رفاهية وقصص قصيرة أخرى
عادل كامل
إلى نوال السعدون
[1] رفاهية
في القفص، سألت أنثى الذئب قرينها الهرم:
ـ أتراهم يعطونا لحوم غزلان، أم لحوم كلاب، أم لحوم حمير؟
ضحك الذئب الهرم:
ـ وما الفرق... ؟
قالت بصوت غاضب:
ـ لحوم الغزلان تجعلني احلم، ولحوم الكلاب تضطرني إلى النباح، وأنت تعرف ماذا تفعله لحوم الحمير فينا؟!
ـ يا عزيزتي...، وهل كنا في البرية نختار وجبتانا اليومية بهذا اليسر؟
ـ آسفة، يا عزيزي، لكن هذه الأقفاص لم تعد تجعلك تفكر في ّ، أو حتى تغازلني، وتتحرش بي...، كما كنت تفعل عندما كنا طلقاء في البرية؟
ـ يا عزيزتي...، انتهى زمن الشقاء، والكد، فبعد أن وضعونا في هذه الأقفاص، منحونا الرفاهية، فعلينا أن نتمتع بالحرية التي لا تذكرنا بالعواصف، والأعداء، والمجاعات، فالموت في الرفاهية لا يدعنا نقع حتى في غوايات الخطيئة!
[2] زمن المعجزات
وهي تراقب الفصائل التي استنزفتها ويلات الحرب، سألت الحمامة حمارا ً يستعد للاشتباك:
ـ هل أنت اخترت أن تكون حمارا ً..؟
ـ كلا.
وسألت الذئب المستعد للمنازلة:
ـ أم أنت اخترت أن تكون ذئبا ً؟
ـ كلا.
وسألت الدب:
ـ وأنت؟
ـ أنا ولدت دبا ً ابن دب وصولا ً إلى جدنا الدب الأعظم.
ـ وأنت ِ أيتها الأفعى..؟
ـ أنا ولدت هكذا ...
ـ وأنت، أيها الضبع، وأنت أيها الخنزير، وأنت أيها الثعلب، وأنت يا تمساح...
ـ الكل وجد انه ولد كما هو عليه...، بأنياب ومخالب وجلد ولون وحجم ودم وذيل لم يختره ...
ـ فما الذي يدعوكم للتباهي بإعلان الحرب، وبسفك الدماء...، مادام الفيل لم يختر أن يولد عصفورا ً، ولا الكوسج فكر أن يصبح نورسا ً، ولا القطط الوحشية هذبت مخالبها أو أنيابها...؟
نظروا إليها بشرود تام:
ـ ومن ذا باستطاعته أن يغير ما ولدنا عليه أيتها الحمامة، مادام موتنا اعد لنا قبل أن ترى عيوننا النور؟
ـ هذا وهم...، هذا هو الوهم!
ـ ما الحقيقة إذا ً...؟
ـ لا توجد حقيقة!
صاحوا بصوت واحد:
ـ أيتها الفصائل: أما النصر وأما الموت!
صاحت الحمامة مذعورة:
ـ لكنكم، للآسف، لن تكسبوا حتى هزائمكم في هذه الحرب!
ـ انك تطلبين المحال، والمستحيل، وبحصول معجزة بعد أن انتهى زمن المعجزات...؟
فراحت تتمتم مع نفسها:
ـ هكذا سيبقى السلام حلمنا الوحيد، وما أن يتحقق، بعد هزيمة الجميع، حتى تكون جراحكم غير قابلة للشفاء، إلا بمعجزة، وانتم قلتم: أنهى زمن المعجزات!
[3] تكريم
سأل الأرنب زميله، وهما يتأملان الحديقة:
ـ أتعرف لماذا وضعوا المفترسات الشرسة في هذه الأقفاص؟
ـ عقابا ً لجرائمها المقترفة بحقنا!
فقال الآخر بصوت حزين:
ـ كلا...، يا أحمق، بل تكريما ً لها! لأننا، عندما كنا في البرية، كنا نمتلك ألف وسيلة للهرب، وللنجاة منها...، أما هنا، أيها المغفل، فإنها لا تشقى بالحصول على لحمنا!
[4] صمت
ـ قل كلمة نافعة...، وامض.
ـ أخبرتك أني جمعّت كل ما دار برأسي وبحت به فإن لم تسمع صمتي، فلن يكون لكلماتي حتى اثر ما تعمله السكين وهي تفصل الرأس عن البدن!
ـ ومن ذا سمع صمتك؟
ـ تقصد...، ومن يصغي لكلماتي، وأنا أخبرتك، أن كل ما تفوهت به، شبيه بما كتمته، مع أن النهايات لن تكمل إلا ما هو سابق على مقدماتها، وملحق بما هو ابعد منها. فان قلت كلمة نافعة...، ففيها من الضرر مثلما يصبح فيها النافع فراغا ً...
ـ ها أنت قلت كلاما ً شريرا ً...؟
ـ لو لم يكن للشر منافع لكانت العدالة تكفلت بإصلاح الأشرار...، وليس بما تراه...، يذهب خارج مدى ما يراه الأعمى، في هذا الليل، وهو يسرد حكايات عميان انحدروا من أكثر الشموس توهجا ً!
[5] دعوة
بعد أن اشتد أوار الحرب، فقد الغزال رشده، وتوقف في الساحة، يخاطب الجميع:
ـ ما الذي يدعوكم إلى سفك الدماء، وانتم تعرفون أن أحدا ً لن ينتصر على الآخر...، وأنكم ستتصالحون غدا ً أو بعده...؟
توقفت الأطراف المشتبكة، عن القتال، وصاحت بصوت واحد:
ـ هذا الغزال يدعو إلى الصلح، ويدعو إلى المودة، والى السلام....، ليرتكب ذنبا ً فاق ذنوب الحرب!
وهموا بالهجوم عليه مجتمعين، موحدين، كتلة كالبنيان المرصوص...، فقال الغزال لنفسه، بصوت مسموع:
ـ أن تموت وأنت بريء خير من أن تموت وأنت ملطخا ً بدماء الأبرياء!
ـ قفوا...
صاح كبير الذئاب، مقتربا ً من الغزال، وسأله:
ـ يبدو انك هبطت من كوكب آخر...؟
أجاب الغزال:
ـ لا...، بل أنا لم اعد أصلح للسكن في هذا الكوكب!
[6] تتمات
ـ ها أنت أصبحت من الخالدين! فخذ موقعك، واسترح!
ـ آ .....، ها أنا ذا إذا ً في القاعة التي كنت أتأمل فيها الديناصورات، والخراتيت، والمنقرضات...، وأقول لنفسي: يا لقسوتنا..، حتى عظامها لم تسلم من التشهير!
ـ حسنا ً، سنمحو أثرك، قبل أن نعيدك إلى الفناء!
متمتا ً، قال لنفسه بصوت واهن:
ـ لا العظام اقترنت بالخلود، وبالخالدين، ولا المحو باستطاعته أن يكون عدما ً.
ـ حرنا معك ...
ـ هذه حيرتكم، لا حيرتي..، فانا قلت: دع الحيرة تأخذ تسلسلها...، فلا يتقدم العدم على الوجود، ولا الوجود على العدم، فأنا طالما قلت: وما معنى استحداث نهايات مسبوقة بما لا يحصى من المقدمات، ومقدمات لا تستحدث إلا ما لا يحصى من النهايات، فانا لم اطلب أكثر من قهر هذا الذي صار علامة للقهر!
[7] غياب
وهو يرى المشهد كاملا ً، سمع من يناديه:
ـ كلنا لذنا بالفرار...، فاهرب معنا، مادمت تستطيع الجري..، ومادمت تستطيع أن تفلت من مخالبهم، وأنيابهم...
هز رأسه متمتما ً:
ـ وهل اهرب من الحديقة التي عملت على اجتثاث دغلها؟
سمع احدهم يقول له:
ـ أتريد أن تُذكر مع أسماء الغائبين...؟
ـ وهل ستجدون حديقة لا ينمو فيها الدغل، كي أنجو من الغياب؟!
[8] عند بوابة الجحيم
ـ ألا تعتقد إن إلهانا، ونحن مازلنا في زمن الغاب، والبراري، وبكلمة منه، يستطيع القضاء على الشر ...؟
ـ يقدر. وأنا أقول لك انه يقدر ليس لأنني لا استطيع أن أقول غير ذلك، بل لأنه وحده ترجع إليه الإرادة.
ـ افهم منك أن الشر ليس شرا ً خالصا ً...، بل له منافع نجهلها، حتى عندما يقضي علينا، ويمحونا من هذا المستنقع؟
ـ انك تناقش قضايا خارج حدود عقلي، وخارج أدواتي بالبحث أيضا ً.
ـ لكن...، بحدود هذا العقل، فانا لا أجد أن هناك منافعا ً سوى ما ذكرته لك.
ـ لولا الشر...، ولولا الأشرار...، لولا الجهل، ولولا الجهلة، لتوقفت الحياة برمتها..، لنصبح وكأننا رجعنا إلى أصلنا الأول الذي طردنا منه!
ـ إلى العدم...، أم إلى الفردوس؟
ـ اختر ما تشاء...، عدا هذا الذي رأيته، وعشته، وتمتعت بحسناته وسيئاته.
ـ كأنك تساوي بينهما؟
ـ ليس لدي جواب، فانا اجهل الرد...، لأن عدم وجودي لا يسمح لي أن اعرف عنه ما علي ّ أن أخبرك به...، فان كل ما اعرفه أن حياتنا ليست شرا ً خالصا ً..، فلولا المنافع، لكان الإله قد استغنى عن غاياته، فلولاه لما ازدهر علم الطب، ولا علم الحساب، ولا علم الفضائل...، لا التجارة ولا الجمال..، لا فن صناعة البضائع، ولا فن صناعة الجثث.
ـ ولكنك لم تقل: فن القتل؟!
ـ انك لم تدعني أكمل... فأقول: فن الفتك!
ـ فن قتل الصغار، وقتل الأبرياء، وقتل المستضعفات..؟
ـ لا اعتقد انك قصدت الفن الجميل...، بل الشر الذي يحفزنا لاستحداث ما يتطلب عملا ً، وجهدا ً..
ـ ولكن ليس للقضاء عليه، أو محوه...؟
ـ تلك هي إرادة الإله ...، يا سيدي!
ـ عدنا إلى الصفر: ألا تعتقد إن إلهانا يقدر، بإشارة منه، القضاء علينا جميعا ً؟
ـ ولماذا علينا جميعا ً..؟
ـ حسنا ً، أتستطيع أن تجد لي كائنا ً واحدا ً، واحدا ً حسب، خارج شرط وجوده؟
ـ لا!
ـ فما هي منافع الشر إذا ً...، حتى لو لم ندركها؟
ـ آ ...، أنت تقصد الأشرار...، لقد فهمت الآن قصدك!
ـ بل أنا قصدت الشر الذي يأتي بهم...؟
ـ ويأتي بالحكماء أيضا ً...؟
ـ وهل استطاع هؤلاء الحكماء، لو جمعتهم، منذ أول الخلق، حتى يومنا هذا، إيقاف ازدهار فن قتل الصغار، والتسلي بالضعفاء، والإسراف في الجور...؟
ـ لا.
ـ فما الفائدة من الشر الذي لا يصنع إلا حكماء عجزة؟
ـ ها أنت صرت تفكر كاله!
ـ وكيف أفكر مثل اله وأنا ولدت في هذه المزبلة، في هذا المستنقع، وفي هذه الزريبة...؟
ـ ستعرف الجواب عندما تدخل جهنم..!
ـ أنت يا سيدي هو من يتكلم مثل اله، لا أنا...، لأنني لا اصدق أن هناك إلها يصنع الشر..، ويصنع الجحيم معا ً، فهل هذا اللا مسمى الذي بلا حدود وبلا حافات ينتظر مني الإدلاء بصوتي لانتخابه، وإعلاء شأنه؟!
ـ ها أنت تذهب ابعد من المعضلة التي غطسنا فيها!
ـ أعود، مرة أخرى، وأسألك السؤال نفسه: ما فائدة الشر ..، وما فوائد الدناءة، والرداءة، والمرض، والهرم، والجنون؟
ـ اذهب واسأله؟
ـ يا سيدي، أنا لا اعرف كيف تجرأت وسألتك هذا السؤال...، فهل باستطاعتي أن أجد جوابا ً على أسئلة ما انفكت تحتفل بازدهار الانتهاكات، والمظالم، والخراب؟
[9] شجاعة
ـ ها أنا أموت..، إذا ً أنا لن أموت مرة ثانية؟
قالت الغزال لنفسها بعد أن ابتلعها التمساح. فقال الأخير لنفسه بعد أن سمعها:
ـ يا لشجاعتها ...، لم تهرب مني، بل ولم تبد مقاومة تذكر، لكنها تخاف أن تولد مرة، لتنجو مني!
[10] احتفال
ـ أنت لا تسمع الرنين الذي اسمعه، فأنت لا تسمع سوى قرع طبول الحرب...، ودوي المدافع، أزيز الطائرات، ولا ترى سوى أعمدة الدخان ترتفع عاليا ً...، أنت تسمع أصوات الباعة، والداعين إلى المجازر، تسمع أصوات المهرجين، وعويل الثكالى، وانين الأيتام، واسى الأرامل، أنت تسمع صدى نزيف الضحية وهي تحدق في رصاصة موتها...، أما أنا ...، فاسمع الصمت، يمضي ابعد منك...، وابعد مني أيضا ً!
ـ أرجوك ...، من أنت؟
ـ أنا تاريخ صمتك الذي يولد بعد هذا الاحتفال!
[11] كوكب آخر
ـ لم يبق لدينا إلا أن نبحث عن كوكب آخر...
متابعا ً، أضاف الأرنب لزميله:
ـ فأينما هربنا، وأينما ذهبنا، وأينما ولينا، لحقت بنا الأفاعي!
فكر زميله برهة من الزمن، وقال:
ـ لا أريد الاعتراف ـ مرغما ً ـ بان بقاء الأفاعي، على قيد الحياة، لن يحصل إلا بوجودنا!
ـ أتود أن نمضي حياتنا برفع شعار: مضاعفة النسل...، كي لا تتعرض الأفاعي للانقراض؟
ـ قلت لك: مرغما ً...، لأنني كنت أريد أن أقول: وهل نحن خلقنا أبرياء؟ فإذا كنا لا نستطيع قهر الأفاعي، والحد من بطشها، ووضع حدود عادلة بيننا...، وإذا كنا لا نستطيع الهرب إلى كوكب آخر...، فالحل الأخير غدا معضلة حقيقية...، تماثل الإجابة على سؤال لا إجابة عليه، وتماثل معضلة ضع حلا ً للمشكلة غير القابلة للحل؟!
ـ آ ....، لم تبق لنا إلا أن نستسلم لشراهتهم، لأنهم بافتراسنا يبنون مجدهم!
ـ لم اقل هذا أبدا ً...، ولكن اخبرني: ما الحل؟
ـ أنت ترغمنا بالاستسلام للمبدأ العام: لولا البحر لهلكت الأسماك، ولولا العشب لهلكت المواشي، ولولا الحمير لهلكت السباع، ولولا الأرانب والنعاج والمخلوقات المستضعفة الأخرى، لهلكت الذئاب، ولولا الطيور والدواجن لهلكت الثعالب وبنات أوى...، ولكن ـ أرجوك ـ اخبرني:هل هذا هو العدل؟
ـ ا .. يا صديقي، دعنا نصنع ممرات وزواغير وثقوب أخرى تحت الأرض...، عميقة، محصنة، شديدة التمويه، لها منافذ لا تحصى...، لمقاومة الأفاعي الشرهة، ولباقي المفترسات المتوحشة...؟
ـ أعود وأتساءل: هل هذا هو العدل؟
ـ لا تسألني...، أذهب وأسأل من خلقها، ومن خلقنا، لأنك ستعرف انك أينما وليت، هربت، ولذت بالفرار...، وأينما تحصنت، واحتميت، ستجدها تجري خلفك...، تتبع ظلك، وتستنشق رائحة لحمك...، لأن الشر، يا صديقي، لا يزدهر إلا بوجود مخلوقات لا حول لها ولا قوة، إلا بانتظار ساعة هلاكها!
[12] انتظار
ـ أصبحت الحرب ظالمة...، فالبشر لديهم ما لا يحصى من الأسلحة..، ونحن لم نعد نمتلك شيئا ً عدا إننا أصبحنا أهدافا ً للصيد، والقتل؟
ـ أنت محق، وعلى صواب...، ولكن لا تحزن، فالبشر أيضا ً يقتل بعضهم البعض الآخر، وهذه هي فرصتنا للهرب منهم..!
فسأله بشرود ذهن:
ـ آ ....، انتظر زوالهم من وجه هذه الأرض...، بفارق الصبر!
ـ وماذا سنفعل أيها الطير الجميل؟
ـ سأفكر ـ آنذاك ـ كيف نكسر قيود هذه الأقفاص التي احتجزونا فيها!
[13] جسور
ـ لِم َ يشيدون الناس الجسور...؟
ضحك، وأجاب، وكانا يقفان وسط الجسر:
ـ لا أقول، كي تعبر من تحتها الأسماك! بل كي تراقب الطيور المحلقة عاليا ً في الفضاء عدد المارين من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار...، وجمع العدد وتقسيمه على عدد السكان، لمعرفة العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل!
ـ أووووه....، كأنك الخوارزمي أو اينشتاين؟
ـ يا حمار حتى اينشتاين رسب في الحساب!
ـ كنت أظن انك تعرف...، وقد ظهر لي انك ذهبت بعيدا ً حتى كدت تنسى أن الجسور تشيد من اجل أن لا تتسع المسافات بين الضفاف، وتبتعد بعضها عن البعض الآخر، وتتفكك آنذاك المدن، وتزول الحكومات، وتندثر الدول!
[14] طيف
لم يجد جدارا ً، ثورا ً، ذئبا ً، نورسا ً، أو حتى شجرة يتكلم معها، بعد أن استحال البستان إلى رماد. فرفع رأسه قليلا ً ليشاهد ذرات الأثير مازالت تتموج فوق الرماد! فقال لنفسه بأسى عميق:
ـ لا أريد أن أتجمع! لا أريد أن أولد مرة ثانية!
سمع الطيف الأثير يخفي ابتسامة ذات رنين صامت:
ـ وهل كنت تناثرت بإرادتك؟ وهل كنت أنت من اختار ولادته؟
[15] نعمة!
ـ لم ْ يبق لدي ّ ما أبيعه...، عدا جسدي...، فلا اعرف أشكر من على هذه النعمة التي كنت اجهلها؟
قال ابنها الأول:
ـ تشكرين أثرياء حديقتنا..
وقال الثاني:
ـ تشكرين كل من يغتصب جسدك وهو يدفع الثمن بدل أن يغتصبك مجانا ً!
وقال الابن الثالث:
ـ بل تشكرين الشقوق والفتحات والثقوب التي لديك والتي صارت مصدرا ً لعيشنا بدل أن نتسول، كشحاذين، وبدل أن نموت من الجوع، بعد أن أصبحنا فائضين في هذا الوجود!
[16] ديمومة
سأل الثور البقرة التي نز عليها:
ـ أأنت سعيدة؟
ـ لا! فانا سأنجب عجلا ً للذبح!
فسألها الثور:
ـ لِم َ لم تهربي مني؟
ـ حتى لو هربت منك، يا عزيزي، فهل سيتركني القصاب؟
[17] ظل
مكث يحدق في قرص الشمس حتى فقد بصره، فقال لنفسه:
ـ الآن بدأت أرى!
لكن ظله سأله:
ـ هل تراني؟
ـ من يرى الشمس، لمرة واحدة، لا يستطيع أن يضع حافة لظلماتها!
[18]
قالت اللبوة للسبع بعد ان افترس ليوتها:
ـ لِم كلمات انجبت ليوثا ً تفترسهم...؟
فقال بصوت نشوان:
ـ لولا الاثم لكانت المسرات مستحيلة!
ثم سألها:
ـ وانت...، لِم َ لم تهربي مني؟
ـ وأين اذهب...، في غابة قائمة على هذا القانون؟
[19] البعوضة تفكر!
وهي تراقب المستنقع عن كثب، سألت البعوضة نفسها:
ـ إذا كنت أنا انحدرت من عفن هذا المستنقع، فهل هذا الغزال، مثلي، خليط من الوحل والمياه الآسنة....؟ ثم هل هذا الذئب، هو الآخر، كالحمل، انحدر من التراب...؟ ومثل هذا الحمار، وهذه الزرافة، وهذا الضبع، وهذه العقرب...؟
قبل أن تجد جوابا ً على أسئلتها، أفاقت، كي ترى إنها محاصرة بدخان ابيض، لعلها تجد جوابا ً قبل أن تفقد وعيها وتموت.
[20] حرية!
بعد إعلان المساواة بين الدواب والبهائم، بين الزواحف والطيور، بين المفترسات والحشرات، وبين كل من يدب ويسبح ويطير، وصار الحمل يتنزه مع الذئب، والنمر يرقص الغزال، والثور يتجول بسرور مع القصاب...، سأل الغراب بلبلا ً حزينا ً:
ـ أأنت كدر، ولم تعد تغرد، لأننا حصلنا على الحرية؟
ـ لا! لأنني لا استطيع تصوّر الحياة خارج أقفاصها، سراديبها، وسجونها!
ـ لم افهم...؟
ـ إن هذه الحرية، يا عزيزي، هي القفص الوحيد الذي لا نستطيع مغادرته!
29/10/2016
Az4445363@gmail.com
عادل كامل
إلى نوال السعدون
[1] رفاهية
في القفص، سألت أنثى الذئب قرينها الهرم:
ـ أتراهم يعطونا لحوم غزلان، أم لحوم كلاب، أم لحوم حمير؟
ضحك الذئب الهرم:
ـ وما الفرق... ؟
قالت بصوت غاضب:
ـ لحوم الغزلان تجعلني احلم، ولحوم الكلاب تضطرني إلى النباح، وأنت تعرف ماذا تفعله لحوم الحمير فينا؟!
ـ يا عزيزتي...، وهل كنا في البرية نختار وجبتانا اليومية بهذا اليسر؟
ـ آسفة، يا عزيزي، لكن هذه الأقفاص لم تعد تجعلك تفكر في ّ، أو حتى تغازلني، وتتحرش بي...، كما كنت تفعل عندما كنا طلقاء في البرية؟
ـ يا عزيزتي...، انتهى زمن الشقاء، والكد، فبعد أن وضعونا في هذه الأقفاص، منحونا الرفاهية، فعلينا أن نتمتع بالحرية التي لا تذكرنا بالعواصف، والأعداء، والمجاعات، فالموت في الرفاهية لا يدعنا نقع حتى في غوايات الخطيئة!
[2] زمن المعجزات
وهي تراقب الفصائل التي استنزفتها ويلات الحرب، سألت الحمامة حمارا ً يستعد للاشتباك:
ـ هل أنت اخترت أن تكون حمارا ً..؟
ـ كلا.
وسألت الذئب المستعد للمنازلة:
ـ أم أنت اخترت أن تكون ذئبا ً؟
ـ كلا.
وسألت الدب:
ـ وأنت؟
ـ أنا ولدت دبا ً ابن دب وصولا ً إلى جدنا الدب الأعظم.
ـ وأنت ِ أيتها الأفعى..؟
ـ أنا ولدت هكذا ...
ـ وأنت، أيها الضبع، وأنت أيها الخنزير، وأنت أيها الثعلب، وأنت يا تمساح...
ـ الكل وجد انه ولد كما هو عليه...، بأنياب ومخالب وجلد ولون وحجم ودم وذيل لم يختره ...
ـ فما الذي يدعوكم للتباهي بإعلان الحرب، وبسفك الدماء...، مادام الفيل لم يختر أن يولد عصفورا ً، ولا الكوسج فكر أن يصبح نورسا ً، ولا القطط الوحشية هذبت مخالبها أو أنيابها...؟
نظروا إليها بشرود تام:
ـ ومن ذا باستطاعته أن يغير ما ولدنا عليه أيتها الحمامة، مادام موتنا اعد لنا قبل أن ترى عيوننا النور؟
ـ هذا وهم...، هذا هو الوهم!
ـ ما الحقيقة إذا ً...؟
ـ لا توجد حقيقة!
صاحوا بصوت واحد:
ـ أيتها الفصائل: أما النصر وأما الموت!
صاحت الحمامة مذعورة:
ـ لكنكم، للآسف، لن تكسبوا حتى هزائمكم في هذه الحرب!
ـ انك تطلبين المحال، والمستحيل، وبحصول معجزة بعد أن انتهى زمن المعجزات...؟
فراحت تتمتم مع نفسها:
ـ هكذا سيبقى السلام حلمنا الوحيد، وما أن يتحقق، بعد هزيمة الجميع، حتى تكون جراحكم غير قابلة للشفاء، إلا بمعجزة، وانتم قلتم: أنهى زمن المعجزات!
[3] تكريم
سأل الأرنب زميله، وهما يتأملان الحديقة:
ـ أتعرف لماذا وضعوا المفترسات الشرسة في هذه الأقفاص؟
ـ عقابا ً لجرائمها المقترفة بحقنا!
فقال الآخر بصوت حزين:
ـ كلا...، يا أحمق، بل تكريما ً لها! لأننا، عندما كنا في البرية، كنا نمتلك ألف وسيلة للهرب، وللنجاة منها...، أما هنا، أيها المغفل، فإنها لا تشقى بالحصول على لحمنا!
[4] صمت
ـ قل كلمة نافعة...، وامض.
ـ أخبرتك أني جمعّت كل ما دار برأسي وبحت به فإن لم تسمع صمتي، فلن يكون لكلماتي حتى اثر ما تعمله السكين وهي تفصل الرأس عن البدن!
ـ ومن ذا سمع صمتك؟
ـ تقصد...، ومن يصغي لكلماتي، وأنا أخبرتك، أن كل ما تفوهت به، شبيه بما كتمته، مع أن النهايات لن تكمل إلا ما هو سابق على مقدماتها، وملحق بما هو ابعد منها. فان قلت كلمة نافعة...، ففيها من الضرر مثلما يصبح فيها النافع فراغا ً...
ـ ها أنت قلت كلاما ً شريرا ً...؟
ـ لو لم يكن للشر منافع لكانت العدالة تكفلت بإصلاح الأشرار...، وليس بما تراه...، يذهب خارج مدى ما يراه الأعمى، في هذا الليل، وهو يسرد حكايات عميان انحدروا من أكثر الشموس توهجا ً!
[5] دعوة
بعد أن اشتد أوار الحرب، فقد الغزال رشده، وتوقف في الساحة، يخاطب الجميع:
ـ ما الذي يدعوكم إلى سفك الدماء، وانتم تعرفون أن أحدا ً لن ينتصر على الآخر...، وأنكم ستتصالحون غدا ً أو بعده...؟
توقفت الأطراف المشتبكة، عن القتال، وصاحت بصوت واحد:
ـ هذا الغزال يدعو إلى الصلح، ويدعو إلى المودة، والى السلام....، ليرتكب ذنبا ً فاق ذنوب الحرب!
وهموا بالهجوم عليه مجتمعين، موحدين، كتلة كالبنيان المرصوص...، فقال الغزال لنفسه، بصوت مسموع:
ـ أن تموت وأنت بريء خير من أن تموت وأنت ملطخا ً بدماء الأبرياء!
ـ قفوا...
صاح كبير الذئاب، مقتربا ً من الغزال، وسأله:
ـ يبدو انك هبطت من كوكب آخر...؟
أجاب الغزال:
ـ لا...، بل أنا لم اعد أصلح للسكن في هذا الكوكب!
[6] تتمات
ـ ها أنت أصبحت من الخالدين! فخذ موقعك، واسترح!
ـ آ .....، ها أنا ذا إذا ً في القاعة التي كنت أتأمل فيها الديناصورات، والخراتيت، والمنقرضات...، وأقول لنفسي: يا لقسوتنا..، حتى عظامها لم تسلم من التشهير!
ـ حسنا ً، سنمحو أثرك، قبل أن نعيدك إلى الفناء!
متمتا ً، قال لنفسه بصوت واهن:
ـ لا العظام اقترنت بالخلود، وبالخالدين، ولا المحو باستطاعته أن يكون عدما ً.
ـ حرنا معك ...
ـ هذه حيرتكم، لا حيرتي..، فانا قلت: دع الحيرة تأخذ تسلسلها...، فلا يتقدم العدم على الوجود، ولا الوجود على العدم، فأنا طالما قلت: وما معنى استحداث نهايات مسبوقة بما لا يحصى من المقدمات، ومقدمات لا تستحدث إلا ما لا يحصى من النهايات، فانا لم اطلب أكثر من قهر هذا الذي صار علامة للقهر!
[7] غياب
وهو يرى المشهد كاملا ً، سمع من يناديه:
ـ كلنا لذنا بالفرار...، فاهرب معنا، مادمت تستطيع الجري..، ومادمت تستطيع أن تفلت من مخالبهم، وأنيابهم...
هز رأسه متمتما ً:
ـ وهل اهرب من الحديقة التي عملت على اجتثاث دغلها؟
سمع احدهم يقول له:
ـ أتريد أن تُذكر مع أسماء الغائبين...؟
ـ وهل ستجدون حديقة لا ينمو فيها الدغل، كي أنجو من الغياب؟!
[8] عند بوابة الجحيم
ـ ألا تعتقد إن إلهانا، ونحن مازلنا في زمن الغاب، والبراري، وبكلمة منه، يستطيع القضاء على الشر ...؟
ـ يقدر. وأنا أقول لك انه يقدر ليس لأنني لا استطيع أن أقول غير ذلك، بل لأنه وحده ترجع إليه الإرادة.
ـ افهم منك أن الشر ليس شرا ً خالصا ً...، بل له منافع نجهلها، حتى عندما يقضي علينا، ويمحونا من هذا المستنقع؟
ـ انك تناقش قضايا خارج حدود عقلي، وخارج أدواتي بالبحث أيضا ً.
ـ لكن...، بحدود هذا العقل، فانا لا أجد أن هناك منافعا ً سوى ما ذكرته لك.
ـ لولا الشر...، ولولا الأشرار...، لولا الجهل، ولولا الجهلة، لتوقفت الحياة برمتها..، لنصبح وكأننا رجعنا إلى أصلنا الأول الذي طردنا منه!
ـ إلى العدم...، أم إلى الفردوس؟
ـ اختر ما تشاء...، عدا هذا الذي رأيته، وعشته، وتمتعت بحسناته وسيئاته.
ـ كأنك تساوي بينهما؟
ـ ليس لدي جواب، فانا اجهل الرد...، لأن عدم وجودي لا يسمح لي أن اعرف عنه ما علي ّ أن أخبرك به...، فان كل ما اعرفه أن حياتنا ليست شرا ً خالصا ً..، فلولا المنافع، لكان الإله قد استغنى عن غاياته، فلولاه لما ازدهر علم الطب، ولا علم الحساب، ولا علم الفضائل...، لا التجارة ولا الجمال..، لا فن صناعة البضائع، ولا فن صناعة الجثث.
ـ ولكنك لم تقل: فن القتل؟!
ـ انك لم تدعني أكمل... فأقول: فن الفتك!
ـ فن قتل الصغار، وقتل الأبرياء، وقتل المستضعفات..؟
ـ لا اعتقد انك قصدت الفن الجميل...، بل الشر الذي يحفزنا لاستحداث ما يتطلب عملا ً، وجهدا ً..
ـ ولكن ليس للقضاء عليه، أو محوه...؟
ـ تلك هي إرادة الإله ...، يا سيدي!
ـ عدنا إلى الصفر: ألا تعتقد إن إلهانا يقدر، بإشارة منه، القضاء علينا جميعا ً؟
ـ ولماذا علينا جميعا ً..؟
ـ حسنا ً، أتستطيع أن تجد لي كائنا ً واحدا ً، واحدا ً حسب، خارج شرط وجوده؟
ـ لا!
ـ فما هي منافع الشر إذا ً...، حتى لو لم ندركها؟
ـ آ ...، أنت تقصد الأشرار...، لقد فهمت الآن قصدك!
ـ بل أنا قصدت الشر الذي يأتي بهم...؟
ـ ويأتي بالحكماء أيضا ً...؟
ـ وهل استطاع هؤلاء الحكماء، لو جمعتهم، منذ أول الخلق، حتى يومنا هذا، إيقاف ازدهار فن قتل الصغار، والتسلي بالضعفاء، والإسراف في الجور...؟
ـ لا.
ـ فما الفائدة من الشر الذي لا يصنع إلا حكماء عجزة؟
ـ ها أنت صرت تفكر كاله!
ـ وكيف أفكر مثل اله وأنا ولدت في هذه المزبلة، في هذا المستنقع، وفي هذه الزريبة...؟
ـ ستعرف الجواب عندما تدخل جهنم..!
ـ أنت يا سيدي هو من يتكلم مثل اله، لا أنا...، لأنني لا اصدق أن هناك إلها يصنع الشر..، ويصنع الجحيم معا ً، فهل هذا اللا مسمى الذي بلا حدود وبلا حافات ينتظر مني الإدلاء بصوتي لانتخابه، وإعلاء شأنه؟!
ـ ها أنت تذهب ابعد من المعضلة التي غطسنا فيها!
ـ أعود، مرة أخرى، وأسألك السؤال نفسه: ما فائدة الشر ..، وما فوائد الدناءة، والرداءة، والمرض، والهرم، والجنون؟
ـ اذهب واسأله؟
ـ يا سيدي، أنا لا اعرف كيف تجرأت وسألتك هذا السؤال...، فهل باستطاعتي أن أجد جوابا ً على أسئلة ما انفكت تحتفل بازدهار الانتهاكات، والمظالم، والخراب؟
[9] شجاعة
ـ ها أنا أموت..، إذا ً أنا لن أموت مرة ثانية؟
قالت الغزال لنفسها بعد أن ابتلعها التمساح. فقال الأخير لنفسه بعد أن سمعها:
ـ يا لشجاعتها ...، لم تهرب مني، بل ولم تبد مقاومة تذكر، لكنها تخاف أن تولد مرة، لتنجو مني!
[10] احتفال
ـ أنت لا تسمع الرنين الذي اسمعه، فأنت لا تسمع سوى قرع طبول الحرب...، ودوي المدافع، أزيز الطائرات، ولا ترى سوى أعمدة الدخان ترتفع عاليا ً...، أنت تسمع أصوات الباعة، والداعين إلى المجازر، تسمع أصوات المهرجين، وعويل الثكالى، وانين الأيتام، واسى الأرامل، أنت تسمع صدى نزيف الضحية وهي تحدق في رصاصة موتها...، أما أنا ...، فاسمع الصمت، يمضي ابعد منك...، وابعد مني أيضا ً!
ـ أرجوك ...، من أنت؟
ـ أنا تاريخ صمتك الذي يولد بعد هذا الاحتفال!
[11] كوكب آخر
ـ لم يبق لدينا إلا أن نبحث عن كوكب آخر...
متابعا ً، أضاف الأرنب لزميله:
ـ فأينما هربنا، وأينما ذهبنا، وأينما ولينا، لحقت بنا الأفاعي!
فكر زميله برهة من الزمن، وقال:
ـ لا أريد الاعتراف ـ مرغما ً ـ بان بقاء الأفاعي، على قيد الحياة، لن يحصل إلا بوجودنا!
ـ أتود أن نمضي حياتنا برفع شعار: مضاعفة النسل...، كي لا تتعرض الأفاعي للانقراض؟
ـ قلت لك: مرغما ً...، لأنني كنت أريد أن أقول: وهل نحن خلقنا أبرياء؟ فإذا كنا لا نستطيع قهر الأفاعي، والحد من بطشها، ووضع حدود عادلة بيننا...، وإذا كنا لا نستطيع الهرب إلى كوكب آخر...، فالحل الأخير غدا معضلة حقيقية...، تماثل الإجابة على سؤال لا إجابة عليه، وتماثل معضلة ضع حلا ً للمشكلة غير القابلة للحل؟!
ـ آ ....، لم تبق لنا إلا أن نستسلم لشراهتهم، لأنهم بافتراسنا يبنون مجدهم!
ـ لم اقل هذا أبدا ً...، ولكن اخبرني: ما الحل؟
ـ أنت ترغمنا بالاستسلام للمبدأ العام: لولا البحر لهلكت الأسماك، ولولا العشب لهلكت المواشي، ولولا الحمير لهلكت السباع، ولولا الأرانب والنعاج والمخلوقات المستضعفة الأخرى، لهلكت الذئاب، ولولا الطيور والدواجن لهلكت الثعالب وبنات أوى...، ولكن ـ أرجوك ـ اخبرني:هل هذا هو العدل؟
ـ ا .. يا صديقي، دعنا نصنع ممرات وزواغير وثقوب أخرى تحت الأرض...، عميقة، محصنة، شديدة التمويه، لها منافذ لا تحصى...، لمقاومة الأفاعي الشرهة، ولباقي المفترسات المتوحشة...؟
ـ أعود وأتساءل: هل هذا هو العدل؟
ـ لا تسألني...، أذهب وأسأل من خلقها، ومن خلقنا، لأنك ستعرف انك أينما وليت، هربت، ولذت بالفرار...، وأينما تحصنت، واحتميت، ستجدها تجري خلفك...، تتبع ظلك، وتستنشق رائحة لحمك...، لأن الشر، يا صديقي، لا يزدهر إلا بوجود مخلوقات لا حول لها ولا قوة، إلا بانتظار ساعة هلاكها!
[12] انتظار
ـ أصبحت الحرب ظالمة...، فالبشر لديهم ما لا يحصى من الأسلحة..، ونحن لم نعد نمتلك شيئا ً عدا إننا أصبحنا أهدافا ً للصيد، والقتل؟
ـ أنت محق، وعلى صواب...، ولكن لا تحزن، فالبشر أيضا ً يقتل بعضهم البعض الآخر، وهذه هي فرصتنا للهرب منهم..!
فسأله بشرود ذهن:
ـ آ ....، انتظر زوالهم من وجه هذه الأرض...، بفارق الصبر!
ـ وماذا سنفعل أيها الطير الجميل؟
ـ سأفكر ـ آنذاك ـ كيف نكسر قيود هذه الأقفاص التي احتجزونا فيها!
[13] جسور
ـ لِم َ يشيدون الناس الجسور...؟
ضحك، وأجاب، وكانا يقفان وسط الجسر:
ـ لا أقول، كي تعبر من تحتها الأسماك! بل كي تراقب الطيور المحلقة عاليا ً في الفضاء عدد المارين من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار...، وجمع العدد وتقسيمه على عدد السكان، لمعرفة العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل!
ـ أووووه....، كأنك الخوارزمي أو اينشتاين؟
ـ يا حمار حتى اينشتاين رسب في الحساب!
ـ كنت أظن انك تعرف...، وقد ظهر لي انك ذهبت بعيدا ً حتى كدت تنسى أن الجسور تشيد من اجل أن لا تتسع المسافات بين الضفاف، وتبتعد بعضها عن البعض الآخر، وتتفكك آنذاك المدن، وتزول الحكومات، وتندثر الدول!
[14] طيف
لم يجد جدارا ً، ثورا ً، ذئبا ً، نورسا ً، أو حتى شجرة يتكلم معها، بعد أن استحال البستان إلى رماد. فرفع رأسه قليلا ً ليشاهد ذرات الأثير مازالت تتموج فوق الرماد! فقال لنفسه بأسى عميق:
ـ لا أريد أن أتجمع! لا أريد أن أولد مرة ثانية!
سمع الطيف الأثير يخفي ابتسامة ذات رنين صامت:
ـ وهل كنت تناثرت بإرادتك؟ وهل كنت أنت من اختار ولادته؟
[15] نعمة!
ـ لم ْ يبق لدي ّ ما أبيعه...، عدا جسدي...، فلا اعرف أشكر من على هذه النعمة التي كنت اجهلها؟
قال ابنها الأول:
ـ تشكرين أثرياء حديقتنا..
وقال الثاني:
ـ تشكرين كل من يغتصب جسدك وهو يدفع الثمن بدل أن يغتصبك مجانا ً!
وقال الابن الثالث:
ـ بل تشكرين الشقوق والفتحات والثقوب التي لديك والتي صارت مصدرا ً لعيشنا بدل أن نتسول، كشحاذين، وبدل أن نموت من الجوع، بعد أن أصبحنا فائضين في هذا الوجود!
[16] ديمومة
سأل الثور البقرة التي نز عليها:
ـ أأنت سعيدة؟
ـ لا! فانا سأنجب عجلا ً للذبح!
فسألها الثور:
ـ لِم َ لم تهربي مني؟
ـ حتى لو هربت منك، يا عزيزي، فهل سيتركني القصاب؟
[17] ظل
مكث يحدق في قرص الشمس حتى فقد بصره، فقال لنفسه:
ـ الآن بدأت أرى!
لكن ظله سأله:
ـ هل تراني؟
ـ من يرى الشمس، لمرة واحدة، لا يستطيع أن يضع حافة لظلماتها!
[18]
قالت اللبوة للسبع بعد ان افترس ليوتها:
ـ لِم كلمات انجبت ليوثا ً تفترسهم...؟
فقال بصوت نشوان:
ـ لولا الاثم لكانت المسرات مستحيلة!
ثم سألها:
ـ وانت...، لِم َ لم تهربي مني؟
ـ وأين اذهب...، في غابة قائمة على هذا القانون؟
[19] البعوضة تفكر!
وهي تراقب المستنقع عن كثب، سألت البعوضة نفسها:
ـ إذا كنت أنا انحدرت من عفن هذا المستنقع، فهل هذا الغزال، مثلي، خليط من الوحل والمياه الآسنة....؟ ثم هل هذا الذئب، هو الآخر، كالحمل، انحدر من التراب...؟ ومثل هذا الحمار، وهذه الزرافة، وهذا الضبع، وهذه العقرب...؟
قبل أن تجد جوابا ً على أسئلتها، أفاقت، كي ترى إنها محاصرة بدخان ابيض، لعلها تجد جوابا ً قبل أن تفقد وعيها وتموت.
[20] حرية!
بعد إعلان المساواة بين الدواب والبهائم، بين الزواحف والطيور، بين المفترسات والحشرات، وبين كل من يدب ويسبح ويطير، وصار الحمل يتنزه مع الذئب، والنمر يرقص الغزال، والثور يتجول بسرور مع القصاب...، سأل الغراب بلبلا ً حزينا ً:
ـ أأنت كدر، ولم تعد تغرد، لأننا حصلنا على الحرية؟
ـ لا! لأنني لا استطيع تصوّر الحياة خارج أقفاصها، سراديبها، وسجونها!
ـ لم افهم...؟
ـ إن هذه الحرية، يا عزيزي، هي القفص الوحيد الذي لا نستطيع مغادرته!
29/10/2016
Az4445363@gmail.com