من مسار الأسباب ذاتها التي توارت فيها الأسباب. فالعلة تامة، منذ البدء، لكنه انتفض: لو كانت في ذاتها، فلماذا أصبت بها كأنها تحولت إلى ذنب؟ تخيل أسلافه اخفوا لغز الأمر، من غير قصد، أو باليات محكمة تطلبت ذلك، ولم يتركوا له إلا طيفها: المفتاح بلا باب، والقفل بلا ثقب.
   كاد يبتهج، ليس بسبب نشوة ملغزة غمرته، من غير سبب، بل لضرب من اللامبالاة اعتاد أن يجعلها عرفا ً شخصيا ً له، معترفا ً أن مرضه، ليس من الأمراض النادرة، الاستثنائية، أو العصية على الفهم، بل: من أكثرها انتشارا ً حد انك لا تعثر عليها إلا لتتجاهلها، وإنما أيضا ً لا تستطيع أن تتجاهلها إلا وقد وجد المرض مخبأه بعيدا ً في المناطق القصية، النائية، كأنك تحولت إلى ممر أو صرت مثل جسر مهمته السماح للقطيعة أن تبقى تعمل وكأنها هي العبور نفسه.
   إنما أخفى بمناورة  ـ مع ذاته ـ انه كان يحدث نفسه، أو كان يسعى للعثور على آخر يستأنس بالحوار معه حول المرض. فقد أكد أن الأمر لا يتطلب فضيحة، أو إثارة غبار، في قضية: لا وجود لها بعد أن اخفت عللها، ولم تترك إلا خيوطا ً وهمية، شبيهة بحافات مجرات اندرست منذ زمن بعيد.
    وشرد ذهنه، مرة ثانية،  متندرا ً بمناورة أخفاها على نفسه، معترفا ً انه غير مقيد إلا بما تحول إلى عادات طالما أنتجتها شطحاتها وما كان يجعله يعمل بمعيتها، من غير قصد، على إنها كانت تتيح له الطيران والابتعاد عن لزوجة الجاذبية، وتأثيراتها، حتى انه كان يستسلم لحالات يغدو فيها شبيها ً بمن فقد كيانه طواعية، ومن غير إرغام، أو تعنت. فكل ما كان عليه عمله هو إظهار مهارات واضحة، كتحديد موقعه في اللا مكان حيث الغياب يكتسب دلالة الحضور التام، بعد أن تلاشى الزمن وتحول إلى صفر ممتد، لا يؤدي دورا ً سلبيا ً أو ايجابيا ً، بل وسيطا ً يعمل بتلاشي قوى الجذب، في الحركة. انه ليس العدم، ولا ما جاوره، ودار بخلده انه أدى كل ما يمكن عمله، بغير شرود، أو انشغالات نادرة، وكتم بقية العبارة.
     ولكنه قال مادام المرض ليس من اختراعه، فانه لا يمتلك قدرة تحديد خصائصه، ومظاهره الدالة عليه، مؤكدا ً انه لم يسهم باستحداثه، أو التنبؤ بولادته، إنما المرض تسلل عابرا ً الحقب والمسافات الطويلة، حتى غدا وجوده لا يدعو إلى القلق، والنكد، فالمرض هو المرض من غير ضرورة لوجود الدلائل، أو البراهين، أو إجراء إثباتات دالة على ذلك. فهو موجود بقوة نفيه لذاته عبر ما لا يحصى من الكائنات، والحقائق، التي دامت وقاومت شتى صنوف الإبادات، والاجتثاث.
      ثم وجد انه يجتاز عقبة الإشارات، وعلاماتها، ليرى انه لم يختر إلا كل ما سعى إلى تقويضه: لا الحفرة التي استبسل بجعلها تبدو لا مرئية، ولا شريكة حياته التي ما عاد يمتلك قدرة على تحديد ماهيتها، إن كانت هابطة من الأعلى، أو جاءت بفعل فاعل. بل انه اضطر لاختراع شكوك راح يجد فيها مبررات للحديث عن مرضه بوصفه انتقل إليه من غير وساطة، بلا لمس، ومن غير قهر.
    ولأن الذبذبات التي اتخذت أشكالها بإرادة وقصد، فلا فائدة من البرهنة على إنها ذات نفع محدد. ودار بباله انه أمضى سنوات طويلة غير مكترث باشتداد حساسيته تجاه ما كان يحدث، حتى شعر، في لحظة التحول، انه سيكون هزأة لو اصدر امرأ ً بمعاقبة نفسه، وقهر إرادته، وإذلالها حد محوها من الوجود. فانا أصلا ً، خاطب نفسه، عملت على ذلك. وفكر للحظة، انه لم يجد ما كان يرغب أن يتعكز عليه، أو يمضي نحوه.
    كيف لم يعد صفرا ً...، تساءل، وهو يراقب الذرات تحولت إلى شظايا لا عدد لها حتى غابت مكونة هالات لها أصوات معتمة سرعان ما تلاشت ممتزجة برائحة دماء جافة. فامتعضت مشاعره بلون مستحدث: غير متوهج ولا يمكن تحديد موقعه في الفراغ. فأحيانا ً كان يتستر على النتائج بوصفها حصلت قبل وجوده، وإنها ستواصل عملها، بعد غيابه، الأمر الذي منحه نشوة كادت توقف ما كان يدور داخل رأسه، قبل أن يراه مفقودا ً.
   ثم عاد يدحض فكرة انه لم يصر صفرا ً، مستندا ً إلى البرمجة التي لا علاقة لها بأية خاتمة ربما تتقاطع مع نواياه وما عمل على انجازه.  فالحفرة ما هي إلا جزء من تجويف اكبر، إلى ما لانهاية، مقعرة، أو منبعجة، أو ممتدة عبر حافاتها...، فما معنى ـ تساءل ـ إن كان هو جزء منها، أو هي جزء منه. فالصفر هو العدد التام عبر تتمات كل سيبقى ممتدا ً.
   كاد يقهقه .. لولا إحساسه بأنه لم يتورط في الإساءة أو يبالغ في ارتكاب الهفوات والأخطاء، بل كان متجانسا ً مع نفسه بشروط ابتكار منافذ مغايرة للمسارات العامة...، وانه حرص للعمل بلا توقعات محددة، تاركا ً الخطة تستكمل كل ما يجعل نهاياتها شبيهة بالصفر التام وقد انصهرت فيه الأعداد. فالخطة نائية ومن المستحيل الاقتراب من حدودها، أو حتى ملامسة أطيافها، ليس لأن العدم جزء منها، بل لأنهما ـ دار بخلده بذعر مكتوم ـ يمثلان مسارا ً لن يترك أثرا ً دالا ً عليهما أيضا ً. فالقضية كأنها حدثت قبل حدوثها. ألا أبدو أني أثير شغبا ً حول قضية ربما لن تحدث حتى لو كان وقوعها بحكم اليقين؟ مثل وجودي غدا يمتد خارج مركزة ليفقد موقعه هنا أو في أي مكان محتمل آخر، مادمت لم أر إلا ما عملت على محوه.
    هز رأسه وهو يراقبها تحك جلدها بجذع نخلة، ثم تبتعد، لتتوارى وراء جدار الإسطبل. متندرا ً بان مرضه ـ كما استعاد كلمات الطبيب ـ لم يعد بالإمكان استئصاله، أو توقع الشفاء منه، فالانتظار لا علاقة له باحتمال الخلاص، بل بما يشبه المصالحة مع عدو وجد كي يخفي أسباب وجوده، ولا يعلن إلا عن مرافقته، وعدم التفكير بالتخلص منه، أو الحد من أسباب حضوره، فليس ثمة عقار مناسب لهذه العلة، ـ سمع صوت الطبيب يرن داخل فراغات راحت تتسع ـ: فالعلة ليست مستحدثة، أو ذات تاريخ، أو أسباب، وليست قدرا ً للتذمر أيضا ً...، بل إنها، أي مرضك: شبيهة بهذا الذي يمتلك أسباب عدم تحديد ماهيته، لا في الولادة، ولا في الموت.
    ما الذي ينفي حقيقة إنني تحولت إلى محض ظل..، إلى محض طيف، إن لم أكن صرت شبحا ً، أو روحا ً تعرضت للاضطراب، والتصدع...، فراحت هذه الروح تتمايل، ثملة، تتسرب نحو مديات ابعد، فانا ربما أكون معاقبا ً بضرورة سبر هذا المرض المجهول الذي أنتج أعراضه...، وان مصيري برمته غدا منفصلا ً عني، بالحتمية ذاتها التي تجعلني منفصلا ً عنه، حد استحالة تشخيص البدايات، أو احتمال  وجود نهاية ما مناسبة له.
   إنما ردد، بصمت تام، انه لم يعد يشعر قط بالمسافة تمتد وتمتد إلى ما لا نهاية، كما أحس بها، وهو يرى الحياة برمتها ليست عبئا ً، ولا كدرا ً، فهي لا تمتلك غاية محددة، مثلما وسائلها متنوعة درجة إنها تعمل بطلاقة، وبمصادفات منتشية بعواملها الفردية ...، لكن مشاعره سرعان ما تجمدت، فقال أن جرثومة ما لا يمكن فك مغاليق أبوابها راحت تعمل بعناد أفضى بها لتجد سكنها في مكان منحها اختراع الشغف الفائض بكل ما كان رآه لا يستحق إلا أن يأخذ مجراه نحو التلاشي، والزوال.
فهؤلاء: الرؤوس....، وهي لا تتميز إلا  برائحة حيوان يحتضر...
   وتخيلها تتدحرج، بعد أن اختبأت خلف الجدار، ثم توارت، كأنها وهم فند وهمه، فيتشبث باختراع حلم ليجدها تحولت إلى دمية، وليس إلى أتان، أو إلى أنثى كركدن. دمية شبيهة بكيس بطاطا، منتفخ، زاخر بالنتواءات، والزوائد، وبإبر حادة، وأشواك ذات رؤوس مدببة، عمياء، هابطة إلى الأسفل، توخز بغواية وتخفي كمائنها، خالية من الملامح، وكأنه لم يرها ذات يوم تشع بلورا ً بلون الفجر..!
   أكانت بمثابة خطة بالغة الحنكة، محكمة، حد انه كلما عمل على مقاومتها انتابه إحساس  برغبة التوغل في مناطقها التي بدت له ممحوة الملامح...، طالما تتبعها عبر الأدغال، والضفاف، والمنحدرات، مستنشقا ً عطرها، وها  هو الآن لا يعثر إلا على اثر يمحو آخر ما تبقى من ملامحها  المندثرة.
ـ كأنها أطلال مدينة أنهكها الجذام...، ففقدت ذكرى براءتها!
     أم إنها مشاعر ما تحمل نسق التنبؤ بشفاء محتمل من العلة...، ذلك لأنه لمح بصره يشرد عنه، فكرر ربما إنها ليست نبوءة، ولا إشارات تحذير...، بل هي اللعنة ذاتها التي عبرت من الماضي السحيق لتذهب ابعد من أي أمل بالإمكان أن يعدل انحداره العنيد...
    إنما شاهدها تتجمع...، تتكوم، مرئية رغم غياب الضوء، فانتابه إحساس بوجود حيز تتضافر فيه الفواصل، والمخلفات...، مثل موقد خمدت ناره، ورماده وحده يكتم كل ما كان يود البوح به.
   مع من أتكلم؟ اطمأن انه مازال يتنفس، فالحياة لم تقدر بجبروتها أن تسلب منه هذا الذي صار يرعاه كبذرة وجدت للخروج من مدافنها ...، الهواء، وهو يستطيع أن يتنفس، متسائلا ً: فمن منا  غدا علة لديمومة الآخر...، أم إن المرض وحده  غدا فائق البراءة، ومنزه عن الشبهات...؟
    انتفض للتخلي من ورطة الاسترجاع، والاستعادة، والتذكر. فمادام اللا متوقع ـ تمتم مع نفسه ـ لا يمتلك قدرة الإجابة على أيهما وجد علة للآخر فان أحدا ً ما من اللا عدد الهائل للمخلوقات فوق هذا الكوكب الظريف لا يعنيه الأمر...، ولا يكترث له...، فكما أنا نفسي اجهل ماذا حدث، وماذا يحدث، للمجرات بعد تحولها إلى إشعاعات، وذبذبات، وأثير كوني، أو لأي آخر لا يجد من يمنحه نسمه هواء، أو قطرة ماء، أجد إنني لا اختلف بالبراءة ذاتها وقد أغوتنا  بالذهاب بعيدا ً في التوغل من غير تردد، أو مخاوف العقاب.
     ترك رأسه يستقر فوق صخرة، ليرفعه قليلا ً، فماذا يفعل المحتضر وهو يجهل فك لغز لعبة الموت، سوى إيقاف النزيف داخل ذاكرة تتوهج بالمنبهات،والظلمات، مستعيدا ً السنوات التي مضت مثل وهم تداخلت صوره بالرموز وصارت طلسمات خالية من المفاتيح، والعلامات. فقد أدرك انه لم يختر شريكة حياته، ولم يختر انفه، ولا ذيله، ولا عدد خلايا الدماغ، ولا مخبآت نظام الموروثات، لكنه اختارها هي تحديدا ً وليس سواها، لأنه لم يقدر إلا أن يجد نفسه اختارها، ليس لأنه ذاق مرارات الإحباط، والمنع، والفشل، بل لأنه وجد تيارا ً لم يترك له إلا أن يختار ممراته ليجد انه كلما بلغ نهايته، يبتكر تدشينات فائقة الغواية، بالانجذاب، وبالعودة لتتبع مساراته العنيدة.
    لو حقا ً لم ْ اختر إلا الذي كنت لا أريد ـ ولم أكن أفكر في ـ اختياره، فانا يقينا ً اخترت الذي كان علي ّ أن اختاره...، متندرا ً، لكنها ليست لعبة، نزوة، ولا مراوغة.
   متخيلا ً المساحة اللا محدودة للحديقة بأجنحتها، أقسامها، معابدها، مصحاتها، مستنقعاتها، وأقفاصها...؛ فلولا الأخيرة، لولا القضبان الحديدية، والأبواب المحكمة، والأقفال، والحرس...، لكان وجود الحديقة وعدمه سواء: برية تمتد برمالها ولا تجاور إلا البراري الأخرى. فانا في الأخير، لا امتلك إلا أن ارضخ لهلاكي!
ـ وهل كنت حقا ً تحلم بحياة دائمة لا تتوقف عند الوهن، والموت؟
ـ لا!
ـ بماذا كنت تحلم إذا ً...؟
   دار بخلده، وهل كنت استطيع عزل الحلم عن القيود...، والضرورات، والضواري؟
ـ كنت احلم أن لا اعتدي على حدود احد...، وأن احصل على الحلم لأرسم له مداه ...، ومادام كل منا ـ هي وأنا ـ تنقصه الدقة، ووجد من غير صدق تام، فالصراع غدا شبيها ً بالنار لا تمتد إلا بانعدام ما يغذي لهبها. لهذا كنا نسمع صوت المحرقة يلعلع: لا تهلكوني بالأشرار!
ـ أصبحت تخفي علينا لغز خلافك؟
ـ بل ـ ها أنا ـ أعلنه: استحالة تحديد أن تكون لنا إرادة تحديد مساحة لرغباتنا من غير قوة  اللعنات التي...، اسمها: تلك المخلوقات الهامدة القابعة في المناطق المظلمة. قوة الاختيار....، وقوة اللا مبالاة في نهاية المطاف.
   تراجع إلى الخلف: هل دار المفتاح في القفل ...؟
ورفع صوته:
ـ هو ذا الحلم ذاته يتكرر: حديقة بلا أسوار، بلا أقفاص! لهذا كنت أراها حرة، طليقة تتنزه خارج قيودها، أما أنا، فكنت اخترت المصير الشبيه بمصير غزال طوق بالأعداء من الجهات كلها، فرفعت الغزال رأسها وقالت لخالقها: ها أنا استسلم!
ـ هكذا اخترت أن تحافظ على حلمك بقيود الحلم...؟
   هز رأسه: تلك هي حدود القيد...، حدود من لا حدود له إلا الحدود التي تجعله طليقا !
وأضاف هامسا ً:
ـ لهذا لم أبح بمرضي...، ولا بأعراضه...، إلا عندما  بلغت العزلة ذروتها: صرت طليقا ً، حرا ً. صرت وحيدا ً من غير أعداء ولا أصدقاء، صرت من غير آخر، ومن غير جسد ينذرني بالهرم والموت! بل... من غير الخالق نفسه!
ـ من غير الرب؟
ـ أرجوك لا تفهمني بالمقلوب...، فقد أدركت أن الخالق وحده يمتلك الصواب الذي لا علاقة له بما كنا نتخبط فيه: أوهامنا، عظمتنا، شطحاتنا، مجدنا، رزايانا، عللنا، سفالاتنا، وهننا، وقد بدت ـ لي ـ سيدي، من غير فواصل أو حدود.
ـ إصابتك العزلة في الصميم...، في العقل وفي القلب، فعزلتك تماما ً..؟
ـ بل وحدتني.. حررتني... وطهرتني من الحاجة، والفقر، لقد صرت كالهواء لا يد تتحكم باتجاهاته، ولا أوامر تقيده، أو تدعه يذهب ابعد من نشوته!
   إنما انكمش ليجد انه أضاع حدود الفجوات، والفواصل، والتصوّرات:  فلم يعد يعنيني إنها كانت هي ذاتها الأفعى أو الشيطان...، بعد أن أدركت إن المرض لم يتكون داخل خلايا هذا الرأس...، أو كانت ترى أن الأقفاص ضرورة لرسم حدود كل واحد من تلك البهائم والضواري والمفترسات.
    وتمتم بصوت مبتهج: فلم اعد أرى الحدود...، ولا الجدران،  لا الأسوار ولا الأقفاص...، لا المدراء ولا الحرس...، فقد امتدت الحديقة حيث اللا حدود تمتد بالاتساع ...، لا تمتلك إلا لغز جبروتها إزاء الصفر!
ـ عدمها؟
ـ عدمها الإلهي... عدمها الخلاق! عدمها الموّلد للعدم!
ـ ها هو الخوف يتسلل إليك...؟
ـ تقصد: البرد.. ووهن الذاكرة، الوجع، وذبول الأطراف، وكلل البصر ...، فالحديقة بسعتها صارت بحدود خرم إبرة!
ـ هو ذا مرضك إذا ً..؟
ـ لا!  فالحامل للمرض غدا يعمل بذات الأمر الذي أوقد الروح في الطين!
ـ ها أنت تجدف ...؟
أخبرتك انه المرض وقد بلغ نصره المؤزر...، وها أنت تراني أتجمد...، لا ارقص، لا أهرج، لا اهتف، ولا احتفل!
ـ ها أنت تكف عن الثناء؟
ـ على م َ، على قرار لم اختر منه إلا نفيه، وعلى قرار لم اعمل إلا على تقويضه...؟
ـ وكيف يكون العصيان إذا ً...؟
    طمر رأسه بالتراب، وكف عن التنفس، مستدركا ً: لو كانت للغزالة قدرة قهر الضواري والمفترسات هل تجرأت ورفعت صوتها بالثناء؟ إنما هي استرخت للذّة ذهابها ابعد من أفواه المفترسات والضواري! وها أنت تجدني اكتوي باليقين أكثر من عذاب ارتكاب المعاصي! ذلك لأن الغفران ـ أضاف بلا صوت ـ ولد قبل تذوق شهد الموت وأنت لا تجد مصيرك يذهب ابعد من حدود ثقب الإبرة داخل هذا القفل، في هذه الحديقة، وربما في هذا الكون!
     لكنه ضحك متندرا ً عندما مر بباله مثال طالما رن ولعلع داخل خلايا رأسه:
ـ تلك هي حريتك احرص أن لا تجعلها أكثر من قيد...، لأنك لا تقدر أن تتقدم خطوة، خطوة واحدة، من غيرها!
     تلك هي المعضلة التي راحت تحفر كي تجد قاعها يقودك إلى السطح. ودار بخلده، انك لم تختر إلا الغواية التي عملت على تجنبها، فصرت تجهل هل هي التي أوقعتك في فخها، أم انك أنت كنت كمينها؟
     وسأل نفسه بشرود: أكان عليك أن تجد حديقة أخرى، وتعلن: أصبحت طليقا ً، ولكنك لم تفعل، لأنك كنت قررت: ليست الأرض سوى مجموعات من الثقوب، الصخور، الحشرات، الفيروسات، الأقفاص، الجراثيم، الضواري، التمويهات، وانك لن تجد نفسك إلا في متاهاتها، وكأنك عثرت على المفتاح...، لتدرك، عمليا ً انك أضعته. فالمتاهة لا تعمل إلا على إعادة نسج خيوطها...،  لتدرك أن المرض كان يرافقك أينما وليت، وأينما ذهبت...، فهو سابق في وجوده على وجودك، وسيبقى حيا ً مزدهرا ً بعد موتك، وموتها. فأنت حر بحدود سبر أغوار الظلمات التي رأيتها  تمتد وتتسع لتشمل مساحات البراري والمحيطات والمرتفعات ...، الكل ضد الكل، الكل منشغل بغوايته ضد تمويهات الآخر...، لتدرك، بعد فوات الأوان، انه لم يعد لديك إلا ظلك يترنح بمعزل عنك، بعد أن غدا جسدك ذرات غبار ورماد وعين ماء لا تبصر إلا عزلتها في الكل الأبدي.
   ومع ذلك تهت وتلذذت العبور عبر المنافي...، كان مرضك لا مرئيا ً، فلم تستسلم، لم تهن، فكانت المتاهات تدعوك للذهاب ابعد منها...، وعندما لم تجد متاهة أكثر شناعة من التراخي والرضا ـ لأن المتاهة هي الأخرى ـ رحت تتوحد بظلها، لأنها ـ هي أيضا ً ـ  كانت تعمل كعمل الأسرار ما أن تبدو ظاهرة  حتى يتم دفنها لتولد وكأنها اجتازت عقبة نهايتها الأولى، لتدرك أن حفرت صارت باتساع المنافي وأنت تارة تزداد ضيقا ً، وتارة تدرك انك لست أكثر من ورقة في شجرة، ومن طيف في الظلمات.
ـ كان اختيارك شبيها ً بمن نجا من حرب سوداء...، ومن وباء شامل، وكأنك نجوت أيضا ً من سعادات النمل، ومهرجانات الثعالب، والضباع ...، فأنت حقا ً لم تختر إلا الذي عملت على هدمه. كان معبدك مقبرة وليس مصنعا ً، حفرة وليس مزرعة، سجنا ً وليس فضاء ً،  لتقول إن أعظم الانتصارات لا تنطوي إلا على قاع هزائمها. لكنك لم ْ تهزم ولم تنتصر...، فأدركت تماما ً إن دفاعاتك لا تستحدث إلا ما كنت تراه ينمو.. ويزدهر، كي ترى حفرتك ضاقت بك حتى أوقفت اتساعها معترفا ً أن مرضك وحده لا يمكن دحره، لأنك ستعمل على منحه اللغز ذاته الذي دفنه فيك. لأنك كنت لا تقدر على شطر العدم إلى عدمين، بل منحته سماحة التوحد بعدم واحد يذهب ابعد منك، ومن أطيافه وهي تطوقك كما يدور الحبل حول رقبة الضحية قبل الذبح.
    لكنك لم تذهب مع المشيعين لحضور مراسيم الدفن. أخبرت نفسك انك كنت تراها تتلاشى، تتناثر، كما فعلت بك، وحولتك إلى عدم يترنح بلا عكازات! هكذا لمحت الخطيئة تنجب أبنائها، لاستكمال دورة الأسلاف. كنت تراها حملت جرثومة المرض ولم تترك منه إلا ما كنت تجد نفسك تحرص على حمايته كجنين كنت تراه بعمر التراب، والماء، والأثير.
   كيف تكّون...، بالأحرى: متى اكتشف انه لم ْيتكون بعد...، فالمرض ليس محض خلايا جرثومية غير حميدة ترعرعت داخل عفن تلك المستنقعات الافتراضية، ولكنها التي مازالت تستحدث ما هو اشد منها قدرة على التجدد...، ليس لأنها حملت معها هذا الذي  أراه يعمل خارج قمقمه، بل لأنها تعمل بلغزه العنيد: ثمة مفتاح دار في القفل، لكن المارد غدا واحدا ً منا: مخلوع حد التمتع بالفضائل كاملة. فكر لبرهة وجيزة انه لم يعد طليقا ً، داخل بذرته، ولا مقيدا ً بقيودها: فالديناصورات لم تترك دابة إلا وروضتها، هذبتها، شذبتها حد التقشير، وبرمجتها كي تبلغ النهاية ذاتها: من غير شر ساحق لا معنى لبلوغ ذروته: العدم من غير زوائد، والحياة من غير تمويهات، وباطل.
   معترفا ً انه لم يكن يتباهى بالأوهام لولا انه لم يعمل على رؤية المشهد حتى نهايته: لم اصب بالعدوى...، بل ـ هو ـ من وجد انه لا يمتلك إلا أن يختار جحيمه.
    سمه صوت الطبيب يتندر: وهل هناك أكثر حماقة لم ترتكب إلا بدوافع أقوى منها، كالفضائل، والمجد، والخلود؟
ـ كأنك تبوح بما لم اختبره، وأفتش في مخبآته،، وبما راح يطن داخل رأسي العمر كله وكأنك تغفل أو تتظاهر بالغفلة أني لم اسبر أغواره اللعينة بنفسي، واكتوي بكمائنه: فأنا هو من  فعل ذلك بإرادة لا مجال للبحث عن أعذار لها، ولا تسويات.
   قال الطبيب بصوت ناعم: لا تدع حساسيتك تنشط كخلايا عدوانية  للغطس ابعد من قاع هذا الجحيم.
   تردد في العثور على إجابة، وماذا بعد...،  وهل كان باستطاعتي اختيار المرض بمعزل عن اختيار عقار يعمل عمل الأفيون...، عمل العدم...؟
    وتمتم بصوت مكتوم: فانا  رأيت ابعد من ذلك.
     وما فائدة الشروح، المبررات، والاعتذارات...، بعد أن تكون النهاية برمجت لمنح الخطيئة كل هذه الفضائل؟
ـ أحسنت...، فلولا تلك الخلايا اللا مرئية لكان وجود الديناصورات أمرا ً يتعذر حدوثه...، مما سمح للمسار أن يستحدث دفاعاته العنيدة. الم ْ أخبرك إنها برمجة لا مرئية للمرئيات وقد عملت على محو عللها...؟
   ود لو كان قد اعترف لها: حمار من لم يمش خلف حمار!
    بيد انه لم يقدر على منع نفسه من الانفجار: وكأنني مشيت خلف غزال...؟!
   ـ أين هي المعضلة...؟  وسأله الطبيب:
ـ هل لمحت خيطا ً من خيوطها...، أم استجبت لندم فاق الغوايات سلاسة ونعومة وعمى تجمعت فيه الأنوار كلها..، أم إنها لعبة أضداد، فلولا الحمل لتهدم عرش الذئاب، ولولا العبيد لكان من يقف في أعلى الهرم حزمة أوهام، ولولا  الآلهة لكان الشر قوة كامنة خارج هذا السرد...، ولكان العدم حاضرا ً بسرمدية غيابه؟
ـ عدنا نستنشق عفن المستنقعات...، ونتلذذ بروائح جثثنا الشفافة!
ـ وهل باستطاعتك أن لا ترى جسدك يتفسخ، يتفكك، يتعفن...، أو يصير ذرات رماد، ويرجع أثيرا ً لا مرئيا ً كما في فاتحة دورته....، عندما اللعبة تضمنت لغز تمويهاتها...، فتارة تجرجر إلى المقصلة، وتارة تشرف عليها بوصفك من استحدثها...، الم ْ أخبرك أن هناك تلك العهود والصفقات بينهما...؛ بين الأضداد..، كي تحافظ على بهائها ورونقها والقها أيضا ً...؛ صفقة لم تبح بأكثر من العمل على ديمومتها، ومحو كل من ينوي الدنو من حافاتها؟ فأنت مريض لأنك لم تعمل إلا بخيانة مرضك، للتخلي عنه، وهذه هي النتيجة: أن أحدا ً لم ينتصر...، إلا وقد أجاد التمويه على هزيمته حد البذخ بإقامة أنصاب لها.
    قال من غير صوت:
ـ لكن لا اثر لي...
ـ أنا لا امتلك إلا نية منحك بسالة المواجهة...
ـ بسالة العدم؟
   معترفا ً بصمت تام: أنت تقول الصدق لتمتلك قدرات اكبر على اختراع الغوايات...
ـ لا.. أبدا ً...، فالغوايات ليست من صنع احد...، لأنها، في الأصل، هي العلة المولدة لمسارات نفيها، العلة التامة، بلا علامات قابلة للتأويل، فالذئب لم يخترع قطيع النعاج، ولا الراعي هو من اخترع الذئاب!
ـ ها هو مرضي صار بلا علة، صار تاما ً..! وأنا بعد الآن لست بحاجة إلى الشفاء!
ـ ومن أنبأك بنهاية مغايرة...؟
ـ هو ذا الوهم العنيد الذي منح الكل هذا التدفق...، كأن اللحظات المضافة لزمن المحتضر تقدر على إخفاء لغز الفضيحة؛ لغز المحو؟

ـ لا فضيحة هناك، أو هنا، مادام الأثر  هو وحده لا يعمل إلا على ديمومته الأبعد...،  وإلا هل كنت أحرزت هذا الوهم حد انك لا تعرف إلا أن تمجده، وتدوّن أسفاره؟
ـ هل أنا هو من مجد الوهم وأقام له هذه الأوثان...؟
ـ وإلا لماذا مازلت تتشبث بالخلاص..، مت كأنك حصلت على ولادتك الأبدية!
   هل كنت أفكر...؟  أغلق فمه لعله يؤثر على عمل دماغه، ويضع حدا ً لاضطرابه، فلا معنى للرد بـ: نعم، أو بـ: لا....، ولكنه عاد يكرر: اختر المفتاح الذي تفك به القفل، وإلا ستفقد توقك للعثور على الباب!
باب من..؟ لم يجب، لأنه لم يعد منشغلا لا بالقفل ولا بالمفتاح.
إذا ً فانا لم اعد مصابا ً بأكثر من مسرة نادرة لا يمكن الوثوق بأنها مغايرة للإحساس بالموت. انشغل لبرهة، ليجد أن لسانه يدور داخل تجويف فمه بحركة لولبية. لكن المعضلة لا تكمن في العثور على الأداة...، المفتاح، بل لأن وجود القفل مهمة شبيهة بهذا المرض الذي لم يسمح لأحد إلا باستقباله بشوق مكتوم. أنا لا أهذي....، دار بخلده، فانا بوضع يسمح لي بمغادرة هذا الحيز، هذا الفراغ....، إنما ليس ابعد من مداه، وابعد من جدران هذه الفجوة...؛ حدود المرض ذاته وقد اخبرني الطبيب باني شفيت منه، ولكن علي ّ التمتع بفترة نقاهة ..، فقلت له: سيدي، لا بد أن تكون سلسلة؟ فأجاب بغموض زاد من اطمئناني باني مازالت أتنفس...،  وعلي ّ ألا ادع الكلمات ذاتها تقودني إلى خاتمتها.
   متذكرا ً انه سأل الطبيب أن يشرح له قليلا ً، هل باستطاعته التمتع بالنقاهة ما لم يتم القضاء على أسباب المرض، واجتثاث علله الخفية؟ فشرح له كيف توجد قضايا ومعضلات لا سببية وإنها خالصة من غير أسباب تفضي إلى وجود ظواهر شبيهة بالعوامل المساعدة، أو بحاملي الكفر، تقود إلى الأسباب ولكنها، في النهاية، منفصلة ولا صلة لها بما حدث، وبما سيحدث، بعد أن يكون دورها بلغ نهايته. فأنت  حر تلقائيا ً شرط ألا تدع الأسى يتلاعب بمشاعرك الدفينة. فضحك حد انه أفاق من كابوس غطس فيه وراح يبعث في رأسه دويا ً وطنيا ً متقطعا ً يماثل من تعافى وغدا واحدا ً مثل الجميع. إنما شعر بالخدر يدب، يزحف، مسببا ً له حالة دوار، ورغبة بالذبول والتلاشي. ...، حد انه شعر برغبة لتنفس الهواء الطليق، هواء ً لم يتم استهلاكه ليصبح ثقيلا ً دبقا ً ولا يخلو من لزوجة ذات مرارة خالية من الملامس. ولأن الدخان الرمادي مازال يملأ الفجوات ما بين السماء والأرض، رفع صوته قليلا ً، لكنت نجحت بالبحث عن ممر أتدرب فيه على المشي، فانا أخبرتهم باستحالة الموافقة على استئصال علة لا وجود لها إلا كوجودي نفسه. فأكد الطبيب له أن هناك خلطا ً يشوش عليه قبوله بالشفاء...، والنجاة، بل وحتى بالحصول ما يرتقي إلى درجة: الخلاص. فسأل الطبيب فجأة: كنت تحدثني عن النقاهة، أليس كذلك...؟ فاخبره الطبيب بان مهمته انتهت، ولا ضرورة لإعادة ما تم شرحه بإسهاب.
ـ فأنت تتمتع برؤية استثنائية...، ورهافة نادرة لكنها لا تعد مرضا ً.
   مد أصابعه نحو جسده ليجده باردا ً وقد تصلب كأنه تجمد داخل ثلاجة حفظ الموتى..
ـ جسد من هذا ...؟
   لم ينتظر ردا ً فقد انشغل بالتعرف على كثافة الهواء. قال: هذه هي العلة، الهواء. ولم يدع فمه ينطق بكلمة خشية أن يربك الهدوء الذي منحه رضا ً أنساه  التفكير بجسده.  فوجد جسده يذوب..، ويتسرب، وشاهده يتحول إلى ذرات متطايرة...، تنتشر وتملأ الفضاء، ليردد بصوت لا يخلو من ذعر مكتوم:
ـ ويقول الطبيب انه لا توجد دلالة ما على إصابتي بالمرض.
    ها هي العلة: انك لا تمتلك قدرة على حسم هل لك دور محدد ...، تم اختياره لك أو أنت وجدت نفسك تؤديه، أم عليك أن تمضي عمرك فائضا ً، لأنك، في الأصل، تتوهم أن لك مثل هذا الدور. فأنت تموت للبرهنة على عجزك تماما ً كما هلكت الديناصورات، ومضى زمنها،  وكما يتم اجتثاث الأنواع التي آن لها أن تهلك، وتزول.
   وانشغل يسأل نفسه، بتردد، انه يهبط هكذا تاما ً من مكان مجهول، فثمة أسلاف خلفوا أحفادا ً...، صاروا أسلافا ً لأحفاد مازالوا يدبون، ويزحفون...، رخويات وبكتريا وخلايا أحادية...، قبل أن يكون هناك عفنا ً...، في المستنقعات، وقبل أن يأخذ الصراع قواعده باختراع ما لا يحصى من الإبادات، والانبثاقات...، لم تكن ثمة معضلة تتطلب حلا ً...،  فالموجودات وجدت تامة الأسئلة بتمام الإجابات. بالأحرى: لا تمتلك أن تفتح فمك، لأنك لا تمتلك القدرة ولا الأدوات للبرهنة على موجودات أنت غير فائض فيها. فأنت موجود لعلة لا علاقة لها بهذا الذي تراه يتفسخ، يتعفن، بعيدا ً عنك، وفي أقاصي روحك أيضا ً. فروحك عفنه! وكاد يلعن نفسه، لولا انه راح يستنشق عطرا ً عزله عن النتانة، ليحس، انه صار كريها ً كجثة تتفسخ داخل حفرة رطبة.
ورفع صوته: على أن العلة كامنة في هذا الذي تصورت انك حسمت أمره، لأنك بت تدرك استحالة إلا أن تختار مرضك...، لأنك إن لم تختاره بتحتم عليك أن تدمر نفسك أو تجعلها نائية لا يمكن لمسها أو مسها،  كي تصبح هي ذاتها علة وجودها. وهنا لا تتساوى الأضداد، ولكنها لا تتوحد أيضا ً...، حتى لو دخلت في حيز منعدم الثنائيات، والأبعاد، لأنك لن تكون أكثر من ذرة توحدت بأخرى لإنتاج فلز مهمته الدخول في تسويات لا نهائية بحسب الخطة التي أدركت، منذ سمح لك مرضك أن تكف عن التدحرج، استحالة مغادرة حيزك في المعادلة. فهل ثمة شفاء لمرض لا وجود له كهذا الوجود الموجع؟
     وأحس بوعيه يعود إليه، فقال متندرا ً: لقد هزمت...، فعاد يصغي للطبيب يهمس في أذنه: المشكلة انك تتمتع بمرض شبيه بالجرثومة التي كلما حاولنا القضاء عليها استعادت مناعتها وصارت اشد فتكا ً...، فلا وجود لها في الأخير إلا بوصفها سابقة على تعرضك للمرض. فأنت غير مصاب بمناعة هشة وإنما المعضلة لا قفل لها ولا مفتاح.
ـ قبل قليل أخبرتني بضرورة التمتع بالنقاهة...، والآن تتخلى عني...؟ وكرر: ها أنا اهزم قبل حصولي على حتى على النقاهة.
ـ قد لا تستطيع الانتصار، إلا لبرهة، لكنك لن تقدر أن تبقى منتصرا ً أكثر من زمن مرورها  ...
وأضاف:
ـ إلا أن المعضلة لا تكمن هنا، بل لماذا لا بد أن تقهر ...، بعد أن تكون قد وجدت من يساعدك الوصل إلى الذروة: الهزيمة؟
ـ هذا ـ هو ـ ما منح مرضي سره العنيد؛ قوته في التقدم، فلو انتصر العبيد والضعفاء على الأقوياء والطغاة، وانقلبت المعادلة، فان دماء الجلادين ستروي عجلة التقدم، لكن ليس إلا عبر مسافتها في الزوال. فالمرض  لا يعمل إلا بوصفه عاملا ً مساعدا ً..، شبيها ً بمحركات الزمن الخفية، كلاهما لا يتركان أثرا ً لحضورهما في المرور، والعبور...، فالعدم إن نطق، فانه لا ينطق إلا بحضور غائب.
ـ انك لم تبق لنفسك لا أملا ً، ولا سرابا ً تجري خلفه، لا وهما ً تتعكز عليه، ولا احتمالا ً قد يدلك إلى الصواب..، كي تموت موتا ً يليق بما حاولت الفرار منه!
ـ  ومن أخبرك إن للموت سلطة على الموتى...، انه، أيها الحكيم، شبيه بجرثومة هذا المرض، إنه كالعامل المحرك الذي يصنع الحركة ولا يتحرك، لأنه لا يفنى ولا يستحدث، ولا عمل له سوى محو كل اثر دال على  مسارات ومنعرجات هذا المحو.
ـ ألا ترى إن ثمة شيئا ً ما، في هذا، لم ُيدرك: أن تخترع وهما ً كي تفنده، كاختراع بريء كي تعاقبه، وكاختراع نهاية حشوتها بهذه المقدمات؟
   ابتسم بخوف أعظم:
ـ لِم َ ـ قل لي ـ لِم َ انشغل الليل بالانتصار على النهار، ولم ينتصر، لِم َ انشغل الشر بالقضاء على الفضيلة، ولم يحرز تقدما ً يذكر، لِم َ انشغل الموتى بافتراس مواليدهم، ولم يتقدموا خطوة واحدة في إحراز النصر...، مادامت النهاية أعدت للجميع قبل الشروع بمنحها هذا الامتداد...؟
ـ لأن زمن المرور لم ينته بعد...، فعندما يأتي اجل الشمس، وتخمد نيرانها، تتجمد الأرض، آنذاك يكون مرضك قد أدى دوره من غير نقص، وربما من غير زيادة!
ـ تلك هي المعضلة: انك لا تنتصر على آخر جدير حتى بالهزيمة...، بل، بالعكس، إن عدوك وحده هو الجدير بالنصر ـ لكن ليس عليك ـ ولا على نفسه، بل على هذه اللعبة التي قسمتنا إلى قتلة أبرياء، والى أبرياء قتلة. فأي نصر هذا وأنت تسفك دماء بنات وشيوخ وفتية الدواب والمواشي والبهائم والبشر....، وأنت تعرف أن عويلهم يتجمع، وان آلامهم لن تذهب سدى، وفزعهم يتراكم، وكراهيتهم تتراص، تتوحد، مثل صراخهم، ومثل قدراتهم الجبارة على خزن هذا كله، ليولد رد الفعل الأعظم، منفجرا ً في لحظة الذروة، حيث تدرك انك أنت وحدك كنت من يعجل بهزيمتك! فيا لها من حياة غريبة وخطة غامضة تمنح البعض قوة السباع والتماسيح والنمور، وتمنح البعض الآخر قوة البعوض والبرغوث والعقارب! لكن لا الضحايا ولا الضعفاء ولا الديدان كفوا عن استحداث بسالتهم العنيدة بجعل النهاية تمتد ابعد من خاتمتها، ولا المفترسات والقتلة تعلموا الدرس. فحتى المنقرضات لم تمح أثرها بطيب خاطر إلا بإنجاب كائنات تجهل إنها ستؤدي كل ما ظنته مجدا ً وبسالة. فيما الهزيمة، هي الأخرى، ما أن تشرع برفع رأسها حتى  تراها لا تترك حجرا ً فوق حجر، ولا صرحا ً يدوم أكثر من زمن زواله. لعبة إن لم تلعبها، ستراقبها، بشرود أو بفزع أو بلامبالاة، فلن تكترث لك...، فأنت لم تختر ما كنت تعمل على اختياره، ولم تختر حتى الذي كنت تعمل على تدميره، تقويضه، ومحوه. فالموت وجد قبل وجود الموتى، أليس كذلك؟
ـ إنما لولى الموتى لكان الموت شبيه بكائن من غير أوامر، ومن غير اله، مثل ابن فقد والده وهو في المهد...، أو مثل أم يذبح بكرها أمامها تحت قبة السماء الزرقاء!
ـ غريب!
ـ لا غرابة...، فان لم تؤد دور الضحية، ستجد نفسك مرغما ً بأداء دور الآخر، وإن لم تتقن لعبة الجلاد فلن تجد سلوى إلا بالبحث عن عقار مستحيل تعالج فيه مرضك اللعين هذا!
   إذا ًفانا مصاب بمرض لا شفاء منه.
ـ أخبرتك...، لا وجود لهذا المرض، فالأعراض لا علاقة لها بما حدث لك، وبما تحدثت عنه.
    ها أنا طليق كأنني أتجمع كي أصبح نطفة.  وأضاف بحذر مشوب بالتردد: إنما أنا اجهل نتائج هذه الممرات..، فبعد انقراض الديناصورات، ظهرت كائنات أخرى بغية استكمال البرمجة، فالخطة وضعت قبل أن يكون هناك عبور، ومسافات، ونهايات. ثم تعرضت ـ هي الأخرى ـ لدرجات الحرارة المرتفعة..، فاستحالت إلى رماد...، والى أثير، ثم بزغ فجر النمل، والمواشي، والحشرات، والمفترسات...
ـ عصر آخر مزدحم بالبلور، والأضواء...، عصر الاحتفالات، مضى تحت شعار: تمتع ولا تنظر إلى الخلف.
ـ ها أنت هزمتني بنصر غير متوقع: ولكن اخبرني من تذوق لذّات المرارات حتى غدا يتتبع أطيافها...، من ارتوى حد ما بعد الهزيمة كي يحمل نصره عدما ً ناعما ً يتقدم باستقامة، وورع، وتقوى...؟
ـ هو ذا الذي شغلنا...
ـ عدنا لا نجد أحدا ً نخاطبه فلا نجد إلا أنفسنا كي لا نجدها إلا صفرا ً يترنح بين الأعداد!
ـ نفسي...، روحي...، ظلي.
     عاد يرى هالات خالية من الأصداء تتموج بنهايات لها ألوان غيوم نائية.
   فانا ظننت أني شفيت من ... الحلم.
ـ كلا...، سيدي، فأنت مازالت تمتلك الكثير الذي لم تخسره بعد.
   اختلطت عليه الذرات، وهو يتلمس الجدار، ليرى عتمة سمحت له باستنشاق ضوضاء أبصرها تلامس جسده وتتوغل حد انه تركها تحمله معها إلى فضاء بلا حافات. فقد شاهد جسده يرقد في فرن توهجت نيرانه  درجة انه غدا بلون لا يشع إلا عدما ً بلا حدود.
   ها هي العلة التي لا أسباب لها عدا إنها تعمل كعمل العوامل المساعدة.
ـ ها أنت ترغمني كي لا أقول شيئا ً..
ـ أحسنت! فأنت لم تخلق لنفسك...
   هذه هي المعضلة حقا ً: إن مرضي يبلغ ذروته...، فانا لن أنجو حتى لو شفيت منه، بل الأمر أكثر صراحة: أن مرضي كالموت، سابق على وجودي،  وسيبقى بعدي إلى الأبد،  انه شبيه بوجود اللاشيء تماما ً، فانا مريض بالعلة التي لا عقار لها، ولا شفاء منها، لأنني إن نجوت من الموت، فلن تنجو الموت من المعاقبة بما هو أقسى منها.!
   ارتج الفراغ بأصوات رآها تتداخل وتمنع عنه فتح فمه.
ـ فأنت حصلت على العقار لمرض لا وجود له. لأنك أبصرت غيابك قبل أن يكون لك حضور، ليكون الخليط اكتملت عناصره كافة.
  بعد زمن لا يعرف مداه آفاق:
ـ ما الذي جرى في كوكب ـ شبيه بكوكبنا ـ ولم يخلف إلا ما يدل على انه توارى، قبل ملايين السنين الضوئية، ما الذي يجري ـ الآن ـ فوق كواكب لها مواصفات كوكبنا لا نمتلك وسيلة حتى لتحديد مساراتها ومواقعها في مجرتنا، أو في باقي المجرات...، وما الذي سيحدث لكوكب سيتكون، بعد تحوله إلى صفر اسود، وهو يمضي نحو خاتمة أعدت له عبر نشأته وتكونه واختفاءه...؟
مصغيا ً لجواب لفت نظره:
ـ ما شأني بالأمر...، إن جرى وغاب، أو انه سيتكون ليتلاشى..، الإله وحده اعرف بخططه، بعد أن تركتني امضي حياتي جثة هامدة تم تحنيطها ودفنها في حفرة؟
     اهو مدخل لحوار..، أم خاتمة له؟  بحث عنها فلم يجدها، ككل مرة، إلا ورآها توارت. فوجد ممرا ً ضيقا ً سمح له بسؤال نفسه:
ـ ماذا لو كنت امتلك إرادة الـ ...
   لجم فمه بحركة لا واعية، مستنشقا ً رائحة أصابعه: كريهة كدم لم يجف بعد. متابعا ً:
ـ ماذا لو ولدت في أي كوكب سوى هذا الكوكب ...، وماذا لو كنت ولدت في أية حديقة إلا هذه الحديقة...، وماذا لو أني اخترت أية دابة إلا هذه....؟
ـ ما شأني أنا بأسئلتك الغريبة؟
    ليتبدد موقع الصوت قبل أن يحدد موقعه، وقبل أن يستمع إلى إضافة. فزحف محركا ً جسده نحو الفتحة: مازال الدخان كثيفا ً، فالحرب لم تنتهي بعد، فتراجع:
ـ ربما هي ليست إلا سلاسل مصادفات محكمة قادت الأولى كل ما راح يكمل تسلسلها...، فلو كنت ولدت...، ولو لم اختر الدرب الشائك هذا ...، ولو لم تكن هناك غواية، وظلال معرفة، وتمويهات آثام عنيدة ...، لو لم تكن هناك أصوات، إشارات، وحكايات مضطربة ...؟

    ها، ها، ها. مبتسما ً بلذّة خدر أحس به يصعد نحو الأعلى:
ـ  لا يمكن لهذا الرأس وحده أن يكون مسؤولا ً عن هذه النتائج، الرأس وحده بمعزل  عما لا يحصى من الأسباب.... ، ليعاقب، وليجد انه لا يبحث إلا عن مدية يغرزها في القلب!
   ليعود يتذكر من غير رغبة:
ـ  عندما رأيت الملايين تزحف..، تزعق، تستنجد، تتضرع، سألت: ماذا يفعلون؟ قالت لي: يبحثون عن ممرات تقودهم إلى السماء.
  فطس من الضحك. هامسا ً بحذر:
ـ هو ذا لغز الداء وسره...، يهرولون، يصعدون، يهربون، تاركين اقرب المقربين يغطسون في الوحل...
ـ من قيدك ...، من منعك...، ولم يسمح لك بالذهاب معهم، خلفهم؟
تساءل بشرود تام:
ـ  كأن العدم وحده يعرف ماذا يعمل، أم إنها هي خطة الإله المحكمة ...؟
    سمع أقدامها تدك الأرض:
ـ  أيها الإله! هل تعرف ماذا فعلت بحياتي...؟
ـ ...
ـ حتى انك لم تدعني أرى الله!
اقترب منها:
ـ والآن من منا علته كانت سببا ً بوجع الآخر...، ومن منا علته  لا شفاء لها ..؟
ـ أنا لم أجدف...، لم اعص...، حتى بعد أن سلبت مني إرادة الحياة وتركتني احتضر في هذا القفص داخل هذا المستنقع.
ـ أكاد لا افهم شيئا ً مما تقولين، ومما يحدث!
ـ غريب! بعد أن حولتني إلى ظل، إلى خرقة، إلى صفر، تتندر كأنك لم تعد إلها ً!
   عاد يتساءل:
ـ كأنها تتكلم لغة غير التي أتكلمها، وكأنني أتكلم لغة تحجب عنها المعنى. فأنا قلت لها، ببساطة: أنا لم اطلب منك ِ سوى رؤية ما يحدث...، لأنه وحده غدا غير قابل للتعديل، لأنه غير قابل للفهم...، بل ها أنا  صرت أدب، وازحف...أيضا ً!
ـ لن امش خلفك...، اذهب وحيدا ً كما ولدت وحيدا ً.
ـ أنا لم اطلب منك تتبع خطاي...، لم استشرك، ولم امد يدي استجدي العون...، والمساعدة، بل قلت: ليذهب كل منا في طريقه.
ـ أنا ذهبت.
   سمع الطبيب يتمتم:
ـ دعها...، دعها ترجع إلى كوكبها،  فما عليك سوى ترك الدرب يأخذك إلى نهايته.. لهلك تجد من يتستر  عليك! بدل أن تختلط روحك بالوحل.
ـ هل فهمت شيئا ً؟
ـ أخبرتك، منذ البدء، انك لم تخلق إلا لتدب، وتزحف.
ـ والسماء؟
ـ عندما لا تسمعك...، فالذنب هو ذنبك، وليس ذنبها!
ـ أنا لم اختر الإقامة في هذا الجحيم، لم اختر أن اقبع في هذه الظلمات، أنا لم اختر أن أرى أحدا ً إلا وغرس مديته في القلب...
ـ  أنا أخبرتك إنها لم تكن حاملة للوباء، بل..، هي، الوباء نفسه! إلا إنها ستصعد وحيدة إلى السماء! وها أنت تراها، مثل الملايين الملايين، كأنها لم تعرفك، وكأنك لم تعد تعرفها. كيف حدث هذا كله وعبر أسرع من أن يكون وهما ً، وأنت تراه سيحدث مرات ومرات إلى ما لانهاية!
ـ سيدي الحكيم، الآن أنا لا اسمع إلا ذرات تتصادم، حادة، لتتلاشى، متجمعة في بؤر، وتعود تتسع عبر فراغات لها أشكال لا مرئية، من ثم تلامسني كأطياف هامسة: امش خلفنا. قلت: إلى أين؟ سمعت: يا دابة، لو لم تفعل فسنمشي خلفك. قلت: إلى أين؟ سمعت: أمش، فالسؤال ذريعة للتوقف، لأنك إن لم تمش فستبقى بانتظار الموت، آنذاك ستجد زوالك دبّ فتهرول خلفه ولا تلحق به أبدا ً.
وأضاف بشرود تام:
ـ ومع أن المعضلة، كما قلت، غير قابلة للشرح، ـ مع إنها تسمح للتأويلات ـ إلا أن عدم شرحها لا يجعل تأويلها أكثر من تأويل الغواية ذاتها؛ فالمرض حقق تقدما ً حقيقيا ً بجعلي في موقع: المراقبة. لقد راح يفترس تاريخ الحديقة جزءا ً جزءا ً، ولم يترك لهذا التاريخ سوى أن يدفن. فلم يكن حضوره فائضا ً، أو محض مصادفة، أو ضربة نرد. فانا أدرك تماما ً انه عمل على شل الفعل، وشل أية رغبة بالعمل، وحولنا إلى كائنات مجهرية لا تمتلك إلا أدوات الفتك،  والافتراس.
وفكر بصوت أعلى:
ـ فانا أصبحت عقبة، وكلما توغلت في سبر مناطقها النائية، أدركت استحالة التقدم، مما يمنح العدم قدرات باسلة على صياغة كل ما يدفعنا إلى: محو بعضنا بعضا ً، وإنزال اشد الأفعال خساسة فيه، هو ذا واجبه. فهو لا يفكر كي يمتلك هويته، لأنه، ببساطة، يعمل على محوها.  فانا سأموت ليس لأنه حقق نصره، وكسب المعركة، أو لأنني لم اخلق كي اربح شيئا ً، بل لأن تاريخنا ـ في هذه الحديقة ـ وجد لينفي حضوره.
متابعا ً، بعد لحظات صمت:
ـ ثم أنا لا امتلك إلا الأدوات ذاتها التي لم تعد صالحة للاستخدام، فانا ولدت فائضا ً إذا ً.....، وهذا استنتاج يتنافى مع المنطق...، فهل الموجودات وجدت للبرهنة على عظمة البرمجة وهي لا تكف تعدل مسارها نحو ابتكار قدرات أعظم على الاجتثاث، والإبادات، والمحو؟
ـ أين ذهبت؟
ـ لا استطيع أن أرى سوى روحي وقد تحولت إلى حبيبات ناعمة تتطاير داخل مجالات لا تسمح لي بأكثر من: محو يمحو محوه، أم إن هذا كله تعبير منحرف عن حقيقة المرض، أم أنا كيان مازال يتكون....، ولكن ضد من...، ومن اجل من...، وأنت أدركت ـ مثلي ـ إن محونا لا يبرهن إلا على ديمومة هذا الذي غدا عدما ً أبديا ً؟ أم انك ستقول لي: إنني اخترت معضلتي لأنني عملت على تقويضها، وإنني لم اخترها إلا لأنني لم أجد سواها وهي التي انتقتني من بين باقي المخلوقات، وإنني مادمت لم اكتسب المناعة، فانا أصبحت معضلة نفسي، مثلما أصبحت المعضلة غير قابلة للاستئصال؟ ولكن اخبرني ـ أرجوك، فانا تعبت، ما عملها، بعد أن تنتهي من حساباتها مع هذه الحديقة؟
ـ آ ...، إنها هي الأصل الذي اكتسب المناعة! كالموت لا يتسلى إلا بزيادة أعداد الوافدين...، وكالشر لا عمل له إلا للبرهنة على أن الأشرار أبرياء في نهاية المطاف!
ـ أرجوك...، اقترب مني.
ـ لا مسافة بيننا كي ابتعد.
ـ لِم َ ساعدتني على الشفاء؟
ـ تقصدني، أم تقصدها؟
ـ لم اعد أميز...، فانا أفكر برأس سلب مني منذ زمن بعيد..!
ـ كي يكون النصر مؤزرا ً بعد هزيمة الجميع!
ـ وأنتما مسروران بمثل هذا النصر...، على حساب هذه المخلوقات التي نسجت من الوحل الملوث بالدماء؟
ـ لا مسرة، ولا شقاء في الأمر...، فالحرب لم تبدأ كي نحسب حسابات ربحها ومكاسبها...، لأن ما رأيته ليس سوى الوهم بتقنيات لا تعرف عنها شيئا ً...، فأنت ستموت قبل أن ينتصر مرضك عليك، وستشفى منه كي تمضي عمرك كله تبحث عنه فلا تجده!
ـ وسأموت وكأنني ولدت لأتذوق مرارات هذا الجحيم..؟
ـ وهل تذوقتها؟
    وهل بلغ الداء ذروته، تساءل مع نفسه، إنما وجد متاهة فترك أفكاره تحّوم فيها، غير مترابطة، مثل بذور تتقاذفها الريح، ومثل جسد مازال يتناثر في الفضاء، فعاد يتشبث بسؤال أيهما كان فائضا ً عن الآخر: هو عن مرضه، أم أن المرض وجد ليحد من رغبات لم يحدد أكانت متأصلة فيه، أم اكتسبها بوجوده متنقلا ً بين الحفر، الزرائب، الحظائر، والأقفاص...
    لم يكترث للبحث  عن رد فقد لمح إجابة غامضة منحته رغبة الاسترخاء: فقد أحس بفقدان للجاذبية،  وبوجود قوة سالبة تسمح له بأخذ قسط عميق من الراحة. فالمرض ـ إذا ً ـ لم يبلغ ذروته بعد...، فانا لا اختلف عن أي كيان أو مخلوق آخر لوجود الأسباب ذاتها التي راحت تكونه وهو لم يعد ينتج شيئا ً ما يذكر، غير المرض، وأعراضه..، أي غير هذا الصفر وقد تجمعت فيه الأعداد وصار عدما ً من غير زوائد،  وتاما ً من غير نقص!
    إنما راح يرى الفراغ ينصهر بالذبذبات التي شاهدها تصدر عن جسده وليس عن رأسه: فالجسد برمته هو الذي يفكر!  فرغب لو وجد أحدا ً ما يخبره بأنه استطاع تفنيد انه لم يعد فائضا ً، وانه لا يكن كراهية للمليارات التي لم يعد لها اثر...، فانا كلما فقدت الإحساس بالألم ازداد إدراكا ً بالتعرف على ما كنت ارغب لو لم ادعه يتبدد، ويتسرب، متسائلا ً،  هل باستطاعته أن يحدد ما فقده، وهو ذاته قد تحول إلى ذرات والى جسيمات لا مرئية متماثلة في انفصالها وعزلتها  وترابطها العنيد.
   فهل حقا ً لا يمكن رؤية الحياة إلا  بوصفها احد أكثر المشاريع سلبية للتوحد بهذا الذي حمل اسم: الموت...، الذي هو تاريخي وقد غدا شبيها ً بمرض تمت السيطرة عليه..؟ أجاب مؤكدا ً: والاحتفاء بما أنتج من عراك، اشتباكات، مكائد، وحكايات لا تجد من يصغي إليها، ولم تجد أحدا ً يضع لها خاتمة لا تستحدث ديمومتها ؟
رفع صوته:
ـ لقد بلغ مرضي ذروته...، فموتي لا علاقة له بالأعراض التي عملت على استئصالي. وود لو غادر وهتف بأعلى ما يمتلك من قواه الواهنة: ها أنا أتمتع بالاطمئنان ..، بالرضا...، بل بالمسرة والحبور...، فانا لم أتعرض للمسألة...، ولن أرسل إلى جهنم!
ـ شفيت...، بمعنى: انك اعترفت بمرضك؟
ـ أخبرتك ..، أيها الحكيم: بالشفاء...، لكن ليس من المرض...، بل من أعراضه!
ـ ها أنت عدت إلى العلة التي لا علة لها. إلى السبب التام!
ـ حتى لو كانت أدلتك موثقة، لا تقبل الشك، فانا لن أتوقف عند ذروتها. لقد أخبرتك إن الحياة لا تستحق إثارة هذا الاضطراب، وهذا اللغط، لا هذا الصخب ولا هذا الحبور!
   ولم يفصح عما دار بخلده، وزحف نحو الضوء:
ـ لكنك لا تستطيع أن تتجاهل إننا نتكدس كتلة موحدة داخل هذه الحفرة...، وداخل هذه الأقفاص...، في هذا المستنقع؟
ـ ها أنت بدأت تبحث عن البديل المستحيل، البديل الذي لا وجود له.
ـ ....
ـ أخبرتك...، إن الحرب لم تبدأ بعد...، ومن الصعب استفزازي للحديث عن نهايتها...، أو للحديث عن مرضك الذي شفيت منها.
ـ ها أنت تلمح أن الحياة عبور ابعد من هذا الذي مضى وتوارى وزال؟
ـ ها أنت عدت تتحدث عن الأعراض...، لكني أؤكد لك أن الشفاء تم بنجاح باهر، حتى لو كان المريض فارق الحياة!
ـ أحسنت!
ـ لكنك الآن تؤكد انك عدت إلى المرض اللعين!
ـ آ...، أيها الحكيم، الآن أدرك تماما ً انك تحديدا ً لا تريد إلا أن أحافظ عليهما: الأعراض والمرض أيضا ً...، كأنك مكلف من العدم بالحفاظ على ديمومته...، والسياق يثبت  ذلك.
     رفع أصابعه قليلا ً إلى الأعلى، فلم يجد فتحة، فتحسس جسده: المرض انتشر على نحو تام  للحفاظ علي ّ، وأعراضه صارت عونا ً لي بالذهاب عميقا ً في الظلمات.
معترفا ً مع نفسه:
    ـ هو ذا المفتاح يدور في القفل؛ فأنا كنت اعمل أجيرا ً عند المرض!
   ضحك المرض ساخرا ً:
ـ بل أنا ـ هو ـ  من كان مكلفا ً بخدمتك عبدا ً يعمل من غير قيود..!
ـ أكاد اجن: من يعمل عند من...؟ فأنت لم تخلقني كي أعبدك، ولا أنا اخترعتك كي أرعاك...؟
ـ تلك هي المعضلة التي ستقودك إلى السجن..، وربما إلى قطع رقبتك، أيها الزنديق الكافر!
ـ أنا لم أجدف...، ولم اعص. فانا هو جنين الحمامة الذي لم يتكون في الرحم بعد!
ـ بل ذهبت ابعد منهما...، وكان عليك أن تضبط حدودك...!
ـ حدود مرضي...، أم كان عليك أن تعرف أنت حدودك معي؟
ـ هذا مقبول كي لا ترسم الحدود، بيننا، بسفك الدم.
ـ لم افهم؟
ـ كل دابة، كل بهيمة ترسم حدودها بالبول...، هكذا لا يعتدي الذئب على النمر، ولا الفهد على السباع...، ولا ابن أوى على الثعالب...
ـ من غير سفك دماء، وحروب جائرة..؟
ـ اجل...، الحرب لا تجري إلا كما فكرت، طوال الوقت، بالقضاء علي ّ..، وكان عليك أن تدرك، منذ البدء، استحالة انتصار احدنا على الآخر...، فلا أنا امتلك أوامر بمحوك، ولا أنت لديك صلاحيات بالقضاء علي ّ.
صعق:
ـ ماذا علي ّ أن افعل...، وأنت تعرف سر شقائي كله؟
ـ لو كنت اعرفه، كما قلت، لكنت عثرت على حياة لا اضطر فيها إلى المكر، والتمويه، والمناورة..!
ـ آ ...، أيها الماكر ...، طالما ساعدتها بإيذائي، بل بتدميري، وإفنائي...،بل حتى انك وجدت رعاية غير معلنة من لدن هذا الحكيم، الذي اشرف على علاج مرضي؟
ـ هذا احتمال لا يمكن استبعاده..، طبعا ً، لأننا، هي وأنت، وأنا والطبيب، نعمل على تنفيذ خطة ليس علينا إلا أن نكملها...؛ خطة وضعت قبل وجودنا، وستبقى تعمل بعد هلاكنا أيضا ً.
ـ هلاكنا؟
ـ  نعم، سيدي، فأنت تموت كي يأتي حفيدك يكمل مسيرة  أسلافك..، وهي تموت كي تأتي ابنتها بأولاد يديمون زخم الاشتباك، والطبيب، هو الآخر، ستعمل إرشاداته، وكتبه، عمل الحد من تجاوزنا لحدود عملنا، أو الإسراف فيه، فنحن جميعا ً، بكل صنوفنا، سنبقى نحرص على إتمام ما هو متصل، مادام لعملنا الفوائد الاستثنائية التي غايتها التوازن بأداء واجبنا على الوجه المقرر...!
ـ من أنت؟
ـ أنا هو واحد من المجموع الذي لا يمكن إحصاء عدده، المكلف بتنفيذ هذه الخطة في هذا البرنامج...!
ـ وعند من تعمل... ؟
ـ عند الذي تعمل امرأتك، والطبيب، وأنت عنده!
ـ آ....، حتى الأسى يجيد الدفاع عن نفسه؟
اقترب منه:
ـ وإلا هل كنت استطيع الفتك بكم عن طيب خاطر، أو بدوافع التسلية، والشفافية، والترفيه الباذخ، أو حبا ً بارتكاب الآثام..؟
    لم يعد لدي ّ عقل...، مرددا ً، وهو يدور حول ظله، ولا قدرة على الفهم.
اقترب المرض منه:
ـ وماذا كنت ستعمل لو كان لديك عقل...؟
ـ لكنت قضيت عليك، واسترحت!
ـ أيها العجوز الهرم..، المعزول حتى عن نفسه، هذا لن يحدث، ولو حدث، فان ما تبقى منك  سيبقى يبحث عني. فلا أنت وحيد، ولا هي وحيدة، ولا الطبيب وحيد، ولا أنا أيضا ً...؟
ـ ها أنت تقودني إلى السؤال المستحيل: إذا كنا جميعا ً سنهلك، ولا نترك إلا من يكمل مسيرتنا، بديمومة زوال لا يزول، فمن ذا سيجني ثمرة هذا الكد والجهد والشقاء على مدى مليارات مليارات مليارات مليارات .....، السنين الضوئية؟
ـ لو كنت اعرف...، لقضيت عليك...، واسترحت، بدل أن ادعك تديم زخم صراع لا ينتهي بخسارة احد، ولا حتى بفناء الجميع!
ـ لا بد انه الإله...، يا سيدي؟
تساءل المرض:
ـ  وما نفع الإله من صخب كائنات واهنة لا عمل لها سوى ابتكار ما هو اشد تعسفا ً وقهرا ً وجورا ً في ديمومتها الزائلة...؟!
ـ وهل ستدوم، وهل ستزول، بعد أن أدركنا إننا لا نمتلك إلا أدوات تستحدث مخبآتها لإكمال خطة ستمتد وتمتد حيث برمجتها تشتغل من غير وهن، وكلل، وبعيدا ً عن كل العثرات...؟
ـ ها أنت تجاوزت حدود السؤال...، أما أنا فلا امتلك إلا أن أبقى اعمل بحدود عملي! هل فهمت الآن لماذا وجدت الغوايات، والتمويهات، والمراوغات...، لماذا يمتحنك الموت بأشد النكبات قسوة، وغرابة.. ...، ولماذا لا تحصل على الغفران إلا وأنت ذهبت ابعد منه، لكن عبر دروب الخطة، وممراتها، عبر الذي ظننت انك أمسكت بمتاهته، وليس بسرابه، كي تجد الذي أضعته، وتغيب...  ؟
   ها هو تاريخ إزاحة...؟ لا...، معترفا ً ومعترضا ً، فلا أزمنة هناك كي تتجمع...، وكي تزاح، أو تستبدل. انه المحو وحده ينبثق بلا مقدمات: ويتلاشى كهذا الذي رآه تحول إلى رذاذ جاف. فالصفر، دار بخلده، غدا ً دويا ً من غير صوت، وصخب، وبلا امتداد، واضطراب. لكنه لمح غيابها بلا قطيعة، يتدحرج، ويمتد، متقطعا ً، من غير أمل إلا بالعثور على اثر...، عدا انه لم يعد يستأنف ما دار بباله بوجود موت سابق، وآخر، بلا حافات. فالجرثومة راحت تمحو أعراض مرضها ـ مرضها ومرضي ـ كي يتكون...، وقد رآه مثل نجم يلمع بحدة أفقدته الرؤية، فترك رأسه يتمايل، وأصابعه تتشبث بالهواء...، وثمة ظلمات أحس بها تلامس حواسه، جلده، وتتحول إلى خلايا أدرك إنها مازالت تمتلك مناعة ضد المحو...، فأفاق، لبرهة، ممسكا ً  بفراغات بدأ ينسج بها بساطا ً للطيران؛ هو ذا اللا زمن إذا ً....، إنما أحس بثقل جذبه إلى الأسفل، فوجد انه حلق عاليا ً، فانا أموت إذا ً...، لا، مستنشقا ً رائحة وعود رآها تذوب، تتهدم، وتقترب منه. فانا كنت اخترت إذا ً...، لا، منجذبا ً لمتاهة قادته ليرى انه لم يعد وحيدا ً....، بل منجذبا ً، يدب، يزحف، ثم يجد جسده مطوقا ً بالفراغات ذات الملامس الباردة، فالزمن باح بما لم يفقده: براءة دفنها قبل أن تهرم، وقبل أن يتذوق الآم العدم تتموج مرحة بغضب مضطرب وبحروب لم تترك حتى أثرا ً لمحاربيها، لمكانها، لأسبابها، لتاريخها....،  حتى كاد يخبرها بما سمح للمفتاح أن يدور بقفل الباب: لم نجن إلا القهر منبثقا ً...ورفع صوته، لأن حضورك كان صنو غواية الأفاعي، لا براءة ولا إثم،  كان حضورك تاماً، مثل وجود من غير علة، يمضي ابعد من أسبابه، لا يخفيها، ولا يعلنها، ليبقى أبدا ً يذهب ابعد منها. لكنها لم تجب، لم تغب. كان غيابها قد اكتمل...، فقبل زوالنا، وبعده، هل ثمة قوة ما باستطاعتها أن تحدث ثلما ً، أو فجوة، في مسارات حكاية غير مؤكدة، لكن لا احد باستطاعته أن ينفيها، أو يمحو أثرها في ملغزات هذا العدم.
    وهنا تكمن المفارقة، إلا إنها أكثر التباسا ً:
ـ فلو لم ْ أكن أنا هو هذا الذي علي ّ تدميره، لكان وجوده بمثابة مد بأيام عمري، لكنه فعل كأنه تام الحرية في فقدانها. فانا لم اعد أميز أو امتلك قدرة وضع فاصل بينه وبيني، فكل منا متجانس حد ذوبان التقاطعات، والاختلافات، فانا وهو صرنا مثل الأعداد تتجمع فيها بسالة الأذى حد الشفقة. لأنه  لو كان سلك ـ ولو كنت أنا سلكت أيضا ً ـ غير هذا التدرج المبني على ما لا يحصى من العثرات، الارتدادات، والوثبات، لكانت الفجوة قد اتسعت بين الفعل والفكر، بين التشكل حد بلوغ الذروة وبين غيابها التام.
     فهو ـ مثلي ـ اضعف من أن يكون ضعيفا ً، مطوق بالذعر، لا يمتلك الا الحد الاخير من الجهل، فهو اكثر من ان يتسم بالجهل، انما لاسباب اخرى، منها، استحالة تحديد معيار للحكم، غدا كل منا لا يسمح للاخر ان يكون الا ما صار عليه: جرثومة تعمل عمل حيوان خائف، عديم السمات، شارد الذهن، منهك القوى، عديم الحيلة...، انما، على خلاف هذا، غدا كل منا شبيه ببركان ما ان يخمد، الا ليباشر باستكمال برمجة انفجاره التالي.
   فما أكثر منافع الرداءة! لا اعرف أأنا بحت له بما دار ببالي، أو هو من دندن مع نفسه ليبوح لي بان ما يرعبه، ويعري وهنه، ويفقده صبره، شعوره بالتقدم خطوة لإجراء التسوية.
    ذلك لأن الجرثومة ـ جرثومة الرداءة ـ أدركت تماما ً أن تقدمها خطوة واحدة لا يعني سوى الحصول على ما هو ابعد من الحلم: موته الذي هو موتي، وموتي الذي هو موته، لكنها أدركت إنها لا تمتلك هذا ألتوق، مع أن كل منا، عندما تتجمع خسائره، وانكساراته، وما لا يحصى من مرات الإبادة التي عشناها،والمحو حد إزالة كل ما يخلفه المحو ...، يجد انه صار لا يمتلك قدرات مضادة، وقوى لا مرئية تسلك أفعال الإعصار أو الزلازل أو البراكين أو الطوفان: النشوة بنصر محكوم عليه بتذوق مرارات المحو، وما هو أسفل كل درجات الخسران، والإخفاق.
   لهذا كان من المستحيل عزل الفعل عن الفاعل، مع أن الأخير، بخبراته البدائية، لا يمتلك أفعالا ً تدوم أكثر من الفراغ الذي يهرب منه. ففي تلك المناطق غير المسكونة، ولا أقول المشغولة بما بعد ـ وبما قبل ـ الفراغ، بل بهذا ألتوق النائي الذي تسكنه البذور العنيدة، والتي ترسخت فيها ما يشبه اقتران الصفر وقد صار عددا ً. فهو يقول لي: العدم ممتدا ً، وأنا أقول له: امتداد العدم، وديمومة ديناميته!
     هل أجبت على السؤال الذي لم يخطر على ذهني أبدا ً...، لماذا انتصرت هذه الديمومة، وشيّدت، حتى عبر تمويهاتها، وأقنعتها، وخداعها، سكنها، وصارت غير الذي حمل موتها؟ وكيف غدا التسلسل شبيها ً بسلم  لا ينتهي بباب، بل صار هو ذاته الممر، يؤدي إلى ما لا يحصى من الممرات، هي الأخرى تعمل عمل السلالم، لا تمتلك إلا غوايات عنيدة، تجعل أي تقدم بمثابة العثور على عقار  لا يدع للأفعال أن تصبح اسما ً، أو ترتقي لتشكل عنوانا ً.
   أم أن هذا كله تصدعات أبعاد، لا تمتلك إلا إرادة البوح بالحد الأدنى من أبقاء الهزيمة مؤجلة، مثل النصر، علاقة أطياف تنبثق بالمرور من اجل الاختفاء...؟ لأن هذا الذي تشكل بين الفراغين، ليس دويا ً، وليس جذاما ً، وليس وعدا ً، بل الذي سلبت منه هزائمه، كما سلبت منه انتصاراته، ليصبح التقدم ذاته الجرثومة التي عملنا على تشييد أنصابها، وصروحها، ومعابدها، وشركاتها العملاقة ...، عبر الدخان والأثير....، وكأن كل الثنائيات، حتى التي لم نلمح أثرها، كانت عنصرا ً مكملا ً لنشوء جرثومة تمتلك هذه المواصفات؟
   هل بحت ـ بلا إرادة مني ـ عن إرادتي بعدم الرضا ...، لكن ماذا يعني أني سبرت أغوار الخطة التي لم أر منها أكثر مما جنته أدواتي بالتنقيب، وقد كنت واعيا ً تماما ً أن الشيخوخة لا تنتج الحكمة بمعزل عن الوهن، ولا تقود إلى النافع بمعزل عن الضار...؟
     إنها حكاية نبات لا نعرف شيئا ً عنها، نبات ظهر مثل فطريات لا مرئية، ومكث يؤدي الدور الذي أؤديه أنا مع ـ هذه العلل ـ العثرات، ولكننا لا نمتلك حتى الاعتراض عليها. فانا سأموت ليس لأنني اخترعت الذي عملت على دحضه، أو لأن المرض هو من فتك بجسدي الهزيل، بل لأننا لم ننشغل إلا بإنشاء بناء يذهب ابعد من أوهامنا، وأحلامنا....، فهل هناك عدالة دمرت أركانها كما فعلنا، مع ذلك لم نر إلا ما حصل بمعزل عنا، لنبصر المشاهد تجري عبر ما لا يحصى من الشاشات، ناعمة وسلسلة بقسوتها، عشوائيتها، ونظامها العنيد.
    فانا لم اعد امتلك إلا ما تمتلكه: الصخور...، وهي تستكمل دورتها في المختبر الأكبر...، إن كنت أنا هو من أبدى كل البسالات أو استسلم لها، كرها ً أو لامبالاة، فانا أتدثر بالكلمات، وبالمشاعر المعادة، وفي كيانات اجهلها، ليس لأن أدواتي باطلة، وليس لأن اللا شرعية فاتحة الاستطراد، والحشو، والاشتباك، بل لأنني ـ ككل من عملت فيهم هذه الجرثومة ـ لا نمتلك إلا المضي ابعد من خضوعنا للغوايات، وكأني بت قانعا ً بالرضا ـ هنا ـ والقبول بالتسوية، مساوما ً هذا الشبح، ذكرا ً أو خنثا أو أنثى أو عاملا ً مساعدا ً أو بعدا ً لا مرئيا ً للتخلص من تراكمات أراها تقترب من التحول إلى بركان...، إلا أن للكلمات أداء يتستر على ملغزاتها، كي أصبح ضحية شهامة مغوار مضى إلى الحرب، وكي أتذوق مرارات هزيمة الأخير وأنا لا امتلك إلا أن أدّب، ازحف، أتموج، أتطاير، واثناثر ...؟ معترفا ً بنهاية رحت أتدثر فيها وقد انصهرت فيها المتضادات...، لأن الخروج من العالم، حتى بالحد المعقول، ليس أكثر من إرغام العالم بمنحي عقارا ً يحقق لي الشفاء بدل تحولي إلى مرض اكتملت ألغازه العنيدة !
   فهل ثمة متاهة ـ أدندن مع نفسي ـ لا تستدعي أن أقول لنفسي بإصرار: لا تدعها ترحل! فأنت لا تريد أن تأخذ إلا غيابك، وتدع للحضور أن يتذكر مسرات تردم الأسى، وأنت تراه شبيها ً  بالمنحدرات التي كوتنا، واكتوينا بمحوها، فزورنا المشهد كي يغدو احتفالا ً...، وكسونا الصراع أعلاما ً كي  تمتلك خواص الابتهالات، والمجد.
    تبا ً ليدي ّ وهي تداري زحفي، كلمة كلمة، من غير فواصل، مثل قنفذ لم يجد شريكا ً إلا أشواكه كي يدعها تعمل عمل السكين في القلب، حيث الأدوات عديمة النفع تؤدي الدور ذاته الذي يؤديه الموت مع من سيولد، يانعا ً، في كوكب أو في مجرة لديها عدمها تستحدثه مادامت كل لحظة، مثل كل فراغ، ومثل كل ما لا وجود له إلا عبر عبوره، ومثل كل كلمة لا تستكمل إلا ما يكمل استحالة ردمه...، ادع رأسي يتجول بما أحدثه المرض...، أنثى كان أو خنثا  أو عاملا ً مساعدا ً، في ّ، بعد أن راح العدم يدوّن كل ما تم دفنه، ومحوه، وانتظار بزوغه أكثر محوا ً، وعنادا ً، في الانبثاق.
17/10/2016
Az4445363@gmail.com


السبت، 29 أكتوبر 2016

تلك المسلّة البعيدة-المؤلف كريم النجار


كتب
تلك المسلّة البعيدة


تلك المسلة البعيدة  

المؤلف
كريم النجار
  

 الطبعة الأولى: القاهرة 2009 
دار أدب فن للثقافة والفنون والنشر
بالتعاون مع مؤسسة شمس للنشر والتوزيع
لوحة الغلاف للفنان: مهند العلاق
تصميم الغلاف: كريم النجار

رقم الإيداع: 19410/2008
البحت التائه، التاريخ، وتجربة الحياة اليومية
في ديوان "تلك المسلة البعيدة"   
  
"حسين عجة"
يستوقفنا، قبل كل شيء، العنوان الذي أختاره الشاعر لسفره الكبير هذا، وذلك لأنه يدخلنا من كلمته الأولى ضمن ديوان الشعر العربي في بحثه الواسع، الصعب والمشتت عن بقايا "الأشياء" والكائنات. بحث جديد عن الإطلال. مغامرة أخرى لطرح تساؤلات قد لا يتحمل إيقاعها الحاضر الرتيب والصاخب في آن معاً. ذلك لأن "البحث" هنا لا يكف عن الانشطار، أو أن منهج البحث ذاته يتعمد ذلك الانشطار. فتارة يتوجه المسار نحو الماضي المتواصل العيش، أو الماضي الذي لا يقبل بالوقوف ضمن حركة التاريخ، أي ابتعاده ولو قليلاً عن الحاضر، حتى يتم تناوله وتأمل موقع الضربات فيه، ومن ثم وضعه في موقع التجربة التي تمت معايشتها من قبل. كلا. فهذا الماضي لم يصبح ماضياً بعد. ذلك لأن نوعية وتوتر أحداثه، دمويتها وشراسة دمغاتها، تقدمه وكأنه ماثلاً في كل لحظة من لحظات غيابه. لا على صعيد الذاكرة وحدها، أو كآثار صور بدائية، ممحوة، ترتد في زمنيتها لماضي سحيق وحسب، ولكن لأنها لا تكف عن الامتزاج وتعكير صفاء الحاضر، أو حتى مجراه المسربل العادي. وتارة أخرى، يساورنا الشك بأن البحث برمته منصباً على تشابكات الحاضر، وتفاصيل التباساته اليومية، فيما يبقى الماضي محض خلفية لمعايشة آنية تمحي صوره ورتوشه القديمة، حتى وإن كان ذلك على صعيد المتخيل، أو ما يمكن أن يكون بديلاً له : نحن فقط في الحاضر المحض، بكل ما تنطوي عليه المفردة من رعب وبياض، لا يسمح بظلال أخرى غير تلك التي وضعها لنفسه كحاضر وحسب.

قلنا أن الديوان يستوقفنا بدءً بكلمته الأولى، لا لأنه يضعنا فجأة أمام "البعيد" أو "مسلة" ذلك البعيد، ولكن لأن مفردة "تلك"، وبغض النظر عن استخدامها اليومي وعفوية ما توحي به ضمن قاموس اللغة المُتشكل، تحيلنا بدفعة واحدة نحو أنفسنا، إذا جاز التعبير، لدرجة تولد لدينا شعوراً بأنها وحدها من يتحمل ثقل مسافة البحث، أكثر من "المسلة" ومن ذلك "البعيد" الذي يتم تذكره. أو مسافة البعد المفترضة للبحث عنها، أو لتسميتها وحسب : أن يقال كانت هناك "تلك... المسلة". وبذات الحركة الواحدة، تحيلنا نحو "أشياء"، كائنات، أحداث، عبارات، وجوه، وحتى بعض الأحاديث التي لا نعرف من قالها ومن أصغى لها.

كذلك لا ينبغي، من وجهة نظرنا، التعامل مع مفردة "مسلة" باعتبارها شاخصاً مادياً، يمكن اللجوء إليه، أو أنه كان في يوم ما حاضراً، ومع اندثاره قد ولد إغواء البحث عنه، عند أحدهم. فالمسلة التي يتحدث عنها النجار هي، في الحقيقة، علامة الانفصال، الدالة اللامادية عن الشيء ذاته وما يتجاوزه. أو، بدقة أكبر، المسلة هي الإشارة غير المرسومة في مكان ما، أو التي لم يقم ببعثها كائن ما. أنها الانفصال والانشطار المحض. تلك التي "يتحنط فيها الكلام". تلك التي ترغم الشاعر على القول:
تلك أيامك الخاوية
يتصارع ثوران... في حضرتك
وأنت لاهي بيومك المتأخر
ساعة أو ساعتين
بتعبير آخر، المسلة هي ما لا يمكن البحث عنه. الشيء المولد للخواء ذاته. الخواء الذي ليس بالخواء، بل نزاع؛ والذي يعطي نفسه، في البداية وكأنه بدون منازع، ولكننا سرعنا ما نكتشف "صراع الثيران فيه"، في حضرة ذلك الذي قد يلتفت له ولا يمنحه من زمنه المتأخر سوى "ساعة أو ساعتين" في اليوم الواحد. ظن منه بأنه بهذا يكون قد واجه حجم وضخامة "الفجيعة"، التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً. لندخل في العمل : تحمل القصيدة الأولى عنوان "أيامك الخاوية". يبدو أن ثمة ذات تجري مخاطبتها هنا. غير أنها معدومة الوجود. فما يصلنا عنها أو منها، يظل وكأنه منقولاً عما يُقال بخصوصها. من هي هذه الذات؟ سيكون من العجالة القول : ذات الشاعر. وقد يكون الحال هو كذلك، بالرغم من صيغة الحوار الضمني الذي يغطي القصيدة بكاملها. تتشكل إذاً، شيئاً فشيئاً،، لدينا معرفة أكبر عن توزع ميادين الديوان، فبعد الخواء، وتحنط الكلام، نفاجأ بالجوهر المتجذر بذاته، أو الذي يريد "هو" التجذر فيه. لنرى الثمن الذي ينبغ دفعه من أجل ذلك التجذر :
"ليس سواك من أحدٍ
يجمع الغياب".
للوهلة الأولى، نعتقد بأن ذات ما قد تلبست ذلك الجوهر، ومن ثم ستكون قادرة على"جمع الغياب" الذي لا يجمع؛ بيد أن تلاحق الرموز، تناثر المجازات سيضعنا مباشرة أمام :
"جدران تطبق على بذخ
اللون وضوء يتوضأ بالرذيلة".
لا أحد يستطيع، إذاً، تجسيد الجوهر، إدعاء تحمل بذخه، أو قبول لونه الذي سيتوضأ بالرذيلة. ذلك لأن عشق الجوهر لوحده لا يكفي، إذا كان في عزلة كاملة عن الغلاف السديمي الذي يحيط به، أسم هذا السديم قد يكون التاريخ، الزمن، أو شيء ما غريب عن كل ذلك، قد يكون، في العمق، غاية غير مفهومة :
"لغايتك المعلقة بدبابيس الوقت وهيولي الومضة
الأولى
وحده الوقت يفرش جناحيه مثل أله ينازع
الغيم".
النزاع ثانية، الإله الغيم، فيما تمر ومضة الهيولي لكي تعبر غشاء العائق، في بحثها المخبول عن مثيلها، عن كائن أو صفة قد تخلى الكائن عن جسده والصفة عن قيمتها؛ سينفتح الباب أمام شخصية لا يمكن تلويثها لا بتراكمات التاريخ، ولا بما يعلقه الوقت في دبابيس. لنسمع :
الحلاج يهمس بأذنك، لا أحد غيرك سواك
لا صوت يأتي
لا أثر
لا أنين
هسيس يدب بين الضلوع.
بهذا يتجمع ويتكور الجوهر على نفسه، في لغة التصوف. وبالرغم من ذلك، لا يستسلم التاريخ بمثل هذه السهولة، ولا يُفرغ ناسه بلمحة بصر :
عرب هنا، عرب هناك
مر التاريخ بحدقاته المتورمة
(...)
ونام الزمن
في جوف الحوت
الصمت وسيلتك الناهضة
والصراخ تعلمته.

تلك هي صيغة الحوار : ما بين الأنا والآخر. ما بين الأنا والأنا، تحت نظر التاريخ ذو الأحداق المتورمة، والذي ينازع الشاعر حتى الموت للخروج منه، رغم وهم تمسكه به. قد يقال كل ذلك من جزئيات موروث المتخيل الشعبي. وليكن. بيد أن الرحلة لم تتم. إذ سيحاول الشاعر، هذه المرة، عبر وفي لحظة بحثه عن ذلك الموروث، القيام بفعل آخر. السكن أو المكوث في قطب آخر، وها أن قصيدة "أبني بيتي في البحر" تقدم لتعلن لنا ذلك صراحة، وبلغة لا تقبل لا المجازات ولا اللبس :
أبني في البحر بيتي
بيتي من رمال البحر
أسكن بهدأة من الريح والعاصفة
لا ضوء
ولا دخان
يتصاعد من أفواه العتمة والشوارع.

رواية "الحج إلى واشنطن" للمهدي عثمان-إصدارات

_________________________________________________________________________
إصدارات
رواية "الحج إلى واشنطن" للمهدي عثمان


صدرت في القاهرة عن العصرية للنشر في 196 صفحة رواية "الحج إلى واشنطن"
تمتدّ على مجموعة فصول تجعل من الرواية أقرب في هيكلتها لتنظيم النص المسرحي. ولعلّ للعنوان الذي هو اختزال للمضمون دلالة سيميائيّة واضحة في علاقته بالمحتوى تتراوح بين المفهوم الديني والبعد السياسي، وفي الربط بين "الحج" و " واشنطن" دفع للتصادم بين المفهومين والتقاء في نقطة الانفجار.
وهذه المفاهيم تخيّم بظلالها على شبكة العلاقات بين الموجودات في الرواية، حيث تنهال على مخيّلتك أسماء مختلفة متنوّعة لأشخاص وأماكن متباعدة لا يمكن أن تربط بينها غير خيوط الرواية ومخيال الرّاوي في شبكة معقّدة للأحداث مسْرودة سردا عنكبوتيا يمتزج فيه النسق الخطّي بالاسترْجاع وبالاستباق في خيط رفيع جدا.
مجموعة الأشخاص من دول عربية مختلفة يجمعهم التنظيم العالمي للقاعدة، بعض الأسباب الشخصية الأخرى ليقرروا القيام بعمل "جهاديّ" ضد تمثال الحرية في الولايات المتحدة، الذي يمثل رمز الحرية والنظام العالمي الجديد.
وهذا الحدث هو نتيجة لما حصل بعد سقوط بغداد و 11سبتمبر، ونستطيع أن نجد في الرواية ذلك التقاطع بين هذين الحدثين وحادثة تفجير تمثال الحرية، وعلاقة كل ذلك بالقضية الفلسطينية والوضع المتفجر على الحدود اللبنانية الفلسطينية. لنصل إلى فكرة أن ما يسمى الإرهاب العالمي أو الاسلام الجهادي ليس إلا نتيجة لكل تلك الأحداث والوقائع.
وفي الرواية تحضر بوضوح مواقف الراوي من الراهن الحياتي في كلّ تجلّياته ومستوياته: مواقف من العولمة /الفقر/ التنظيمات السياسية/ أشكال النضال/ الأحداث العالميّة الأخيرة/ أحداث 11 سبتمبر ونتائجها/ الحرب على العراق ولبنان، دون أن ننسى الشتات الفلسطيني..
كما تنخرط في الشّاغل اليوميّ الطبيعيّ الحياتيّ (العلاقات الاجتماعيّة والجنسيّة) والهمّ الثقافي. إنها تمارس على القارئ إرهابا لغويّا، وهي تضع على طاولة التشريح الثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة.

مفازات جحيم الرؤيا- ميلود لقّاح

شعر
مفازات جحيم الرؤيا


  
عُصْفُورٌ يـخْرُجُ
منْ عُمْقِ الإسْمَنْتِ
ويخْبِرُنِي أَنَّ الشَّمْسَ
سَتُمْطِرُ هَذَا الْيَوْمَ رَذَاذا
مِنْ فَرْطِ تَوَهُّجِهَا
سَتُحِيلُ الْكَوْنَ صَقِيعاً
لا يُبْصِرُهُ
إلاَّ الرَّاسِخُ في الْعَتَهِ
المْتَعَمِّدُ بِالصَّحْوِ
المتَلَفِّعِ بِالسُّكْرِ الأشْهَى.

مَطَرٌ مِنْ غَيْبِ الْقَيْظِ
وَمِنْ غَبَشِ الْكَابُوسِ الأصْفَرِ:
يَعْرَى الْقَلْبُ
وَلا يُدْرِكُ عُمْقَ الأشْيَاءِ،
وَلا تَتْرَى في الأُفْقِ
صَبَاحَاتُ الظُّلْمَةِ.
مَنْ يُنْقِذُ مَوْتَ الأحْيَاءِ
مِنَ الصَّحْوِ،
وَمِنْ شَبَحِ الأحْلامِ الوَرْدِيَّةِ.
أَسْنِدْنِي يَا قَمَرِي،
وَخَلِيلَ الأرَقِ الثَّاوِي
في رَوْضَةِ كَهْفِ الرُّوحِ...
أَعِنِّي يَا مَطَرَ النِّيرَانِ الملَكِيَّةِ
أمْهِلْنِي بَعْضَ الدِّفْءِ...
ولا تَبْخَلْ،

سَيَصيرُ نَفِيرُ الْقَوْمِ غُرَاباً يَنْعَبُ
في مُنْتَصَفِ الحُكْمِ
وَلا يَكْشِفُ عَنْ بَيْنِ الْغَيْمِ،
وَلا لَيْلَى تَكْشِفُ
عَنْ سَفَرِ الأشْوَاقِ،
فَلا "عُوجُو" تَكْفِي
لِتُدَثِّرَ صُبْحَ الأنْوَاءِ
وتُلغَى مِنْ عَبَثِ الحْرْفِ
لَهَا أَنْ تَلْعَنَ كُلَّ الدِّمَنِ
الْمَنْصُوبَةِ زُورًا
في كُلِّ عَبَاءَاتِ اللاوَعْيِ
وَتُقْصِي نَغَمًا لا يَكْفُرُ
بِالسَّفَرِ الممْتَدِّ
عَلَى بَيْدَاءٍ مِنْ وَرَقٍ
يَعْشَقُ قَيْساً أَوْلَيْلَى

أَوْ يَعْبُرُ بٍالضِّلِّيلِ
إِلَى مُلْكٍ لا يَبْلَى..
هِيَ ذِي بَعْضُ مَفَازاتِ الرُّؤْيَا
تَرْفُضُ أَنْ تَسْتَوْعِبَ
نُعْمًا أَوْ لَيْلَى سَيَّانْ.